الكتاب: فتح المغيث بشرح الفية الحديث للعراقي المؤلف: شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي (المتوفى: 902هـ) المحقق: علي حسين علي الناشر: مكتبة السنة - مصر الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث السخاوي، شمس الدين الكتاب: فتح المغيث بشرح الفية الحديث للعراقي المؤلف: شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي (المتوفى: 902هـ) المحقق: علي حسين علي الناشر: مكتبة السنة - مصر الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وَفَهْمًا، وَاخْتِمْ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ. قَالَ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا، الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْعَلَّامَةُ، الْبَحْرُ الْحَبْرُ الْفَهَّامَةُ، الْمُحَقِّقُ الْمُدَقِّقُ، نَاصِرُ السُّنَّةِ حَافِظُ عَصْرِهِ، وَوَحِيدُ دَهْرِهِ، شَمْسُ الدِّينِ سُلْطَانُ الْحُفَّاظِ وَالْمُحَدِّثِينَ، أَبُو الْخَيْرِ مُحَمَّدٌ السَّخَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ: [خُطْبَةُ الْمُؤَلِّفِ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعِلْمَ بِفُنُونِ الْخَبَرِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُعْتَبَرِ بِهَا إِلَيْهِ أَتَمَّ وَسِيلَةً، وَوَصَلَ مَنْ أَسْنَدَ فِي بَابِهِ وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ فَأَدْرَجَهُ فِي سِلْسِلَةِ الْمُقَرَّبِينَ لَدَيْهِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْمُشْكِلَ الْغَرِيبَ وَتَعْلِيلَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَعَلَّمَهُ تَأْوِيلَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ الْمُرْسَلُ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْمَخْصُوصُ بِكُلِّ شَرَفٍ وَفَضِيلَةٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَنْصَارِهِ وَحِزْبِهِ، الَّذِينَ صَارَ الدِّينُ بِهِمْ عَزِيزًا، بَعْدَ فُشُوِّ كُلِّ شَاذٍّ وَمُنْكَرٍ وَرَذِيلَةٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَتْبَاعِهِمُ الْمُعَوَّلِ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ مِمَّنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ غَيْرَ مُضْطَرِبَيْنِ يَنَالُ بِهِمَا الْعَبْدُ فِي الدَّارَيْنِ تَأْمِيلَهُ. [مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ] وَبَعْدُ: فَهَذَا تَنْقِيحٌ لَطِيفٌ، وَتَلْقِيحٌ لِلْفَهْمِ الْمُنِيفِ، شَرَحْتُ فِيهِ أَلْفِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْتُ بِهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، فَفَتَحَ مِنْ كُنُوزِهَا الْمُحَصَّنَةِ الْأَقْفَالِ كُلَّ مُرْتَجٍ، وَطَرَحَ عَنْ رُمُوزِهَا الْإِشْكَالَ بِأَبْيَنِ الْحُجَجِ، سَابِكًا لَهَا فِيهِ ; بِحَيْثُ لَا تَتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّمْيِيزِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي إِظْهَارِهِ الْمَعْنَى. تَارِكًا لِمَنْ لَا يَرَى حُسْنَ ذَلِكَ فِي خُصُوصِ النَّظْمِ وَالتَّرْجِيزِ ; لِكَوْنِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَنِّتًا لَمْ يَذُقِ الَّذِي هُوَ أَهْنَى، مُرَاعِيًا فِيهِ الِاعْتِنَاءَ بِالنَّاظِمِ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ، سَاعِيًا فِي إِفَادَةِ مَا لَا غِنًى عَنْهُ لِأَئِمَّةِ الشَّأْنِ وَطَلَبَتِهِ، غَيْرَ طَوِيلٍ مُمِلٍّ، وَلَا قَصِيرٍ مُخِلٍّ، اسْتِغْنَاءً عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 تَطْوِيلِهِ بِتَصْنِيفِي الْمَبْسُوطِ الْمُقَرَّرِ الْمَضْبُوطِ، الَّذِي جَعَلْتُهُ كَالنُّكَتِ عَلَيْهَا وَعَلَى شَرْحِهَا لِلْمُؤَلِّفِ. وَعِلْمًا بِنَقْصِ هِمَمِ أَمَاثِلِ الْوَقْتِ فَضْلًا عَنِ الْمُتَعَرِّفِ، إِجَابَةً لِمَنْ سَأَلَنِي فِيهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ ذَوِي الْوَجَاهَةِ وَالتَّوْجِيهِ، مِمَّنْ خَاضَ مَعِي فِي الشَّرْحِ وَأَصْلِهِ، وَارْتَاضَ فِكْرُهُ بِمَا يَرْتَقِي بِهِ عَنْ أَقْرَانِهِ وَأَهْلِهِ. نَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَيَسَّرَ لَنَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ أَقْرَبَ الْمَسَالِكِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: 1 - يَقُولُ رَاجِي رَبِّهِ الْمُقْتَدِرِ ... عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَثَرِي 2 - مِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللَّهِ ذِي الْآلَاءِ ... عَلَى امْتِنَانٍ جَلَّ عَنْ إِحْصَاءِ 3 - ثُمَّ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ دَائِمِ ... عَلَى نَبِيِّ الْخَيْرِ ذِي الْمَرَاحِمِ 4 - فَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ الْمُهِمَّهْ ... تُوَضِّحُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ رَسْمَهْ 5 - نَظَمْتُهَا تَبْصِرَةً لِلْمُبْتَدِي ... تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِي وَالْمُسْنَدِ 6 - لَخَّصْتُ فِيهَا ابْنَ الصَّلَاحِ أَجْمَعَهْ ... وَزِدْتُهَا عِلْمًا تَرَاهُ مَوْضِعَهْ 7 - فَحَيْثُ جَاءَ الْفِعْلُ وَالضَّمِيرُ ... لِوَاحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُورُ 8 - كَـ " قَالَ " أَوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ " الشَّيْخِ " مَا ... أُرِيدُ إِلَّا ابْنَ الصَّلَاحِ مُبْهَمَا 9 - وَإِنْ يَكُنْ لِاثْنَيْنِ نَحْوَ " الْتَزَمَا " فَمُسْلِمٌ ... مَعَ الْبُخَارِيِّ هُمَا 10 - وَاللَّهَ أَرْجُو فِي أُمُورِي كُلِّهَا ... مُعْتَصِمًا فِي صَعْبِهَا وَسَهْلِهَا. (يَقُولُ) مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى مُفِيدٍ كَمَا هُنَا، أَوْ غَيْرِ مُفِيدٍ، (رَاجِي) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ " الرَّجَاءِ " ضِدُّ الْخَوْفِ ; وَهُوَ تَوَقُّعُ مُمْكِنٍ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، (رَبِّهِ) أَيْ: مَالِكِهِ الْإِلَهِ الَّذِي لَا تُطْلَقُ الرُّبُوبِيَّةُ عَلَى سِوَاهُ. (الْمُقْتَدِرِ) عَلَى مَا أَرَادَ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، وَلِذَا كَانَ أَبْلَغَ فِي قُوَّةِ الرَّجَاءِ ; إِذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وُجُودُهُ مِنِ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِ الْجَلَالِ أَدَلُّ عَلَى وُجُودِهِ مَعَ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِ الْجَمَالِ لَا سِيَّمَا، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الْإِسْرَاءِ: 57] . [تَرْجَمَةُ صَاحِبِ الْأَلْفِيَّةِ] (عَبْدُ الرَّحِيمِ) بَيَانُ الرَّاجِي، فَاعِلُ (يَقُولُ) ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، (ابْنُ الْحُسَيْنِ) ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الزَّيْنُ أَبُو الْفَضْلِ (الْأَثَرِيُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، نِسْبَةً إِلَى (الْأَثَرِ) ، وَهُوَ لُغَةً: الْبَقِيَّةُ. وَاصْطِلَاحًا: الْأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةً كَانَتْ أَوْ مَوْقُوفَةً، عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمِنْهُ: " شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ " ; لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ قَصَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَوْقُوفِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَانْتَسَبَ كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَحَسُنَ الِانْتِسَابُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُصَنِّفُ فِي فُنُونِهِ. وَيُعْرَفُ أَيْضًا بِـ " الْعِرَاقِيِّ " لِكَوْنِ جَدِّهِ كَانَ يَكْتُبُهَا بِخَطِّهِ، انْتِسَابًا لِعِرَاقِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْقُطْرُ الْأَعَمُّ كَمَا قَالَهُ ابْنُهُ. كَانَ إِمَامًا، عَلَّامَةً، مُقْرِئًا، فَقِيهًا، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، أُصُولِيًّا، مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ فِي فُنُونِ الْحَدِيثِ وَصِنَاعَتِهِ، ارْتَحَلَ فِيهِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالتَّفَرُّدِ فِيهِ أَئِمَّةُ عَصْرِهِ، وَعَوَّلُوا عَلَيْهِ فِيهِ، وَسَارَتْ تَصَانِيفُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَدَرَّسَ، وَأَفْتَى، وَحَدَّثَ، وَأَمْلَى، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَانْتَفَعَ بِهِ الْأَجِلَّاءُ، مَعَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، وَالتَّحَرِّي فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّقَنُّعِ بِالْيَسِيرِ، وَسُلُوكِ التَّوَاضُعِ وَالْكَرَمِ وَالْوَقَارِ، مَعَ الْأُبَّهَةِ وَالْمَحَاسِنِ الْجَمَّةِ. وَقَدْ أَفْرَدَ ابْنُهُ تَرْجَمَتَهُ بِالتَّأْلِيفِ، فَلَا نُطِيلُ فِيهَا، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فِي مَجْمُوعِهِ كَلِمَةُ إِجْمَاعٍ، وَقَدْ أُخِذَتْ عَنْ خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا أَلْفِيَّتُهُ وَشَرْحُهَا فَتَلَقَّيْتُهُمَا مَعَ جُلِّ أَصْلِهِمَا دِرَايَةً عَنْ شَيْخِنَا إِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَأَجَلِّ جَمَاعَتِهِ، وَالْأَلْفِيَّةُ فَقَطْ عَنْ جَمَاعَةٍ. مَاتَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِمِائَةٍ (806 هـ) عَنْ أَزْيَدَ مِنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا. [الْحَمْدُ وَالْبَسْمَلَةُ] وَهُوَ وَإِنْ قَدَّمَ مَا أَسْلَفَهُ وَضْعًا فَذَاكَ. (مِنْ بَعْدِ) ذِكْرِ (حَمْدِ اللَّهِ) لَفْظًا ; عَمَلًا بِحَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَ (مِنْ) بِالْكَسْرِ حَرْفٌ خَافِضٌ يَأْتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا هُنَا، وَلِغَيْرِهِ، وَ " بَعْدِ " بِالْجَرِّ نَقِيضُ (قَبْلُ) ، وَ (الْحَمْدُ) هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ بِأَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ، وَأَوْصَافِهِ الْحَسَنَةِ الْجَلِيلَةِ. وَ (اللَّهُ) عَلَمٌ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَهُوَ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ، الْمَحْمُودُ حَقِيقَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَا يُدْعَى بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، قَبَضَ اللَّهُ الْأَلْسِنَةَ عَنْ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ سَبْقَ التَّعْرِيفِ بِالْقَائِلِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يُلْفَظْ بِهِ ; فَفِي حَدِيثٍ قَالَ الْحَاكِمُ " إِنَّهُ غَرِيبٌ حَسَنٌ " ; أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُعَاذٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ» . . . " إِلَى آخِرِهِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ. لَكِنْ مَعَ الِابْتِدَاءِ قَبْلَ اسْمِهِ بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وَقَعَ لِلْمُؤَلِّفِ، وَفَعَلَهُ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَزَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ لِمُكَاتَبَةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُقَالُ أَيْضًا: هَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ أَيْضًا بِـ " بِسْمِ اللَّهِ " بَدَلَ " بِحَمْدِ اللَّهِ " فَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْحَمْدَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا ; وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِصِيغَةِ الْحَمْدِ أَوْ غَيْرِهَا. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ لَفْظُهَا: " بِذِكْرِ اللَّهِ " ; وَحِينَئِذٍ فَالْحَمْدُ وَالذِّكْرُ وَالْبَسْمَلَةُ سَوَاءٌ، فَمَنِ ابْتَدَأَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ. (ذِي الْآلَاءِ) أَيْ: صَاحِبِ النِّعَمِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَفِي وَاحِدِ (الْآلَاءِ) سَبْعُ لُغَاتٍ: " إِلًى " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَبِفَتْحِهَا مَعَ التَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَمُثَلَّثِ الْهَمْزَةِ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ (عَلَى امْتِنَانٍ) مِنَ اللَّهِ بِهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي مِنْهُ التَّوَغُّلُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، عَلَى قَائِلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَاخْتِصَاصُ النَّاظِمِ بِكَوْنِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فِيهِ إِمَامًا مُقْتَدًى بِهِ، وَالْمَنَّانُ: الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ (جَلَّ) أَيْ: عَظُمَ عَطَاؤُهُ. (عَنْ إِحْصَاءِ) بِعَدَدٍ ; قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 34] (ثُمَّ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى (حَمْدٍ) (دَائِمٍ) كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ تَلَفُّظِي بِهِمَا، أَوْ لِاقْتِرَانِهِمَا غَالِبًا صَارَا كَالْوَاحِدِ، وَفِي عَطْفِهِ بِـ (ثُمَّ) الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ الْمُهْلَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَ بَيْنَهُمَا. [وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] وَ (الصَّلَاةُ) مِنَ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمُهُ لَهُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ: طَلَبُ الزِّيَادَةِ لَهُ [بِتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ أَوِ الْعُلَمَاءِ، وَنَحْوِهِمْ مَثَلًا] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 لِلْعِلْمِ بِتَنَاهِيهِ فِي كُلِّ شَرَفٍ، وَلَمْ يُفْرِدْهَا عَنِ (السَّلَامِ) لِتَصْرِيحِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِكَرَاهَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ خَصَّهَا شَيْخِي بِمَنْ جَعَلَهَا دَيْدَنًا ; لِوُقُوعِ الْإِفْرَادِ فِي كَلَامِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَمِنْهُمُ النَّوَوِيُّ نَفْسُهُ فِي خُطْبَةِ (تَقْرِيبِهِ) كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِهِ. وَكَذَا أَتَى بِهَا مَعَ الْحَمْدِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي: «بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّهُ فِي الْفَضَائِلِ، مَعَ مَا فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْفَضْلِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ (عَلَى نَبِيِّ الْخَيْرِ) الْجَامِعِ لِكُلِّ مَحْمُودٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (ذِي) أَيْ: صَاحِبِ (الْمَرَاحِمِ) نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَعْنَى النَّبِيِّ] وَحَقِيقَةُ " النَّبِيِّ " وَالْأَكْثَرُ فِي التَّلَفُّظِ بِهِ عَدَمُ الْهَمْزِ: إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ فَرَسُولٌ أَيْضًا، وَلِذَا كَانَ الْوَصْفُ بِهَا أَشْمَلَ، فَالْعُدُولُ عَنْهَا إِمَّا لِلتَّأَسِّي بِالْخَبَرِ الْآتِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفَيِ النُّبُوَّةِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ لِمُنَاسَبَةِ عُلُومِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّ أَحَدَ مَا قِيلَ فِي اشْتِقَاقِهِ أَنَّهُ مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَوْ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ الَّذِي يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ فِيهِ بِأَيِّ صِفَةٍ أَدَّتِ الْمُرَادَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 لَا فِي مَقَامِ الْوَصْفِ، عَلَى أَنَّ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ جَنَحَ لِتَفْضِيلِ النُّبُوَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى خِلَافِهِ، كَمَا سَأُوَضِّحُهُ فِي إِبْدَالِ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ. وَ " الْمَرَاحِمُ " جَمْعُ مَرْحَمَةٍ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَفْعَلَةٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ» وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهُ وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الدِّمْيَاطِيُّ: «وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ» بِاللَّامِ بَدَلَ الرَّاءِ، وَفِي أُخْرَى: «وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي مَلْحَمَةً وَمَرْحَمَةً» وَفِي آخَرَ: «أَنَا نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيمَا عَدَا الْمَلْحَمَةِ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ مُتَقَارِبٌ، وَمَقْصُودُهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ. قُلْتُ: وَأَمَّا الْمَلْحَمَةُ فَهِيَ الْمَعْرَكَةُ، فَكَأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الْفَتْحِ: 29] ، {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [الْبَلَدِ: 17] أَيْ: يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهِيَ فِي حَقِّنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ: رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَتَعَطُّفٌ، وَمِنَ الرَّحِيمِ: إِرَادَةُ الْخَيْرِ بِعَبِيدِهِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ: طَلَبُهَا مِنْهُ لَنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ثُمَّ إِنَّهُ لِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ عِنْدَ الْمَرْءِ فِيمَا يُوَجِّهُ إِلَيْهِ عَزْمَهُ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ رَأْيَهُ، يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ الْحَاضِرِ ; بِحَيْثُ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مُعَامَلَتَهُ، وَلِذَا قَالَ مَعَ التَّخَلُّصِ فِي التَّعْبِيرِ أَوَّلًا بِـ " يَقُولُ " عَنِ اعْتِذَارٍ. (فَهَذِهِ) ; وَالْفَاءُ إِمَّا الْفَصِيحَةُ، فَالْمَقُولُ مَا بَعْدَهَا، أَوْ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الطَّالِبُ تُرِيدُ الْبَحْثَ عَنْ عُلُومِ الْخَبَرِ، فَهَذِهِ (الْمَقَاصِدُ) جَمْعُ مَقْصِدٍ، وَهُوَ مَا يَؤُمُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرٍ وَيَطْلُبُهُ (الْمُهِمَّهْ) مِنَ الشَّيْءِ الْمُهِمِّ، وَهُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُقْصَدُ بِعَزْمٍ، (تُوضِحُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ (أَوْضَحَ) أَيْ: تُظْهِرُ وَتُبِينُ (مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ) الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ الْقَوَاعِدِ الْمُعَرِّفَةِ بِحَالِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ، (رَسْمُهْ) أَيْ: أَثَرُهُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ أُصُولُهُ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى دُرُوسِ كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي بَادَ حُمَّالُهُ، وَحَادَ عَنِ السَّنَنِ الْمُعْتَبَرِ عُمَّالُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا آثَارُهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ دِيَارُ أَوْطَانِهِ بِأَهْلِهِ آهِلَةً، وَخُيُولُ فُرْسَانِهِ فِي مَيْدَانِهِ صَاهِلَةً: وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهُمُ قَلِيلًا فَقَدْ صَارُوا أَقَلَّ مِنَ الْقَلِيلِ. وَ (الْحَدِيثُ) لُغَةً: ضِدُّ الْقَدِيمِ، وَاصْطِلَاحًا: مَا أُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا لَهُ أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ صِفَةً، حَتَّى الْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السُّنَّةِ [الْآتِيَةِ قَرِيبًا] ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمُ النَّاظِمُ، مَا يَدُلُّ لِتَرَادُفِهِمَا. (نَظَمْتُهَا) أَيِ: الْمَقَاصِدَ ; حَيْثُ سَلَكْتُ فِي جَمْعِهَا الْمَشْيَ عَلَى بَحْرٍ مِنَ الْبُحُورِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الشِّعْرِ، وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ فِي الْأَصْلِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ ; إِذْ هُوَ جَمْعُ الْأَشْيَاءِ عَلَى هَيْئَةٍ مُتَنَاسِقَةٍ. (تَبْصِرَةً لِلْمُبْتَدِي) بِتَرْكِ هَمْزِهِ، يَتَبَصَّرُ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَالِمًا، وَ (تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِي) وَهُوَ الَّذِي حَصَّلَ مِنَ الشَّيْءِ أَكْثَرَهُ وَأَشْهَرَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَصَلَحَ مَعَ ذَلِكَ لِإِفَادَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ وَتَفْهِيمِهِ، يَتَذَكَّرُ بِهَا مَا كَانَ عَنْهُ ذَاهِلًا، (وَ) كَذَا لِلرَّاوِي (الْمُسْنِدِ) الَّذِي اعْتَنَى بِالْإِسْنَادِ فَقَطْ، فَهُوَ يَتَذَكَّرُ بِهَا كَيْفِيَّةَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، كَمَا يَتَذَكَّرُ بِهَا الْمُنْتَهِي مَجْمُوعَ الْفَنِّ، فَبَيْنَ الْمُسْنِدِ وَالْمُنْتَهِي عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَأُشِيرَ بِـ (التَّبْصِرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ) إِلَى لَقَبِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ، وَهُمَا بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ لَهُ تُرِكَ فِيهِ الْعَاطِفُ، وَلَمْ أَتَكَلَّفْ تَخْلِيصَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ بُطُونِ الْكُتُبِ وَالدَّفَاتِرِ. وَلَكِنْ (لَخَّصْتُ فِيهَا ابْنَ الصَّلَاحِ) أَيْ: مَقَاصِدَ كِتَابِهِ الشَّهِيرِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] حَيْثُ اخْتَصَرْتُ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَأَثْبَتُّ مَقْصُودَهُ (أَجْمَعَهْ) ، وَلَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ حَذْفُ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَتِهِ وَتَعَالِيلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; إِذْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْمَقْصُودِ الْمُقَدَّرِ ; كَأَنَّهُ قَالَ: لَخَّصْتُ الْمَقْصُودَ أَجْمَعَهُ. وَالتَّأْكِيدُ بِـ " أَجْمَعَ " غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِـ " كُلٍّ " وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ: إِذًا ظَلَلْتُ الدَّهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِلتَّقْوِيَةِ كَـ {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] . [الْحِجْرِ: 30] [تَرْجَمَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ] وَ (الصَّلَاحُ) تَخْفِيفٌ مِنْ لَقَبِ وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ، حَافِظُ الْوَقْتِ، مُفْتِي الْفِرَقِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ ابْنُ الْإِمَامِ الْبَارِعِ صَلَاحِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الشَّهْرُزُورِيُّ الْمَوْصِلِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ. كَانَ إِمَامًا بَارِعًا حُجَّةً، مُتَبَحِّرًا فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، بَصِيرًا بِالْمَذْهَبِ وَوُجُوهِهِ، خَبِيرًا بِأُصُولِهِ، عَارِفًا بِالْمَذَاهِبِ، جَيِّدَ الْمَادَّةِ مِنَ اللُّغَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَالْعَرَبِيَّةِ، حَافِظًا لِلْحَدِيثِ مُتْقِنًا فِيهِ، حَسَنَ الضَّبْطِ كَبِيرَ الْقَدْرِ، وَافِرَ الْحُرْمَةِ، عَدِيمَ النَّظَرِ فِي زَمَانِهِ، مَعَ الدِّينِ وَالْعِبَادَةِ، وَالنُّسُكِ وَالصِّيَانَةِ، وَالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى. انْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ، وَعَوَّلُوا عَلَى تَصَانِيفِهِ، خُصُوصًا كِتَابُهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا وَقَدْ سَمِعْتُهُ عَلَيْهِ بَحْثًا إِلَّا يَسِيرًا مِنْ أَوَّلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ مَا نَصُّهُ: لَا يُحْصَى كَمْ نَاظِمٍ لَهُ وَمُخْتَصِرٍ، وَمُسْتَدْرِكٍ عَلَيْهِ وَمُقْتَصِرٍ، وَمُعَارِضٍ لَهُ وَمُنْتَصِرٍ، مَاتَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (643 هـ) عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمَعَ اسْتِيفَائِي فِيهَا لِمَقَاصِدِ كِتَابِهِ (زِدْتُهَا عِلْمًا) مِنْ إِصْلَاحٍ لِخَلَلٍ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي عَدِّ أَقْسَامِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ فَائِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. (تَرَاهُ) أَيِ: الْمَزِيدَ (مَوْضِعَهُ) بِمُلَاحَظَةِ أَصْلِهَا ; لِأَنَّهُ وَإِنْ مَيَّزَ أَوَّلَ كَثِيرٍ مِنْهُ بِـ " قُلْتُ "، أَوْ تَمَيَّزَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَارِفِ ; لِكَوْنِهِ حِكَايَةً عَنْ مُتَأَخِّرٍ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِالصَّرِيحِ، أَوْ بِالْإِشَارَةِ، أَوْ تَعَقُّبًا لِكَلَامِهِ بِرَدٍّ أَوْ إِيضَاحٍ، فَآخِرُهُ قَدْ لَا يَتَمَيَّزُ، وَأَيْضًا فَقَدْ فَاتَهُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُمَيِّزْهَا بِـ " قُلْتُ "، وَلَا تَمَيَّزَتْ بِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ، كَمَا سَأُوَضِّحُ ذَلِكَ فِي مَحَالِّهِ. وَكَذَا أَشَرْتُ مِنْ أَجْلِ التَّلْخِيصِ لِعَزْوِ مَا يَكُونُ مِنَ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَتَحْقِيقَاتِهِ إِلَيْهِ. (فَحَيْثُ) الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ، أَوْ تَفْرِيعِيَّةٌ عَلَى " لَخَّصْتُ " (جَاءَ الْفِعْلُ وَالضَّمِيرُ) عَلَى الْبَدَلِ (لِوَاحِدٍ) لَا لِاثْنَيْنِ (وَمَنْ) أَيْ: وَالَّذِي كُلٌّ مِنَ الْفِعْلِ وَالضَّمِيرِ (لَهُ مَسْتُورُ) أَيْ: غَيْرُ مَعْلُومٍ، تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُغَطَّى ; بِأَنْ لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُ الْفِعْلِ مَعَهُ، وَلَا تَقَدَّمَ كُلًّا مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الضَّمِيرِ الْمُوَحَّدَيْنِ اسْمٌ يَعُودُ عَلَيْهِ كَـ " قَالَ " فِي أَمْثِلَةِ الْفِعْلِ. مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي الْحَسَنِ: (وَقَالَ بَانَ لِي بِإِمْعَانِي النَّظَرَ) وَ " لَهُ " فِي الضَّمِيرِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي حُكْمِ الصَّحِيحَيْنِ: " كَذَا لَهُ " (أَوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ الشَّيْخِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كَقَوْلِهِ: " فَالشَّيْخُ فِيمَا بَعْدُ قَدْ حَقَّقَهُ " (مَا أُرِيدُ) بِكُلٍّ مِنَ الْفَاعِلِ، وَصَاحِبِ الضَّمِيرِ وَالشَّيْخِ، (إِلَّا ابْنَ الصَّلَاحِ مُبْهَمَا) بِفَتْحِ الْهَاءِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَبِكَسْرِهَا حَالٌ مِنْ فَاعِلٍ، (أُرِيدُ) وَهُوَ النَّاظِمُ (وَإِنْ يَكُنْ) أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الضَّمِيرِ (لِاثْنَيْنِ) فَفِي الْفِعْلِ (نَحْوُ) قَوْلِكِ: (الْتَزَمَا) ، وَقَوْلِهِ: (وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أُسْنِدَا) وَفِي الضَّمِيرِ نَحْوُ (وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا) (فَمُسْلِمٌ مَعَ الْبُخَارِيِّ هُمَا) وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِلضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا وَإِضَافَتُهُ لِلثَّانِي بِالْمَعِيَّةِ مُشْعِرَةٌ بِالتَّبَعِيَّةِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ. وَرُبَّمَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ مَا تَكُونُ أَلِفُهُ لِلْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ: (وَقِيلَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ وَقَالَا) . وَكَقَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ: (وَمَا بِبَعْضٍ ذَا وَذَا وَقَالَا) وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا بِرَسْمِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا مَا لَهُ مَرْجِعٌ كَقَوْلِهِ: (وُرُودُ مَا قَالَا فَلَا يُرَدُّ) (وَاللَّهَ) بِالنَّصْبِ مَعْمُولُ (أَرْجُو) وَقُدِّمَ لِلِاخْتِصَاصِ نَحْوُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] . (فِي أُمُورِي كُلِّهَا مُعْتَصَمًا) بِفَتْحِ الصَّادِ، تَمْيِيزٌ لِلنِّسْبَةِ أَيْ: أَرْجُوهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِصَامِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْوِقَايَةِ، وَبِكَسْرِهَا أَيْ: مُمْتَنِعًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ النَّاظِمُ، أَيْ: أُؤَمِّلُ اللَّهَ فِي حَالَةِ كَوْنِي مُعْتَصِمًا. (فِي صَعْبِهَا) أَيْ: أُمُورِي (وَ) فِي (سَهْلِهَا) ، وَالصَّعْبُ وَكَذَا الْحَزَنُ ضِدُّ السَّهْلِ ; فَبِأَيِّ لَفْظٍ جِيءَ بِهِ مِنْهُمَا تَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ الْمَحْضَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْحَزَنِ أَبْلَغُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; حَيْثُ قَالَ: «وَأَنْتَ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْحَزَنَ سَهْلًا» وَحَيْثُ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ " حَزَنٍ " بِـ " سَهْلٍ " وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 [أَقْسَامُ الْحَدِيثِ] [الحديث الصَّحِيحُ] الصَّحِيحُ. 11 - وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ قَسَّمُوا السُّنَنْ ... إِلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَحَسَنْ 12 - فَالْأَوَّلُ الْمُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ ... بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ 13 - عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوذِ ... وَعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَتُوذِي 14 - وَبِالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ قَصَدُوا ... فِي ظَاهِرٍ لَا الْقَطْعَ وَالْمُعْتَمَدُ 15 - إِمْسَاكُنَا عَنْ حُكْمِنَا عَلَى سَنَدْ ... بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقًا وَقَدْ 16 - خَاضَ بِهِ قَوْمٌ فَقِيلَ مَالِكُ ... عَنْ نَافِعٍ بِمَا رَوَاهُ النَّاسِكُ 17 - مَوْلَاهُ وَاخْتَرْ حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ ... الشَّافِعِيُّ قُلْتُ وَعَنْهُ أَحْمَدُ 18 - وَجَزَمَ ابْنُ حَنْبَلٍ بِالزُّهْرِي ... عَنْ سَالِمٍ أَيْ عَنْ أَبِيهِ الْبَرِّ 19 - وَقِيلَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَنْ أَبِهْ ... عَنْ جَدِّهِ وَابْنُ شِهَابٍ عَنْهُ بِهْ 20 - أَوْ فَابْنُ سِيرِينَ عَنِ السَّلْمَانِي ... عَنْهُ أَوِ الْأَعْمَشُ عَنْ ذِي الشَّانِ 21 - النَّخَعِيُّ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ عَلْقَمَهْ ... عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلُمْ مَنْ عَمَّمَهْ. (أَقْسَامُ الْحَدِيثِ) جَمْعُ قِسْمٍ، وَهُوَ وَالنَّوْعُ، وَالصِّنْفُ، وَالضَّرْبُ، مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَرُبَّمَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. (وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ) أَيِ: الْحَدِيثِ (قَسَّمُوا) - بِالتَّشْدِيدِ - السُّنَنَ الْمُضَافَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا لَهُ أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا وَكَذَا وَصْفًا وَأَيَّامًا. (إِلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَحَسَنٍ) وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِمَا اسْتَقَرَّ اتِّفَاقُهُمْ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَمِنْهُمْ - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَسَنِ مِمَّا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ عُلُومِهِ - مَنْ يُدْرِجُ الْحَسَنَ فِي الصَّحِيحِ ; لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاحْتِجَاجِ. بَلْ نَقَلَ ابْنُ تَيْمِيَةَ إِجْمَاعَهُمْ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ خَاصَّةً - عَلَيْهِ أَوْ بِالنَّظَرِ ; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي مَجْمُوعِ كَلَامِهِمُ التَّقْسِيمُ لِأَكْثَرَ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا كَمَا رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. وَخُصَّتِ الثَّلَاثَةُ بِالتَّقْسِيمِ لِشُمُولِهَا لِمَا عَدَاهَا مِمَّا سَيَذْكُرُ مِنْ مَبَاحِثِ الْمَتْنِ دُونَ مُخْتَلِفِهِ وَغَرِيبِهِ وَنَاسِخِهِ، بَلْ وَلِأَكْثَرِ مَبَاحِثِ السَّنَدِ ; كَالتَّدْلِيسِ وَالِاخْتِلَاطِ وَالْعَنْعَنَةِ، وَالْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَوْ تُرَدُّ، وَالثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ، وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَطُرُقِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَالْمُبْهَمَاتِ. وَالْحَاصِلُ شُمُولُهَا لِكُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ مِنْهَا، وَلِخُرُوجِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْوَاعِ عَنْهَا أَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الضَّعِيفِ: (وَالْمَلْحُوظُ فِيمَا نُورِدُهُ مِنَ الْأَنْوَاعِ، أَيْ: بَعْدَهُ، عُمُومُ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ، لَا خُصُوصُ أَنْوَاعِ التَّقْسِيمِ الَّذِي فَرَغْنَا الْآنَ مِنْ تَقْسِيمِهِ) . وَأَدْرَجَ الضَّعِيفَ فِي السُّنَنِ تَغْلِيبًا، وَإِلَّا فَهُوَ لَا يُسَمَّى سُنَّةً، وَكَذَا قُدِّمَ عَلَى الْحَسَنِ لِلضَّرُورَةِ، أَوْ لِمُرَاعَاةِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ، أَوْ لِمُلَاحَظَةِ صَنِيعِ الْأَكْثَرِينَ، لَا سِيَّمَا وَالْحَسَنُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا، فَأَعْلَاهَا مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ، وَأَدْنَاهَا مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْانْجِبَارِ. وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ عِنْدَ قَوْمٍ، حَسَنٌ عِنْدَ قَوْمٍ، وَالثَّانِي حَسَنٌ عِنْدَ قَوْمٍ، ضَعِيفٌ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ الْوَاسِطَةَ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْإِنْفِرَادِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَأْخِيرِهِ الضَّعِيفَ حِينَ تَفْصِيلِهَا. وَلَا يَخْدِشُ فِيهِ تَيَسُّرُ تَأْخِيرِهِ فِي نَظْمِ بَعْضِ الْآخِذِينَ عَنِ النَّاظِمِ، حَيْثُ قَالَ: عِلْمُ الْحَدِيثِ رَاجِعُ الصُّنُوفِ إِلَى صَحِيحٍ حَسَنٍ ضَعِيفِ [الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ] (فَالْأَوَّلُ) أَيِ: الصَّحِيحُ، وَقُدِّمَ لِاسْتِحْقَاقِهِ التَّقْدِيمَ رُتْبَةً وَوَضْعًا، وَتَرْكُ تَعْرِيفِهِ لُغَةً بِأَنَّهُ ضِدُّ الْمَكْسُورِ وَالسَّقِيمِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، بِخِلَافِهِ فِي الْحَدِيثِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَسَائِرِ الْمَعَانِي فَمَجَازٌ، أَوْ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بِالتَّبَعِيَّةِ ; لِكَوْنِهِ خُرُوجًا عَنِ الْغَرَضِ. (الْمُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ) أَيِ: السَّالِمُ إِسْنَادُهُ - الَّذِي هُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَتْنِ، مَعَ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: إِنَّهُ حِكَايَةُ طَرِيقِ الْمَتْنِ وَهُوَ أَشْبَهُ، فَذَاكَ تَعْرِيفُ السَّنَدِ، وَالْأَمْرُ سَهْلٌ - عَنْ سَقْطٍ ; بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ رُوَاتِهِ سَمِعَ ذَلِكَ الْمَرْوِيَّ مِنْ شَيْخِهِ. [شُرُوطِ الحديث الصَّحِيحِ] [تَفْصِيلُ شُرُوطِ الصَّحِيحِ] وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ خَرَجَ الْمُنْقَطِعُ، وَالْمُرْسَلُ بِقِسْمَيْهِ، وَالْمُعْضَلُ الْآتِي تَعْرِيفُهَا فِي مَحَالِّهَا، وَالْمُعَلَّقُ الصَّادِرُ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الصِّحَّةَ كَالْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّ تَعَالِيقَهُ الْمَجْزُومَةَ الْمُسْتَجْمِعَةَ لِلشُّرُوطِ فِيمَنْ بَعْدَ الْمُعَلَّقِ عَنْهُ لَهَا حُكْمُ الْاتِّصَالِ، وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَلَّقِ عَنْهُ فَهُوَ لِقُصُورِنَا وَتَقْصِيرِنَا. وَاتِّصَالُهُ (بِنَقْلِ عَدْلٍ) وَهُوَ مَنْ لَهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُهُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي مَعَ الْبَسْطِ فِي مَحَلِّهِ، وَهَذَا هُوَ ثَانِي الشُّرُوطِ، وَبِهِ خَرَجَ مَنْ فِي سَنَدِهِ مَنْ عُرِفَ ضَعْفُهُ أَوْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ أَوْ حَالُهُ، حَسْبَمَا يَجِيءُ فِي بَيَانِهَا (ضَابِطِ) أَيْ: حَازِمٍ، (الْفُؤَادِ) بِضَمِّ الْفَاءِ ثُمَّ وَاوٍ مَهْمُوزَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ أَيِ: الْقَلْبِ، فَلَا يَكُونُ مُغَفَّلًا غَيْرَ يَقِظٍ وَلَا مُتْقِنٍ، لِئَلَّا يَرْوِيَ مِنْ كِتَابِهِ الَّذِي تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْخَلَلُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، أَوْ مِنْ حِفْظِهِ الْمُخْتَلِّ فَيُخْطِئَ ; إِذِ الضَّبْطُ ضَبْطَانِ: ضَبْطُ صَدْرٍ، وَضَبْطُ كِتَابٍ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ مَا سَمِعَهُ ; بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنَ اسْتِحْضَارِهِ مَتَى شَاءَ. وَالثَّانِي: هُوَ صَوْنُهُ لَهُ عَنْ تَطَرُّقِ الْخَلَلِ إِلَيْهِ مِنْ حِينِ سَمِعَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، وَإِنْ مَنَعَ بَعْضُهُمُ الرِّوَايَةَ مِنَ الْكِتَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَهَذَا - أَعْنِي الضَّبْطَ - هُوَ ثَالِثُ الشُّرُوطِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ ; حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّدُوقِ وَالثِّقَةِ وَالضَّابِطِ، وَجَعَلُوا لِكُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا مَرْتَبَةً دُونَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ: إِنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا فِي سَنَدِهِ رَاوٍ مُغَفَّلٌ، كَثِيرُ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهِ، وَإِنْ عُرِفَ بِالصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ. وَيَتَأَيَّدُ بِتَفْصِيلِ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ عَنْ شُرُوطِ الضَّبْطِ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَلِذَلِكَ تَعَقَّبَ الْمُصَنِّفُ الْخَطَّابِيَّ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَانْتَصَرَ شَيْخُنَا لِلْخَطَّابِيِّ ; حَيْثُ كَادَ أَنْ يَجْعَلَ الضَّبْطَ مِنْ أَوْصَافِهَا، لَكِنْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ تَفْسِيرَ الثِّقَةِ بِمَنْ فِيهِ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى الْعَدَالَةِ وَهُوَ الضَّبْطُ إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ لِبَعْضِهِمْ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَاشْتِرَاطُهُ فِي الصَّحِيحِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ التَّامُّ كَمَا فُهِمَ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْكَامِلِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدْخُلُ الْحَسَنُ لِذَاتِهِ الْمُشْتَرَطُ فِيهِ مُسَمَّى الضَّبْطِ خَاصَّةً هُنَا، لَكِنْ يَخْرُجُ إِذَا اعْتَضَدَ وَصَارَ صَحِيحًا لِغَيْرِهِ. وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِهِ بَعْدُ، وَإِنْ تَضَمَّنَ كَوْنَ الْحَدِّ غَيْرَ جَامِعٍ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِلًا لَهُ (عَنْ مِثْلِهِ) يَعْنِي: وَهَكَذَا إِلَى مُنْتَهَاهُ ; سَوَاءٌ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَى الصَّحَابِيِّ، أَوْ إِلَى مَنْ دُونَهُ حَتَّى يَشْمَلَ الْمَوْقُوفَ وَنَحْوَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَلَكِنْ قَدْ يُدَّعَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِـ " عَنْ مِثْلِهِ " تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ مُجَرَّدُ تَوْضِيحٍ، وَأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ حَذَفَهُ شَيْخُنَا فِي نُخْبَتِهِ لِشِدَّةِ اخْتِصَارِهَا (مِنْ غَيْرِ مَا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ (شُذُوذٍ) وَغَيْرِ (عِلَّةٍ قَادِحَةٍ) ، وَهَذَانِ: الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنَ الشُّرُوطِ، وَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهُمَا، وَهُمَا سَلْبِيَّانِ بِمَعْنَى اشْتِرَاطِ نَفْيِهِمَا، وَلَا يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ ذِكْرِ الْخَطَّابِيِّ لَهُمَا ; إِذْ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ فِيهِ. بَلْ هُوَ أَيْضًا مُقْتَضَى تَوْجِيهِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، قَوْلُهُ: (وَفِيهِمَا نَظَرٌ عَلَى مُقْتَضَى نَظَرِ الْفُقَهَاءِ ; حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي يُعَلِّلُ بِهَا الْمُحَدِّثُونَ لَا تَجْرِي عَلَى أُصُولِ الْفُقَهَاءِ) . إِذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُسَمَّى عِلَّةً، فَالْكَثِيرُ مِنْهُ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَالْبَعْضُ الْمُحْتَمِلُ لِأَنْ يَكُونَ الْأَكْثَرَ أَوْ غَيْرَهُ يُوَافِقُ الْفَقِيهَ الْمُحَدِّثَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ، وَلِذَلِكَ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: (كَثِيرًا) . وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِمَّا إِذَا أَثْبَتَ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ شَيْئًا فَنَفَاهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ أَوْ أَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ أَكْثَرُ مُلَازَمَةً مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ وَالْأُصُولِيَّ يَقُولَانِ: الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي فَيُقْبَلُ. وَالْمُحَدِّثُونَ يُسَمُّونَهُ شَاذًّا ; لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا الشُّذُوذَ الْمُشْتَرَطَ نَفْيُهُ هُنَا بِمُخَالَفَةِ الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ، عِنْدَ تَعَسُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيُّ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، بَلْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ، أَيْ: لِأَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَحِينَئِذٍ فَرَدُّ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ بَعِيدٌ. وَمِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ الْعَدْلُ الضَّابِطُ عَنْ تَابِعِيٍّ مَثَلًا عَنْ صَحَابِيٍّ، وَيَرْوِيهِ آخَرُ مِثْلُهُ ; سَوَاءٌ عَنْ ذَلِكَ التَّابِعِيِّ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَوْ أَكْثَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الْمُحَدِّثِينَ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ التَّابِعِيُّ سَمِعَهُ مِنْهُمَا مَعًا، إِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَقَامَتْ قَرِينَةٌ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي ثَانِي قِسْمَيِ الْمَقْلُوبِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْكَثِيرُ مِنْ هَذَا. وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يُعِلُّونَ بِهَذَا، مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الِاضْطِرَابَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّبْطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِمَا ضَعِيفًا، بَلْ تَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فَرَدَّ بِمُجَرَّدِ الْعِلَّةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَادِحَةً. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي تَسْمِيَةِ مَا يَجْمَعُ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ صَحِيحًا، ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ شُذُوذٌ أَوْ عِلَّةٌ رَدَّهُ فَشَاذٌّ، وَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ حَيْثُ يُحْكَمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ قَبْلَ الْإِمْعَانِ فِي الْفَحْصِ، عَنْ تَتَبُّعِ طُرُقِهِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الشُّذُوذُ وَالْعِلَّةُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَضْلًا عَنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ كُلِّهِ الَّتِي رُبَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ. وَرُبَّمَا تَطَرَّقَ إِلَى التَّصْحِيحِ مُتَمَسِّكًا بِذَلِكَ مَنْ لَا يُحْسِنُ، فَالَأَحْسَنُ سَدُّ هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ أَشْعَرَ تَعْلِيلُ ابْنِ الصَّلَاحِ ظُهُورَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْمَتْنِ مِنْ إِطْلَاقِ الْإِمَامِ الْمُعْتَمَدِ صِحَّةَ الْإِسْنَادِ بِجَوَازِ الْحُكْمِ قَبْلَ التَّفْتِيشِ، حَيْثُ قَالَ: (لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ الظَّاهِرُ) ، فَتَصْرِيحُهُ بِالِاشْتِرَاطِ يَدْفَعُهُ، مَعَ أَنَّ قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْإِسْنَادِ وَإِنْ كَانَ أَخَفَّ لَا يَسْلَمُ مِنَ انْتِقَادٍ. وَكَذَا لَا يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِالِانْقِطَاعِ، وَلَا بِجَهَالَةِ الرَّاوِي الْمُبْهَمِ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقٍ كَذَلِكَ [بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِمْعَانِ فِي التَّفْتِيشِ ; لِئَلَّا يَكُونَ مُتَّصِلًا وَمُعَيَّنًا فِي طَرِيقٍ آخَرَ] ، فَيُعَطَّلَ بِحُكْمِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَالْمُعْضَلِ. عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا مَالَ إِلَى النِّزَاعِ فِي تَرْكِ تَسْمِيَةِ الشَّاذِّ صَحِيحًا، وَقَالَ: غَايَةُ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فِيهِ رُجْحَانُ رِوَايَةٍ عَلَى أُخْرَى، وَالْمَرْجُوحِيَّةُ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ صَحِيحٌ وَأَصَحُّ، فَيُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ وَلَا يُعْمَلُ بِالْمَرْجُوحِ ; لَأَجْلِ مُعَارَضَتِهِ لَهُ، لَا لِكَوْنِهِ لَمْ تَصِحَّ طَرِيقُهُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالضَّعْفِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يُتَوَقَّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَيَتَأَيَّدُ بِمَنْ يَقُولُ: (صَحِيحٌ شَاذٌّ) كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُعَلِّ. وَهَذَا كَمَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ سَوَاءٌ، قَالَ: وَمَنْ تَأَمَّلَ الصَّحِيحَيْنِ، وَجَدَ فِيهِمَا أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى. [وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ تَنْظِيرِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ الَّذِي لَمْ يُفْصِحْ بِهِ بِهَذَا] . وَهُوَ أَيْضًا شَبِيهٌ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْعَامِّ قَبْلَ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ، وَفِي الْأَمْرِ قَبْلَ وُجُودِ الصَّارِفِ لَهُ عَنِ الْوُجُوبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالشُّذُوذُ سَبَبٌ لِلتَّرْكِ إِمَّا صِحَّةً أَوْ عَمَلًا، بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ ; كَالْإِرْسَالِ الْخَفِيِّ (فَتُوذِي) بِوُجُودِهَا الصِّحَّةَ الظَّاهِرَةَ، وَيَمْتَنِعُ مَعَهَا الْحُكْمُ وَالْعَمَلُ مَعًا (وَ) إِذَا تَمَّ هَذَا فَ (بِالصَّحِيحِ) فِي قَوْلِ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. (وَبِالضَّعِيفِ) فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ (قَصَدُوا) الصِّحَّةَ وَالضَّعْفَ (فِي ظَاهِرٍ) لِلْحُكْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَلَ سَنَدُهُ مَعَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْقَبُولِ لِجَوَازِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ عَلَى الثِّقَةِ، وَالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَكَذَا الصِّدْقُ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، مَعَ التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِهِ، مَتَى ظَنَنَّاهُ صِدْقًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَتَجَنُّبِهِ فِي ضِدِّهِ. (لَا) أَنَّهُمْ قَصَدُوا (الْقَطْعَ) بِصِحَّتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ ; إِذِ الْقَطْعُ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنَ التَّوَاتُرِ، أَوِ الْقَرَائِنِ الْمُحْتَفِّ بِهَا الْخَبَرُ، وَلَوْ كَانَ آحَادًا كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عِنْدَ حُكْمِ الصَّحِيحَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ كَحُسَيْنٍ الْكَرَابِيسِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا - فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوِ التَّوَسُّعِ، لَا سِيَّمَا مَنْ قَدَّمَ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ كَأَحْمَدَ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَا يَتَفَاوَتُ. فَالْجَارُّ فِي الصَّحِيحِ يَتَعَلَّقُ بِـ " قَصَدُوا "، وَ " فِي ظَاهِرٍ " بِمَحْذُوفٍ، وَ " لَا الْقَطْعَ " مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ " فِي ظَاهِرٍ " أَوْ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَدُوا الصِّحَّةَ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّحَّةَ وَالضَّعْفَ مَرْجِعُهُمَا إِلَى وُجُودِ الشَّرَائِطِ وَعَدَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ غَلَبَةِ الظَّنِّ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ. [أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ] [أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي سَنَدٍ خَاصٍّ الْحُكْمُ بِالْأَصَحِّيَّةِ لِفَرْدٍ مُطْلَقًا، بَلْ (الْمُعْتَمَدُ إِمْسَاكُنَا) أَيْ: كَفُّنَا (عَنْ حُكْمِنَا عَلَى سَنَدٍ) مُعَيَّنٍ (بِأَنَّهُ أَصَحُّ) الْأَسَانِيدِ (مُطْلَقًا) كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْإِسْنَادِ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَيَعِزُّ وُجُودُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْقَبُولِ مِنَ الضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَنَحْوِهِمَا فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ رُوَاةِ الْإِسْنَادِ، مِنْ تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِهِ ; إِذْ لَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ حَازَ أَعْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الصِّفَاتِ حَتَّى يُوَازَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ جَمِيعِ مَنْ عَاصَرَهُ. (وَقَدْ خَاضَ) إِذِ اقْتَحَمَ الْغَمَرَاتِ (بِهِ) أَيْ: بِالْحُكْمِ بِالْأَصَحِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ (قَوْمٌ) فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَاضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ (فَقِيلَ) كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِمَامُ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَا رَوَاهُ (مَالِكٌ) نَجْمُ السُّنَنِ الْقَائِلُ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ: لَا أُقَدِّمُ عَلَيْهِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَحَدًا. وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْهُ فَاشْدُدْ يَدَكَ بِهِ، كَانَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ بَعْدَ التَّابِعِينَ (عَنْ) شَيْخِهِ (نَافِعٍ) الْقَائِلِ فِي حَقِّهِ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ: أَيُّ حَدِيثٍ أَوْثَقُ مِنْ حَدِيثِهِ؟ ! (بِمَا) أَيْ: بِالَّذِي (رَوَاهُ) لَهُ (النَّاسِكُ) أَيِ: الْعَابِدُ (مَوْلَاهُ) أَيْ: مَوْلَى نَافِعٍ، وَهُوَ سَيِّدُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ، وَكَانَ جَدِيرًا بِالْوَصْفِ بِالنُّسُكِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ بِالسَّبِيلِ الْمَتِينِ. وَقَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» ، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (مَا مِنَّا أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا إِلَّا مَالَتْ بِهِ وَمَالَ بِهَا، إِلَّا هُوَ) . (وَاخْتَرْ) إِذَا جَنَحْتَ لِهَذَا أَوْ زِدْتَ رَاوِيًا بَعْدَ مَالِكٍ (حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ) إِمَامُنَا (الشَّافِعِيُّ) [بِالسُّكُونِ أَيِ: اخْتَرْ هَذَا فَـ (حَيْثُ) وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ] ، فَقَدَ رُوِّينَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: (كُنْتُ سَمِعْتُ (الْمُوَطَّأَ) مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 حُفَّاظِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، فَأَعَدْتُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ ; لِأَنِّي وَجَدْتُهُ أَقْوَمَهُمْ بِهِ) . انْتَهَى بَلْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَخَذَهُ عَنْ مَالِكٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ: (إِنَّهُ - أَيْ: هَذَا الْإِسْنَادُ - أَجَلُّ الْأَسَانِيدِ لِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ) ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ أَجَلُّ مِنَ الشَّافِعِيِّ (قُلْتُ وَ) اخْتَرْ كَمَا قَالَهُ الصَّلَاحُ الْعَلَائِيُّ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ، إِنْ زِدْتَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ أَحَدًا حَيْثُ (عَنْهُ) يُسْنِدُ (أَحْمَدُ) وَهُوَ حَقِيقٌ بِالْإِلْحَاقِ. فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ وَمَا خَلَّفَ بِهَا أَفْقَهَ وَلَا أَزْهَدَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا أَعْلَمَ مِنْهُ. وَلِاجْتِمَاعِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ قِيلَ لَهَا: " سِلْسِلَةُ الذَّهَبِ ". فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَكْثَرَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَيْثُ أَوْرَدَ حَدِيثَ مَالِكٍ؟ وَلِمَ لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الْأُصُولِ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ؟ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ عَنْ أَحْمَدَ بِخُصُوصِهِ: لَعَلَّ جَمْعَهُ الْمُسْنَدَ كَانَ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُ فَلِطَلَبِ الْعُلُوِّ، وَقَدْ أَوْرَدْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ النُّكَتِ أَشْيَاءَ مُهِمَّةً. مِنْهَا إِيرَادُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّارِحُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِإِسْنَادٍ كُنْتُ فِيهِ كَأَنِّي أَخَذْتُهُ عَنْهُ، فَأَحْبَبْتُ إِيرَادَهُ هُنَا تَبَرُّكًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْعِزُّ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ الْحَنَفِيُّ سَمَاعًا. قَالَ الْأَوَّلُ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفِدَاءِ بْنِ الْخِيَارِ إِذْنًا، أَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ الْمُسْلِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ مَكِّيٍّ الْقَيْسِيُّ الدِّمَشْقِيُّ. وَقَالَ الثَّانِي: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُوخِيِّ فِي كِتَابِهِ، أَخْبَرَتْنَا أُمُّ أَحْمَدَ زَيْنَبُ بِنْتُ مَكِّيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ كَامِلٍ الْحَرَّانِيَّةُ قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّصَافِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَنَهَى عَنِ النَّجْشِ، وَنَهَى عَنْ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَنَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا» . وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ إِلَّا الْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ، فَهِيَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، فَوَقَعَ لَنَا بَدَلًا لَهُمَا مُسَاوِيًا. (وَجَزَمَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ (بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حَنْبَلٍ) نِسْبَةً لِجَدِّهِ، فَاسْمُ أَبِيهِ مُحَمَّدٌ، حِينَ تَذَاكَرَ فِي ذَلِكَ مَعَ جَمَاعَةٍ بِأَجْوَدِيَّةِ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الْقُرَشِيِّ (الزُّهْرِيِّ) الْمَدَنِيِّ الْقَائِلِ فِيهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَا رَأَيْتُ عَالِمًا أَجْمَعَ مِنْهُ، وَلَا أَكْثَرَ عِلْمًا. لَوْ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ فِي التَّرْغِيبِ لَقُلْتَ: لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا، أَوِ الْأَنْسَابِ فَكَذَلِكَ، أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَحَدِيثُهُ جَامِعٌ. (عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَ وَلَدِ أَبِيهِ بِهِ، وَمَالِكٌ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ أَشْبَهُ بِمَنْ مَضَى مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الزُّهْدِ وَالْفَضْلِ وَالْعَيْشِ مِنْهُ (أَيْ) مِمَّا رَوَاهُ سَالِمٌ (عَنْ أَبِيهِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (الْبَرِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ دَأْبُهُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ. وَوَافَقَ أَحْمَدَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ، لَكِنْ مُعَبِّرًا بِالْأَصَحِّيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ اصْطِلَاحًا، وَلِذَا قَرَنَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِلشَّارِحِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْأَصَحِّيَّةِ، نَعَمِ الْوَصْفُ بِجَيِّدٍ عِنْدَ الْجِهْبِذِ أَنْزَلُ رُتْبَةً مِنَ الْوَصْفِ بِصَحِيحٍ. (وَقِيلَ) كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، إِنْ صَحَّ عَنْهُ، وَالنَّسَائِيُّ لَكِنَّهُ أَدْرَجَهُ مَعَ غَيْرِهِ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَا رَوَاهُ (زَيْنُ الْعَابِدِينَ) وَاسْمُهُ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مَاتَ. (عَنْ أَبِهْ) بِحَذْفِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى لُغَةِ النَّقْصِ ; كَقَوْلِهِ: بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ فِي الْكَرَمْ. وَهُوَ السَّيِّدُ الْحُسَيْنُ الشَّهِيدُ سِبْطُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَيْحَانَتُهُ مِنَ الدُّنْيَا (عَنْ) عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (جَدِّهِ) أَيْ: جَدِّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ (وَ) ذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ (ابْنُ شِهَابٍ) الزُّهْرِيُّ (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ (بِهِ) أَيْ: بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَلَأَجْلِ تَنْوِيعِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ يُقَالُ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ إِمَّا مَا تَقَدَّمَ، (أَوْ فَـ) مَا رَوَاهُ (ابْنُ سِيرِينَ) أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ الْأَنْصَارِيُّ الْبَصْرِيُّ التَّابِعِيُّ الشَّهِيرُ بِكَثْرَةِ الْحِفْظِ وَالْعِلْمِ وَالْإِتْقَانِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ مُؤَرَّقٌ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ فِي وَرَعِهِ، وَلَا أَوْرَعَ فِي فِقْهِهِ مِنْهُ. (عَنْ) أَبِي عَمْرٍو عَبِيدَةَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - (السَّلْمَانِيِّ) - بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَيٌّ مِنْ مُرَادٍ - الْكُوفِيِّ التَّابِعِيِّ الَّذِي كَادَ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ فَقِيهًا يُوَازِي شُرَيْحًا فِي الْفَضَائِلِ، بَلْ كَانَ شُرَيْحٌ يُرَاسِلُهُ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: (إِنَّهُ ثِقَةٌ لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ) . (عَنْهُ) يَعْنِي عَنْ عَلِيٍّ صَاحِبِ التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، وَكَذَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ بِزِيَادَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ ; حَيْثُ قَالَا: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ: أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إِلَى آخِرِهِ. وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى عَنْ أَوَّلِهِمَا بِإِبْدَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ مِنَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَبأَجْوَدَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أَصَحَّ، وَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَصَحِّيَّةِ أَيُّوبَ مَعَ بَاقِي التَّرْجَمَةِ النَّسَائِيُّ، لَكِنْ مَعَ إِدْرَاجِ غَيْرِهِ. (أَوْ) مَا رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْكُوفِيُّ (الْأَعْمَشُ) الْإِمَامُ الْحَافِظُ الثِّقَةُ الَّذِي كَانَ شُعْبَةُ يُسَمِّيهِ لِصِدْقِهِ (الْمُصْحَفَ) (عَنِ) الْفَقِيهِ الْمُتَوَفَّى الصَّالِحِ. (ذِي الشَّأْنِ) أَبِي عِمْرَانَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ (النَّخَعِيِّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُعْجَمَةِ، نِسْبَةً لِلنَّخَعِ، قَبِيلَةٌ مِنْ مَذْحِجٍ، الْكُوفِيِّ (عَنْ) رَاهِبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عِبَادَةً وَعِلْمًا وَفَضْلًا وَفِقْهًا. (ابْنِ قَيْسٍ عَلْقَمَةَ) أَيْ: عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ، لَكِنْ بِإِبْدَالِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ مِنَ الْأَعْمَشِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: (حَدَّثَ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، فَقَالَ: هَذَا الْمُشْرِفُ عَلَى الْكَرَاسِيِّ) ، بَلْ سُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ فِي إِبْرَاهِيمَ: الْأَعْمَشُ أَوْ مَنْصُورٌ؟ ، فَقَالَ: (مَنْصُورٌ) . وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُمَا -: الْأَعْمَشُ حَافِظٌ يُخَلِّطُ وَيُدَلِّسُ، وَمَنْصُورٌ أَتْقَنُ لَا يُخَلِّطُ وَلَا يُدَلِّسُ، لَكِنْ قَالَ وَكِيعٌ: (إِنَّ الْأَعْمَشَ أَحْفَظُ لِإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مَنْصُورٍ) . وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ أَوْرَدْتُ مِنْهَا فِي النُّكَتِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا مَا يُزَاحِمُ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَالِاعْتِنَاءُ بِتَتَبُّعِهَا يُفِيدُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَرْجِيحُ مَا عُورِضَ مِنْهَا بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ تَمَكُّنُ النَّاظِرِ الْمُتْقِنِ فِيهَا مِنْ تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِالنَّظَرِ لِتَرْجِيحِ الْقَائِلِينَ إِنْ تَهَيَّأَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 [كِتَابٌ عَنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ] وَقَدْ أَفْرَدَ النَّاظِمُ فِي الْأَحْكَامِ كِتَابًا لَطِيفًا جَمَعَهُ مِنْ تَرَاجِمِ سِتَّةَ عَشَرَ قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ، إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا، وَهِيَ مَا عَدَا الثَّالِثَةِ مِمَّا ذُكِرَ هُنَا، وَمَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَمَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ، وَالزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، كُلٌّ مِنَ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِمَّا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْقَاسِمِ، وَالزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ. وَالْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عُمَرَ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الصَّحِيحِ. (وَ) عَلَى كُلِّ حَالٍ (لُمْ) كَمَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ، بِضَمِّ اللَّامِ أَيِ: اعْذِلْ وَاعْتِبْ (مَنْ عَمَّمَهْ) أَيِ: الَّذِي عَمَّمَ الْحُكْمَ بِالْأَصَحِّيَّةِ لِسَنَدٍ مُعَيَّنٍ ; لِأَنَّهُ حَصْرٌ فِي بَابٍ وَاسِعٍ جِدًّا شَدِيدِ الِانْتِشَارِ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ عَلَى خَطَرٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالِانْتِقَاضِ. كَمَا قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ فِي الرُّوَاةِ مَنِ اسْمُهُ كَذَا سِوَى فُلَانٍ، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَتُقَيَّدُ كُلُّ تَرْجَمَةٍ بِصَحَابِيِّهَا، أَوْ بِالْبَلَدِ الَّتِي مِنْهَا أَصْحَابُ تِلْكَ التَّرْجَمَةِ، فَهُوَ أَقَلُّ انْتِشَارًا أَوْ أَقْرَبُ إِلَى حَصْرٍ، كَمَا قِيلَ فِي أَفْضَلِ التَّابِعِينَ، وَأَصَحِّ الْكُتُبِ، وَأَحَادِيثِ الْبَابِ، فَيَقُولُونَ: أَصَحُّ أَحَادِيثِ بَابِ كَذَا أَوْ مَسْأَلَةِ كَذَا حَدِيثُ كَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي أَصَحِ أَسَانِيدِ فُلَانٍ، مَشَوْا فِي أَوْهَى أَسَانِيدِ فُلَانٍ أَيْضًا، وَفَائِدَتُهُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَسَانِيدِ عَلَى بَعْضٍ، وَتَمْيِيزُ مَا يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مِمَّا لَا يَصْلُحُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُخْتَصَرَ يَضِيقُ عَنْ بَسْطِ ذَلِكَ وَتَتِمَّاتِهِ، فَلْيُرَاجَعْ أَصْلُهُ بَعْدَ تَحْرِيرِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [أَصَحُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ] 22 - أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحِيحِ ... مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتَّرْجِيحِ 23 - وَمُسْلِمٌ بَعْدُ، وَبَعْضُ الْغَرْبِ مَعْ ... أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ 24 - وَلَمْ يَعُمَّاهُ وَلَكِنْ قَلَّ مَا ... عِنْدَ ابْنِ الْأَخْرَمِ مِنْهُ قَدْ فَاتَهُمَا 25 - وَرُدَّ لَكِنْ قَالَ يَحْيَى الْبَرُّ ... لَمْ يَفُتِ الْخَمْسَةَ إِلَّا النَّزْرُ 26 - وَفِيهِ مَا فِيهِ لِقَوْلِ الْجُعْفِي ... أَحْفَظُ مِنْهُ عُشْرَ أَلْفِ أَلْفِ 27 - وَعَلَّهُ أَرَادَ بِالتَّكْرَارِ ... لَهَا وَمَوْقُوفٍ وَفِي الْبُخَارِي 28 - أَرْبَعَةُ الْآلَافِ وَالْمُكَرَّرُ ... فَوْقَ ثَلَاثَةٍ أُلُوفًا ذَكَرُوا [أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحِيحِ] وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ، (أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحِيحِ) السَّابِقِ تَعْرِيفُهُ كِتَابًا مُخْتَصًّا بِهِ، الْإِمَامُ (مُحَمَّدٌ) هُوَ: ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبُخَارِيُّ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ قَاسِمٍ، وَغَيْرُهُمَا. وَمُوَطَّأُ مَالِكٍ - وَإِنْ كَانَ سَابِقًا - فَمُصَنِّفُهُ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الشُّرُوطُ السَّابِقَةُ لِإِدْخَالِهِ فِيهِ الْمُرْسَلَ وَالْمُنْقَطِعَ وَنَحْوَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ، بِخِلَافِ مَا يَقَعُ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كِتَابٌ فِي الْعِلْمِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ) - كَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 [صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ أَفْضَلُ أَوْ صَحِيحُ مُسْلِمٍ] (وَ) لِتَقَدُّمِ الْبُخَارِيِّ فِي الْفَنِّ وَمَزِيدِ اسْتِقْصَائِهِ (خُصَّ) مَا أَسْنَدَهُ فِي صَحِيحِهِ، دُونَ التَّعَالِيقِ وَالتَّرَاجِمِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (بِالتَّرْجِيحِ) عَلَى سَائِرِ الصِّحَاحِ (وَمُسْلِمٌ بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ، أَيْ: بَعْدَ الْبُخَارِيِّ وَضْعًا وَرُتْبَةً، وَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَنَوَى مَعْنَاهُ لِلْعِلْمِ بِهِ. هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ وَالْحِذْقِ وَالْخَوْضِ عَلَى الْأَسْرَارِ، (وَبَعْضُ) أَهْلِ (الْغَرْبِ) حَسْبَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ مِنْ شُيُوخِ أَبِي مَرْوَانَ الطُّبْنِيِّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، بَعْدَهَا نُونٌ، مَدِينَةٌ بِـ " الْغَرْبِ " مِنْ عَمَلِ " إِفْرِيقِيَّةَ ". مِمَّا وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ مِنْهُمْ (مَعَ) الْحَافِظِ (أَبِي عَلِيٍّ) الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ النَّيْسَابُورِيِّ أَحَدِ شُيُوخِ صَاحِبِ (الْمُسْتَدْرَكِ) أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ الْحَافِظُ (فَضَّلُوا ذَا) أَيْ: (صَحِيحَ مُسْلِمٍ) ، وَلَكِنْ (لَوْ نَفَعَ) هَذَا الْقَوْلُ لَقُبِلَ مِنْ قَائِلِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفَعْ ; لِضَعْفِهِ وَمُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ، بَلْ وَعَدَمِ صَرَاحَةِ مَقَالِهِمْ فِي الْمُرَادِ. أَمَّا الْمَغَارِبَةُ فَإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ عَلَّلَ ذَلِكَ كَمَا نَقَلَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ التُّجِيبِيُّ عَنْهُ، بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ إِلَّا الْحَدِيثُ السَّرْدُ، وَهُوَ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْأَصَحِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ أَيْضًا لِذَلِكَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَاسِمٍ: لَمْ يَضَعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 [تَرَدُّدُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي التَّفْضِيلِ] وَلِكَوْنِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَمْ يَقِفْ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ، تَرَدَّدَ فِي جِهَةِ التَّفْضِيلِ. وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يُمَازِجْهُ غَيْرُ الصَّحِيحِ، يَعْنِي بِخِلَافِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ أَوْدَعَ تَرَاجِمَ أَبْوَابِهِ كَثِيرًا مِنْ مَوْقُوفَاتِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُدَّعَى، أَوْ أَنَّ الْأَرْجَحِيَّةَ مِنْ حَيْثِيَّةِ الصِّحَّةِ فَمَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ فَلَفْظُهُ كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَنْدَهْ الْمَذْكُورِ عَنْهُ: (مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ) . وَهُوَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا مُحْتَمِلٌ لِلْمُدَّعَى، أَوْ لِنَفْيِ الْأَصَحِّيَّةِ خَاصَّةً دُونَ الْمُسَاوَاةِ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ فِي شَرْحُ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي: ذَهَبَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ» مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو ذَرٍّ أَصْدَقَ الْعَالَمِ أَجْمَعَ. قَالَ: وَلَيْسَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَعْلَى رُتْبَةً فِي الصِّدْقِ مِنْهُ، وَلَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ مِثْلُهُ فِي الصِّدْقِ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، لَقَالَ: أَبُو ذَرٍّ أَصْدَقُ مِنْ كُلِّ مَنْ أَقَلَّتْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَعْلَمُ أَهْلِ الْبَلَدِ بِفَنِّ كَذَا، لَيْسَ كَقَوْلِهِ: مَا فِي الْبَلَدِ أَعْلَمُ مِنْ فُلَانٍ بِفَنِّ كَذَا ; لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَثْبَتَ لَهُ الَأَعْلَمِيَّةَ، وَفِي الثَّانِي نَفَى أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فِيهَا مَنْ يُسَاوِيهِ فِيهِ. قَالَ: وَإِذَا كَانَ لَفْظُ أَبِي عَلِيٍّ مُحْتَمِلًا لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْجَزْمُ بِالْأَصَحِّيَّةِ، يَعْنِي كَمَا فَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ ; حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كِتَابُ مُسْلِمٍ أَصَحُّ. وَقَدْ سَبَقَهُ كُلٌّ مِنْ شَيْخَيْهِ: الْمُؤَلِّفِ، وَالْعِزِّ ابْنِ جَمَاعَةَ إِلَى الْإِرْشَادِ لِذَلِكَ. بَلْ لِعَدَمِ صَرَاحَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا تَرْوِي عَنْ أَثْبَتَ مِنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، أَمَّا مِثْلُهُ فَعَسَى. وَيَتَأَيَّدُ كُلُّ هَذَا بِحِكَايَةِ التَّسَاوِي، قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ فِيهَا رَابِعٌ، وَهُوَ الْوَقْفُ ; إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ إِجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ. [دَلِيلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ] أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ: فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ أَعْلَمَ بِالْفَنِّ مِنْ مُسْلِمٍ، وَأَنَّهُ تِلْمِيذُهُ وَخِرِّيجُهُ، حَتَّى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَوْلَا الْبُخَارِيُّ مَا رَاحَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَرْجَحِيَّةُ الْمُصَنِّفِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَرْجُوحِيَّةَ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّجَهَ تَعَلُّقُ الْأَوَّلِيَّةِ بِالْمَقْصُودِ. وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّ كِتَابَ الْبُخَارِيِّ أَكْثَرُهُمَا فَوَائِدَ وَمَعَارِفَ ظَاهِرَةً وَغَامِضَةً. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ: فَالْإِسْنَادُ الصَّحِيحُ مَدَارُهُ عَلَى الِاتِّصَالِ وَعَدَالَةِ الرُّوَاةِ، وَكِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَعْدَلُ رُوَاةً وَأَشَدُّ اتِّصَالًا. وَبَيَانُهُ أَنَّ الَّذِينَ انْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِالْإِخْرَاجِ لَهُمْ دُونَ مُسْلِمٍ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ بِالضَّعْفِ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ. وَالَّذِينَ انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِهِمْ دُونَ الْبُخَارِيِّ سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّخْرِيجَ عَمَّنْ لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ أَصْلًا أَوْلَى مِنَ التَّخْرِيجِ عَمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ شَدِيدٍ. وَأَيْضًا فَالَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمُ الْبُخَارِيُّ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، لَمْ يُكْثِرْ مِنْ تَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِمْ بِخِلَافِ مُسْلِمٍ، وَالَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمُ الْبُخَارِيُّ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ وَخَبَرَهُمْ وَخَبَرَ حَدِيثَهُمْ بِخِلَافِ مُسْلِمٍ، فَأَكْثَرُ مَنْ يَنْفَرِدُ بِهِ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْءَ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ شُيُوخِهِ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُكُلِّمَ فِيهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ يُخَرِّجُ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَهُمْ غَالِبًا فِي الِاسْتِشْهَادَاتِ وَنَحْوِهَا، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاتِّصَالِ: فَمُسْلِمٌ كَانَ مَذْهَبُهُ - بَلْ نَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ - أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُعَنْعَنَ لَهُ حُكْمُ الِاتِّصَالِ، إِذَا تَعَاصَرَ الْمُعَنْعِنُ وَالْمُعَنْعَنُ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ اجْتِمَاعُهُمَا، وَالْبُخَارِيُّ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الِاتِّصَالِ، حَتَّى يَثْبُتَ اجْتِمَاعُهُمَا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُرَجِّحُ كِتَابَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَإِنْ كُنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَى مُسْلِمٍ بِعَمَلِهِ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، لِكَوْنِهِ يَجْمَعُ طُرُقًا كَثِيرَةً يَتَعَذَّرُ مَعَهَا وُجُودُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي جَوَّزَهُ. انْتَهَى. [وَذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَمَا عَدَاهُ فَجَلَالَتُهُ تَنْبُو عَنْ مَشْيِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ عَلَيْهِ] . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ لِكِتَابِ مُسْلِمٍ، سِوَى مَا سَلَفَ عَنِ ابْنِ حَزْمٍ - فَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ - كَمَا مَرَّ - غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لِلْأَصَحِّيَّةِ، مُعَارَضٌ بِوُجُودِ مِثْلِهِ، أَوْ أَحْسَنَ مِنْهُ مِنْ نَمَطِهِ فِي الْبُخَارِيِّ مِمَّا لَا نُطِيلُ بِإِيضَاحِهِ هُنَا. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ النَّظَّارُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ((إِنَّهُ - أَيْ: مُسْلِمًا - رَامَ مَا رَامَ الْبُخَارِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُضَايِقْ نَفْسَهُ مُضَايَقَتَهُ. وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْبُخَارِيُّ لِلرِّوَايَةِ عَنْهُمْ قَالَ: وَكُلٌّ قَصَدَ الْخَيْرَ وَمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ التَّشْدِيدِ مَبْلَغَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَلَا تَسَبَّبَ إِلَى اسْتِنْبَاطِهِ الْمَعَانِيَ وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِ فِقْهِ الْحَدِيثِ وَتَرَاجِمِ الْأَبْوَابِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا لَهُ وَصْلَةٌ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ تَسَبُّبَهُ، وَلِلَّهِ الْفَضْلُ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ)) . وَبِالْجُمْلَةِ فَكِتَابَاهُمَا أَصَحُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ (وَ) لَكِنَّهُمَا (لَمْ يَعُمَّاهُ) أَيْ: لَمْ يَسْتَوْعِبَا [كُلَّ الصَّحِيحِ فِي كِتَابَيْهِمَا، بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُمَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا مَشْرُوطَهُمَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 لَكَانَ مُوَجَّهًا] وَقَدْ صَرَّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِعَدَمِ الِاسْتِيعَابِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ عَنْهُ: ((مَا أَدْخَلْتُ فِي كِتَابِي الْجَامِعِ إِلَّا مَا صَحَّ، وَتَرَكْتُ مِنَ الصِّحَاحِ خَشْيَةَ أَنْ يَطُولَ الْكِتَابُ)) . وَقَالَ مُسْلِمٌ: ((إِنَّمَا أَخْرَجْتُ هَذَا الْكِتَابَ، وَقُلْتُ: هُوَ صِحَاحٌ، وَلَمْ أَقُلْ: إِنَّ مَا لَمْ أُخَرِّجْهُ مِنَ الْحَدِيثِ فِيهِ ضَعِيفٌ)) . وَحِينَئِذٍ فَإِلْزَامُ الدَّارَقُطْنِيِّ لَهُمَا فِي جُزْءٍ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ بِأَحَادِيثِ رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رُوِيَتْ عَنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ، تَرَكَاهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: يَنْبَغِي أَنْ يُنَاقَشَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي تَرْكِهِمَا إِخْرَاجَ أَحَادِيثَ هِيَ مِنْ شَرْطِهِمَا - لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ((وَلَمْ يَحْكُمَا، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَا خَرَّجَهُ، قَالَ: وَقَدْ نَبَغَ فِي عَصْرِنَا هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، يَشْمَتُونَ بِرُوَاةِ الْآثَارِ ; بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصِحُّ عِنْدَكُمْ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يَبْلُغُ عَشَرَةَ آلَافِ حَدِيثٍ)) . وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَهُ السِّلَفِيُّ فِي مُعْجَمِ السَّفَرِ " أَنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الْمَنَامِ أَبَا دَاوُدَ صَاحِبَ السُّنَنِ فِي آخَرِينَ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنَّ أَحَدَهُمْ قَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ، فَاقْلِبْ عَنْهُ رَأْسَ دَابَّتِكَ ". وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ بِتَفْضِيلِ كِتَابِ النَّسَائِيِّ عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ: إِنَّ مَنْ شَرَطَ الصِّحَّةَ، فَقَدْ جَعَلَ لِمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ فِي الْإِدْرَاكِ سَبَبًا إِلَى الطَّعْنِ عَلَى مَا لَمْ يُدْخِلْ، [وَجَعَلَ لِلْجِدَالِ مَوْضِعًا] فِيمَا أَدْخَلَ. وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ حُكْمًا وَتَعْلِيلًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا لَمْ يَلْتَزِمَا حَصْرَ الصَّحِيحِ فِيمَا أَوْدَعَاهُ كِتَابَيْهِمَا (وَلَكِنْ قَلَّ مَا) أَيِ: الَّذِي (عِنْدَ) الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الشَّيْبَانِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ (ابْنِ الْأَخْرَمِ) شَيْخِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَمِيمٍ مُدْغَمَةٍ فِي مِيمِ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الصَّحِيحِ (قَدْ فَاتَهُمَا، وَرُدَّ) مِنِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، فَإِنَّهُ يَصْفُو مِنْ (مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ) عَلَيْهِمَا صَحِيحٌ كَثِيرٌ. (لَكِنْ قَالَ) الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا (يَحْيَى) النَّوَوِيُّ (الْبَرُّ) - لِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَأَصْنَافِ الْبِرِّ مَا فَاقَ فِيهِ ; بِحَيْثُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ سَالِكًا مِنْهَاجَ الصَّحَابَةِ، لَا يُعْلَمُ فِي عَصْرِهِ مَنْ سَلَكَهُ غَيْرُهُ - فِي كِتَابِهِ ((الْإِرْشَادِ)) بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ غَيْرِ ابْنِ الْأَخْرَمِ: إِنَّهُ فَاتَهُمَا كَثِيرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُشَاهَدَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قُلْتُ: وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ قَالَ (لَمْ يَفُتِ) الْكُتُبَ (الْخَمْسَةَ) أُصُولَ الْإِسْلَامِ ; وَهِيَ: الصَّحِيحَانِ وَالسُّنَنُ الثَّلَاثَةُ (إِلَّا النَّزْرُ) يَعْنِي الْقَلِيلَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَائِلِ الْحَافِظَ أَبَا أَحْمَدَ بْنَ الْفَرَضِيِّ، فَإِنَّهُ وَصَفَ مُصَنَّفَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا عَدَا التِّرْمِذِيِّ مِنْهَا بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَلِيلُ. (وَفِيهِ) أَيْ: وَفِي تَصْوِيبِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا (مَا فِيهِ) كِنَايَةٌ عَنْ ضَعْفِهِ (لِقَوْلِ الْجُعْفِيِّ) مَوْلَاهُمُ، الْبُخَارِيِّ، حَسْبَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ كَالْمُسْتَظْهِرِ بِظَاهِرِهِ لِلرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْأَخْرَمِ، (أَحْفَظُ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الصَّحِيحِ (عُشْرَ أَلْفِ أَلْفِ. .) حَدِيثٍ، أَيْ: مِائَةَ أَلْفٍ، كَمَا هِيَ عِبَارَتُهُ. وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ: وَمِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ. وَالْخَمْسَةُ فَضْلًا عَنِ الصَّحِيحَيْنِ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُمَا مَعًا بِأَنْ يُقَالَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ (عَلَّهُ) أَيْ: عَلَّ الْبُخَارِيَّ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي " لَعَلَّ " وَمِنْهُ: لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ. (أَرَادَ) بُلُوغَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ (بِالتَّكْرَارِ لَهَا وَمَوْقُوفٍ) يَعْنِي بَعْدَ الْمُكَرَّرِ وَالْمَوْقُوفِ، وَكَذَا آثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ مِمَّا كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ عَلَى كُلِّهِ حَدِيثًا، وَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ الْخَطْبُ، فَرُبَّ حَدِيثٍ لَهُ مِائَةُ طَرِيقٍ فَأَكْثَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَهَذَا حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» نُقِلَ - مَعَ مَا فِيهِ - عَنِ الْحَافِظِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ أَنَّهُ كَتَبَهُ مِنْ حَدِيثِ سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَاوِيهِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَقِبَ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: وَمَا تَرَكْتُ مِنَ الصَّحِيحِ أَكْثَرُ، مَا نَصُّهُ: لَوْ أَخْرَجَ كُلَّ حَدِيثٍ عِنْدَهُ، لَجَمَعَ فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ حَدِيثَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَذَكَرَ طُرُقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا صَحَّتْ. وَقَالَ الْجَوْزَقِيُّ: إِنَّهُ اسْتَخْرَجَ عَلَى أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ طَرِيقٍ وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ طَرِيقًا. قَالَ شَيْخُنَا: وَإِذَا كَانَ الشَّيْخَانِ مَعَ ضِيقِ شَرْطِهِمَا، بَلَغَ جُمْلَةُ مَا فِي كِتَابَيْهِمَا بِالْمُكَرَّرِ ذَلِكَ، فَمَا لَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنَ الطُّرُقِ لِلْمُتُونِ الَّتِي أَخْرَجَاهَا لَعَلَّهُ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَيْضًا أَوْ يَزِيدُ، وَمَا لَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنَ الْمُتُونِ مِنَ الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَى شَرْطِهِمَا لَعَلَّهُ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَيْضًا أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَإِذَا انْضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بَلَغَ الْعِدَّةَ الَّتِي يَحْفَظُهَا الْبُخَارِيُّ، بَلْ رُبَّمَا زَادَتْ. وَهَذَا الْحَمْلُ مُتَعَيِّنٌ، وَإِلَّا فَلَوْ عُدَّتْ أَحَادِيثُ الْمَسَانِيدِ، وَالْجَوَامِعِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَعَاجِمِ وَالْفَوَائِدِ، وَالْأَجْزَاءِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ بِأَيْدِينَا صَحِيحُهَا وَغَيْرُهُ - مَا بَلَغَتْ ذَلِكَ بِدُونِ تَكْرَارٍ - بَلْ وَلَا نِصْفَهُ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَبِمُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ ظَهَرَ أَنَّ كَلَامَ الْبُخَارِيِّ لَا يُنَافِي مَقَالَةَ ابْنِ الْأَخْرَمِ، فَضْلًا عَنِ النَّوَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الصَّلَاحِ اسْتَنْتَجَ مِنْ ظَاهِرِهِ مَعَ قَوْلِهِ: [عَدَدُ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ] (وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنَ الْأَحَادِيثِ بِدُونِ تَكْرِيرٍ (أَرْبَعَةُ الْآلَافِ) بِزِيَادَةِ " أَلْ " لِلضَّرُورَةِ، (وَالْمُكَرَّرُ) مِنْهَا (فَوْقَ ثَلَاثَةٍ أُلُوفًا) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا، كَمَا (ذَكَرُوا) أَيْ: أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ رَاوِي الصَّحِيحِ وَمَنْ تَبِعَهُ، أَنَّ الَّذِي لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ مِنَ الصَّحِيحِ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَّجَهُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذَا، فَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ ابْنِ الْأَخْرَمِ فِيمَا فَاتَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُتَعَقَّبُ بِالْمُسْتَدْرَكِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِمَا إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، بَلْ لَمْ يَسْتَثْنِ غَيْرُهُ شَيْئًا. قَالَ شَيْخُنَا: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ مِمَّا عَرَفَاهُ وَاطَّلَعَا عَلَيْهِ مِمَّا يَبْلُغُ شَرْطَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 لَا بِقَيْدِ كِتَابَيْهِمَا، كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. انْتَهَى. وَيَتَأَيَّدُ بِعَدَمِ مُوَافَقَةِ التَّاجِ التِّبْرِيزِيِّ عَلَى التَّقْيِيدِ بِكِتَابَيْهِمَا، كَمَا أَوْضَحْتُ كُلَّ هَذَا فِي النُّكَتِ مَعَ فَوَائِدَ لَا يَسَعُهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ، مِنْهَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْعِدَّةِ سَبْعَةُ آلَافٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَدِيثًا بِزِيَادَةِ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، كُلُّ ذَلِكَ سِوَى الْمُعَلَّقَاتِ وَالْمُتَابَعَاتِ وَالْمَوْقُوفَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَالْمَقْطُوعَاتِ عَنِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَالْخَالِصُ مِنْ ذَلِكَ بِلَا تَكْرِيرٍ أَلْفَا حَدِيثٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَحَدِيثَانِ، وَإِذَا ضُمَّ لَهُ الْمُتُونُ الْمُعَلَّقَةُ الْمَرْفُوعَةُ الَّتِي لَمْ يُوصِلْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ ; وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَخَمْسُونَ، صَارَ مَجْمُوعُ الْخَالِصِ أَلْفَيْ حَدِيثٍ، وَسَبْعَمِائَةٍ وَأَحَدًا وَسِتِّينَ حَدِيثًا. [الصَّحِيحُ الزَّائِدُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ] 29 - وَخُذْ زِيَادَةَ الصَّحِيحِ إِذْ تُنَصْ ... صِحَّتُهُ أَوْ مِنْ مُصَنَّفٍ يُخَصْ 30 - بِجَمْعِهِ نَحْوِ ابْنِ حِبَّانَ الزَّكِي ... وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَكَالْمُسْتَدْرَكِ 31 - عَلَى تَسَاهُلٍ وَقَالَ مَا انْفَرَدْ ... بِهِ فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُرَدْ 32 - بِعِلَّةٍ وَالْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ بِمَا ... يَلِيقُ والْبُسْتِيُّ يُدَانِي الْحَاكِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 (وَخُذْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يَسْتَوْعِبَاهُ (زِيَادَةَ الصَّحِيحِ) الْمُشْتَمِلَ عَلَى شَرْطَيْهِمَا وَغَيْرَهُ مِمَّا حُكِمَ لَهُ بِالصِّحَّةِ (إِذْ) أَيْ حَيْثُ (تُنَصُّ صِحَّتُهُ) مِنْ إِمَامٍ مُعْتَمَدٍ ; كَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الشَّهِيرَةِ فِيهَا، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، إِذَا صَحَّ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ. كَمَا إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ لَهُمْ تَصْنِيفٌ، خِلَافًا لِابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَا عَدَا الْكُتُبِ الشَّهِيرَةِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّصْحِيحِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ ; لِاسْتِلْزَامِهِ الْحُكْمَ عَلَى السَّنَدِ الْمُوصِّلِ إِلَيْهِمْ بِالصِّحَّةِ. وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ التَّقْيِيدِ بِالتَّصَانِيفِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ، كَأَنَّهُ لِلِاكْتِفَاءِ مِمَّا صَحَّحَهُ بُعْدٌ مِنَ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا انْحِصَارَ لَأَخْذِ الزِّيَادَةِ فِيمَا سَبَقَ، بَلْ تُؤْخَذُ إِمَّا مِنْهُ (أَوْ مِنْ مُصَنَّفٍ) بِفَتْحِ النُّونِ (يُخَصُّ بِجَمْعِهِ) أَيِ: الصَّحِيحِ بِمُقْتَضَى مَا عِنْدَ مُصَنِّفِهِ. (نَحْوُ) صَحِيحِ أَبِي حَاتِمِ (ابْنِ حِبَّانَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ الْبُسْتِيِّ الشَّافِعِيِّ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ الْقَاضِي (الزَّكِيِّ) أَيِ: الزَّاكِي، لِنُمُوِّهِ عِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالْخَطِيبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا فَهِمًا. وَقَالَ الْحَاكِمُ: (كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ فِي الْفِقْهِ، وَاللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ، وَالْوَعْظِ، وَمِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَاسْمُ مُصَنَّفِهِ " التَّقَاسِيمُ وَالَأَنْوَاعُ ". (وَ) نَحْوُ صَحِيحِ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرِ (ابْنِ خُزَيْمَةَ) بِمُعْجَمَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ وَبِالصَّرْفِ وَتَرْكِهِ هُنَا، وَاسْمُهُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، شَيْخُ ابْنِ حِبَّانَ الْقَائِلُ فِيهِ: مَا رَأَيْتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يُحْسِنُ صِنَاعَةَ السُّنَنِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَيَحْفَظُ أَلْفَاظَهَا الصِّحَاحَ وَزِيَادَتَهَا، حَتَّى كَأَنَّ السُّنَنَ كُلَّهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، غَيْرَهُ، وَأُخِّرَ عَنْهُ مَعَ تَقَدُّمِهِ ; لِكَوْنِ صَحِيحِهِ عُدِمَ أَكْثَرُهُ، بِخِلَافِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، فَهُوَ مَوْجُودٌ بِتَمَامِهِ. (وَكَالْمُسْتَدْرَكِ) عَلَى الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا فَاتَهُمَا لِلْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيِّ النَّيْسَابُورِيِّ الْحَافِظِ الثِّقَةِ (عَلَى تَسَاهُلٍ) مِنْهُ فِيهِ، بِإِدْخَالِهِ فِيهِ عِدَّةَ مَوْضُوعَاتٍ، حَمَلَهُ عَلَى تَصْحِيحِهَا ; إِمَّا التَّعَصُّبُ لِمَا رُمِيَ بِهِ مِنَ التَّشَيُّعِ، وَإِمَّا غَيْرُهُ، فَضْلًا عَنِ الضَّعِيفِ وَغَيْرِهِ. بَلْ يُقَالُ: إِنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَنَّفَهُ فِي أَوَاخِرِ عُمُرِهِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ وَتَغَيُّرٌ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ تَحْرِيرُهُ وَتَنْقِيحُهُ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ تَسَاهُلَهُ فِي قَدْرِ الْخُمُسِ الْأَوَّلِ مِنْهُ قَلِيلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِبَاقِيهِ، فَإِنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ: " إِلَى هُنَا انْتَهَى إِمْلَاءُ الْحَاكِمِ ". وَقَوْلُ أَبِي سَعْدٍ الْمَالِينِيِّ: " إِنَّهُ طَالَعَهُ بِتَمَامِهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِهِمَا " - غَيْرُ مَرْضِيٍّ، نَعَمْ هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّسَاهُلِ فِي التَّصْحِيحِ، وَالْمُشَاهَدَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ. (وَ) لِذَلِكَ (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ مَا حَاصِلُهُ: (مَا انْفَرَدَ) الْحَاكِمُ (بِهِ) أَيْ: بِتَصْحِيحِهِ ; لِيُخَرِّجَ مَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَكَذَا مَا خَرَّجَهُ فَقَطْ غَيْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مُصَحِّحٍ لَهُ (فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُرَدَّ) لِلْقَدْحِ فِيهِ (بِ) ظُهُورِ (عِلَّةٍ) أَيْ: لَا مَا يَقْتَضِي الرَّدَّ. هَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَالْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ فِي اخْتِصَارِهِمَا ابْنَ الصَّلَاحِ، وَالْمَوْجُودُ فِي نُسْخَةٍ: " إِنْ لَمْ يَكُنْ [مِنْ قَبِيلِ الصَّحِيحِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ يُحْتَجُّ بِهِ "، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْحَصْرِ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَنَّهُ جَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْدُودًا] مِنْ أَحَادِيثِهِ دَائِرًا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْحَسَنِ احْتِيَاطًا. وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَتَحَكَّمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، نَعَمْ جَرَّ سَدُّهُ بَابَ التَّصْحِيحِ إِلَى عَدَمِ تَمْيِيزِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ; لِاشْتِرَاكِهِمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحُجِّيَّةِ. (وَالْحَقُّ) كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ (أَنْ) يُتَتَبَّعَ الْكِتَابُ وَيُكْشَفَ عَنْ أَحَادِيثِهِ وَ (يُحْكَمْ) بِسُكُونِ الْمِيمِ - لُغَةٌ - أَيْ: يُقْضَى عَلَى كُلٍّ مِنْهَا (بِمَا يَلِيقُ) بِهِ مِنَ الصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ أَوِ الضَّعْفِ. ثُمَّ إِنَّ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِ الْحَاكِمِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ، بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ - مَزِيدُ تَسَاهُلِهِ (وَ) إِلَّا فَابْنُ حِبَّانَ (الْبُسْتِيُّ) وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ نِسْبَةً لِمَدِينَةٍ مِنْ بِلَادٍ كَابُلَ بَيْنَ هَرَاةَ وَغَزْنَةَ، وُصِفَ بِأَنَّهُ (يُدَانِي) أَيْ: يُقَارِبُ (الْحَاكِمَا) فِي التَّسَاهُلِ [وَذَلِكَ يَقْتَضِي النَّظَرَ فِي أَحَادِيثِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أَيْضًا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بِالْمُعَدَّلِينَ، بَلْ رُبَّمَا يُخَرِّجُ لِلْمَجْهُولِينَ، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُهُ إِدْرَاجُ الْحَسَنِ فِي الصَّحِيحِ، مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ نَازَعَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى التَّسَاهُلِ، إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَعِبَارَتُهُ: إِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ وُجْدَانِ الْحَسَنِ فِي كِتَابِهِ، فَهِيَ مُشَاحَّةٌ فِي الِاصْطِلَاحِ ; لِأَنَّهُ يُسَمِّيهِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ خِفَّةِ شُرُوطِهِ، فَإِنَّهُ يُخَرِّجُ فِي الصَّحِيحِ مَا كَانَ رَاوِيهِ ثِقَةً غَيْرَ مُدَلِّسٍ، سَمِعَ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ الْآخِذُ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ إِرْسَالٌ وَلَا انْقِطَاعٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرَّاوِي جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ شَيْخِهِ وَالرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةً، وَلَمْ يَأْتِ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ فَهُوَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ، وَفِي كِتَابِ الثِّقَاتِ لَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ. وَلَأَجْلِ هَذَا رُبَّمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي جَعْلِهِمْ مِنَ الثِّقَاتِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اصْطِلَاحَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُشَاحَحُ فِي ذَلِكَ] . قُلْتُ: وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْحَازِمِيِّ: ابْنُ حِبَّانَ أَمْكَنُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَاكِمِ، وَكَذَا قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ: قَدِ الْتَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ الصِّحَّةَ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْ (الْمُسْتَدْرَكُ) بِكَثِيرٍ، وَأَنْظَفُ أَسَانِيدَ وَمُتُونًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ لِلتَّمْيِيزِ. وَكَمْ فِي كِتَابِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ مَحْكُومٍ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ، وَهُوَ لَا يَرْتَقِي عَنْ رُتْبَةِ الْحَسَنِ، بَلْ وَفِيمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَكَذَا مِنْ مَظَانِّ الصَّحِيحِ " الْمُخْتَارَةِ " مِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لِلضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ الْحَافِظِ، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، لَكِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى الْمَسَانِيدِ لَا الْأَبْوَابِ - لَمْ يُكْمِلْ تَصْنِيفَهَا. وَتَقَعُ أَيْضًا فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ الَّذِي عَمِلَهُ مُسْتَخْرِجًا عَلَى مُسْلِمٍ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً زَائِدَةً عَلَى أَصْلِهِ، وَفِيهَا الصَّحِيحُ وَالْحَسَنُ، بَلْ وَالضَّعِيفُ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي التَّحَرُّزُ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا أَيْضًا. وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ فِي أَحَادِيثِهِمَا، أَوْ تَتِمَّةٍ لِمَحْذُوفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - فَهِيَ صَحِيحَةٌ، لَكِنْ مَعَ وُجُودِ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الصَّحِيحِ، فِيمَنْ بَيْنَ صَاحِبِ الْمُسْتَخْرَجِ وَالرَّاوِي، الَّذِي اجْتَمَعَا فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. [الْمُسْتَخْرَجَاتُ] 33 - وَاسْتَخْرَجُوا عَلَى الصَّحِيحِ كَأَبِي ... عَوَانَةٍ وَنَحْوِهِ وَاجْتَنِبِ 34 - عَزْوَكَ أَلْفَاظَ الْمُتُونِ لَهُمَا ... إِذْ خَالَفَتْ لَفْظًا وَمَعْنًى رُبَّمَا 35 - وَمَا يَزِيدُ فَاحْكُمَنْ بِصِحَّتِهْ ... فَهْوَ مَعَ الْعُلُوِّ مِنْ فَائِدَتِهْ 36 - وَالَأَصْلَ يَعْنِي الْبَيْهَقِيُّ وَمَنْ عَزَا ... وَلَيْتَ إِذْ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ مَيَّزَا. وَالِاسْتِخْرَاجُ أَنْ يَعْمَدَ حَافِظٌ إِلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا، فَيُورِدَ أَحَادِيثَهُ حَدِيثًا حَدِيثًا بِأَسَانِيدَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُلْتَزِمٍ فِيهَا ثِقَةَ الرُّوَاةِ، وَإِنْ شَذَّ بَعْضُهُمْ حَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنْ يَلْتَقِ مَعَهُ فِي شَيْخِهِ، أَوْ فِي شَيْخِ شَيْخِهِ، وَهَكَذَا وَلَوْ فِي الصَّحَابِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ. لَكِنْ لَا يَسُوغُ لِلْمُخَرِّجِ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَقْرُبُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ مُصَنِّفِ الْأَصْلِ فِيهَا إِلَى الطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ إِلَّا لِغَرَضٍ مِنْ عُلُوٍّ، أَوْ زِيَادَةِ حُكْمٍ مُهِمٍّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَمُقْتَضَى الِاكْتِفَاءِ بِالِالْتِقَاءِ فِي الصَّحَابِيِّ أَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا فِي الشَّيْخِ مَثَلًا، وَلَمْ يَتَّحِدْ سَنَدُهُ عِنْدَهُمَا، ثُمَّ اجْتَمَعَ فِي الصَّحَابِيِّ إِدْخَالُهُ فِيهِ، وَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَرُبَّمَا عَزَّ عَلَى الْحَافِظِ وُجُودُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فَيَتْرُكُهُ أَصْلًا، أَوْ يُعَلِّقُهُ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، أَوْ يُورِدُهُ مِنْ جِهَةِ مُصَنِّفِ الْأَصْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (وَ) قَدْ (اسْتَخْرَجُوا) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ (عَلَى الصَّحِيحِ) لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ الَّذِي انْجَرَّ الْكَلَامُ بِسَبَبِهِمَا إِلَى بَيَانِهِ، وَإِلَّا فَقَدَ اسْتَخْرَجُوا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ. وَالَّذِينَ تَقَيَّدُوا بِالِاسْتِخْرَاجِ عَلَى الصَّحِيحِ جَمَاعَةٌ (كَـ) الْحَافِظِ (أَبِي عَوَانَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الشَّافِعِيِّ، اسْتَخْرَجَ عَلَى مُسْلِمٍ (وَنَحْوِهِ) أَيْ: أَبِي عِوَانَةَ، كَالْحُفَّاظِ الشَّافِعِيَّةِ: أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ فَقَطْ، وَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْخُوَارِزِمِيِّ الْبَرْقَانِيِّ، بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَبِي نُعَيْمٍ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبِهَانِيِّ، كِلَاهُمَا عَلَيْهِمَا، وَهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي قَبْلَهُمَا شَيْخُ أَوَّلِهِمَا، وَهُوَ تِلْمِيذُ أَبِي عَوَانَةَ. وَلِذَا خُصَّ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَلَمْ يُلَاحَظْ كَوْنُ غَيْرِهِ اسْتَخْرَجَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ عَلَى الْبُخَارِيِّ الَّذِي هُوَ أَعْلَى، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْبَابِ قَبْلَهُ لِمَا اخْتَصَّ بِهِ كِتَابُهُ مِنْ زِيَادَاتِ مُتُونٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ غَيْرِ مَا اشْتَرَكَ مَعَ غَيْرِهِ فِيهِ [مِنْ زِيَادَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي أَحَادِيثِهِمَا وَنَحْوِهَا كَمَا بَيَّنْتُهُ قَرِيبًا] . وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الزِّيَادَاتُ فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ لِعَدَمِ الْتِزَامِ مُصَنِّفِيهَا لَفْظَ الصَّحِيحَيْنِ. (وَ) لِهَذَا قِيلَ لِلنَّاقِلِ (اجْتَنِبْ عَزْوَكَ أَلْفَاظَ الْمُتُونِ) أَيِ: الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَنْقُلُهَا مِنْهَا (لَهُمَا) أَيْ: لِلصَّحِيحَيْنِ، فَلَا تَقُلْ حَيْثُ تُورِدُهُ لِلْحُجَّةِ كَالتَّصْنِيفِ عَلَى الْأَبْوَابِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 حَسْبَمَا قَيَّدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، إِلَّا بَعْدَ مُقَابَلَتِهِ أَوْ تَصْرِيحِ الْمُخَرِّجِ بِذَلِكَ. (إِذْ) قَدْ (خَالَفَتِ) الْمُسْتَخْرَجَاتُ (لَفْظًا) كَثِيرًا لِتَقَيُّدِ مُؤَلِّفِيهَا بِأَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِمْ (وَ) كَذَا (مَعْنًى) غَيْرَ مُنَافٍ (رُبَّمَا) خَالَفَتْ أَيْ: قَلِيلًا. (وَ) إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَانْظُرْ (مَا تَزِيدُ) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، أَوِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيِ: الْمُسْتَخْرَجَاتُ أَوِ الْمُسْتَخْرَجُ. (فَاحْكُمَنْ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ (بِصِحَّتِهِ) ، بِشَرْطِ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الصِّحَّةِ لِلرُّوَاةِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمُخَرِّجِ وَالرَّاوِي الَّذِي اجْتَمَعَا فِيهِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ مَخْرَجِ الصَّحِيحِ، فَالْمُسْتَخْرِجُونَ لَيْسَ جُلُّ قَصْدِهِمْ إِلَّا الْعُلُوَّ، يَجْتَهِدُونَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ وَالْمُخَرَّجُ عَلَيْهِ سَوَاءً، فَإِنْ فَاتَهُمْ فَأَعْلَى مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ - مِمَّا يُسَاعِدُهُ الْوِجْدَانُ. وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ عُلُوٌّ فَيُورِدُونَهُ نَازِلًا، وَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ إِنَّمَا هُوَ الْعُلُوُّ وَوَجَدُوهُ، فَإِنِ اتَّفَقَ فِيهِ شَرْطُ الصَّحِيحِ فَذَاكَ الْغَايَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلُوا عَلَى قَصْدِهِمْ، فَرُبَّ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ مَثَلًا، فَأَوْرَدَهُ الْمُخَرِّجُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِزِيَادَةٍ، فَلَا يُحْكَمُ لَهَا حِينَئِذٍ بِالصِّحَّةِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَخْزُومِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ، وَإِذَا حَكَمْتَ بِالصِّحَّةِ بِشَرْطِهَا وَعَدَمِ مُنَافَاتِهَا، (فَهُوَ) أَيِ: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ لِلزِّيَادَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُكْمٍ لَا يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ الْأَصْلِ، أَوِ الْمُوَضِّحَةِ لِمَعْنَى لَفْظِهِ (مَعَ) مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمُسْتَخْرَجَاتُ مِنَ (الْعُلُوِّ) الَّذِي هُوَ - كَمَا قُرِّرَ - قَصْدُ الْمُخَرِّجِ فِي أَحَادِيثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَوْ أَوْرَدَهُ مِنَ الْأَصْلِ. مِثَالُهُ حَدِيثٌ فِي جَامِعِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَلَوْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مَثَلًا مِنْ طَرِيقِ أَحَدِ الشَّيْخَيْنِ، لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ، وَإِذَا رَوَاهُ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيِّ عَنْهُ، وَصَلَ بِاثْنَيْنِ (مِنْ فَائِدَتِهِ) أَيِ: الِاسْتِخْرَاجِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي أَوْرَدْتُ مِنْهَا فِي النُّكَتِ نَحْوَ الْعِشْرِينَ. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ غَيْرُ مُنْفَرِدِينَ بِصَنِيعِهِمْ، بَلْ أَكْثَرُ الْمُخَرِّجِينَ لِلْمَشْيَخَاتِ وَالْمَعَاجِمِ، وَكَذَا لِلَأَبْوَابِ، يُورِدُونَ الْحَدِيثَ بِأَسَانِيدِهِمْ، ثُمَّ يُصَرِّحُونَ بَعْدَ انْتِهَاءِ سِيَاقِهِ غَالِبًا بِعَزْوِهِ إِلَى الْبُخَارِيِّ أَوْ مُسْلِمٍ، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا، مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَغَيْرِهَا، يُرِيدُونَ أَصْلَهُ. (وَ) لِذَلِكَ (الْأَصْلَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، لَا الْأَلْفَاظَ (يَعْنِي) الْحَافِظَ الْفَقِيهَ نَاصِرَ السُّنَّةِ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، (الْبَيْهَقِي) نِسْبَةً لِـ " بَيْهَقَ " قُرًى مُجْتَمِعَةٌ بِنَوَاحِي نَيْسَابُورَ، الشَّافِعِيَّ فِي تَصَانِيفِهِ، " كَالسُّنَنِ الْكُبْرَى " " وَالْمَعْرِفَةِ ". (وَمَنْ عَزَا) لِلشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ; كَالْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنِ بْنِ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيِّ الْفَقِيهِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ أَشَرْتُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي الْمَشْيَخَاتِ وَنَحْوِهَا أَسْهَلُ مِنْهُ فِي الْأَبْوَابِ، خُصُوصًا مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْنَى، وَكَوْنِ الْقَصْدِ بِالتَّبْوِيبِ مِنْهُ لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهَا. وَلَكِنَّ جَلَالَةَ الْبَيْهَقِيِّ وَوُفُورَ إِمَامَتِهِ تَمْنَعُ ظَنَّ ارْتِكَابِهِ الْمَحْذُورَ مِنْهُ، [وَلَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بِمُجَرَّدِ الصِّحَّةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْمَعْزُوِّ إِلَيْهِ أَوْ فِيهِ] ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. فَالْإِنْكَارُ فِيهِ أَخَفُّ مِمَّنْ عَمِدَ إِلَى الصَّحِيحَيْنِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لَا عَلَى الْأَبْوَابِ، بَلْ عَلَى مَسَانِيدِ الصَّحَابَةِ بِحَذْفِ أَسَانِيدِهِمْ، وَيُدْرِجُ فِي أَثْنَاءِ أَحَادِيثِهِمَا أَلْفَاظًا مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَغَيْرِهَا ; لِأَنَّ مَوْضُوعَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِمَا، فَإِدْخَالُ غَيْرِ ذَلِكَ مُخِلٌّ. (وَلَيْتَ إِذْ زَادَ) الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ (الْحُمَيْدِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْأَعْلَى حُمَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ فَاعِلٌ، ذَلِكَ فِي جَمْعِهِ (مَيَّزَا) فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَسُوقُ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ نَاقِلًا لَهُ مِنْ مُسْتَخْرَجِ الْبَرْقَانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَأَخْرَجَ طَرَفًا مِنْهُ، وَلَا يُبَيِّنُ الْقَدْرَ الْمُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَيَلْتَبِسُ عَلَى الْوَاقِفِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا بِالنَّظَرِ فِي أَصْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْكَثِيرِ يُمَيِّزُ بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ: اقْتَصَرَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى كَذَا، وَزَادَ فِيهِ الْبَرْقَانِيُّ مَثَلًا كَذَا. وَلَأَجْلِ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ، انْتَقَدَ ابْنُ النَّاظِمِ وَشَيْخُنَا دَعْوَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ، خُصُوصًا وَقَدْ صَرَّحَ الْعَلَائِيُّ بِبَيَانِ الْحُمَيْدِيِّ لِلزِّيَادَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَتَمَيَّزُ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَأْتِي فِي النَّقْلِ مِنْهُ وَمِنَ الْبَيْهَقِيِّ وَنَحْوِهِ مَا سَبَقَ فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ. [مَرَاتِبُ الصَّحِيحِ] 37 - وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا ... ثُمَّ الْبُخَارِيُّ فَمُسْلِمٌ فَمَا 38 - شَرْطَهُمَا حَوَى فَشَرْطَ الْجُعْفِي ... فَمُسْلِمٍ فَشَرْطَ غَيْرُ يَكْفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 39 - وَعِنْدَهُ التَّصْحِيحُ لَيْسَ يُمْكِنُ فِي عَصْرِنَا وَقَالَ يَحْيَى مُمْكِنُ. (مَرَاتِبُ الصَّحِيحِ) مُطْلَقًا. (وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا) أَيِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ; لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَعْلَى الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلصِّحَّةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَبِالَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، إِذَا كَانَ الْمَتْنُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ كَمَا قَيَّدَهُ شَيْخُنَا. وَقَالَ: إِنَّ فِي عَدِّ الْمَتْنِ الَّذِي يُخَرِّجُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَحَابِيٍّ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ نَظَرًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ - أَعْنِي مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ - أَنْوَاعٌ: فَأَعْلَاهُ مَا وُصِفَ بِكَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا، ثُمَّ مَشْهُورًا، ثُمَّ أَصَحُّ كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ مَا وَافَقَهُمَا مُلْتَزِمُو الصِّحَّةِ، ثُمَّ أَحَدُهُمْ عَلَى تَخْرِيجِهِ، ثُمَّ أَصْحَابُ السُّنَنِ، ثُمَّ الْمَسَانِيدُ، ثُمَّ مَا انْفَرَدَا بِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ كَوْنِهِ مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. (ثُمَّ) يَلِيهِ مَرْوِيُّ (الْبُخَارِيِّ) فَقَطْ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي ; لِأَنَّ شَرْطَهُ أَضْيَقُ (فَيَلِيهِ) مَرْوِيُّ (مُسْلِمٍ) وَحْدَهُ لِمُزَاحَمَتِهِ لِلَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ الثَّالِثُ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْمَفُوقِ مَا يَجْعَلُهُ فَائِقًا ; كَأَنْ يَتَّفِقَ مَجِيءُ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ يَبْلُغُ بِهَا التَّوَاتُرَ أَوِ الشُّهْرَةَ الْقَوِيَّةَ، أَوْ يُوَافِقُهُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 تَخْرِيجِهِ مُشْتَرِطُو الصِّحَّةَ، فَهَذَا أَقْوَى مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِهِ. وَكَذَا نَقُولُ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، بَلْ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَفْضُولَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ; إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ. (فَـ) يَلِي مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ (مَا شَرْطَهُمَا) مَفْعُولٌ (حَوَى) أَيْ: جَمَعَ شَرْطَهُمَا، وَهُوَ الرَّابِعُ. وَالدَّلِيلُ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ التَّلَقِّي لِكُلٍّ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ بِالْقَبُولِ، عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ أَعْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ مِثْلَهُ، كَمَا تَرَدَّدَ غَيْرُهُ فِي تَأْخِيرِ الثَّالِثِ عَنِ الثَّانِي إِذَا كَانَ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى تَعْلِيلِهِ، وَيُسَاعِدُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا مَشْرُوطَهُمَا، وَإِذَا كَانَ عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، (فَـ) يَلِي الَّذِي عَلَى شَرْطِهِمَا مَا حَوَى (شَرْطَ الْجُعْفِيِّ) أَيِ: الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ الْخَامِسُ. (فَـ) مَا حَوَى شَرْطَ (مُسْلِمٍ) وَهُوَ السَّادِسُ، (فَ) مَا حَوَى (شَرْطَ غَيْرٍ) مِنَ الْأَئِمَّةِ سِوَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِتَخْرِيجِهِ فِي كِتَابِهِ الْمَوْضُوعِ لِلصِّحَّةِ، أَوْ ثُبُوتِهِ عَنْهُ وَهُوَ السَّابِعُ. [وَاسْتِعْمَالُ (غَيْرُ) بِلَا إِضَافَةٍ قَلِيلٌ] . مَعَ أَنَّهُ لَوْ لُوحِظَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ شُرُوطِ مَنْ عَدَا الشَّيْخَيْنِ كَمَا فُعِلَ فِيهِمَا، لَزَادَتِ الْأَقْسَامُ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ (يَكْفِي) لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّطْوِيلِ، وَعَدَمُ تَصْرِيحِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِالِاكْتِفَاءِ لَا يُخَالِفُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخَوْضُ فِي التَّصْحِيحِ. [الْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّصْحِيحِ وَالتَّحْسِينِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ] (وَعِنْدَهُ) أَيِ: ابْنِ الصَّلَاحِ (التَّصْحِيحُ) وَكَذَا التَّحْسِينُ (لَيْسَ يُمْكِنُ) ، بَلْ جَنَحَ لِمَنْعِ الْحُكْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ الشَّامِلَةِ لَهُ (فِي عَصْرِنَا) ، وَاقْتَصَرَ فِيهِمَا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي تَصَانِيفِهِمُ الْمُعْتَمَدَةِ الَّتِي يُؤْمَنُ فِيهَا لِشُهْرَتِهَا مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، مُحْتَجًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بِأَنَّهُ مَا مِنْ إِسْنَادٍ إِلَّا وَفِي رُوَاتِهِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ عَرِيًّا عَنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ التَّنْبِيهَاتِ الَّتِي بِآخِرِ الْمَقْلُوبِ - الْقَوْلُ بِذَلِكَ فِي التَّضْعِيفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَمْ يُوَافِقِ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حُكْمًا وَدَلِيلًا. أَمَّا الْحُكْمُ فَقَدْ صَحَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ ; كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ مُصَنِّفِ " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ " وَالضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ صَاحِبِ " الْمُخْتَارَةِ "، وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ كَالزَّكِيِّ الْمُنْذِرِيِّ، وَالدِّمْيَاطِيِّ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ إِلَى شَيْخِنَا، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَهُ. (وَقَالَ) الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا (يَحْيَى) النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي جَوَازُهُ وَهُوَ (مُمْكِنٌ) لِمَنْ تَمَكَّنَ وَقَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ لِتَيَسُّرِ طُرُقِهِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ فَالْخَلَلُ الْوَاقِعُ فِي الْأَسَانِيدِ الْمُتَأَخِّرَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الرُّوَاةِ ; لِعَدَمِ الضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَهُوَ فِي الضَّبْطِ مُنْجَبِرٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَنْهُمْ، كَمَا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِقَوْلِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ فِيمَا عَنْعَنَهُ الْمُدَلِّسُ: هَذَا الْحَدِيثُ سَمِعَهُ هَذَا الْمُدَلِّسُ مِنْ شَيْخِهِ، وَحَكَمُوا لِذَلِكَ بِالِاتِّصَالِ. وَفِي عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بِضَبْطِهِمْ كُتُبَهُمْ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إِلَى حِينِ التَّأْدِيَةِ، وَوَرَاءَ هَذَا أَنَّ الْكِتَابَ الْمَشْهُورَ الْغَنِيَّ بِشُهْرَتِهِ عَنِ اعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ مِنَّا إِلَى مُصَنِّفِهِ، كَكِتَابِ النَّسَائِيِّ مَثَلًا لَا يَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى النَّسَائِيِّ إِلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْإِسْنَادِ مِنَّا إِلَيْهِ، كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ، إِذَا رَوَى مُصَنِّفُهُ فِيهِ حَدِيثًا، وَلَمْ يُعَلِّلْهُ، وَجَمَعَ إِسْنَادُهُ شُرُوطَ الصِّحَّةِ، وَلَمْ يَطَّلِعِ الْمُحَدِّثُ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ، فَمَا الْمَانِعُ مِنَ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ؟ لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ، وَفِيهِمُ الضَّابِطُونَ الْمُتْقِنُونَ الْحُفَّاظُ بِكَثْرَةٍ، هَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذَا الْفَنِّ، أَفَادَهُ شَيْخُنَا وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ النَّاظِمِ فِي دِيبَاجَةِ شَرْحِهِ لَأَبِي دَاوُدَ. وَلَعَلَّ ابْنَ الصَّلَاحِ اخْتَارَ حَسْمَ الْمَادَّةِ ; لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَشَبِّهِينَ مِمَّنْ يُزَاحِمُ فِي الْوُثُوبِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي لَا يُهْتَدَى لِلْكَشْفِ مِنْهَا، وَالْوَظَائِفِ الَّتِي لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِمُبَاشَرَتِهَا. وَلِلْحَدِيثِ رِجَالٌ يُعْرَفُونَ بِهِ وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ: الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَدِّثِ فِي عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ، وَقَرَأَ، وَسَمِعَ، وَوَعَى، وَرَحَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَحَصَّلَ أُصُولًا وَعَلَّقَ فُرُوعًا مِنْ كُتُبِ الْمَسَانِيدِ وَالْعِلَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَالتَّوَارِيخِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنْ أَلْفِ تَصْنِيفٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُنْكَرُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَيْلَسَانٌ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ، وَصَحِبَ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الزَّمَانِ، أَوْ مَنْ تَحَلَّى بِلُؤْلُؤٍ وَمَرْجَانٍ، أَوْ بِثِيَابٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ، فَحَصَّلَ تَدْرِيسَ حَدِيثٍ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَجَعَلَ نَفْسَهُ مَلْعَبَةً لِلصِّبْيَانِ، لَا يَفْهَمُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ جُزْءٍ وَلَا دِيوَانٍ، فَهَذَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُحَدِّثٍ بَلْ وَلَا إِنْسَانٍ، وَإِنَّهُ مَعَ الْجَهَالَةِ آكِلُ حَرَامٍ، فَإِنِ اسْتَحَلَّهُ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَفْثَةُ مَصْدُورٍ، وَرَمْيَةُ مَعْذُورٍ، وَبِهَا يَتَسَلَّى الْقَائِمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِتَحْقِيقِ هَذَا الشَّأْنِ، مَعَ قِلَّةِ الْأَعْوَانِ، وَكَثْرَةِ الْحَسَدِ وَالْخِذْلَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. [مَعْنَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ] إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيْخَيْنِ بِشَرْطِهِ فِي كِتَابِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالسَّبْرِ لِكِتَابَيْهِمَا، وَلِذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ الْحَافِظُ فِي جُزْءٍ سَمِعْنَاهُ أَفْرَدَهُ لِشُرُوطِ السِّتَّةِ: (شَرْطُهُمَا أَنْ يُخَرِّجَا الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَى ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَيَكُونَ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ. فَإِنْ كَانَ لِلصَّحَابِيِّ رَاوِيَانِ فَصَاعِدًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ وَصَحَّ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ كَفَى، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى ثِقَةِ نَقَلَتِهِمَا قَدْ لَا يَخْدِشُ فِيهِ وُجُودُ حِكَايَةِ التَّضْعِيفِ فِي بَعْضِهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمَا ; لِتَجْوِيزِ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَاهُ قَادِحًا، فَنَزَّلَا كَلَامَ الْجُمْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمَا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الثِّقَاتِ) لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ خِلَافٍ يُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ مُخَالَفَةُ الثِّقَاتِ لِمَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ، أَوْ أُكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الثِّقَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّاذِّ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ فِي جُزْءِ شُرُوطِ الْخَمْسَةِ لَهُ مِمَّا سَمِعْنَاهُ أَيْضًا مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ شَرْطَ الصَّحِيحِ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلًا، وَأَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ مُسْلِمًا صَادِقًا غَيْرَ مُدَلِّسٍ وَلَا مُخْتَلِطٍ، مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْعَدَالَةِ، ضَابِطًا مُتَحَفِّظًا، سَلِيمَ الذِّهْنِ، قَلِيلَ الْوَهْمِ، سَلِيمَ الِاعْتِقَادِ. وَأَنَّ شَرْطَ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُخَرِّجَ مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ بِالثِّقَاتِ الْمُتْقِنِينَ الْمُلَازِمِينَ لِمَنْ أَخَذُوا عَنْهُ مُلَازَمَةً طَوِيلَةً سَفَرًا وَحَضَرًا، وَإِنَّهُ قَدْ يُخَرِّجُ أَحْيَانًا مَا يَعْتَمِدُهُ عَنْ أَعْيَانِ الطَّبَقَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي الْإِتْقَانِ وَالْمُلَازَمَةِ لِمَنْ رَوَوْا عَنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمُوهُ إِلَّا مُلَازَمَةً يَسِيرَةً. وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَيُخَرِّجُ أَحَادِيثَ الطَّبَقَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيعَابِ، وَقَدْ يُخَرِّجُ حَدِيثَ مَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجَرْحِ، إِذَا كَانَ طَوِيلَ الْمُلَازَمَةِ لِمَنْ أَخَذَ عَنْهُ ; كَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ ; فَإِنَّهُ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ وَطُولِ صُحْبَتِهِ إِيَّاهُ، صَارَتْ صَحِيفَةُ ثَابِتٍ عَلَى ذِكْرِهِ وَحِفْظِهِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ، وَعَمَلُ مُسْلِمٍ فِي هَذِهِ كَعَمَلِ الْبُخَارِيِّ فِي الثَّانِيَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا اكْتِفَاءُ مُسْلِمٍ فِي السَّنَدِ الْمُعَنْعَنِ بِالْمُعَاصَرَةِ، وَالْبُخَارِيِّ بِاللِّقَاءِ وَلَوْ مَرَّةً لِمَزِيدِ تَحَرِّيهِمَا فِي صَحِيحَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اشْتَرَطَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الثِّقَةَ وَالِاشْتِهَارَ. قَالَ: وَقَدْ تَرَكَا أَشْيَاءَ تَرْكُهَا قَرِيبٌ، وَأَشْيَاءَ لَا وَجْهَ لِتَرْكِهَا. فَمِمَّا تَرَكَهُ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَةُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِثِقَتِهِ ; لِأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ رَبِيبٌ يُدْخِلُ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَتَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ تُكُلِّمَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ أَبِيهِ، وَقَبِلَ صَحِيفَةً، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ لَمَّا وَجَدَهُ تَارَةً يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، وَتَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ، وَمَرَّةً عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِيهِ، فَلَوْ كَانَ سَمَاعُهُ صَحِيفَةً كَانَ يَرْوِي الْكُلَّ عَنْ أَبِيهِ. انْتَهَى. وَرَدَّ كُلٌّ مِنَ الْحَازِمِيِّ وَابْنِ طَاهِرٍ عَلَى الْحَاكِمِ دَعْوَاهُ الَّتِي وَافَقَهُ عَلَيْهَا صَاحِبُهُ الْبَيْهَقِيُّ ; مِنْ أَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاوِيَانِ فَصَاعِدًا، ثُمَّ يَكُونُ لِلتَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ رَاوِيَانِ ثِقَتَانِ، ثُمَّ يَرْوِيَهُ عَنْهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الْمَشْهُورُ، وَلَهُ رُوَاةٌ ثِقَاتٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ يَكُونَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَوْ مُسْلِمٍ حَافِظًا مُتْقِنًا مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ فِي رِوَايَتِهِ وَلَهُ رُوَاةٌ، ثُمَّ يَتَدَاوَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالْقَبُولِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا ; كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ " وَإِنْ كَانَ مُنْتَقَضًا فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَخْرَجَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ حَدِيثُ أَصْلٍ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا وَارٍ وَاحِدٌ فَقَطْ ". انْتَهَى. وَقَدْ وَجَدْتُ فِي كَلَامِ الْحَاكِمِ التَّصْرِيحَ بِاسْتِثْنَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ، وَلَعَلَّهُ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى هَذَا، فَقَالَ: الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ إِذَا لَمْ نَجِدْ لَهُ رَاوِيًا غَيْرَ تَابِعِيٍّ وَاحِدٍ مَعْرُوفٍ، احْتَجَجْنَا بِهِ، وَصَحَّحْنَا حَدِيثَهُ ; إِذْ هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا. فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ قَدِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كُلٍّ مِنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ، وَلَيْسَ لَهُمَا رَاوٍ غَيْرَهُ، كَذَلِكَ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِأَحَادِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَأَحَادِيثَ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ. وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُ الْحَاكِمِ قَدِ اسْتَقَامَ، وَزَالَ بِمَا تَمَّمْتُ بِهِ عَنْهُ الْمَلَامَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَ حَدِيثَ عَدِيٍّ إِنَّمَا هُوَ مُسْلِمٌ لَا الْبُخَارِيُّ، مَعَ كَوْنِ قَيْسٍ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْهُ، وَالَّذِي أَخْرَجَ حَدِيثَ زَاهِرٍ إِنَّمَا هُوَ الْبُخَارِيُّ لَا مُسْلِمٌ، نَعَمْ أَخْرَجَا مَعًا لِلْمُسَيَّبِ بْنِ حَزَنٍ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى ابْنِهِ سَعِيدٍ، وَلَكِنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي السِّيَرِ. قَالَ ابْنُ يُونُسَ: إِنَّهُ قَدِمَ مِصْرَ لِغَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَوْرَدَ الْحَاكِمُ أَيْضًا حَدِيثَ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. وَقَالَ: قَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ لَأَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَأَبِي مَالِكٍ الَأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا رَاوِيَ لِوَالِدِهِمَا غَيْرُ وَلَدِهِمَا، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ. ثُمَّ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (عَلَى شَرْطِهِمَا) ؟ فَعِنْدَ النَّوَوِيِّ وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالذَّهَبِيِّ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ رِجَالُ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأَعْيَانِهِمْ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَتَصَرُّفُ الْحَاكِمِ يُقَوِّيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا لِرُوَاتِهِ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ رُوَاتِهِ لَمْ يُخَرِّجَا لَهُ. قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ حَسْبُ، وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. ثُمَّ قَالَ: أَبُو عُثْمَانَ هَذَا لَيْسَ هُوَ النَّهْدِيَّ، وَلَوْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 النَّهْدِيَّ، لَحَكَمْتُ بِالْحَدِيثِ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَإِنْ خَالَفَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَيُحْمَلُ عَلَى السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ ; كَكَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِي خُطْبَةِ (مُسْتَدْرَكِهِ) : وَأَنَا أَسْتَعِينُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى إِخْرَاجِ أَحَادِيثَ رُوَاتُهَا ثِقَاتٌ، قَدِ احْتَجَّ بِمِثْلِهَا الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ; لِأَنَّا نَقُولُ: الْمِثْلِيَّةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَعْيَانِ أَوِ الْأَوْصَافِ، لَا انْحِصَارَ لَهَا فِي الْأَوْصَافِ، لَكِنَّهَا فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ، وَفِي الْآخَرِ مَجَازٌ، فَاسْتَعْمَلَ الْمَجَازَ ; حَيْثُ قَالَ عَقِبَ مَا يَكُونُ عَنْ نَفْسِ رُوَاتِهِمَا: " عَلَى شَرْطِهِمَا "، وَالْحَقِيقَةَ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ مَا هُوَ عَنْ أَمْثَالِ رُوَاتِهِمَا: (صَحِيحٌ أَفَادَهُ شَيْخُنَا) . وَعَلَيْهِ مَشَى فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ - يَعْنِي بِشَرْطِهِمَا - رُوَاتُهُمَا مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الصَّحِيحِ، يَعْنِي مِنْ نَفْيِ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ، وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ غَيْرُهُ، قَالَ رَجُلٌ لِشُرَيْحٍ: إِنِّي قُلْتَ لِهَذَا: اشْتَرِ لِي مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ الَّذِي مَعَكَ، فَاشْتَرَى ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ. فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا شَيْءَ أَشْبَهَ بِالشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، [وَأَلْزَمَهُ أَخْذَ الثَّوْبِ] . وَكَذَا هَلِ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِمَا؟ الظَّاهِرُ - كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ - الْأَوَّلُ، وَتُعْرَفُ بِتَنْصِيصِهِمَا، وَقَلَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ، أَوْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي مُلَاحَظَةُ حَالِ الرَّاوِي مَعَ شَيْخِهِ. فَقَدْ يَكُونُ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَعَدَمُ النَّظَرِ فِي هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوَهْمِ الْحَاكِمِ، وَلِذَا لَمَّا قَالَ عَقِبَ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ: " صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ " قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحَسَنَ أَوْ سَمُرَةَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الْجُمْلَةِ مِنْ شَرْطِهِ، فَهُوَ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمٍ أَيْضًا. انْتَهَى. فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا خَرَّجَ لِرِجَالِ السَّنَدِ بِالصُّورَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الْحَاكِمِ: بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مُسْلِمًا يَنْفِي سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ أَصْلًا، وَالْبُخَارِيُّ مِمَّنْ يُثْبِتُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ إِخْرَاجِهِ [فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ سِيرِينَ: سُئِلَ الْحَسَنُ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ؟ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ] . [حُكْمُ الصَّحِيحَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ] 40 - وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا ... كَذَا لَهُ وَقِيلَ ظَنًّا وَلَدَى 41 - مُحَقِّقِيهِمْ قَدْ عَزَاهُ النَّوَوِي ... وَفِي الصَّحِيحِ بَعْضُ شَيْءٍ قَدْ رُوِي 42 - مُضَعَّفًا وَلَهُمَا بِلَا سَنَدْ ... أَشْيَا فَإِنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ أَوْ وَرَدْ 43 - مُمَرَّضًا فَلَا وَلَكِنْ يُشْعِرُ ... بِصِحَّةِ الْأَصْلِ لَهُ كَ " يُذْكَرُ " 44 - وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الْإِسْنَادِ حُذِفْ مِعْ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا عُرِفْ ... 45 - وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ أَمَّا الَّذِي لِشَيْخِهِ عَزَا بِ " قَالَ " فَكَذِي ... 46 - عَنْعَنَةٍ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفِ. (حُكْمُ الصَّحِيحِينِ) الْمَاضِي ذِكْرُهُمَا [فِيمَا أُسْنِدَ فِيهِمَا وَغَيْرِهِ] ، (وَالتَّعْلِيقُ) أَيْ: [تَعْرِيفُ التَّعْلِيقِ الْوَاقِعُ فِيهِمَا وَفِي غَيْرِهِمَا] . [هَلْ أَحَادِيثُ الصَّحِيحَيْنِ تُفِيدُ الْعِلْمَ] لَمَّا أُشِيرَ إِلَى شَرْطِ صَاحِبَيِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الصَّحِيحَيْنِ، وَانْجَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، حَسُنَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيهِمَا لِسَائِلِهِ ; أَيُرْتَقَى عَنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لِسُمُوِّهِمَا، وَجَلَالَتِهِمَا، وَشُفُوفِ تَحَرِّيهِمَا فِي الصَّحِيحِ أَمْ لَا؟ . فَقِيلَ لَهُ: (وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا) أَيْ: إِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ بِإِسْنَادَيْهِمَا الْمُتَّصِلِ دُونَ مَا سَيَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْمُنْتَقَدِ وَالتَّعَالِيقِ وَشِبْهِهِمَا - مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ ; لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ فِي إِجْمَاعِهَا عَنِ الْخَطَأِ، كَمَا وَصَفَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» لِذَلِكَ بِالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ، وَكَذَا الْعَمَلُ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نَسْخٌ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ نَحْوُهُمَا. وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ الْمُنْحَطِّ عَنْ دَرَجَةِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ (كَذَا لَهُ) أَيِ: لِابْنِ الصَّلَاحِ ; حَيْثُ صَرَّحَ بِاخْتِيَارِهِ لَهُ وَالْجَزْمِ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَعَامَّةِ السَّلَفِ، بَلْ وَكَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَلَفْظُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ: " أَهْلُ الصَّنْعَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّحِيحَانِ - مَقْطُوعٌ بِصِحَّةِ أُصُولِهَا وَمُتُونِهَا، وَلَا يَحْصُلُ الْخِلَافُ فِيهَا بِحَالٍ، وَإِنْ حَصَلَ فَذَاكَ اخْتِلَافٌ فِي طُرُقِهَا وَرُوَاتِهَا. قَالَ: فَمَنْ خَالَفَ حُكْمُهُ خَبَرًا مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ لِلْخَبَرِ، نَقَضْنَا حُكْمَهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الْأَخْبَارَ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ. (وَقِيلَ) : هُوَ صَحِيحٌ (ظَنًّا) ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي أَصْلِهِ قَبْلَ التَّلَقِّي - لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ - إِلَّا الظَّنُّ، وَهُوَ لَا يَنْقَلِبُ بِتَلَقِّيهِمْ قَطْعِيًّا، وَتَصْحِيحُ الْأَئِمَّةِ لِلْخَبَرِ الْمُسْتَجْمِعِ لِلشُّرُوطِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلصِّحَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُجْرًى عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ ; لِمَا تَقَدَّمَ فِي ثَانِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ تَلَقِّيهِمْ بِالْقَبُولِ لِمَا ظُنَّتْ صِحَّتُهُ (وَ) هَذَا الْقَوْلُ (لَدَى) أَيْ عِنْدَ (مُحَقِّقِهِمْ) وَكَذَا الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا (قَدْ عَزَا) إِلَيْهِمُ الْإِمَامُ (النَّوَوِيُّ) . لَكِنْ قَدْ وَافَقَ اخْتِيَارَ ابْنِ الصَّلَاحِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى التَّلَقِّي، بَلْ هُوَ فِي كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ قَالَ: لِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّتِهِمَا، وَكَذَا هُوَ فِي كَلَامِ ابْنِ طَاهِرٍ وَغَيْرِهِ وَلَا شَكَّ - كَمَا قَالَ عَطَاءٌ - أَنَّ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَقْوَى مِنَ الْإِسْنَادِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: " الْإِجْمَاعُ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ مِنْ مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الطُّرُقِ، وَكَذَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ الَّتِي صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِإِفَادَتِهَا الْعِلْمَ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى هَذَا التَّلَقِّي الِاحْتِفَافُ بِالْقَرَائِنِ، وَهِيَ جَلَالَةُ قَدْرِ مُصَنِّفِيهِمَا، وَرُسُوخُ قَدَمِهِمَا فِي الْعِلْمِ، وَتَقَدُّمُهُمَا فِي الْمَعْرِفَةِ بِالصِّنَاعَةِ، وَجَوْدَةُ تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبُلُوغُهُمَا أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْإِمَامَةِ فِي وَقْتِهِمَا ". عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ ذَكَرَ فِي تَوْضِيحُ النُّخْبَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي التَّحْقِيقِ لَفْظِيٌّ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ جَوَّزَ إِطْلَاقَ الْعِلْمِ، قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا، وَهُوَ الْحَاصِلُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَمَنْ أَبَى الْإِطْلَاقَ خَصَّ لَفْظَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَمَا عَدَاهُ عِنْدَهُ ظَنِّيٌّ. لَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنَّ مَا احْتَفَّ بِالْقَرَائِنِ أَرْجَحُ مِمَّا خَلَا مِنْهَا، وَلَأَجْلِ كَوْنِهِ نَظَرِيًّا قِيلَ: (فِي الصَّحِيحِ) لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (بَعْضُ شَيْءٍ) وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى مِائَتَيْ حَدِيثٍ (قَدْ رُوِيَ) حَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 كَوْنِهِ (مُضَعَّفًا) بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمَا، وَفَاتَ بِذَلِكَ فِيهِ تَلَقِّي كُلِّ الْأُمَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنَ الْقَطْعِ بِقَوْلِهِ: " سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّقْدِ مِنَ الْحُفَّاظِ ; كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ ". انْتَهَى. وَلَا يَمْنَعُ الِاسْتِثْنَاءُ اجْتِهَادَ جَمَاعَةٍ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، وَدَفْعَ انْتِقَادِ ضَعْفِهِ، وَأَفْرَدَ النَّاظِمُ مُؤَلَّفًا لِذَلِكَ، عُدِمَتْ مُسَوَّدَتُهُ قَبْلَ تَبْيِيضِهَا، وَتَكَفَّلَ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْهُ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْهُ، فَكَانَ فِيهِمَا مَعَ تَكَلُّفٍ فِي بَعْضِهِ إِجْزَاءٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْخَيْنِ مَعَ إِتْقَانِهِ وَحِفْظِهِ وَصِحَّةِ مَعْرِفَتِهِ، تَمَّ عَلَيْهِ الْوَهْمُ فِي حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ لَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَحَكَمَ عَلَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ خَاصَّةً بِالْوَضْعِ، فَقَدْ رَدَّهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَأَوْضَحْتُ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مُهِمَّاتٍ كَثِيرَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِي غَيْرِهِ فِي النُّكَتُ لَا يَسْتَغْنِي مَنْ يَرُومُ التَّبَحُّرَ فِي الْفَنِّ عَنْهَا. وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْقَطْعِ أَيْضًا مَا وَقَعَ التَّجَاذُبُ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِ ; حَيْثُ لَا تَرْجِيحَ ; لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُفِيدَ الْمُتَنَاقِضَانِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لَأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ; قَالَهُ شَيْخُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [تَعَالِيقُ الصَّحِيحَيْنِ] (وَ) كَذَا (لَهُمَا) فِي صَحِيحَيْهِمَا (بِلَا سَنَدٍ) أَصْلًا، أَوْ كَامِلٍ ; حَيْثُ أُضِيفَ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ إِمَّا الصَّحَابِيُّ أَوِ التَّابِعِيُّ فَمَنْ دُونَهُ، مَعَ قَطْعِ السَّنَدِ مِمَّا يَلِيهُمَا (أَشْيَا) بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ ; كَأَنْ يُقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، أَوِ الزُّهْرِيُّ وَالْجَمْعُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمَا مَعًا ; إِذْ لَيْسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ مِمَّا لَمْ يُوصِلْهُ فِيهِ سِوَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ. (فَإِنْ يَجْزِمْ) الْمُعَلِّقُ مِنْهُمَا بِنِسْبَتِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَضَافَهُ إِلَيْهِ (فَصَحِّحْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ إِضَافَتَهُ لِمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ ; فَإِنَّهُ لَنْ يَسْتَجِيزَ إِطْلَاقَهُ إِلَّا وَقَدْ صَحَّ عِنْدَهُ عَنْهُ، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ نَقَضَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ مُطَّرِدَةٌ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الْتِزَامِ كَوْنِهِ عَلَى شَرْطِهِ. (أَوْ) لَمْ يَأْتِ الْمُعَلِّقُ بِالْجَزْمِ، بَلْ (وَرَدَ مُمَرَّضًا فَلَا) تَحْكُمْ لَهُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَهُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الصِّيغَةِ ; لِعَدَمِ إِفَادَتِهَا ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُنْتَقَدُ بِمَا وَقَعَ بِهَا مَعَ وَصْلِهِ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ. عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا - وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الِاسْتِقْرَاءِ خُصُوصًا فِي هَذَا النَّوْعِ - أَفَادَ أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، إِلَّا حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالْمَعْنَى، أَوِ اخْتَصَرَهُ، وَجَزَمَ بِأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ - أَيْ: فِيمَا عَدَاهُ - مُشْعِرٌ بِضَعْفِهِ عِنْدَهُ إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ عَنْهُ ; لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ فِيهِ، وَقَدْ لَا تَكُونُ قَادِحَةً، وَلِذَلِكَ فِيهِ مَا هُوَ حَسَنٌ، بَلْ وَصَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ التَّحْقِيقُ، وَإِنْ أَوْهَمَ صَنِيعُ ابْنِ كَثِيرٍ خِلَافَهُ. (وَلَكِنْ) حَيْثُ تَجَرَّدَتْ، فَإِيرَادُ صَاحِبِ الصَّحِيحِ لِلْمُعَلَّقِ الضَّعِيفِ كَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ صَحِيحِهِ (يُشْعِرُ بِصِحَّةِ الْأَصْلِ لَهُ) إِشْعَارًا يُؤْنَسُ بِهِ، وَيُرْكَنُ إِلَيْهِ. وَأَلْفَاظُ التَّمْرِيضِ كَثِيرَةٌ (كَيُذْكَرُ) وَيُرْوَى وَرُوِيَ، وَيُقَالُ، وَقِيلَ، [وَنَحْوُهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَاسْتَغْنَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِهَا عَنْ أَمْثِلَةِ الْجَزْمِ ; كَذَكَرَ، وَزَادَ، وَرَوَى، وَقَالَ] وَغَيْرِهَا لِوُضُوحِهِ، حَتَّى نَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ مُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى اعْتِبَارِهِمَا كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِشَيْءٍ ضَعِيفٍ ; لِأَنَّهَا صِيغَةٌ تَقْتَضِي صِحَّتَهُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُطْلَقَ إِلَّا فِيمَا صَحَّ. قَالَ: " وَقَدْ أَهْمَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ الْبَيْهَقِيِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَسَاهُلٌ قَبِيحٌ جِدًّا مِنْ فَاعِلِهِ ; إِذْ يَقُولُ فِي الصَّحِيحِ: يُذْكَرُ وَيُرْوَى، وَفِي الضَّعِيفِ قَالَ: وَرَوَى، وَهَذَا قَلْبٌ لِلْمَعَانِي، وَحَيْدٌ عَنِ الصَّوَابِ. قَالَ: وَقَدِ اعْتَنَى الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بِاعْتِبَارِ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ، وَإِعْطَائِهِمَا حُكْمَهُمَا فِي صَحِيحِهِ ; فَيَقُولُ فِي التَّرْجَمَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضَ كَلَامِهِ بِتَمْرِيضٍ، وَبَعْضَهُ بِجَزْمٍ، وَاعِيًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِتَحَرِّيهِ وَوَرَعِهِ ". انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي التَّنْبِيهَاتِ الَّتِي بِآخِرِ الْمَقْلُوبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَجْزُومَ بِهِ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ ابْتِدَاءً، وَمَا لَعَلَّهُ يَكُونُ كَذَلِكَ مِنَ الْمُمَرَّضِ إِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ النَّظَرِ ; لِوُجُودِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ فَافْتَرَقَا، وَإِذَا حَكَمْتَ لِلْمَجْزُومِ بِهِ بِالصِّحَّةِ، فَانْظُرْ فِيمَنْ أُبْرِزَ مِنْ رِجَالِهِ، تَجِدْ مَرَاتِبَهُ مُخْتَلِفَةً ; فَتَارَةً تَلْتَحِقُ بِشَرْطِهِ، وَتَارَةً تَتَقَاعَدُ عَنْ ذَلِكَ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا صَالِحًا لِلْحُجَّةِ ; كَالْمُعَلَّقِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، رَفَعَهُ: «اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» ، فَهُوَ حَسَنٌ مَشْهُورٌ عَنْ بَهْزٍ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، بَلْ وَيَكُونُ صَحِيحًا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا، لَكِنْ لَا مِنْ جِهَةِ قَدْحٍ فِي رِجَالِهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ انْقِطَاعٍ يَسِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ ; كَالْمُعَلَّقِ عَنْ طَاوُسٍ: قَالَ: قَالَ مُعَاذٌ: فَإِنَّ إِسْنَادَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 إِلَى طَاوُسٍ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مُعَاذٍ، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهَا مِمَّنْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَالْأَسْبَابُ فِي تَعْلِيقِ مَا هُوَ مُلْتَحِقٌ بِشَرْطِهِ: إِمَّا التَّكْرَارُ، أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ مَعْنَاهُ فِي الْبَابِ، وَلَوْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، فَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ اخْتِصَارًا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ بِقَيْدِ الْعُلُوِّ، أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ جِهَةِ الثِّقَاتِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ سَمِعَهُ لَكِنْ فِي حَالَةِ الْمُذَاكَرَةِ، فَقَصَدَ بِذَلِكَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ مَشَائِخِهِ فِي حَالَةِ التَّحْدِيثِ أَوِ الْمُذَاكَرَةِ احْتِيَاطًا. وَفِي الْمُتَقَاعِدِ عَنْ شَرْطِهِ: إِمَّا كَوْنُهُ فِي مَعْرِضِ الْمُتَابَعَةِ، أَوِ الِاسْتِشْهَادِ الْمُتَسَامَحِ فِي إِيرَادِهِ مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنِ التَّعْلِيقِ، أَوْ أَنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَوْضِعٍ يُوهِمُ تَعْلِيلَ الرِّوَايَةِ الَّتِي عَلَى شَرْطِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَبِمَا تَقَدَّمَ تَأَيَّدَ حَمْلُ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: " مَا أَدْخَلْتُ فِي كِتَابِي إِلَّا مَا صَحَّ " عَلَى مَقْصُودِهِ بِهِ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْنَدَةُ، دُونَ التَّعَالِيقِ وَالْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَرْجَمِ بِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَظَهَرَ افْتِرَاقُ مَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ فِي الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهِ وَاسْتِثْنَائِهِ مِنْ إِفَادَةِ الْعِلْمِ (وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلُ الْإِسْنَادِ) - بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ - مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الصَّحِيحِ مَثَلًا كَشَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَهُ (حُذِفْ) وَأُضِيفَ لِمَنْ بَعْدَ الْمَحْذُوفِ مِمَّا هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ كَثِيرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ (مَعَ صِيغَةِ الْجَزْمِ) أَيْ: مَعَ الْإِتْيَانِ بِهَا، بَلْ وَالتَّمْرِيضِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ ; كَالنَّوَوِيِّ وَالْمِزِّيِّ فِي أَطْرَافِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي كِلَيْهِمَا. (فَتَعْلِيقًا عُرِفْ) أَيْ: عُرِفَ بِالتَّعْلِيقِ بَيْنَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ ; كَالْحُمَيْدِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، بَلْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أَوَّلَ مَنْ وُجِدَ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَعْلِيقِ الْجِدَارِ، وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، لِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْجَمِيعُ مِنْ قَطْعِ الِاتِّصَالِ. وَاسْتَبْعَدَ شَيْخُنَا أَخْذَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْجِدَارِ، وَأَنَّهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ أَقْرَبُ، وَشَيْخُهُ الْبُلْقِينِيُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَسْمِيَتِهِ تَعْلِيقًا بَقَاءُ أَحَدٍ مِنْ رِجَالِ السَّنَدِ، بَلْ (وَلَوْ) حُذِفَ مِنْ أَوَّلِهِ (إِلَى آخِرِهِ) وَاقْتُصِرَ عَلَى الرَّسُولِ فِي الْمَرْفُوعِ، أَوْ عَلَى الصَّحَابِيِّ فِي الْمَوْقُوفِ - كَانَ تَعْلِيقًا، حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَقَرَّهُ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمِزِّيُّ فِي أَطْرَافِهِ، بَلْ وَلَا مَا اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى الصَّحَابِيِّ مَعَ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا، وَكَانَ يَلْزَمُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَقَطَ الْبَعْضُ مِنْ أَثْنَائِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِأَلْقَابِ غَيْرِهِ ; كَالْعَضْلِ وَالْقَطْعِ وَالْإِرْسَالِ. وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يُحْذَفُ فِيهِ جَمِيعُ الْإِسْنَادِ، مَعَ عَدَمِ الْإِضَافَةِ لِقَائِلٍ ; كَقَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ: " وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي الصَّلَاةِ جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً " وَهُوَ عِنْدَهُ فِي تَأْرِيخِهِ الصَّغِيرِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ عَنْ مَكْحُولٍ؟ الظَّاهِرُ نَعَمْ، وَحُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ مُلْتَزِمِي الصِّحَّةِ الِانْقِطَاعُ، وَلِذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ رَابِعَ التَّفْرِيعَاتِ التَّالِيَةِ لِلْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ مُلْتَزِمِيهَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. [مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَيْخِهِ بَـ " قَالَ "] (أَمَّا) الْمُصَنِّفُ (الَّذِي لِشَيْخِهِ عَزَا) مَا أَوْرَدَهُ (بِـ " قَال ") وَزَادَ وَنَحْوِهِمَا (فَكَـ) إِسْنَادِ (ذِي عَنْعَنَةٍ) فَيُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ بِاتِّصَالِهِ شَيْئَانِ: لُقِيُ الرَّاوِي لِمَنْ عَنْعَنَ عَنْهُ، وَسَلَامَتُهُ مِنَ التَّدْلِيسِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذِهِ الصِّيغَةِ كَثِيرَةٌ (كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاءِ وَالْفَاءِ ; وَهِيَ آلَاتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الْمَلَاهِي، الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي عَامِرٍ، أَوْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ يَسْتَحِلُّهَا، وَيَسْتَحِلُّ الْحِرَ - بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَكَسْرِ الْأُولَى مَعَ التَّخْفِيفِ - يَعْنِي الزِّنَا، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِفَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَالْحَرِيرَ. فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَهُ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ صَحِيحِهِ بِقَوْلِهِ: " قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ " وَسَاقَهُ سَنَدًا وَمَتْنًا، فَهِشَامٌ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَ عَنْهُ بِأَحَادِيثَ حَصَرَهَا صَاحِبُ (الزَّهْرَةِ) فِي أَرْبَعَةٍ، وَلَمْ يَصِفِ الْبُخَارِيَّ أَحَدٌ بِالتَّدْلِيسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ تَعْلِيقًا، خِلَافًا لِلْحُمَيْدِيِّ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ صَوَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَعَ حُكْمِهِ بِصِحَّتِهِ عَنْ قَائِلِهِ. وَعَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا مَشَى الْمِزِّيُّ فِي أَطْرَافِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ حُكْمَهُ الِانْقِطَاعُ، وَلَكِنْ قَدْ حَكَمَ عَبْدُ الْحَقِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ السُّنِّيُّ بِعَدَمِ اتِّصَالِهِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: (حُكْمُهُ الِانْقِطَاعُ) ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ: (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا رِوَايَةٍ) ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ مَنْدَهْ ; حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّ " قَالَ " تَدْلِيسٌ، فَالصَّوَابُ الِاتِّصَالُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ، فَلَا تُعَوِّلْ عَلَى خِلَافِهِ. (وَلَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ) الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَنْسُوبِ هُنَا لِجَدِّ أَبِيهِ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقُرْطُبِيِّ الظَّاهِرِيِّ (الْمُخَالِفِ) فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، نَشَأَتْ عَنْ غَلَطِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَجُمُودِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، مَعَ سَعَةِ حِفْظِهِ وَسَيَلَانِ ذِهْنِهِ، كَمَا وَصَفَهُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ. وَقَوْلُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: " مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ كِتَابِهِ " الْمُحَلَّى "، وَ " الْمُغْنِي " لِابْنِ قُدَامَةَ " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (456هـ) عَنِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً. حَيْثُ حَكَمَ بِعَدَمِ اتِّصَالِهِ أَيْضًا، مَعَ تَصْرِيحِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ; بِأَنَّ الْعَدْلَ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الْعُدُولِ، فَهُوَ عَلَى اللِّقَاءِ وَالسَّمَاعِ، سَوَاءٌ قَالَ: أَنَا أَوْ ثَنَا أَوْ عَنْ فُلَانٍ، أَوْ قَالَ فُلَانٌ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى السَّمَاعِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ، بَلْ وَمَا اكْتَفَى حَتَّى صَرَّحَ لَأَجْلِ تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي إِبَاحَةِ الْمَلَاهِي بِوَضْعِهِ مَعَ كُلِّ مَا فِي الْبَابِ، وَأَخْطَأَ فَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ وَقَعَ لِي مِنْ حَدِيثِ عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامٍ عَنْهُ، بَلْ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ كُلٌّ مِنْ هِشَامٍ وَصَدَقَةَ وَابْنِ جَابِرٍ. ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ بِالِانْقِطَاعِ مَا يُوجَدُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ ذَلِكَ مَرْوِيًّا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ بِعَيْنِهِ بِالْوَاسِطَةِ مَرَّةً، وَتَصْرِيحِهِ بِعَدَمِ سَمَاعِهِ لَهُ مِنْهُ أُخْرَى، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَقَدْ وَقَعَ لَهُ إِيرَادُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ بِـ " قَالَ " فِي مَوْضِعٍ، وَبِالتَّصْرِيحِ فِي آخَرَ. وَحِينَئِذٍ فَكُلُّ مَا يَجِيءُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مُحْتَمِلٌ لِلسَّمَاعِ وَعَدَمِهِ، بَلْ وَسَمَاعُهُ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْمُذَاكَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يَسُوغُ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْجَزْمُ بِالِانْقِطَاعِ، بَلْ وَلَا الِاتِّصَالِ أَيْضًا ; لِتَصْرِيحِ الْخَطِيبِ - كَمَا سَيَأْتِي - بِأَنَّهَا لَا تُحْمَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 عَلَى السَّمَاعِ إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهَا إِلَّا فِيمَا سَمِعَهُ، نَعَمْ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ مَنْ سَلَكَ الِاحْتِيَاطَ فِي رِوَايَةِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ بِالْإِجَازَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ الْمَوْثُوقِ بِهَا - يَعْنِي كَالْمُنَاوَلَةِ - فَحَدِيثُهُ مُحْتَجٌّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ فِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَوْصُولِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَقِبَ حَدِيثٍ قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: " كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ": إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا بِالْإِجَازَةِ، يَعْنِي عَنْ شُيُوخِهِ غَيْرَهُ. وَتَوَسَّطَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَغَارِبَةِ، فَوَسَمَ الْوَارِدَ بِـ " قَالَ " بِالتَّعْلِيقِ الْمُتَّصِلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ الْمُنْفَصِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ أَدْرَجَ مَعَهَا " قَالَ لِي " وَنَحْوَهَا مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ جَزْمًا، وَنُوزِعَ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُخْتَارُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ - كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا - أَنَّ حُكْمَ " قَالَ " فِي الشُّيُوخِ مِثْلُ غَيْرِهَا مِنَ التَّعَالِيقِ الْمَجْزُومَةِ. [نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ] 47 - وَأَخْذُ مَتْنٍ مِنْ كِتَابٍ لِعَمَلْ ... أَوِ احْتِجَاجٍ حَيْثُ سَاغَ قَدْ جَعَلْ 48 - عَرْضًا لَهُ عَلَى أُصُولٍ يَشْتَرِطْ ... وَقَالَ يَحْيَى النَّوَوِيُّ أَصْلٍ فَقَطْ 49 - قُلْتُ وَلِابْنِ خَيْرٍ امْتِنَاعُ ... نَقْلٍ سِوَى مَرْوِيِّهِ إِجْمَاعُ. (نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ) الَّتِي اشْتَهَرَتْ نِسْبَتُهَا لِمُصَنِّفِيهَا أَوْ صَحَّتْ، وَقَدَّمَ هَذَا عَلَى الْحَسَنِ الْمُشَارِكِ لِلصَّحِيحِ فِي الْحُجَّةِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلتَّعْلِيقِ فِي الْجُمْلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 (وَأَخْذُ مَتْنٍ) أَيْ: حَدِيثٍ (مِنْ كِتَابٍ) مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ ; كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، [وَابْنِ الْجَارُودِ] مِمَّا اشْتَهَرَ أَوْ صَحَّ (لِعَمَلٍ) بِمَضْمُونِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبَاتِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ الَّتِي لَا يَجِدُ فِيهَا الْآخِذُ نَصًّا لِإِمَامِهِ، أَوْ يَجِدُهُ فَيُبْرِزُ دَلِيلَهُ الَّذِي لَعَلَّ بِوُجُودِهِ يَضْعُفُ مُخَالِفُهُ. وَرُبَّمَا يَكُونُ إِمَامُهُ عَلَّقَ قَوْلَهُ فِيهِ عَلَى ثُبُوتِ الْخَبَرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْمَلُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ (أَوِ احْتِجَاجٍ) بِهِ لِذِي مَذْهَبٍ (حَيْثُ سَاغَ) - بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ - أَيْ جَازَ لِلْآخِذِ ذَلِكَ، وَكَانَ مُتَأَهِّلًا لَهُ، وَالْأَهْلِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بِحَسَبِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِالِاخْتِلَافِ فِي انْقِطَاعِ الْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ، فَضْلًا عَنِ الْمُطْلَقِ، لِنَقْصِ الْهِمَمِ (قَدْ جَعَلْ) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ. (عَرْضًا لَهُ) أَيْ: مُقَابَلَةً لِلْمَأْخُوذِ (عَلَى أُصُولٍ) مُتَعَدِّدَةٍ بِرِوَايَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، يَعْنِي فِيمَا تَكْثُرُ الرِّوَايَاتُ فِيهِ، كَالْفِرَبْرِيِّ وَالنَّسَفِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ وَغَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَوْ أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فِيمَا مَدَارُهُ عَلَى رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَكْثَرِ الْكُتُبِ (يَشْتَرِطْ) أَيْ: جَعَلَهُ شَرْطًا ; لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ جَبْرُ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي أَثْنَاءِ الْأَسَانِيدِ. وَقَدْ تَكْثُرُ تِلْكَ الْأُصُولُ الْمُقَابَلُ بِهَا كَثْرَةً تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَعِبَارَتُهُ: " فَسَبِيلٌ " أَيْ: طَرِيقٌ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ، وَإِنْ حَمَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاسْتِظْهَارِ. (وَقَالَ) الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا (يَحْيَى النَّوَوِيُّ) بِالِاكْتِفَاءِ بِالْمُقَابَلَةِ عَلَى (أَصْلٍ) مُعْتَمَدٍ (فَقَطْ) ; إِذِ الْأَصْلُ الصَّحِيحُ تَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ الَّتِي مَدَارُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا صِحَّةً وَاحْتِجَاجًا، عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ قَدْ تَبِعَهُمْ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَرْوِيِّ مَعَ تَقَارُبِهِمَا. وَلَكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِمَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ لِلِاحْتِجَاجِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا حُمِلَ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، كَانَ مُوَافِقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لِمَا سَيَأْتِي لَهُ عِنْدَ الْحَسَنِ فِي نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْحُكْمِ ; أَهُوَ بِالْحُسْنِ فَقَطْ، أَوْ بِالصِّحَّةِ فَقَطْ، أَوْ بِهِمَا مَعًا، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُصَحِّحَ أَصْلَكَ بِجَمَاعَةِ أُصُولٍ حَيْثُ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؟ وَإِنْ كَانَتْ " يَنْبَغِي " لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّارِحُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْأَوَّلِ فِيهِ تَضْيِيقٌ يُفْضِي إِلَى التَّعْطِيلِ، وَعَدَمِ تَعَقُّبِ النَّوَوِيِّ الْقَوْلَ بِالتَّعَدُّدِ فِي التِّرْمِذِيِّ ; لِافْتِرَاقِهِ عَمَّا تَقَدَّمَ بِاخْتِلَافِ نُسَخِهِ. ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي النَّقْلِ لِلْعَمَلِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ؟ الظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ عَدَمُهُ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بُرْهَانَ فِي الْأَوْسَطِ ; فَقَالَ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى سَمَاعِهِ، بَلْ إِذَا صَحَّتْ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ مَثَلًا أَوْ مِنَ السُّنَنِ، جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْخَبَرِ أَيْ: يَنْقُلُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ. (قُلْتُ: وَلِابْنِ خَيْرٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْمُقْرِئُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ الْأَمَوِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ اللَّمْتُونِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ الْمَالِكِيُّ خَالُ مُصَنِّفِ (الرَّوْضُ الْأُنُفُ) الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيِّ، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِتْقَانِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالضَّبْطِ ; بِحَيْثُ تَغَالَى النَّاسُ فِي كُتُبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَزَادَتْ عِدَّةُ مَنْ كَتَبَ هُوَ عَنْهُ عَلَى مِائَةٍ، مَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، (575 هـ) عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مِمَّا وُجِدَ بِأَوَّلِ بَرْنَامَجِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي أَسْمَاءِ شُيُوخِهِ وَمَرْوِيَّاتِهِ (امْتِنَاعُ) أَيْ: تَحْرِيمُ (نَقْلِ سِوَى) أَيْ غَيْرِ (مَرْوِيِّهِ) وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلرِّوَايَةِ الْمُجَرَّدَةِ أَوِ الْعَامِلِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ، وَالتَّحْرِيمُ فِيهِ عِنْدَهُ بَيْنَهُمْ (إِجْمَاعٌ) . وَنَصُّ كَلَامِهِ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَرْوِيًّا، وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ» مُطْلَقًا بِدُونِ تَقْيِيدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَزْمِ خَاصَّةً. وَلِذَا عَبَّرَ النَّاظِمُ - كَمَا فِي خَطِّهِ - بِهِ مَكَانَ " نَقْلِ " الْمُشْعِرِ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ، وَلَوْ مُمَرَّضًا، لَكِنَّهُ جَزَمَ فِي خُطْبَةِ (تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ) لَهُ بِذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنْ بِدُونِ عَزْوٍ ; فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ يَقْبُحُ بِالطَّالِبِ أَلَّا يَحْفَظَ بِإِسْنَادِهِ عِدَّةً مِنَ الْأَخْبَارِ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: (وَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْحَرَجِ بِنَقْلِ مَا لَيْسَتْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الدِّرَايَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتَمَدَ فِي حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ ابْنَ خَيْرٍ فَقَطْ، أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ) . وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ نَقْلًا عَنِ الْمُحَدِّثِينَ: إِنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى صِحَّةِ النُّسْخَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي: أَنَا أَرْوِي، وَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَهْلُ الْفَنِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَكِنِ انْتَصَرَ لِلْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ حَتَّى قِيلَ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ -: إِنَّ الثَّانِي لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَوْ صَحَّ لَخَدَشَ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، كَمَا يَخْدِشُ فِيهَا قَوْلُ ابْنِ بُرْهَانَ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى إِجْمَاعٍ مَخْصُوصٍ. وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يُورِدِ ابْنُ خَيْرٍ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى تَحْرِيمِ نِسْبَةِ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ قَالَهُ، لَكَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ مَنْعَ إِيرَادِ مَا يَكُونُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ; حَيْثُ لَا رِوَايَةَ لَهُ بِهِ، وَجَوَازَ نَقْلِ مَا لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا، لَا سِيَّمَا وَأَوَّلُ كَلَامِهِ كَالصَّرِيحِ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ ذَكَرَ - كَمَا حَكَيْتُهُ فِي أَصْلِهِ - مِنْ فَوَائِدِ الْإِجَازَةِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْحَرَجِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ. [الحديث الْحَسَنُ] [تَعْرِيفُ الحديث الْحَسَنِ] الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحَسَنُ. 50 - وَالْحَسَنُ الْمَعْرُوفُ مَخْرَجًا وَقَدْ ... اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ بِذَاكَ حَدْ 51 - حَمْدٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ مَا سَلِمْ ... مِنَ الشُّذُوذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِمْ 52 - بِكَذِبٍ وَلَمْ يَكُنْ فَرْدًا وَرَدْ ... قُلْتُ وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انْفَرَدْ 53 - وَقِيلَ مَا ضَعْفٌ قَرِيبٌ مُحْتَمَلْ ... فِيهِ، وَمَا بِكُلِّ ذَا حَدٌّ حَصَلْ 54 - وَقَالَ بَانَ لِي فِيهِ بِإِمْعَانِي النَّظَرْ ... أَنَّ لَهُ قِسْمَيْنِ كُلٌّ قَدْ ذَكَرْ 55 - قَسْمًا وَزَادَ كَوْنَهُ مَا عُلِّلَا ... وَلَا بِنُكْرٍ أَوْ شُذُوذٍ شَمِلَا 56 - وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ يَسْتَعْمِلُهْ ... وَالْعُلَمَاءُ الْجُلُّ مِنْهُمْ يَقْبَلُهْ 57 - وَهْوَ بِأَقْسَامِ الصَّحِيحِ مُلْحَقُ ... حُجِّيَّةً وَإِنْ يَكُنْ لَا يُلْحَقُ 58 - فَإِنْ يُقَلْ يُحْتَجُّ بِالضَّعِيفِ ... فَقُلْ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَوْصُوفِ 59 - رُوَاتُهُ بِسُوءِ حِفْظٍ يُجْبَرُ ... بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ 60 - وَإِنْ يَكُنْ لِكَذِبٍ أَوْ شَذَّا ... أَوْ قَوِيَ الضَّعْفُ فَلَمْ يُجْبَرْ ذَا 61 - أَلَا تَرَى الْمُرْسَلَ حَيْثُ أُسْنِدَا ... أَوْ أَرْسَلُوا كَمَا يَجِيءُ اعْتَضَدَا 62 - وَالْحَسَنُ الْمَشْهُورُ بِالْعَدَالَهْ ... وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ إِذَا أَتَى لَهْ 63 - طُرُقٌ أُخْرَى نَحْوُهَا مِنَ الطُّرُقْ ... صَحَّحْتَهُ كَمَتْنِ " لَوْلَا أَنْ أَشُقْ " 64 - إِذْ تَابَعُوا مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو عَلَيْهِ فَارْتَقَى الصَّحِيحَ يَجْرِي. [التَّعْرِيفُ بِالْحَسَنِ] وَقُدِّمَ لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ الصَّحِيحِ فِي الْحُجِّيَّةِ، وَالْحَسَنُ لَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كَانَ بِالنَّظَرِ لِقِسْمَيْهِ الْآتِيَيْنِ تَتَجَاذَبُهُ الصِّحَّةُ وَالضَّعْفُ - اخْتَلَفَ تَعْبِيرُ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْرِيفِهِ، [بِحَيْثُ أَفْرَدَ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي شُيُوخِ شُيُوخِنَا رِسَالَةً] ، فَقِيلَ: هُوَ (الْمَعْرُوفُ مَخْرَجًا) أَيِ: الْمَعْرُوفُ مَخْرَجُهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ شَامِيًّا عِرَاقِيًّا مَكِّيًّا كُوفِيًّا. كَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ رِاوٍ قَدِ اشْتُهِرَ بِرِوَايَةِ حَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ، كَقَتَادَةَ وَنَحْوِهِ فِي الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَصْرِيِّينَ إِذَا جَاءَ عَنْ قَتَادَةَ وَنَحْوِهِ، كَانَ مَخْرَجُهُ مَعْرُوفًا بِخِلَافِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الِاتِّصَالِ ; إِذِ الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ - لِعَدَمِ بُرُوزِ رِجَالِهَا - لَا يُعْلَمُ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ مِنْهَا، وَكَذَا الْمُدَلَّسُ - بِفَتْحِ اللَّامِ - وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ بَعْضُهُ، مَعَ إِيهَامِ الِاتِّصَالِ. (وَقَدِ اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ) بِالْعَدَالَةِ، وَكَذَا الضَّبْطُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنِ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَلَّا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا، لَكِنْ (بِذَاكَ) أَيْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاتِّصَالِ وَالشُّهْرَةِ (حَدَّ الْإِمَامُ) الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو سُلَيْمَانَ (حَمْدٌ) - بِدُونِ هَمْزَةٍ، وَقِيلَ: بِإِثْبَاتِهَا، وَلَا يَصِحُّ - ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُصَنِّفُ أَعْلَامِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ، وَمَعَالِمِ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَدُ شُيُوخِ الْحَاكِمِ، مَاتَ بِـ " بُسْتَ " فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (388هـ) . كَمَا عَرَّفَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ وَعَدُلَتْ نَقَلَتُهُ، غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِمَزِيدٍ، وَلِأَجْلِ تَعْرِيفِهِ لَهُ فِي مَعَالِمِهِ بِجَانِبِهِ، نَوَّعَ الْعِبَارَةَ، وَتَعَيَّنَ حَمْلُ الِاشْتِهَارِ فِيهِ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ كَمَا قَرَّرْتُهُ. وَتَقَوَّى بِهِ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَكَأَنَّهُ - أَيِ: الْخَطَّابِيَّ - أَرَادَ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الصَّحِيحِ قَالَ: (وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي عِبَارَتِهِ كَبِيرُ تَلْخِيصٍ لِدُخُولِ الصَّحِيحِ فِي التَّعْرِيفِ ; لِأَنَّهُ أَيْضًا قَدْ عُرِفَ مَخْرَجُهُ، وَاشْتُهِرَ رِجَالُهُ) . هَذَا مَعَ أَنَّ التَّاجَ التِّبْرِيزِيَّ أَلْزَمَ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ بِانْتِقَادِهِ إِدْخَالَ الصَّحِيحِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الْحَسَنِ، مَعَ قَوْلِهِ فِي الْجَوَابِ عَنِ اسْتِشْكَالِ جَمْعِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالصِّحَّةِ - كَمَا سَيَأْتِي -: كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنٌ - التَّنَاقُضَ. وَقَالَ: (إِنَّ دُخُولَ الْخَاصِّ، وَهُوَ هُنَا الصَّحِيحُ، فِي حَدِّ الْعَامِّ ضَرُورِيٌّ، وَالتَّقْيِيدُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ مُخِلٌّ لِلْحَدِّ) . وَقَالَ الشَّارِحُ: (إِنَّهُ مُتَّجِهٌ) . انْتَهَى. وَبِهِ أَيْضًا انْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْقُيُودُ كَانَ حَسَنًا، وَمَا كَانَ فِيهِ مَعَهَا قَيْدٌ آخَرُ يَصِيرُ صَحِيحًا، وَلَا شَكَّ فِي صِدْقِ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى مَا فِيهِ، إِذَا وُجِدَتْ قُيُودُ الْأَوَّلِ، لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الصَّحِيحِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ وَجْهٍ - كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ - فَلَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ التِّبْرِيزِيُّ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الصَّحِيحِ أَخَصَّ مِنَ الْحَسَنِ مِنْ وَجْهٍ، أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهُ مُطْلَقًا، حَتَّى يَدْخُلَ الصَّحِيحُ فِي الْحَسَنِ. انْتَهَى. وَبَيَانُ كَوْنِهِ وَجِيهًا فِيمَا يَظْهَرُ: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الصَّحِيحُ لِغَيْرِهِ، وَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الصَّحِيحِ لِذَاتِهِ، وَالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُبَايَنَةِ الْجُزْئِيَّةِ. ثُمَّ رَجَعَ شَيْخُنَا، فَقَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ ; لِأَنَّهُمَا قَسِيمَانِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَصْدُقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَلْبَتَّةَ. قُلْتُ: وَيَتَأَيَّدُ التَّبَايُنُ بِأَنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّبْطِ، فَحَقِيقَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الْأُخْرَى ; [لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْمُشَكَّكِ مِنَ اخْتِلَافِ أَفْرَادِهِ، وَأَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ كَوْنَ مَعْنَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَشَدَّ مِنَ الْآخَرِ، وَتَمْثِيلُ ذَلِكَ بِبَيَاضِ الثَّلْجِ وَالْعَاجِ عَلَى مَا بُسِطَ فِي مَحَالِّهِ] . وَهُوَ مِثْلُ مَنْ جَعَلَ الْمُبَاحَ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَأْذُونًا فِيهِ، وَغَفَلَ مَنْ فَصَلَ الْمُبَاحَ، وَهُوَ عَدَمُ الذَّمِّ لِتَارِكِهِ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْحَسَنَ مِنْ جِنْسِ الصَّحِيحِ لِلِاجْتِمَاعِ فِي الْقَبُولِ - غَفَلَ عَنْ فَصْلِ الْحَسَنِ، وَهُوَ قُصُورُ ضَبْطِ رَاوِيهِ. عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا - مِمَّا لَمْ يَصِحَّ عِنْدِي - الِاعْتِنَاءُ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ ; بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَخَصُّ اسْتِطْرَادًا وَبَحْثًا، بِخِلَافِ مُنَاقَشَتِهِ مَعَ الْخَطَّابِيِّ، فَهِيَ فِي أَصْلِ الْبَابِ، وَمَا يَكُونُ فِي بَابِهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلِ الْكَلَامَانِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ. (وَقَالَ) الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ (التِّرْمِذِيُّ) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمِيمِ، وَقِيلَ: بِضَمِّهِمَا وَقِيلَ: بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ، كُلُّهَا مَعَ إِعْجَامِ الذَّالِ، نِسْبَةً لِمَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ عَلَى طَرَفِ جَيْحُونَ نَهْرِ بَلْخَ، أَحَدُ تَلَامِذَةِ الْبُخَارِيِّ، الْآتِي ذِكْرُهُ فِي تَارِيخِ الرُّوَاةِ وَالْوَفَيَاتِ فِي الْعِلَلِ الَّتِي بِآخِرِ (جَامِعِهِ) مِمَّا حَاصِلُهُ: وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، فَهُوَ عِنْدَنَا (مَا سَلِمَ مِنَ الشُّذُوذِ) يَعْنِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَاضِي فِي الصَّحِيحِ (مَعَ رَاوٍ) أَيْ: مَعَ أَنَّ رُوَاةَ سَنَدِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ. (مَا اتُّهِمْ بِكَذِبٍ) فَيَشْمَلُ مَا كَانَ بَعْضُ رُوَاتِهِ سَيِّئَ الْحِفْظِ مِمَّنْ وُصِفَ بِالْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ، أَوْ مَسْتُورًا لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ، وَكَذَا إِذَا نُقِلَا وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، أَوْ مُدَلَّسًا بِالْعَنْعَنَةِ، أَوْ مُخْتَلِطًا بِشَرْطِهِ ; لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِمَا اشْتِرَاطَ نَفْيِ الِاتِّهَامِ بِالْكَذِبِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ، مَعَ اقْتِضَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا التَّوَقُّفَ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ; لِعَدَمِ الضَّبْطِ فِي سَيِّئِ الْحِفْظِ وَالْجَهْلِ بِحَالِ الْمَسْتُورِ وَالْمُدَلِّسِ، وَكَذَا لِشُمُولِهِ مَا بِهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ حَافِظَيْنِ، وَالْمُرْسَلُ الَّذِي يُرْسِلُهُ إِمَامٌ حَافِظٌ ; لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ الِاتِّصَالَ - اشْتَرَطَ ثَالِثًا فَقَالَ: (وَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 يَكُنْ فَرْدًا وَرَدْ) . بَلْ جَاءَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَأَكْثَرَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلَهُ لَا دُونَهُ ; لِيَتَرَجَّحَ بِهِ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ ; لِأَنَّ سَيِّئَ الْحِفْظِ مَثَلًا حَيْثُ يَرْوِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَبَطَ الْمَرْوِيَّ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونَ ضَبَطَهُ، فَإِذَا وَرَدَ مِثْلُ مَا رَوَاهُ أَوْ مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ ضَبَطَ. وَكُلَّمَا كَثُرَ الْمُتَابِعُ، قَوِيَ الظَّنُّ، كَمَا فِي أَفْرَادِ الْمُتَوَاتِرِ ; فَإِنَّ أَوَّلَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ لَا تَزَالُ تَكْثُرُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِصِدْقِ الْمَرْوِيِّ، وَلَا يَسْتَطِيعُ سَامِعُهُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إِخْرَاجُ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ مِنَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الِاتِّهَامِ فِي رُوَاتِهِ ; لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِهِ مَعَ الِانْقِطَاعِ، كَمَا مَضَى فِي تَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ الْمَخْرَجِ مَعَهُ، وَلَكِنْ مَا جَزَمْتُ بِهِ هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي جَامِعِهِ، فَقَدْ حَكَمَ بِالْحُسْنِ مَعَ وُجُودِ الِانْقِطَاعِ فِي أَحَادِيثَ، بَلْ وَكَذَا فِي كُلِّ مَا لَا يُنَافِيهِ نَفْيُ الِاتِّهَامِ مِمَّا صَرَّحْتُ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَقَدَ تَبَيَّنَ عَدَمُ كَوْنِ هَذَا التَّعْرِيفِ جَامِعًا لِلْحَسَنِ بِقِسْمَيْهِ، فَضْلًا عَنْ دُخُولِ الصَّحِيحِ بِقِسْمَيْهِ، وَإِنْ زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ، فَرَاوِيهِ لَا يُكْتَفَى فِي وَصْفِهِ بِمَا ذُكِرَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِتْقَانِ. (قُلْتُ وَ) مَعَ اشْتِرَاطِ التِّرْمِذِيِّ عَدَمَ التَّفَرُّدِ فِيهِ (قَدْ حَسَّنَ) فِي جَامِعِهِ (بَعْضَ مَا انْفَرَدْ) رَاوِيهِ بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِتَصْرِيحِهِ هُوَ بِذَلِكَ، حَيْثُ يُورِدُ الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَهُ: إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ، أَوْ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَكِنْ قَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: بِأَنَّهُ عَرَّفَ مَا يَقُولُ فِيهِ: حَسَنٌ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ أُخْرَى لَا الْحَسَنَ مُطْلَقًا. وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا، مَعَ تَرَدُّدِهِ فِي سَبَبِ اقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إِمَّا لِغُمُوضِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ جَدِيدٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، بَلْ خَصَّهُ بِـ (جَامِعِهِ) فَقَطْ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَكَمَ فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ عَلَى حَدِيثٍ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ قَائِلٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لَيْسَ لَنَا أَنْ نُفَسِّرَ الْحَسَنَ هُنَاكَ بِمَا هُوَ مُفَسَّرٌ بِهِ هُنَا إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ، لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَلَكِنْ يَتَأَيَّدُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الْكَبِيرِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: " عِنْدَنَا " حِكَايَةَ اصْطِلَاحِهِ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَنَا، أَيْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ. انْتَهَى. وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَا ذَكَرْنَا) ، وَكَذَا قَوْلُهُ: " فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ "، وَحِينَئِذٍ فَالنُّونُ لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ التَّلَبُّسِ بِالْعِلْمِ الْمُتَأَكِّدِ تَعْظِيمُ أَهْلِهِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحَى: 11] مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْإِعْجَابِ وَنَحْوِهِ، الْمَذْمُومِ مَعَهُ مِثْلُ هَذَا، [لَا سِيَّمَا وَالْعَرَبُ - كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ - تُؤَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ، فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ ; لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ] ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ أَلْيَقُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّاذِّ. (وَقِيلَ) : مِمَّا عَزَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مُرِيدًا بِهِ الْحَافِظَ أَبَا الْفَرَجِ بْنَ الْجَوْزِيِّ ; حَيْثُ قَالَ فِي تَصْنِيفَيْهِ (الْمَوْضُوعَاتُ وَالْعِلَلُ الْمُتَنَاهِيَةُ) : الْحَسَنُ (مَا ضِعْفٌ قَرِيبٌ مُحْتَمَلْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (فِيهِ) . وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعَارِيفِ ; فَإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْحَسَنِ الْمَوْصُوفِ بِالْحُسْنِ إِذَا اعْتَضَدَ بِغَيْرِهِ، حَتَّى لَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ ضَعِيفًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ صِفَةُ الْحَسَنِ مُطْلَقًا، فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ إِذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ، كَانَ مَرْجُوحًا، وَالصَّحِيحُ رَاجِحًا. فَضَعْفُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ، وَالْحَسَنُ لِغَيْرِهِ أَصْلُهُ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحُسْنُ بِالْعَاضِدِ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 عَضَدَهُ، فَاحْتَمَلَ لِوُجُودِ الْعَاضِدِ، وَلَوْلَا الْعَاضِدُ لَاسْتَمَرَّتْ صِفَةُ الضَّعْفِ فِيهِ. وَلَكِنْ مَعَ مَا تَكَلَّفْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ (مَا بِكُلٍّ ذَا) أَيْ: مَا تَقَدَّمَ (حَدٌّ) صَحِيحٌ جَامِعٌ لِلْحَسَنِ (حَصَلْ) ، بَلْ هُوَ مُسْتَبْهَمٌ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ، يَعْنِي لِعَدَمِ ضَبْطِ الْقَدْرِ الْمُحْتَمَلِ مِنْ غَيْرِهِ بِضَابِطٍ فِي آخِرِهَا، وَكَذَا فِي الشُّهْرَةِ فِي أَوَّلِهَا، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِمَا، وَفِي تَعْرِيفِ التِّرْمِذِيِّ، زَعَمَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ أَجْوَدُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ اضْطِرَابًا. [ أقسام الحديث الحسن ] [لِلْحَسَنِ قِسْمَانِ] (وَقَالَ) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (بَانَ) أَيْ: ظَهَرَ (لِي بِإِمْعَانِي) أَيْ: بِإِطَالَتِي وَإِكْثَارِي (النَّظَرَ) وَالْبَحْثَ جَامِعًا بَيْنَ أَطْرَافِ كَلَامِهِمْ، مُلَاحِظًا مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالِهِمْ (أَنَّ لَهُ) أَيِ الْحَسَنِ (قِسْمَيْنِ) : أَحَدُهُمَا - يَعْنِي وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ -: أَنْ يَكُونَ فِي الْإِسْنَادِ مَسْتُورٌ لَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ، غَيْرُ مُغَفَّلٍ، وَلَا كَثِيرِ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَا يُتَّهَمُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيهَا، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى مُفَسَّقٍ آخَرَ، وَاعْتَضَدَ بِمُتَابِعٍ أَوْ شَاهِدٍ. وَثَانِيهِمَا - يَعْنِي وَهُوَ الْحَسَنُ لِذَاتِهِ -: أَنْ تَشْتَهِرَ رُوَاتُهُ بِالصِّدْقِ، وَلَمْ يَصِلُوا فِي الْحِفْظِ رُتْبَةَ رِجَالِ الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْحَسَنُ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَهُوَ لِكَوْنِهِ يُطْلَقُ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الضَّعِيفِ - مَجَازٌ، كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الصَّحِيحِ مَجَازًا عَلَى الثَّانِي. ثُمَّ إِنَّ الْقِسْمَيْنِ (كُلٌّ) مِنَ التِّرْمِذِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ (قَدْ ذَكَرَ) مِنْهُمَا (قِسْمًا) ، وَتَرَكَ آخَرَ لِظُهُورِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كُلٍّ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي التِّرْمِذِيِّ - أَوْ ذُهُولِهِ ; فَكَلَامُ التِّرْمِذِيِّ يَتَنَزَّلُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ عَلَى أَوَّلِهِمَا، وَكَلَامُ الْخَطَّابِيِّ عَلَى ثَانِيهِمَا، لَكِنْ لَيْسَ الْأَوَّلُ عِنْدَهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ. وَحِينَئِذٍ فَتَرْكُهُ لَهُ لِذَلِكَ، لَا لِمَا تَقَدَّمَ، (وَزَادَ) أَيِ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (كَوْنَهُ مَا عُلِّلَا وَلَا بِنُكْرٍ أَوْ شُذُوذٍ) أَيْ: بِكُلٍّ مِنْهُمَا (شُمِلَا) بِنَاءً عَلَى تَغَايُرِهِمَا، أَمَّا مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تَرَادُفِهِمَا - كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ - فَاشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا كَافٍ. وَلِذَا اقْتَصَرَ فِي الصَّحِيحِ عَلَى نَفْيِ الشُّذُوذِ فَقَطْ، بَلْ وَكَذَا الْحَسَنُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، وَحِينَئِذٍ فَزِيَادَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ لَهُ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَطَّابِيِّ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْعِلَّةِ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ الْجَابِرِ عَلَى وِفْقِهِ يُغْنِي التِّرْمِذِيَّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِنَفْيِهَا. وَلَكِنْ قَدْ قَرَّرَ شَيْخُنَا مَنْعَ اشْتِرَاطِهِ نَفْيَهَا، وَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْتُهُ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ; حَيْثُ قَالَ عَقِبَ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَفِيهِ مُبَاحَثَاتٌ وَمُنَاقَشَاتٌ عَلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ مَعَ اخْتِلَالِ غَيْرِهَا مِنْ تَعَارِيفِهِ، قِيلَ: إِنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي تَمْيِيزِهِ. وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ مَنْ خَاضَ بِحَارَ هَذَا الْفَنِّ، سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا ; وَلِذَا عَرَّفَ الْحَسَنَ لِذَاتِهِ، فَقَالَ: هُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ بِرُوَاةٍ مَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ، فِي ضَبْطِهِمْ قُصُورٌ عَنْ ضَبْطِ رُوَاةِ الصَّحِيحِ، وَلَا يَكُونُ مَعْلُولًا وَلَا شَاذًّا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ، إِلَّا فِي تَفَاوُتِ الضَّبْطِ. فَرَاوِي الصَّحِيحِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالضَّبْطِ الْكَامِلِ، وَرَاوِي الْحَسَنِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ عَرِيًّا عَنِ الضَّبْطِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِيَخْرُجَ عَنْ كَوْنِهِ مُغَفَّلًا، وَعَنْ كَوْنِهِ كَثِيرَ الْخَطَأِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الصَّحِيحِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ كُلِّهِ فِي النَّوْعَيْنِ. انْتَهَى. وَأَمَّا مُطْلَقُ الْحَسَنِ فَهُوَ الَّذِي اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِالصَّدُوقِ الضَّابِطِ الْمُتْقِنِ غَيْرِ تَامِّهِمَا، أَوْ بِالضَّعِيفِ بِمَا عَدَا الْكَذِبَ إِذَا اعْتَضَدَ مَعَ خُلُوِّهِمَا عَنِ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ. [الِاحْتِجَاجُ بالحديث الْحَسَنِ] [مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَسَنِ] إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مُتَّصِلًا بِتَعْرِيفِهِ السَّابِقِ ; لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا أَنَّهُ تَتِمَّتُهُ: وَعَلَيْهِ - أَيِ: الْحَسَنِ - مَدَارُ أَكْثَرِ الْحَدِيثِ - أَيْ: بِالنَّظَرِ لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ - فَإِنَّ غَالِبَهَا لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ: أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ ثُبُوتُهَا بِطَرِيقٍ حَسَنٍ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: (وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ) وَهُوَ وَإِنْ عَبَّرَ بِعَامَّتِهِمْ، فَمُرَادُهُ كُلُّهُمْ (يَسْتَعْمِلُهُ) أَيْ: فِي الِاحْتِجَاجِ وَالْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا (وَالْعُلَمَاءُ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ (الْجُلُّ) أَيِ: الْمُعْظَمُ (مِنْهُمْ يَقْبَلُهُ) فِيهِمَا. وَمِمَّنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ ; فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ فَحَسَّنَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْتَجُّ بِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ، فَأُعِيدَ السُّؤَالُ مِرَارًا، وَهُوَ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ حَسَنٌ. وَنَحْوُهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ؟ فَقَالَ: هُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: الْحُجَّةُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ. وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ (وَهُوَ) أَيِ الْحَسَنُ لِذَاتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا لِغَيْرِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ النَّظْمُ (بِأَقْسَامِ الصَّحِيحِ مُلْحَقٌ حُجِّيَّةً) أَيْ: فِي الِاحْتِجَاجِ (وَإِنْ يَكُنْ) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ (لَا يَلْحَقُ) الصَّحِيحَ فِي الرُّتْبَةِ: [إِمَّا لِضَعْفِ رَاوِيهِ، أَوِ انْحِطَاطِ ضَبْطِهِ، بَلِ الْمُنْحَطُّ لَا يُنْكِرُ مُدْرِجُهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ دُونَهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ ; فَهَذَا اخْتِلَافٌ إِذَنْ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ مَا اقْتَضَاهُ النَّظْمُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لَهُ بِظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مُتَّصِلًا بِتَعْرِيفِهِ، وَيَصْلُحُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ فِيمَا تَكْثُرُ طُرُقُهُ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُ مُفْرَدَاتُهَا ضَعِيفَةٌ، فَمَجْمُوعُهَا يُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَصِيرُ الْحَدِيثُ حَسَنًا وَيُحْتَجُّ بِهِ، وَسَبَقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَقْوِيَةِ الْحَدِيثِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ الضَّعِيفَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا الْقِسْمُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ كُلُّهُ، بَلْ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَيُتَوَقَّفُ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، إِلَّا إِذَا كَثُرَتْ طُرُقُهُ، أَوْ عَضَّدَهُ اتِّصَالُ عَمَلٍ، أَوْ مُوَافَقَةُ شَاهِدٍ صَحِيحٍ، أَوْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَاسْتَحْسَنَهُ شَيْخُنَا. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي ضَعْفُهُ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ حِفْظِهِ، إِذَا كَثُرَتْ طُرُقُهُ، ارْتَقَى إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَسَنِ، وَلَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي شُمُولِ الْحَسَنِ الْمُسَمَّى بِالصَّحِيحِ عِنْدَ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا لِهَذَا. وَكَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا يُشِيرُ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي إِطْلَاقِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَسَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الِاقْتِرَاحِ، إِنَّ هَهُنَا أَوْصَافًا يَجِبُ مَعَهَا قَبُولُ الرِّوَايَةِ، إِذَا وُجِدَتْ فِي الرَّاوِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُسَمَّى بِالْحَسَنِ مِمَّا قَدْ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا الْقَبُولُ أَوْ لَا، فَإِنْ وُجِدَتْ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَإِنْ سُمِّيَ حَسَنًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَدَّ هَذَا إِلَى أَمْرٍ اصْطِلَاحِيٍّ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا قَبُولُ الرِّوَايَةِ لَهَا مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ، فَأَعْلَاهَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَلِكَ أَوْسَطُهَا، وَأَدْنَاهَا الْحَسَنُ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، وَيَكُونُ الْكُلُّ صَحِيحًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَالَأَمْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ قَرِيبٌ، لَكِنَّ مَنْ أَرَادَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا سَمَّاهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَسَنًا، وَتَحَقَّقَ وُجُودُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا قَبُولُ الرِّوَايَةِ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. قُلْتُ: قَدْ وُجِدَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُنْكَرِ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَدَائِنِيِّ: حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ، وَعَامَّتُهُ حِسَانٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لِشُعْبَةَ: لَأَيِّ شَيْءٍ لَا تَرْوِي عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ، وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: مِنْ حُسْنِهِ فَرَرْتُ. وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ حُسْنُ الْمَتْنِ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْغَرِيبِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا كَرِهُوا أَنْ يُخَرِّجَ الرَّجُلُ حِسَانَ حَدِيثِهِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهُ عَنَى الْغَرَائِبَ. وَوُجِدَ لِلشَّافِعِيِّ إِطْلَاقُهُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِابْنِ الْمَدِينِيِّ فِي الْحَسَنِ لِذَاتِهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَنَحْوُهُ - فِيمَا يَظْهَرُ - قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ: فُلَانٌ مَجْهُولٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ حَسَنٌ. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيِّ فِي الطَّلْحِيِّ: إِنَّهُ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ مَعَ حُسْنِهِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 إِرَادَتَهُمَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ أَيْضًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالتِّرْمِذِيُّ هُوَ الَّذِي أَكْثَرَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْحَسَنِ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ ; كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَكِنْ حَيْثُ ثَبَتَ اخْتِلَافُ صَنِيعِ الْأَئِمَّةِ فِي إِطْلَاقِهِ، فَلَا يَسُوغُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ. فَمَا كَانَ مِنْهُ مُنْطَبِقًا عَلَى الْحَسَنِ لِذَاتِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ، أَوِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ فَيُفْصَلُ بَيْنَ مَا تَكْثُرُ طُرُقُهُ فَيُحْتَجُّ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا، وَهَذِهِ أُمُورٌ جُمَلِيَّةٌ تُدْرَكُ تَفَاصِيلُهَا بِالْمُبَاشَرَةِ. (فَإِنْ يَقُلْ) حَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَسَنَ لَا يُشْتَرَطُ فِي ثَانِي قِسْمَيْهِ ثِقَةُ رُوَاتِهِ، وَلَا اتِّصَالُ سَنَدِهِ، وَاكْتُفِيَ فِي عَاضِدِهِ بِكَوْنِهِ مِثْلَهُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَكَيْفَ (يُحْتَجُّ بِالضَّعِيفِ) مَعَ اشْتِرَاطِهِمْ أَوْ جُمْهُورِهِمُ الثِّقَةَ فِي الْقَبُولِ؟ (فَقُلْ) : إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ (إِذَا كَانَ) الْحَدِيثُ (مِنَ الْمَوْصُوفِ رُواتُهُ) وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ (بِسُوءِ حِفْظٍ) أَوِ اخْتِلَاطٍ أَوْ تَدْلِيسٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّيَانَةِ فَذَاكَ (يُجْبَرُ بِكَوْنِهِ) أَيِ: الْمَتْنِ (مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ) . وَيَكُونُ الْعَاضِدُ الَّذِي لَا يَنْحَطُّ عَنِ الْأَصْلِيِّ مَعَهُ كَافِيًا، مَعَ الْخَدْشِ فِيهِ بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ الظَّاهِرِ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ الَّذِي قَدْ لَا يُنَافِيهِ مَا سَيَجِيءُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُرْسَلِ قَرِيبًا ; لِاشْتِرَاطِهِ مَا يَنْجَبِرُ بِهِ التَّفَرُّدُ، وَإِنَّمَا انْجَبَرَ ; لِاكْتِسَابِهِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمَجْمُوعَةِ قُوَّةً، كَمَا فِي أَفْرَادِ الْمُتَوَاتِرِ وَالصَّحِيحِ لِغَيْرِهِ الْآتِي قَرِيبًا. وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ عَلَى الطَّرِيقِ الْأُولَى بِالضَّعْفِ إِنَّمَا هُوَ لَأَجْلِ الِاحْتِمَالِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فِي سَيِّئِ الْحِفْظِ مَثَلًا ; هَلْ ضَبَطَ أَمْ لَا؟ فَبِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ ضَبَطَ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ كُلُّ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ تَعْرِيفِ التِّرْمِذِيِّ. (وَإِنْ يَكُنْ) ضَعْفُ الْحَدِيثِ (لْكَذِبٍ فِي) رَاوِيهِ (أَوْ شَذَّا) أَيْ وَشُذُوذٍ فِي رِوَايَتِهِ بِأَنْ خَالَفَ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 هُوَ أَحْفَظُ أَوْ أَكْثَرُ (أَوْ قَوِيَ الضَّعْفُ) بِغَيْرِهِمَا بِمَا يَقْتَضِي الرَّدَّ. (فَلَمْ يُجْبَرْ ذَا) أَيِ: الضَّعْفُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَلَوْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ ; كَحَدِيثِ: «مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا» ، فَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْحُفَّاظِ عَلَى ضَعْفِهِ مِنْ كَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَلَكِنْ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ - الْقَاصِرَةِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ ; بِحَيْثُ لَا يُجْبَرُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ - يَرْتَقِي عَنْ مَرْتَبَةِ الْمَرْدُودِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ بِحَالٍ، إِلَى رُتْبَةِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ. وَرُبَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الطُّرُقُ الْوَاهِيَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا ضَعْفٌ يَسِيرٌ ; بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ مَجِيءُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ يَسِيرٌ، كَانَ مُرْتَقِيًا بِهَا إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) الْحَدِيثَ (الْمُرْسَلَ) مَعَ ضَعْفِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ (حَيْثُ أُسْنِدَا) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (أَوْ أَرْسَلُوا) أَيْ: أَوْ أُرْسِلَ مِنْ طَرِيقِ تَابِعِيٍّ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ رِجَالِ التَّابِعِيِّ الْأَوَّلِ (كَمَا يَجِيءُ) تَقْرِيرُهُ فِي بَابِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ (اعْتَضَدَا) وَصَارَ حُجَّةً. ثُمَّ كَمَا أَنَّ الْحَسَنَ عَلَى قِسْمَيْنِ، كَذَلِكَ الصَّحِيحُ، فَمَا سَلَفَ هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ (وَ) الْحَدِيثُ (الْحَسَنُ) لِذَاتِهِ وَهُوَ (الْمَشْهُورُ بِالْعِدَالِةِ وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ) غَيْرَ أَنَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ مُتَأَخِّرُ الْمَرْتَبَةِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ عَنْ رَاوِي الصَّحِيحِ. (إِذَا أَتَى لَهُ طُرُقٌ أَخْرَى نَحْوُهَا) أَيْ: نَحْوُ طَرِيقِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْحُسْنِ (مِنَ الطُّرُقِ) الْمُنْحَطَّةِ عَنْهَا (صَحَّحْتَهُ) إِمَّا عِنْدَ التَّسَاوِي أَوِ الرُّجْحَانِ، فَمَجِيئُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَافٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِغَيْرِهِ، وَتَأْخِيرُهُ لِكَوْنِهِ كَالدَّلِيلِ أَيْضًا لِدَفْعِ الْإِيرَادِ قَبْلَهُ. [أَمْثِلَةُ الحديث الْحَسَنِ] [أَمْثِلَةُ الْحَسَنِ] وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ (كَمَتْنِ) أَيْ حَدِيثِ " ( «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ) عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» . (إِذْ تَابَعُوا مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو) بْنِ عَلْقَمَةَ رَاوِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (عَلَيْهِ) فِي شَيْخِ شَيْخِهِ ; حَيْثُ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ، أَحَدُهُمْ نَعَمْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، لَكِنَّهُ جَعَلَ صَحَابِيَّ الْحَدِيثِ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ، لَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ. وَكَذَا تَابَعَهُ الْمَقْبُرِيُّ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَجَعَلَ الصَّحَابِيَّ عَائِشَةَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَابَعَةٌ قَاصِرَةٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ. (فَارْتَقَى) الْمَتْنُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَلْقَمَةَ بِهَذِهِ الْمُتَابَعَاتِ (الصَّحِيحَ يَجْرِي) إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ إِذَا انْفَرَدَ لَا يَرْتَقِي حَدِيثُهُ عَنِ الْحَسَنِ ; لِكَوْنِهِ مَعَ صِدْقِهِ وَجَلَالَتِهِ الْمُوثَقِ بِهِمَا كَانَ يُخْطِئُ بِحَيْثُ ضُعِّفَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا وَهُوَ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَخَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ الَّذِي تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْتُهُ، [وَمِنِ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا] . وَكَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ» . تَفَرَّدَ بِهِ عَامِرٌ، وَقَدْ قَوَّاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَيَّنَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَمَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ ; بِأَنَّ حَدِيثَهُ هَذَا حَسَنٌ. وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ: أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُثْمَانَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَصَحَّحَهُ مُطْلَقًا التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ ; وَذَلِكَ لِمَا عَضَّدَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ ; كَحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ زَوْرَانَ عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ; لِأَنَّ الْوَلِيدَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَحَدٌ. وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيِّ عَنْهُ، وَعُمَرُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَوَاهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، إِلَّا أَنَّ لَهُ عِلَّةً، لَكِنَّهَا غَيْرُ قَادِحَةٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ حَسَّانِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بِلَالٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَهُوَ مَعْلُولٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخْرَى دُونَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْتَبَةِ، وَبِمَجْمُوعِ ذَلِكَ حَكَمُوا عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ. وَكُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهَا لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ قَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْقِسْمِ شَبِيهَ مَا سَلَكَهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ ; حَيْثُ بَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ الصَّحِيحَيْنِ أَصَحُّ كُتُبِهِ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِمَا تُؤْخَذُ مِنْ كَذَا، وَأَمَّا هُنَا فَبَعْدَ أَنْ أَفَادَ إِكْثَارَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ. وَأَنَّ التِّرْمِذِيَّ هُوَ الْمُنَوِّهُ بِهِ وَالْمُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي جَامِعِهِ، مَعَ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ ; كَشَيْخِهِ الْبُخَارِيِّ، الَّذِي كَأَنَّهُ - كَمَا قَالَ شَيْخِي - اقْتَفَى فِيهِ شَيْخَهُ ابْنَ الْمَدِينِيِّ ; لِوُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِ أَيْضًا. [ الكتب التي من مظنة الحديث الحسن ] [ الكلام على سنن أبي داود ] 65 - قَالَ وَمِنْ مَظِنَّةٍ لِلْحَسَنِ ... جَمْعُ أَبِي دَاوُدَ أَيْ فِي السُّنَنِ 66 - فَإِنَّهُ قَالَ ذَكَرْتُ فِيهِ ... مَا صَحَّ أَوْ قَارَبَ أَوْ يَحْكِيهِ 67 - وَمَا بِهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ قُلْتُهُ ... وَحَيْثُ لَا، فَصَالِحٌ خَرَّجْتُهُ 68 - فَمَا بِهِ وَلَمْ يُصَحَّحْ وَسَكَتْ ... عَلَيْهِ عِنْدَهُ لَهُ الْحُسْنُ ثَبَتْ 69 - وَابْنُ رُشَيْدٍ قَالَ وَهُوَ مُتَّجِهْ ... قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ مُخْرِجِهْ 70 - وَلِلْإِمَامِ الْيَعْمَرِيِّ إِنَّمَا ... قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ يَحْكِي مُسْلِمَا 71 - حَيْثُ يَقُولُ جُمْلَةُ الصَّحِيحِ لَا ... تُوجَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالنُّبَلَا 72 - فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ ... إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ 73 - وَنَحْوِهِ وَإِنْ يَكُنْ ذُو السَّبْقِ ... قَدْ فَاتَهُ أَدْرَكَ بِاسْمِ الصِّدْقِ 74 - هَلَّا قَضَى عَلَى كِتَابِ مُسْلِمِ ... بِمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ 75 - وَالْبَغَوِي إِذْ قَسَّمَ الْمَصَابِحَا ... إِلَى الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ جَانِحَا 76 - أَنَّ الْحِسَانَ مَا رَوَوْهُ فِي السُّنَنْ ... رُدَّ عَلَيْهِ إِذْ بِهَا غَيْرُ الْحَسَنْ 77 - كَانَ أَبُو دَاوُدَ أَقْوَى مَا وُجِدْ ... يَرْوِيهِ وَالضَّعِيفَ حَيْثُ لَا يَجِدْ 78 - فِي الْبَابِ غَيْرَهُ فَذَاكَ عِنْدَهْ ... مِنْ رَأْيٍ أَقْوَى قَالَهُ ابْنُ مَنْدَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 79 - وَالنَّسَّائِيُّ يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ تَرْكًا مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ ... 80 - وَمَنْ عَلَيْهَا أَطْلَقَ الصَّحِيحَا فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلًا صَرِيحَا ... 81 - وَدُونَهَا فِي رُتْبَةٍ مَا جُعِلَا عَلَى الْمَسَانِيدِ فَيُدْعَى الْجَفَلَا. [مَظِنَّةُ الْحُسْنِ] (قَالَ: وَمِنْ مَظِنَّةٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، مَفْعِلَةٌ مِنَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ مَوْضِعٍ وَمَعْدِنٍ (لِلْحُسْنِ) سِوَى مَا ذُكِرَ (جَمْعُ) الْإِمَامِ الْحَافِظِ الْحُجَّةِ الْفَقِيهِ التَّالِي لِصَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، وَالْمَقُولِ فِيهِ: إِنَّهُ أُلِينَ لَهُ الْحَدِيثُ كَمَا أُلِينَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَدِيدُ (أَبِي دَاوُدَ) سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ الْآتِي فِي الْوَفَيَاتِ، (أَيْ فِي) كِتَابِهِ (السُّنَنِ) الشَّهِيرِ الَّذِي صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ بِاكْتِفَاءِ الْمُجْتَهِدِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي خُطْبَةِ شَرْحِهِ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُشْتَغِلِ بِالْفِقْهِ وَلِغَيْرِهِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَبِمَعْرِفَتِهِ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ ; فَإِنَّ مُعْظَمَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُحْتَجُّ بِهَا فِيهِ، مَعَ سُهُولَةِ تَنَاوُلِهِ، وَتَلْخِيصِ أَحَادِيثِهِ، وَبَرَاعَةِ مُصَنِّفِهِ، وَاعْتِنَائِهِ بِتَهْذِيبِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ وَمُؤَلِّفِهِ. (فَإِنَّهُ قَالَ) مَا مَعْنَاهُ: (ذَكَرْتُ فِيهِ) أَيْ: فِي كِتَابِ (السُّنَنِ) (مَا صَحَّ أَوْ قَارَبَ) الصَّحِيحَ (أَوْ يَحْكِيهِ) أَيْ: يُشْبِهُهُ ; إِذْ لَفْظُهُ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي تَأْرِيخِ الْخَطِيبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ دَاسَةَ عَنْهُ: ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ. وَ " أَوْ " هُنَا لِلتَّقْسِيمِ، أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلْمُغَايَرَةِ، وَلَا شَكَّ فِيهَا هُنَا، فَمَا يُشْبِهُ الشَّيْءَ وَمَا يُقَارِبُهُ لَيْسَ بِهِ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ الَّذِي يُشْبِهُهُ هُوَ الْحَسَنُ، وَالَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يُقَارِبُهُ الصَّالِحُ، وَلَزِمَ مِنْهُ جَعْلُ الصَّالِحِ قِسْمًا آخَرَ. وَقَوْلُ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ: " إِسْنَادٌ وَسَطٌ، لَيْسَ بِالثَّبْتِ وَلَا بِالسَّاقِطِ، هُوَ صَالِحٌ " قَدْ يُسَاعِدُهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي رِسَالَتِهِ فِي وَصْفِ السُّنَنِ مَا مَعْنَاهُ: (وَمَا) كَانَ فِي كِتَابِي مِنْ حَدِيثٍ (بِهِ وَهْنٌ) ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الرِّسَالَةِ: (وَهْيٌ) (شَدِيدٌ) فَقَدَ (قُلْتُهُ) أَيْ: بَيَّنْتُ وَهَنَهُ أَوْ وَهَاءَهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: وَإِذَا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، بَيَّنْتُهُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ عَلَى نَحْوِهِ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. وَتَرَدَّدَ شَيْخِي، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مَحَلِّ هَذَا الْبَيَانِ ; أَهُوَ عَقِبَ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى حِدَتِهِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الْإِسْنَادُ بِعَيْنِهِ مَثَلًا، أَوْ يَكْتَفِي بِالْكَلَامِ عَلَى وَهْنِ إِسْنَادٍ مَثَلًا، فَإِذَا عَادَ لَمْ يُبَيِّنْهُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَهُ؟ وَقَالَ: هَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ عِنْدِي. قُلْتُ: عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ هُنَا لِوُجُودِ مُتَابِعٍ أَوْ شَاهِدٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ يَقَعُ الْبَيَانُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا سِيَّمَا رِوَايَةُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ ; فَإِنَّ فِيهَا مِنْ كَلَامِ أَبِي دَاوُدَ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ. وَسَبَقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، فَقَالَ: الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ لِكِتَابِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْكَلَامِ، بَلْ وَالَأَحَادِيثِ، مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى. قَالَ: وَلَأَبِي عُبَيْدٍ الْآجُرِّيِّ عَنْهُ أَسْئِلَةٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّعْلِيلِ كِتَابٌ مُفِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَرِجَالٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي سُنَنِهِ [فَقَوْلُهُ: وَمَا سَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا سَكَتَ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ] فَقَطْ أَوْ مُطْلَقًا، وَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ مُلَاحَظَةُ مَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا مُصَرَّحًا فِيهِ بِالضَّعْفِ الشَّدِيدِ، مِمَّا سَكَتَ عَلَيْهِ فِي السُّنَنُ، لَا مُطْلَقِ الضَّعْفِ، وَكَذَا يَنْبَغِي عَدَمُ الْمُبَادَرَةِ لِنِسْبَةِ السُّكُوتِ، إِلَّا بَعْدَ جَمْعِ الرِّوَايَاتِ وَاعْتِمَادِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ ; لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّا تَبِعَهُ فِيهِ النَّوَوِيُّ بِذَلِكَ فِي نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ ; حَيْثُ قَرَّرَ اخْتِلَافَهَا فِي التَّحْسِينِ وَالتَّصْحِيحِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: (وَحُيْثُ لَا) وَهَنٌ أَيْ: شَدِيدٌ فِيهِ، وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا (فَ) هُوَ (صَالِحٌ) ، وَفِي لَفْظٍ أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مُمَرَّضًا: فَهُوَ حَسَنٌ (خَرَّجْتُهُ) ، بَعْضُهُ أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَعَلَى هَذَا (مَا) وَجَدْنَاهُ مَذْكُورًا (بِهِ) أَيْ: بِالْكِتَابِ (وَلَمْ يُصَحَّحْ) عِنْدَ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْخَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. (وَسَكَتْ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (عَلَيْهِ) فَهُوَ (عِنْدَهُ) أَيْ: أَبِي دَاوُدَ (لَهُ الْحُسْنُ ثَبَتَ) . وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَا مُنْدَرِجٍ فِيمَا حَقَّقْنَاهُ ضَبْطُ الْحَسَنِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُ أَبِي دَاوُدَ تَخْرِيجُ الضَّعِيفِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي. انْتَهَى. وَيَتَأَيَّدُ تَسْمِيَتُهُ حَسَنًا بِالرِّوَايَةِ الْمَحْكِيَّةِ لِابْنِ كَثِيرٍ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ (وَ) لِذَلِكَ اعْتَرَضَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الثِّقَةُ الْمُصَنِّفُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ (ابْنُ رُشَيْدٍ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الْبُسْتِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْمَالِكِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (722 هـ) بِـ " فَاسٍ " عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ - عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ. حَيْثُ (قَالَ) فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ (وَهُوَ مُتَّجِهْ) : لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ بِضَعْفٍ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِصِحَّةٍ - أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ حَسَنٌ، بَلْ (قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 مُخْرِجِهِ) أَيْ: أَبِي دَاوُدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، [وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ فِي خُطْبَةِ التَّرْغِيبُ: وَكُلُّ حَدِيثٍ عَزَوْتُهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. انْتَهَى. فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّحِيحِ فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ الْفُصُولِ الَّتِي بِأَوَّلِ أَذْكَارِهِ: وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ضَعْفَهُ، فَهُوَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ] ، وَيُسَاعِدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ أَفْعَلَ فِي قَوْلِهِ: " أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ " يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ غَالِبًا. فَالْمَسْكُوتُ عَلَيْهِ إِمَّا صَحِيحٌ أَوْ أَصَحُّ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُهُ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اسْتِعْمَالِ " أَصَحَّ " بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، بَلْ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ كَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ ; فَإِنَّهُ يُورِدُ الْحَدِيثَ مِنْ جِهَةِ الضَّعِيفِ، ثُمَّ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَيَقُولُ عَقِبَ الثَّانِي: إِنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ الضَّعِيفِ. وَصَنِيعُ أَبِي دَاوُدَ يَقْتَضِيهِ لِمَا فِي الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعِيفِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَكَذَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ حَصْرِهِ التَّبْيِينَ فِي الْوَهَنِ الشَّدِيدِ ; إِذْ مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الشَّدِيدِ لَا يُبَيِّنُهُ. وَحِينَئِذٍ فَالصَّلَاحِيَةُ فِي كَلَامِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِلِاحْتِجَاجِ أَوِ الِاسْتِشْهَادِ، فَمَا ارْتَقَى إِلَى الصِّحَّةِ ثُمَّ إِلَى الْحُسْنِ، فَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمَا عَدَاهُمَا فَهُوَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَمَا قَصُرَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ، وَقَدِ الْتَزَمَ بَيَانَهُ، وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاحِيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الِاحْتِجَاجِ، وَلَا يُنَافِيهِ وُجُودُ الضَّعِيفِ ; لِأَنَّهُ - كَمَا سَيَأْتِي - يُخَرِّجُ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ غَيْرَهُ، وَهُوَ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ رَأْيِ الرِّجَالِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، لَا سِيَّمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ عِنْدَ غَيْرِهِ - مَا يُومِئُ إِلَى التَّنْبِيهِ لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشَيْدٍ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمُهُ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي طَرَفٍ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي طَرَفٍ آخَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ مَا قَرَّرَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَقْسَامٌ، مِنْهُ مَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، أَوْ حَسَنٌ لِذَاتِهِ، أَوْ مَعَ الِاعْتِضَادِ، وَهُمَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِهِ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا هُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَقُّ أَنَّ مَا وَجَدْنَاهُ مِمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ حُسْنِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ - فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى ضَعْفِهِ مَنْ يُعْتَمَدُ، أَوْ رَأَى الْعَارِفُ فِي سَنَدِهِ مَا يَقْتَضِي الضَّعْفَ، وَلَا جَابِرَ لَهُ - حُكِمَ بِضَعْفِهِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى سُكُوتِهِ. انْتَهَى. وَمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَغَيْرِهِ فِيهِ نَظَرٌ، وَالتَّحْقِيقُ التَّمْيِيزُ لِمَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، وَرَدُّ الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَحُسْنٍ وَغَيْرِهِمَا كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَرَجَّحَهُ هُوَ فِي بَابِهِ، وَإِنْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَقَرَّ فِي مُخْتَصَرَيْهِ ابْنَ الصَّلَاحِ عَلَى دَعْوَاهُ هُنَا الَّتِي تَقْرُبُ مِنْ صَنِيعِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَلْجَأَهُ إِلَيْهَا مَذْهَبُهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا تَمْيِيزٍ، فَالَأَحْوَطُ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ: صَالِحٌ، كَمَا هِيَ عِبَارَتُهُ، خُصُوصًا وَقَدْ سَلَكَهُ جَمَاعَةٌ (وَكَذَا لِلْإِمَامِ) الْحَافِظِ الثِّقَةِ أَبِي الْفَتْحِ فَتْحِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ (الْيَعْمُرِيِّ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمِيمِ، حَسْبَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ نُقْطَةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَبِضَمِّ الْمِيمِ أَيْضًا كَمَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ، الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَصْلِ الْقَاهِرِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُؤَلِّفُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، الْمُتَوَفَّى فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (734 هـ) عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَالْمَدْفُونُ بِالْقَرَافَةِ، فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الْقِطْعَةِ الَّتِي شَرَحَهَا مِنَ التِّرْمِذِيِّ. اعْتِرَاضٌ آخَرُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ يَرْسُمْ أَبُو دَاوُدَ شَيْئًا بِالْحُسْنِ (إِنَّمَا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ يَعْنِي: الْمَاضِي وَهُوَ " ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ " أَيْ: فِي الصِّحَّةِ " وَمَا يُقَارِبُهُ " أَيْ: فِيهَا أَيْضًا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ بَعْضَهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ ; فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا لِمَا يَقْتَضِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلَ فِي الْأَكْثَرِ. (يَحْكِي مُسْلِمًا) أَيْ: يُشْبِهُ قَوْلَ مُسْلِمٍ صَاحِبِ (الصَّحِيحِ حَيْثُ يَقُولُ) أَيْ: مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (جُمْلَةُ الصَّحِيحِ لَا تُوجَدُ عِنْدَ) الْإِمَامِ (مَالِكٍ وَالنُّبَلَا) كَشُعْبَةَ وَسُفْيَانَ وَالثَّوْرِيِّ (فَاحْتَاجَ) أَيْ: مُسْلِمٌ (أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ) عَنْ حَدِيثِ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ (إِلَى) حَدِيثِ (يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَنَحْوِهِ) ; كَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ مِمَّنْ يَلِيهِمْ فِي ذَلِكَ. (وَإِنْ يَكُنْ ذُو) أَيْ: صَاحِبُ (السَّبْقِ) فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَهُوَ مَالِكٌ مَثَلًا (قَدْ فَاتَهُ) أَيْ: سَبَقَ بِحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ يَزِيدَ مَثَلًا، فَقَدْ (أَدْرَكَ) أَيْ: لَحِقَ الْمَسْبُوقُ السَّابِقَ فِي الْجُمْلَةِ (بِاسْمِ) الْعَدَالَةِ وَ (الصِّدْقِ) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي " فَاتَهُ " لِمُسْلِمٍ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ يَكُنْ قَدْ فَاتَ مُسْلِمًا وُجُودُ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ذِي السَّبْقِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ هُوَ أَوْ ذَاكَ السَّابِقُ، فَقَدْ أَدْرَكَ، أَيْ: بَلَغَ مَقْصُودَهُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى كَلَامِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَاحِدٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ مُسْلِمًا شَرَطَ الصَّحِيحَ، فَاجْتَنَبَ حَدِيثَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ الضَّعِيفُ الْوَاهِي، وَأَتَى بِالْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَأَبَا دَاوُدَ لَمْ يَشْتَرِطْهُ ; فَذَكَرَ مَا يَشْتَدُّ وَهَنُهُ عِنْدَهُ، وَالْتَزَمَ بَيَانَهُ فَـ (هَلَّا قَضَى) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (عَلَى كِتَابِ مُسْلِمٍ بِمَا قَضَى بِهِ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَبِي دَاوُدَ أَوْ كِتَابِهِ (بِالتَّحَكُّمِ) الْمَذْكُورِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: (وَهُوَ تَعَقُّبٌ مُتَّجِهٌ، وَرَدَّهُ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ تَعَقُّبٌ وَاهٍ جِدًّا لَا يُسَاوِي سَمَاعَهُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وَهُوَ كَذَلِكَ لِتَضَمُّنِهِ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: وُقُوعُ غَيْرِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ، أَوْ تَصْحِيحُ كُلِّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ بَيَّنَ رَدَّهُ الشَّارِحُ ; بِأَنَّ مُسْلِمًا شَرَطَ الصَّحِيحَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَى حَدِيثٍ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ. وَأَبُو دَاوُدَ إِنَّمَا قَالَ: مَا سَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ، وَالصَّالِحُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْحُسْنِ. وَبِنَحْوِهِ أَجَابَ عَنِ اعْتِرَاضِ ابْنِ رُشَيْدٍ الْمَاضِي، وَسَبَقَهُ شَيْخُهُ الْعَلَائِيُّ، فَأَجَابَ بِمَا هُوَ أَمْتَنُ مِنْ هَذَا. وَعِبَارَتُهُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ - يَعْنِي: ابْنَ سَيِّدِ النَّاسِ - ضَعِيفٌ، وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ أَقْوَى ; لِأَنَّ دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ إِذَا تَفَاوَتَتْ، فَلَا يَعْنِي بِالْحَسَنِ إِلَّا الدَّرَجَةَ الدُّنْيَا مِنْهَا، وَالدَّرَجَةُ الدُّنْيَا مِنْهَا لَمْ يُخَرِّجْ مِنْهَا مُسْلِمٌ شَيْئًا فِي الْأُصُولِ، إِنَّمَا يُخَرِّجُهَا فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ. وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ يُخَرِّجُ جَمِيعَ أَهْلِ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي الْأُصُولِ، بَلْ وَفِي الْمُتَابَعَاتِ - لَكَانَ كِتَابُهُ أَضْعَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَاهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُورِدْ لِعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ إِلَّا فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْمُكْثِرِينَ لَيْسَ عِنْدَهُ سِوَى مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ. وَكَذَا لَيْسَ لِابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ إِلَّا سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، وَهُوَ مَنْ يُجَوِّزُ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لِلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَلَا لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَلَا لِمُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ إِلَّا مَقْرُونًا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَبِي دَاوُدَ ; فَإِنَّهُ يُخَرِّجُ أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ فِي الْأُصُولِ مُحْتَجًّا بِهَا، وَلَأَجْلِ ذَا تَخَلَّفَ كِتَابُهُ عَنْ شَرْطِ الصِّحَّةِ. [ الكلام على كتب البغوي ] (وَالْبَغَوِيُّ) نِسْبَةً لِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ بَيْنَ مَرْوَ وَهَرَاةَ يُقَالُ لَهَا: بَغُ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْمُفَسِّرُ الْحَافِظُ الْمُلَقَّبُ: مُحْيِي السُّنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ رُكْنُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْفَرَّاءِ لِكَوْنِهَا صَنْعَةَ أَبِيهِ، مُصَنِّفُ مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ فِي التَّفْسِيرِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْمَصَابِيحِ فِي الْحَدِيثِ، [وَالْجَمْعِ بَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِهِمَا مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرَاتِ] ، وَالتَّهْذِيبِ فِي الْفِقْهِ. وَكَانَ سَيِّدًا زَاهِدًا قَانِعًا، يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَلِيمَ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ يَأْكُلُهُ بِالزَّيْتِ، مَاتَ بِمُرْوِ الرُّوذِ، فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتَّ عَشَرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ (516 هـ) وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى التِّسْعِينَ ظَنًّا، وَدُفِنَ عِنْدَ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ. (إِذْ قَسَّمَ) كِتَابَهُ (الْمَصَابِحَا) بِحَذْفِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا، جَمْعَ مِصْبَاحٍ ; وَهُوَ السِّرَاجُ (إِلَى الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، جَانِحَا) أَيْ: سَائِرًا إِلَى أَنَّ الصِّحَاحَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا. وَ (الْحِسَانُ مَا رَوَوْهُ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَالنَّسَائِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ (فِي السُّنَنِ) مِنْ تَصَانِيفِهِمْ مِمَّا يَتَضَمَّنُ مُسَاعَدَةَ ابْنِ الصَّلَاحِ ; لِاسْتِلْزَامِهِ تَحْسِينَ الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ رُدَّ (عَلَيْهِ) فَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ، وَسَبَقَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: إِنَّهُ اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ، وَلَيْسَ الْحَسَنُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ، (إِذْ بِهَا) أَيْ: بِكُتُبِ السُّنَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا (غَيْرُ الْحَسَنِ) مِنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ. فَقَدْ (كَانَ أَبُو دَاوُدَ) يَتَتَبَّعُ مِنْ حَدِيثِهِ (أَقْوَى مَا وُجِدْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ كَمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ النَّاظِمِ، وَيَجُوزُ بِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَنْسَبَ (يَرْوِيهِ وَ) يَرْوِي الْحَدِيثَ (الضَّعِيفَ) أَيْ: مِنْ قِبَلِ سُوءِ حِفْظِ رَاوِيهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; كَالْمَجْهُولِ عَيْنًا أَوْ حَالًا، لَا مُطْلَقَ الضَّعْفِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا كَانَ رَاوِيهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ. (حَيْثُ لَا يَجِدْ فِي الْبَابِ) حَدِيثًا (غَيْرَهُ فَذَاكَ) أَيِ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ (عِنْدَهُ، مِنْ رَأْيٍ) أَيْ: مِنْ جَمِيعِ آرَاءِ الرِّجَالِ (أَقْوَى) كَمَا (قَالَهُ) أَيْ: كَوْنُهُ يُخَرِّجُ الضَّعِيفَ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى الْآرَاءِ، الْحَافِظُ أَحَدُ أَكَابِرِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، مِمَّنْ جَابَ وَجَالَ، وَلَقِيَ الْأَعْلَامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَالرِّجَالَ، وَشَرَّقَ وَغَرَّبَ، وَبَعُدَ وَقَرُبَ. أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ابْنُ مَنْدَهْ) وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَبْدِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ، وَ " مَنْدَهْ " لَقَبٌ لِوَالِدِهِ يَحْيَى، وَاسْمُهُ فِيمَا يُقَالُ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ. مَاتَ فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (395هـ) عَنْ نَحْوِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. [قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: لِأَنَّ الْخَبْرَ فِي الْغَالِبِ يَقِينٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الشُّبْهَةُ فِي نَقْلِهِ، وَالرَّاوِي مُحْتَمِلٌ بِأَصْلِهِ فِي كُلِّ وَصْفٍ عَلَى الْخُصُوصِ، وَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّأْيِ أَصْلًا، وَفِي الْحَدِيثِ عَارِضًا، وَأَبُو دَاوُدَ تَابَعَ فِي ذَلِكَ شَيْخَهُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ. فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ إِلَيْهِ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ أَحَبُّ إِلِيَّ مِنَ الرَّأْيِ. قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ بِبَلَدٍ لَا يَجِدُ فِيهَا إِلَّا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا يَدْرِي صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ، وَصَاحِبَ رَأْيٍ فَمَنْ يَسْأَلُ؟ قَالَ: يَسْأَلُ صَاحِبَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ صَاحِبَ الرَّأْيِ. [وَنَحْوُهُ مَا لِلدَّارِمِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا حَدَّثَكَ هَؤُلَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخُذْ بِهِ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ، فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ. وَلِلْبَغَوِيِّ فِي شَرْحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 السُّنَّةِ عَنْهُ: إِنَّمَا الرَّأْيُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَيْهَا أَكَلْتَهَا] . وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ يَحْتَجُّ بِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْتَصِرَ عَلَى مَا صَحَّ عِنْدِي، لَمْ أَرْوِ مِنْ هَذَا الْمُسْنَدِ إِلَّا الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّكَ يَا بُنَيَّ، تَعْرِفُ طَرِيقَتِي فِي الْحَدِيثِ، إِنِّي لَا أُخَالِفُ مَا يَضْعُفُ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ، بَلْ حَكَى الطُّوفِيُّ عَنِ التَّقِيِّ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: اعْتَبَرْتُ مُسْنَدَ أَحْمَدَ، فَوَجَدْتُهُ مُوافِقًا لِشَرْطِ أَبِي دَاوُدَ. انْتَهَى. وَنَحْوُ مَا حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا سَيَأْتِي فِي الْمُرْسَلِ حِكَايَةً عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، مِمَّا نَسَبَهُ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ ; أَنَّ الْمُرْسَلَ يُحْتَجُّ بِهِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ جَمِيعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ أَيْضًا أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ - كَمَا حَكَاهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَثْنَاءِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَتُرَدُّ مِنَ النُّكَتُ - حَمَلَ قَوْلَ ابْنِ مَنْدَهْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالضَّعِيفِ هُنَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، وَهُوَ بَعِيدٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَكَلَامُ أَبِي دَاوُدَ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي وَصَفَ فِيهَا كِتَابَهُ، إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ - مُشْعِرٌ بِخِلَافِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُمْ أَنْ أَذْكُرَ لَكُمُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِي كِتَابِ السُّنَنُ أَهِيَ أَصَحُّ مَا عَرَفْتُ فِي الْبَابِ؟ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ كَذَلِكَ كُلُّهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْدَمُ إِسْنَادًا، وَالْآخَرُ صَاحِبُهُ قُدِّمَ فِي الْحِفْظِ، فَرُبَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ، أَيِ: الَّذِي هُوَ أَقْدَمُ إِسْنَادًا، وَلَا أَرَى فِي كِتَابِي مِنْ هَذَا عَشَرَةَ أَحَادِيثَ. وَلَمْ أَكْتُبْ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثًا أَوْ حَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، فَإِنَّهَا تَكْثُرُ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ قُرْبَ مَنْفَعَتِهِ، فَإِذَا أَعَدْتُ الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ كَلَامٍ فِيهِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ فِيهِ كَلِمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ. وَرُبَّمَا اخْتَصَرْتُ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ ; لِأَنِّي لَوْ كَتَبْتُهُ بِطُولِهِ، لَمْ يَعْلَمْ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُهُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَلَا يَفْهَمُ وَضْعَ الْفِقْهِ مِنْهُ، فَاخْتَصَرْتُهُ لِذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَيْسَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ الَّذِي صَنَّفْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مَتْرُوكِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَيَّنْتُهُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ عَلَى نَحْوِهِ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ أَلَّفْتُهُ نَسَقًا عَلَى مَا صَحَّ عِنْدِي ; فَإِنْ ذُكِرَ لَكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ لَيْسَ فِيمَا خَرَّجْتُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِي مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنِّي لَمْ أُخَرِّجِ الطُّرُقَ ; لِأَنَّهُ يَكْثُرُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَمَعَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ غَيْرِي. . . إِلَى آخِرِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ عَرَضَ سُنَنَهُ عَلَى شَيْخِهِ أَحْمَدَ، فَاسْتَحْسَنَهُ. وَكَذَا فِيمَا حَكَى ابْنُ مَنْدَهْ أَيْضًا مِمَّا سَمِعَهُ بِمِصْرَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْبَارُودِيِّ، كَانَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ (النَّسَائِيُّ) صَاحِبُ السُّنَنِ وَالْآتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فِي الْوَفَيَاتِ، لَا يَقْتَصِرُ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِمْ. بَلْ (يُخْرِجُ) حَدِيثَ (مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا) أَيْ: أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ (عَلَيْهِ تَرْكًا) أَيْ: عَلَى تَرْكِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَرِّجُ لِلْمَجْهُولِينَ حَالًا وَعَيْنًا ; لِلِاخْتِلَافِ فِيهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي - وَهُوَ كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ، (مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ) يَعْنِي: إِنْ لَمْ يَرِدْ إِجْمَاعٌ خَاصٌّ، كَمَا قَرَّرُهُ شَيْخُنَا ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ كُلَّ طَبَقَةٍ مِنْ نُقَّادِ الرِّجَالِ لَا تَخْلُو مِنْ مُتَشَدِّدٍ وَمُتَوَسِّطٍ ; فَمِنَ الْأُولَى شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ أَشَدُّهُمَا. وَمِنَ الثَّانِيَةِ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَيَحْيَى أَشَدُّهُمَا، وَمِنَ الثَّالِثَةِ ابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ أَشَدُّهُمَا، وَمِنَ الرَّابِعَةِ أَبُو حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ أَشَدُّهُمَا. فَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا يُتْرَكُ الرَّجُلُ عِنْدِي حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ، فَأَمَّا إِذَا وَثَّقَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يُتْرَكُ ; لِمَا عُرِفَ مِنْ تَشْدِيدِ يَحْيَى وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي النَّقْدِ. وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ ابْنِ مَنْدَهْ: " وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ يَأْخُذُ مَأْخَذَ النَّسَائِيِّ " يَعْنِي فِي عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِالثِّقَةِ، وَالتَّخْرِيجِ لِمَنْ ضُعِّفَ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ صَنِيعُهُمَا. وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لَهُ حِكَايَةً عَنِ ابْنِ مَنْدَهْ: إِنَّ شَرْطَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ إِخْرَاجُ حَدِيثِ قَوْمٍ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِمْ، إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِاتِّصَالِ الْإِسْنَادِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَلَا إِرْسَالٍ - مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، وَإِلَّا فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ أَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، تَجَنَّبَ النَّسَائِيُّ إِخْرَاجَ حَدِيثِهِ، بَلْ تَجَنَّبَ النَّسَائِيُّ إِخْرَاجَ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ رِجَالِ الشَّيْخَيْنِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّ شَرْطَهُ فِي الرِّجَالِ أَشَدُّ مِنْ شَرْطِهِمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْتَصَرَ التَّاجُ التِّبْرِيزِيُّ لِلْبَغَوِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، بَلْ تَخْطِئَةُ الْمَرْءِ فِي اصْطِلَاحِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْبَغَوِيُّ قَدْ صَرَّحَ فِي ابْتِدَاءِ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِالصِّحَاحِ كَذَا، وَبِالْحِسَانِ كَذَا، وَمَا قَالَ: أَرَادَ الْمُحَدِّثُونَ بِهِمَا كَذَا، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ خُصُوصًا. وَقَدْ قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ غَرِيبٍ، أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَأَعْرَضْتُ عَمَّا كَانَ مُنْكَرًا أَوْ مَوْضُوعًا، وَأَيَّدَهُ شَيْخُنَا بِحُكْمِهِ فِي قِسْمِ الْحِسَانِ بِصِحَّةِ بَعْضِ أَحَادِيثِهِ تَارَةً، إِمَّا نَقْلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَضَعَّفَهُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ; إِذْ لَوْ أَرَادَ بِالْحِسَانِ الِاصْطِلَاحَ الْعَامَّ، مَا نَوَّعَهُ. وَلَا تَضُرُّ الْمُنَاقَشَةُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ مَا يَكُونُ مُنْكَرًا بَعْدَ الْتِزَامِهِ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ ; كَقَوْلِهِ فِي بَابِ السَّلَامِ مِنَ الْأَدَبِ: وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» . وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَلَا تَصْرِيحُهُ بِالصِّحَّةِ وَالنَّكَارَةِ فِي بَعْضِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْحِسَانَ. كَمَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ حِكَايَةِ تَنْصِيصِ التِّرْمِذِيِّ فِي بَعْضِهَا بِالصِّحَّةِ أَحْيَانًا، وَلَا إِدْخَالُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُسَمَّى بِالصِّحَاحِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي أَحَدِهِمَا مَعَ الْتِزَامِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَأَمْرٍ خَارِجِيٍّ يَرْجِعُ إِلَى الذُّهُولِ وَنَحْوِهِ، بَلْ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا فِي الْعُذْرِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ أَنَّهُ يَذْكُرُ أَصْلَ الْحَدِيثِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا. ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ لَفْظِهِ، وَلَوْ بِزِيَادَةٍ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْخَبَرِ يَكُونُ بَعْضُ مَنْ خَرَّجَ السُّنَنَ أَوْرَدَهَا، فَيُشِيرُ هُوَ إِلَيْهَا لِكَمَالِ الْفَائِدَةِ. (وَمَنْ عَلَيْهَا) أَيِ: السُّنَنِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا (أَطْلَقَ الصَّحِيحَا) كَالْحَاكِمِ وَالْخَطِيبِ ; حَيْثُ أَطْلَقَا الصِّحَّةَ عَلَى التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَنْدَهْ وَابْنِ السَّكَنِ عَلَى كِتَابَيْ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَالْحَاكِمِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ عَلَى كِتَابِ النَّسَائِيِّ ; حَتَّى شَذَّ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ، فَفَضَّلَهُ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي " أَصَحِّ كُتُبِ الْحَدِيثِ " مَعَ رَدِّهِ. [اتِّفَاقَ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَلَى صِحَّةِ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ] بَلْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ اتِّفَاقَ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَلَى صِحَّةِ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ (فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلًا صَرِيحًا) ; لِأَنَّ فِيهَا مَا صَرَّحُوا بِكَوْنِهِ ضَعِيفًا أَوْ مُنْكَرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الضَّعِيفِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ بِانْقِسَامِ مَا فِي كِتَابِهِ إِلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ مُصَرِّحٌ فِيمَا فِي كِتَابِهِ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. وَأَمَّا حَمْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِهِ لِلتِّرْمِذِيِّ قَوْلَ السِّلَفِيِّ عَلَى مَا لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ فِيهِ مِنْ مُخَرِّجِهَا وَغَيْرِهِ بِالضَّعْفِ - فَيَقْتَضِي كَمَا قَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ - أَنَّ مَا كَانَ فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَلَمْ يُصَرَّحْ بِضَعْفِهِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ صَحِيحًا، بَلْ فِي كُتُبِ السُّنَنِ أَحَادِيثُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا التِّرْمِذِيُّ أَوْ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ ضَعِيفَةٌ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: مُرَادُ السِّلَفِيِّ: أَنَّ مُعْظَمَ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ يُحْتَجُّ بِهِ، أَيْ: صَالِحٌ لَأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ ; لِئَلَّا يَرِدَ عَلَى إِطْلَاقِ عِبَارَتِهِ الْمَنْسُوخُ أَوِ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الضَّعِيفَ الَّذِي فِيهَا ; لِقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعَيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكِتَابُ النَّسَائِيِّ أَقَلُّهَا بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثًا ضَعِيفًا ; وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشَيْدٍ: إِنَّهُ أَبْدَعُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي السُّنَنِ تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهَا تَرْصِيفًا، وَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، مَعَ حَظٍّ كَبِيرٍ مِنْ بَيَانِ الْعِلَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ مِنْ شُيُوخِ ابْنِ الْأَحْمَرِ: إِنَّهُ أَشْرَفُ الْمُصَنَّفَاتِ كُلِّهَا، وَمَا وُضِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ. انْتَهَى. وَيُقَارِبُهُ كِتَابُ أَبِي دَاوُدَ، بَلْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يُصَنَّفْ فِي عِلْمِ الدِّينِ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَصْفًا، وَأَكْثَرُ فِقْهًا مِنَ الصَّحِيحَيْنِ. وَيُقَارِبُهُ كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ كَانَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ قَالَ: هُوَ عِنْدِي أَنْفَعُ مِنْ كِتَابَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَقِفُ عَلَى الْفَائِدَةِ مِنْهَا إِلَّا الْمُتَبَحِّرُ الْعَالِمُ، وَهُوَ يَصِلُ إِلَى الْفَائِدَةِ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. فَأَمَّا كِتَابُ ابْنِ مَاجَهْ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِأَحَادِيثَ عَنْ رِجَالٍ مُتَّهَمِينِ بِالْكَذِبِ وَسَرِقَةِ الْأَحَادِيثِ، مِمَّا حُكِمَ عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ أَوِ السُّقُوطِ أَوِ النَّكَارَةِ، حَتَّى كَانَ الْعَلَائِيُّ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الدَّارِمِيِّ سَادِسًا لِلْخَمْسَةِ بَدَلَهُ، فَإِنَّهُ قَلِيلُ الرِّجَالِ الضُّعَفَاءِ، نَادِرُ الْأَحَادِيثِ الْمُنْكَرَةِ وَالشَّاذَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُرْسَلَةً وَمَوْقُوفَةً، فَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْهُ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَرُزَيْنٍ السَّرَقُسْطِيِّ وَتَبِعَهُ الْمَجْدُ بْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَكَذَا غَيْرُهُ جَعَلُوا السَّادِسَ الْمُوَطَّأَ. وَلَكِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَضَافَ ابْنَ مَاجَهْ إِلَى خَمْسَةٍ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ ; حَيْثُ أَدْرَجَهُ مَعَهَا فِي الْأَطْرَافِ، وَكَذَا فِي شُرُوطِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ، ثُمَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي كِتَابِ (الْكَمَالِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ) الَّذِي هَذَّبَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَقَدَّمُوهُ عَلَى الْمُوَطَّأِ ; لِكَثْرَةِ زَوَائِدِهِ عَلَى الْخَمْسَةِ، بِخِلَافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الْمُوَطَّأِ. (وَدُونَهَا) أَيْ: كُتُبِ السُّنَنِ (فِي رُتْبَةٍ) أَيْ: رُتْبَةِ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ بَقِيَّةِ الْمُبَوِّبِينَ (مَا جُعِلَا عَلَى الْمَسَانِيدِ) الَّتِي مَوْضُوعُهَا جَعْلُ حَدِيثِ كُلِّ صَحَابِيٍّ عَلَى حِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالْمُحْتَجِّ بِهِ، (فَ) بِهَذَا السَّبَبِ (يُدْعَى) فِيهِ الْحَدِيثُ الدَّعْوَةَ (الْجَفَلَا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْفَاءِ مَقْصُورًا، أَيِ: الْعَامَّةَ لِلْمُحْتَجِّ بِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، يُقَالُ: دَعَا فُلَانٌ الْجَفَلَا، إِذَا عَمَّ بِدَعْوَتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَالنَّقَرَى وَزْنُهُ أَيْضًا هِيَ الْخَاصَّةُ. وَكَانَ الرُّكُونُ لَأَجْلِ هَذَا لِمَا يُورِدُ فِي تِلْكَ أَكْثَرَ، لَا سِيَّمَا وَاسْتِخْرَاجُ الْحَاجَةِ مِنْهَا أَيْسَرُ، وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَةُ هَذِهِ بِجَلَالَةِ مُؤَلِّفِيهَا، وَتَقَدُّمِ تَأْرِيخِ مَنْ سَأُسَمِّيهِ مِنْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّصْنِيفِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالتَّرَاجِمِ. فَقَالَ: التَّرَاجِمُ يُذْكَرُ فِيهَا مَا رَوَى الصَّحَابِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ: ذِكْرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُتَرْجِمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْنَدَ، فَيَقُولُ: ذِكْرُ مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فَيُورِدُ جَمِيعَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا كَانَ أَوْ سَقِيمًا. وَأَمَّا الْأَبْوَابُ فَإِنَّ مُصَنِّفَهَا يَقُولُ: كِتَابُ الطَّهَارَةِ مَثَلًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: ذِكْرُ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ يُورِدُهَا. انْتَهَى. [ الكلام على المسانيد ] 82 - كَمُسْنَدِ الطَّيَالِسِي وَأَحْمَدَا ... وَعَدُّهُ لِلدَّارِمِيِّ انْتُقِدَا. وَالْمَسَانِيدُ كَثِيرَةٌ (كَمُسْنَدِ) الْحَافِظِ الثِّقَةِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْجَارُودِ الْقُرَشِيِّ الْفَارِسِيِّ الْأَصْلِ الْبَصْرِيِّ (الطَّيَالِسِيِّ) نِسْبَةً إِلَى الطَّيَالِسَةِ الَّتِي تُجْعَلُ عَلَى الْعَمَائِمِ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ (203 أَوْ 204 هـ) عَنْ نَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً. وَهَذَا الْمُسْنَدُ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ، فَقَدْ كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ تَصْنِيفِهِ هُوَ لَهُ، إِنَّمَا تَوَلَّى جَمْعَهُ بَعْضُ حُفَّاظِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الْأَصْبَهَانِيِّينَ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ الرَّاوِي عَنْهُ. وَكَمُسْنَدِ أَبِي مُحَمَّدٍ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ مُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي يَعْقُوبَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَالْإِمَامِ الْمُبَجَّلِ (أَحْمَدَ) الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الْوَفَيَاتِ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْكَشِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَاصَرَهُمْ، أَوْ كَانَ بَعْدَهُمْ. وَلَكِنْ (عَدَّهُ) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِهِ (لِلدَّارِمِيِّ) أَيْ: لِمُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ، نِسْبَةً إِلَى دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ، بَطْنٍ كَبِيرٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ، تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَدُفِنَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (255هـ) ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، فِي الْمَسَانِيدِ (انْتُقِدَا) عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ عَلَى الْأَبْوَابِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْتُهُ قَرِيبًا، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ - عَلَى بُعْدٍ - أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مُسْنَدَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَصَانِيفِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ صَنَّفَ الْمُسْنَدَ وَالتَّفْسِيرَ وَالْجَامِعَ. وَكَذَا انْتَقَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ - كَمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّ الشَّارِحِ - تَفْضِيلَ كُتُبِ السُّنَنِ عَلَى " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ هَذِهِ الْمَسَانِيدِ بَلْ مُطْلَقًا، وَأَحْسَنُهَا سِيَاقًا، مُتَمَسِّكًا بِكَوْنِهِ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إِلَّا مَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَدَمُ اسْتِيعَابِ مَا عِنْدَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَاهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، وَقَالَ: مَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الصِّحَّةَ. وَالْحَقُّ أَنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً، وَبَعْضَهَا أَشَدُّ فِي الضَّعْفِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي " مَوْضُوعَاتِهِ "، وَلَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَهُ فِي بَعْضِهَا الشَّارِحُ وَفِي سَائِرِهَا أَوْ جُلِّهَا شَيْخُنَا، وَحَقَّقَ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ نَفْيَ الْوَضْعِ عَنْ جَمِيعِ أَحَادِيثِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ انْتِقَاءً وَتَحْرِيرًا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ تَلْتَزِمِ الصِّحَّةَ فِي جَمْعِهَا. قَالَ: وَلَيْسَتِ الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَكْثَرِ ضَعْفًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَالتِّرْمِذِيِّ عَلَيْهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَسَبِيلُ مَنْ أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ مِنَ السُّنَنِ، لَا سِيَّمَا ابْنُ مَاجَهْ وَمُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِمَّا الْأَمْرُ فِيهَا أَشَدُّ، أَوْ بِحَدِيثٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَاحِدٍ ; إِذْ جَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ مِنْ جَمْعِهِ الصِّحَّةُ وَلَا الْحُسْنُ خَاصَّةً. وَهَذَا الْمُحْتَجُّ إِنْ كَانَ مُتَأَهِّلًا لِمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِحَدِيثٍ مِنَ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ فِي اتِّصَالِ إِسْنَادِهِ، وَحَالِ رُوَاتِهِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِحَدِيثٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ، حَتَّى يُحِيطَ عِلْمًا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ لِدَرْكِ ذَلِكَ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنْ وَجَدَ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ صَحَّحَهُ أَوْ حَسَّنَهُ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ، فَلَا يُقْدِمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَيَكُونُ كَحَاطِبِ لَيْلٍ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [عَدَمُ التَّلَازُمِ بَيْنَ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ] 83 - وَالْحُكْمُ لِلْإِسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أَوْ ... بِالْحُسْنِ دُونَ الْحُكْمِ لِلْمَتْنِ رَأَوْا 84 - وَاقْبَلْهُ إِنْ أَطْلَقَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ ... وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ 85 - وَاسْتُشْكِلَ الْحُسْنُ مَعَ الصِّحَّةِ فِي ... مَتْنٍ فَإِنْ لَفْظًا يَرِدْ فَقُلْ صِفِ 86 - بِهِ الضَّعِيفَ أَوْ يَرِدْ مَا يَخْتَلِفْ ... سَنَدُهُ فَكَيْفَ إِنْ فَرْدٌ وُصِفْ 87 - وَلَأَبِي الْفَتْحِ فِي الِاقْتِرَاحِ ... إِنَّ انْفِرَادَ الْحُسْنِ ذُو اصْطِلَاحِ 88 - وَإِنْ يَكُنْ صَحَّ فَلَيْسَ يَلْتَبِسْ ... كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنٌ لَا يَنْعَكِسْ 89 - وَأَوْرَدُوا مَا صَحَّ مِنْ أَفْرَادِ ... حَيْثُ اشْتَرَطْنَا غَيْرَ مَا إِسْنَادِ. [عَدَمُ التَّلَازُمِ بَيْنَ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ] وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ بِانْفِرَادِهِ، نَاسَبَ إِرْدَافَهُمَا بِمَسْأَلَتَيْنِ مُتَعَلِّقَتَيْنِ بِهِمَا ; فَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَالْحُكْمُ) الصَّادِرُ مِنَ الْمُحَدِّثِ (لِلْإِسْنَادِ بِالصِّحَّةِ) كَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ (أَوْ بِالْحُسْنِ) كَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ (دُونَ الْحُكْمِ) مِنْهُ بِذَلِكَ (لِلْمَتْنِ) كَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ. كَمَا (رَأَوْا) حَسَبَ مَا اقْتَضَاهُ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ ; إِذْ قَدْ يَصِحُّ السَّنَدُ أَوْ يَحْسُنُ ; لِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ مِنَ الِاتِّصَالِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالضَّبْطِ دُونَ الْمَتْنِ ; لِشُذُوذٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَلَا يَخْدِشُ فِي عَدَمِ التَّلَازُمِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، مُرَادُهُمْ بِهِ اتِّصَالُ سَنَدِهِ مَعَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ فِي الظَّاهِرِ لَا قَطْعًا ; لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ الْحُكْمَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَسَانِيدِ ذَاكَ الْحَدِيثِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالتَّقْيِيدُ بِالْإِسْنَادِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي صِحَّةِ الْمَتْنِ وَلَا ضَعْفِهِ، بَلْ هُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، إِنْ صَدَرَ مِمَّنْ لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ عَمَلٌ فِيهِ، أَوِ اطَّرَدَ فِيمَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِحَّةُ مَتْنِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مُنْحَطَّ الرُّتْبَةِ عَنِ الْحُكْمِ لِلْحَدِيثِ. (وَاقْبَلْهُ) أَيِ: الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ فِي الْمَتْنِ أَيْضًا (إِنْ أَطْلَقَهُ) أَيِ: الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (مَنْ يُعْتَمَدْ) أَيْ: مِمَّنْ عُرِفَ بِاطِّرَادِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الْحَامِلُ لِابْنِ الصَّلَاحِ عَلَى التَّفْرِقَةِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْمُعْتَمَدَ مِنْهُمْ. . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 إِلَى آخِرِهِ. فَكَأَنَّهُ خَصَّ الْأَوَّلَ بِمَنْ لَمْ يُصَنِّفْ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ الْكَلَامُ عَلَى الْأَحَادِيثِ إِجَابَةً لِمَنْ سَأَلَهُ، أَوْ صَنَّفَ لَا عَلَى الْأَبْوَابِ، بَلْ عَلَى الْمَشْيَخَاتِ وَالْمَعَاجِمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ، فَقَدْ قِيلَ بِنَحْوِهِ فِي الْعَزْوِ لَأَصْلِ الْمُسْتَخْرَجَاتِ مِمَّا يُنْقَلُ مِنْهَا بِدُونِ مُقَابَلَةٍ عَلَيْهِ ; حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصْنِيفِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَغَيْرِهَا. وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ الصَّلَاحِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ ; إِذْ غَيْرُ الْمُعْتَمَدِ لَا يُعْتَمَدُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْكُلُّ مُعْتَمَدُونَ ; غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ اعْتِمَادًا. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْغَايَةِ فِي الْعُمْدَةِ بِالْجِهْبِذِ (وَ) ذَلِكَ حَيْثُ (لَمْ يُعَقِّبْهُ) أَيِ: الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ (بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ) بِهِ الْمَتْنُ إِمَّا نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ بِنَقْدِهِ هُوَ وَتَصَرُّفِهِ ; إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ الْمُصَنِّفِ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - الْحُكْمُ لَهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، أَيْ: فِي نَفْسِ الْمَتْنِ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ، أَيْ: فِي هَذَا الْمَتْنِ خَاصَّةً، نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمُصَنِّفَ إِنَّمَا أَطْلَقَ بَعْدَ الْفَحْصِ عَنِ انْتِقَاءِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عَدَمُ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ مُطْلَقًا، مَا اشْتُرِطَ عَدَمُهُ فِي الصَّحِيحِ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الْحُكْمُ لِلْإِسْنَادِ بِالضَّعْفِ ; إِذْ قَدْ يَضْعُفُ لِسُوءِ حِفْظٍ وَانْقِطَاعٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلِلْمَتْنِ طَرِيقٌ آخَرُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، كَمَا سَيَأْتِي أَوَّلَ التَّنْبِيهَاتِ التَّالِيَةِ لِلْمَقْلُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُحَدِّثَ الْمُعْتَمَدَ لَوْ لَمْ يَفْحَصْ عَنِ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، مَا أَطْلَقَ. ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ مَا تَقَرَّرَ قَدْ يَدِّعِي أَرْجَحِيَّةَ مَا نَصَّ فِيهِ عَلَى الْمَتْنِ ; لِمَا عُلِمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِالْعِبَارَةِ وَالنَّصِّ عَلَى مَا هُوَ بِالظُّهُورِ وَاللُّزُومِ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِعَدَمِ التَّلَازُمِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «تَسَحَّرُوا ; فِإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَأَحْسَبُ الْغَلَطَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَكَذَا أَوْرَدَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ غَيْرَ حَدِيثٍ يَحْكُمُ عَلَى إِسْنَادِهِ بِالصِّحَّةِ، وَعَلَى الْمَتْنِ بِالْوَهَاءِ ; لِعِلَّتِهِ أَوْ شُذُوذِهِ، إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَذَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالْمِزِّيِّ ; حَيْثُ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْحُكْمُ بِصَلَاحِيَةِ الْإِسْنَادِ وَنَكَارَةِ الْمَتْنِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ» ، وَقَالَ بَعْدَهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَنَحْوُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ، مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَفَعَهُ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ» . . . "، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَالَ عَقِبَهُ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَلَكِنْ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِقَوِيٍّ. [اجْتِمَاعُ الصِّحَّةِ وَالْحُسْنِ] [اجْتِمَاعُ الصِّحَّةِ وَالْحُسْنِ] (وَ) الثَّانِيَةُ (اسْتُشْكِلَ الْحُسْنُ) الْوَاقِعُ جَمْعُهُ فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ كَثِيرًا وَغَيْرِهِ كَالْبُخَارِيِّ (مَعَ الصِّحَّةِ فِي مَتْنٍ) وَاحِدٍ، كَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ; لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ قَاصِرٌ عَنِ الصَّحِيحِ، فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ جَمْعٌ بَيْنَ نَفْيِ ذَلِكَ الْقُصُورِ وَإِثْبَاتِهِ، وَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِلُ أَرَادَ الْحُسْنَ الِاصْطِلَاحِيَّ أَوِ اللُّغَوِيَّ. (فَإِنْ لَفْظًا يُرِدْ) أَيْ: فَإِنْ يُرِدِ الْقَائِلُ بِهِ اللَّفْظَ ; لِكَوْنِهِ مِمَّا فِيهِ بُشْرَى لِلْمُكَلَّفِ، وَتَسْهِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَيْسِيرٌ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَا يَأْبَاهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ اللُّغَوِيُّ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ غَيْرُ مُسْتَنْكَرِ الْإِرَادَةِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. وَلَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ حُسْنُ اللَّفْظِ فَقَطْ، (فَقُلْ صِفْ بِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أَيْ: بِالْحَسَنِ (الضَّعِيفَ) وَلَوْ بَلَغَ رُتْبَةَ الْوَضْعِ، يَعْنِي كَمَا هُوَ قَصْدُ الْوَاضِعِينَ غَالِبًا، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِذَا جَرَوْا عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ، بَلْ صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِطْلَاقُهُ فِي الْمَوْضُوعِ، يَعْنِي وَلَوْ خَرَجُوا عَنِ اصْطِلَاحِهِمْ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ فِي لَبْسٍ، وَأَيْضًا فَحُسْنُ لَفْظِهِ مُعَارَضٌ بِقُبْحِ الْوَضْعِ أَوِ الضَّعْفِ. لَكِنْ أَجَابَ بِمَنْعِ وُرُودِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ، الَّذِي هُوَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَلِذَلِكَ تَبِعَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ فِيهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي أَنَّ تَقْيِيدَ التِّرْمِذِيِّ بِالْإِسْنَادِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ بِحُسْنِ إِسْنَادِهِ - يَدْفَعُ إِرَادَةَ حُسْنِ اللَّفْظِ، وَلَكِنْ لَا يَأْتِي هَذَا إِذَا مَشَيْنَا عَلَى أَنَّ تَعْرِيفَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَقُولُ فِيهِ، حَسَنٌ فَقَطْ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ فِي دَفْعِ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُ حَسَنُ الْأَلْفَاظِ، بَلِيغُ الْمَعَانِي، يَعْنِي فَلِمَ يَخُصَّ بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، فَهُوَ كَذَلِكَ جَزْمًا، لَكِنَّ فِيهِ مَا هُوَ فِي التَّرْهِيبِ وَنَحْوِهِ ; كَـ «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» وَمَا هُوَ فِي التَّرْغِيبِ وَالْفَضَائِلِ ; كَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنَ النَّصِّ فِي الثَّانِي وَنَحْوِهِ عَلَى الْحُسْنِ اللُّغَوِيِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ فِي التِّرْمِذِيِّ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِيهِ، وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ - كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ - أَنَّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بِالتَّرْهِيبِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ بِالَأَسَالِيبِ الْبَدِيعَةِ. وَحِينَئِذٍ فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ، (أَوْ) إِنْ (يُرِدْ مَا يَخْتَلِفُ سَنَدُهُ) ; بِأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بِإِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَسَنٌ، وَالْآخَرُ صَحِيحٌ، فَيَسْتَقِيمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْإِسْنَادَيْنِ. وَهَذَا الْجَوَابُ لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ فِيمَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ لِاخْتِلَافِ مَخْرَجِهِ (فَكَيْفَ) يُمْكِنُ (إِنْ) حَدِيثٌ (فَرْدٌ وُصِفْ) بِذَلِكَ؟ ! كَمَا يَقَعُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ نَفْسِهِ ; حَيْثُ يَقُولُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَوْ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ. وَتَبِعَهُ فِي رَدِّ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ تِلْمِيذُهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، قَالَ: وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ أَيِ: الْجَامِعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، لَحَسُنَ أَنْ يَأْتِيَ بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَيَقُولَ: حَسَنٌ وَصَحِيحٌ ; لِتَكُونَ أَوْضَحَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، أَوِ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. (وَلِأَبِي الْفَتْحِ) التَّقِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ أَبِي الطَّاعَةِ الْقُشَيْرِيِّ الْمَنْفَلُوطِيِّ ثُمَّ الْقَاهِرِيِّ الْمَالِكِيِّ ثُمَّ الشَّافِعِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ الشَّهِيرُ أَعْلَمُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِفِقْهِ الْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ. وَمَعْرِفَةِ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ، مَعَ تَقَدُّمِهِ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْوِلَايَةِ ; بِحَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْخَوَاطِرِ، وَنَاهِيكَ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ: مَا تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ، وَلَا فَعَلْتُ فِعْلًا، إِلَّا أَعْدَدْتُ لِذَلِكَ جَوَابًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. ذُو التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْفُنُونِ، وَأَحَدُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ مِصْرَ، وَفَاقَ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَالصَّلَابَةِ فِي الْحُكْمِ، وَعَدَمِ الْمُحَابَاةِ، بَلْ كَانَ إِذَا تَخَاصَمَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ، بَالَغَ فِي التَّشَدُّدِ وَالتَّثَبُّتِ، فَإِنْ سَمِعَ مَا يَكْرَهُهُ عَزَلَ نَفْسَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا وَهُوَ يُعَادُ. وَكَانَ يَقُولُ: ضَابِطُ مَا يُطْلَبُ مِنِّي مِمَّا يَجُوزُ شَرْعًا لَا أَبْخَلُ بِهِ. وَاسْتَمَرَّ فِي الْقَضَاءِ حَتَّى مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ (702 هـ) ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَمَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةِ (625 هـ) (فِي كِتَابِهِ الِاقْتِرَاحِ) فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي نَظَمَهُ النَّاظِمُ وَشَرَحْتُهُ، بَعْدَ رَدِّهِمَا - كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تَقَدَّمَ - فِي الْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ مَا حَاصِلُهُ (أَنَّ انْفِرَادَ الْحُسْنِ) فِي سَنَدٍ أَوْ مَتْنٍ، الْحَسَنُ فِيهِ (ذُو اصْطِلَاحِ) أَيِ: الِاصْطِلَاحِيُّ الْمُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُصُورُ عَنِ الصِّحَّةِ. (وَإِنْ يَكُنِ) الْحَدِيثُ (صَحَّ) أَيْ: وُصِفَ مَعَ الْحُسْنِ بِالصِّحَّةِ (فَلَيْسَ يَلْتَبِسْ) حِينَئِذٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، بَلِ الْحُسْنُ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ تَبَعًا لِلصِّحَّةِ. وَشَرْحُ هَذَا وَبَيَانُهُ: أَنَّ هَهُنَا صِفَاتٍ لِلرُّوَاةِ تَقْتَضِي قَبُولَ الرِّوَايَةِ، وَلِتِلْكَ الصِّفَاتِ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ; كَالتَّيَقُّظِ وَالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ مَثَلًا، وَوُجُودُ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا كَالصِّدْقِ مَثَلًا وَعَدَمِ التُّهْمَةِ بِالْكَذِبِ - لَا يُنَافِيهِ وُجُودُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ; كَالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِذَا وُجِدَتِ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا، لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ وُجُودَ الدُّنْيَا ; كَالْحِفْظِ مَعَ الصِّدْقِ. فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إِنَّهُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الصِّفَةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الصِّدْقُ مَثَلًا، صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الْعُلْيَا، وَهِيَ الْحِفْظُ وَالْإِتْقَانُ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا (كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنٌ لَا يَنْعَكِسُ) أَيْ: وَلَيْسَ كُلُّ حَسَنٍ صَحِيحًا، وَيَتَأَيَّدُ الشِّقُّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَسَبَقَهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ، فَقَالَ: لَمْ يَخُصَّ التِّرْمِذِيُّ - يَعْنِي فِي تَعْرِيفِهِ السَّابِقِ - الْحَسَنَ بِصِفَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنِ الصَّحِيحِ ; فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا إِلَّا هُوَ غَيْرُ شَاذٍّ، وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا حَتَّى تَكُونَ رُوَاتُهُ غَيْرَ مُتَّهَمِينَ، بَلْ ثِقَاتٍ. قَالَ: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُسْنَ عِنْدَهُ صِفَةٌ لَا تَخُصُّ هَذَا الْقِسْمَ، بَلْ قَدْ يَشْرِكُهُ فِيهَا الصَّحِيحُ، فَكُلُّ صَحِيحٍ عِنْدَهُ حَسَنٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَقُولُ فِي حَدِيثٍ يُصَحِّحُهُ إِلَّا: حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَ) لَكِنْ قَدْ (أَوْرَدُوا) أَيِ: ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ - كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْقِسْمِ - (مَا صَحَّ مِنْ) أَحَادِيثَ (أَفْرَادٍ) ، أَيْ: لَيْسَ لَهَا إِلَّا إِسْنَادٌ وَاحِدٌ ; لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي الصَّحِيحِ (حَيْثُ اشْتَرَطْنَا) كَالتِّرْمِذِيِّ فِي الْحَسَنِ (غَيْرَ مَا إِسْنَادِ) أَيْ: غَيْرَ إِسْنَادٍ، فَانْتَفَى حِينَئِذٍ - كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ - أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنًا. قَالَ: نَعَمْ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ كُلُّ حَسَنٍ صَحِيحًا، صَحِيحٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ تَعَقُّبٌ وَارِدٌ، وَرَدٌّ وَاضِحٌ. انْتَهَى. لَكِنْ قَدْ سَلَفَ قَوْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ نَفْسِهِ: أَنَّ التِّرْمِذِيَّ عَرَّفَ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْحَسَنِ ; يَعْنِي: فَمَا عَدَاهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ، كَالصَّحِيحِ. وَحِينَئِذٍ فَالْعُمُومُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقٌ، وَبِالْحَمْلِ عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ وَجِيهًا فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ. هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا صَرَّحَ بِأَنَّ جَوَابَ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ مَا قَالَهُ أَيْضًا - كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخَطَّابِيِّ - أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ، وَلِذَا مَشَى فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ عَلَى ثَانِي الْأَجْوِبَةِ، إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّفَرُّدُ. وَذَكَرَ آخَرَ عِنْدَ التَّفَرُّدِ أَصْلُهُ لِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ، وَعِبَارَتُهُ: وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَرَدُّدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي حَالِ نَاقِلِهِ اقْتَضَى لِلْمُجْتَهِدِ أَلَّا يَصِفَهُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَيُقَالُ فِيهِ: " حَسَنٌ " بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، " صَحِيحٌ " بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ التَّرَدُّدِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ: حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ، وَهَذَا كَمَا حَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ، يَعْنِي مِنَ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، دُونَ مَا قِيلَ فِيهِ: " صَحِيحٌ " ; لِأَنَّ الْجَزْمَ أَقْوَى مِنَ التَّرَدُّدِ، وَهَذَا حَيْثُ التَّفَرُّدِ، وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الْوَصْفَيْنِ مَعًا عَلَى الْحَدِيثِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ، وَالْآخَرُ حَسَنٌ. وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ فَوْقَ مَا قِيلَ فِيهِ: " صَحِيحٌ " فَقَطْ، إِذَا كَانَ فَرْدًا ; لِأَنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تُقَوِّيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 [الحديث الضَّعِيفُ] الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الضَّعِيفُ. 90 - أَمَّا الضَّعِيفُ فَهْوَ مَا لَمْ يَبْلُغِ ... مَرْتَبَةَ الْحُسْنِ وَإِنْ بَسْطٌ بُغِي 91 - فَفَاقِدٌ شَرْطَ قَبُولٍ قِسْمُ ... وَاثْنَيْنِ قِسْمٌ غَيْرُهُ وَضَمُّ 92 - سِوَاهُمَا فَثَالِثٌ وَهَكَذَا ... وَعُدْ لِشَرْطٍ غَيْرِ مَبْدُوءٍ فَذَا 93 - قِسْمٌ سِوَاهَا ثُمَّ زِدْ غَيْرَ الَّذِي ... قَدَّمْتُهُ ثُمَّ عَلَى ذَا فَاحْتَذِي 94 - وَعَدَّهُ الْبُسْتِيُّ فِيمَا أَوْعَى ... لِتِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ نَوْعَا. (أَمَّا الضَّعِيفُ فَهُوَ مَا لَمْ يَبْلُغِ مَرْتَبَةَ الْحَسَنِ) وَلَوْ بِفَقْدِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا احْتِيَاجَ لِضَمِّ الصَّحِيحِ إِلَيْهِ ; فَإِنَّهُ حَيْثُ قَصُرَ عَنِ الْحَسَنِ، كَانَ عَنِ الصَّحِيحِ أَقْصَرَ، وَلَوْ قُلْنَا بِتَبَايُنِهِمَا. (وَإِنْ بَسْطٌ بُغِي) أَيْ: وَإِنْ طُلِبَ بَسْطٌ وَتَرْكِيبٌ لَأَقْسَامِهِ (فَفَاقِدُ شَرْطِ قَبُولٍ قِسْمُ) أَيْ: شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْمَقْبُولِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَهِيَ سِتَّةٌ: اتِّصَالُ السَّنَدِ، وَالْعَدَالَةُ، وَالضَّبْطُ، وَنَفْيُ الشُّذُوذِ، وَنَفْيُ الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ، وَالْعَاضِدُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، الَّتِي بِالنَّظَرِ لِانْتِفَائِهَا اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا تَتَعَدَّدُ أَقْسَامُهُ، فَفَقْدُ الِاتِّصَالِ مَثَلًا قِسْمٌ تَحْتَهُ ثَلَاثَةٌ: الْمُرْسَلُ، وَالْمُنْقَطِعُ، وَالْمُعْضَلُ. (وَ) فَاقِدٌ (اثْنَيْنِ) مِنْهَا ; وَهُمَا الِاتِّصَالُ مَعَ آخَرَ مِنَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ (قِسْمٌ غَيْرُهُ) أَيْ: غَيْرُ الْأَوَّلِ تَحْتَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالنَّظَرِ إِلَى الضَّعِيفِ وَالْمَجْهُولِ اللَّذَيْنِ يَشْمَلُهُمَا فَقْدُ الْعَدَالَةِ ; لِأَنَّكَ تَضْرِبُهُمَا، وَالَأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ فَقْدِ الِاتِّصَالِ، فَتَبْلُغُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَمَجْمُوعُ الْقِسْمَيْنِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا. (وَضَمُّ سِوَاهُمَا) أَيْ: وَضَمُّ وَاحِدٍ غَيْرِ فَقْدِ الِاتِّصَالِ، وَالْآخَرِ الَّذِي فُقِدَ مَعَهُ مِنْ بَاقِيهَا إِلَيْهَا بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَفْقُودُ ثَلَاثَةً لَا غَيْرَ (فَ) ذَلِكَ قِسْمٌ (ثَالِثٌ) تَحْتَهُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ ; لِأَنَّكَ تَضُمُّ إِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ قِسْمَيِ الْعَدَالَةِ، وَإِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ الضَّبْطِ، وَإِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ الْعَاضِدِ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الشُّذُوذَ مَرَّةً وَالْعِلَّةَ أُخْرَى. وَإِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ قِسْمَيِ الْعَدَالَةِ، الضَّبْطَ تَارَةً، وَالْعَاضِدَ أُخْرَى، وَكَذَا مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ ; وَهُمَا اجْتِمَاعُ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ، فَتِلْكَ ثَلَاثَةٌ، وَبِهَا يَصِيرُ هَذَا الْقِسْمُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ. (وَهَكَذَا) فَافْعَلْ إِلَى آخِرِ الشُّرُوطِ ; فَخُذْ مَا فُقِدَ فِيهِ شَرْطٌ آخَرُ مَضْمُومًا إِلَى فَقْدِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ تَحْتَهُ اثْنَا عَشَرَ ; لِأَنَّكَ تَضُمُّ إِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ قِسْمَيِ الْعَدَالَةِ، وَإِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ الضَّبْطِ، وَإِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ الِاتِّصَالُ بِأَقْسَامِهِ مَعَ الْعَاضِدِ - الشُّذُوذَ وَالْعِلَّةَ مَعًا. ثُمَّ ارْتَقِ إِلَى مَا فُقِدَ فِيهِ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، مِنْهَا فَقْدُ الِاتِّصَالِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَجْمَعَ أَقْسَامَ الِاتِّصَالِ أَوِ اثْنَيْنِ مِنْهَا. وَكَذَا قِسْمَيِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ تَجْعَلَ مَثَلًا الْمُرْسَلَ مَعَ الْمُنْقَطِعِ أَوْ مَعَ الْمُعْضَلِ، أَوِ الضَّعِيفَ مَعَ الْمَجْهُولِ فِي قِسْمٍ وَاحِدٍ (وَ) بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ (عُدْ) أَيِ: ارْجِعْ (لِشَرْطٍ غَيْرِ مَبْدُوءٍ) بِهِ أَوَّلًا ; وَهُوَ الْعَدَالَةُ مَثَلًا (فَذَا قِسْمٌ سِوَاهَا) أَيِ: الْأَقْسَامِ الْمَاضِيَةِ تَحْتَهُ اثْنَانِ. (ثُمَّ زِدْ) مَعَ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ (غَيْرَ الَّذِي قَدَّمْتَهُ) وَتَحْتَهُ ثَمَانِيَةٌ ; لِأَنَّكَ تَضُمُّ مَا فُقِدَ فِيهِ الضَّبْطُ أَوِ الْعَاضِدُ أَوْ فِيهِ شُذُوذٌ أَوْ عِلَّةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (ثُمَّ عَلَى ذَا) الْحَذْوِ (فَاحْتَذِي) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، أَيِ: اقْتَدِ أَنْتَ. وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تُكْمِلُ هَذَا الْعَمَلَ الثَّانِيَ الَّذِي بَدَأْتَهُ بِفَقْدِ الشَّرْطِ الْمُثَنَّى بِهِ، كَمَا كَمَّلْتَ الْأَوَّلَ ; بِأَنْ تَضُمَّ إِلَى فَقْدِ الْعَدَالَةِ بِقِسْمَيْهَا، وَالْآخَرَ الَّذِي فُقِدَ مَعَهُ مِنْ بَاقِيهَا ثَالِثًا، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْعَمَلُ، ثُمَّ عُدْ فَابْدَأْ بِمَا فُقِدَ فِيهِ شَرْطٌ غَيْرُ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَدَأْتَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي عَمَلَيْكَ، وَهُوَ الضَّبْطُ، ثُمَّ ضُمَّهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ، ثُمَّ إِلَى اثْنَيْنِ، وَهَكَذَا فَافْعَلْ فِي فَقْدِ الْعَاضِدِ، ثُمَّ عُدْ فَخُذِ الشَّاذَّ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ مَضْمُومًا مَعَ الْمُعَلَّلِ، ثُمَّ عُدْ فَخُذِ الْمُعَلَّلَ مُنْفَرِدًا. وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْعَمَلُ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ بِحَسَبِ الْفَرْضِ لَا الْوَاقِعِ لَيْسَ بِآخِرِهِ، بَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 لَوْ نَظَرْنَا إِلَى أَنَّ فَقْدَ الِاتِّصَالِ يَشْمَلُ أَيْضًا الْمُعَلَّقَ وَالْمُنْقَطِعَ الْخَفِيَّ كَالتَّدْلِيسِ، وَفَقْدَ الْعَدَالَةِ يَشْمَلُ الضَّعِيفَ بِكَذِبِ رَاوِيهِ أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ أَوْ فِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ أَوْ جَهَالَةِ عَيْنِهِ أَوْ جَهَالَةِ حَالِهِ، وَفَقْدَ الضَّبْطِ يَشْمَلُ كَثْرَةَ الْغَلَطِ وَالْغَفْلَةَ وَالْوَهْمَ وَسُوءَ الْحِفْظِ وَالِاخْتِلَاطَ وَالْمُخَالَفَةَ - لَزَادَتِ الْأَقْسَامُ كَثِيرًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ لَهُ شُرُوطٌ، فَاعْمَلْ فِي شُرُوطِهِ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَتَضَاعَفْ بِذَلِكَ الْأَقْسَامُ. وَلَكِنْ قَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ - مِنْهُمْ شَيْخُنَا - بِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ التَّعَبِ فِيهِ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ فَائِدَتَهُ كَوْنُ مَا كَثُرَ فَقْدُ شُرُوطِ الْقَبُولِ فِيهِ أَضْعَفُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَقَدْ يَكُونُ الْفَاقِدُ لِلصِّدْقِ وَحْدَهُ أَضْعَفَ مِنْ فَاقِدِ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِمَّا ذُكِرَ ; لِأَنَّ فَقْدَ الْعَدَالَةِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْكَذِبِ. وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: " ثُمَّ مَا عُدِمَ فِيهِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْقَبُولِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَرْذَلُ " - قَدْ لَا يُعَارِضُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ: فَائِدَتُهُ تَخْصِيصُ كُلِّ قَسْمٍ مِنْهَا بِلَقَبٍ ; إِذْ لَمْ يُلَقَّبْ مِنْهَا إِلَّا الْمُرْسَلُ، وَالْمُنْقَطِعُ، وَالْمُعْضَلُ، وَالْمُعَلَّلُ، وَالشَّاذُّ، وَكَذَا لُقِّبَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَقْسَامِ الْمَقْطُوعُ، وَالْمُدْرَجُ، وَالْمَقْلُوبُ، وَالْمُضْطَرِبُ، وَالْمَوْضُوعُ، وَالْمَطْرُوحُ، وَالْمُنْكَرُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الشَّاذِّ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا. وَحِينَئِذٍ فَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْفَنِّ الَّذِي لَا يَتَّسِعُ الْعُمُرُ الطَّوِيلُ لِاسْتِقْصَائِهِ - آكَدُ، وَقَدْ خَاضَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الشَّأْنَ فِي ذَلِكَ، فَتَعِبُوا وَأَتْعَبُوا. وَلَوْ قِيلَ لَأَطْوَلِهِمْ وَأَعْرَضِهِمْ: أَوْجِدْنَا مِثَالًا لِمَا لَمْ يُلَقَّبْ مِنْهَا بِلَقَبٍ خَاصٍّ لَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا، وَوَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَقْسَامِ نِزَاعًا، وَذَلِكَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الشُّذُوذِ مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الضَّعِيفِ أَوِ الْمَجْهُولِ - كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ - غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ الشُّذُوذَ تَفَرُّدُ الثِّقَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَجَوَّزَهُ شَيْخُنَا بِأَنْ يَكُونَ فِي السَّنَدِ ثِقَةٌ خُولِفَ وَضَعِيفٌ. قَالَ: وَفَائِدَةُ ذَلِكَ قُوَّةُ الضَّعْفِ ; لِكَثْرَةِ الْأَسْبَابِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي السَّنَدِ ضَعِيفٌ، يُحَالُ مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِ، نَعَمْ إِنْ عُرِفَ مِنْ خَارِجٍ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنَ الثِّقَةِ، [أَوْ كَانَ الضَّعِيفُ بَعْدَ الرَّاوِي الَّذِي شَذَّ جَاءَ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا] . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا كَانَ التَّقْسِيمُ الْمَطْلُوبُ صَعْبَ الْمَرَامِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، لَخَّصَهُ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ: فَقْدُ الْأَوْصَافِ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي رَاوِيهِ طَعْنٌ، أَوْ فِي سَنَدِهِ سَقْطٌ، فَالسَّقْطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ. وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ وَالْمُعَلَّقُ وَالْمُدَلَّسُ وَالْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ، إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الطَّعْنِ، وَهِيَ تَكْذِيبُ الرَّاوِي، أَوْ تُهْمَتُهُ بِذَلِكَ، أَوْ فُحْشُ غَلَطِهِ، أَوْ مُخَالَفَتُهُ، أَوْ بِدْعَتُهُ، أَوْ جَهَالَةُ عَيْنِهِ، أَوْ جَهَالَةُ حَالِهِ - فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ، مَعَ الِاحْتِرَازِ مِنَ التَّدَاخُلِ الْمُفْضِي إِلَى التَّكْرَارِ، فَإِذَا فَقَدَ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ، حَصَلَتْ مِنْهُ أَقْسَامٌ أُخْرَى، مَعَ الِاحْتِرَازِ مِمَّا ذُكِرَ، ثُمَّ إِذَا فَقَدَ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ. فَكُلُّ مَا عُدِمَتْ فِيهِ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ - يَعْنِي غَيْرَ الْكَذِبِ - يَكُونُ أَخَفَّ مِمَّا عُدِمَتْ فِيهِ صِفَتَانِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصِّفَةُ - يَعْنِي الْمُضَعِّفَةَ - قَدْ جَبَرَتْهَا صِفَةٌ مُقَوِّيَةٌ، يَعْنِي كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: " مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُفَهَا جَابِرٌ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْحَسَنِ ". وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْحَدِيثُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَوْضُوعِ الْمُخْتَلَقِ ; بِأَنْ يَنْعَدِمَ فِيهِ شُرُوطُ الْقَبُولِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَيُوجَدَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ انْعِدَامُهُ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ الطَّعْنِ وَالسِّقْطِ. قَالَ: لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي الشَّارِحَ -: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِالْوَضْعِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، لَكِنَّ مَدَارَ الْحُكْمِ فِي الْأَنْوَاعِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ هُنَا. انْتَهَى. وَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْحُسْنِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَزِيدُ أَقْسَامُهُ جُمْلَةً (وَعَدَّهُ) أَيْ: قِسْمَ الضَّعِيفِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ (الْبُسْتِيُّ) الْمَاضِيَ فِي الصَّحِيحِ، الزَّائِدَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ (فِيمَا أَوْعَى) أَيْ: حَفِظَ وَجَمَعَ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ، لَكِنْ غَيْرَ مُعَيِّنٍ لِتَصْنِيفِ الْوَاقِعِ فِيهِ. وَزَعَمَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي فِيهِ إِنَّمَا هُوَ تَقْسِيمُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِتَضْعِيفِ الرُّوَاةِ، لَا تَقْسِيمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَهُوَ الْتِبَاسٌ بَعِيدٌ، خُصُوصًا وَعِدَّةُ مَا ذَكَرَهُ عِشْرُونَ قِسْمًا (لِتِسْعَةٍ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ (وَأَرْبَعِينَ نَوْعًا) خَمْسِينَ قِسْمًا إِلَّا وَاحِدًا، كَمَا هُوَ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَخْصَرُ، مَعَ مُوَافَقَتِهَا لِاصْطِلَاحِ الْحِسَابِ فِي تَقْدِيمِ الْعَطْفِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِيَةُ أَسْلَمُ مِنْ عُرُوضِ التَّصْحِيفِ، وَمِنْ دُخُولِ اللَّامِ ; لِكَوْنِ " عَدَّهُ " مُتَعَدِّيًا مَعَ نُطْقِ الْقُرْآنِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] ، وَ {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [الْعَنْكَبُوتِ: 14] . عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ النَّاظِمُ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - أَنْ يَقُولَ: " مُسْتَوْعِبًا خَمْسِينَ إِلَّا نَوْعًا "، وَلِلْخَوْفِ مِنَ التَّصْحِيفِ أَيْضًا ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ لِلَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا» ، إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَسَيَأْتِي قُبَيْلَ " مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ " مَسَائِلُ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَا بَأْسَ بِاسْتِحْضَارِهَا. [تَتِمَّةٌ] : أَفْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ هَذَا نَوْعًا آخَرَ سَمَّاهُ الْمُضَعَّفَ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُجْتَمَعْ عَلَى ضَعْفِهِ بَلْ فِيهِ إِمَّا فِي الْمَتْنِ أَوْ فِي السَّنَدِ تَضْعِيفٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَتَقْوِيَةٌ لِآخَرِينَ، وَهُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنَ الضَّعِيفِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَمَحَلٌ هَذَا إِذَا كَانَ التَّضْعِيفُ هُوَ الرَّاجِحَ، أَوْ لَمْ يَتَرَجَّحْ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَيُوجَدُ فِي كُتُبِ مُلْتَزِمِي الصِّحَّةِ حَتَّى الْبُخَارِيِّ، مِمَّا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَشْيَاءُ. [الْمَرْفُوعُ] 95 - وَسَمِّ مَرْفُوعًا مُضْافًا لِلنَّبِي ... وَاشْتَرَطَ الْخَطِيبُ رَفْعَ الصَّاحِبِ 96 - وَمَنْ يُقَابِلْهُ بِذِي الْإِرْسَالِ ... فَقَدْ عَنَى بِذَاكَ ذَا اتِّصَالِ. وَقُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِتَمَحُّضِهِ فِي شَرِيفِ الْإِضَافَةِ (وَسَمِّ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (مَرْفُوعًا مُضَافًا لِلنَّبِي) أَيْ: وَسَمِّ كُلَّ مَا أُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا لَهُ أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا، مَرْفُوعًا ; سَوَاءٌ أَضَافَهُ إِلَيْهِ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُمَا، حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِينَ وَلَوْ تَأَخَّرُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَّصِلُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُنْقَطِعُ، وَالْمُعْضَلُ، وَالْمُعَلَّقُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ، وَيَخْرُجُ الْمَوْقُوفُ وَالْمَقْطُوعُ لِاشْتِرَاطِ الْإِضَافَةِ الْمَخْصُوصَةِ. (وَاشْتَرَطَ) الْحَافِظُ الْحُجَّةُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْبَغْدَادِيُّ (الْخَطِيبُ) الْآتِي فِي الْوَفَيَاتِ فِيهِ (رَفْعَ الصَّاحِبِ) فَقَطْ، وَلَفْظُهُ: الْمَرْفُوعُ مَا أَخْبَرَ فِيهِ الصَّحَابِيُّ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِعْلِهِ، فَعَلَى هَذَا مَا يُضِيفُهُ التَّابِعِيُّ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُسَمَّى مَرْفُوعًا. وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ، مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِهِ قَيْدًا ; فَإِنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْخَطِيبِ لِلصَّحَابِيِّ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَوِ الْغَالِبِ ; لِكَوْنِ غَالِبِ مَا يُضَافُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصَّحَابَةِ، لَا أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْيِيدِ، فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 يَخْرُجُ حِينَئِذٍ عَنِ الْأَوَّلِ، وَيَتَأَيَّدُ بِكَوْنِ الرَّفْعِ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى الْمَتْنِ دُونَ الْإِسْنَادِ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ. (وَمَنْ يُقَابِلْهُ) أَيِ: الْمَرْفُوعَ (بِذِي الْإِرْسَالِ) أَيْ: بِالْمُرْسَلِ ; كَأَنْ يَقُولَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ: رَفَعَهُ فُلَانٌ، وَأَرْسَلَهُ فُلَانٌ، مِثَالُهُ حَدِيثُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» . قَالَ الْآجُرِّيُّ: سَأَلْتُ أَبَا دَاوُدَ عَنْهُ، فَقَالَ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ عِيسَى، وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُرْسَلٌ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى. (فَقَدْ عَنَى) الْقَائِلُ (بِذَاكَ) اللَّفْظِ (ذَا اتِّصَالِ) أَيِ: الْمُتَّصِلَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ رَفْعٌ مَخْصُوصٌ ; إِذِ الْمَرْفُوعُ أَعَمُّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، عَلَى أَنَّ ابْنَ النَّفِيسِ مَشَى عَلَى ظَاهِرِ هَذَا، فَقَيَّدَ الْمَرْفُوعَ بِالِاتِّصَالِ. [الْمُسْنَدُ] 97 - وَالْمُسْنَدُ الْمَرْفُوعُ أَوْ مَا قَدْ وُصِلْ ... لَوْ مَعَ وَقْفٍ وَهْوَ فِي هَذَا يَقِلْ 98 - وَالثَّالِثُ الرَّفْعُ مَعَ الْوَصْلِ مَعَا ... شَرْطٌ بِهِ الْحَاكِمُ فِيهِ قَطَعَا. وَقُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ نَظَرًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالَأَخِيرِ فِيهِ، (وَالْمُسْنَدُ) كَمَا قَالَهُ أَبُو عُمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: هُوَ (الْمَرْفُوعُ) إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا ; كَمَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ مُنْقَطِعًا ; كَمَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا - لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ - فَهُوَ مُسْنَدٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ أُسْنِدَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: سُئِلَ أَبِي: أَسَمِعَ زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ؟ فَقَالَ: مَا أُرَاهُ سَمِعَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْمُسْنَدِ، وَعَلَى هَذَا فَهُمَا - أَعْنِي الْمُسْنَدَ وَالْمَرْفُوعَ - عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ فِيهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالِانْقِطَاعُ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا شُمُولُهُ الْمُرْسَلَ وَالْمُعْضَلَ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمُسْتَفِيضِ مِنْ عَمَلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي مُقَابَلَتِهِمْ بَيْنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُسْنَدِ، فَيَقُولُونَ: أَسْنَدَهُ فُلَانٌ، وَأَرْسَلَهُ فُلَانٌ. انْتَهَى. وَيَأْتِي فِيهِ مَا سَلَفَ قَرِيبًا فِي مُقَابَلَةِ الْمَرْفُوعِ بِالْمُرْسَلِ، وَمِمَّنِ اقْتَضَى صَنِيعُهُ أَنَّ الْمَسْنَدَ الْمَرْفُوعُ، الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَدْ نَقَلَ الْحَاكِمُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ الثَّقَفِيِّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ يُسْنِدُهَا، وَغَيْرُهُ يُوقِفُهَا. (أَوْ) الْمُسْنَدُ (مَا قَدْ وُصِلَ) إِسْنَادُهُ وَ (لَوْ) كَانَ الْوَصْلُ (مَعَ وَقْفٍ) عَلَى الصَّحَابِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ فَالْمُسْنَدُ وَالْمُتَّصِلُ سَوَاءٌ ; لِإِطْلَاقِهِمَا عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا الْمُسْنَدُ فِي الْأَوَّلِ. كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَزَا فِي الْكِفَايَةِ، لِأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ بَيْنَ رَاوِيهِ وَبَيْنَ مَنْ أَسْنَدَ عَنْهُ، قَالَ: إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ فِيمَا أُسْنِدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً. (وَهُوَ) أَيِ: الْمُسْنَدُ (فِي هَذَا) أَيْ: فِيمَا وُقِفَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ (يَقِلْ) أَيْ: قَلِيلٌ، وَحِينَئِذٍ فَافْتِرَاقُهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُتَّصِلِ فِي الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَرْفُوعِ أَكْثَرِيٌّ دُونَ الْمَوْقُوفِ. ثُمَّ إِنَّ فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ الَّذِي قَدْ أَقَرَّهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ إِشْعَارًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَسْنَدِ قَلِيلًا فِي الْمَقْطُوعِ، بَلْ وَفِي قَوْلِ مَنْ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، وَصَرِيحُ كَلَامِهِمْ يَأْبَاهُ. (وَ) الْقَوْلُ (الثَّالِثُ) إِنَّهُ (الرَّفْعُ) أَيِ: الْمَرْفُوعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَعَ الْوَصْلِ) أَيْ: مَعَ اتِّصَالِ إِسْنَادِهِ (مَعَا) كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ قَوْمٍ وَهُوَ (شَرْطٌ بِهِ) الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ (الْحَاكِمُ) صَاحِبُ (الْمُسْتَدْرَكِ) فِي كِتَابِهِ (عُلُومِ الْحَدِيثِ) ، (فِيهِ) أَيْ: فِي الْمُسْنَدِ (قَطَعَا) حَيْثُ لَمْ يَحْكِ فِيهِ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - غَيْرَهُ، وَكَأَنَّ النَّاظِمَ إِنَّمَا أَخَّرَهُ تَبَعًا لِأَصْلِهِ لَا لِضَعْفِهِ ; فَإِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، وَأَشْعَرَ بِهِ تَمْرِيضُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ لِلْأَوَّلِ، وَتَقْدِيمُهُ لِهَذَا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي " الْمُعْتَصَرِ " أَيْضًا: إِنَّهُ أَصَحُّ ; إِذْ لَا تَمْيِيزَ إِلَّا بِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يَعْنِي لِكَوْنِ قَائِلِهِ لَحَظَ فِيهِ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَّصِلِ وَالْمَرْفُوعِ، مِنْ حَيْثِيَّةِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى حَالِ الْمَتْنِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْإِسْنَادِ اتَّصَلَ أَمْ لَا، وَالْمُتَّصِلَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى حَالِ الْإِسْنَادِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَتْنِ مَرْفُوعًا كَانَ أَوْ مَوْقُوفًا، وَالْمُسْنَدَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى الْحَالَيْنِ مَعًا، فَيَجْمَعُ شَرْطَيِ الِاتِّصَالِ وَالرَّفْعِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنَ الرَّفْعِ وَالِاتِّصَالِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُلُّ مُسْنَدٍ مَرْفُوعٌ، وَكُلُّ مُسْنَدٍ مُتَّصِلٌ، وَلَا عَكْسَ فِيهِمَا. هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَالَ مَا نَصُّهُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَتَصَرُّفِهِمْ أَنَّ الْمُسْنَدَ هُوَ مَا أَضَافَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالُ. قَالَ: فَـ " مَنْ سَمِعَ " أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا، أَوْ تَحَمَّلَ فِي كُفْرِهِ وَأَسْلَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنَّهُ يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ ; كَالْمُرْسَلِ، وَالْمُعْضَلِ. وَ " بِسَنَدٍ " يُخْرِجُ مَا كَانَ بِلَا سَنَدٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعَلَّقِ. وَ " ظُهُورُ الِاتِّصَالِ " يُخْرِجُ الْمُنْقَطِعَ، لَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ الِانْقِطَاعُ الْخَفِيُّ كَعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ، وَالنَّوْعُ الْمُسَمَّى بِالْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ، وَنَحْوُهُمَا مِمَّا ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالُ، وَقَدْ يُفَتَّشُ فَيُوجَدُ مُنْقَطِعًا. وَاسْتَشْهَدَ لِلْأَخِيرِ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَاكِمِ: الْمُسْنَدُ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَيْخٍ يَظْهَرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ لَيْسَ يَحْتَمِلُهُ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ شَيْخِهِ مِنْ شَيْخِهِ مُتَّصِلًا إِلَى صَحَابِيٍّ مَشْهُورٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: " لَيْسَ يَحْتَمِلُهُ " يُخْرِجُ عَنْعَنَةَ الْمُدَلِّسِ، خُصُوصًا وَقَدْ صَرَّحَ الْحَاكِمُ بَعْدُ بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّدْلِيسِ فِي رُوَاتِهِ. وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَسَانِيدِ مِنَ الْأَئِمَّةِ لَا يَتَحَامَوْنَ فِيهَا تَخْرِيجَ مُعَنْعَنَاتِ الْمُدَلِّسِينَ، وَلَا أَحَادِيثَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، بَلْ عِبَارَةُ الْخَطِيبِ: " وَاتِّصَالُ الْإِسْنَادِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاتِهِ سَمِعَهُ مِمَّنْ فَوْقَهُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ السَّمَاعَ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَنْعَنَةِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 [الْمُتَّصِلُ وَالْمَوْصُولُ] 99 - وَإِنْ تَصِلْ بِسَنَدٍ مَنْقُولَا ... فَسَمِّهِ مُتَّصِلًا مَوْصُولَا 100 - سَوَاء ٌ الْمَوْقُوفُ وَالْمَرْفُوعُ ... وَلَمْ يَرَوْا أَنْ يَدْخُلَ الْمَقْطُوعُ. وَقُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ نَظَرًا لِوُقُوعِهِ عَلَى الْمَرْفُوعِ (وَإِنْ تَصِلْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (بِسَنَدٍ) أَيْ: وَإِنْ تَرْوِ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ خَبَرًا (مَنْقُولًا فَسَمِّهِ) أَيِ: السَّنَدَ (مُتَّصِلًا وَمَوْصُولًا) ، وَكَذَا " مُؤْتَصِلًا " بِالْفَكِّ وَالْهَمْزَةِ، كَمَا هِيَ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ (الْأُمِّ) ، وَعَزَاهَا إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي تَصْرِيفِهِ: إِنَّهَا لُغَتُهُ، فَهِيَ مُتَرَادِفَةٌ، (سَوَاءٌ) فِي ذَلِكَ ; حَيْثُ اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ (الْمَوْقُوفُ) عَلَى الصَّحَابِيِّ، (وَالْمَرْفُوعُ) إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَرَجَ بِقَيْدِ الِاتِّصَالِ الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ وَالْمُعَلَّقُ، وَكَذَا مُعَنْعَنُ الْمُدَلِّسِ قَبْلَ تَبَيُّنِ سَمَاعِهِ. (وَلَمْ؟ يَرْوا أَنْ يَدْخُلَ الْمَقْطُوعُ) الَّذِي هُوَ - كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا - قَوْلُ التَّابِعِيِّ، وَلَوِ اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ ; لِلتَّنَافُرِ بَيْنَ لَفْظِ الْقَطْعِ وَالْوَصْلِ، هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ; كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ. وَمُطْلَقُهُ - أَيِ: الْمُتَّصِلِ - يَقَعُ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ، أَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ وَاقِعٌ أَيْضًا فِي كَلَامِهِمْ، يَقُولُونَ: هَذَا مُتَّصِلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَوْ إِلَى الزُّهْرِيِّ، أَوْ إِلَى مَالِكٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 [الْمَوْقُوفُ] 101 - وَسَمِّ بِالْمَوْقُوفِ مَا قَصَرْتَهُ ... بِصَاحِبٍ وَصَلْتَ أَوْ قَطَعْتَهُ 102 - وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ سَمَّاهُ الْأَثَرْ ... وَإِنْ تَقِفْ بِغَيْرِهِ، قَيِّدْ تَبَرْ. وَقُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالصَّحَابِيِّ، [وَفِيهِ لِلضِّيَاءِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ بَدْرِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُرْدِيِّ الْمَوْصِلِيِّ الْحَنَفِيِّ الْفَقِيهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ] (وَسَمِّ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (بِالْمَوْقُوفِ مَا قَصَرْتَهُ بِصَاحِبٍ) أَيْ: عَلَى صَحَابِيٍّ قَوْلًا لَهُ أَوْ فِعْلًا أَوْ نَحْوَهُمَا، مِمَّا لَا قَرِينَةَ فِيهِ لِلرَّفْعِ ; سَوَاءٌ (وَصَلْتَ) السَّنَدَ بِذَلِكَ (أَوْ قَطَعْتَهُ) . وَشَذَّ الْحَاكِمُ ; فَاشْتَرَطَ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُسَمَّى خَبَرًا أَمْ لَا؟ فَمُقْتَضَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ بِعَدَمِ مُرَادَفَةِ الْخَبَرِ لِلْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَوَّلُ. (وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ) مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (سَمَّاهُ الْأَثَرَ) ، بَلْ حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَوْرَانِيُّ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَأَطْلَقَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: الْخَبَرُ مَا كَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَثَرُ مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ تَسْمِيَةِ الْبَيْهَقِيِّ كِتَابَهُ الْمُشْتَمِلَ عَلَيْهِمَا بِـ " مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ " مَعَهُمْ، وَكَأَنَّ سَلَفَهُمْ فِيهِ إِمَامُهُمْ، فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ: لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَرَاتِبِ يَقْتَضِي التَّفَاوُتَ فِي الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، فَيُقَالُ لِمَا نُسِبَ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ: الْخَبَرُ، وَلِلصَّحَابَةِ: الْأَثَرُ، وَلِلْعُلَمَاءِ: الْقَوْلُ، وَالْمَذْهَبُ. وَلَكِنِ الْمُحَدِّثُونَ - كَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِمُ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابَيْهِ - يُطْلِقُونَ الْأَثَرَ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَظَاهِرُ تَسْمِيَةِ الطَّحَاوِيِّ لِكِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِمَا " شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ " مَعَهُمْ، وَكَذَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَهْذِيبِ الْآثَارِ " لَهُ، إِلَّا أَنَّ كِتَابَهُ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَمَا يُورِدُهُ فِيهِ مِنَ الْمَوْقُوفِ فَبِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، بَلْ فِي الْجَامِعِ لِلْخَطِيبِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ حَبِيبٍ الْفَارْيَابِيِّ عَنْ صَالِحِ بْنِ بَيَانٍ عَنْ أَسَدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُوفِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ فَرِيضَةٌ، وَمَا جَاءَ عَنِّي فَهُوَ حَتْمٌ وَفَرِيضَةٌ، وَمَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِي فَهُوَ سُنَّةٌ، وَمَا جَاءَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ فَهُوَ أَثَرٌ، وَمَا جَاءَ عَمَّنْ دُونَهُمْ فَهُوَ بِدْعَةٌ» . قَالَ شَيْخُنَا: (وَيُنْظَرُ فِي سَنَدِهِ، فَإِنَّنِي أَظُنُّ أَنَّهُ بَاطِلٌ) . قُلْتُ: بَلْ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ عَلَى آحَادِ أَتْبَاعِهِ ; فَالْفَارْيَابِيُّ رُمِيَ بِالْوَضْعِ، وَفِي تَرْجَمَتِهِ أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، وَاللَّذَانِ فَوْقَهُ قَالَ الْمُسْتَغْفِرِيُّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: يَرْوِي الْعَجَائِبَ، وَيَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ. وَأَصْلُ الْأَثَرِ: مَا ظَهَرَ مِنْ مَشْيِ الشَّخْصِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ زُهَيْرٌ: وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَثَرُ ... لَا يَنْتَهِي الْعُمُرُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ ثُمَّ إِنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ فِي الْمَوْقُوفِ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ وَلَوْ أُضِيفَ الْمَرْوِيُّ لِلتَّابِعِيِّ، وَكَذَا لِمَنْ بَعْدَهُ - كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ - سَاغَ تَسْمِيَتُهُ مَوْقُوفًا. (وَ) لَكِنْ (إِنْ تَقِفْ بِغَيْرِهِ) أَيْ: عَلَى غَيْرِ الصَّحَابِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَابِعٍ، وَالْأُولَى أَشْمَلُ فَـ (قَيِّدْ) ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَوْقُوفٌ عَلَى فُلَانٍ (تَبَرْ) أَيْ: يَزْكُ عَمَلُكَ وَلَا يُنْكَرْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 [الْمَقْطُوعُ] 103 - وَسَمِّ بِالْمَقْطُوعِ قَوْلَ التَّابِعِي ... وَفِعْلَهُ وَقَدْ رَأَى لِلشَّافِعِي 104 - تَعْبِيرَهُ بِهِ عَنِ الْمُنْقَطِعِ ... قُلْتُ وَعَكْسُهُ اصْطِلَاحُ الْبَرْدَعِي. وَيَجُوزُ فِي جَمْعِهِ الْمَقَاطِيعُ وَالْمَقَاطِعُ بِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ وَحَذْفِهَا اخْتِيَارًا ; كَـ (الْمَسَانِيدِ) وَ (الْمَرَاسِيلِ) ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ فِي مِثْلِ (الْمَقَاطِيعِ) عَنِ الْبَصْرِيِّينَ سِوَى الْجَرْمِيِّ الْإِثْبَاتُ جَزْمًا، وَالْجَرْمِيُّ مَعَ الْكُوفِيِّينَ فِي جَوَازِ الْحَذْفِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ. ( وَسَمِّ بِالْمَقْطُوعِ قَوْلَ التَّابِعِيِّ وَفِعْلَهُ ) ; حَيْثُ لَا قَرِينَةَ لِلرَّفْعِ فِيهِ، كَالَّذِي قَبْلَهُ ; لِيَخْرُجَ مَا هُوَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ قَوْلُ تَابِعِيٍّ أَوْ صَحَابِيٍّ، وَيُحْكَمَ لَهُ بِالرَّفْعِ لِلْقَرِينَةِ ; كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي سَادِسِ ال ْفُرُوعِ. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ مَنْعُ إِدْخَالِهِمَا فِي أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ بِكَوْنِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَذَاهِبِهِمْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِيهِ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ كَتْبُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا ; لِيَتَمَيَّزَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَا يَشِذَّ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ. قُلْتُ: لَا سِيَّمَا وَهِيَ أَحَدُ مَا يَعْتَضِدُ بِهِ الْمُرْسَلُ، وَرُبَّمَا يَتَّضِحُ بِهَا الْمَعْنَى الْمُحْتَمَلُ مِنَ الْمَرْفُوعِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ: جَعَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعَاتِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهَا، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْقِيَاسِ وَإِلْحَاقِهَا بِالسُّنَنِ. انْتَهَى. وَمَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجِ بِالصَّحَابِيِّ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ، ثُمَّ إِنَّ شَيْخَنَا أَدْرَجَ فِي الْمَقْطُوعِ مَا جَاءَ عَمَّنْ دُونَ التَّابِعِيِّ، وَعِبَارَتُهُ: وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِ، أَيْ: فِي الِاسْمِ بِالْمَقْطُوعِ مِثْلُهُ، أَيْ: مِثْلُ مَا يَنْتَهِي إِلَى التَّابِعِيِّ. (وَقَدْ رَأَى) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (لِلشَّافِعِيِّ) رَحِمَهُ اللَّهُ (تَعْبِيرَهُ بِهِ) أَيْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بِالْمَقْطُوعِ (عَنِ الْمُنْقَطِعِ) أَيِ: الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ، وَلَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا حُدُوثَ الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ أَفَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي كَلَامِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ تَأَخَّرَ، يَعْنِي كَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَابْنِ الْحِصَارِ ; فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَقْطُوعِ فِي مَقَامِ الْمُنْقَطِعِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ أَيْضًا. (قُلْتُ: وَعَكْسُهُ) أَيْ: عَكْسُ مَا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ مَعَهُ (اصْطِلَاحُ) الْحَافِظِ الثِّقَةِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ بْنِ رَوْحٍ الْبَرْدِيجِيِّ (الْبَرْدَعِيِّ) - بِإِهْمَالِ دَالِهِ، نِسْبَةً لِبَرْدَعَةَ، بَلْدَةٍ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ أَذَرْبِيجَانَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرْدِيجَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا - الْمُتَوَفَّى فِي رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ (301 هـ) . حَيْثُ قَالَ فِي جُزْءٍ لَهُ لَطِيفٍ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى الْمُنْقَطِعِ وَالْمُرْسَلِ: الْمُنْقَطِعُ هُوَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ. وَهَذَا - وَإِنْ حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ، بَلْ قَالَ - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُنْقَطِعِ -، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ: مَا رُوِيَ عَنِ التَّابِعِيِّ أَوْ مَنْ دُونَهُ، مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ أَعَمُّ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ بَعِيدٌ، وَيُشْبِهُهُ أَنْ يَكُونَ سَلَفُ شَيْخِنَا فِيمَا أَسْلَفْتُهُ عَنْهُ قَرِيبًا. [فُرُوعٌ] [الفرع الأول قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ] فُرُوعٌ. 105 - قَوْلُ الصَّحَابِيِّ " مِنَ السُّنَّةِ " أَوْ ... نَحْوُ " أُمِرْنَا " حُكْمُهُ الرَّفْعُ وَلَوْ 106 - بَعْدَ النَّبِيِّ قَالَهُ بِأَعْصُرِ ... عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ 107 - وَقَوْلُهُ " كُنَّا نَرَى " إِنْ كَانَ مَعْ ... عَصْرِ النَّبِيِّ مِنْ قَبِيلِ مَا رَفَعْ 108 - وَقِيلَ لَا، أَوْ لَا فَلَا، كَذَاكَ لَهْ ... وَلِلْخَطِيبِ قُلْتُ لَكِنْ جَعَلَهْ 109 - مَرْفُوعًا الْحَاكِمُ وَالرَّازِيُّ ... ابْنُ الْخَطِيبِ وَهُوَ الْقَوِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فُرُوعٌ سَبْعَةٌ حَسُنَ إِيرَادُهَا بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ: أَحَدُهَا - وَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ، مِمَّا يَصْدُرُ عَنِ الصَّحَابِيِّ لِقُرْبِهِ إِلَى الصَّرَاحَةِ - (قَوْلُ الصَّحَابِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مِنَ السُّنَّةِ) كَذَا ; كَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وَمِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ فِي الصَّلَاةِ تَحْتَ السُّرَّةِ» . (أَوْ نَحْوُ أُمِرْنَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، كَأُمِرَ فُلَانٌ. وَكُنَّا نُؤْمَرُ، وَأُمِرَ بِلَا إِضَافَةٍ، وَنُهِينَا ; كَقَوْلِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ إِلَى الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ» وَ «أُمِرَ الْحُيَّضُ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ» ، وَ «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» وَأُبِيحَ أَوْ رُخِّصَ لَنَا، أَوْ حُرِّمَ أَوْ أُوجِبَ عَلَيْنَا، كُلُّ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا لَفْظًا (حُكْمُهُ الرَّفْعُ وَلَوْ بَعْدَ) وَفَاةِ (النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَهُ) الصَّحَابِيُّ (بِأَعْصُرٍ) فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ، أَوْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ فِي " أُمِرْنَا " أَبْعَدُ عَنِ الِاحْتِمَالِ فِيمَا يَظْهَرُ. وَيُسَاعِدُهُ تَصْرِيحُ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ بِقُوَّةِ الِاحْتِمَالِ " فِي السُّنَّةِ " ; لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّرِيقَةِ، وَسَوَاءٌ قَالَهُ فِي مَحَلِّ الِاحْتِجَاجِ أَمْ لَا، تَأَمَّرَ عَلَيْهِ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا، كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا. وَإِنْ لَمْ أَرَ تَصْرِيحَهُمْ بِهِ فِي الصَّغِيرِ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ، وَيُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ تَقْيِيدِ الْحَاكِمِ الصَّحَابِيَّ بِالْمَعْرُوفِ الصُّحْبَةِ، وَكَذَا مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ هُوَ (عَلَى الصَّحِيحِ) عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي " بَابِ عَدَدِ كَفَنِ الْمَيِّتِ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ: وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُولَانِ السُّنَّةَ إِلَّا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَدْ جَزَمَ بِنَفْيِ الْخِلَافِ عَنْ أَهْلِ النَّقْلِ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ مُسْنَدٌ، يَعْنِي مَرْفُوعٌ. وَكَذَا شَيْخُهُ الْحَاكِمُ ; حَيْثُ قَالَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ (مُسْتَدْرَكِهِ) أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، حَدِيثٌ مُسْنَدٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا، أَوْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ - فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ خِلَافًا فِيهِ أَنَّهُ مُسْنَدٌ. وَمِمَّنْ حَكَى الِاتِّفَاقَ أَيْضًا لَكِنْ فِي السُّنَّةِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْحَقُّ ثُبُوتُ الْخِلَافِ فِيهِمَا، نَعَمْ قَيَّدَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَحَلَّ الْخِلَافِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ يَحْتَمِلُ التَّرَدُّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ ; كَحَدِيثِ: «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ» ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ قَطْعًا. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى خِلَافِ مَا حَكَيْنَاهُ فِيهِمَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ صَاحِبُ الدَّلَائِلِ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَفِي السُّنَّةِ فَقَطِ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدَ قَوْلَيْهِ مِنَ الْجَدِيدِ، كَمَا جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِحِكَايَتِهِمَا عَنْهُ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ، بَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ. وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَبَالَغَ فِي إِنْكَارِ الرَّفْعِ ; مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَلَيْسَ حَسْبَكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ ; إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَحُجَ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِيَ ; أَوْ يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» . قَالَ: لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِذْ صُدَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، بَلْ حَلَّ حَيْثُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةَ. وَكَذَا مِنْ أَدِلَّتِهِمْ لِمَنْعِ الرَّفْعِ اسْتِلْزَامُهُ ثُبُوتَ سُنَّةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرٍ مُحْتَمِلٍ ; إِذْ يَحْتَمِلُ إِرَادَةَ سُنَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ، فَقَدْ سَمَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً فِي قَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» أَوْ سُنَّةَ الْبَلَدِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ تَعْلِيلُ الْكَرْخِيِّ لِـ " أُمِرْنَا " بِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَى أَمْرِ الْقُرْآنِ، أَوِ الْأُمَّةِ، أَوْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، أَوِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَسُوِّغَ إِضَافَتُهُ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ - يَعْنِي لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ مِنَ الشَّارِعِ. قَالَ: وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ تَمْنَعُ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا، وَفِي " أُمِرْنَا " فَقَطْ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَخَصَّ ابْنُ الْأَثِيرِ - كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ لَهُ - نَفْيَ الْخِلَافِ فِيهَا بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَّةً ; إِذْ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَقَدْ تَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَطَرَقَهُ الِاحْتِمَالُ النَّاشِئُ عَنْهُ الِاخْتِلَافُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ فِي «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ» أَنَّهُ نَظَرَ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا تَأَمَّرَ عَلَيْهِ فِي الْأَذَانِ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ. وَيَتَأَيَّدُ بِالرِّوَايَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ آخَرُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا، بِمَا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاحْتِجَاجِ، أَمَّا فِي مَحَلِّ الِاحْتِجَاجِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مِثْلَهُ، فَلَا يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ وَبِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا مَنْ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ. (وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ) مِنَ الْعُلَمَاءِ ; إِذْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلٌ، وَسُنَّةَ غَيْرِهِ تَبَعٌ لِسُنَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَنْصَرِفُ بِظَاهِرِهِ إِلَّا لِمَنْ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشَّارِعُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمْرُ غَيْرِهِ تَبَعٌ، فَحَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى، خُصُوصًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَ الصَّحَابَةِ بَيَانُ الشَّرْعِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ فِي " أُبِيحَ " وَمَا بَعْدَهَا يَقْوَى فِي جَانِبِهِ أَلَّا يَكُونَ مُضَافًا إِلَّا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ: أَوْجَبَ الْإِمَامُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ. وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ حَزْمٍ الْمَاضِي لِلْمَنْعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - مَمْنُوعٌ بِأَنَّهُ لَا انْحِصَارَ لِمُسْتَنَدِهِ فِي الْفِعْلِ، حَتَّى يُمْنَعَ إِرَادَةُ ابْنِ عُمَرَ بِالسُّنَّةِ الرَّفْعَ فِيمَنْ صُدَّ عَنِ الْحَجِّ مِمَّنْ هُوَ بِمَكَّةَ بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صُدَّ فِيهَا عَنْ دُخُولِهَا، بَلِ الدَّائِرَةُ أَوْسَعُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَتَأَيَّدُ بِإِضَافَتِهِ السُّنَّةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَكَذَا مَا أَبْدَاهُ الْكَرْخِيُّ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْعِ أَيْضًا بَعِيدٌ - كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا - " فَإِنَّ أَمْرَ الْكِتَابِ ظَاهِرٌ لِلْكُلِّ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْوَاحِدُ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ وَغَيْرَهُ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرُ الْأُمَّةِ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهُوَ لَا يَأْمُرُ نَفْسَهُ. وَأَمْرُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ إِنْ أَرَادَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا فَبَعِيدٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَرَادَ مِنَ الْخُلَفَاءِ فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ فِي مَقَامِ تَعْرِيفِ الشَّرْعِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالْفَتْوَى، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا يَحْتَجُّونَ بِأَمْرِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لَيْسَ مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْآمِرِ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ. وَحَمْلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ بَعِيدٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " أُمِرْنَا بِكَذَا " يُفْهَمُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَا خُصُوصُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْقِيَاسِ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الصِّدِّيقِ فَهُوَ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ - مَقْبُولٌ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ " ذَاتِ السَّلَاسِلِ " عَلَى جَيْشٍ فِيهِ الشَّيْخَانِ، أَرْسَلَ بِهِمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَدَدٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ الْجَرَّاحَ، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِمْ عَلَى عَمْرٍو صَارَ الْأَمِيرَ، بَلْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرَ سَرِيَّةِ " الْخَبَطِ " عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فِيهِمْ عُمَرُ، وَأَظُنُّ أَبَا بَكْرٍ أَيْضًا. وَكَذَا «تَأَمَّرَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى جَيْشٍ هُمَا فِيهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَخَلْقٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَأَنْفَذَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنِ اسْتُخْلِفَ ; امْتِثَالًا لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ سَأَلَ أُسَامَةَ أَنْ يَأْذَنَ لِعُمَرَ فِي الْإِقَامَةِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَفِي شَرْحِهَا طُولٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعَمْرٍو وَأُسَامَةَ تَأَمَّرَ عَلَيْهِمَا، وَصَارَ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَدِلَّةِ فِي وِلَايَةِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ، فَطُرُوقُ الِاحْتِمَالِ فِيهِ بَعِيدٌ جِدًّا. وَمَا قِيلَ فِي بِلَالٍ لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ أَذَّنَ لِأَبِي بَكْرٍ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ لِعُمَرَ، [نَعَمْ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ; أَنَّ بِلَالًا لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: تَكُونُ عِنْدِي، قَالَ: إِنْ كُنْتَ أَعْتَقْتَنِي لِنَفْسِكَ فَاحْبِسْنِي، وَإِنْ كُنْتَ أَعْتَقْتَنِي لِلَّهِ فَذَرْنِي، فَذَهَبَ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ] مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ: لَمْ يُؤَذِّنْ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَى مَرَّةٍ لِعُمَرَ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ، فَبَكَى النَّاسُ بُكَاءً شَدِيدًا. وَمِنْ أَدِلَّةِ الْأَكْثَرِينَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ; «أَنَّ الْحَجَّاجَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَيْفَ نَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ» . انْتَهَى. وَكُلُّ مَا سَلَفَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُضِفِ السُّنَّةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَوْ أَضَافَهَا - كَقَوْلِ عُمَرَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ - فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ السَّابِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الرَّفْعُ، بَلْ أَوْلَى، وَابْنُ حَزْمٍ يُخَالِفُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَجَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ فِي مَحَاسِنِهِ بِأَنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ فِي احْتِمَالِ الْوَقْفِ قُرْبًا وَبُعْدًا، فَأَرْفَعُهَا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَدُونَهَا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ كَذَا "، وَدُونَهَا قَوْلُ عُمَرَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: " أَصَبْتَ السُّنَّةَ " ; إِذِ الْأَوَّلُ أَبْعَدُ احْتِمَالًا، وَالثَّانِي أَقْرَبُ احْتِمَالًا، وَالثَّالِثُ لَا إِضَافَةَ فِيهِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّوَابُ فِيهِ: لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا دِينَنَا. مَوْقُوفٌ ; فَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَرْفُوعٌ، أَمَّا إِذَا صَرَّحَ بِالْآمِرِ ; كَقَوْلِهِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، أَوْ سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِكَذَا، فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ السَّابِقِ. لَكِنْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعِدَّةِ " عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ -: أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً حَتَّى يُنْقَلَ لَفْظُهُ ; لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي صِيَغِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ صِيغَةً ظَنَّهَا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ الشَّارِحُ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ، ثُمَّ وَجَّهَهُ بِمَا لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ بِجَوَازِ أَنَّ نَحْوَ هَذَا مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَهُمْ مِمَّنْ لَا يُجَوِّزُهَا. وَأَمَّا شَيْخُنَا فَرَدَّهُ أَصْلَا فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ ; حَيْثُ قَالَ: وَأُجِيبُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ مَعَ عَدَالَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَوْضَاعِ اللُّغَةِ - أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ عَنْهُ، لِنَقْلِ مَا يُوجِبُ عَلَى سَامِعِهِ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا لَيْسَ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. تَتِمَّةٌ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَشْبَهَ كَـ " لَأُقَرِّبَنَّ لَكُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " - كُلُّهُ مَرْفُوعٌ. وَهَلْ يَلْتَحِقُ التَّابِعِيُّ بِالصَّحَابِيِّ فِي " مِنَ السُّنَّةِ " أَوْ " أُمِرْنَا "؟ سَيَأْتِي فِي خَامِسِ الْفُرُوعِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُمِرْتُ " هُوَ كَقَوْلِهِ: " أَمَرَنِي اللَّهُ " ; لِأَنَّهُ لَا آمِرَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي " يَرْفَعُهُ "، وَ " يَرْوِيهِ "، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى» ، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ " وَمِنْ غَيْرِهِ: «أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنِ اشْتُهِرَ بِطَاعَةِ كَبِيرٍ إِذَا قَالَ ذَلِكَ، فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْآمِرَ لَهُ هُوَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْفَرْعُ الثَّانِي قَوْلُ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَرَى] [الْفَرْعُ الثَّانِي] (وَ) الْفَرْعُ الثَّانِي (قَوْلُهُ) أَيِ: الصَّحَابِيِّ (كُنَّا نَرَى) كَذَا، أَوْ نَفْعَلُ كَذَا، أَوْ نَقُولُ كَذَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ (إِنْ كَانَ) ذَلِكَ (مَعَ) ذِكْرِ (عَصْرِ النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَقَوْلِ جَابِرٍ: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، أَوْ: «كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَقَوْلِ غَيْرِهِ: " كُنَّا لَا نَرَى بَأْسًا بِكَذَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا "، أَوْ: " كَانَ يُقَالُ كَذَا وَكَذَا عَلَى عَهْدِهِ "، أَوْ: " كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فِي حَيَاتِهِ " إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّكْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ. فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا لَفْظًا (مِنْ قَبِيلِ مَا رَفَعَ) الصَّحَابِيُّ بِصَرِيحِ الْإِضَافَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَطَعَ بِهِ الْخَطِيبُ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْحَاكِمُ ; كَمَا سَيَأْتِي. وَصَحَّحَهُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ غَرَضَ الرَّاوِي بَيَانُ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَقَرَّرَهُمْ، وَتَقْرِيرُهُ كَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَوْ عَلِمَ الصَّحَابِيُّ إِنْكَارًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، لَبَيَّنَهُ. قَالَ شَيْخُنَا: (وَيَدُلُّ لَهُ احْتِجَاجُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ بِفِعْلِهِمْ لَهُ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْوَحْيِ، فَقَالَ: «كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَنْهَى عَنْهُ، نَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ» ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ تَشْرِيعٍ. وَكَذَا يَدُلُّ لَهُ مَجِيءُ بَعْضِ مَا أَتَى بِبَعْضِ هَذِهِ الصِّيَغِ بِصَرِيحِ الرَّفْعِ (وَقِيلَ: لَا) يَكُونُ مَرْفُوعًا، حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْبَرْقَانِيِّ بَلَاغًا أَنَّهُ سَأَلَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ عَنْهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، كَمَا خَالَفَ فِي نَحْوِ ((أُمِرْنَا)) ، يَعْنِي بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ مُطْلَقًا قُيِّدَ أَمْ لَا، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ مُفَصَّلٌ، فَإِنْ قُيِّدَ بِالْعَصْرِ النَّبَوِيِّ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَمَرْفُوعٌ (أَوْ لَا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُقَيَّدْ (فَلَا) يَكُونُ مَرْفُوعًا (كَذَاكَ لَهُ) أَيْ لِابْنِ الصَّلَاحِ ; حَيْثُ جَزَمَ بِهِ، وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ غَيْرَهُ. (وَ) كَذَا (لِلْخَطِيبِ) أَيْضًا فِي الْكِفَايَةِ، كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ فُهِمَ عَنْ مُشْتَرِطِي الْقَيْدِ فِي الرَّفْعِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ - الْقَوْلُ بِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَصْحَابِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ: إِنْ لَمْ يُضِفْهُ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ (قُلْتُ: لَكِنْ) قَدْ (جَعَلَهُ) أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي لَمْ يُقَيَّدْ بِالْعَصْرِ النَّبَوِيِّ (مَرْفُوعًا الْحَاكِمُ) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ. وَعِبَارَتُهُ فِي عُلُومِهِ: وَمِنْهُ - أَيْ: وَمِمَّا لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِذِكْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالصُّحْبَةِ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ كَذَا، وَنُهِينَا عَنْ كَذَا، وَكُنَّا نُؤْمَرُ بِكَذَا، وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ كَذَا، وَكُنَّا نَفْعَلُ كَذَا، وَكُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا كَذَا، وَكُنَّا لَا نَرَى بَأْسًا بِكَذَا، وَكَانَ يُقَالُ كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، وَأَشْبَاهُ مَا ذَكَرْنَا ; إِذَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالصُّحْبَةِ، فَهُوَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ ; أَيْ: مَرْفُوعٌ. وَكَذَا جَعَلَهُ مَرْفُوعًا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ (الرَّازِيُّ) - نِسْبَةً بِإِلْحَاقِ الزَّايِ لِلرَّيِّ، مَدِينَةٍ مَشْهُورَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ بَيْنَ قُومِسَ وَالْجِبَالِ - صَاحِبُ التَّفْسِيرِ وَالْمَحْصُولِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ، وَمَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ، وَشَرْحِ الْوَجِيزِ لِلْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهَا، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الْفَضَائِلِ مُحَمَّدُ (ابْنُ الْخَطِيبِ) بِالرَّيِّ، تِلْمِيذُ مُحْيِي السُّنَّةِ الْبَغَوِيِّ، الْإِمَامُ ضِيَاءُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ الْبَكْرِيُّ التَّيْمِيُّ الشَّافِعِيُّ، تُوُفِّيَ بِهَرَاةَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ (606 هـ) عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي ((الْمَحْصُولِ)) . وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ الْمُضَافِ وَغَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ فَعَنِ الْفَخْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي ((الْعُدَّةِ)) : إِنَّهُ الظَّاهِرُ. قَالَ النَّاظِمُ تَبَعًا لِلنَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، (وَهُوَ الْقَوِيُّ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، زَادَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَصْحَابِنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاعْتَمَدَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَكْثَرَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ. قُلْتُ: وَمِمَّا خَرَّجَهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ: ((كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا)) . وَيَتَأَيَّدُ الْقَوْلُ بِالرَّفْعِ بِإِيرَادِ النَّسَائِيِّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا صَعِدْنَا. . . وَذَكَرَهُ، فَتَحَصَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الرَّفْعُ مُطْلَقًا، الْوَقْفُ مُطْلَقًا، التَّفْصِيلُ. وَفِيهَا رَابِعٌ أَيْضًا ; وَهُوَ تَفْصِيلٌ آخَرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يَخْفَى غَالِبًا فَمَرْفُوعٌ، أَوْ يَخْفَى ; كَقَوْلِ بَعْضِ الْأَنْصَارِ: ((كُنَّا نُجَامِعُ فَنَكْسَلُ وَلَا نَغْتَسِلُ)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فَمَوْقُوفٌ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ آخَرِينَ. وَخَامِسٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَوْرَدَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ فَمَرْفُوعٌ، وَإِلَّا فَمَوْقُوفٌ ; حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَسَادِسٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَمَوْقُوفٌ، وَإِلَّا فَمَرْفُوعٌ. وَسَابِعٌ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كُنَّا نَرَى، وَكُنَّا نَفْعَلُ، بِأَنَّ الْأَوَّلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّأْيِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ تَنْصِيصًا أَوِ اسْتِنْبَاطًا. وَتَعْلِيلُ السَّيْفِ الْآمِدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ كَوْنَ " كُنَّا نَفْعَلُ " وَنَحْوَهُ حُجَّةً بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِ كُلِّ الْأُمَّةِ، وَلَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِدْرَاجُهُمْ مَعَ الْقَائِلِينَ بِالْأَوَّلِ، كَمَا فَعَلَ الشَّارِحُ ; لِاخْتِلَافِ الْمَدْرَكَيْنِ. وَكُلُّ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ ; حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْقِصَّةِ اطِّلَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَّا إِذَا كَانَ - كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ: «أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ» ، وَيَسْمَعُ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ - فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِجْمَاعًا. ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ كَالْإِثْبَاتِ - فِيمَا تَقَدَّمَ - كَمَا عُلِمَ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ لِلْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: كَانَتِ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 110 - لَكِنْ حَدِيثُ " كَانَ بَابُ الْمُصْطَفَى ... يُقْرَعُ بِالْأَظْفَارِ " مِمَّا وُقِفَا 111 - حُكْمًا لَدَى الْحَاكِمِ وَالْخَطِيبِ ... وَالرَّفْعُ عِنْدَ الشَّيْخِ ذُو تَصْوِيبِ 112 - وَعَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِي ... رَفْعًا فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَسْبَابِ 113 - وَقَوْلُهُمْ " يَرْفَعْهُ " أَوْ " يَبْلُغُ بِهْ " ... " رِوَايَةً " " يَنْمِيهِ " رَفْعٌ فَانْتَبِهْ 114 - وَإِنْ يَقُلْ " عَنْ تَابِعٍ " فَمُرْسَلُ ... قُلْتُ مِنَ السُّنَّةِ عَنْهُ نَقَلُوا 115 - تَصْحِيحَ وَقْفِهِ وَذُو احْتِمَالِ ... نَحْوُ " أُمِرْنَا مِنْهُ " لِلْغَزَالِي 116 - وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بِحَيْثُ لَا ... يُقَالُ رَأْيًا، حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى 117 - مَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ نَحْوُ " مَنْ أَتَى" ... فَالْحَاكِمُ الرَّفْعَ لِهَذَا أَثْبَتَا 118 - وَمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَهْ ... مُحَمَّدٌ وَعَنْهُ أَهْلُ الْبَصْرَهْ 119 - وَكَرَّرَ " قَالَ " بَعْدَ فَالْخَطِيبُ ... رَوَى بِهِ الرَّفْعَ وَذَا عَجِيبُ. " لَكِنْ حَدِيثُ كَانَ بَابُ الْمُصْطَفَى " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُقْرَعُ) مِنَ الصَّحَابَةِ (بِالْأَظْفَارِ) تَأَدُّبًا وَإِجْلَالًا، كَمَا عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ. وَإِنْ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنَّهُ لِأَنَّ بَابَهُ الْكَرِيمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِلَقٌ يُطْرَقُ بِهَا. (مِمَّا وُقِفَا حُكْمًا) أَيْ: حُكْمُهُ الْوَقْفُ (لَدَى) أَيْ: عِنْدَ (الْحَاكِمِ) ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْنَدَهُ، كَمَا سَيَأْتِي: هَذَا حَدِيثٌ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مُسْنَدًا ; لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ ; فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى صَحَابِيٍّ، حَكَى عَنْ أَقْرَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِعْلًا، وَلَيْسَ يُسْنِدُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (وَ) كَذَا عِنْدَ (الْخَطِيبِ) أَيْضًا فِي جَامِعِهِ نَحْوُهُ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْبُلْقِينِيُّ تَبَعًا لِبَعْضِ مَشَائِخِهِ وُجُودَهُ فِيهِ، فَعِبَارَتُهُ فِي الْمَوْقُوفِ الْخَفِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الَّذِي ذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ - نَصُّهَا: قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ لِذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى صَحَابِيٍّ، حَكَى فِيهِ عَنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا، وَذَلِكَ مُتَعَقَّبٌ عَلَيْهِمَا (وَالرَّفْعُ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ (عِنْدَ الشَّيْخِ) ابْنِ الصَّلَاحِ (ذُو تَصْوِيبِ) . قَالَ: وَالْحَاكِمُ مُعْتَرِفٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ ; يَعْنِي لِأَنَّهُ جَنَحَ إِلَى الرَّفْعِ فِي غَيْرِ الْمُضَافِ، فَهُوَ هُنَا أَوْلَى ; لِكَوْنِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَحْرَى بِاطِّلَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا عَدَدْنَا هَذَا فِيمَا أَخَذْنَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَأَوَّلْنَاهُ لَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ لَفْظًا، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا ; كَسَائِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَهُوَ جَيِّدٌ، وَحَاصِلُهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ لَهُ جِهَتَيْنِ: جِهَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ صَادِرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا، وَجِهَةَ التَّقْرِيرِ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَائِدَةَ قَرْعِ بَابِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قُرِعَ، وَمِنْ لَازِمِ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ قُرِعَ مَعَ عَدَمِ إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ - التَّقْرِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، لَكِنْ يَخْدِشُ فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ قِسْمِ التَّقْرِيرِ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَوْقُوفًا ; لِأَنَّ فَاعِلَهُ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا، وَإِلَّا فَمَا اخْتِصَاصُ حَدِيثِ الْقَرْعِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ فِي غَيْرِ التَّقْرِيرِ الصَّرِيحِ كَهَذَا الْحَدِيثِ، وَغَيْرُهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِمَنْعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ مُبَارَكٍ مِنْ رَفْعِ حَدِيثِ " حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ " كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذِهِ الْفُرُوعِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْحَاكِمَ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ احْتِمَالُ كَوْنِ الْقَرْعِ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ فِي حَيَاتِهِ كَانَ بِبِلَالٍ أَوْ بِرَبَاحٍ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَرُبَّمَا كَانَ بِإِعْلَامِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. بَلْ فِي حَدِيثِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ثَابِتٍ: «احْتَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ حُجْرَةً» ، وَفِيهِ: «أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ لَيْلَةً» ، وَقَالَ: «فَتَنَحْنَحُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا بَابَهُ» ، وَلَمْ يَجِئْ فِي خَبَرٍ صَرِيحٍ الِاسْتِئْذَانُ عَلَيْهِ بِالْقَرْعِ. وَإِنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ الْقَرْعِ مَعَ كَوْنِهِ بَعْدَهُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى مَزِيدِ الْأَدَبِ بَعْدَهُ ; إِذْ حُرْمَتُهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ مُطْلَقًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ، وَكَذَا فِي الْأَمَالِي كَمَا عَزَاهُ إِلَيْهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَلِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنْ رَاوٍ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ، لَهُ عَنْ رَاوٍ آخَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو الزِّيبَقِيِّ، بِالزَّايِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمِنْقَرِيِّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنْ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْآخَرِينَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانٍ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ أَخُو هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ. ثُمَّ اتَّفَقُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَسَّانَ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيِّ، وَضِرَارِ بْنِ صُرَدَ شَيْخِ حُمَيْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فِيهِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ زِيَادٍ الثَّقَفِيِّ، ثُمَّ افْتَرَقَا. فَفِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبِهَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَصِرِ. وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ سُوَيْدٍ، يَعْنِي الْعِجْلِيَّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ. لَفْظُ حُمَيْدٍ، وَلَفْظُ الْآخَرِ: كَانَتْ أَبْوَابُ النَّبِيِّ. وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتَّأْرِيخِ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ ضِرَارٍ بِهِ. [الْفَرْعُ الثَّالِثُ تفسير الصحابي] [الْفَرْعُ الثَّالِثُ] (وَ) أَمَّا (عَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِي) الَّذِي شَاهَدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ (رَفْعًا) أَيْ: مَرْفُوعًا كَمَا فَعَلَ الْحَاكِمُ، وَعَزَاهُ لِلشَّيْخَيْنِ، وَهُوَ الْفَرْعُ الثَّالِثُ (فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَسْبَابِ) لِلنُّزُولِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ ; لِتَصْرِيحِ الْخَطِيبِ فِيهَا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي: قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْنَدٌ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي شَاهَدَ الْوَحْيَ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي كَذَا كَانَ مُسْنَدًا، وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَيَّدَ بِهِ إِطْلَاقَ الْحَاكِمِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنَ التَّفْسِيرِ مَا يَنْشَأُ عَنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْبَلَاغَةِ وَاللُّغَةِ كَتَفْسِيرِ مُفْرَدٍ بِمُفْرَدٍ، أَوْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ، فَلَا يُحْكَمُ لِمَا يَكُونُ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْقَبِيلِ بِالرَّفْعِ ; لِعَدَمِ تَحَتُّمِ إِضَافَتِهِ إِلَى الشَّارِعِ. أَمَّا اللُّغَةُ وَالْبَلَاغَةُ: فَلِكَوْنِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِالْمَحَلِّ الرَّفِيعِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقَوَاعِدِ، بَلْ هُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمَوْقُوفَاتِ. وَمِنْهُ - وَهُوَ الْمَرْفُوعُ - مَا لَا تَعَلُّقَ لِلِسَانِ الْعَرَبِ بِهِ وَهُوَ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ ; كَتَفْسِيرِ أَمْرٍ مُغَيَّبٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، أَوْ تَعَيُّنِ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ سَبَبِ نُزُولٍ ; كَقَوْلِ جَابِرٍ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الْآيَةَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ يَكْفِي فِي تَسْوِيغِ الْأَخْبَارِ بِالسَّبَبِ الْبِنَاءُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ ; كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنَ الْكُفَّارِ كَلَامًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُنَاقِضُهُ ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا أُنْزِلَ لِسَبَبِ كَذَا، فَقَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْكَثِيرِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ الَّذِي خَاصَمَهُ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ: إِنِّي لَأَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النِّسَاءِ: 65] وَهُوَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ: جَزَمَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ، فَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَطَرَقَهُ الِاحْتِمَالُ. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ فِي قَائِلٍ مَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالنَّظَرِ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ - فَسَيَأْتِي فِي سَادِسِ الْفُرُوعِ. [الْفَرْعُ الرَّابِعُ قول التَّابِعِيُّ فَمَنْ دُونَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابِيِّ يَرْفَعُهُ أو يَبْلُغُ بِهْ أو يَنْمِيهِ] [الْفَرْعُ الرَّابِعُ] (وَ) الْفَرْعُ الرَّابِعُ، وَأُخِّرَ لِصُدُورِ أَلْفَاظِهِ مِمَّنْ دُونَ الصَّحَابِيِّ (قَوْلُهُمْ) أَيِ: التَّابِعِيُّ فَمَنْ دُونَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابِيِّ (يَرْفَعُهُ) أَوْ رَفَعَهُ أَوْ مَرْفُوعًا ; كَحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» رَفَعَ الْحَدِيثَ. وَكَذَا قَوْلُهُمْ: (يَبْلُغُ بِهْ) أَوْ (رِوِايَةً) أَوْ (يَرْوِيهِ) ; كَحَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغْ بِهِ: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ» وَبِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةَ «تُقَاتِلُونَ قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ» ، وَكَحَدِيثِ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةَ «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ» أَوْ (يَنْمِيهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ ; كَحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ يَنْمِي ذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُمْ: يُسْنِدُهُ، أَوْ يَأْثِرُهُ، مِمَّا الْحَامِلُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعُدُولِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْإِضَافَةِ، إِمَّا الشَّكُّ فِي الصِّيغَةِ الَّتِي سُمِعَ بِهَا أَهِيَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ "، أَوْ " نَبِيُّ اللَّهِ " أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ; كَسَمِعْتُ أَوْ حَدَّثَنِي، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَرَى الْإِبْدَالَ، كَمَا أَفَادَ حَاصِلَهُ الْمُنْذِرِيُّ، أَوْ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَإِيثَارًا لِلِاخْتِصَارِ، أَوْ لِلشَّكِّ فِي ثُبُوتِهِ، كَمَا قَالَهُمَا شَيْخُنَا، أَوْ وَرَعًا ; حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ بِالْمَعْنَى (رَفْعٌ) أَيْ: مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَاقْتَضَاهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ ; وَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ كِنَايَةٌ عَنْ رَفْعِ الصَّحَابِيِّ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحُكْمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ صَرِيحًا. انْتَهَى. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَجِيءُ بَعْضِ الْمُكَنَّى بِهِ بِالتَّصْرِيحِ ; فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِحَدِيثِ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ» يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَفِي بَعْضِهَا: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَفِي بَعْضِهَا لِحَدِيثِ سَهْلٍ: " يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَفِي بَعْضِهَا: " قَالَ مَالِكٌ: يَنْمِي أَيْ: يَرْفَعُ الْحَدِيثَ ". وَالِاصْطِلَاحُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ، قَالَ أَهْلُهَا: نَمَيْتُ الْحَدِيثَ إِلَى غَيْرِي نَمْيًا، إِذَا أَسْنَدْتُهُ وَرَفَعْتُهُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: «وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» دَلِيلٌ لِذَلِكَ، (فَانْتَبِهْ) لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا الِاصْطِلَاحُ عَنِ الْكِنَايَةِ بِهَا عَنِ الرَّفْعِ. تَتِمَّةٌ: وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: " عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُهُ "، وَهُوَ فِي حُكْمِ قَوْلِهِ: " عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثٌ حَسَنٌ [عِنْدَ الْبَزَّارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ يَرْفَعُهُ] : «إِنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ كُلِّ خَيْرٍ، يَحْمَدُنِي وَأَنَا أَنْزِعُ نَفْسَهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ» ، وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ جَمَعَ مِنْهَا ابْنُ الْمُفَضَّلِ الْحَافِظُ طَائِفَةً، وَأَفْرَدَهَا غَيْرُهُ. [الْفَرْعُ الْخَامِسُ وَاحِدٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ عَنْ تَابِعٍ مِنَ التَّابِعِينَ] [الْفَرْعُ الْخَامِسُ] (وَإِنْ يَقُلْ) وَاحِدٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ مِنْ رَاوٍ (عَنْ تَابِعٍ) مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ الْفَرْعُ الْخَامِسُ، وَقُدِّمَ عَلَى مَا بَعْدَهُ ; لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي أَكْثَرِ صِيَغِهِ، وَتَوَالَى كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ (فَمُرْسَلُ) مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: جَزْمًا. (قُلْتُ) : وَ (مِنَ السُّنَّةِ) كَذَا (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ التَّابِعِيِّ ; كَقَوْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ التَّابِعِيِّ: «السُّنَّةُ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى، حِينَ يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ» (نَقَلُوا تَصْحِيحَ وَقْفِهِ) عَلَى الصَّحَابِيِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا النَّوَوِيُّ فِي شُرُوحِهِ لِمُسْلِمٍ، وَالْمُهَذَّبِ، وَالْوَسِيطِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَهْوَ مَوْقُوفٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ؟ وَهُوَ مِمَّنْ صَحَّحَ أَيْضًا أَوَّلَهُمَا. وَحِينَئِذٍ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مِنْ صِيَغِ هَذَا الْفَرْعِ ; حَيْثُ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا بِأَنْ " يَرْفَعَ الْحَدِيثَ " تَصْرِيحٌ بِالرَّفْعِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذُكِرَ مَعَهَا بِخِلَافٍ " مِنَ السُّنَّةِ "، فَيَطْرُقُهَا احْتِمَالُ إِرَادَةِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. فَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ بِهَا فِيمَا يُضَافُ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ يُرِيدُونَ سُنَّةَ الْبَلَدِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ قِيلَ بِهِ فِي الصَّحَابِيِّ فَهُوَ فِي التَّابِعِيِّ أَقْوَى ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، كَمَا افْتَرَقَ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنَ التَّابِعِيِّ نَفْسِهِ. نَعَمْ أَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالصَّحَابَةِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فِي " مِنَ السُّنَّةِ "، فَرَوَى فِي الْأُمِّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهُ، قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَقُلْتُ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: سُنَّةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَ سَعِيدٍ: سُنَّةٌ، أَنْ يَكُونَ أَرَادَ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: إِذَا قَالَ سَعِيدٌ: " مَضَتِ السُّنَّةُ "، فَحَسْبُكَ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ التَّابِعِينَ كَالْمُرْسَلِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي. أَمَّا إِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِيِّ: " كُنَّا نَفْعَلُ "، فَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ قَطْعًا وَلَا بِمَوْقُوفٍ إِنْ لَمْ يُضِفْهُ لِزَمَنِ الصَّحَابَةِ، بَلْ مَقْطُوعٌ، فَإِنْ أَضَافَهُ احْتَمَلَ الْوَقْفَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُمْ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ عَدَمَهُ ; لِأَنَّ تَقْرِيرَ الصَّحَابِيِّ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ تَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَذُو احْتِمَالِ) لِلْإِرْسَالِ وَالْوَقْفِ (نَحْوُ أُمِرْنَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، بِكَذَا، إِذَا أَتَى (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ التَّابِعِيِّ (لِلْغَزَالِيِّ) فِي الْمُسْتَصْفَى ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ التَّابِعِيُّ: " أُمِرْنَا بِكَذَا " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَمْرَ الشَّارِعِ، أَوْ أَمْرَ كُلِّ الْأُمَّةِ، فَيَكُونُ حُجَّةً، أَوْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَلَا، وَمِنْ ذَلِكَ يَنْشَأُ احْتِمَالَا الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: " فَيَكُونُ حُجَّةً " كَأَنَّهُ يُرِيدُ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ شَمِلَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَرْجِيحِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ إِرَادَةِ الرَّفْعِ أَوِ الْإِجْمَاعِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " فَلَا " لَكِنْ لَا يَلِيقُ بِالْعَالِمِ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ، إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَجَزَمَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَحَكَى فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ هَلْ يَكُونُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةً وَجْهَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ التَّابِعِيُّ: " كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا " فَلَا يَدُلُّ - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ - عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، بَلْ عَلَى الْبَعْضِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بِنَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ نَقْلًا لِلْإِجْمَاعِ، وَفِي ثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ خِلَافٌ، وَالَّذِي قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّازِيِّ - إِلَى ثُبُوتِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ: وَلَيْسَ آكَدَ مِنْ سُنَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَثْبُتُ بِهِ، قَالَ: وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا، أَمَّا إِذَا قَالَ: لَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ; فَأَثْبَتَ الْإِجْمَاعَ بِهِ قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا مِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ - لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ. [الْفَرْعُ السَّادِسُ مَا أَتَى عَنْ الصحابي مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ] [الْفَرْعُ السَّادِسُ] (وَ) الْفَرْعُ السَّادِسُ، وَأُخِّرَ هُوَ وَالَّذِي بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُمَا مِنَ الزِّيَادَاتِ (مَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ) مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ. (بِحَيْثُ لَا يُقَالُ رَأْيًا) أَيْ: مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ (حُكْمُهُ الرَّفْعُ) تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالصَّحَابِيِّ (عَلَى مَا قَالَ) الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ، نَحْوُ: «مَنْ أَتَى سَاحِرًا أَوْ عَرَّافًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ (فَالْحَاكِمُ الرَّفْعَ لِهَذَا) أَيْضًا (أَثْبَتَا) حَيْثُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي " عُلُومِهِ " مَعْرِفَةَ الْمَسَانِيدِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ سَنَدُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَدْخَلَ مَعَهُ فِي التَّرْجَمَةِ: " كُنَّا نَفْعَلُ "، وَ " كَانَ يُقَالُ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا مَضَى. بَلْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ - وَقَدْ رَأَى رَجُلًا خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أَمَّا هَذَا، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مُسْنَدٌ. وَأَدْخَلَ فِي كِتَابِهِ (التَّقَصِّي) الْمَوْضُوعَ لِمَا فِي الْمُوَطَّأِ مِنَ الْمَرْفُوعِ، عِدَّةَ أَحَادِيثَ ذَكَرَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفَةً، مِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَصَرَّحَ فِي التَّمْهِيدِ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: قَدْ يَحْكِي الصَّحَابِيُّ قَوْلًا يُوقِفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُخْرِجُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْمُسْنَدِ ; لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ قَالَهُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ ; كَحَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ» ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْنَدِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْقَبَسِ ": إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا لَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَالْمُسْنَدِ. انْتَهَى. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَدِيدِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» . حَيْثُ أَعْطَاهُ حُكْمَ الْمَرْفُوعِ ; لِكَوْنِهِ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، وَإِلَّا فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَقَوْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . لَكِنْ قَدْ جَوَّزَ شَيْخُنَا فِي ذَلِكَ وَمَا يُشْبِهُهُ احْتِمَالَ إِحَالَةِ الْإِثْمِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ; أَمَّا السَّاحِرُ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 102] . وَأَمَّا الْعَرَّافُ، وَهُوَ الْمُنَجِّمُ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمْلِ: 65] . قَالَ شَيْخُنَا: (لَكِنَّ الْأَوَّلَ - يَعْنِي الْحُكْمَ لَهَا بِالرَّفْعِ - أَظْهَرُ) . انْتَهَى. عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَإِنْ جَاءَ مِنْ أَوْجُهٍ عَنْهُ بِصُورَةِ الْمَوْقُوفِ - فَقَدْ جَاءَ مِنْ بَعْضِهَا بِالتَّصْرِيحِ بِالرَّفْعِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ لِلْأَظْهَرِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ بِحَدِيثِ: " فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ "، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: (أَأَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهُ؟) فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟ ! أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي: " الْجِنِّ " مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ صَحِيحِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: فِيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ بِمَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ، يَكُونُ لِلْحَدِيثِ حُكْمُ الرَّفْعِ. انْتَهَى. وَهَذَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِالرَّفْعِ ; لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ; فَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ الْمَاضِيَةِ مَا نَصُّهُ: إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الصَّحَابِيُّ الْمُفَسِّرُ مِمَّنْ عُرِفَ بِالنَّظَرِ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ; فَإِنَّهُ كَانَ حَصَلَ لَهُ فِي وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; فَكَانَ يُخْبِرُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ رُبَّمَا قَالَ لَهُ: حَدِّثْنَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا تُحَدِّثْنَا عَنِ الصَّحِيفَةِ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ حُكْمُ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ الرَّفْعَ ; لِقُوَّةِ الِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَجْوِيزِهِ السَّابِقِ ; لِكَوْنِ الْأَظْهَرِ - كَمَا قَالَ - خِلَافَهُ. وَسَبَقَهُ شَيْخُهُ الشَّارِحُ لِهَذَا التَّقْيِيدِ ; فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ أَنَّ كَثِيرًا مَا يُشَنِّعُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى عَلَى الْقَائِلِينَ بِالرَّفْعِ، يَعْنِي فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلِإِنْكَارِهِ وَجْهٌ، فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ - يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ سَمِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ حِينَ سَمِعَ مِنْهُ الْعَبَادِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» . قُلْتُ: وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْمُتَّصِفَ بِالْأَخْذِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُسَوِّغُ حِكَايَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهَا مُسْتَنِدًا لِذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ مَعَ [الْعَنْكَبُوتِ: 51] الَّتِي جَنَحَ الْبُخَارِيُّ إِلَى تَبْيِينِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» بِهَا وَ] عِلْمُهُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ ; بِحَيْثُ سَمَّى ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَحِيفَتَهُ النَّبَوِيَّةَ الصَّادِقَةَ، احْتِرَازًا عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الصَّحِيفَةِ الْيَرْمُوكِيَّةِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ - حِينَ سَأَلَ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ: كَيْفَ تَجِدُ قَوْمَكَ لَكَ؟ قَالَ: مُكْرِمِينَ - مَا نَصُّهُ: مَا صَدَّقَتْنِي التَّوْرَاةُ ; لِأَنَّ فِيهَا: إِذَا مَا كَانَ رَجُلٌ حَكِيمٌ فِي قَوْمٍ إِلَّا بَغَوْا عَلَيْهِ وَحَسَدُوهُ. وَكَوْنُهُ فِي مَقَامِ تَبْيِينِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا قِيلَ بِهِ فِي " أُمِرْنَا وَنُهِينَا وَكُنَّا نَفْعَلُ " وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، خُصُوصًا وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَعْبًا مِنَ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ، قَائِلًا لَهُ: لَتَتْرُكَنَّهُ، أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ الْقِرَدَةِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَنْعُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ وَلَوْ وَافَقَ كِتَابَنَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَا نَهَى عَنْ مِثْلِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلِ امْتَنَعَتْ عَائِشَةُ مِنْ قَبُولِ هَدِيِّةِ رَجُلٍ، مُعَلِّلَةً الْمَنْعَ بِكَوْنِهِ يَنْعَتُ الْكُتُبَ الْأُوَلَ. [قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: قُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: مَا لَهُمْ يَنْفُونَ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَسْأَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ] وَلَا يُنَافِيهِ: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» ; فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا وَقَعَ فِيهِمْ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْأَخْبَارِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُمْ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْعِظَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تِلْوَهُ فِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبُ» . وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا: هَذَا دَالٌّ عَلَى سَمَاعِهِ لِلْفُرْجَةِ لَا لِلْحُجَّةِ، كَمَا بَسَطْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِي " الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّقْلِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ". إِذْ عُلِمَ هَذَا، فَقَدْ أَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِالصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مَا يَجِيءُ عَنِ التَّابِعِينَ أَيْضًا، مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ ; فَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَادَّعَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: وَلِهَذَا أَدْخَلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ خَلْفَ الْمُصَلِّي» . انْتَهَى. وَقَدْ يَكُونُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ اخْتَصَّ بِذَلِكَ عَنِ التَّابِعِينَ، كَمَا اخْتَصَّ دُونَهُمْ بِالْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ: " مِنَ السُّنَّةِ وَأُمِرْنَا "، وَالِاحْتِجَاجِ بِمَرَاسِيلِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَمَاكِنِهِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ هُنَا التَّعْمِيمُ، وَبِهَذَا الْحُكْمِ أُجِيبَ مَنِ اعْتَرَضَ فِي إِدْخَالِ الْمَقْطُوعِ وَالْمَوْقُوفِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمَقْطُوعِ. [الْفَرْعُ السَّابِعُ تكرير القول بعد ذكر الصحابي قال قال] [وَالْفَرْعُ السَّابِعُ] (وَ) الْفَرْعُ السَّابِعُ (مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ) بِكَسْرِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مُحَمَّدٌ) أَيِ: ابْنُ سِيرِينَ (وَ) رَوَاهُ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (أَهْلُ الْبَصْرَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، (وَكَرَّرَ) أَيِ: ابْنُ سِيرِينَ أَوِ الرَّاوِي مِنَ الْبَصْرِيِّينَ عَنْهُ (قَالَ بَعْدَ) أَيْ: بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ ; بِأَنْ قَالَ بَعْدَهُ: " قَالَ: قَالَ " بِحَذْفِ فَاعِلِ " قَالَ " الثَّانِي. مِثَالُهُ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ طَرِيقِ دَعْلَجٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ هُوَ الْحَمَّالُ، بِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ» . وَقَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ أَيُّوبَ، وَمِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 حَدِيثِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (فَالْخَطِيبُ رَوَى) عَنْ مُوسَى الْمَذْكُورِ (بِهِ) أَيْ: فِي الْآتِي كَذَلِكَ (الرَّفْعَ) ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَالْبَصْرِيُّونَ: قَالَ: قَالَ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ. وَقَالَ الْخَطِيبُ عَقِبَهُ: قُلْتُ لِلْبَرْقَانِيِّ: أَحْسَبُ أَنَّ مُوسَى عَنَى بِهَذَا الْقَوْلِ أَحَادِيثَ ابْنِ سِيرِينَ خَاصَّةً، فَقَالَ: كَذَا يَجِبُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَيُحَقِّقُهُ وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كُلُّ شَيْءٍ حَدَّثْتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ (صَحِيحِهِ) ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادٌ بِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: أَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ. . . الْحَدِيثَ. وَرَوَى غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» . (وَذَا) أَيِ: الْحُكْمُ بِالرَّفْعِ فِيمَا يَأْتِي عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِتَكْرِيرِ " قَالَ " خَاصَّةً - (عَجِيبٌ) ; لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّعْمِيمِ فِي كُلِّ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ لَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُ، لَمْ يَسُغِ الْجَزْمُ بِالرَّفْعِ فِي ذَلِكَ ; إِذْ مُجَرَّدُ التَّكْرِيرِ مِنَ ابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَإِنْ كَانَ جَانِبُ الرَّفْعِ أَقْوَى. فَقَدْ وَجَدْنَا الْكَثِيرَ مِمَّا جَاءَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ جَاءَ بِصَرِيحِ الرَّفْعِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ; كَحَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ يَجِدُ الْخَبَثَ» . وَحَدِيثِ «زَيْدِ بْنِ الْحُبْابِ» عَنْ «أَبِي الْمُنِيبِ» عَنِ «ابْنِ بُرَيْدَةَ» عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ: الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَحَدِيثِ «أَبِي نَعَامَةَ السَّعْدِيِّ» ، عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ» ، عَنْ «أَبِي ذَرٍّ» قَالَ: قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ - أَوْ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ - إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ. . .» الْحَدِيثَ - فَآخِرُهَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ عَنِ ابْنِ الصَّامِتِ بِصَرِيحِ الرَّفْعِ، وَالْأَوَّلَانِ ذَكَرَ الْخَطِيبُ مَعَ قَوْلِهِ: شُبِّهَ فِيهِمَا الرَّفْعَ، أَنَّهُمَا جَاءَا مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ. خَاتِمَةٌ: لَوْ أُرِيدَ عَزْوُ لَفْظٍ مِمَّا جَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ كِنَايَاتِ الرَّفْعِ وَمَا أَشْبَهَهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ بِصَرِيحِ الْإِضَافَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَمْنُوعًا، فَقَدْ نَهَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْفِرْيَابِيَّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ عِيسَى بْنَ يُونُسَ الرَّمْلِيَّ عَنْ رَفْعِ حَدِيثِ: «حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ» . وَقَالَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فِي تَخْرِيجِهِ الْكَبِيرِ لِـ (الْإِحْيَاءِ) مَا حَاصِلُهُ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ عَزْوُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الْحُكْمُ بِالرَّفْعِ. انْتَهَى. [وَكَأَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ إِنْ لَمْ يَمْنَعَا الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى] . [الْمُرْسَلُ] [ تعريفه ] الْمُرْسَلُ. 120 - مَرْفُوعُ تَابِعٍ عَلَى الْمَشْهُورِ ... مُرْسَلٌ أَوْ قَيِّدْهُ بِالْكَبِيرِ 121 - أَوْ سَقْطُ رَاوٍ مِنْهُ ذُو أَقْوَالِ ... وَالْأَوَّلُ الْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ 122 - وَاحْتَجَّ مَالِكٌ كَذَا النُّعْمَانُ ... وَتَابِعُوهُمَا بِهِ وَدَانُوا 123 - وَرَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ ... لِلْجَهْلِ بِالسَّاقِطِ فِي الْإِسْنَادِ 124 - وَصَاحِبُ التَّمْهِيدِ عَنْهُمْ نَقَلَهْ ... وَمُسْلِمٌ صَدْرَ الْكِتَابِ أَصَّلَهْ 125 - لَكِنْ إِذَا صَحَّ لَنَا مَخْرَجُهُ ... بِمُسْنَدٍ أَوْ مُرْسَلٍ يُخْرِجُهُ 126 - مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الْأَوَّلِ ... نَقْبَلُهُ قُلْتُ الشَّيْخُ لَمْ يُفَصِّلِ 127 - وَالشَّافِعِيُّ بِالْكِبَارِ قَيَّدَا ... وَمَنْ رَوَى عَنِ الثِّقَاتِ أَبَدَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 128 - وَمَنْ إِذَا شَارَكَ أَهْلَ الْحِفْظِ وَافَقَهُمْ إِلَّا بِنَقْصِ لَفْظِ ... 129 - فَإِنْ يُقَلْ فَالْمُسْنَدُ الْمُعْتَمَدُ فَقُلْ دَلِيلَانِ بِهِ يَعْتَضِدُ ... 130 - وَرَسَمُوا مُنْقَطِعًا عَنْ رَجُلِ وَفِي الْأُصُولِ نَعْتُهُ بِالْمُرْسَلِ ... 131 - أَمَّا الَّذِي أَرْسَلَهُ الصَّحَابِي فَحُكْمُهُ الْوَصْلُ عَلَى الصَّوَابِ. [مَعْنَى الْمُرْسَلِ لُغَةً] : وَجَمْعُهُ " مَرَاسِيلُ " بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَحَذْفِهَا أَيْضًا، وَأَصْلُهُ كَمَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعَلَائِيِّ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِطْلَاقِ، وَعَدَمِ الْمَنْعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ [مَرْيَمَ: 83] ; فَكَأَنَّ الْمُرْسِلَ أَطْلَقَ الْإِسْنَادَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِرَاوٍ مَعْرُوفٍ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مِرْسَالٌ، أَيْ: سَرِيعَةُ السَّيْرِ ; كَأَنَّ الْمُرْسِلَ أَسْرَعَ فِيهِ عَجِلًا، فَحَذَفَ بَعْضَ إِسْنَادِهِ. قَالَ كَعْبٌ: أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلِّغُهَا ... إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ. أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَاءَ الْقَوْمُ أَرْسَالًا، أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْإِسْنَادِ مُنْقَطِعٌ مِنْ بَقِيَّتِهِ. [مَعْنَى الْمُرْسَلِ اصْطِلَاحًا] : وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَـ (مَرْفُوعُ) أَيْ: مُضَافٌ (تَابِعٍ) مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّصْرِيحِ أَوِ الْكِنَايَةِ (عَلَى الْمَشْهُورِ) عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ (مُرْسَلٌ) كَمَا نَقَلَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ، وَاخْتَارَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَوَافَقَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ. وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ كَالْقَرَافِيِّ فِي التَّنْقِيحِ بِإِسْقَاطِ الصَّحَابِيِّ مِنَ السَّنَدِ، وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ فِيهِ، وَنَقَلَ الْحَاكِمُ تَقْيِيدَهُمْ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بِاتِّصَالِ سَنَدِهِ إِلَى التَّابِعِيِّ، وَقَيَّدَهُ فِي " الْمَدْخَلِ " بِمَا لَمْ يَأْتِ اتِّصَالُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَمَا سَيَأْتِي كُلٌّ مِنْهُمَا. وَكَذَا قَيَّدَهُ شَيْخُنَا بِمَا سَمِعَهُ التَّابِعِيُّ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَخْرُجَ مَنْ لَقِيَهُ كَافِرًا فَسَمِعَ مِنْهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، كَالتَّنُّوخِيِّ رَسُولِ هِرَقْلَ ; فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ تَابِعِيًّا مَحْكُومٌ لِمَا سَمِعَهُ بِالِاتِّصَالِ لَا الْإِرْسَالِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ، وَكَأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ لِنُدُورِهِ. وَخَرَجَ بِقَيْدِ التَّابِعِيِّ مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ ; كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، وَسَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ، وَشَمِلَ إِطْلَاقُهُ الْكَبِيرَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الَّذِي لَقِيَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ، وَكَانَتْ جُلُّ رِوَايَتِهِ عَنْهُمْ، وَالصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْعَدَدَ الْيَسِيرَ، أَوْ لَقِيَ جَمَاعَةً، إِلَّا أَنَّ جُلَّ رِوَايَتِهِ عَنِ التَّابِعِينَ (وَقَيِّدْهُ بِـ) التَّابِعِيِّ (الْكَبِيرِ) كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَرْفُوعَ صَغِيرِ التَّابِعِينَ إِنَّمَا يُسَمَّى مُنْقَطِعًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مُقَدِّمَةِ (التَّمْهِيدِ) : الْمُرْسَلُ أَوْقَعُوهُ بِإِجْمَاعٍ عَلَى حَدِيثِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَثَّلَ بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ دُونَهُمْ وَيُسَمَّى جَمَاعَةً؟ . قَالَ: وَكَذَلِكَ يُسَمَّى مَنْ دُونَهُمْ أَيْضًا مِمَّنْ صَحَّ لَهُ لِقَاءُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمُجَالَسَتِهِمْ قَالَ: وَمِثْلُهُ أَيْضًا مُرْسَلُ مَنْ دُونَهُمْ، فَأَشَارَ بِهَذَا الْأَخِيرِ إِلَى مَرَاسِيلَ صِغَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 التَّابِعِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَعْنِي لَا يَكُونُ حَدِيثُ صِغَارِ التَّابِعِينَ مُرْسَلًا، بَلْ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الْوَاحِدَ أَوِ الِاثْنَيْنِ، فَأَكْثَرَ رِوَايَتِهِمْ عَنِ التَّابِعِينَ. وَإِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ: وَصُورَتُهُ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا حَدِيثُ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ أَرَ التَّقْيِيدَ بِالْكَبِيرِ صَرِيحًا عَنْ أَحَدٍ، نَعَمْ قَيَّدَ الشَّافِعِيُّ الْمُرْسَلَ الَّذِي يُقْبَلُ إِذَا اعْتَضَدَ - كَمَا سَيَأْتِي - بِأَنْ يَكُونَ مِنْ رِوَايَةِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُسَمِّي مَا رَوَاهُ التَّابِعِيُّ الصَّغِيرُ مُرْسَلًا، بَلِ الشَّافِعِيُّ مُصَرِّحٌ بِتَسْمِيَةِ رِوَايَةِ مَنْ دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ مُرْسَلَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ نَظَرَ فِي الْعِلْمِ بِخِبْرَةٍ وَقِلَّةِ غَفْلَةٍ، اسْتَوْحَشَ مِنْ مُرْسَلِ كُلِّ مَنْ دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ. (أَوْ سَقْطُ رَاوٍ مِنْهُ) أَيِ: الْمُرْسَلُ مَا سَقَطَ رَاوٍ مِنْ سَنَدِهِ ; سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ، أَوْ بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ تَنْكِيرُ " رَاوٍ "، وَجَعْلُهُ اسْمَ جِنْسٍ ; لِيَشْمَلَ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ - سُقُوطَ رَاوٍ فَأَكْثَرَ ; بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ وَالْمُعَلَّقُ، وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْخَطِيبِ ; حَيْثُ أَطْلَقَ الِانْقِطَاعَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِفَايَتِهِ: الْمُرْسَلُ هُوَ مَا انْقَطَعَ إِسْنَادُهُ ; بِأَنْ يَكُونَ فِي رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِمَّنْ فَوْقَهُ. وَكَذَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إِرْسَالَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَيْسَ بِمُدَلَّسٍ، هُوَ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ ; كَالتَّابِعِينَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَمَالِكٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ ; كَالثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ: وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ وَكَذَا فِيمَنْ لَقِيَ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أَضَافَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ - وَاحِدٌ. وَحَاصِلُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْإِرْسَالِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ، وَالتَّدْلِيسِ فِي الْحُكْمِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ فِي " بَيَانِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ " كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّدْلِيسِ -: الْإِرْسَالُ: رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، بَلْ وَعَنِ الْخَطِيبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْمَعْرُوفُ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ - أَيِ: الْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضَلَ - يُسَمَّى مُرْسَلًا. قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْخَطِيبُ، وَقَطَعَ بِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمُرْسَلُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْخَطِيبِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ -: مَا انْقَطَعَ إِسْنَادُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمُنْقَطِعِ ; فَإِنَّ قَوْلَهُ: (عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ) يَشْمَلُ الِابْتِدَاءَ وَالِانْتِهَاءَ، وَمَا بَيْنَهُمَا الْوَاحِدَ فَأَكْثَرَ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَمُرَادُنَا بِالْمُرْسَلِ هُنَا: مَا انْقَطَعَ إِسْنَادُهُ، فَسَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَخَالَفَنَا أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالُوا: هُوَ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنَحْوِهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْحَاكِمُ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَدْخَلِ وَتَبِعَهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَهُوَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ أَوْ تَابِعِ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ قَرْنٌ أَوْ قَرْنَانِ، وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ مِنَ الَّذِي سَمِعَهُ، يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، كَمَا سَيَأْتِي أَوَاخِرَ الْبَابِ، وَلَكِنَّ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ فِي عُلُومِهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَكَذَا أَطْلَقَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " مُسْتَخْرَجِهِ " عَلَى التَّعْلِيقِ مُرْسَلًا. وَمِمَّنْ أَطْلَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الْمُرْسَلَ عَلَى الْمُنْقَطِعِ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ، بَلْ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثٍ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ; بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَكَذَا صَرَّحَ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثٍ لِعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ; بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِكَوْنِهِ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثٍ لِابْنِ سِيرِينَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ; بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ حَكِيمٍ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ فِي آخَرِينَ. وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا ; فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُرْسَلُ: أَنْ يَرْوِيَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرًا، أَوْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّاوِي وَبَيْنَ رَجُلٍ رَجُلٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْمُرْسَلُ: مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ وَاحِدٌ، فَإِنْ سَقَطَ أَكْثَرُ فَهُوَ مُعْضَلٌ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِشُمُولِهِ الْمُعْضَلَ وَالْمُعَلَّقَ، قَدْ تَوَسَّعَ مَنْ أَطْلَقَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا. وَكَانَ ذَلِكَ سَلَفَ الصَّفَدِيِّ ; حَيْثُ قَالَ فِي تَذْكِرَتِهِ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْمُرْسَلُ: مَا وَقَعَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ عَنْعَنَةٍ، وَالْمُسْنَدُ: مَا رَفَعَ رَاوِيهِ بِالْعَنْعَنَةِ. فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَائِلَهُ أَرَادَ بِالْعَنْعَنَةِ الْإِسْنَادَ، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أَئِمَّةِ الْأُصُولِ: الْمُرْسَلُ قَوْلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا لَوْ كَثُرَتِ الْوَسَائِطُ. وَلَكِنْ قَدْ قَالَ الْعَلَائِيُّ: إِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي أَثْنَاءِ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَهُ، بَلْ إِنَّمَا مُرَادُهُمْ مَا سَقَطَ مِنْهُ التَّابِعِيُّ مَعَ الصَّحَابِيِّ، أَوْ مَا سَقَطَ مِنْهُ اثْنَانِ بَعْدَ الصَّحَابِيِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ، مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ بُطْلَانُ اعْتِبَارِ الْأَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ، وَالْإِجْمَاعُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَظُهُورُ فَسَادِهِ غَنِيٌّ عَنِ الْإِطَالَةِ فِيهِ. انْتَهَى. وَلِذَلِكَ خَصَّهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَهْلِ الْأَعْصَارِ الْأُوَلِ - يَعْنِي الْقُرُونَ الْفَاضِلَةَ - لِمَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . قَالَ الرَّاوِي: فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؟ وَفِي رِوَايَةٍ: جَزَمَ فِيهَا بِثَلَاثَةٍ بَعْدَ قَرْنِهِ بِدُونِ شَكٍّ، " ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوَفُّونَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَحِينَئِذٍ فَالْمُرْسَلُ (ذُو أَقْوَالِ) الثَّالِثُ أَوْسَعُهَا، وَالثَّانِي أَضْيَقُهَا (وَالْأَوَّلُ الْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ) أَهْلِ الْحَدِيثِ ; كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ، وَعِبَارَتُهُ عَقِبَ حِكَايَةِ الثَّالِثِ مِنْ كِفَايَتِهِ إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُوصَفُ بِالْإِرْسَالِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ مَا رَوَاهُ التَّابِعِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَّا مَا رَوَاهُ تَابِعُ التَّابِعِيِّ فَيُسَمُّونَهُ الْمُعْضَلَ. بَلْ صَرَّحَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ بِأَنَّ مَشَايِخَ الْحَدِيثِ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُ بِأَسَانِيدَ مُتَّصِلَةٍ إِلَى التَّابِعِيِّ، ثُمَّ يَقُولُ التَّابِعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ عَلَى حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ. [الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ] [الْخِلَافُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ] (وَاحْتَجَّ) الْإِمَامُ (مَالِكٌ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَ (كَذَا) الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ (النُّعْمَانُ) بْنُ ثَابِتٍ (وَتَابِعُوهُمَا) الْمُقَلِّدُونَ لَهُمَا، وَالْمُرَادُ الْجُمْهُورُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمْ (بِهِ) أَيْ: بِالْمُرْسَلِ (وَدَانُوا) بِمَضْمُونِهِ، أَيْ: جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ دِينًا يَدِينُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ كَثِيرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، قَالَ: وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْجَمَاهِيرِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِسَالَتِهِ: وَأَمَّا الْمَرَاسِيلُ فَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِهَا فِيمَا مَضَى، مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. انْتَهَى. وَكَانَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْفَرِيقِ رَأَى مَا فِي الرِّسَالَةِ أَقْوَى، مَعَ مُلَاحَظَةِ صَنِيعِهِ فِي الْعِلَلِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَكَوْنِهِ يَعْمَلُ بِالضَّعِيفِ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الْمُرْسَلُ، فَذَاكَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ غَيْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْمُسْنَدِ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ مِثْلُهُ؟ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - كَالطَّحَاوِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ - تَقْدِيمُ الْمَسْنَدِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالشُّهُودِ، يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ حَالًا مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْعَدَ وَأَتَمَّ مَعْرِفَةً، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عُدُولًا جَائِزِي الشَّهَادَةِ. انْتَهَى. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَعْلَى وَأَرْجَحُ مِنَ الْمُسْنَدِ، وَجَّهُوهُ بِأَنَّ مَنْ أَسْنَدَ، فَقَدْ أَحَالَكَ عَلَى إِسْنَادِهِ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ رُوَاتِهِ وَالْبَحْثِ عَنْهُمْ، وَمَنْ أَرْسَلَ مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَإِمَامَتِهِ وَثِقَتِهِ، فَقَدْ قَطَعَ لَكَ بِصِحَّتِهِ، وَكَفَّاكَ النَّظَرَ فِيهِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا قِيلَ: إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْإِرْسَالِ ضَعْفٌ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حِينَئِذٍ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ مُسْنَدٍ ضَعِيفٍ جَزْمًا. وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ ثِقَةِ الْمُرْسَلِ، وَكَوْنِهِ لَا يُرْسِلُ إِلَّا عَنِ الثِّقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَذَا أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِبَارَةُ الثَّانِي: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ، إِذَا كَانَ مُرْسِلُهُ غَيْرَ مُتَحَرِّزٍ، بَلْ يُرْسِلُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ أَيْضًا، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ: لَمْ تَزَلِ الْأَئِمَّةُ يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ، إِذَا تَقَارَبَ عَصْرُ الْمُرْسِلِ وَالْمُرْسَلِ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفِ الْمُرْسِلُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ. وَمِمَّنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ مِنْ مُخَالِفِيهِمُ الشَّافِعِيُّ، فَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْمُرْسَلِ الْمُعْتَضَدِ، وَلَكِنْ قَدْ تَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي صِحَّةِ نَقْلِ الِاتِّفَاقِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَبُولًا وَرَدًّا، قَالَ: لَكِنَّ ذَلِكَ فِيهِمَا عَنْ جُمْهُورِهِمْ مَشْهُورٌ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وَفِي كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُومِئُ إِلَى احْتِيَاجِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ إِلَى الِاحْتِفَافِ بِقَرِينَةٍ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ - فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا - مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا. يُقَالُ: نَحْنُ لَمْ نَحْتَجَّ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، إِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ عَلَى تَقَدُّمِهِ فِي الْعِلْمِ، وَمَوْضِعِهِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَخُلْطَتِهِ بِخَاصَّتِهِ مَنْ بَعْدَهُ - لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا مِنْ أُمُورِهِ، فَجَعَلْنَا قَوْلَهُ حُجَّةً لِهَذَا، لَا مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي وَصَفْتَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَدِيثٍ لِطَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ: طَاوُسٌ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا، لَكِنَّهُ عَالِمٌ بِأَمْرِ مُعَاذٍ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ ; لِكَثْرَةِ مَنْ لَقِيَهُ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ مُعَاذٍ، وَهَذَا لَا أَعْلَمُ مِنْ أَحَدٍ فِيهِ خِلَافًا، وَتَبِعَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنَ الْحُجَجِ لِهَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ احْتِمَالَ الضَّعْفِ فِي الْوَاسِطَةِ ; حَيْثُ كَانَ الْمُرْسِلُ تَابِعِيًّا لَا سِيَّمَا بِالْكَذِبِ بَعِيدٌ جِدًّا ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثْنَى عَلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ، وَشَهِدَ لَهُ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بِالْخَيْرِيَّةِ، ثُمَّ لِلْقَرْنَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِحَيْثُ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعْدِيلِ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي الْفَضْلِ فَإِرْسَالُ التَّابِعِيِّ، بَلْ وَمَنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ بَاقِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْحَدِيثَ بِالْجَزْمِ مِنْ غَيْرِ وُثُوقٍ بِمَنْ قَالَهُ - مُنَافٍ لَهَا، هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ مِمَّنِ اشْتَرَكَ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْفَضْلِ. وَأَوْسَعُ مِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قَالُوا: فَاكْتَفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْقَبُولِ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ خِلَافُ الْعَدَالَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَاسِطَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لَمَا أَرْسَلَ عَنْهُ التَّابِعِيُّ، وَالْأَصْلُ قَبُولُ خَبَرِهِ حَتَّى يَثْبُتَ عَنْهُ مَا يَقْتَضِي الرَّدَّ. وَكَذَا أَلْزَمَ بَعْضُهُمُ الْمَانِعِينَ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْحُكْمِ لِتَعَالِيقِ الْبُخَارِيِّ الْمَجْزُومَةِ بِالصِّحَّةِ إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ - أَنَّ مَنْ يَجْزِمُ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَدِيثٍ يَسْتَلْزِمُ صِحَّتَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمَحْذُوفِ، لَمَا حَذَفَهُ، فَكَأَنَّهُ عَدَّلَهُ. وَيُمْكِنُ إِلْزَامُهُمْ أَيْضًا بِأَنَّ مُقْتَضَى تَصْحِيحِهِمْ فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ: " مِنَ السُّنَّةِ " وَقْفُهُ عَلَى الصَّحَابِيِّ - حَمْلُ قَوْلِ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَلَى أَنَّ الْمُحَدِّثَ لَهُ بِذَلِكَ صَحَابِيٌّ ; تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فِي حُجَجٍ يَطُولُ إِيرَادُهَا، لِاسْتِلْزَامِهِ التَّعَرُّضَ لِلرَّدِّ، مَعَ كَوْنِ جَامِعِ التَّحْصِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعَلَائِيِّ مُتَكَفِّلًا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَا صَنَّفَ فِيهَا ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي جُزْءًا. (وَرَدَّهَ) أَيِ: الِاحْتِجَاجَ بِالْمُرْسَلِ (جَمَاهِرُ) بِحَذْفِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا جَمْعُ جُمْهُورٍ ; أَيْ: مُعْظَمُ (النُّقَّادِ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ; كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ [وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ] ، وَحَكَمُوا بِضَعْفِهِ (لِلْجَهْلِ بِالسَّاقِطِ فِي الْإِسْنَادِ) ; فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَابِعِيًّا لِعَدَمِ تَقَيُّدِهِمْ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا ; لِعَدَمِ تَقَيُّدِهِمْ بِالثِّقَاتِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ ثِقَةً يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَوَى عَنْ تَابِعِيٍّ أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى سِتَّةٍ أَوْ سَبْعَةٍ، فَهُوَ أَكْثَرُ مَا وُجِدَ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ التَّابِعِينَ عَنْ بَعْضٍ، وَاجْتِمَاعُ سِتَّةٍ فِي حَدِيثٍ يَتَعَلَّقُ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ. (وَصَاحِبُ التَّمْهِيدِ) وَهُوَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (عَنْهُمْ) يَعْنِي الْمُحَدِّثِينَ (نَقَلَهْ) ، بَلْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى طَلَبِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ (وَمُسْلِمٌ) وَهُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ (صَدْرَ الْكِتَابِ) الشَّهِيرِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الصَّحِيحِ (أَصَّلَهْ) أَيْ: رَدَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ ذَكَرَهُ فِي مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ عَلَى وَجْهِ الْإِيرَادِ عَلَى لِسَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 خَصْمِهِ: وَالْمُرْسَلُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي أَصْلِ قَوْلِنَا، وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ - لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَأَقَرَّهُ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. [وَكَذَا أَحْمَدُ فِي الْعِلَلِ] حَيْثُ يُعِلُّ الطَّرِيقَ الْمُسْنَدَةَ بِالطَّرِيقِ الْمُرْسَلِةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرْسَلُ عِنْدَهُ حُجَّةً لَازِمَةً، لَمَا أَعَلَّ بِهِ، وَيَكْفِينَا نَقْلُ صَاحِبِهِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ تَبِعَ فِيهِ الشَّافِعِيَّ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ، فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، وَمِمَّنْ حَكَى الثَّانِي عَنْ مَالِكٍ الْحَاكِمُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الْمُرْسَلُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَجَمَاهِيرِ أَصْحَابِ الْأُصُولِ وَالنَّظَرِ. قَالَ: وَحَكَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَالِكٍ وَجَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ. انْتَهَى. وَبِسَعِيدٍ يُرَدُّ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ادِّعَاؤُهُمَا إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ عَلَى قَبُولِهِ ; إِذْ هُوَ مِنْ كِبَارِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بِهِ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ. وَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَّفِقِينَ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ، كَاخْتِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ أَبِي دَاوُدَ فِي كَوْنِ الشَّافِعِيِّ أَوَّلَ مَنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ - لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ، وَيُمْكِنُ أَنَّ اخْتِصَاصَ الشَّافِعِيِّ لِمَزِيدِ التَّحْقِيقِ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً الْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتِيَارُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِيِّ، وَجَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ. وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي التَّضْيِيقِ، فَرَدَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، كَمَا بَالَغَ مَنْ تَوَسَّعَ مِنْ أَهْلِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَمَا قَبْلَهَا، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ رَدَّهُ، وَسَنُبَيِّنُ رَدَّ الْآخَرِ آخِرَ الْبَابِ، وَمَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ حُجَجِ الْأَوَّلِينَ مَرْدُودٌ. أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ وَالْأَكْثَرِيَّةِ، وَإِلَّا فَقَدْ وُجِدَ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْقَرْنَيْنِ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ، لَكِنْ بِقِلَّةٍ ; بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَثُرَ فِيهِمْ وَاشْتُهِرَ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَمِّهِ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَسْتَحْسِنُهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذِكْرِهِ إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ يَسْمَعَهُ سَامِعٌ فَيَقْتَدِيَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنِّي أَسْمَعُهُ مِنَ الرَّجُلِ لَا أَثِقُ بِهِ، فَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَمَّنْ أَثِقُ بِهِ، أَوْ أَسْمَعُهُ مِنْ رَجُلٍ أَثِقُ بِهِ قَدْ حَدَّثَ بِهِ عَمَّنْ لَا أَثِقُ بِهِ. وَهَذَا - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ - أَيْ: زَمَانَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - كَانَ يُحَدِّثُ فِيهِ الثِّقَةُ وَغَيْرُهُ. وَنَحْوُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: ذَكَرَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، فَقَالَ: أَبُو قِلَابَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَلَكِنْ عَمَّنْ ذَكَرَهُ أَبُو قِلَابَةَ. وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ أَنَّ رَجُلَا حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: " أَنَّ مَنْ زَارَ قَبْرًا أَوْ صَلَّى إِلَيْهِ، فَقَدْ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ ". قَالَ عِمْرَانُ: فَقُلْتُ لِمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: إِنَّ رَجُلًا ذَكَرَ عَنْكَ كَذَا، فَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: كُنْتُ أَحْسَبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أَشَدَّ اتِّقَاءً، فَإِذَا لَقِيتَ صَاحِبَكَ، فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ كَذَبَ. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ سُلَيْمَانَ عِنْدَ أَبِي مِجْلَزٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّمَا حَدَّثَنِيهِ مُؤَذِّنٌ لَنَا، وَلَمْ أَظُنَّهُ يَكْذِبُ. فَإِنَّ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ فِيهِمَا رَدٌّ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَمْ تَزَلْ مَقْبُولَةً مَعْمُولًا بِهَا. وَمِثْلُ هَذِهِ حَدِيثُ عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، حَتَّى وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَعْدُ، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ شَيْخًا مِنَ الْخَوَارِجِ يَقُولُ بَعْدَمَا تَابَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا، صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا. انْتَهَى. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ هَذِهِ وَاللَّهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ لِلْمُحْتَجِّينَ بِالْمُرْسَلِ ; إِذْ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْإِسْلَامِ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، ثُمَّ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا إِذَا اسْتَحْسَنُوا أَمْرًا، جَعَلُوهُ حَدِيثًا وَأَشَاعُوهُ، فَرُبَّمَا سَمِعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فَحَدَّثَ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ ; تَحْسِينًا لِلظَّنِّ، فَيَحْمِلُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَيَجِيءُ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْمَقَاطِيعِ، فَيَحْتَجُّ بِهِ مَعَ كَوْنِ أَصْلِهِ مَا ذَكَرْتُ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ بِتَعَالِيقِ الْبُخَارِيِّ، فَهُوَ قَدْ عُلِمَ شَرْطُهُ فِي الرِّجَالِ، وَتَقَيُّدُهُ بِالصِّحَّةِ، بِخِلَافِ التَّابِعِينَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ، فَالتَّعْدِيلُ الْمُحَقَّقُ فِي الْمُبْهَمِ لَا يَكْفِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سَادِسِ فُرُوعِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، فَكَيْفَ بِاسْتِرْسَالٍ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 نَعَمْ قَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْمُبْهَمُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ، أَوْ سُمِّيَ وَلَمْ تُعْرَفْ عَيْنُهُ - لَا يَقْبَلُ رِوَايَتَهُ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَالْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ، فَإِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِرِوَايَتِهِ، وَيُسْتَضَاءُ بِهَا فِي مَوَاطِنَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ، وَكَذَا يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنِ الْأَخِيرِ ; بِأَنَّ الْمَوْقُوفَ لَا انْحِصَارَ لَهُ فِيمَا اتَّصَلَ، بِخِلَافِ الْمُحْتَجِّ بِهِ. وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ نُطِلْ بِإِيرَادِهِ قَوِيَتِ الْحُجَّةُ فِي رَدِّ الْمُرْسَلِ، وَإِدْرَاجِهِ فِي جُمْلَةِ الضَّعِيفِ (لَكِنْ إِذَا صَحَّ) يَعْنِي ثَبَتَ (لَنَا) أَهْلِ الْحَدِيثِ، خُصُوصًا الشَّافِعِيَّةَ، تَبَعًا لِنَصِّ إِمَامِهِمْ (مَخْرَجُهُ) أَيِ: اتِّصَالُ الْمُرْسَلِ (بِمُسْنَدٍ) يَجِيءُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ أَوْ ضَعِيفٍ يَعْتَضِدُ بِهِ. (أَوْ) بِـ (مُرْسَلٍ) آخَرَ (يُخْرِجُهُ) أَيْ: يُرْسِلُهُ (مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ) أَيْ: شُيُوخِ رَاوِي الْمُرْسَلِ (الْأَوَّلِ) حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ اتِّحَادِهِمَا (نَقْبَلْهُ) بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ ; كَمَا صَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ بِجَوَازِهِ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِهِ الشَّارِحِ، وَلَكِنَّ نُصُوصَ مَشَاهِيرِ النُّحَاةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " مَتَى " بَدَلَ " إِذَا "، وَ " يُقْبَلُ " بَدَلَ " نَقْبَلُهُ " - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - لَكَانَ أَحْسَنَ، وَكَذَا يَعْتَضِدُ بِمَا ذَكَرَهُ مَعَ هَذَيْنِ الشَّافِعَيَّيْنِ - كَمَا سَيَأْتِي - مِنْ مُوَافَقَةِ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَوْ فَتْوَى عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَعَ كَوْنِ الِاعْتِضَادِ بِهَا فِي التَّرْتِيبِ هَكَذَا. وَقَدْ نَظَمَ الزَّائِدَ بَعْضُ الْآخِذِينَ عَنِ النَّاظِمِ فَقَالَ: أَوْ كَانَ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ صَحْبِ خَيْرِ الْأَنَامِ عَجَمٍ وَعَرَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أَوْ كَانَ فَتْوَى جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَشَيْخُنَا أَهْمَلَهُ فِي النَّظْمِ. [ الاحتجاج بمرسل كبار التابعين ] (قُلْتُ: الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (لَمْ يُفَصِّلْ) فِي الْمُرْسَلِ الْمُعْتَضِدِ بَيْنَ كِبَارَ التَّابِعِينَ وَصِغَارِهِمْ، بَلْ أَطْلَقَ كَمَا تَرَى، وَكَأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ فِي تَعْرِيفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَالشَّافِعِيُّ) الَّذِي اعْتَمَدَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَقَالَهُ فِي ذَلِكَ (بِالْكِبَارِ مِنْهُمْ قَيَّدَا) الْمُعْتَضِدَ، وَتَبِعَ ابْنَ الصَّلَاحِ فِي الْإِطْلَاقِ النَّوَوِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ. ثُمَّ تَنَبَّهَ لِلتَّقْيِيدِ فِي شَرْحِهِ لِلْوَسِيطِ وَهُوَ مِنْ أَوَاخِرِ تَصْنِيفِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِمُرْسَلِ الْكِبَارِ مِنَ التَّابِعِينَ، بِشَرْطِ أَنْ يَعْتَضِدَ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ، وَذَكَرَهَا. وَكَذَا قَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ بِـ (مَنْ رَوَى) مِنْهُمْ (عَنِ الثِّقَاتِ أَبَدَا) ; بِحَيْثُ إِذَا عُيِّنَ شَيْخُهُ فِي مُرْسَلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَوْ فِي مُطْلَقِ حَدِيثِهِ حَسَبَ مَا يَحْتَمِلُهَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ الْآتِي: لَا يُسَمَّى مَجْهُولًا، وَلَا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهُ: (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ إِلَّا عَنِ الثِّقَاتِ) كَمَا جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِ. فَالتَّوْثِيقُ مَعَ الْإِبْهَامِ لَا يَكْفِي - عَلَى مَا سَيَأْتِي - نَعَمْ قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي سَعِيدٍ بِخُصُوصِهِ: إِنَّهُ مَا عَرَفَهُ رَوَى إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَأَجَابَ بِذَلِكَ مَنْ عَارَضَهُ فِي قَبُولِ مَرَاسِيلِهِ خَاصَّةً، بَلْ وَزَادَ: أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ لَهُ مُنْقَطِعًا إِلَّا وَجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْدِيدِهِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَقِبَ الْعَاضِدِ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَلِهَذَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمُرْسَلَاتِ سَعِيدٍ ; فَإِنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيدَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. قَالَ: وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِإِرْسَالِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَتَبِعَهُ أَحْمَدُ، فَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ وَحَنْبَلٌ مَعًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ صِحَاحٌ، لَا نَرَى أَصَحَّ مِنْ مُرْسَلَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ الْحَسَنِ، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْإِرْشَادِ: اشْتُهِرَ عِنْدَ فُقَهَاءَ أَصْحَابِنَا أَنَّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِمَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ - عَقِبَ نَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ. مِمَّا رَوَاهُ عَنْهُ الرَّبِيعُ أَيْضًا: إِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ - مَا نَصُّهُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ، وَالْخَطِيبُ فِي كِتَابَيْهِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ وَالْكِفَايَةِ وَآخَرُونَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حُجَّةٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاسِيلِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا فُتِّشَتْ فَوُجِدَتْ مُسْنَدَةً. ثَانِيهِمَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ، بَلْ هِيَ كَغَيْرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ بِمُرْسَلِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْمُرْسَلِ جَائِزٌ. قَالَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِهِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ: وَالصَّوَابُ الثَّانِي، وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَذَا قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: إِنَّ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ فِي مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ مَا لَمْ يُوجَدْ بِحَالٍ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا لِابْنِ الْمُسَيَّبِ مَرَاسِيلَ لَمْ يَقْبَلْهَا الشَّافِعِيُّ حِينَ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا، وَمَرَاسِيلَ لِغَيْرِهِ قَالَ بِهَا حِينَ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا. قَالَ: وَزِيَادَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذَا عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ أَصَحُّ التَّابِعِينَ إِرْسَالًا فِيمَا زَعَمَ الْحُفَّاظُ. قَالَ أَيِ: النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرَّهْنِ الصَّغِيرِ ": مُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حُجَّةٌ - فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَالْخَطِيبِ وَالْمُحَقِّقِينَ. [إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَلَمْ يَنْفَرِدْ سَعِيدٌ بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَطْ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيَّ يَقُولُ] : كُلُّ شَيْءٍ حَدَّثْتُكَ عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُسْنَدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [وَلَكِنَّ هَذَا خَاصٌّ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ الْمَحْكِيُّ قُبَيْلَ الْمُرْسَلِ] ، (وَ) قَيَّدَهُ أَيْضًا بِـ (مَنْ إِذَا شَارَكَ) مِنْهُمْ (أَهْلَ الْحِفْظِ) فِي أَحَادِيثِهِمْ (وَافَقَهُمْ) فِيهَا وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ (إِلَّا بِنَقْصِ لَفْظِ) [الْحُفَّاظِ بِكَلِمَةٍ فَأَزْيَدَ مِمَّا] لَا يَخْتَلُّ مَعَهُ الْمَعْنَى ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ فِي قَبُولِ مُرْسَلِهِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ - أَعْنِي رِوَايَتَهُ عَنِ الثِّقَاتِ، وَمُوَافَقَةَ الْحُفَّاظِ، وَكَوْنَهُ مِنَ الْكِبَارِ - صِفَةٌ لِلْمُرْسِلِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مُرْسَلِهِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: جَارٍ فِي كُلِّ رَاوٍ أَرْسَلَ أَوْ أَسْنَدَ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُحْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ أَيْضًا يَشْتَرِطُ أَوَّلَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ النِّزَاعِ فِيهِ. وَهَذَا سِيَاقُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِحَ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ أَوْرَدَهُ أَخَلَّ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بِأَشْيَاءَ مُهِمَّةٍ. فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُنْقَطِعُ مُخْتَلِفٌ، فَمَنْ شَاهَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّابِعِينَ، فَحَدَّثَ حَدِيثًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتُبِرَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَا أَرْسَلَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنْ شَرِكَهُ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ، فَأَسْنَدُوهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى، كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قِيلَ عَنْهُ وَحِفْظِهِ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِإِرْسَالِ حَدِيثٍ لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهِ مَنْ يُسْنِدُهُ، قُبِلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُنْظَرَ هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلُ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَبِلَ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ رِجَالِهِ الَّذِينَ قُبِلَ عَنْهُمْ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَةً تُقَوِّي لَهُ مُرْسَلَهُ، وَهِيَ أَضْعَفُ مِنَ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، نُظِرَ إِلَى بَعْضِ مَا يَرْوِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا لَهُ، فَإِنْ وُجِدَ يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مُرْسَلَهُ إِلَّا عَنْ أَصْلٍ يَصِحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ وُجِدَ عَوَامٌّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ إِذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ، لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، وَلَا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ، وَيَكُونَ إِذَا شَرِكَ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ لَمْ يُخَالِفْهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ، كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ. وَمَتَى خَالَفَ مَا وَصَفْتُ، أَضَرَّ بِحَدِيثِهِ حَتَّى لَا يَسَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ قَبُولُ مُرْسَلِهِ. قَالَ: وَإِذَا وُجِدَتِ الدَّلَائِلُ لِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وَصَفْتُ، أَحْبَبْنَا - يَعْنِي اخْتَرْنَا - كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ - أَنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بِالْمُؤْتَصِلِ ; وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْمُنْقَطِعَ مُغَيَّبٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُمِلَ عَمَّنْ يُرْغَبُ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إِذَا سُمِّيَ وَإِنَّ بَعْضَ الْمُنْقَطِعَاتِ، وَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ - فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُهُمَا وَاحِدًا مِنْ حَدِيثِ مَنْ لَوْ سُمِّيَ لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنَّ قَوْلَ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَالَ بِرَأْيِهِ لَوْ وَافَقَهُ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 دَلَالَةً قَوِيَّةً إِذَا نُظِرَ فِيهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا غَلِطَ بِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَافِقُهُ، وَيَحْتَمِلُ مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ وَافَقَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْ بَعْدَ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ ; لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَشَدُّ تَجَوُّزًا فِيمَنْ يَرْوُونَ عَنْهُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ تُوجَدُ عَلَيْهِمُ الدَّلَائِلُ فِيمَا أَرْسَلُوا بِضَعْفِ مَخْرَجِهِ، وَالْآخَرُ: كَثْرَةُ الْإِحَالَةِ لِلْأَخْبَارِ، وَإِذَا كَثُرَتِ الْإِحَالَةُ، كَانَ أَمْكَنَ لِلْوَهْمِ وَضَعْفِ مَنْ يَقْبَلُ عَنْهُ. وَكَذَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الْجَوْهَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ حِمْدَانَ الطَّرَائِفِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الرَّبِيعِ بِهِ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِهِ: عَنِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَهُوَ يُفِيدُ فَائِدَةً جَلِيلَةً. وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ: مِمَّا يَعْتَضِدُ بِهِ الْمُرْسَلُ: فِعْلُ صَحَابِيٍّ، أَوِ انْتِشَارًا، أَوْ عَمَلُ أَهْلِ الْعَصْرِ، أَوْ قِيَاسًا مُعْتَبَرًا. وَيُمْكِنُ رُجُوعُهَا إِلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِتَكَلُّفٍ فِي بَعْضِهَا، ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ إِلَّا إِنِ اعْتَضَدَ - هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ زَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ فِي الْجَدِيدِ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ سِوَاهُ، وَكَذَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ، فَلَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِإِجْمَاعِ النَّقَلَةِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ غَيْرُ حُجَّةٍ. نَعَمْ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ إِذَا دَلَّ عَلَى مَحْظُورٍ وَلَمْ يُوجَدْ سِوَاهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الِانْكِفَافِ ; يَعْنِي احْتِيَاطًا، [وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْجَزْمِ بِوُجُوبِ الِانْكِفَافِ بِخَبَرِ الْمَسْتُورِ ; كَمَا سَيَأْتِي فِيهِ مَعَ النِّزَاعِ فِي الْوُجُوبِ بِكَلَامِ النَّوَوِيِّ] . (فَإِنْ يُقَلْ) عَلَى وَجْهِ الْخَدْشِ فِي الِاعْتِضَادِ بِمُسْنَدٍ: (فَالْمُسْنَدُ) هُوَ (الْمُعْتَمَدُ) حِينَئِذٍ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمُرْسَلِ، (فَقُلْ) مُجِيبًا بِمَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّ الْمُرْسَلَ تَقَوَّى بِالْمُسْنَدِ، وَبَانَ بِهِ قُوَّةُ السَّاقِطِ مِنْهُ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْحُجَّةِ. وَأَيْضًا فَكَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ - وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ النَّاظِمُ - لِتَضَمُّنِهِ إِبْدَاءَ فَائِدَةِ ذَلِكَ: هُمَا (دَلِيلَانِ) ; إِذِ الْمُسْنَدُ دَلِيلٌ بِرَأْسِهِ، وَالْمُرْسَلُ (بِهِ) أَيِ: الْمُسْنَدِ (يَعْتَضِدُ) ، وَيَصِيرُ دَلِيلًا آخَرَ، فَيُرَجَّحُ بِهِمَا الْخَبَرُ عِنْدَ مُعَارَضَةِ خَبَرٍ لَيْسَ لَهُ سِوَى طَرِيقٍ مُسْنَدٍ. قَالَ غَيْرُهُ: وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُسْنَدُ حَسَنًا، فَيَرْتَقِي بِالْمُرْسَلِ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيرَادَ إِنَّمَا يَأْتِي إِذَا كَانَ الْمُسْنَدُ بِمُفْرَدِهِ صَالِحًا لِلْحُجَّةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَى اعْتِضَادٍ فَلَا ; إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا اعْتَضَدَ بِالْآخَرِ، وَصَارَ بِهِ حُجَّةً. وَلِذَا قَيَّدَهُ الْإِمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي " الْمَحْصُولِ " بِقَوْلِهِ: هَذَا فِي مُسْنَدٍ لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ إِذَا انْفَرَدَ. أَفَادَهُ شَيْخُنَا، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ اعْتِضَادُهُ بِهَذَا الْمُسْنَدِ كَاعْتِضَادِهِ بِمُرْسَلٍ آخَرَ ; لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ الصَّلَاحِيَةِ لِلْحُجَّةِ، وَيَجِيءُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ انْضِمَامٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ إِلَى مِثْلِهِ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى مِثْلِهَا. وَلَكِنْ قَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقُوَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ ; إِذْ بِانْضِمَامِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، قَوِيَ الظَّنُّ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَقْرِيرِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ ; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أَنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي ضَعْفُهُ مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ حِفْظِ رَاوِيهِ وَكَثْرَةِ غَلَطِهِ لَا مِنْ جِهَةِ اتِّهَامِهِ بِالْكَذِبِ - إِذَا رُوِيَ مِثْلُهُ بِسَنَدٍ آخَرَ نَظِيرُهُ فِي الرِّوَايَةِ، ارْتَقَى إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ حِينَئِذٍ مَا يُخَافُ مِنْ سُوءِ حِفْظِ الرَّاوِي، وَيَعْتَضِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَفْرَادُ الْمُتَوَاتِرِ. وَالتَّشْبِيهُ بِالشَّهَادَةِ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ ; لِافْتِرَاقِهِمَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ (وَرَسَمُوا) أَيْ: سَمَّى جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ (مُنْقَطِعًا) قَوْلَهُمْ (عَنْ رَجُلٍ) أَوْ شَيْخٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبْهَمُ الرَّاوِي فِيهِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ لَهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْحَاكِمُ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْسَلًا، وَ (فِي) كُتُبِ (الْأُصُولِ) كَـ (الْبُرْهَانِ) لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ (نَعْتُهُ) يَعْنِي تَسْمِيَتُهُ (بِالْمُرْسَلِ) ; وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْ صُوَرِهِ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ: عَنْ فُلَانٍ الرَّاوِي، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهُ. أَوْ: أَخْبَرَنِي مَوْثُوقٌ بِهِ رَضِيٌّ، قَالَ: وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الْأَخْبَارِ إِلَى كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلْحَقٌ بِالْمُرْسَلِ ; لِلْجَهْلِ بِنَاقِلِ الْكِتَابِ، بَلْ فِي " الْمَحْصُولِ " أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا سَمَّى الْأَصْلَ بِاسْمٍ لَا يُعْرَفُ بِهِ، فَهُوَ كَالْمُرْسَلِ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْمُهْمَلَ ; كَعَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ جَمَاعَةً يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ، وَكَذَا الْمَجْهُولُ ; إِذْ لَا فَرْقَ. [ ذكر المبهمات في المراسيل ] وَمِمَّنْ أَخْرَجَ الْمُبْهَمَاتِ فِي الْمَرَاسِيلِ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى رِوَايَةِ الْمُبْهَمِ مُرْسَلًا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ ; فَإِنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الرِّوَايَةِ وَأَرْبَابِ النَّقْلِ - كَمَا حَكَاهُ الرَّشِيدُ الْعَطَّارُ فِي كِتَابِهِ الْغُرَرِ الْمَجْمُوعَةِ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ، وَاخْتَارَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الْعَلَائِيُّ فِي جَامِعِ التَّحْصِيلِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ تَلَامِذَةِ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ لَكِنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُجْهَلُ. وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُبْهِمُ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ وَنَحْوِهِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُدَلِّسًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قُيِّدَ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِ الْجَهَالَةِ ; بِمَا إِذَا لَمْ يَجِئْ مُسَمًّى فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْجَهَالَةِ، إِلَّا بَعْدَ التَّفْتِيشِ ; لِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ تَوَقُّفِ الْفَقِيهِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِلْحُكْمِ مَعَ كَوْنِهِ مُسَمًّى فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَلَيْسَ بِإِسْنَادِهِ وَلَا مَتْنِهِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ حُجَّةً، وَلِذَا كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ الْمُبْهَمَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَكَلَامُ الْحَاكِمِ فِي الْمُنْقَطِعِ يُشِيرُ إِلَيْهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَدْ يُرْوَى الْحَدِيثُ وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ غَيْرُ مُسَمًّى، وَلَيْسَ بِمُنْقَطِعٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثَالًا مِنْ وَجْهَيْنِ، سُمِّيَ الرَّاوِي فِي أَحَدِهِمَا، وَأُبْهِمَ فِي الْآخَرِ، كَمَا وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ ; فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثًا مِنْ وَجْهَيْنِ إِلَى أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، قَالَ فِي أَحَدِهِمَا: عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي الْآخَرِ: عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: وَهَذَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَافِظُ الْفَهِمُ الْمُتَبَحِّرُ فِي الصَّنْعَةِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ فِي الْمُعْضَلِ كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ إِنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ التَّابِعِيِّ، فَأَمَّا لَوْ قَالَ التَّابِعِيُّ: عَنْ رَجُلٍ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَصِفَهُ بِالصُّحْبَةِ أَمْ لَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُتَّصِلَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَابِعِيًّا آخَرَ، بَلْ هُوَ مُرْسَلٌ عَلَى بَابِهِ. وَإِنْ وَصَفَهُ بِالصُّحْبَةِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي أَمَاكِنَ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا لِلْبَيْهِقِيِّ تَسْمِيَتُهُ أَيْضًا مُرْسَلًا، وَمُرَادُهُ مُجَرَّدُ التَّسْمِيَةِ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ فِي نَفْيِ الِاحْتِجَاجِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مِنْ " مَعْرِفَتِهِ " عَقِبَ حَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ ثِقَةٌ، فَتَرْكُ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ فِي الْإِسْنَادِ لَا يَضُرُّ، إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ. انْتَهَى. وَبِهَذَا الْقَيْدِ وَنَحْوِهِ يُجَابُ عَمَّا تُوُقِّفَ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، لَا لِكَوْنِهِ لَمْ يُسَمَّ وَلَوْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، وَيَتَأَيَّدُ كَوْنُ مِثْلِ ذَلِكَ حُجَّةً بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ: إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادُ عَنِ الثِّقَاتِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ. وَكَذَا قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: إِذَا قَالَ رَجُلٌ مِنَ التَّابِعِينَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ بِأَنْ يَكُونَ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ. قَالَ: لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ أَسَمِعَ ذَلِكَ التَّابِعِيُّ مِنْهُ أَمْ لَا؟ إِذْ قَدْ يُحَدِّثُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَجُلٍ، وَعَنْ رَجُلَيْنِ، عَنِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا أَدْرِي هَلْ أَمْكَنَ لِقَاءُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الرَّجُلِ أَمْ لَا، فَلَوْ عَلِمْتُ إِمْكَانَهُ فِيهِ، لَجَعَلْتُهُ كَمُدْرِكِ الْعَصْرِ. قَالَ النَّاظِمُ: وَهُوَ حَسَنٌ مُتَّجِهٌ، وَكَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. وَتَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّابِعِيَّ إِذَا كَانَ سَالِمًا مِنَ التَّدْلِيسِ، حُمِلَتْ عَنْعَنَتُهُ عَلَى السَّمَاعِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ: وَلَا يُقَالُ: إِنَّمَا يَتَأَتَّى هَذَا فِي حَقِّ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ جُلُّ رِوَايَتِهِمْ عَنِ الصَّحَابَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَأَمَّا صِغَارُ التَّابِعِينَ الَّذِينَ جُلُّ رِوَايَتِهِمْ عَنِ التَّابِعِينَ ; فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ إِدْرَاكِهِ لِذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ ; حَتَّى نَعْلَمَ هَلْ أَدْرَكَهُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: سَلَامَتُهُ مِنَ التَّدْلِيسِ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ ; إِذْ مَدَارُ هَذَا عَلَى قُوَّةِ الظَّنِّ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ. [مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ] [مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ] (أَمَّا) الْخَبَرُ (الَّذِي أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ) الصَّغِيرُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ لَمْ يَحْفَظْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الْيَسِيرَ، وَكَذَا الصَّحَابِيُّ الْكَبِيرُ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ. (فَحُكْمُهُ الْوَصْلُ) الْمُقْتَضِي لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ ; لِأَنَّ غَالِبَ رِوَايَةِ الصِّغَارِ مِنْهُمْ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَرِوَايَتِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ - زِيَادَةٌ، فَإِذَا رَوَوْهَا بَيَّنُوهَا، وَحَيْثُ أَطْلَقُوا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ عَنَوُا الصَّحَابَةَ. انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ عُدُولٌ لَا يَقْدَحُ فِيهِمُ الْجَهَالَةُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَأَيْضًا فَمَا يَرْوِيهِ عَنِ التَّابِعِينَ، غَالِبُهُ بَلْ عَامَّتُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْحِكَايَاتِ، وَكَذَا الْمَوْقُوفَاتُ، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (عَلَى الصَّوَابِ) الْمَشْهُورِ، بَلْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَإِنْ سَمَّوْهُ مُرْسَلًا، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ الْأَثِيرِ وَغَيْرِهِ فِيهِ خِلَافًا. وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ - ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ بُرْهَانَ فِي الْأَوْسَطِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ ; أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَمَرَاسِيلِ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، قُبِلَ إِلَّا إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ، وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي أَوَائِلَ شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ ; فَالنَّقْلُ بِذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ بُرْهَانَ فِي الْوَجِيزِ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، إِلَّا مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَمَرَاسِيلَ سَعِيدٍ، وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. أَمَّا مَنْ أُحْضِرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مُمَيِّزٍ ; كَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، [فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سِوَى رُؤْيَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَا حَمَلَ شَيْخُنَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ: يَابْنَ أَخِي، أَدْرَكْتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: لَا، عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ السَّمَاعَ مِنْهُ] . وَكَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ; فَإِنَّهُ وُلِدَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَهَذَا مُرْسَلٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لَكِنْ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَقْبُولٌ ; كَمَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ الصَّحَابَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَالْكُلُّ مَقْبُولٌ. وَاحْتِمَالُ كَوْنِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَدْرَكَ وَسَمِعَ يَرْوِي عَنِ التَّابِعِينَ - بَعِيدٌ جِدًّا، بِخِلَافِ مَرَاسِيلَ هَؤُلَاءِ ; فَإِنَّهَا عَنِ التَّابِعِينَ بِكَثْرَةٍ، فَقَوِيَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ السَّاقِطُ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ، وَجَاءَ احْتِمَالُ كَوْنِهِ غَيْرَ ثِقَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي عِدَّةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَرَّحَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِسَمَاعِهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَقَلَّدَهُ جَمَاعَةٌ: إِنَّهَا أَرْبَعَةٌ لَيْسَ إِلَّا. وَعَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ: تِسْعَةٌ، وَعَنْ غُنْدَرٍ: عَشْرَةٌ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّهَا دُونَ الْعِشْرِينَ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ. وَقَدِ اعْتَنَى شَيْخُنَا بِجَمْعِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ فَقَطْ مِنْ ذَلِكَ، فَزَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، سِوَى مَا هُوَ فِي حُكْمِ السَّمَاعِ ; كَحِكَايَةِ حُضُورِ شَيْءٍ فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَشَارَ شَيْخُنَا لِذَلِكَ، عَقِبَ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ الْحَشْرِ مِنَ الرَّقَائِقِ: هَذَا مِمَّا يُعَدُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ. خَاتِمَةٌ: الْمُرْسَلُ مَرَاتِبُ: أَعْلَاهَا: مَا أَرْسَلَهُ صَحَابِيٌّ ثَبَتَ سَمَاعُهُ، ثُمَّ صَحَابِيٌّ لَهُ رُؤْيَةٌ فَقَطْ، وَلَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُهُ، ثُمَّ الْمُخَضْرَمُ، ثُمَّ الْمُتْقِنُ ; كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَلِيهَا مَنْ كَانَ يَتَحَرَّى فِي شُيُوخِهِ ; كَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَدُونَهَا مَرَاسِيلُ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ كَالْحَسَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَأَمَّا مَرَاسِيلُ صِغَارِ التَّابِعِينَ ; كَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ - فَإِنَّ غَالِبَ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ عَنِ التَّابِعِينَ. وَهَلْ يَجُوزُ تَعَمُّدُهُ؟ قَالَ شَيْخُنَا: إِنْ كَانَ شَيْخُهُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ عَدْلًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ لَا فَمَمْنُوعٌ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ عَدْلًا عِنْدَهُ فَقَطْ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ فَقَطْ، فَالْجَوَازُ فِيهِمَا مُحْتَمَلٌ، بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ، الْآتِي فِي التَّدْلِيسِ الْإِشَارَةُ لِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُ ; لِكَوْنِهِ - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْإِرْشَادِ - مِنْ أَجَلِّ الْأَبْوَابِ، فَإِنَّهُ أَحْكَامٌ مَحْضَةٌ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. [الْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ] [تَعْرِيفُ الْمُنْقَطِعِ] الْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ. 132 - وَسَمِّ بِالْمُنْقَطِعِ الَّذِي سَقَطْ ... قَبْلَ الصَّحَابِيِّ بِهِ رَاوٍ فَقَطْ 133 - وَقِيلَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ وَقَالَا ... بِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ لَا اسْتِعْمَالَا 134 - وَالْمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ ... فَصَاعِدًا وَمِنْهُ قِسْمٌ ثَانِ 135 - حَذْفُ النَّبِيِّ وَالصَّحَابِيِّ مَعَا ... وَوَقْفُ مَتْنِهِ عَلَى مَنْ تَبِعَا [تَعْرِيفُ الْمُنْقَطِعِ] (وَسَمِّ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (بِالْمُنْقَطَعِ) عَلَى الْمَشْهُورِ (الَّذِي سَقَطَ) مِنْ رُوَاتِهِ (قَبْلَ الصَّحَابِيِّ بِهِ) أَيْ: بِسَنَدِهِ (رَاوٍ فَقَطْ) مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمَنْ وَافَقَهُ بِذَلِكَ، بَلْ سَمَّوْا مَا يَهِمُّ فِيهِ الرَّاوِي كَـ " عَنْ رَجُلٍ " مُنْقَطِعًا، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْمُرْسَلِ، وَبَالَغَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَصْرِيُّ ابْنِ الصَّلَاحِ، فَسَمَّى السَّنَدَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى إِجَازَةٍ مُنْقَطِعًا، وَسَيَأْتِي رَدُّهُ فِي الْإِجَازَةِ. وَكَذَا لَا انْحِصَارَ لَهُ فِي السَّقْطِ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، بَلْ لَوْ سَقَطَ مِنْ مَكَانَيْنِ أَوْ أَمَاكِنَ ; بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ كُلُّ سَقْطٍ مِنْهَا عَلَى رَاوٍ - لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فِي الْمَرْفُوعِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَوْقُوفُ الصَّحَابَةِ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الْوَاحِدِ الْمُعْضَلُ، وَبِمَا قَبْلَ الصَّحَابِيِّ الْمُرْسَلُ، وَلِذَا قَالَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ: هُوَ غَيْرُ الْمُرْسَلِ، قَالَ: وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْحُفَّاظِ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا. كَذَا قَالَ. وَالَّذِي حَقَّقَهُ شَيْخُنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى التَّغَايُرِ - يَعْنِي كَمَا قُرِّرَ - لَكِنْ عِنْدَ إِطْلَاقِ الِاسْمِ، وَأَمَّا عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ فَإِنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْإِرْسَالِ فَيَقُولُونَ: أَرْسَلَهُ فُلَانٌ سَوَاءٌ كَانَ مُرْسَلًا أَوْ مُنْقَطِعًا. قَالَ: (وَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَمْ يُلَاحِظْ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالِهِمْ - يَعْنِي كَالْحَاكِمِ - عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُمْ لَا يُغَايِرُونَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا حَرَّرْنَاهُ، وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ) . انْتَهَى. [أَنْوَاعُ الْمُنْقَطِعِ] [أَنْوَاعُ الْمُنْقَطِعِ] ثُمَّ بَيَّنَ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِالْأَوَّلَيْنِ مِنْهُمَا، بَلْ ذَكَرَ مِثَالَيْنِ عُلِمَا مِنْهَا، فَأَوَّلُهَا: رِوَايَةُ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ. وَثَانِيهِمَا: حَاصِلُهُ مَا أَتَى فِيهِ الْإِيهَامُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَ كَوْنِهِ مُسَمًّى فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، [وَعَكْسُهُ مَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالَ، فَيَجِيءُ رِوَايَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِانْقِطَاعِهِ] ، وَلَكِنْ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ فِي كِلَيْهِمَا إِلَّا الْحَافِظُ الْمُتَبَحِّرُ، كَمَا قَدَّمْتُهُ قَرِيبًا فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَالثَّالِثُ: مَا فِي سَنَدِهِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْإِرْسَالِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الَّذِي فَوْقَهُ، وَذَكَرَ لَهُ مِثَالًا فِيهِ قَبْلَ التَّابِعِيِّ سَقْطٌ مِنْ مَوْضِعَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُرِ الْمُنْقَطِعَ فِي السَّاقِطِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ، بَلْ جَعْلَهُ نَوْعًا مِنْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا شَكٍّ. وَإِذَا كَانَ يُسَمِّي مَا أُبْهِمَ فِيهِ مَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ التَّابِعِيِّ مُنْقَطِعًا، فَبِالْأَحْرَى أَنْ يُسَمِّيَهُ كَذَلِكَ مَعَ إِسْقَاطِهِ، (وَقِيلَ) : إِنَّ الْمُنْقَطِعَ (مَا لَمْ يَتَّصِلْ) إِسْنَادُهُ، وَلَوْ كَانَ السَّاقِطُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْمُرْسَلِ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْخَطِيبِ ; حَيْثُ قَالَ: وَالْمُنْقَطِعُ مِثْلُ الْمُرْسَلِ الَّذِي مَشَى فِيهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْقَطِعُ الْإِسْنَادَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُرْسَلُ وَالْمُعْضَلُ وَالْمُعَلَّقُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُنْقَطِعُ عِنْدِي كُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ ; سَوَاءٌ كَانَ مَعْزُوًّا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَى الصَّحَابِيِّ فَمَنْ دُونَهُ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ قَصَرَهُ الْبَرْدِيجِيُّ فَقَالَ: الْمُنْقَطِعُ هُوَ الْمُضَافُ إِلَى التَّابِعِيِّ فَمَنْ دُونَهُ قَوْلًا لَهُ أَوْ فِعْلًا. وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقْطُوعِ. وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ إِلْكِيَّا الْهَرَّاسِيِّ: إِنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ بِدُونِ إِسْنَادٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُصْطَلَحُ الْمُحَدِّثِينَ، وَرَدَّهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي الْمُرْسَلِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 رَدِّهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمُنْقَطِعِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ: (وَقَالَا) بِأَلِفِ الْإِطْلَاقِ - أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ - (بِأَنَّهُ) أَيِ: الثَّانِي مِنْهَا، (الْأَقْرَبُ) أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ; فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ نَقِيضُ الِاتِّصَالِ، وَهُمَا فِي الْمَعَانِي كَهُمَا فِي الْأَجْسَامِ، فَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ وَالْكُلِّ وَمَا بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ (لَا) أَنَّهُ الْأَكْثَرُ (اسْتِعْمَالَا) ، بَلْ أَغْلَبُ اسْتِعْمَالِهِمْ فِيهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ حَسَبَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي رِوَايَةِ مَنْ دُونَ التَّابِعِينَ عَنِ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالثَّوْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَشُعْبَةَ عَنْ أَنَسٍ - يَعْنِي بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ فَأَغْلَبُ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا أَضَافَهُ التَّابِعِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تَتِمَّةٌ: قَدْ مَضَى فِي الْمُرْسَلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْمُنْقَطِعِ إِذَا احْتَفَّ بِقَرِينَةٍ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: مَنْ مَنَعَ قَبُولَ الْمُرْسَلِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَنْعًا لِقَبُولِ الْمُنْقَطِعَاتِ، وَمَنْ قَبِلَ الْمَرَاسِيلَ اخْتَلَفُوا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. [تَعْرِيفُ الْمُعْضَلِ وَأَقْسَامُهُ] [تَعْرِيفُ الْمُعْضَلِ وَأَقْسَامُهُ] : (وَالْمُعْضَلُ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الْمُتَعَدِّي، يُقَالُ: أَعْضَلَهُ فَهُوَ مُعْضَلٌ وَعَضِيلٌ، كَمَا سُمِعَ فِي " أَعْقَدْتُ الْعَسَلَ "، فَهُوَ عَقِيدٌ بِمَعْنَى مُعْقَدٍ، وَأَعَلَّهُ الْمَرَضُ فَهُوَ عَلِيلٌ بِمَعْنَى مُعَلٍّ، وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُتَعَدِّي، وَالْعَضِيلُ: الْمُسْتَغْلَقُ الشَّدِيدُ. فَفِي حَدِيثِ: «إِنَّ عَبْدًا قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ شَأْنِكَ، فَأَعْضَلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ، فَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَكْتُبَانِ» . . . الْحَدِيثَ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنَ الْعُضَالِ، الْأَمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الشَّدِيدِ الَّذِي لَا يَقُومُ لَهُ صَاحِبُهُ) . انْتَهَى. فَكَأَنَّ الْمُحَدِّثَ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ أَعْضَلَهُ ; حَيْثُ ضَيَّقَ الْمَجَالَ عَلَى مَنْ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ رُوَاتِهِ بِالتَّعْدِيلِ أَوِ الْجَرْحِ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْحَالَ، وَيَكُونُ ذَاكَ الْحَدِيثُ مُعْضَلًا لَهُ لِإِعْضَالِ الرَّاوِي لَهُ. هَذَا تَحْقِيقُهُ لُغَةً، وَبَيَانُ اسْتِعَارَتِهِ. وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: (السَّاقِطُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ إِسْنَادِهِ (اثْنَانِ فَصَاعِدًا) أَيْ: مَعَ التَّوَالِي، حَتَّى لَوْ سَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَوْضِعٍ كَانَ مُنْقَطِعًا، كَمَا سَلَفَ لَا مُعْضَلًا. وَلِعَدَمِ التَّقَيُّدِ بِاثْنَيْنِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِينَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ قَبِيلِ الْمُعْضَلِ مَعْنًى، كَمَا قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ، وَسَوَاءٌ فِي سُقُوطِ اثْنَيْنِ هُنَا الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، أَوِ اثْنَانِ بَعْدَهُمَا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، كُلُّ ذَلِكَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِالرَّفْعِ الَّذِي اسْتَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ بِمَا يُفْهَمُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَعُلِمَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَلَّقِ مِنْ وَجْهٍ، وَمُبَائِنٌ لِلْمَقْطُوعِ وَالْمَوْقُوفِ، وَكَذَا لِلْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ بِالنَّظَرِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ فِيهِمَا. وَلَا يَأْتِي قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَقَبٌ لِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، فَكُلُّ مُعْضَلٍ مُنْقَطِعٌ وَلَا عَكْسَ، إِلَّا بِالنَّظَرِ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمُنْقَطِعِ الَّذِي لَا يَحْصُرُهُ فِي سَقْطِ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَخُصُّهُ بِالْمَرْفُوعِ. وَقَوْلُ الْحَاكِمِ نَقْلًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّتِنَا: " الْمُعْضَلُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُرْسِلِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِنْ رَجُلَيْنِ " - شَامِلٌ أَيْضًا لِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَرُبَّمَا أَعْضَلَ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمُ. . . الْحَدِيثَ - إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ الَّذِي أَرْشَدَ فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمُرْسَلِ، مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، بَلْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ، وَعَزَاهُ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَهُوَ عَدَمُ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْحُكْمِ قَبْلَ الْفَحْصِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ عَنِ الرَّاوِي مِنْ وَجْهٍ مُعْضَلًا، وَمِنْ آخَرَ مُتَّصِلًا، كَحَدِيثِ مَالِكٍ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ» ، فَهَذَا مُعْضَلٌ عَنْ مَالِكٍ ; لِكَوْنِهِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ لَكِنْ خَارِجَ (الْمُوَطَّأِ) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَكَذَلِكَ مَا يَرْوِيهِ مَنْ دُونَ تَابِعِ التَّابِعِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا ; يَعْنِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِخُصُوصِهِ لَوْ لَمْ نَعْلَمْ كَوْنَ السَّاقِطِ مِنْهُ اثْنَيْنِ لَمْ يَسُغِ التَّمْثِيلُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ عَلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُسَمِّي الْمُبْهَمَ مُنْقَطِعًا، أَوْ مُتَّصِلٌ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ ; لِأَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ: (بَلَغَنِي) يَقْتَضِي ثُبُوتَ مُبَلِّغٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا. (وَمِنْهُ) أَيْ: وَمِنَ الْمُعْضَلِ، (قِسْمٌ ثَانِ) : وَهُوَ (حَذْفُ النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالصَّحَابِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَعَا، وَوَقْفُ مَتْنِهِ عَلَى مَنْ تَبِعَا) أَيْ: عَلَى التَّابِعِيِّ ; كَقَوْلِ الْأَعْمَشِ عَنِ الشَّعْبِيِّ: " يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا عَمِلْتُهُ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُ أَوْ لِسَانُهُ ; فَيَقُولُ لِجَوَارِحِهِ: أَبْعَدَكُنَّ اللَّهُ مَا خَاصَمْتُ إِلَّا فِيكُنَّ ". أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَقَالَ عَقِبَهُ: أَعْضَلَهُ الْأَعْمَشُ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّعْبِيِّ مُتَّصِلٌ مُسْنَدٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فِي صَحِيحِهِ، وَسَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ، فَقَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا ضَحِكْتُ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي شَاهِدًا إِلَّا مِنِّي، فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، [وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ عَلَيْكَ شُهُودًا] ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي» . . . " الْحَدِيثَ نَحْوَهُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ حَسَنٌ ; فَالِانْقِطَاعُ بِوَاحِدٍ مَعَ الْوَقْفِ صَدَقَ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ بِاثْنَيْنِ: الصَّحَابِيِّ وَالرَّسُولِ، وَهُوَ بِاسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْإِعْضَالِ أَوْلَى. . . انْتَهَى. وَلَا يَتَهَيَّأُ الْحُكْمُ لِكُلِّ مَا أُضِيفَ إِلَى التَّابِعِيِّ بِذَلِكَ، إِلَّا بَعْدَ تَبَيُّنِهِ بِجِهَةٍ أُخْرَى، فَقَدْ يَكُونُ مَقْطُوعًا، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ مُعْضَلًا، وَيَجِيءُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَنْ أَعْضَلَهُ مُتَّصِلًا ; كَحَدِيثِ خُلَيْدِ بْنِ دَعْلَجٍ عَنِ الْحَسَنِ: " أَخَذَ الْمُؤْمِنُ عَنِ اللَّهِ أَدَبًا حَسَنًا، إِذَا وُسِّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِذَا قُتِّرَ عَلَيْهِ قَتَّرَ " فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الضَّالِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ بِهِ. ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ - كَمَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا - التَّعْبِيرُ بِالْمُعْضَلِ فِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِيمَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لِإِشْكَالٍ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرَ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ خُلَيْدِ بْنِ دَعْلَجٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ: «مَنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، كَانَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 كَفَّارَةً لِمَا تَرَكَ مِنْ زَكَاتِهِ» ، وَقَالَ: هَذَا مُعْضَلٌ، يَكَادُ يَكُونُ بَاطِلًا. قَالَ شَيْخُنَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، أَوْ يَكُونَ الْمُعَرَّفُ بِهِ - وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِسْنَادِ - بِفَتْحِ الضَّادِ، وَالْوَاقِعُ فِي كَلَامِ مَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِكَسْرِهَا، وَيَعْنُونَ بِهِ الْمُسْتَغْلِقَ الشَّدِيدَ، قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ كَانَ مُتَعَيِّنًا. تَتِمَّةٌ: قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرْتِيبِ النَّاظِمِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ أَنَّهَا فِي الرُّتْبَةِ كَذَلِكَ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْجَوْزَجَانِيِّ: الْمُعْضَلُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. انْتَهَى. وَمَحَلُّ الْأَوَّلِ فِي الْمُنْقَطِعِ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ مَوْضِعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ يَكُونَانِ سَوَاءً. [الْعَنْعَنَةُ] 136 - وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ ... مِنْ دُلْسَةِ رَاوِيهِ وَاللِّقَا عُلِمْ 137 - وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إِجْمَاعَا ... وَمُسْلِمٌ لَمْ يَشْرِطِ اجْتِمَاعَا 138 - لَكِنْ تَعَاصُرًا وَقِيلَ يُشْتَرَطْ ... طُولُ صَحَابَةٍ وَبَعْضُهُمْ شَرَطْ 139 - مَعْرِفَةَ الرَّاوِي بِالْأَخْذِ عَنْهُ ... وَقِيلَ كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ 140 - مُنْقَطِعٌ حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ ... وَحُكْمُ " أَنَّ " حُكْمُ " عَنْ " فَالْجُلُّ 141 - سَوَّوْا وَلِلْقَطْعِ نَحَا الْبَرْدِيجِي ... حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ فِي التَّخْرِيجِ 142 - قَالَ وَمِثْلَهُ رَأَى ابْنُ شَيْبَهْ ... كَذَا لَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْ صَوْبَهْ 143 - قُلْتُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَا ... رَوَاهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَا 144 - يُحْكَمْ لَهُ بِالْوَصْلِ كَيْفَمَا رَوَى ... بِـ " قَالَ " أَوْ " عَنْ " أَوْ بِأَنَّ فَسَوَا 145 - وَمَا حَكَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ ... وَقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَى ذَا نَزِّلِ 146 - وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ " عَنْ " فِي ذَا الزَّمَنْ ... إِجَازَةً وَهُوَ بِوَصْلٍ مَا قَمِنْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 (الْعَنْعَنَةُ) وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْمُؤَنَّنِ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُ: الْمُؤْنَانُ، لَمَّا انْتَهَى الْمُنْقَطِعُ جَزْمًا أَرْدَفَهُ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَالْعَنْعَنَةُ: فَعْلَلَةٌ مِنْ عَنْعَنَ الْحَدِيثَ إِذَا رَوَاهُ بِـ " عَنْ " مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِلتَّحْدِيثِ أَوِ الْإِخْبَارِ أَوِ السَّمَاعِ. (وَصَحَّحُوا) أَيِ: الْجُمْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ (وَصْلَ) سَنَدٍ (مُعَنْعَنٍ) أَتَى عَنْ رُوَاةٍ مُسَمَّيْنَ مَعْرُوفِينَ إِنْ (سَلِمَ مِنْ دُلْسَةٍ) بِضَمِّ الدَّالِ، فُعْلَةٌ مِنْ دَلَّسَ، وَهُوَ قِيَاسُ مَصْدَرِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَلْوَانِ وَالْعُيُوبِ، [وَاسْتُعِيرَ هُنَا] أَيْ مِنْ تَدْلِيسِ (رَاوِيهِ، وَاللِّقَا) - الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ السَّمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَنْعَنَ عَنْهُ (عُلِمْ) ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ ; بِحَيْثُ أَوْدَعَهُ مُشْتَرِطُو الصَّحِيحِ تَصَانِيفَهُمْ وَقَبِلُوهُ. [هَلِ الْمُعَنْعَنُ مُتَّصِلٌ] [هَلِ الْمُعَنْعَنُ مُتَّصِلٌ] وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَنْ عُلِمَ لَهُ - يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يَظْهَرْ تَدْلِيسُهُ - سَمَاعٌ مِنْ إِنْسَانٍ فَحَدَّثَ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ مَا حَكَاهُ، وَكُلُّ مَنْ عُلِمَ لَهُ لِقَاءُ إِنْسَانٍ فَحَدَّثَ عَنْهُ، فَحُكْمُهُ هَذَا الْحُكْمُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنَ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ، لَكَانَ بِإِطْلَاقِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُدَلِّسًا، وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ مِنْ وَصْمَةِ التَّدْلِيسِ، وَالْكَلَامُ فِيمَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالتَّدْلِيسِ (وَبَعْضُهُمْ) كَالْحَاكِمِ (حَكَى بِذَا) الْمَذْهَبِ (إِجْمَاعًا) ، وَعِبَارَتُهُ: الْأَحَادِيثُ الْمُعَنْعَنَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَدْلِيسٌ مُتَّصِلَةٌ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ النَّقْلِ. وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: أَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُحَدِّثِ غَيْرِ الْمُدَلِّسِ: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا كَانَ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مُقَدِّمَةِ تَمْهِيدِهِ: أَجْمَعُوا - أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ - عَلَى قَبُولِ الْإِسْنَادِ الْمُعَنْعَنِ، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذَا جَمَعَ شُرُوطًا ثَلَاثَةً: الْعَدَالَةَ، وَاللِّقَاءَ مُجَالَسَةً وَمُشَاهَدَةً، وَالْبَرَاءَةَ مِنَ التَّدْلِيسِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ " عَنْ " مَحْمُولَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى الِاتِّصَالِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَيُعْرَفَ الِانْقِطَاعُ فِيهَا، وَسَاقَ الْأَدِلَّةَ، وَادَّعَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَيْضًا تَبَعًا لِلْحَاكِمِ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ، وَزَادَ فَاشْتَرَطَ مَا سَيَأْتِي عَنْهُ قَرِيبًا. [الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدِيثُ] [الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدِيثُ] وَيَخْدِشُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ قَوْلُ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ - وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ - مَا حَاصِلُهُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ كُلُّ عَدْلٍ فِي الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْتُ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ لَمْ يَقُولُوا أَوْ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فَلَا، لِمَا عُرِفَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ بِالْعَنْعَنَةِ فِيمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ. إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ رَاجِعٌ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْخِلَافِ السَّابِقِ، فَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ فِي ثُبُوتِ الْوِفَاقِ بَعْدَ الْخِلَافِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ: إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، أَوْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ كَذَا، أَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ كَذَا - لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. أَفَادَهُ شَيْخُنَا، وَلَا يَتِمُّ الْخَدْشُ بِهِ إِلَّا إِنْ كَانَ قَائِلًا بِاسْتِوَاءِ الِاحْتِمَالَيْنِ [أَوْ تَرْجِيحِ ثَانِيهِمَا] ، أَمَّا مَعَ تَرْجِيحِ أَوَّلِهِمَا فَلَا فِيمَا يَظْهَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [الِاشْتِرَاطُ لِلِاتِّصَالِ ثُبُوتُ اللِّقَاءِ] [الِاشْتِرَاطُ لِلِاتِّصَالِ ثُبُوتُ اللِّقَاءِ] وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَجَعَلَاهُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ فَقَطْ، وَكَذَا عَزَا اللِّقَاءَ لِلْمُحَقِّقِينَ النَّوَوِيُّ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَاقْتَضَاهُ مَا فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ. (وَ) لَكِنْ (مُسْلِمٌ لَمْ يَشْرِطْ) فِي الْحُكْمِ بِالِاتِّصَالِ (اجْتِمَاعًا) بَيْنَهُمَا، بَلْ أَنْكَرَ اشْتِرَاطَهُ فِي مُقَدِّمَةِ (صَحِيحِهِ) ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ لَمْ يُسْبَقْ قَائِلُهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَا ذَهَبَ هُوَ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ. (لَكِنْ) اشْتَرَطَ (تَعَاصُرًا) أَيْ: كَوْنُهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا أَوْ تَشَافَهَا، يَعْنِي تَحْسِينًا لِلظَّنِّ، بِالثِّقَةِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. انْتَهَى. وَوَجْهُهُ فِيمَا يَظْهَرُ مَا عُلِمَ مِنْ تَجْوِيزِ أَهْلِ ذَاكَ الْعَصْرِ لِلْإِرْسَالِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا وَحَدَّثَ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ - لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَلِّسٍ فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ عَنْهُ ; لِشُيُوعِ الْإِرْسَالِ بَيْنَهُمْ. فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ، لِتُحْمَلَ عَنْعَنَتُهُ عَلَى السَّمَاعِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ حِينَئِذٍ عَلَى السَّمَاعِ لَكَانَ مُدَلِّسًا، وَالْفَرْضُ السَّلَامَةُ مِنَ التَّدْلِيسِ، فَبَانَ رُجْحَانُ اشْتِرَاطِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ: إِنَّهُ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ، لَكِنَّهُ عَاصَرَهُمْ، كَأَبِي زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ، وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 تَدْلِيسٌ، وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا عَقِبَ حِكَايَتِهِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي قِلَابَةَ مِنْ " تَهْذِيبِهِ ": إِنَّ هَذَا مِمَّا يُقَوِّي مَنْ ذَهَبَ إِلَى اشْتِرَاطِ اللِّقَاءِ غَيْرَ مُكْتَفٍ بِالْمُعَاصَرَةِ، عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا مُوَافِقٌ لِلْجَمَاعَةِ فِيمَا إِذَا عُرِفَ اسْتِحَالَةُ لِقَاءِ التَّابِعِيِّ لِذَلِكَ الصَّحَابِيِّ فِي الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ. وَحِينَئِذٍ فَاكْتِفَاؤُهُ بِالْمُعَاصَرَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ اللِّقَاءُ (وَقِيلَ) : إِنَّهُ (يُشْتَرَطُ طُولُ صَحَابَةٍ) بَيْنَ الْمُعَنْعِنِ وَالَّذِي فَوْقَهُ، قَالَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَفِيهِ تَضْيِيقٌ. (وَبَعْضُهُمْ) وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ (شَرَطَ مَعْرِفَةَ الرَّاوِي) الْمُعَنْعِنِ (بِالْأَخْذِ) عَمَّنْ عَنْعَنَ (عَنْهُ) ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ. لَكِنْ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ، نَعَمِ الَّذِي حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ قَوْلِ الدَّانِيِّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، مِمَّا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ أَيْضًا اشْتِرَاطُ إِدْرَاكِ النَّاقِلِ لِلْمَنْقُولِ عَنْهُ إِدْرَاكًا بَيِّنًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا وَهِمًا، أَوْ قَالَهُمَا مَعًا، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بَلْ قَدْ يَحْتَمِلُ الْكِنَايَةَ بِذَلِكَ عَنِ اللِّقَاءِ، إِذْ مَعْرِفَةُ الرَّاوِي بِالْأَخْذِ عَنْ شَيْخٍ بَلْ وَإِكْثَارُهُ عَنْهُ قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يَلْقَهُ إِلَّا مَرَّةً. (وَقِيلَ) فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ: (كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ سَنَدٍ مُعَنْعَنٍ وُصِفَ رَاوِيهِ بِالتَّدْلِيسِ أَمْ لَا (مُنْقَطِعٌ) لَا يُحْتَجُّ بِهِ (حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ) بِمَجِيئِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَنْعِنِ نَفْسِهِ بِالتَّحْدِيثِ وَنَحْوِهِ. وَلَمْ يُسَمِّ ابْنُ الصَّلَاحِ قَائِلَهُ، كَمَا وَقَعَ لِلرَّامَهُرْمُزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُحَدِّثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الْفَاصِلِ " ; حَيْثُ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ " عَنْ " لَا إِشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ، وَيَصِحُّ وُقُوعُهَا فِيمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ، كَمَا إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنَّا مَثَلًا: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْ أَنَسٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ شُعْبَةُ: كُلُّ إِسْنَادٍ لَيْسَ فِيهَا ثَنَا وَأَنَا فَهُوَ خَلٌّ وَبَقْلٌ. وَقَالَ أَيْضًا: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ لَيْسَ بِحَدِيثٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ - مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ. انْتَهَى. وَفِيهِ مِنَ التَّشْدِيدِ مَا لَا يَخْفَى، وَيَلِيهِ اشْتِرَاطُ طُولِ الصُّحْبَةِ، وَمُقَابِلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ الِاكْتِفَاءُ بِالْمُعَاصَرَةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَذْهَبُ الْوَسَطُ الِاقْتِصَارُ عَلَى اللِّقَاءِ، وَمَا خَدَشَهُ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ وُجُودِ أَحَادِيثَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهَا مَعَ أَنَّهَا مَا رُوِيَتْ إِلَّا مُعَنْعَنَةً وَلَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهَا لَقِيَ شَيْخَهُ - فَغَيْرُ لَازِمٍ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ عِنْدَهُ نَفْيُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَذَا مَا أَلْزَمَ بِهِ رَدَّ الْمُعَنْعَنِ دَائِمًا ; لِاحْتِمَالِ عَدَمِ السَّمَاعِ لَيْسَ بِوَارِدٍ ; إِذِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - فِي غَيْرِ الْمُدَلِّسِ، وَمَتَى فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مَا عَنْعَنَهُ كَانَ مُدَلِّسًا. [فَائِدَةٌ إِيرَادُ عَنْ لِغَيْرِ الرِّوَايَةِ] ِ] : قَدْ تَرِدُ " عَنْ " وَلَا يُقْصَدُ بِهَا الرِّوَايَةُ، بَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ سِيَاقَ قِصَّةٍ ; سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا [أَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا] ، وَيَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 تَقْدِيرُهُ عَنْ قِصَّةِ فُلَانٍ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَبْيَنِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَأْرِيخِهِ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ - هُوَ السَّبِيعِيُّ - عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ - يَعْنِي عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ - أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ خَوَارِجُ فَقَتَلُوهُ. قَالَ شَيْخُنَا: فَهَذَا لَمْ يُرِدْ أَبُو إِسْحَاقَ بِقَوْلِهِ: " عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَهُ بِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: عَنْ قِصَّةِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ النَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ: خَرَجَ أَبُو الْأَحْوَصِ إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ. وَلِذَا قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ - فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْهُ -: كَانَ الْمَشْيَخَةُ الْأُولَى جَائِزًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: عَنْ فُلَانٍ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الرِّوَايَةَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عَنْ قِصَّةِ فُلَانٍ، (وَحُكْمُ أَنَّ) بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ، وَقَدْ تَكُونُ مَكْسُورَةً. (حُكْمُ عَنْ) فِيمَا تَقَدَّمَ (فَالْجُلُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيِ: الْمُعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ (سَوَّوْا) بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْحُرُوفِ وَالْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاللِّقَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ وَالسَّمَاعِ يَعْنِي مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّدْلِيسِ، فَإِذَا كَانَ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ صَحِيحًا. كَانَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ بِأَيِّ لَفْظٍ وَرَدَ مَحْمُولًا عَلَى الِاتِّصَالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ الِانْقِطَاعُ، يَعْنِي مَا لَمْ يُعْلَمِ اسْتِعْمَالُهُ خِلَافَهُ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَتَأَيَّدُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ " أَنَّ " وَ " عَنْ " بِأَنَّ لُغَةَ بَنِي تَمِيمٍ إِبْدَالُ الْعَيْنِ مِنَ الْهَمْزَةِ (وَ) لَكِنَّ (لِلْقَطْعِ) وَعَدَمِ اتِّصَالِ السَّنَدِ الْآتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بِأَنْ (نَحَا) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: ذَهَبَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ (الْبَرْدِيجِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا هُوَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مَعَ أَنَّهُ نِسْبَةٌ لِبِرْدِيجَ عَلَى مِثَالِ فِعْلِيلٍ بِالْكَسْرِ خَاصَّةً، كَمَا حَكَاهُ الصَّغَانِيُّ فِي الْعُبَابِ. (حَتَّى يَبِينَ) أَيْ: يَظْهَرُ (الْوَصْلُ) بِالتَّصْرِيحِ مِنْهُ بِالسَّمَاعِ وَنَحْوِهِ، لِذَلِكَ الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ، (فِي التَّخْرِيجِ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ ; لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُتَّصِلَ بِالصَّحَابِيِّ سَوَاءٌ قَالَ فِيهِ الصَّحَابِيُّ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ " أَوْ " أَنَّ " أَوْ " عَنْ " أَوْ " سَمِعْتُ " ; فَكُلُّهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا فِي أَحَادِيثِ الصَّحَابَةِ سَوَاءً اطِّرَادُ ذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْبَرْدِيجِيَّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْحَصَّارُ: إِنَّ فِيهَا اخْتِلَافًا، وَالْأَوْلَى أَنْ تُلْحَقَ بِالْمَقْطُوعِ ; إِذْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى عَدِّهَا فِي الْمُسْنَدِ، وَلَوْلَا إِجْمَاعُهُمْ فِي " عَنْ "، لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا الْخِلَافُ أَيْضًا. قَالَ الذَّهَبِيُّ عَقِبَ قَوْلِ الْبَرْدِيجِيِّ: إِنَّهُ قَوِيٌّ، (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ (وَمِثْلَهُ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ: مِثْلَ الَّذِي نَحَاهُ الْبَرْدِيجِيُّ. (رَأَى) الْحَافِظُ الْفَحْلُ (ابْنُ شَيْبَةَ) هُوَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْفَحْلُ يَعْنِي الْآتِي فِي أَدَبِ الطَّالِبِ، فَإِنَّهُ حَكَمَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ» - بِالِاتِّصَالِ. وَعَلَى رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ عَمَّارًا مَرَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي - بِالْإِرْسَالِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَالَ: " إِنَّ عَمَّارًا " وَلَمْ يَقُلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 : " عَمَّارٌ " (كَذَا لَهُ) أَيْ: لِابْنِ الصَّلَاحِ ; حَيْثُ فَهِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ مِنْ مُجَرَّدِهِمَا. (وَلَمْ يُصَوِّبْ) أَيْ لَمْ يُعَرِّجْ (صَوْبَهُ) أَيْ: صَوْبَ مَقْصِدِ يَعْقُوبَ فِي الْفَرْقِ ; وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ عَلَيْهِ بِالْإِرْسَالِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَضَافَ إِلَى الصِّيغَةِ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَحَدُ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مُرُورُ عَمَّارٍ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ عَمَّارًا مَرَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِنَّ النَّبِيَّ مَرَّ بِعَمَّارٍ، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي ظُهُورِ الْإِرْسَالِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ حَكَاهَا عَنْ عَمَّارٍ فَكَانَتْ مُتَّصِلَةً، وَلَوْ كَانَ أَضَافَ لِـ " أَنَّ " الْقَوْلَ كَأَنْ يَقُولَ: عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، إِنَّ عَمَّارًا قَالَ: مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ ظَاهِرَ الِاتِّصَالِ أَيْضًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالِانْقِطَاعِ فِيمَا يُشْبِهُ هَذَا بِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ: «إِنَّ طَلْقًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: " لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَبَعْضِ جَسَدِهِ» . هَذَا مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ قَيْسًا لَمْ يَشْهَدْ سُؤَالَ طَلْقٍ. (قُلْتُ) وَبِالْجُمْلَةِ (الصَّوَابُ مَنْ أَدْرَكَ) [لُقِيًّا أَوْ إِمْكَانًا كَمَا مَرَّ] (مَا رَوَاهُ) مِنْ قِصَّةٍ أَوْ وَاقِعَةٍ (بِالشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَا) وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنَ التَّدْلِيسِ فِيمَنْ دُونَ الصَّحَابِيِّ، (يُحْكَمْ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (لَهُ) أَيْ: لِحَدِيثِهِ (بِالْوَصْلِ كَيْفَ مَا رَوَى بِـ " قَالَ " أَوْ) بِـ (" عَنْ " أَوْ بِـ " أَنَّ ") وَكَذَا ذَكَرَ، وَفَعَلَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ يَقُولُ، وَمَا جَانَسَهَا. (فَ) كُلُّهَا (سَوَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ أَبْدَلَهَا أَلِفًا، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالتَّسْوِيَةِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ اسْتِعْمَالُ خِلَافِهِ كَالْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يُورِدُ الْحُكْمَ بِالِاتِّصَالِ عَنْ شُيُوخِهِ بِـ " قَالَ " مَا يَرْوِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِوَاسِطَةٍ عَنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّعْلِيقِ، وَبِمَنْ عَدَا الْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ مَا وُجِدَ فِي عِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ - يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ - فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ بِشَرْطِهِ، إِلَّا مَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ اسْتِعْمَالُ اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّاقِ: وَهُوَ - أَيِ: التَّقْيِيدُ بِالْإِدْرَاكِ - أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّمْيِيزِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ فِي انْقِطَاعِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ الْقِصَّةِ فِيهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ فِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ [مَالِكٍ عَنْ] ضَمْرَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ. . . الْحَدِيثَ. قَالَ قَوْمٌ: هَذَا مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ ; لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَقِيَ أَبَا وَاقِدٍ، قَالَ: فَثَبَتَ بِهَذَا الْخَدْشِ فِي الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُسَلِّمُهُ لِأَبِي عُمَرَ - انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 (وَمَا حَكَى) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (عَنْ) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ) مِنْ أَنَّ قَوْلَ عُرْوَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَوْلَهُ: عَنْ عَائِشَةَ - لَيْسَا بِسَوَاءٍ. (وَ) كَذَا مَا حَكَاهُ عَنْ (قَوْلِ يَعْقُوبَ) بْنِ شَيْبَةَ (عَلَى ذَا) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَاعِدَةِ (نَزِّلِ) ، ثُمَّ إِنَّ حُكْمَ يَعْقُوبَ بِالْإِرْسَالِ مَعَ الطَّرِيقِ الْمُتَّصِلَةِ لَا مَانِعَ مِنْهُ، فَعَادَةُ النُّقَّادِ جَارِيَةٌ بِحِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِرْسَالِ وَالْوَصْلِ، وَكَذَا الرَّفْعُ وَالْوَقْفُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرَجِّحُونَ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُهُمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ تَرْجِيحٌ. وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَطِيبَ مَثَّلَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ» ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُ الْأُولَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَالثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ هَذَا الْمِثَالُ مُمَاثِلًا لِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ; لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِيهِ فِي الْحُكْمِ بِالِاتِّصَالِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى اللِّقَاءِ وَالْإِدْرَاكِ، وَذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُشْتَرَكٌ مُتَرَدِّدٌ ; لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِعُمَرَ، وَصُحْبَةِ ابْنِ عُمَرَ لَهُمَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَوْنُهُ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي كَوْنِ " عَنْ " وَمَا أَشْبَهَهَا مَحْمُولًا عَلَى السَّمَاعِ وَالْحُكْمِ لَهُ بِالِاتِّصَالِ بِالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ - هُوَ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا أَرَى الْحُكْمَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَهُمْ فِيمَا وُجِدَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي تَصَانِيفِهِمْ مِمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ذَكَرُهُ عَنْ مَشَايِخِهِمْ قَائِلِينَ فِيهِ: ذَكَرَ فُلَانٌ، قَالَ فُلَانٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. أَيْ: فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الِاتِّصَالِ، إِلَّا إِنْ كَانَ لَهُ مِنْ شَيْخِهِ إِجَازَةٌ، يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ سَمِعَ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَ عَنْهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةٌ. قَالَ: بَلْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بَيْنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّعْلِيقِ، وَتَعَمُّدِ حَذْفِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْزُ مَا يَجِيءُ بِهَا لِكِتَابٍ أَصْلًا، يَعْنِي كَأَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ عَنْ فُلَانٍ أَشَدُّ. قَالَ: (وَكَثُرَ) بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْحَدِيثِ (اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي ذَا الزَّمَنِ) الْمُتَأَخِّرِ، أَيْ: بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ (إِجَازَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَيَانِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِهِ: قَرَأْتُ عَلَى فُلَانٍ، عَنْ فُلَانٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَظَنَّ بِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْإِجَازَةِ، (وَهُوَ) مَعَ ذَلِكَ (بِوَصْلٍ مَا) أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْوَصْلِ (قَمَنْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَذَا الْمِيمِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْكَسْرُ أَيْضًا، أَيْ: حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ بِذَلِكَ، عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَإِنَّمَا لَمْ يُثْبِتِ ابْنُ الصَّلَاحِ الْحُكْمَ فِي أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْإِجَازَةِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ اسْتِعْمَالِهِ لَهَا كَذَلِكَ وَقَبْلَ فُشُوِّهِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَقَرَّرَ وَاشْتُهِرَ فَلْيُجْزَمْ بِهِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي: أَنَا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ، سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ رَابِعِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ حِكَايَةُ أَنَّ ذَلِكَ إِجَازَةٌ مَعَ النِّزَاعِ فِيهِ. [تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ أَوِ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ] 147 - وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ فِي الْأَظْهَرِ ... وَقِيلَ بَلْ إِرْسَالُهُ لِلْأَكْثَرِ 148 - وَنَسَبَ الْأَوَّلَ لِلنُّظَّارِ ... أَنْ صَحَّحُوهُ وَقَضَى الْبُخَارِي 149 - بِوَصْلِ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِي " ... مِعْ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ 150 - وَقِيلَ الْأَكْثَرُ وَقِيلَ الْأَحْفَظُ ... ثُمَّ فَمَا إِرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ 151 - يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوَاصِلِ أَوْ ... مُسْنِدِهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَرَأَوْا 152 - أَنَّ الْأَصَحَّ الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ وَلَوْ ... مِنْ وَاحِدٍ فِي ذَا وَذَا كَمَا حَكَوْا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَكَانَ الْأَنْسَبُ ضَمَّهُ لِزِيَادَاتِ الثِّقَاتِ ; لِتَعَلُّقِهِ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ فِي الْعَنْعَنَةِ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ الْمَرْوِيِّ مُتَّصِلًا مِنْ وَجْهٍ، وَمُرْسَلًا مِنْ آخَرَ، نَاسَبَ إِرْدَافَهُ بِالْحُكْمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ مُبْتَدِئًا بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: [تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ] [تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ] (وَاحْكُمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ فِيمَا يَخْتَلِفُ الثِّقَاتِ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَرْوِيَهُ [بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا] ، وَبَعْضُهُمْ مُرْسَلًا (لِوَصْلِ ثِقَةٍ) ضَابِطٍ ; سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَالِفُ لَهُ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، أَحَفِظَ أَمْ لَا (فِي الْأَظْهَرِ) الَّذِي صَحَّحَهُ الْخَطِيبُ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ لِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَمِنْهُمُ الْبَزَّارُ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ» -: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا، وَأَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَالثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدٍ، وَإِذَا حَدَّثَ بِالْحَدِيثِ ثِقَةٌ فَأَسْنَدَهُ، كَانَ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَعَلَّ الْمُرْسَلَ أَيْضًا مُسْنَدٌ عِنْدَ الَّذِينَ رَوَوْهُ مُرْسَلًا أَوْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوهُ لِغَرَضٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَالنَّاسِي لَا يُقْضَى لَهُ عَلَى الذَّاكِرِ (وَقِيلَ: بَلِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 احْكُمْ لِـ (إِرْسَالِهِ) أَيِ الثِّقَةِ، وَهَذَا عَزَاهُ الْخَطِيبُ (لِلْأَكْثَرِ) مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَسُلُوكُ غَيْرِ الْجَادَّةِ دَالٌّ عَلَى مَزِيدِ التَّحَفُّظِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّسَائِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِرْسَالَ نَوْعُ قَدْحٍ فِي الْحَدِيثِ، فَتَرْجِيحُهُ وَتَقْدِيمُهُ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ، كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مَعَ مَا فِيهِ (وَنَسَبَ) ابْنُ الصَّلَاحِ الْقَوْلَ (الْأَوَّلَ) مِنْ هَذَيْنِ (لِلنُّظَّارِ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ، [جَمْعُ كَثْرَةٍ لِنَاظِرٍ] ، وَهُمْ هُنَا أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ (أَنْ صَحَّحُوهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ " أَنِ " الْمَصْدَرِيَّةِ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: تَصْحِيحَهُ، إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا. وَكَذَا عَزَاهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ لِاخْتِيَارِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَاخْتَارَهُ هُوَ أَيْضًا، وَارْتَضَاهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، لَكِنْ إِذَا اسْتَوَيَا فِي رُتْبَةِ الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ تَقَارَبَا. (وَقَضَى) إِمَامُ الصَّنْعَةِ (الْبُخَارِيُّ لِوَصْلِ) حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» ) الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى رَاوِيهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ ; فَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ عَنْهُ حَفِيدُهُ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ وَشَرِيكٌ وَأَبُو عَوَانَةَ بِذِكْرِ أَبِي مُوسَى (مَعَ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ) ; لِأَنَّ لَهُمَا فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ، وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الْبُخَارِيُّ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. انْتَهَى. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ أَيْضًا فِي تَقْدِيمِ الرَّفْعِ، بَلْ وَعَلَى إِطْلَاقِ كَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْلَ بِقَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ - نَصُّ إِمَامِهِمْ فِي شُرُوطِ الْمُرْسَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ إِذَا شَارَكَ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ لَا يُخَالِفُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ بِأَنْقَصَ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ ; لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بِالزِّيَادَةِ تَضُرُّ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ عَنْهُ لَا يَلْزَمُ قَبُولُهَا مُطْلَقًا، وَقِيَاسُ هَذَا هُنَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِمَنْ أَرْسَلَ أَوْ وَقَفَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي رَاوٍ نُرِيدُ اخْتِبَارَ حَالِهِ حَيْثُ لَمْ نَعْلَمْهُ قَبْلُ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ مَعَ الْجَوَابِ عَنِ اسْتِشْكَالِ عَزْوِ الْخَطِيبِ الْحُكْمَ بِالْإِرْسَالِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَنَقْلِهِ تَرْجِيحَ الزِّيَادَةِ مِنَ الثِّقَةِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ. (وَقِيلَ) وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمُعْتَبَرُ مَا قَالَهُ (الْأَكْثَرُ) مِنْ وَصْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ إِلَى الْأَكْثَرِ أَبْعَدُ، (وَقِيلَ) وَهُوَ الرَّابِعُ الْمُعْتَبَرُ مَا قَالَهُ (الْأَحْفَظُ) مِنْ وَصْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ التَّسَاوِي، قَالَهُ السُّبْكِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ الْأَقْوَالِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَرْجِيحٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ مَا قَدَّمْتُهُ عَنِ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ، وَإِلَّا فَالْحَقُّ حَسَبَ الِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِ مُتَقَدِّمِي الْفَنِّ - كَابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 مَهْدِيٍّ، وَالْقَطَّانِ، وَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ - عَدَمُ اطِّرَادِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ. بَلْ ذَلِكَ دَائِرٌ مَعَ التَّرْجِيحِ، فَتَارَةً يَتَرَجَّحُ الْوَصْلُ، وَتَارَةً الْإِرْسَالُ، وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ عَدَدُ الذَّوَاتِ عَلَى الصِّفَاتِ، وَتَارَةً الْعَكْسُ، وَمَنْ رَاجَعَ أَحْكَامَهُمُ الْجُزْئِيَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَمْ يَحْكُمْ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْوَصْلِ ; لِمُجَرَّدِ أَنَّ الْوَاصِلَ مَعَهُ زِيَادَةٌ، بَلْ لِمَا انْضَمَّ لِذَلِكَ مِنْ قَرَائِنَ رَجَّحَتْهُ. كَكَوْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنَيْهِ إِسْرَائِيلَ وَعِيسَى رَوَوْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْصُولًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَا سِيَّمَا وَإِسْرَائِيلُ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ حَدِيثَ جَدِّهِ كَمَا يَحْفَظُ سُورَةَ الْحَمْدِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْوَصْلِ عَشْرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ [مِمَّنْ سَمِعَهُ] مِنْ لَفْظِهِ، وَاخْتَلَفَتْ مَجَالِسُهُمْ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ فَكَانَ أَخْذُهُمَا لَهُ عَنْهُ عَرْضًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ; لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ، ثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ سَأَلَ أَبَا إِسْحَاقَ، أَسَمِعْتَ أَبَا بُرْدَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: نَعَمْ. وَلَا يَخْفَى رُجْحَانُ الْأَوَّلِ، هَذَا إِذَا قُلْنَا: حِفْظُ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ فِي مُقَابِلِ عَدَدِ الْآخَرِينَ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَيَتَأَيَّدُ كُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ لِلْإِرْسَالِ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ لَقَرَائِنَ قَامَتْ عِنْدَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ لِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ حَدِيثًا وَصَلَهُ، وَقَالَ: إِرْسَالُهُ أَثْبَتُ. هَذَا حَاصِلُ مَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا مَعَ زِيَادَةٍ، وَسَبَقَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ: الْعَلَائِيِّ، وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي فِي الْمُعَلَّلِ أَنَّهُ كَثُرَ الْإِعْلَالُ بِالْإِرْسَالِ وَالْوَقْفِ لِلْوَصْلِ وَالرَّفْعِ إِنْ قَوِيَا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا قَرَّرْنَاهُ. (ثُمَّ) إِذَا مَشَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ فِي الِاعْتِبَارِ بِالْأَحْفَظِ (فَمَا إِرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ يَقْدَحُ) أَيْ: قَادِحًا (فِي أَهْلِيَّةِ الْوَاصِلِ) مِنْ ضَبْطٍ - حَيْثُ لَمْ تَكْثُرِ الْمُخَالَفَةُ -، وَعَدَالَةٍ، (أَوْ) فِي (مُسْنَدِهِ) أَيْ: فِي جَمِيعِ حَدِيثِهِ الَّذِي رَوَاهُ بِسَنَدِهِ لَا فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِلْقَدْحِ فِيهِ بِلَا شَكٍّ، وَ " أَوْ " هُنَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالْوَاوِ ; كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ الْآتِيَةِ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَأْكِيدٌ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ الْقَدْحِ فِي الضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ يُغْنِي عَنِ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الْقَدْحِ فِي مَرْوِيِّهِ ; لِاسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ غَالِبًا. وَ " مَا " هِيَ النَّافِيَةُ الْحِجَازِيَّةُ، وَ " إِرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ " اسْمُهَا، وَخَبَرُهَا جُمْلَةُ " يَقْدَحُ ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اجْتَمَعَ الرَّدُّ لِمُسْنَدِهِ هَذَا، مَعَ عَدَمِ الْقَدْحِ فِي عَدَالَتِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ لِلِاحْتِيَاطِ، وَعَدَمَ الْقَدْحِ فِيهِ لِإِمْكَانِ إِصَابَتِهِ، وَوَهْمُ الْأَحْفَظِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ خَطَئِهِ مَرَّةً لَا يَكُونُ مُجَرَّحًا بِهِ ; كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا التَّصْرِيحُ بِهِ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَهَذَا الْحُكْمُ (عَلَى الْأَصَحِّ) مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ; حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ لَا يَقْدَحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ مَنْ وَصَلَهُ وَأَهْلِيَّتِهِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ أَسْنَدَ حَدِيثًا قَدْ أَرْسَلَهُ الْحُفَّاظُ، فَإِرْسَالُهُمْ لَهُ يَقْدَحُ فِي مُسْنَدِهِ وَعَدَالَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ. وَعِبَارَةُ الْخَطِيبِ فِي الْأَوَّلِ: لِأَنَّ إِرْسَالَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ لَيْسَ بِجَرْحٍ لِمَنْ وَصَلَهُ وَلَا تَكْذِيبٍ لَهُ، وَفِي الثَّانِي عَلَى لِسَانِ الْقَائِلِينَ بِهِ: لِأَنَّ إِرْسَالَهُمْ لَهُ يَقْدَحُ فِي مُسْنَدِهِ، فَيَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ. [تَعَارُضُ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ] [تَعَارُضُ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ] : (وَرَأَوْا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ، بِأَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ بَعْضُ الثِّقَاتِ مَرْفُوعًا، وَبَعْضُهُمْ مَوْقُوفًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (أَنَّ الْأَصَحَّ) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ) ; لِأَنَّ رَاوِيَهُ مُثْبِتٌ وَغَيْرَهُ سَاكِتٌ، وَلَوْ كَانَ نَافِيًا فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَقَفَ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَفِيهَا ثَالِثٌ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا تَرَكَا أَشْيَاءَ تَرْكُهَا قَرِيبٌ، وَأَشْيَاءَ لَا وَجْهَ لِتَرْكِهَا، فَمِمَّا لَا وَجْهَ لِتَرْكِهِ أَنْ يَرْفَعَ الْحَدِيثَ ثِقَةٌ فَيَقِفَهُ آخَرُ، فَتَرْكُ هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، إِلَّا أَنْ يَقِفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَيَرْفَعَهُ وَاحِدٌ، فَالظَّاهِرُ غَلَطُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ حَفِظَ دُونَهُمْ. انْتَهَى. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَاكِمِ: قُلْتُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: فَخَلَّادُ بْنُ يَحْيَى؟ فَقَالَ: ثِقَةٌ، إِنَّمَا أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَرَفَعَهُ وَوَقَفَهُ النَّاسُ، وَقُلْتُ لَهُ: فَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الثَّقَفِيُّ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ يُسْنِدُهَا وَغَيْرُهُ يَقِفُهَا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ أَصَحُّ. (وَلَوْ) كَانَ الِاخْتِلَافُ (مِنْ) رَاوٍ (وَاحِدٍ فِي ذَا وَذَا) أَيْ: فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ ; كَأَنْ يَرْوِيَهُ مَرَّةً مُتَّصِلًا أَوْ مَرْفُوعًا، وَمَرَّةً مُرْسَلًا أَوْ مَوْقُوفًا (كَمَا حَكَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ، وَصَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِتَصْحِيحِهِ. وَعِبَارَةُ النَّاظِمِ فِي تَخْرِيجِهِ الْكَبِيرِ لِلْإِحْيَاءِ عَقِبَ حَدِيثٍ اخْتَلَفَ رَاوِيهِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فَالْحُكْمُ لِلرَّفْعِ ; لِأَنَّ مَعَهُ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ زِيَادَةً، هَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ - كَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ - أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي كِلَيْهِمَا التَّعَارُضُ، عَلَى أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ قَدْ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَحْمِلُ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدَ عَلَى أَنَّهُ رِوَايَتُهُ، يَعْنِي فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِيثِ ضَعْفًا ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ يُسْنِدُ الْحَدِيثَ وَيَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً، وَيَذْكُرُ مَرَّةً عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى بِدُونِ رَفْعٍ، فَيُحْفَظُ الْحَدِيثُ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. لَكِنْ خَصَّ شَيْخُنَا هَذَا بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، أَمَّا مَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ ; يَعْنِي فِي تَوْجِيهِ الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَفَعَهُ أَيْضًا. ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي إِذَا - اتَّحَدَ السَّنَدُ، أَمَّا إِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 اخْتَلَفَ فَلَا يَقْدَحُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ إِذَا كَانَ ثِقَةً جَزْمًا، كَرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: «إِذَا اخْتَلَطُوا، فَإِنَّمَا هُوَ التَّكْبِيرُ وَالْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ» الْحَدِيثُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ، فَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ عِلَّةً لِاخْتِلَافِ السَّنَدَيْنِ فِيهِ، بَلِ الْمَرْفُوعُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِشَيْخِنَا " بَيَانُ الْفَصْلِ لِمَا رَجَحَ فِيهِ الْإِرْسَالُ عَلَى الْوَصْلِ "، وَ " مَزِيدُ النَّفْعِ لِمَعْرِفَةِ مَا رَجَحَ فِيهِ الْوَقْفُ عَلَى الرَّفْعِ ". [التَّدْلِيسُ] [تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ وَأَنْوَاعُهُ] التَّدْلِيسُ. 153 - تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ حَدَّثَهُ ، وَيَرْتَقِي بِـ " عَنْ " وَ " أَنْ " ... 154 - وَ " قَالَ " يُوهِمُ اتِّصَالًا وَاخْتُلِفْ فِي أَهْلِهِ فَالرَّدُّ مُطْلَقًا ثُقِفْ ... 155 - وَالْأَكْثَرُونَ قَبِلُوا مَا صَرَّحَا ثِقَاتُهُمْ بِوَصْلِهِ وَصُحِّحَا ... 156 - وَفِي الصَّحِيحِ عِدَّةٌ كَالْأَعْمَشِ وَكَهُشَيْمٍ بَعْدَهُ وَفَتِّشِ ... 157 - وَذَمَّهُ شُعْبَةُ ذُو الرُّسُوخِ وَدُونَهُ التَّدْلِيسُ لِلشُّيُوخِ ... 158 - أَنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بِمَا لَا يُعْرَفُ بِهِ وَذَا بِمَقْصِدٍ يَخْتَلِفُ ... 159 - فَشَرُّهُ لِلضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارَا وَكَالْخَطِيبِ يُوهِمُ اسْتِكْثَارَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 160 - وَالشَّافِعِيُّ أَثْبَتَهُ بِمَرَّهْ ... قُلْتُ وَشَرُّهَا أَخُو التَّسْوِيَهْ. لَمَّا تَمَّ مَا جَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهِ، رَجَعَ لِبَيَانِ التَّدْلِيسِ الْمُفْتَقِرِ حُكْمُ الْعَنْعَنَةِ لَهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّلَسِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الظَّلَامِ، كَأَنَّهُ لِتَغْطِيَتِهِ عَلَى الْوَاقِفِ عَلَيْهِ أَظْلَمَ أَمْرُهُ. [تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ وَأَنْوَاعُهُ] : (تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ) وَهُوَ قِسْمَانِ: أَوَّلُهُمَا أَنْوَاعٌ (كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ حَدَّثَهُ) مِنَ الثِّقَاتِ لِصِغَرِهِ، أَوِ الضُّعَفَاءِ إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ عِنْدَ مَنْ عَدَاهُ، أَيْ: غَيْرِهِ. (وَيَرْتَقِي) لِشَيْخِ شَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ عُرِفَ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ، (بِعَنْ وَأَنْ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمُسَكَّنَةِ لِلضَّرُورَةِ، (وَقَالَ) وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ الْمُحْتَمِلَةِ لِئَلَّا يَكُونَ كَذِبًا (يُوهِمُ) بِذَلِكَ (اتِّصَالًا) ، فَخَرَجَ الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ، فَهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِانْقِطَاعِ. فَالْمُرْسَلُ يَخْتَصُّ بِمَنْ رَوَى عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ لَقِيَهُ، كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ ; لِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْمُخَضْرَمِينَ كَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَبِيلِ الْإِرْسَالِ لَا مِنْ قَبِيلِ التَّدْلِيسِ، فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمُعَاصَرَةِ يُكْتَفَى بِهِ فِي التَّدْلِيسِ، لَكَانَ هَؤُلَاءِ مُدَلِّسِينَ ; لِأَنَّهُمْ عَاصَرُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا. وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَلْ لَقُوهُ أَمْ لَا، وَكَنَّى شَيْخُنَا بِاللِّقَاءِ عَنِ السَّمَاعِ لِتَصْرِيحِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْرِيفِهِ بِالسَّمَاعِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّاظِمُ فِي تَقْيِيدِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ مُوهِمًا أَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَهُ -: قَدْ حَدَّهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الْحُفَّاظِ. مِنْهُمُ الْبَزَّارُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا، فَقَالَ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يُتْرَكُ حَدِيثُهُ أَوْ يُقْبَلُ -: هُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ. [الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ] [الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ] وَكَذَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي بَيَانِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ لَهُ. قَالَ: " وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرْسَالِ هُوَ أَنَّ الْإِرْسَالَ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ، كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ كَأَنَّهَا إِيهَامُ سَمَاعِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَدْلِيسًا ". وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا لِتَضَمُّنِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي ارْتِضَائِهِ هُنَا مِنْ شَرْحِهِ حَدَّ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي التَّقْيِيدِ: إِنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: إِنَّ كَلَامَ الْخَطِيبِ فِي كِفَايَتِهِ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. قُلْتُ: وَعِبَارَتُهُ فِيهَا: " هُوَ تَدْلِيسُ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ الرَّاوِي مِمَّنْ دَلَّسَهُ عَنْهُ بِرِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَيَانِ لِذَلِكَ ". قَالَ: " وَلَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الشَّيْخِ الَّذِي دَلَّسَهُ عَنْهُ وَكَشَفَ ذَلِكَ، لَصَارَ بِبَيَانِهِ مُرْسِلًا لِلْحَدِيثِ غَيْرَ مُدَلِّسٍ فِيهِ ; لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ بِإِيهَامٍ مِنَ الْمُرْسِلِ كَوْنَهُ سَامِعًا مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَمُلْاقِيًا لِمَنْ لَمْ يَلْقَهُ، إِلَّا أَنَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَضَمِّنٌ الْإِرْسَالَ لَا مَحَالَةَ ; لِإِمْسَاكِ الْمُدَلِّسِ عَنْ ذِكْرِ الْوَاسِطَةِ ". " وَإِنَّمَا يُفَارِقُ حَالَ الْمُرْسِلِ بِإِيهَامِهِ السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُوهِنُ لِأَمْرِهِ، فَوَجَبَ كَوْنُ التَّدْلِيسِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِرْسَالِ، وَالْإِرْسَالُ لَا يَتَضَمَّنُ التَّدْلِيسَ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِيهَامَ السَّمَاعِ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذُمَّ الْعُلَمَاءُ مَنْ أَرْسَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 - يَعْنِي لِظُهُورِ السَّقْطِ - وَذَمُّوا مَنْ دَلَّسَ ". وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: " التَّدْلِيسُ عِنْدَ جَمَاعَتِهِمُ اتِّفَاقًا هُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ مِمَّنْ تُرْضَى حَالُهُ أَوْ لَا تُرْضَى، عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ حَالُهُ مَرَضِيَّةً لَذَكَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ اسْتَصْغَرَهُ ". قَالَ: " وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّجُلِ عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ - كَمَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالثَّوْرِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهُ تَدْلِيسٌ ; لِأَنَّهُمَا لَوْ شَاءَا لَسَمَّيَا مَنْ حَدَّثَهُمَا، كَمَا فَعَلَا فِي الْكَثِيرِ مِمَّا بَلَغَهُمَا عَنْهُمَا، قَالُوا: وَسُكُوتُ الْمُحَدِّثُ عَنْ ذِكْرِ مَنْ حَدَّثَهُ مَعَ عِلَّةٍ بِهِ دُلْسَةٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنَّمَا هُوَ إِرْسَالٌ، قَالُوا: فَكَمَا جَازَ أَنْ يُرْسِلَ سَعِيدٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ تَدْلِيسًا، كَذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: وَلَئِنْ كَانَ هَذَا تَدْلِيسًا، فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا سَلِمَ مِنْهُ إِلَّا شُعْبَةَ وَالْقَطَّانَ ; فَإِنَّهُمَا لَيْسَا يُوجَدُ لَهُمَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا سِيَّمَا شُعْبَةُ ". انْتَهَى. وَكَلَامُهُ بِالنَّظَرِ لِمَا اعْتَمَدَهُ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ ; لِإِدْرَاكِ مَالِكٍ لِسَعِيدٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ إِدْرَاكِ الثَّوْرِيِّ لِلنَّخَعِيِّ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَخْصِيصِهِ بِالثِّقَةِ، فَتَخْصِيصُهُ بِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تَمْهِيدِهِ اقْتِصَارٌ عَلَى الْجَائِزِ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنْهُ بِذَمِّهِ فِي غَيْرِ الثِّقَةِ. فَقَالَ: " وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، فَإِنْ دَلَّسَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَهُوَ تَدْلِيسٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ إِنْ حَدَّثَ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَقَدْ جَاوَزَ حَدَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ مَنْ رَخَّصَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ وَلَا يَحْمَدُونَهُ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " إِنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِيمَنْ لَمْ يَلْقَهُ أَقْبَحُ وَأَسْمَجُ " - يَقْتَضِي أَنَّ الْإِرْسَالَ أَشَدُّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَخَفُّ، فَكَأَنَّهُ هُنَا عَنَى الْخَفِيَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ اللُّقِيِّ وَالسَّمَاعِ مَعًا، وَهُنَاكَ عَنَى الْجَلِيَّ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ فِيهِ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ يَبْعَثُ عَلَيْهِ أُمُورٌ لَا تُضِيرُهُ، كَأَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْخَبَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ عَنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ ; بِحَيْثُ صَحَّ عِنْدَهُ وَوَقَرَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسِيَ شَيْخَهُ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ عَنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ، أَوْ كَأَنْ أَخَذَهُ لَهُ مُذَاكَرَةً، فَيَنْتَقِلُ الْإِسْنَادُ لِذَلِكَ دُونَ الْإِرْسَالِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ الْمُتَخَاطِبِينَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ وَاشْتِهَارِهِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْجَلِيِّ. إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَقَدْ أَدْرَجَ الْخَطِيبُ ثُمَّ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَوَصَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِالتَّدْلِيسِ مَنْ رَوَى عَمَّنْ رَآهُ وَلَمْ يُجَالِسْهُ، بِالصِّيغَةِ الْمُوهِمَةِ، بَلْ وُصِفَ بِهِ مَنْ صَرَّحَ بِالْإِخْبَارِ فِي الْإِجَازَةِ كَأَبِي نُعَيْمٍ، أَوْ بِالتَّحْدِيثِ فِي الْوِجَادَةِ كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ الْجَزَرِيِّ، وَكَذَا فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ كَفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ أَحَدِ مَنْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا. وَلِذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ: يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ فِطْرٍ ثَنَا، وَيَكُونُ مَوْصُولًا؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: أَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَجِيَّةً؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَذَا قَالَ الْفَلَّاسُ: إِنَّ الْقَطَّانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قَالَ لَهُ: وَمَا يُنْتَفَعُ بِقَوْلِ فِطْرٍ " ثَنَا " عَطَاءٌ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْقَطَّانِ: كَانَ فِطْرٌ صَاحِبَ ذِي سَمِعْتُ سَمِعْتُ، يَعْنِي أَنَّهُ يُدَلِّسُ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَعَلَّهُ تَجَوَّزَ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فَأَوْهَمَ دُخُولَهُ. كَقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: " خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ " وَ " خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ " وَأَرَادَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا حِينَ خُطْبَتِهِمَا، وَنَحْوُهُ فِي قَوْلِهِ: " حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ " وَقَوْلِ طَاوُسٍ: " قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذٌ الْيَمَنَ ". وَأَرَادَ أَهْلَ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، كَمَا سَيَأْتِي الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ فِطْرٍ فِيهِ غَبَاوَةٌ شَدِيدَةٌ يَسْتَلْزِمُ تَدْلِيسًا صَعْبًا، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، وَسَبَقَهُ عُثْمَانُ بْنُ خُرَّذَاذَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنَّ أَبَا هِشَامٍ الرِّفَاعِيَّ يَسْرِقُ حَدِيثَ غَيْرِهِ وَيَرْوِيهِ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَعَلَى وَجْهِ التَّدْلِيسِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَذِبِ؟ قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ تَدْلِيسًا وَهُوَ يَقُولُ: ثَنَا؟ ! وَكَذَا مَنْ أَسْقَطَ أَدَاةَ الرِّوَايَةِ أَصْلَا مُقْتَصِرًا عَلَى اسْمِ شَيْخِهِ، وَيَفْعَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ كَثِيرًا، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ - وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ لِتَدْلِيسِ الْإِسْنَادِ - مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: حَدَّثَكَ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ: لَا، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَنَحْوُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الطَّائِفِيِّ: حَدِّثْنَا بِحَدِيثِ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ» فَقَالَ: عُقْبَةُ، فَقِيلَ: سَمِعْتَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا، حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَقِيلَ: لِسَعْدٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، فَقِيلَ: لِزِيَادٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، يَعْنِي عَنْ عُقْبَةَ. وَسَمَّاهُ شَيْخُنَا فِي تَصْنِيفِهِ فِي الْمُدَلِّسِينَ تَدْلِيسَ الْقَطْعِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ مُثِّلَ لَهُ فِي نُكَتِهِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ بِمَا فِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ الطُّنَافِسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ثَنَا ثُمَّ يَسْكُتُ وَيَنْوِي الْقَطْعَ، ثُمَّ يَقُولُ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ نَوْعَانِ، وَنَحْوُهُ تَدْلِيسُ الْعَطْفِ، وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي شَيْخٍ لَهُ، وَيَعْطِفَ عَلَيْهِ شَيْخًا آخَرَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ سَمِعَ ذَلِكَ الْمَرْوِيَّ مِنْهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ - كَمَا قَيَّدَهُ بِهِ شَيْخُنَا لِأَجْلِ الْمِثَالِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَهُوَ أَخَفُّ - أَمْ لَا. فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ هُشَيْمٍ، فَقَالُوا: لَا نَكْتُبُ عَنْهُ الْيَوْمَ شَيْئًا مِمَّا يُدَلِّسُهُ، فَفَطِنَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسَاقَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 : هَلْ دَلَّسْتُ لَكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ: بَلَى، كُلُّ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ حُصَيْنٍ فَهُوَ سَمَاعِي، وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ مُغِيرَةَ شَيْئًا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الْقَطْعَ. ثُمَّ قَالَ: وَفُلَانٌ، أَيْ: وَحَدَّثَ فُلَانٌ، [وَقَرِيبٌ مِنْهُ - وَسَمَّاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ خَفِيَّ التَّدْلِيسِ - قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - ذَكَرَهُ - يَعْنِي: لِي عَنْ أَبِيهِ - وَلَكِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيَّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ سَمَاعِ أَبِي عُبَيْدَةَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ إِدْرَاكِهِ لَهُ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ سَمَاعِهِ مِنْهُ] . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ لِهَذَا الْقِسْمِ، (وَاخْتُلِفْ فِي أَهْلِهِ) أَيْ: أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِهِ أَيُرَدُّ حَدِيثُهُمْ أَمْ لَا؟ (فَالرَّدُّ) لَهُمْ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ أَبَيَّنُوا السَّمَاعَ أَمْ لَا، دَلَّسُوا عَنِ الثِّقَاتِ أَمْ لَا (ثُقِفْ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ فَاءٌ، أَيْ: وُجِدَ. كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، حَتَّى بَعْضَ مَنِ احْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ، مُحْتَجِّينَ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّدْلِيسَ نَفْسَهُ جَرْحٌ ; لِمَا فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ وَالْغِشِّ، حَيْثُ عَدَلَ عَنِ الْكَشْفِ إِلَى الِاحْتِمَالِ، وَكَذَا التَّشَبُّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ حَيْثُ يُوهِمُ السَّمَاعَ لِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالْعُلُوُّ وَهُوَ عِنْدَهُ بِنُزُولٍ، الَّذِي قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ أَكْثَرُ قَصْدِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْخِيصِ فَقَالَ: التَّدْلِيسُ جَرْحٌ، فَمَنْ ثَبَتَ تَدْلِيسُهُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ مُطْلَقًا. قَالَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى أُصُولِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مَالِكٍ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ بِمَا إِذَا اسْتُكْشِفَ فَلَمْ يُخْبِرْ بِاسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ. قَالَ: لِأَنَّ التَّدْلِيسَ تَزْوِيرٌ وَإِيهَامٌ لِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي صِدْقِهِ، أَمَّا إِنْ أَخْبَرَ فَلَا. وَالثَّانِي: الْقَبُولُ مُطْلَقًا صَرَّحُوا أَمْ لَا، حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّ نِهَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا. وَالثَّالِثُ - وَعَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ -: التَّفْصِيلُ، فَمَنْ كَانَ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنِ الثِّقَاتِ، كَانَ تَدْلِيسُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَقْبُولًا وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْبَزَّارُ، وَبِهِ أَشْعَرَ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي مُدَلَّسِ الضَّعِيفِ: " يَجِبُ أَلَّا يُقْبَلَ خَبَرُهُ "، وَبِالتَّفْصِيلِ صَرَّحَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ. وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا فِي حَقِّ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَبَالَغَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: " إِنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ تَدْلِيسٌ قَطُّ، إِلَّا وُجِدَ بِعَيْنِهِ قَدْ بَيَّنَ سَمَاعَهُ فِيهِ مِنْ ثِقَةٍ " ; يَعْنِي كَمَا قِيلَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْمُرْسَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَفِي سُؤَالَاتِ الْحَاكِمِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَدْلِيسِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَقَالَ: يُجْتَنَبُ، وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ يُدَلِّسُ عَنِ الثِّقَاتِ. وَلِذَا قِيلَ: أَمَّا الْإِمَامُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَدَ اغْتَفَرُوا تَدْلِيسَهُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ، وَمِمَّا وَقَعَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ رَوَى بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، ثُمَّ بَيَّنَ حِينَ سُئِلَ أَنَّ بَيْنَهُمَا عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ التَّدْلِيسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِوَاسَطِتَيْنِ فَقَطْ، لَكِنْ مَعَ حَذْفِ الصِّيغَةِ أَصْلًا. وَكَذَا قِيلَ فِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ إِلَّا الْيَسِيرَ، وَجُلُّ حَدِيثِهِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُدَلِّسُهُ. فَقَالَ الْعَلَائِيُّ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ إِلَّا بِمَا صَرَّحَ فِيهِ -: " قَدْ تَبَيَّنَ الْوَاسِطَةُ فِيهَا، وَهُوَ ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ ". وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ وُقُوعُ التَّدْلِيسِ مِنْهُ نَادِرًا، قُبِلَتْ عَنْعَنَتُهُ وَنَحْوُهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ شَيْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُدَلِّسُ أَيَكُونُ حُجَّةً فِيمَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ حَدَّثَنَا؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسَ فَلَا. (وَالْأَكْثَرُونَ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ (قَبِلُوا) مِنْ حَدِيثِهِمْ (مَا صَرَّحَا ثِقَاتُهُمْ) خَاصَّةً (بِوَصْلِهِ) كَسَمِعْتُ، وَثَنَا، وَشِبْهِهِمَا [وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، بَلْ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ قَبُولُ عَنْعَنَتِهِمْ إِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 كَانَ التَّدْلِيسُ نَادِرًا كَمَا حَكَيْتُهُ قَرِيبًا ; لِأَنَّ التَّدْلِيسَ لَيْسَ كَذِبًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْسِينٌ لِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ، كَمَا قَالَ الْبَزَّارُ، وَضَرْبٌ مِنَ الْإِيهَامِ بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ، فَإِذَا صَرَّحَ قَبِلُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَرَدُّوا مَا أَتَى مِنْهُ بِاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ، وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ خَامِسُ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ. (وَصُحِّحَا) بِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ هَذَا الْقَوْلُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ، فَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ أَيْ: صَحَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْعَلَائِيُّ، بَلْ نَفَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهُ: " إِذَا صَرَّحَ الْمُدَلِّسُ الثِّقَةُ بِالسَّمَاعِ قُبِلَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ عَنْعَنَ فَفِيهِ الْخِلَافُ ". وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: " الْمُدَلِّسُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ حَتَّى يَقُولَ: ثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، فَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ". وَكَأَنَّهُ سَلَفَ النَّوَوِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حِكَايَتِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُحْتَجُّ بِخَبَرِهِ إِذَا عَنْعَنَ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا إِنْ قُيِّدَ بِمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَا يُتَعَقَّبُ نَفْيُ ابْنِ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا صَرَّحَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ وَافَقَ عَلَى حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْمُعَنْعَنِ. وَ (فِي) كُتُبِ (الصَّحِيحِ) لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا (عِدَّةٌ) مِنَ الرُّوَاةِ الْمُدَلِّسِينَ مُخَرَّجٌ لِحَدِيثِهِمْ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ (كَالْأَعْمَشِ) مَعَ قَوْلِ مُهَنَّأٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 : سَأَلْتُ أَحْمَدَ: لِمَ كَرِهْتَ مَرَاسِيلَهُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي عَمَّنْ حَدَّثَ (وَكَهُشَيْمٍ) - مُصَغَّرًا ابْنِ بَشِيرٍ - بِالتَّكْبِيرِ - الْوَاسِطِيِّ الْمُتَأَخِّرِ (بَعْدَهُ) وَأَحَدِ الْآخِذِينَ عَنْهُ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ كَثِيرًا، فَمَا قَالَ فِيهِ: أَنَا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَسُئِلَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى التَّدْلِيسِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَشْهَى شَيْءٍ. وَغَيْرِهِمَا كَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، فَإِنَّهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا -: ثِقَةٌ، كَثِيرُ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّسَ عَلَى أَنَسٍ، وَكَقَتَادَةَ. (وَفَتِّشِ) الصِّحَاحَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ بِهَا التَّخْرِيجَ لِجَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مُعَنْعَنِهِمْ، وَلَكِنْ هُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ - مَحْمُولٌ عَلَى ثُبُوتِ السَّمَاعِ عِنْدَهُمْ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذَا كَانَ فِي أَحَادِيثِ الْأُصُولِ لَا الْمُتَابَعَاتِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِمُصَنِّفِيهَا، يَعْنِي وَلَوْ لَمْ نَقِفْ نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ لَا فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةٌ لِكَثِيرٍ مِنْهُ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ - بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ مُعَنْعَنَ الْمُدَلِّسِ كَالْمُنْقَطِعِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّ الْجَرْيَ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَتَخْرِيجَاتِهِمْ صَعْبٌ عَسِيرٌ، يُوجِبُ اطِّرَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّحُوهَا ; إِذْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا إِثْبَاتُ سَمَاعِ الْمُدَلِّسِ فِيهَا مِنْ شَيْخِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ الْأَوَّلِينَ اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. انْتَهَى. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ فِي الْقَدَحِ الْمُعَلَّى: " أَكْثَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُعَنْعَنَاتِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ "، يَعْنِي إِمَّا لِمَجِيئِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِالتَّصْرِيحِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُعَنْعِنِ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ أَوْ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، أَوْ لِوُقُوعِهَا مِنْ جِهَةِ بَعْضِ النُّقَّادِ الْمُحَقِّقِينَ سَمَاعَ الْمُعَنْعِنِ لَهَا. وَلِذَا اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ شُعْبَةَ خَاصَّةً عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَفَيْتُكُمْ تَدْلِيسَهُمْ، فَإِذَا جَاءَ حَدِيثُهُمْ مِنْ طَرِيقَةٍ بِالْعَنْعَنَةِ، حُمِلَ عَلَى السَّمَاعِ جَزْمًا. وَأَبُو إِسْحَاقَ فَقَطْ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْقَطَّانِ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْهُ. وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ اللَّيْثِ خَاصَّةً عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْقَطَّانِ عَنْهُ، بَلْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَلَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَلَا عَنْ مَنْصُورٍ وَلَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهِ تَدْلِيسٌ، مَا أَقَلَّ تَدْلِيسَهُ! . وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا مِنْ إِطْلَاقِ تَخْرِيجِ أَصْحَابِ الصَّحِيحِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، حَيْثُ جَعَلَ مِنْهُمْ قِسْمًا احْتَمَلَ الْأَئِمَّةُ تَدْلِيسَهُ، وَخَرَّجُوا لَهُ فِي الصَّحِيحِ لِإِمَامَتِهِ، وَقِلَّةِ تَدْلِيسِهِ فِي جَنْبِ مَا رَوَى كَالثَّوْرِيِّ، يَتَنَزَّلُ عَلَى هَذَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جُعِلَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَنْ كَانَ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ كَابْنِ عُيَيْنَةَ. وَكَلَامُ الْحَاكِمِ يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: " وَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مُخَرَّجٌ حَدِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَبَحِّرَ فِي هَذَا الْعِلْمِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 مَا سَمِعُوهُ وَبَيْنَ مَا دَلَّسُوهُ ". [قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لِلْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ بِالْعَنْعَنَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ لَهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ ; لِتَتَقَوَّى بِهَا الرِّوَايَةُ الْأُولَى] . وَكَذَا يُسْتَثْنَى مِنَ الْخِلَافِ مَنْ أَكْثَرَ التَّدْلِيسَ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ ; كَبَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ ; لِاتِّفَاقِهِمْ - كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا - عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ إِلَّا بِمَا صَرَّحُوا بِالسَّمَاعِ فِيهِ، أَوْ مَنْ ضَعُفَ بِأَمْرٍ آخَرَ سِوَى التَّدْلِيسِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَدِيثُهُمْ مَرْدُودٌ جَزْمًا، وَلَوْ صَرَّحُوا بِالسَّمَاعِ إِلَّا إِنْ تُوبِعُوا، وَلَوْ كَانَ الضَّعْفُ يَسِيرًا كَابْنِ لَهِيعَةَ. [حُكْمُ التَّدْلِيسِ] [حُكْمُ التَّدْلِيسِ] : وَأَمَّا حُكْمُهُ: فَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَرَوْنَ بِالتَّدْلِيسِ بَأْسًا، يَعْنِي وَهُمُ الْفَاعِلُونَ لَهُ أَوْ مُعْظَمُهُمْ، (وَذَمَّهُ) - أَيْ: أَصْلَ التَّدْلِيسِ لَا خُصُوصَ هَذَا الْقِسْمِ - (شُعْبَةُ) بْنُ الْحَجَّاجِ (ذُو الرُّسُوخِ) فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ ; بِحَيْثُ لُقِّبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ، وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْهُ: إِنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا ; وَلَأَنْ أَسْقُطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ عَنْهُ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: زَعَمَ فُلَانٌ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَلَمْ يَنْفَرِدْ شُعْبَةُ بِذَمِّهِ، بَلْ شَارَكَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَزَادَ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ التَّدْلِيسَ. وَمِمَّنْ أَطْلَقَ عَلَى فَاعِلِهِ الْكَذِبَ أَبُو أُسَامَةَ، وَكَذَا قَرَنَهُ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَقَرَنَهُ آخَرُ بِقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَنْقَرِيُّ: التَّدْلِيسُ وَالْغِشُّ وَالْغُرُورُ وَالْخِدَاعُ وَالْكَذِبُ تُحْشَرُ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فِي نَفَاذٍ وَاحِدٍ بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: طَرِيقٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّهُ ذُلٌّ، يَعْنِي لِسُؤَالِهِ أَسَمِعَ أَمْ لَا؟ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: " إِنِّي لَأُزَيِّنُ الْحَدِيثَ بِالْكَلِمَةِ، فَأَعْرِفُ مَذَلَّةَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي فَأَدَعُهُ ". وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " هُوَ مُتَشَبِّعٌ بِمَا لَمْ يُعْطَ "، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ: أَقَلُّ حَالَاتِهِ عِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَدِيثِ: " الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ ". وَقَالَ وَكِيعٌ: الثَّوْبُ لَا يَحِلُّ تَدْلِيسُهُ فَكَيْفَ الْحَدِيثُ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَدْنَى مَا فِيهِ التَّزَيُّنُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: وَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَنَحْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 نَكْرَهُهُ، زَادَ غَيْرُهُ وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ ضَعِيفًا فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَكِنِ اخْتَصَّ شُعْبَةُ مِنْهُ مَعَ تَقَدُّمِهِ بِالْمَزِيدِ كَمَا تَرَى، عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ قَدْ عِيبَ بِقَوْلِهِ: لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ يَزِيدَ بْنَ أَبَانٍ الرَّقَاشِيِّ. فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ رَاوِي ذَلِكَ عَنْهُ: مَا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ الزِّنَا! . قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَهُوَ - أَيِ: التَّدْلِيسُ - دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ السَّامِعِينَ أَنَّ حَدِيثَهُ مُتَّصِلٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، هَذَا إِنْ دَلَّسَ عَنْ ثِقَةٍ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، بَلْ هُوَ - كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ - حَرَامٌ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّدْلِيسُ اسْمٌ ثَقِيلٌ شَنِيعُ الظَّاهِرِ، لَكِنَّهُ خَفِيفُ الْبَاطِنِ، سَهْلُ الْمَعْنَى، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهُ. (وَدُونَهُ) أَيْ: دُونَ الْأَوَّلِ مِنْ قِسْمَيْ تَدْلِيسِ الْإِسْنَادِ، وَفُصِلَ عَنْهُ لِعَدَمِ الْحَذْفِ فِيهِ (التَّدْلِيسُ لِلشِّيُوخِ) ثَانِي قِسْمَيْهِ، لِتَصْرِيحِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِأَنَّ أَمْرَهُ أَخَفُّ، وَهُوَ (أَنْ يَصِفَ) الْمُدَلِّسُ (الشَّيْخَ) الَّذِي سَمِعَ ذَاكَ مِنْهُ (بِمَا لَا يُعْرَفُ) أَيْ: يُشْتَهَرُ (بِهِ) مِنَ اسْمٍ أَوْ كُنْيَةٍ، أَوْ نِسْبَةٍ إِلَى قَبِيلَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ صَنْعَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَيْ يُوعِرَ مَعْرِفَةَ الطَّرِيقِ عَلَى السَّامِعِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " أَنْ " وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: " التَّدْلِيسُ ". وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ الْحَافِظَ أَبَا بَكْرِ ابْنَ صَاحِبِ السُّنَنِ الْحَافِظِ أَبِي دَاوُدَ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ، يُرِيدُ بِهِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّقَّاشَ، نِسْبَةً لِجَدٍّ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 (وَذَا) الْفِعْلُ (بِـ) اخْتِلَافِ (مَقْصِدٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، حَامِلٌ لِفَاعِلِهِ عَلَيْهِ (يَخْتَلِفْ) فِي الْكَرَاهَةِ، (فَشَرُّهُ) مَا كَانَتْ تَغْطِيَتُهُ (لِلضَّعْفِ) فِي الرَّاوِي كَمَا فُعِلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ الضَّعِيفِ ; حَيْثُ قِيلَ: فِيهِ حَمَّادٌ ; لِتَضَمُّنِهِ الْخِيَانَةَ وَالْغِشَّ وَالْغُرُورَ، وَذَلِكَ حَرَامٌ هُنَا وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ إِجْمَاعًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً عِنْدَ فَاعِلِهِ، فَهُوَ أَسْهَلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ انْفَرَدَ هُوَ بِتَوْثِيقِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَضْعِيفِ النَّاسِ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَسْهَلُ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُرْسَلِ. (وَ) يَكُونُ (اسْتِصْغَارًا) لِسِنِّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ، إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْهُ أَوْ أَكْبَرَ، لَكِنْ بِيَسِيرٍ أَوْ بِكَثِيرٍ، لَكِنْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ حَتَّى شَارَكَهُ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، الْحَافِظِ الشَّهِيرِ صَاحِبِ التَّصَانِيفِ، فَلِكَوْنِ الْحَارِثِ أَكْبَرَ مِنْهُ قَالَ فِيهِ مَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ، وَمَرَّةً: أَبُو بَكْرِ بْنُ سُفْيَانَ، وَمَرَّةً: أَبُو بَكْرٍ الْأُمَوِيُّ، قَالَ الْخَطِيبُ: (وَذَلِكَ خِلَافُ مُوجِبِ الْعَدَالَةِ وَمُقْتَضَى الدِّيَانَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَتَرْكِ الْحَمِيَّةِ فِي الْأَخْبَارِ بِأَخْذِ الْعِلْمِ عَمَّنْ أَخَذَهُ) . قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ لِلْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ أَخْذِهِ عَنْهُ، وَانْتِشَارِهِ مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُدَلَّسِ عَنْهُ حَيًّا، وَعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْمَحْذُورِ الَّذِي نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ لِأَجْلِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّحْرَاوِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَعَنَى بِذَلِكَ الْوَلِيَّ أَبَا زُرْعَةَ ابْنَ شَيْخِهِ الزَّيْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْعِرَاقِيِّ، وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، مَعَ تَحْدِيثِهِ بِذَلِكَ حَتَّى لِجَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الْوَلِيِّ وَمُلَازِمِيهِ، وَمَا عَلِمُوهُ. (وَ) يَكُونُ (كَـ) فِعْلِ (الْخَطِيبِ) الْحَافِظِ الْمُكْثِرِ مِنَ الشُّيُوخِ وَالْمَسْمُوعِ فِي تَنْوِيعِ الشَّيْخِ الْوَاحِدِ ; حَيْثُ قَالَ مَرَّةً: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَمَرَّةً: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَرَّةً: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ. وَقَالَ مَرَّةً: عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيِّ، وَمَرَّةً: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْفَارِسِيِّ، وَمَرَّةً: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ. وَقَالَ مَرَّةً: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ، وَمَرَّةً: أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَمَرَّةً: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ، وَمَرَّةً: أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَيَصِفُهُ مَرَّةً بِالْقَاضِي، وَمَرَّةً: بِالْمُعَدَّلِ إِلَى غَيْرِهَا. وَمُرَادُهُ بِهَذَا كُلِّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْمُحْسِنِ بْنِ عَلِيٍّ التُّنُوخِيُّ الْبَصْرِيُّ الْأَصْلِ الْقَاضِي، وَهُوَ مُكْثِرٌ فِي تَصَانِيفِهِ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا يَقَعُ لِلْبُخَارِيِّ فِي شَيْخِهِ الذُّهَلِيِّ ; فَإِنَّهُ تَارَةً يَقُولُ: ثَنَا مُحَمَّدٌ وَلَا يَنْسِبُهُ، وَتَارَةً: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَيَنْسِبُهُ إِلَى جَدِّهِ، وَتَارَةً: مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، فَيَنْسِبُهُ إِلَى وَالِدِ جَدِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ سَتَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْهَا فِيمَنْ ذُكِرَ بِنُعُوتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. (يُوهِمُ) الْفَاعِلُ بِذَلِكَ (اسْتِكْثَارًا) مِنَ الشُّيُوخِ ; حَيْثُ يُظَنُّ الْوَاحِدُ بِبَادِيَ الرَّأْيِ جَمَاعَةً، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: (أَوْ تَكُونُ أَحَادِيثُهُ الَّتِي عِنْدَهُ عَنْهُ كَثِيرَةً، فَلَا يُحِبُّ تَكْرَارَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَيُغَيِّرُ حَالَهُ لِذَلِكَ) . قُلْتُ: وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النَّاظِرِ قَدْ يَتَوَهَّمُ الْإِكْثَارَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِفَاعِلِهِ، بَلِ الظَّنُّ بِالْأَئِمَّةِ - خُصُوصًا مَنِ اشْتُهِرَ إِكْثَارُهُ مَعَ وَرَعِهِ - خِلَافُهُ ; لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّشَبُّعِ وَالتَّزَيُّنِ الَّذِي يُرَاعِي تَجَنُّبَهُ أَرْبَابُ الصَّلَاحِ وَالْقُلُوبِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ يَاقُوتَةُ الْعُلَمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ. وَكَانَ مِنْ أَكَابِرَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ قَصْدِهِمُ الِاخْتِبَارَ لِلْيَقَظَةِ، وَالْإِلْفَاتِ إِلَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي الرُّوَاةِ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ إِلَى قَبَائِلِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ وَحِرَفِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ وَكُنَاهُمْ، وَكَذَا الْحَالُ فِي آبَائِهِمْ، فَتَدْلِيسُ الشُّيُوخِ دَائِرٌ بَيْنَ مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ سَأَلَهُ التَّقِيُّ: مَنْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْهِلَالِيُّ؟ فَقَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَأَعْجَبَهُ اسْتِحْضَارُهُ. وَأَلْطَفُ مِنْهُ قَوْلُهُ لَهُ: مَنْ أَبُو الْعَبَّاسِ الذَّهَبِيُّ؟ فَقَالَ: أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ. وَكَذَا مَرَّ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ - وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِنَا - قَوْلُهُ: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَبَادَرْتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْنِي بِذَلِكَ، وَقُلْتُ: هُوَ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ، فَأَعْجَبَهُ الْجَوَابُ دُونَ الْمُبَادَرَةِ لِتَفْوِيتِهَا غَرَضًا لَهُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ فِي تَدْلِيسِ الشَّيْخِ الثِّقَةِ مَصْلَحَةً، وَهِيَ امْتِحَانُ الْأَذْهَانِ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ وَإِلْقَاؤُهُ إِلَى مَنْ يُرَادُ اخْتِبَارُ حِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالرِّجَالِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي فِعْلِ الْبُخَارِيِّ فِي الذُّهَلِيِّ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ ; بِحَيْثُ مَنَعَ الذُّهَلِيُّ أَصْحَابَهُ مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَانِعٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنَ التَّخْرِيجِ عَنْهُ ; لِوُفُورِ دِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَكَوْنِهِ عُذْرَهُ فِي نَفْسِهِ بِالتَّأْوِيلِ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، أَنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ بِتَعْدِيلِهِ لَهُ صَدَّقَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَخْفَى اسْمَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَالْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وُقُوعُهُ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الطَّالِبِ بِقَصْدِ التَّغْطِيَةِ عَلَى شَيْخِهِ ; لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ مَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَخْذِهِ فِي حَدِيثِ ذَاكَ الْمُدَلِّسِ ; كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَهُوَ أَخَفُّهَا وَأَظْرَفُهَا، وَيَجْمَعُ الْكُلَّ مَفْسَدَةُ تَضْيِيعِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ ; وَذَلِكَ حَيْثُ جُهِلَ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أَنَّهُ نَادِرٌ فَالْحُذَّاقُ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ غَالِبًا، فَإِنْ جُهِلَ كَانَ مِنْ لَازِمِهِ تَضْيِيعُ الْمَرْوِيِّ أَيْضًا، بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يُوَافِقَ مَا دَلَّسَ بِهِ شُهْرَةَ رَاوٍ ضَعِيفٍ مِنْ أَهْلِ طَبَقَتِهِ، وَيَكُونَ الْمُدَلِّسُ ثِقَةً، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَهُوَ فِيهِ أَشَدُّ. وَبِهَذَا وَكَذَا بِأَوَّلِ الْمَقَاصِدِ بِهَذَا الْقِسْمِ قَدْ يُنَازَعُ فِي كَوْنِهِ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ هَذَا قَلَّ أَنْ يَخْفَى عَلَى النُّقَّادِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَيُعْرَفُ كُلٌّ مِنَ التَّدْلِيسِ وَاللِّقَاءِ بِإِخْبَارِهِ أَوْ بِجَزْمِ بَعْضِ النُّقَّادِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي خَفِيِّ الْإِرْسَالِ (وَالشَّافِعِيْ) بِالْإِسْكَانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَثْبَتَهُ) أَيْ: أَصْلَ التَّدْلِيسِ لَا خُصُوصَ هَذَا الْقِسْمِ لِلرَّاوِي. (بِمَرَّةٍ) ، وَعِبَارَتُهُ: " وَمَنْ عَرَفْنَاهُ دَلَّسَ مَرَّةً، فَقَدْ أَبَانَ لَنَا عَوْرَتَهُ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْعَوْرَةُ بِكَذِبٍ فَيُرَدُّ بِهَا حَدِيثُهُ " إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: فَقَالَ: " مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ مَرَّةً، لَا يُقْبِلُ مِنْهُ مَا يُقْبِلُ مِنْ أَهْلِ النَّصِيحَةِ فِي الصِّدْقِ، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْتُ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ". انْتَهَى. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِثُبُوتِ تَدْلِيسِهِ مَرَّةً، صَارَ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ فِي مُعَنْعَنَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ بِثُبُوتِ اللِّقَاءِ مَرَّةً صَارَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ السَّمَاعَ. وَكَذَا مَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ صَارَ الْكَذِبُ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ، وَسَقَطَ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ حَدِيثِهِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا فِي بَعْضِهِ. (قُلْتُ: وَشَرُّهَا) أَيْ: أَنْوَاعِ التَّدْلِيسِ، حَتَّى مَا ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ شَرُّهُ (أَخُو) أَيْ: صَاحِبُ (التَّسْوِيَةِ) الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: " وَرُبَّمَا لَمْ يُسْقِطِ الْمُدَلِّسُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لَكِنَّهُ يُسْقِطُ مِمَّنْ بَعْدَهُ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا يَكُونُ ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ أَوْ صَغِيرَ السِّنِّ، وَيَحْسُنُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ " وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ تَقْرِيبِهِ، وَجَمَاعَةٌ لَيْسَ فِيهِمُ ابْنُ الصَّلَاحِ، مِنْهُمُ الْعَلَائِيُّ وَتِلْمِيذُهُ النَّاظِمُ، لَكِنْ جَعَلَهُ قِسْمًا ثَالِثًا لِلتَّدْلِيسِ. وَحَقَّقَ تِلْمِيذُهُ شَيْخُنَا أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَصَنِيعُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَ (تَقْرِيبِهِ) يَقْتَضِيهِ. وَبِالتَّسْوِيَةِ سَمَّاهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَقَالَ: سَوَّاهُ فُلَانٌ. وَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَسَمَّوْهُ تَجْوِيدًا ; حَيْثُ قَالُوا: جَوَّدَهُ فُلَانٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَرْوِيَ الْمُدَلِّسُ حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ ثِقَةٍ بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ، فَيَحْذِفَهُ الْمُدَلِّسُ مِنْ بَيْنِ الثِّقَتَيْنِ اللَّذَيْنِ لَقِيَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلُهُمَا بِالتَّدْلِيسِ، وَيَأْتِي بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ فَيَسْتَوِي الْإِسْنَادُ كُلُّهُ ثِقَاتٍ. وَيُصَرِّحُ الْمُدَلِّسُ بِالِاتِّصَالِ عَنْ شَيْخِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَلَا يَظْهَرُ فِي الْإِسْنَادِ مَا يَقْتَضِي رَدَّهُ إِلَّا لِأَهْلِ النَّقْدِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْعِلَلِ، وَيَصِيرُ الْإِسْنَادُ عَالِيًا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَازِلٌ، وَهُوَ مَذْمُومٌ جِدًّا ; لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الْغِشِّ وَالتَّغْطِيَةِ، وَرُبَّمَا يَلْحَقُ الثِّقَةَ الَّذِي هُوَ دُونَ الضَّعِيفِ الضَّرَرُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ تَبَيُّنِ السَّاقِطِ بِإِلْصَاقِ ذَلِكَ بِهِ مَعَ بَرَاءَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: صَحَّ عَنْ قَوْمٍ إِسْقَاطُ الْمَجْرُوحِ وَضَمُّ الْقَوِيِّ إِلَى الْقَوِيِّ ; تَلْبِيسًا عَلَى مَنْ يُحَدَّثُ، وَغُرُورًا لِمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ، فَهَذَا مَجْرُوحٌ وَفِسْقُهُ ظَاهِرٌ، وَخَبَرُهُ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّهُ سَاقِطُ الْعَدَالَةِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَبِالتَّقْيِيدِ بِاللِّقَاءِ خَرَجَ الْإِرْسَالُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَالِكًا سَمِعَ مِنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ أَحَادِيثَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهَا بِحَذْفِ عِكْرِمَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَلَا يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِهِ. انْتَهَى. فِي أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ بِخُصُوصِهِ، فَلَوْ كَانَتِ التَّسْوِيَةُ بِالْإِرْسَالِ تَدْلِيسًا، لَعُدَّ مَالِكٌ فِي الْمُدَلِّسِينَ، وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ عَدَّهُ فِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَلَقَدْ ظُنَّ بِمَالِكٍ عَلَى بُعْدِهِ عَنْهُ عَمَلُهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ مَالِكًا مِمَّنْ عَمِلَ بِهِ وَلَيْسَ عَيْبًا، عِنْدَهُمْ. قُلْتُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا الصَّنِيعُ وَإِنِ احْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَكَذَا بِالتَّقْيِيدِ بِالضَّعِيفِ - كَانَ أَخَصَّ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ أَدْرَجَ فِي تَدْلِيسِ التَّسْوِيَةِ مَا كَانَ الْمَحْذُوفُ ثِقَةً. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ فِي تَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالُوا: وَيَحْيَى لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَإِنْ سَمِعَ مِنْهُ غَيْرَهُ إِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أَخَذَهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، وَلَكِنْ هُشَيْمٌ قَدْ سَوَّى الْإِسْنَادَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْخَطِيبِ الَّذِي أَسْلَفْتُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْقِسْمِ: " أَوْ صَغِيرُ السِّنِّ ". وَيَلْتَحِقُ بِتَدْلِيسِ التَّسْوِيَةِ فِي مَزِيدِ الذَّمِّ مَا حَكَيْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَنْ فِطْرٍ. تَتِمَّةٌ: الْمُدَلِّسُونَ مُطْلَقًا عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ، بَيَّنَهَا شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَصْنِيفِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِمُ، الْمُسْتَمَدِّ فِيهِ مِنْ جَامِعِ التَّحْصِيلِ لِلْعَلَائِيِّ وَغَيْرِهِ: مَنْ لَمْ يُوصَفْ بِهِ إِلَّا نَادِرًا، كَالْقَطَّانِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، مَنْ كَانَ تَدْلِيسُهُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا رَوَى مَعَ إِمَامَتِهِ، وَجَلَالَتِهِ، وَتَحَرِّيهِ كَالسُّفْيَانَيْنِ، مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِالثِّقَاتِ، مَنْ كَانَ أَكْثَرُ تَدْلِيسِهِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ، مَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ ضَعْفٌ بِأَمْرٍ آخَرَ. [تَدْلِيسُ الْمَتْنِ وَالْبِلَادِ] [تَدْلِيسُ الْمَتْنِ وَالْبِلَادِ] ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا تَدْلِيسُ الْمَتْنِ فَلَمْ يَذْكُرُوهُ، وَهُوَ الْمُدْرَجُ، وَتَعَمُّدُهُ حَرَامٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، بَلْ فَسَّرَهُ الرُّويَانِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، يَعْنِي بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا. وَلَهُمْ أَيْضًا تَدْلِيسُ الْبِلَادِ، كَأَنْ يَقُولَ الْمِصْرِيُّ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ بِالْعِرَاقِ، يُرِيدُ مَوْضِعًا بِأَخْمِيمَ، أَوْ بِزُبَيْدٍ، يُرِيدَ مَوْضِعًا بِقُوصَ، أَوْ بِزُقَاقِ حَلَبَ، يُرِيدُ مَوْضِعًا بِالْقَاهِرَةِ، أَوْ بِالْأَنْدَلُسِ، يُرِيدُ مَوْضِعًا بِالْقَرَافَةِ، أَوْ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، مُوهِمًا دِجْلَةَ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِإِيهَامِهِ الْكَذِبَ بِالرِّحْلَةِ، وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 [الشَّاذُّ] 161 - وَذُو الشُّذُوذِ مَا يُخَالِفُ الثِّقَهْ فِيهِ ... الْمَلَا فَالشَّافِعِيُّ حَقَّقَهْ 162 - وَالْحَاكِمُ الْخِلَافَ فِيهِ مَا اشْتَرَطْ ... وَلِلْخَلِيلِيْ مُفْرَدَ الرَّاوِي فَقَطْ 163 - وَرَدَّ مَا قَالَا بِفَرْدِ الثِّقَهْ ... كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَا وَالْهِبَهْ 164 - وَقَوْلِ مُسْلِمٍ رَوَى الزُّهْرِيُّ ... تِسْعِينَ فَرْدًا كُلُّهَا قَوِيُّ 165 - وَاخْتَارَ فِيمَا لَمْ يُخَالَفْ أَنَّ مَنْ ... يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَنْ 166 - أَوْ بَلَغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ ... عَنْهُ فَمِمَّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدْ. لَمَّا كَانَ تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ مُفْتَقِرًا لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِيمَا يُقَابِلُ الرَّاجِحَ مِنْهُمَا، نَاسَبَ بَعْدَ التَّدْلِيسِ الْمُقَدَّمِ مُنَاسَبَتُهُ ذِكْرُ الشَّاذِّ ثُم َّ الْمُنْكَرِ. [مَعْنَى الشَّاذِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَالْخِلَافُ فِيهِ] وَالشَّاذُّ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ عَنِ الْجُمْهُورِ، يُقَالُ: شَذَّ يَشُذُّ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا شُذُوذًا إِذَا انْفَرَدَ، (وَذُو الشُّذُوذِ) يَعْنِي الشَّاذَّ. اصْطِلَاحًا: (مَا يُخَالِفُ) الرَّاوِي (الثِّقَةُ فِيهِ) بِالزِّيَادَةِ أَوِ النَّقْصِ فِي السَّنَدِ أَوْ فِي الْمَتْنِ (الْمَلَا) بِالْهَمْزِ وَسُهِّلَ تَخْفِيفًا، أَيِ الْجَمَاعَةَ الثِّقَاتِ مِنَ النَّاسِ ; بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. (فَالشَّافِعِيُّ) بِهَذَا التَّعْرِيفِ (حَقَّقَهُ) ، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ ; لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِلْوَاحِدِ الْأَحْفَظِ كَافِيَةٌ فِي الشُّذُوذِ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ ; حَيْثُ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ لِذَلِكَ وَأَضْبَطُ، كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ شَاذًّا مَرْدُودًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: (فَإِنْ خُولِفَ - أَيِ: الرَّاوِي - بِأَرْجَحَ مِنْهُ لِمَزِيدِ ضَبْطٍ أَوْ كَثْرَةِ عَدَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ - فَالرَّاجِحُ يُقَالُ لَهُ: الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ الْمَرْجُوحُ، يُقَالُ لَهُ: الشَّاذُّ) . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالرَّفْعِ مَعَ الْإِرْسَالِ وَالْوَقْفِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ إِنْ كَانَ مَنْ أَرْسَلَ أَوْ وَقَفَ مِنَ الثِّقَاتِ أَرْجَحَ قُدِّمَ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ. مِثَالُ الشُّذُوذِ فِي السَّنَدِ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَوْسَجَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَهُ» . . . . الْحَدِيثَ. فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرٍو مُرْسَلًا بِدُونِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ قَدْ تَابَعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى وَصْلِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْمَحْفُوظُ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ هَذَا، مَعَ كَوْنِ حَمَّادٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ رِوَايَةَ مَنْ هُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْهُ. وَمِثَالُهُ فِي الْمَتْنِ: زِيَادَةُ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي حَدِيثِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ بِدُونِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَالْأَحَادِيثُ إِذَا كَثُرَتْ كَانَتْ أَثْبَتَ مِنَ الْوَاحِدِ الشَّاذِّ، وَقَدْ يَهِمُ الْحَافِظُ أَحْيَانًا. عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّحَ حَدِيثَ مُوسَى هَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِإِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى حَاضِرِي عَرَفَةَ وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَيَّدَ التَّفَرُّدَ بِقَيْدَيْنِ: الثِّقَةِ، وَالْمُخَالَفَةِ. (وَالْحَاكِمُ) صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ وَالْمَعْرِفَةِ (الْخِلَافُ) لِلْغَيْرِ (فِيهِ) أَيْ: فِي الشَّاذِّ (مَا اشْتَرَطَ) بَلْ هُوَ عِنْدَهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِمُتَابِعٍ لِذَلِكَ الثِّقَةِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى قَيْدِ الثِّقَةِ وَحْدَهُ، وَبَيَّنَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُغَايِرُ الْمُعَلَّلَ ; مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَاكَ وَقَفَ عَلَى عِلَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى جِهَةِ الْوَهْمِ فِيهِ، مِنْ إِدْخَالِ حَدِيثٍ فِي حَدِيثٍ، أَوْ وَصْلٍ مُرْسَلٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالشَّاذُّ لَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى عِلَّةٍ أَيْ مُعَيَّنَةٍ ; وَهَذَا يُشْعِرُ بِاشْتِرَاكِ هَذَا مَعَ ذَاكَ فِي كَوْنِهِ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ النَّاقِدِ أَنَّهُ غَلَطٌ، وَقَدْ تَقْصُرُ عِبَارَتُهُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ، وَإِنَّهُ مِنْ أَغْمِضِ الْأَنْوَاعِ وَأَدَقِّهَا، وَلَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْفَهْمَ الثَّاقِبَ، وَالْحِفْظَ الْوَاسِعَ، وَالْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وَالْمَلَكَةَ الْقَوِيَّةَ بِالْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ. وَهُوَ كَذَلِكَ، بَلِ الشَّاذُّ - كَمَا نُسِبَ لِشَيْخِنَا - أَدَقُّ مِنَ الْمُعَلَّلِ بِكَثِيرٍ. ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا التَّعْرِيفِ، بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: " إِنَّهُ مَذْهَبُ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ ". (وَلِلْخَلِيلِيِّ) نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْأَعْلَى ; لِأَنَّهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَلِيلِ الْقَزْوِينِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِيهِ (مُفْرَدُ الرَّاوِي فَقَطْ) ثِقَةً كَانَ أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ، خَالَفَ أَوْ لَمْ يُخَالِفْ، فَمَا انْفَرَدَ بِهِ الثِّقَةُ يُتَوَقَّفُ فِيهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا، وَمَا انْفَرَدَ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ فَمَتْرُوكٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْخَلِيلِيَّ يُسَوِّي بَيْنَ الشَّاذِّ وَالْفَرْدِ الْمُطْلَقِ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّاذِّ الصَّحِيحُ وَغَيْرُ الصَّحِيحِ، فَكَلَامُهُ أَعَمُّ، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَلَامُ الْحَاكِمِ ; لِأَنَّهُ يُخْرِجُ تَفَرُّدَ غَيْرِ الثِّقَةِ، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحِيحِ الشَّاذُّ وَغَيْرُ الشَّاذِّ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ فَرْدًا [وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ فَرْدًا] ، بَلِ اعْتَمَدَ ذَلِكَ فِي صَنِيعِهِ ; حَيْثُ ذَكَرَ فِي أَمْثِلَةِ الشَّاذِّ حَدِيثًا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ. وَأَخَصُّ مِنْهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ لِتَقْيِيدِهِ بِالْمُخَالَفَةِ، مَعَ كَوْنِهِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الرَّاجِحَةَ أَوْلَى، وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ؟ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ، أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنَّهُ يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لَا فِي التَّسْمِيَةِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِالْمِثَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ مَعَ كَوْنِهِ فِي الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ شَاذًّا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. [الرَّدُّ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْخَلِيلِيِّ] (وَ) لَكِنْ (رَدَّ) ابْنُ الصَّلَاحِ (مَا قَالَا) أَيِ: الْحَاكِمُ وَالْخَلِيلِيُّ (بِفَرْدِ الثِّقَةِ) الْمُخَرَّجِ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ الْمُشْتَرَطِ فِيهِ نَفْيُ الشُّذُوذِ، لِكَوْنِ الْعَدَدِ غَيْرَ شَرْطٍ فِيهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَلِ الصِّحَّةُ تُجَامِعُ الْغَرَابَةَ. وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ فِيهَا كَثِيرَةٌ ; (كَـ) حَدِيثِ ( «النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَا» ) بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ (وَالْهِبَةِ) ; فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، حَتَّى قَالَ مُسْلِمٌ عَقِبَهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عُمَرَ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ [الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ] عَنْ عَمْرٍو، وَعَمْرٌو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. (وَ) كَذَا رَدَّهُ بِـ (قَوْلِ مُسْلِمٍ) هُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ (صَحِيحِهِ) (رَوَى الزُّهْرِيُّ) نَحْوَ (تِسْعِينَ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ (فَرْدًا) لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي رِوَايَتِهَا (كُلُّهَا) إِسْنَادُهَا (قَوِيُّ) هَذَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَوَابِ عَنِ الْحَاكِمِ بِمَا أَشْعَرَ بِهِ اقْتِصَارُهُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَلَّلِ ; مِنْ كَوْنِ الشَّاذِّ أَيْضًا يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ النَّاقِدِ أَنَّهُ غَلَطٌ ; حَيْثُ يُقَالُ: مَا فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْأَفْرَادِ مُنْتَفٍ عَنْهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْخَلِيلِيُّ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ أَيْضًا، لَا سِيَّمَا وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَشْتَرِطُ الْعَدَدَ فِي الصَّحِيحِ. [الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] (وَ) بَعْدَ أَنْ رَدَّ ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُمَا (اخْتَارَ) مِمَّا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَئِمَّةِ (فِيمَا لَمْ يُخَالِفْ) الثِّقَةُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا أَتَى بِشَيْءٍ انْفَرَدَ بِهِ (أَنَّ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ) تَامٍّ (فَفَرْدُهُ حَسَنٌ) . وَمِنْهُ حَدِيثُ إِسْرَائِيلَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ، قَالَ: غُفْرَانَكَ» ، فَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ تَخْرِيجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ يُوسُفَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ. قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا حَدِيثَ عَائِشَةَ (أَوْ بَلَغَ الضَّبْطَ) التَّامَّ (فَصَحِّحْ) فَرْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُهُ، (أَوْ بَعُدَ) عَنْهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا أَصْلًا (فَ) فَرْدُهُ (مِمَّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدَّ) مَا وَقَعَ لَكَ مِنْهُ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. وَحِينَئِذٍ فَالشَّاذُّ الْمَرْدُودُ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحَدِيثُ الْفَرْدُ الْمُخَالِفُ، وَهُوَ الَّذِي عَرَّفَهُ الشَّافِعِيُّ. وَثَانِيهِمَا: الْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رَاوِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مِنَ الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ مَا يَقَعُ جَابِرًا لِمَا يُوجِبُ التَّفَرُّدَ وَالشُّذُوذَ مِنَ النَّكَارَةِ وَالضَّعْفِ. انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ مَا انْفَرَدَ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ شَاذًّا كَتَسْمِيَةِ مَا كَانَ فِي رُوَاتِهِ ضَعِيفٌ أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مُعَلَّلًا، وَذَلِكَ فِيهِمَا مُنَافٍ لِغُمُوضِهِمَا، فَالْأَلْيَقُ فِي حَدِّ الشَّاذِّ مَا عَرَّفَهُ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَلِذَا اقْتَصَرَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْأَلْيَقَ فِي الْحَسَنِ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ. [الْمُنْكَرُ] 167 - وَالْمُنْكَرُ الْفَرْدُ كَذَا الْبَرْدِيجِي ... أَطْلَقَ وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيجِ 168 - إِجْرَاءُ تَفْصِيلٍ لَدَى الشُّذُوذِ مَرْ ... فَهْوَ بِمَعْنَاهُ كَذَا الشَّيْخُ ذَكَرْ 169 - نَحْوُ: " كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ " الْخَبَرْ ... وَمَالِكٌ سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ عُمَرْ 170 - قُلْتُ: فَمَاذَا بَلْ حَدِيثُ (نَزْعِهِ ... خَاتَمَهُ عِنْدَ الْخَلَا وَوَضْعِهِ. [تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ وَأَنْوَاعُهُ] (وَالْمُنْكَرُ) الْحَدِيثُ (الْفَرْدُ) وَهُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَتْنُهُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ رَاوِيهِ، فَلَا مُتَابِعَ لَهُ فِيهِ، بَلْ وَلَا شَاهِدَ، (كَذَا) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ (الْبَرْدِيجِيُّ أَطْلَقَ، وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيجِ) يَعْنِي الْمَرْوِيَّ كَذَلِكَ (إِجْرَاءُ تَفْصِيلٍ لَدَى) أَيْ: عِنْدَ (الشُّذُوذِ مَرَّ) بِحَيْثُ يَكُونُ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ. (فَهُوَ) أَيِ: الْمُنْكَرُ (بِمَعْنَاهُ) أَيِ: الشَّاذِّ (كَذَا الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (ذَكَرَ) مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا جَمْعُ الذَّهَبِيِّ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، وَقَدْ حَقَّقَ شَيْخُنَا التَّمْيِيزَ بِجِهَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي مَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، فَالصَّدُوقُ إِذَا تَفَرَّدَ بِمَا لَا مُتَابِعَ لَهُ فِيهِ وَلَا شَاهِدَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مِنَ الضَّبْطِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْبُولِ، فَهَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الشَّاذِّ. فَإِنْ خُولِفَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مَعَ ذَلِكَ، كَانَ أَشَدَّ فِي شُذُوذِهِ، وَرُبَّمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مُنْكَرًا، وَإِنْ بَلَغَ تِلْكَ الرُّتْبَةَ فِي الضَّبْطِ، لَكِنَّهُ خَالَفَ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ فِي الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ. فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الشَّاذِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَسْمِيَتِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ الْمَسْتُورُ، أَوِ الْمَوْصُوفُ بِسُوءِ الْحِفْظِ، أَوِ الْمُضَعَّفُ فِي بَعْضِ مَشَايِخِهِ خَاصَّةً، أَوْ نَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُحْكَمُ لِحَدِيثِهِمْ بِالْقَبُولِ بِغَيْرِ عَاضِدٍ يُعَضِّدُهُ، بِمَا لَا مُتَابِعَ لَهُ وَلَا شَاهِدَ - فَهَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الَّذِي يُوجَدُ إِطْلَاقُ الْمُنْكَرِ عَلَيْهِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ; كَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ. وَإِنْ خُولِفَ مَعَ ذَلِكَ، فَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى رَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فِي تَسْمِيَتِهِ، فَبَانَ بِهَذَا فَصْلُ الْمُنْكَرِ مِنَ الشَّاذِّ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قِسْمَانِ يَجْتَمِعَانِ فِي مُطْلَقِ التَّفَرُّدِ أَوْ مَعَ قَيْدِ الْمُخَالَفَةِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّاذَّ رَاوِيهِ ثِقَةٌ أَوْ صَدُوقٌ غَيْرُ ضَابِطٍ، وَالْمُنْكَرَ رَاوِيهِ ضَعِيفٌ بِسُوءِ حِفْظِهِ أَوْ جَهَالَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا فَرَّقَ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ مُقْتَصِرًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمِ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ فِي الشَّاذِّ: إِنَّهُ مَا رَوَاهُ الْمَقْبُولُ مُخَالِفًا لِمَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَفِي الْمُنْكَرِ: إِنَّهُ مَا رَوَاهُ الضَّعِيفُ مُخَالِفًا، وَالْمُقَابِلُ لِلْمُنْكَرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَلِلشَّاذِّ كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ الْمَحْفُوظُ. قَالَ: قَدْ غَفَلَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، زَادَ فِي غَيْرِهِ: وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ (صَحِيحِهِ) مَا نَصُّهُ: وَعَلَامَةُ الْمُنْكَرِ فِي حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَى، خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ، أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ، كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلَا مُسْتَعْمِلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قَالَ شَيْخُنَا: فَالرُّوَاةُ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذَا هُمُ الْمَتْرُوكُونَ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْمَتْرُوكِ عِنْدَ مُسْلِمٍ تُسَمَّى مُنْكَرَةً، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلِكُلٍّ مِنْ قِسْمَيِ الْمُنْكَرِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، (نَحْوُ: «كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ» الْخَبَرَ) ، وَتَمَامُهُ: «فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ إِذَا أَكَلَهُ غَضِبَ الشَّيْطَانُ» ، وَقَالَ: «عَاشَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْجَدِيدَ بِالْخَلِقِ» فَقَدْ صَرَّحَ النَّسَائِيُّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ. [أَمْثِلَةُ نَوْعَيِ الْمُنْكَرِ] : وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا زُكَيْرٍ - وَهُوَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْبَصْرِيُّ - رَاوِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، الْمُنْفَرِدَ بِهِ - كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَا قَالَ الْعُقَيْلِيُّ -: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَاكِمِ: هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبَصْرِيِّينَ عَنِ الْمَدَنِيِّينَ ; إِذْ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ ضُعِّفَ لِخَطَئِهِ، وَهُوَ فِي عِدَادِ مَنْ يَنْجَبِرُ. وَلِذَا قَالَ السَّاجِيُّ: إِنَّهُ صَدُوقٌ يَهِمُ، وَفِي حَدِيثِهِ لِينٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: إِنَّهُ يَقْلِبُ الْأَسَانِيدَ، وَيَرْفَعُ الْمَرَاسِيلَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَقَوْلُ الْخَلِيلِيِّ فِيهِ: إِنَّهُ شَيْخٌ صَالِحٌ، فَإِنَّمَا أَرَادَ صَلَاحِيَتَهُ فِي دِينِهِ، جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي إِطْلَاقِ الصَّلَاحِيَةِ ; حَيْثُ يُرِيدُونَ بِهَا الدِّيَانَةَ، أَمَّا حَيْثُ أُرِيدَ فِي الْحَدِيثِ فَيُقَيِّدُونَهَا، وَيَتَأَيَّدُ بِبَاقِي كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ مَنْ يَحْتَمِلُ تَفَرُّدَهُ. وَقَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، أَيْ: فِي الْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، وَلِذَا خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَوْضِعًا وَاحِدًا مُتَابَعَةً، بَلْ تَوَسَّعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ نَكَارَةُ مَعْنَاهُ أَيْضًا وَرِكَّةُ لَفْظِهِ، وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِصِحَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا. (وَ) نَحْوُ (مَالِكٍ) حَيْثُ (سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ) الَّذِي النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَمْرٌو بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (عُمَرَ) بِضَمِّهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ خِلَافُهُ ; وَذَلِكَ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْهُ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ - كَمَا قَالَ النَّسَائِيُّ - أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ حَكَمَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يُشِيرُ بِيَدِهِ لِدَارِ عُمَرَ، فَكَأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّكَ تُخْطِئُ فِي أَسَامِي الرِّجَالِ، تَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَتَقُولُ: عُمَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 بْنُ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو، وَتَقُولُ: عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ مَالِكٌ: هَكَذَا حَفِظْنَا، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِي، وَنَحْنُ نُخْطِئُ، وَمَنْ يَسْلَمُ مِنَ الْخَطَأِ؟ ! (قُلْتُ: فَمَاذَا) يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَرُّدِ مَالِكٍ مِنْ بَيْنَ الثِّقَاتِ بِاسْمِ هَذَا الرَّاوِي، مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثِقَةً ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِمَّا يَكُونُ كَذَلِكَ نَكَارَةُ الْمَتْنِ وَلَا شُذُوذُهُ. بَلِ الْمَتْنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَمْثِيلَ ابْنِ الصَّلَاحِ بِهِ لِمُنْكَرِ السَّنَدِ خَاصَّةً، فَالنَّكَارَةُ تَقَعُ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُعَلَّلِ مِثَالًا لِمَا يَكُونُ مَعْلُولَ السَّنَدِ مَعَ صِحَّةِ مَتْنِهِ. وَهُوَ إِبْدَالُ يَعْلَى بْنَ عُبَيْدٍ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، عَلَى أَنَّ هُشَيْمًا قَدْ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَخَالَفَ فِيهِ مُخَالَفَةً أَشَدَّ مِمَّا وَقَعَ لِمَالِكٍ مَعَ كَوْنِهَا فِي الْمَتْنِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَاهُ بِلَفْظِ: ( «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» ) ، وَلِذَا حَكَمَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى هُشَيْمٍ فِيهِ بِالْخَطَأِ. قَالَ شَيْخُنَا: (وَأَظُنُّهُ رَوَاهُ مِنْ حِفْظِهِ بِلَفْظِ ظَنَّ أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَى مَا سَمِعَ، فَلَمْ يُصِبْ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَتَى بِهِ أَعَمُّ مِنَ الَّذِي سَمِعَهُ، وَقَدْ كَانَ سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَضْبُطْ عَنْهُ مَا سَمِعَ، فَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْهُ مِنْ حِفْظِهِ فِيهِمْ فِي الْمَتْنِ أَوْ فِي الْإِسْنَادِ، وَحِينَئِذٍ فَلَوْ مَثَّلَ بِرِوَايَةِ هُشَيْمٍ كَانَ أَسْلَمَ) . (بَلْ) مِنْ أَمْثِلَتِهِ كَمَا لِلنَّاظِمِ (حَدِيثُ نَزْعِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَاتَمَهُ عِنْدَ) دُخُولِ (الْخَلَا) بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ (وَوَضْعِهِ) ، الَّذِي رَوَاهُ هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ عَقِبَهُ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ. قَالَ: (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، «عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ أَلْقَاهُ» . قَالَ: وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ) . انْتَهَى. وَهَمَّامٌ ثِقَةٌ احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ النَّاسَ، قَالَهُ الشَّارِحُ، وَلَمْ يُوَافِقْ أَبُو دَاوُدَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنَّكَارَةِ، فَقَدْ قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ: لَا أَدْفَعُ أَنْ يَكُونَا حَدِيثَيْنِ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ، فَصَحَّحَهُمَا مَعًا. وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ أَخْرَجَ بِهَذَا السَّنَدِ أَنَّ أَنَسًا نَقَشَ فِي خَاتَمِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْخَلَاءَ وَضَعَهُ، لَا سِيَّمَا وَهَمَّامٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ ; فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخَرِّجَا لِهَمَّامٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَإِنْ أَخْرَجَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ. وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، فِيهِ نَظَرٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ عِنْدِي إِلَّا تَدْلِيسَ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنْ وُجِدَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ، فَلَا مَانِعَ مِنَ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ فِي نَقْدِي. انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَيْشُونَ، ثَنَا أَبُو قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَمِينِهِ، أَوْ قَالَ: كَانَ يَنْزِعُ خَاتَمَهُ إِذَا أَرَادَ الْجَنَابَةَ» . وَلَكِنْ أَبُو قَتَادَةَ - وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 مَعَ كَوْنِهِ صَدُوقًا كَانَ يُخْطِئُ، وَلِذَا أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَضْعِيفَهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: (مُنْكَرُ الْحَدِيثِ تَرَكُوهُ) ، بَلْ قَالَ أَحْمَدُ: (أَظُنُّهُ كَانَ يُدَلِّسُ) ، وَأَوْرَدَهُ شَيْخُنَا فِي الْمُدَلِّسِينَ، وَقَالَ: (إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ) ، وَوَصَفَهُ أَحْمَدُ بِالتَّدْلِيسِ. انْتَهَى. فَرِوَايَتُهُ لَا تَعِلُّ رِوَايَةَ هَمَّامٍ، [بَلْ قَدْ تَشْهَدُ لَهَا] ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالتَّمْثِيلُ بِهِ لِلْمُنْكَرِ، وَكَذَا بِقَوْلِ مَالِكٍ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الصَّلَاحِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاذِّ. [الِاعْتِبَارُ وَالْمُتَابِعَاتُ وَالشَّوَاهِدُ] ُ 171 - الِاعْتِبَارُ سَبْرُكَ الْحَدِيثَ هَلْ ... شَارَكَ رَاوٍ غَيْرَهُ فِيمَا حَمَلْ 172 - عَنْ شَيْخِهِ فَإِنْ يَكُنْ شُورِكَ مِنْ ... مُعْتَبَرٍ بِهِ فَتَابِعٌ وَإِنْ 173 - شُورِكَ شَيْخُهُ فَفَوْقُ فَكَذَا ... وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدًا ثُمَّ إِذَا 174 - مَتْنٌ بِمَعْنَاهُ أَتَى فَالشَّاهِدُ ... وَمَا خَلَا عَنْ كُلِّ ذَا مُفَارِدُ 175 - مِثَالُهُ: " لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا " ... فَلَفْظَةُ الدِّبَاغِ مَا أَتَى بِهَا 176 - عَنْ عَمْرٍو إِلَّا ابْنُ عُيَيْنَةٍ وَقَدْ ... تُوبِعَ عَمْرٌو فِي الدِّبَاغِ فَاعْتَضَدْ 177 - ثُمَّ وَجَدْنَا: " أَيُّمَا إِهَابِ " ... فَكَانَ فِيهِ شَاهِدًا فِي الْبَابِ. لَمَّا انْتَهَى الشَّاذُّ وَالْمُنْكَرُ الْمُجْتَمِعَانِ فِي الِانْفِرَادِ، أُرْدِفَا بِبَيَانِ الطَّرِيقِ الْمُبَيِّنِ لِلِانْفِرَادِ وَعَدَمِهِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أُخِّرَ عَنِ الْأَفْرَادِ وَالْغَرِيبِ الْآتِيَيْنِ، كَانَ أَنْسَبَ. [التَّعْرِيفُ بِالِاعْتِبَارِ] : وَ (الِاعْتِبَارُ سَبْرُكَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ، أَيِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 : اخْتِبَارُكَ وَنَظَرُكَ (الْحَدِيثَ) مِنَ الدَّوَاوِينِ الْمُبَوَّبَةِ وَالْمُسْنَدَةِ وَغَيْرِهِمَا، كَالْمَعَاجِمِ، وَالْمَشْيَخَاتِ وَالْفَوَائِدِ، لِتَنْظُرَ (هَلْ شَارَكَ) رَاوِيَهُ الَّذِي يُظَنُّ تَفَرُّدُهُ بِهِ (رَاوٍ غَيْرُهُ) أَوْ فَقُلْ: هَلْ شَارَكَ رَاوٍ مِنْ رُوَاتِهِ غَيْرَهُ. (فِيمَا حَمَلَ عَنْ شَيْخِهِ) سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي رِوَايَةِ ذَاكَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ فَبَانَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ قَسِيمًا لِمَا مَعَهُ كَمَا قَدْ تُوهِمُهُ التَّرْجَمَةُ، بَلْ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَشْفِ عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ شَرْحُ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ; لِوُقُوعِهَا فِي كَلَامِ أَئِمَّتِهِمْ. [حَقِيقَةُ الشَّاهِدِ وَالْمُتَابِعِ] (فَإِنْ يَكُنْ) ذَاكَ الرَّاوِي (شُورِكَ مِنْ) رَاوٍ (مُعْتَبَرٍ بِهِ) بِأَنَّ لَمْ يُتَّهَمْ بِكَذِبٍ وَضَعْفٍ، إِمَّا بِسُوءِ حِفْظِهِ أَوْ غَلَطِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، حَسَبَ مَا يَجِيءُ إِيضَاحُهُ فِي مَرَاتِبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، أَوْ مِمَّنْ فَوْقَهُ فِي الْوَصْفِ مِنْ بَابِ أَوْلَى (فَ) هُوَ (تَابِعٌ) حَقِيقَةً، وَهِيَ الْمُتَابَعَةُ التَّامَّةُ إِنِ اتَّفَقَا فِي رِجَالِ السَّنَدِ كُلِّهِمْ. (وَإِنْ شُورِكَ شَيْخُهُ) فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ شَيْخِهِ (فَفَوْقُ) بِضَمِّ الْقَافِ مَبْنِيًّا ; أَيْ: أَوْ شُورِكَ مَنْ فَوْقَ شَيْخِهِ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى الصَّحَابِيِّ، (فَكَذَا) أَيْ: فَهُوَ تَابِعٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ فِي ذَلِكَ قَاصِرٌ عَنْ مُشَارَكَتِهِ هُوَ، وَكُلَّمَا بَعُدَ فِيهِ الْمُتَابِعُ كَانَ أَنْقَصَ. (وَقَدْ يُسَمَّى) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَابِعِ لِشَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَهُ (شَاهِدًا) ، وَلَكِنَّ تَسْمِيَتَهُ تَابِعًا أَكْثَرُ. (ثُمَّ) بَعْدَ فَقْدِ الْمُتَابِعَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ (إِذَا مَتْنٌ) آخَرُ فِي الْبَابِ إِمَّا عَنْ ذَاكَ الصَّحَابِيِّ أَوْ غَيْرِهِ (بِمَعْنَاهُ أَتَى فَهُوَ الشَّاهِدُ) ، وَأَفْهَمَ اخْتِصَاصَ التَّابِعِ بِاللَّفْظِ ; سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ أَمْ غَيْرِهِ. وَقَدْ حَكَاهُ شَيْخُنَا مَعَ اخْتِصَاصِ الشَّاهِدِ بِالْمَعْنَى كَذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ - يَعْنِي كَالْبَيْهَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ - وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ لَا اقْتِصَارَ فِي التَّابِعِ عَلَى اللَّفْظِ، وَلَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الشَّاهِدِ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا بِالصَّحَابِيِّ فَقَطْ، فَكُلُّ مَا جَاءَ عَنْ ذَاكَ الصَّحَابِيِّ فَتَابِعٌ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ فَشَاهِدٌ. قَالَ: وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُتَابَعَةُ عَلَى الشَّاهِدِ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ سَهْلٌ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّقْوِيَةُ. (وَمَا خَلَا عَنْ كُلِّ ذَا) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنْ تَابِعٍ وَشَاهِدٍ فَهُوَ (مُفَارِدُ) أَيْ: أَفْرَادٌ، وَيَنْقَسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِقِسْمَيِ الْمُنْكَرِ وَالشَّاذِّ كَمَا تَقَرَّرَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاعْتِبَارِ ابْنُ حِبَّانَ ; حَيْثُ قَالَ: مِثَالُهُ أَنْ يَرْوِيَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدِيثًا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيُنْظَرُ هَلْ رَوَى ذَلِكَ ثِقَةٌ غَيْرُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ؟ فَإِنْ وُجِدَ عَلِمَ أَنَّ لِلْخَبَرِ أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَثِقَةٌ غَيْرُ ابْنِ سِيرِينَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِلَّا فَصَحَابِيٌّ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَيُّ ذَلِكَ وُجِدَ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. انْتَهَى. وَكَمَا أَنَّهُ لَا انْحِصَارَ لِلْمُتَابِعَاتِ فِي الثِّقَةِ، كَذَلِكَ الشَّوَاهِدُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي بَابِ الْمُتَابَعَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ رِوَايَةُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَحْدَهُ، بَلْ يَكُونُ مَعْدُودًا فِي الضُّعَفَاءِ، وَفِي كِتَابَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ ذَكَرَاهُمْ فِي الْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضَعِيفٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَلِهَذَا يَقُولُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: فُلَانٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَفُلَانٌ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا - أَيْ إِدْخَالَ الضُّعَفَاءِ فِي الْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ - لِكَوْنِ الْمُتَابَعِ لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ ". انْتَهَى. وَلَا انْحِصَارَ لَهُ فِي هَذَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُتَابِعِ وَالْمُتَابَعِ لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ ; فَبِاجْتِمَاعِهِمَا تَحْصُلُ الْقُوَّةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 [أَمْثِلَةُ التَّابِعِ وَالشَّاهِدِ] (مِثَالُهُ) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنَ التَّابِعِ وَالشَّاهِدِ ( «لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا، فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ» ) الْمَرْوِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةَ مَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ» ، فَقَالَ وَذَكَرَهُ. (فَلَفْظَةُ الدِّبَاغِ) فِيهِ (مَا أَتَى بِهَا عَنْ عَمْرٍو) مِنْ أَصْحَابِهِ (إِلَّا ابْنُ عُيَيْنَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِهَا وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا. (وَقَدْ تُوبِعَ) شَيْخُهُ (عَمْرٌو) عَنْ عَطَاءٍ (فِي الدِّبَاغِ) ، فَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَهْلِ شَاةٍ مَاتَتْ: " الْأَ نَزَعْتُمْ إِهَابَهَا، فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، فَهَذِهِ مُتَابِعَاتٌ لِابْنِ عُيَيْنَةَ فِي شَيْخِ شَيْخِهِ (فَاعْتَضَدْ) بِهَا. (ثُمَّ وَجَدْنَا) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ( «أَيُّمَا إِهَابٍ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: جِلْدٍ دُبِغَ - فَقَدَ طَهُرَ» ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: (إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ. . . .) . (فَكَانَ فِيهِ) لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، (شَاهِدًا فِي الْبَابِ) أَيْ: عِنْدَ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، بَلْ يُكْتَفَى بِالْمَعْنَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وَأَمَّا مَنْ يَقْصُرُ الشَّاهِدَ عَلَى الْآتِي مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَعْلَةَ هَذِهِ مُتَابِعَةٌ لِعَطَاءِ، وَلِهَذَا عَدَلَ شَيْخُنَا عَنِ التَّمْثِيلِ بِهِ، وَمَثَّلَ بِحَدِيثٍ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ التَّامَّةُ، وَالْقَاصِرَةُ، وَالشَّاهِدُ بِاللَّفْظِ، وَالشَّاهِدُ بِالْمَعْنَى جَمِيعًا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» ; فَإِنَّهُ فِي جَمِيعِ الْمُوَطَّآتِ عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَفْظِ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا لَهُ» . وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَالِكٍ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، ثَنَا مَالِكٌ بِهِ بِلَفْظِ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ، فَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ تَامَّةٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَالِكًا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِاللَّفْظَيْنِ مَعًا. وَقَدْ تُوبِعَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَحَدُهُمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: «فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ» . وَالثَّانِي: أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَكَمِّلُوا ثَلَاثِينَ» . فَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَلَهُ شَاهِدَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: «فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» . وَثَانِيهِمَا: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَوَاءٌ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْتُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْحَاشِيَةِ غَيْرَ ذَلِكَ. [زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ] 178 - وَاقْبَلْ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مِنْهُمُ ... وَمَنْ سِوَاهُمْ فَعَلَيْهِ الْمُعْظَمُ 179 - وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ لَا مِنْهُمْ وَقَدْ ... قَسَّمَهُ الشَّيْخُ فَقَالَ: مَا انْفَرَدْ 180 - دُونَ الثِّقَاتِ ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ ... فِيهِ صَرِيحًا فَهْوَ رَدٌّ عِنْدَهُمْ 181 - أَوْ لَمْ يُخَالِفْ فَاقْبَلَنْهُ وَادَّعَى ... فِيهِ الْخَطِيبُ الِاتِّفَاقَ مُجْمَعَا 182 - أَوْ خَالَفَ الْإِطْلَاقَ نَحْوُ: " جُعِلَتْ ... تُرْبَةُ الْأَرْضِ " فَهِيَ فَرْدٌ نُقِلَتْ 183 - فَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا ... وَالْوَصْلُ وَالْإِرْسَالُ مِنْ ذَا أُخِذَا 184 - لَكِنَّ فِي الْإِرْسَالِ جَرْحًا فَاقْتَضَى ... تَقْدِيمَهُ وَرُدَّ أَنَّ مُقْتَضَى 185 - هَذَا قَبُولُ الْوَصْلِ إِذْ فِيهِ وَفِي ... الْجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِي وَهُوَ فَنٌّ لَطِيفٌ تُسْتَحْسَنُ الْعِنَايَةُ بِهِ، يُعْرَفُ بِجَمْعِ الطُّرُقِ وَالْأَبْوَابِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ - كَمَا قَدَّمْنَا - ذِكْرَهُ مَعَ تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ. وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مُشَارًا إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بِهِ ; بِحَيْثُ قَالَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حِبَّانَ: مَا رَأَيْتُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ مَنْ يَحْفَظُ الصِّحَاحَ بِأَلْفَاظِهَا، وَيَقُومُ بِزِيَادَةِ كُلِّ لَفْظَةٍ زَادَ فِي الْخَبَرِ ثِقَةً، حَتَّى كَأَنَّ السُّنَنَ كُلَّهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ - غَيْرَهُ. وَكَذَا كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَأَبُو الْوَلِيدِ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ النَّيْسَابُورِيَّانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ ; كَأَبِي نُعَيْمِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُرْجَانِيِّ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِمَعْرِفَةِ زِيَادَاتِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الْمُتُونِ. [أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ] (وَاقْبَلْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (زِيادَاتِ الثِّقَاتِ) مِنَ التَّابِعِينَ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا (مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ الثِّقَاتِ الرَّاوِينَ لِلْحَدِيثِ بِدُونِهَا، بِأَنْ رَوَاهُ أَحَدُهُمْ مَرَّةً نَاقِصًا وَمَرَّةً بِالزِّيَادَةِ. (وَمَنْ سِوَاهُمْ) أَيْ: مَنْ سِوَى الرَّاوِينَ بِدُونِهَا مِنَ الثِّقَاتِ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي اللَّفْظِ أَمِ الْمَعْنَى، تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَمْ لَا، غَيَّرَتِ الْحُكْمَ الثَّابِتَ أَمْ لَا، أَوْجَبَتْ نَقْصًا مِنْ أَحْكَامٍ ثَبَتَتْ بِخَبَرٍ آخَرَ أَمْ لَا، عُلِمَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا، كَثُرَ السَّاكِتُونَ عَنْهَا أَمْ لَا. (فَ) ـهَذَا - كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ - هُوَ الَّذِي مَشَى (عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ) مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ ; كَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَجَرَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَقَيَّدَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ عَدَدًا أَوْ وَاحِدًا أَحْفَظَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ حَافِظًا، وَلَوْ كَانَ صَدُوقًا فَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ فِي التَّمْهِيدِ: ((إِنَّمَا تُقْبَلُ إِذَا كَانَ رَاوِيهَا أَحْفَظَ، وَأَتْقَنَ مِمَّنْ قَصَّرَ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْحِفْظِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حَافِظٍ وَلَا مُتْقِنٍ، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا)) ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ: ((الَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَبُولَ إِذَا كَانَ رَاوِيهَا عَدْلًا حَافِظًا وَمُتْقِنًا ضَابِطًا)) . وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ عَلَى حِفْظِهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: إِنَّمَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مِنَ الثِّقَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَكَذَا قَيَّدَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعِدَّةِ الْقَبُولَ إِذَا كَانَ رَاوِي النَّاقِصَةِ أَكْثَرَ بِتَعَدُّدِ مَجْلِسِ التَّحَمُّلِ ; لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَالْخَبَرَيْنِ يُعْمَلُ بِهِمَا. وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، بِمَا إِذَا سَكَتَ الْبَاقُونَ عَنْ نَفْيِهِ، أَمَّا مَعَ النَّفْيِ عَلَى وَجْهٍ يُقْبَلُ فَلَا، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ: بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُغَيِّرَةً لِلْإِعْرَابِ، وَإِلَّا كَانَا مُتَعَارِضَيْنِ أَيْ فِي اللَّفْظِ، وَإِنْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَعْنَى. وَفَرِيقٌ بِمَا إِذَا أَفَادَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَآخَرُونَ بِمَا إِذَا كَانَتْ فِي اللَّفْظِ خَاصَّةً ; كَزِيَادَةِ ((أَحَاقِيفُ جُرْذَانٍ)) فِي حَدِيثِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْضِعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، حَكَاهُمَا الْخَطِيبُ. [وَقَالَ: إِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أَوَّلَهُمَا لَا وَجْهَ لَهُ ; إِذِ الْأَحْكَامُ مَحَلُّ التَّشَدُّدِ، فَقَبُولُهَا فِي غَيْرِهَا أَوْلَى، وَكَأَنَّهُ لَحَظَ الْحَاجَةَ فِي الْقَبُولِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْهَا وَلَا لِمَا قَصَرَهُ الْآخَرُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ حَاجَةً فِي الْجُمْلَةِ ; بِحَيْثُ صَارَا كَطَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي التَّسَاهُلِ وَغَيْرِهِ] . وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَمَنْ وَافَقَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ السَّاكِتُونَ مِمَّنْ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُمْ عَنْ مِثْلِهَا عَادَةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَخَرَّجَ شَيْخُنَا مِنْ تَفْرِقَةِ ابْنِ حِبَّانَ فِي مُقَدِّمَةِ (الضُّعَفَاءِ) لَهُ بَيْنَ الْمُحَدِّثِ وَالْفَقِيهِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى التَّفْرِقَةَ أَيْضًا هُنَا بَيْنَهُمَا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، فَتُقْبَلُ مِنَ الْمُحَدِّثِ فِي السَّنَدِ لَا الْمَتْنِ، وَمِنَ الْفَقِيهِ عَكْسُهُ ; لِزِيَادَةِ اعْتِنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا قُبِلَ مِنْهُ، قَالَ: بَلْ سِيَاقُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (وَقِيلَ: لَا) تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا لَا مِمَّنْ رَوَاهُ نَاقِصًا، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ قَالُوا: لِأَنَّ تَرْكَ الْحُفَّاظِ لِنَقْلِهَا وَذَهَابَهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهَا يُوهِنُهَا وَيُضْعِفُ أَمْرَهَا، وَيَكُونُ مُعَارِضًا لَهَا، وَلَيْسَتْ كَالْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّ ; إِذْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي الْعَادَةِ سَمَاعُ وَاحِدٍ فَقَطْ لِلْحَدِيثِ مِنَ الرَّاوِي وَانْفِرَادُهُ بِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِيهَا سَمَاعُ الْجَمَاعَةِ لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَذَهَابُ زِيَادَةٍ فِيهِ عَلَيْهِمْ وَنِسْيَانُهَا إِلَّا الْوَاحِدَ. (وَقِيلَ: لَا) تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ (مِنْهُمْ) فَقَطْ ; أَيْ: مِمَّنْ رَوَاهُ بِدُونِهَا ثُمَّ رَوَاهُ بِهَا ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ لَهُ نَاقِصًا أَوْرَثَتْ شَكًّا فِي الزِّيَادَةِ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ فِرْقَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وَكَذَا قَالَ بِهِ مِنْهُمْ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: سَوَاءٌ كَانَتْ رِوَايَتُهُ لِلزَّائِدَةِ سَابِقَةً، أَوْ لَاحِقَةً. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ بِوُجُوبِ التَّوَقُّفِ ; حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ نَسِيَهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِوَايَتُهُ نَاقِصًا، ثُمَّ رَوَاهُ بِالزِّيَادَةِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَسِيَهَا قُبِلَتْ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. وَرَدَّ ابْنُ الْخَطِيبِ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ الْمَجْلِسِ وَسَهْوُ الرَّاوِي فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى النَّاقِصَةِ فِي أَحَدِهِمَا، أَوِ اكْتِفَاؤُهُ بِكَوْنِهِ كَانَ أَتَمَّهُ قَبْلُ، وَضَبَطَهُ الثِّقَةُ عَنْهُ، فَنَقَلَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا سَمِعَهُ، وَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَضَرَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، أَوْ فَارَقَ قَبْلَ انْتِهَائِهِ، أَوْ عَرَضَ لَهُ شَاغِلٌ مِنْ نَوْمٍ أَوْ فِكْرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَالثَّالِثَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ رَاوٍ تَامًّا، وَمِنْ آخَرَ نَاقِصًا، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ عَنْ وَاحِدٍ، أَوْ يَرْوِيَهُ بِدُونِهَا لِشَكٍّ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتَيَقَّنَهَا أَوْ يَتَذَكَّرَهَا. وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى قَبُولِهَا مِنْهُ نَفْسِهِ، بِقَبُولِهِ إِذَا رَوَى حَدِيثًا مُثْبِتًا لِحُكْمٍ، وَحَدِيثًا نَاسِخًا لَهُ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُولِ مَعَ التَّنَافِي، فَتَصْرِيحُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِرَدِّهَا عَنْهُ نَفَى الْبَاقِينَ، وَابْنِ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُمَا كَالْخَبَرَيْنِ يُعْمَلُ بِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ - قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّقْيِيدُ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ، فَاشْتَرَطَ لِقَبُولِهَا كَوْنَهَا غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ رَاوِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ الْمَاضِي فِي الْمُرْسَلِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ، يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْإِطْلَا قِ. [تَقْسِيمُ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ] (وَقَدْ قَسَّمَهُ) أَيْ: مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ مِنَ الزِّيَادَةِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (فَقَالَ) : حَسْبَمَا حَرَّرَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ: قَدْ رَأَيْتُ تَقْسِيمَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (مَا انْفَرَدْ) بِرِوَايَتِهِ (دُونَ الثِّقَاتِ) أَوْ ثِقَةٍ أَحْفَظَ (ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ) أَوْ خَالَفَ الْوَاحِدُ الْأَحْفَظَ (فِيهِ) أَيْ: فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ (صَرِيحًا) فِي الْمُخَالَفَةِ ; بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُ مِنْ قَبُولِهَا رَدُّ الْأُخْرَى (فَهُوَ رَدٌّ) أَيْ: مَرْدُودٌ (عِنْدَهُمْ) أَيِ: الْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ. (أَوْ لَمْ يُخَالِفْ) فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ مَا رَوَوْهُ أَوِ الْأَحْفَظَ أَصْلًا (فَاقْبَلَنْهُ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ ; لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِمَا رَوَاهُ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَا مُعَارِضَ لِرِوَايَتِهِ ; إِذِ السَّاكِتُ عَنْهَا لَمْ يَنْفِهَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، وَلَا فِي سُكُوتِهِ دَلَالَةٌ عَلَى وَهْمِهَا، بَلْ هِيَ كَالْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي تَفَرَّدَ بِجُمْلَتِهِ ثِقَةٌ، وَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ أَصْلًا كَمَا سَبَقَ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي الشَّاذِّ. (وَادَّعَى فِيهِ) أَيْ: فِي قَبُولِ هَذَا الْقِسْمِ (الْخَطِيبُ الِاتِّفَاقَ) بَيْنَ الْعُلَمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ (مُجْمَعًا) وَلَكِنَّ عَزْوَ حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ، فَعِبَارَتُهُ: ((وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ - أَيِ: الْقَوْلِ بِقَبُولِ الزِّيَادَةِ - أُمُورٌ: أَحَدُهَا: اتِّفَاقُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِنَقْلِ حَدِيثٍ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُهُ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ الرُّوَاةِ لِنَقْلِهِ إِنْ كَانُوا عَرَفُوهُ وَذَهَابُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ مُعَارِضًا لَهُ وَلَا قَادِحًا فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ، وَلَا مُبْطِلًا لَهُ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الِانْفِرَادِ بِالزِّيَادَةِ)) . (أَوْ خَالَفَ الْإِطْلَاقَ) فَزَادَ لَفْظَةً مَعْنَوِيَّةً فِي حَدِيثٍ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ (نَحْوُ: ((جُعِلَتْ تُرْبَةُ الْأَرْضِ)) ) بِالنَّقْلِ لَنَا، طَهُورًا فِي حَدِيثِ: «فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا. . .» . (فَهِي) أَيْ: زِيَادَةُ التُّرْبَةِ (فَرْدٌ نُقِلَتْ) تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهَا أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 حُذَيْفَةَ، أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ (التُّرَابُ) ، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ لَفْظُهَا: «وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . قَالَ: " فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ يُشْبِهُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَامٌّ، يَعْنِي لِشُمُولِهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَمَا رَوَاهُ الْمُنْفَرِدُ بِالزِّيَادَةِ مَخْصُوصٌ، يَعْنِي بِالتُّرَابِ. وَفِي ذَلِكَ مُغَايَرَةٌ فِي الصِّفَةِ، وَنَوْعُ مُخَالَفَةٍ يَخْتَلِفُ بِهَا الْحُكْمُ، وَيُشْبِهُ أَيْضًا الْقِسْمَ الثَّانِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا (فَالشَّافِعِيْ) بِالْإِسْكَانِ، وَ (أَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا) أَيْ: بِاللَّفْظِ الْمَزِيدِ هُنَا ; حَيْثُ خَصَّا التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ. وَكَذَا بِزِيَادَةِ " مِنَ الْمُسْلِمِينَ " فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، الَّذِي شُوحِحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ بِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِاحْتِجَاجِهَا مَعَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَا فِيهِ خَاصَّةً، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِحُكْمٍ، حَتَّى قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا قَالَ - يَعْنِي ابْنَ الصَّلَاحِ - وَالصَّحِيحُ قَبُولُهُ. وَأَمَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ حَقَّقَ تَبَعًا لِلْعَلَائِيِّ أَنَّ الَّذِي يَجْرِي عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ، أَنَّهُمْ لَا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مُطَّرِدٍ مِنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، بَلْ يُرَجِّحُونَ بِالْقَرَائِنِ كَمَا فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ، فَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيهِمَا سَوَاءٌ، بَلْ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 مَا مَعْنَاهُ: (وَالْوَصْلُ وَالْإِرْسَالُ) فِي تَعَارُضِهِمَا (مِنْ ذَا) أَيْ: مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الثِّقَاتِ (أُخِذَا) ، فَالْوَصْلُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرْسَالِ نَحْوُ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي ثَالِثِ الْأَقْسَامِ، وَبَيَانُهُ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَاضِحٌ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، أَوْ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوَافِقُ الْآخَرَ فِي كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَكِنَّ) بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ (فِي الْإِرْسَالِ) فَقَطْ (جَرْحًا) فِي الْحَدِيثِ (فَاقْتَضَى تَقْدِيمَهُ) أَيْ: لِلْأَكْثَرِ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ، يَعْنَى: فَافْتَرَقَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ: الْإِرْسَالُ عِلَّةٌ فِي السَّنَدِ، فَكَانَ وُجُودُهَا قَادِحًا فِي الْوَصْلِ، وَلَيْسَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَتْنِ كَذَلِكَ. وَلَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ وَتَعَسُّفٍ. انْتَهَى. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ بَانَ تَبَايُنُ مَأْخَذِ الْأَكْثَرِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، لِئَلَّا يَكُونَ تَنَاقُضًا ; حَيْثُ يَحْكِي الْخَطِيبُ هُنَاكَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحَ الْإِرْسَالِ، وَهُنَا عَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَبُولَ الزِّيَادَةِ، مَعَ أَنَّ الْوَصْلَ زِيَادَةُ ثِقَةٍ. وَإِلَى الِاسْتِشْكَالِ أَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا بَعْدَ الْحِكَايَةِ عَنِ الْخَطِيبِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ قَدَّمْنَا - أَيْ: عَنِ الْخَطِيبِ - حِكَايَةً عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحَ الْإِرْسَالِ، ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِإِلْزَامِهِمْ مُقَابِلَهُ ; لِكَوْنِهِ رَجَّحَهُ هُنَاكَ. فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: (وَرُدَّ) أَيْ: تَقْدِيمُ الْإِرْسَالِ بِـ (أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا) أَيِ: الَّذِي عَلَّلَ بِهِ تَقْدِيمَهُ (قَبُولُ الْوَصْلِ) أَيْضًا (إِذْ فِيهِ) أَيْ: فِي الْوَصْلِ ( وَفِي الْجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِي ) أَيْ: لِلْمُتَّبِعِ. وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجِيحِ الْإِرْسَالِ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ مَنْ أَرْسَلَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مَعَ الْوَاصِلِ، وَأَنَّ الْإِرْسَالَ نَقْصٌ فِي الْحِفْظِ لِمَا جُبِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ النِّسْيَانِ، وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ عَنِ الْخَطِيبِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَاكَ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا هُنَا فَعَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، فَالْأَكْثَرِيَّةُ بِالنَّظَرِ لِلْمَجْمُوعِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَكْثَرِيَّةِ. تَتِمَّةٌ: الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ، إِذَا صَحَّ السَّنَدُ مَقْبُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. [الْأَفْرَادُ] 186 - الْفَرْدُ قِسْمَانِ فَفَرْدٌ مُطْلَقَا ... وَحُكْمُهُ عِنْدَ الشُّذُوذِ سَبَقَا 187 - وَالْفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ مَا قَيَّدْتَهُ ... بِثِقَةٍ أَوْ بَلَدٍ ذَكَرْتَهُ 188 - أَوْ عَنْ فُلَانٍ نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلْ ... لَمْ يَرْوِهِ عَنْ بَكْرٍ الَّا وَائِلْ 189 - لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ إِلَّا ضَمْرَهْ ... لَمْ يَرْوِ هَذَا غَيْرُ أَهْلِ الْبَصْرَهْ 190 - فَإِنْ يُرِيدُوا وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهَا ... تَجَوُّزًا فَاجْعَلْهُ مِنْ أَوَّلِهَا 191 - وَلَيْسَ فِي أَفْرَادِهِ النِّسْبِيَّهْ ... ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّهْ 192 - لَكِنْ إِذَا قَيَّدَ ذَاكَ بِالثِّقَهْ ... فَحُكْمُهُ يَقْرُبُ مِمَّا أَطْلَقَهْ [تَقْسِيمُ الْأَفْرَادِ إِلَى فَرْدٍ مُطْلَقٍ وَفَرْدٍ نِسْبِيٍّ] : وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ وَاضِحَةٌ، وَلَكِنْ لَوْ ضُمَّ إِلَى الْمُنْكَرِ وَالشَّاذِّ - كَمَا قَدَّمْنَا - كَانَ أَنْسَبَ. (الْفَرْدُ قِسْمَانِ: فَفَرْدٌ) يَقَعُ (مُطْلَقَا) وَهُوَ أَوَّلُهُمَا بِأَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الرَّاوِي الْوَاحِدُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ. (وَحُكْمُهُ) مَعَ مِثَالِهِ (عِنْدَ) نَوْعِ (الشُّذُوذِ سَبَقَا، وَالْفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ) إِلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ وَهُوَ ثَانِيهِمَا وَهُوَ أَنْوَاعٌ (مَا قَيَّدْتَهُ بِثِقَةٍ أَوْ بَلَدٍ) مُعَيَّنٍ ; كَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ (ذَكَرْتَهُ) صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي التَّمْثِيلُ لَهُمَا (أَوْ) بِرَاوٍ مَخْصُوصٍ ; حَيْثُ لَمْ يَرْوِهِ (عَنْ فُلَانٍ) إِلَّا فُلَانٌ. [أَمْثِلَةُ أَنْوَاعِ الْفَرْدِ النِّسْبِيِّ] (نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ) أَبِي الْفَضْلِ بْنِ طَاهِرٍ فِي أَطْرَافِ الْغَرَائِبِ لَهُ عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ وَلَدِهِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ» (لَمْ يَرْوِهِ عَنْ بَكْرٍ الَّا وَائِلْ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي أَبَاهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ وَائِلٍ غَيْرُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَهُوَ غَرِيبٌ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عُيَيَنْةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ - يَعْنِي بِدُونِ وَائِلٍ وَوَلَدِهِ - قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ رُبَّمَا دَلَّسَهُمَا. قُلْتُ: مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ كَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ الْمُقْرِئِ، وَصَرَّحَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَسَمِعْتُهُ مِنْ آخَرَ، وَرَوَاهُ سَهْلُ بْنُ صُقَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِدُونِ بَكْرٍ وَحْدَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ التَّوَّزِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَجَعَلَ الْوَاسِطَةَ بَدَلَهُمَا زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ كَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، وَحَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَغَيَّاثُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّحْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ لَهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَالْبُخَارِيِّ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَنَحْوُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ. وَنَحْوُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْكُدْيَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي حَدِيثِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ بِـ ((ق)) وَ ((اقْتَرَبَتْ)) (لَمْ يَرْوِهِ) أَيِ الْحَدِيثَ (ثِقَةٌ الَّا ضَمْرَهْ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ أَيِ: ابْنُ سَعِيدٍ، فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ صَحَابِيِّهِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالثِّقَةِ لِرِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ لِاحْتِرَاقِ كُتُبِهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الثَّانِي: قَوْلُ الْقَائِلِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابَيْهِ (السُّنَنِ) وَ (التَّفَرُّدِ) عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْهُ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ» -: (لَمْ يَرْوِ هَذَا) الْحَدِيثَ (غَيْرُ أَهْلِ الْبَصْرَهْ) ; فَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُمْ تَفَرَّدُوا بِذِكْرِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْنَادِ إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَشْرَكْهُمْ فِي لَفْظِهِ سِوَاهُمْ. وَكَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ قَوْلَهُ: «وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ» سُنَّةٌ غَرِيبَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا أَهْلُ مِصْرَ، وَلِمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يَشْرَكْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ. وَحَدِيثُ: " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ "، تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ مَرْوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ فِي اللُّقَطَةِ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْهُ. (فَإِنْ يُرِيدُوا) أَيِ: الْقَائِلُونَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ (وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهَا) بِأَنْ يَكُونَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلَدِ وَاحِدًا فَقَطْ وَهُوَ أَكْثَرُ صَنِيعِهِمْ، وَأَطْلَقُوا الْبَلَدَ (تَجَوُّزًا) كَمَا يُضَافُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ قَبِيلَةٍ إِلَيْهَا مَجَازًا (فَاجْعَلْهُ مِنْ أَوَّلِهَا) أَيِ: الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ حَبَّانَ بْنِ وَاسِعٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، فَأَطْلَقَ الْحَاكِمُ أَهْلَ الْبَلَدِ وَأَرَادَ وَاحِدًا مِنْهُمْ. (وَلَيْسَ فِي أَفْرَادِهِ) أَيْ: هَذَا الْبَابِ (النِّسْبِيَّهْ) وَهِيَ أَنْوَاعُ الْقِسْمِ الثَّانِي (ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّهْ) أَيْ: جِهَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَا يَقْتَضِيهِ (لَكِنْ إِذَا قَيَّدَ) الْقَائِلُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُفَّاظِ (ذَاكَ) أَيِ التَّفَرُّدَ (بِالثِّقَةِ) كَقَوْلِهِمْ: لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ إِلَّا فُلَانٌ -. (فَحُكْمُهُ) إِنْ كَانَ رَاوِيهِ الَّذِي لَيْسَ بِثِقَةٍ مِمَّنْ بَلَغَ رُتْبَةَ مَنْ يُعْتَبَرُ حَدِيثُهُ (يَقْرُبُ مِمَّا أَطْلَقَهْ) أَيْ: مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ فَكَالْمُطْلَقِ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ كُلًّا رِوَايَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا مَا يَشْتَرِكُ الْأَوَّلُ مَعَهُ فِيهِ ; كَإِطْلَاقِ تَفَرُّدِ أَهْلِ بَلَدٍ بِمَا يَكُونُ رَاوِيهِ مِنْهَا وَاحِدًا فَقَطْ. وَتَفَرُّدِ الثِّقَةِ بِمَا يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي رِوَايَتِهِ ضَعِيفٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَهِيَ تَفَرُّدُ شَخْصٍ عَنْ شَخْصٍ أَوْ عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ، أَوْ أَهْلِ بَلَدٍ عَنْ شَخْصٍ أَوْ عَنْ بَلَدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أُخْرَى. [مَظَانُّ الْأَفْرَادِ] وَصَنَّفَ فِي الْأَفْرَادِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَغَيْرُهُمَا، وَكِتَابُ الدَّرَاقُطْنِيِّ حَافِلٌ فِي مِائَةِ جُزْءٍ حَدِيثِيَّةٍ، سُمِعَتْ مِنْهُ عِدَّةُ أَجْزَاءٍ. وَعَمِلَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ (أَطْرَافَهُ) ، وَمِنْ مَظَانِّهَا (الْجَامِعُ) لِلتِّرْمِذِيِّ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَرَدَّهُ شَيْخُنَا بِتَصْرِيحِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ بِالتَّفَرُّدِ الْمُطْلَقِ، وَكَذَا مِنْ مَظَانِّهَا (مُسْنَدُ الْبَزَّارِ) وَالْمُعْجَمَانِ (الْأَوْسَطِ) وَ (الصَّغِيرِ) لِلطَّبَرَانِيِّ. وَصَنَّفَ أَبُو دَاوُدَ (السُّنَنَ) الَّتِي تَفَرَّدَ لِكُلِّ سُنَّةٍ مِنْهَا أَهْلُ بَلَدٍ ; كَحَدِيثِ طَلْقٍ فِي مَسِ الذَّكَرِ، قَالَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْيَمَامَةِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، قَالَ الْحَاكِمُ: تَفَرَّدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَنْهَضُ بِهِ إِلَّا مُتَّسِعُ الْبَاعِ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّعَقُّبُ فِي دَعْوَى الْفَرْدِيَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ نَفْسِ مُدَّعِيهَا الْمُتَابِعِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْجَزْمُ بِالتَّعَقُّبِ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفِ السِّيَاقُ، أَوْ يَكُونُ الْمُتَابِعُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِهِ ; لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِطْلَاقِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: (إِنَّهُ إِذَا قِيلَ فِي حَدِيثٍ: تَفَرَّدَ بِهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدًا مُطْلَقًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ خَاصَّةً، وَيَكُونَ مَرْوِيًّا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْأَحَادِيثِ، وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ) . انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 تَتِمَّةٌ: قَوْلُهُمْ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ فُلَانٍ، جَوَّزَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " غَيْرِ " الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ. [الْمُعَلَّلُ] 193 - وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُولُ ... مُعَلَّلًا، وَلَا تَقُلْ: مَعْلُولُ 194 - وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ طَرَتْ ... فِيهَا غُمُوضٌ وَخَفَاءٌ أَثَّرَتْ 195 - تُدْرَكُ بِالْخِلَافِ وَالتَّفَرُّدِ ... مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ يَهْتَدِي 196 - جَهْبَذُهَا إِلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى ... تَصْوِيبِ إِرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلَا 197 - أَوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ أَوْ مَتْنٍ دَخَلْ ... فِي غَيْرِهِ، أَوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ 198 - ظَنَّ فَأَمْضَى، أَوْ وَقَفَ فَأَحْجَمَا ... مِعْ كَوْنِهِ ظَاهِرُهُ أَنْ سَلِمَا 199 - وَهْيَ تَجِيءُ غَالِبًا فِي السَّنَدِ ... تَقْدَحُ فِي الْمَتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ 200 - أَوْ وَقْفٍ مَرْفُوعٍ وَقَدْ لَا تَقْدَحُ ... كَالْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ صَرَّحُوا 201 - بِوَهْمِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ أَبْدَلَا ... عَمْرًا بِعَبْدِ اللَّهِ حِينَ نَقَلَا 202 - وَعِلَّةُ الْمَتْنِ كَنَفْيِ الْبَسْمَلَهْ ... إِذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَهَا فَنَقَلَهْ 203 - وَصَحَّ أَنَّ أَنَسًا يَقُولُ لَا ... أَحْفَظُ شَيْئًا فِيهِ حِينَ سُئِلَا 204 - وَكَثُرَ التَّعْلِيلُ بِالْإِرْسَالِ ... لِلْوَصْلِ إِنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ 205 - وَقَدْ يُعِلُّونَ بِكُلِّ قَدْحِ ... فِسْقٍ وَغَفْلَةٍ وَنَوْعِ جَرْحِ 206 - وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْعِلَّةِ ... لِغَيْرِ قَادِحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ 207 - يَقُولُ مَعْلُولٌ صَحِيحٌ كَالَّذِي ... يَقُولُ: صَحَّ مَعْ شُذُوذٍ احْتَذِي 208 - وَالنَّسْخَ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ ... فَإِنْ يُرِدْ فِي عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ. وَفِيهِ تَصَانِيفُ عِدَّةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَدَبِ الطَّالِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْفَرْدِ الشَّامِلِ لِلشَّاذِّ ظَاهِرَةٌ ; لِاشْتِرَاطِ الْجُمْهُورِ نَفْيَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَلِاشْتِرَاطِهِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي كَثِيرٍ. [التَّعْرِيفُ بِالْمُعَلَّلِ، وَالْبَحْثُ عَنْ مَادَّةِ الْمَعْلُولِ] (وَسَمِّ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (مَا) هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ (بِعِلَّةٍ) أَيْ: خَفِيَّةٍ مِنْ عِلَلِهِ الْآتِيَةِ فِي سَنَدِهِ أَوْ مَتْنِهِ (مَشْمُولٌ مُعَلَّلًا) كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَلَا تَقُلْ) فِيهِ: هُوَ (مَعْلُولٌ) ، وَإِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَخَلْقٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَكَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ ; حَيْثُ قَالُوا: الْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي الْمُتَقَارِبِ مِنَ الْعَرُوضِ ; لِأَنَّ الْمَعْلُولَ مَنْ عَلَّهُ بِالشَّرَابِ أَيْ: سَقَاهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَمِنْهُ " مِنْ جَزِيلِ عَطَائِكَ الْمَعْلُولِ " إِلَّا أَنَّ مِمَّا يُسَاعِدُ صَنِيعَ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمُ اسْتِعْمَالَ الزَّجَّاجِ اللُّغَوِيِّ لَهُ، وَقَوْلَ (الصِّحَاحِ) : عَلَّ الشَّيْءُ فَهُوَ مَعْلُولٌ يَعْنِي مِنَ الْعِلَّةِ، وَنَصَّ جَمَاعَةٌ كَابْنِ الْقُوطِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ، فَإِنَّهُ قَالَ: عَلَّ الْإِنْسَانُ عِلَّةً مَرِضَ، وَالشَّيْءُ أَصَابَتْهُ الْعِلَّةُ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى شَيْخُنَا كِتَابَهُ الزَّهْرَ الْمَطْلُولَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْلُولِ. وَلَكِنَّ الْأَعْرَفَ أَنَّ فِعْلَهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمَزِيدِ، تَقُولُ: أَعَلَّهُ اللَّهُ فَهُوَ مُعَلٌّ، وَلَا يُقَالُ: مُعَلَّلٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ عَلَّلَهُ بِمَعْنَى أَلَّهَاهُ بِالشَّيْءِ وَشَغَلَهُ بِهِ، وَمِنْهُ تَعْلِيلُ الصَّبِيِّ بِالطَّعَامِ، وَمَا يَقَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَهُ ; حَيْثُ يَقُولُونَ: عَلَّلَهُ فُلَانٌ، فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 [التَّعْرِيفُ بِالْعِلَّةِ الْخَفِيَّةِ وَأَمْثِلَتُهَا] (وَهِيَ) أَيِ: الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ (عِبَارَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سَبَبٍ، وَهُوَ لُغَةً: مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَاصْطِلَاحًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ. (طَرَتْ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا أَيْ: طَلَعَتْ، بِمَعْنَى ظَهَرَتْ لِلنَّاقِدِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهَا (فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ (غُمُوضٌ) أَيْ: عَدَمُ وُضُوحٍ (وَخَفَاءٌ أَثَّرَتْ) أَيْ: قَدَحَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ فِي قَبُولِهِ. (تُدْرَكُ) أَيِ: الْأَسْبَابُ بَعْدَ جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَالْفَحْصِ عَنْهَا (بِالْخِلَافِ) مِنْ رَاوِي الْحَدِيثِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ عَلَيْهِ (وَ) بِـ (التَّفَرُّدِ) بِذَلِكَ وَعَدَمِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ (مَعَ قَرَائِنَ) قَدْ يَقْصُرُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا (تُضَمُّ) لِذَلِكَ (يَهْتَدِي) بِمَجْمُوعِهِ (جِهْبِذُهَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، أَيِ الْحَاذِقُ فِي النَّقْدِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا كُلُّ مُحَدِّثٍ (إِلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى تَصْوِيبٍ إِرْسَالٍ) يَعْنِي خَفِيٍّ وَنَحْوِهِ (لِمَا قَدْ وُصِلَا) . (أَوْ) تَصْوِيبِ (وَقْفِ مَا) كَانَ (يُرْفَعُ أَوْ) تَصْوِيبِ فَصْلِ (مَتْنٍ) أَوْ بَعْضِ مَتْنٍ (دَخَلَ) مُدْرَجًا (فِي) مَتْنٍ (غَيْرِهِ) وَكَذَا بِإِدْرَاجِ لَفْظَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ فِيهِ. (أَوِ) اطِّلَاعِهِ عَلَى (وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ) بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ ; كَإِبْدَالِ رَاوٍ ضَعِيفٍ بِثِقَةٍ كَمَا اتَّفَقَ لِابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ» فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَاوِيَهُ غَلِطَ فِي تَسْمِيَتِهِ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَذَاكَ ثِقَةٌ وَابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ. وَكَذَا وَقَعَ لِأَبِي سَلَمَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ الْكُوفِيِّ أَحَدِ الثِّقَاتِ ; حَيْثُ رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَمَّى جَدَّهُ جَابِرًا، فَإِنَّهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ الْمُسَمَّى جَدُّهُ تَمِيمًا، وَالْأَوَّلُ ثِقَةٌ، وَالثَّانِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. (ظَنَّ) الْجِهْبِذُ قُوَّةً مَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ (فَأَمْضَى) الْحُكْمَ بِمَا ظَنَّهُ ; لِكَوْنِ مَبْنَى هَذَا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ (أَوْ وَقَفْ) بِإِدْغَامِ فَائِهِ فِي فَاءِ (فَأَحْجَمَا) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، أَيْ: كَفَّ عَنِ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِهِ احْتِيَاطًا ; لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ إِعْلَالِهِ بِذَلِكَ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَ ظَنُّ إِعْلَالِهِ أَنْقَصَ، كُلُّ ذَلِكَ (مَعَ كَوْنِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ الْمُعَلِّ أَوِ الْمُتَوَقَّفِ فِيهِ (ظَاهِرُهُ) قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى الْعِلَّةِ (أَنْ سَلِمَا) أَيِ السَّلَامَةُ مِنْهَا لِجَمْعِهِ شُرُوطَ الْقَبُولِ الظَّاهِرَةَ، وَلَا يُقَالُ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ ; إِذْ لَا يَقِينَ هُنَا. وَ " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِقَوْلِهِ: " ظَاهِرُهُ "، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، خَبَرًا لِكَوْنِهِ. وَحِينَئِذٍ فَالْمُعَلَّلُ أَوِ الْمَعْلُولُ: خَبَرٌ ظَاهِرُهُ السَّلَامَةُ اطُّلِعَ فِيهِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَى قَادِحٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ» ; فَإِنَّ مُوسَى بْنَ إِسْمَاعِيلَ أَبَا سَلَمَةَ الْمِنْقَرِيَّ رَوَاهُ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ الْبَاهِلِيِّ عَنْ سُهَيْلٍ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ التَّابِعِيِّ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَبِذَلِكَ أَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَضَى لِوُهَيْبٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي الدُّنْيَا بِسَنَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ: (لَا نَذْكُرُ لِمُوسَى سَمَاعًا مِنْ سُهَيْلٍ) ، وَكَذَا أَعَلَّهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ سُهَيْلٍ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ نَسِيَ مِنْ أَجْلِهَا بَعْضَ حَدِيثِهِ، وَوُهَيْبٌ أَعْرَفُ بِحَدِيثِهِ مِنَ ابْنِ عُقْبَةَ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ قَدْ خَفِيَتْ عَلَى مُسْلِمٍ حَتَّى بَيَّنَهَا لَهُ إِمَامُهُ، وَكَذَا اغْتَرَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ بِظَاهِرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَصَحَّحُوا حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَحَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ» . . . . " الْحَدِيثَ، فَإِنَّ بَعْضَ الثِّقَاتِ رَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، فَقَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَالزُّهْرِيُّ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُعَلٌّ أَيْضًا ; لِأَنَّ نَافِعًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَعَلَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَالثَّانِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَجَلَّ مِنْهُ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذِهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ ; فَإِنَّ عِكْرِمَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا وُجِدَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ، كَانَ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةَ. وَاعْتَضَدَ بِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَتَرَجَّحَ بِهِ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ، ثُمَّ فَتَّشْنَا فَبَانَ أَنَّ عِكْرِمَةَ سَمِعَهُ مِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَالِمٍ، فَوَضَحَ أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادٍ مُدَلَّسَةٌ أَوْ مُسَوَّاةٌ. وَرَجَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ الِاعْتِضَادُ بِهِ إِلَى الْإِسْنَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ. وَكَانَ سَبَبُ حُكْمِهِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَوْنَ سَالِمٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ سَلَكَ الْجَادَّةَ ; فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي الْغَالِبِ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّحَابِيِّ قِيلَ بَعْدَهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا جَاءَ هُنَا بَعْدَ الصَّحَابِيِّ ذِكْرُ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَالْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِهِ - كَانَ ظَنًّا غَالِبًا عَلَى أَنَّ مَنْ ضَبَطَهُ هَكَذَا أَتْقَنُ ضَبْطًا. [عِلَّةُ السَّنَدِ وَأَمْثِلَتُهَا] : (وَهِيَ) أَيِ الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ (تَجِيءُ غَالِبًا فِي السَّنَدِ) أَيْ: وَقَلِيلًا فِي الْمَتْنِ، فَالَّتِي فِي السَّنَدِ (تَقْدَحُ فِي) قَبُولِ (الْمَتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ) مُتَّصِلٍ (أَوْ) بِـ (وَقْفِ مَرْفُوعٍ) ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ لَازِمٌ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الِاخْتِلَافِ عَلَى رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، وَرَاوِيهَا أَرْجَحُ وَلَوْ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ. وَكَذَا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ رَاوِيَ الطَّرِيقِ الْفَرْدِ لَمْ يَسْمَعْ مِمَّنْ فَوْقَهُ مَعَ مُعَاصَرَتِهِ لَهُ ; كَحَدِيثِ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ تَمِيمٍ ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وَثَلَاثِينَ، وَتَمِيمٌ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَيُقَالُ قَبْلَهَا. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ مَعَ أَبَوَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، وَتَمِيمٌ مَعَ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ، وَكَانَ انْتِقَالُهُ إِلَيْهَا عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ بِخَفِيِّ الْإِرْسَالِ، وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الضِّيَاءِ مَعَ جَلَالَتِهِ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْمُخْتَارَةِ لَهُ ; اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ السَّنَدِ فِي الِاتِّصَالِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَاصَرَةِ، وَكَوْنِ أَشْعَثَ، وَابْنِ سِيرِينَ أَخْرَجَ لَهُمَا مُسْلِمٌ. (وَقَدْ لَا تَقْدَحُ) ; وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ طَرِيقٍ، أَوْ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْ ثِقَتَيْنِ (كَـ) حَدِيثِ (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ) الْمَرْوِيِّ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ مَوْلَاهُ ابْنِ عُمَرِ، فَقَدَ (صَرَّحُوا) أَيِ النُّقَّادُ (بِوَهْمِ) رَاوِيهِ (يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ) الطَّنَافِسِيِّ إِذْ (أَبْدَلَا عَمْرًا) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ (بِعَبْدِ اللَّهِ) بْنِ دِينَارٍ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ فِي السَّنَدِ، فَالْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ. (حِينَ نَقَلَا) أَيْ: رَوَى ذَلِكَ يَعْلَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشَذَّ بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ الثَّوْرِيِّ، فَكُلُّهُمْ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ، بَلْ تُوبِعَ الثَّوْرِيُّ، فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَقَدْ أَفْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ طُرُقَهُ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ خَاصَّةً، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ رُوَاتِهِ عَنْهُ نَحْوَ الْخَمْسِينَ، وَكَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ عَلَى يَعْلَى اتِّفَاقُهُمَا فِي اسْمِ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الشُّيُوخِ، وَتَقَارُبُهُمَا فِي الْوَفَاةِ، وَلَكِنْ عَمْرٌو أَشْهَرُهُمَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثِّقَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا تَسْمِيَةُ مَالِكٍ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُنْكَرِ - عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ، عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّ إِيرَادَهُ فِي الْمَقْلُوبِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - أَلْيَقُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْخِلَافُ عَلَى تَابِعِيِّ الْحَدِيثِ ; كَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ ضَابِطَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ ; بِأَنْ يَجْعَلَهُ أَحَدُهُمَا عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْآخَرُ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا سَلَفَ عِنْدَ الصَّحِيحِ. [عِلَّةُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهَا] (وَعِلَّةُ الْمَتْنِ) الْقَادِحَةُ فِيهِ (كَـ) حَدِيثِ (نَفْيِ) قِرَاءَةِ (الْبَسْمَلَهْ) فِي الصَّلَاةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَنَسٍ (إِذْ ظَنَّ رَاوٍ) مِنْ رُوَاتِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " -» (نَفْيَهَا) أَيِ: الْبَسْمَلَةِ بِذَلِكَ (فَنَقَلَهُ) مُصَرِّحًا بِمَا ظَنَّهُ، وَقَالَ: لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا. وَفِي لَفْظِ: (فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ) ، وَصَارَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَالرَّاوِي لِذَلِكَ مُخْطِئٌ فِي ظَنِّهِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأُمِّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ قَبْلَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 يُقْرَأُ بَعْدَهَا، لَا أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْبَسْمَلَةَ أَصْلًا، وَيَتَأَيَّدُ بِثُبُوتِ تَسْمِيَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ بِجُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَكَذَا بِحَدِيثِ قَتَادَةَ قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَكَذَا صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَازِمِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو شَامَةَ أَنَّ قَتَادَةَ لَمَّا سَأَلَ أَنَسًا عَنِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الصَّلَاةِ بِأَيِ سُورَةٍ؟ وَأَجَابَهُ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ "، سَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فِيهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ إِبْهَامَ السَّائِلِ مَانِعًا مِنْ تَعْيِينِهِ بِقَتَادَةَ خُصُوصًا وَهُوَ السَّائِلُ أَوَّلًا. (وَ) قَدْ (صَحَّ) حَسَبَ مَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ خَطَأُ النَّافِي (أَنَّ أَنَسًا) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (يَقُولُ: لَا أَحْفَظُ شَيْئًا فِيهِ حِينَ سُئِلَا) مِنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ ; أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَفْتِحُ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ بِبِسمِ اللَّهِ؟ ". وَلَكِنْ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُعَلَّ رِوَايَةُ حُمَيْدٍ خَاصَّةً ; إِذْ رَفْعُهَا وَهْمٌ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، بَلْ وَمِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْهُ، فَإِنَّهَا فِي سَائِرِ الْمُوَطَّآتِ عَنْ مَالِكٍ: (صَلَّيْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمَ اللَّهِ) ، لَا ذِكْرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَكَذَا الَّذِي عِنْدَ سَائِرِ حُفَّاظِ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ عَنْهُ، إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ خَاصَّةً، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ مَعِينٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ حُمَيْدًا كَانَ إِذَا رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَإِذَا قَالَ فِيهِ: عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ قَتَادَةَ، وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ قَتَادَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّيْتُ. . . فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: «لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا» ، فَلَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُهُ عَنْهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ لِلنَّفْيِ فِيهِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِلَفْظِ: «فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ» . وَمِمَّنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِهِ شُعْبَةُ، فَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ غُنْدُرٌ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ فِيهِ لِلنَّفْيِ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فَقَطْ حَسَبَ مَا وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: " فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ "، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، وَكَذَا الطَّيَالِسِيُّ وَغُنْدَرٌ أَيْضًا بِلَفْظِ: " فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ "، بَلْ كَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ غَيْرُ قَتَادَةَ مِنْ أَصْحَابِ أَنَسٍ فَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بِاخْتِلَافٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 عَلَيْهِمَا، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَنَسٍ بِدُونِ نَفْيٍ، وَإِسْحَاقُ وَثَابِتٌ أَيْضًا، وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو نَعَامَةَ كُلُّهُمْ عَنْهُ بِاللَّفْظِ النَّافِي لِلْجَهْرِ خَاصَّةً، وَلَفْظُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ: " يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ ". وَحِينَئِذٍ فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - مُمْكِنٌ يُحْمَلِ نَفْيِ الْقِرَاءَةِ عَلَى نَفْيِ السَّمَاعِ، وَنَفْيِ السَّمَاعِ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ: " فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ "، وَأَصْرَحُ مِنْهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: " كَانُوا يُسِرُّونَ بِسْمِ اللَّهِ "، وَبِهَذَا الْجَمْعِ زَالَتْ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ، كَمَا أَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ مُكَاتَبَةً، مَعَ كَوْنِ قَتَادَةَ وُلِدَ أَكْمَهَ، وَكَاتِبُهُ مَجْهُولٌ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ - لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَيُجَابُ عَنْ قَوْلِ أَنَسٍ: لَا أَحْفَظُ -: بِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا وَقَدْ تَضَمَّنَ النَّفْيُ عَدَمَ اسْتِحْضَارِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَهَمِّ شَيْءٍ يَسْتَحْضِرُهُ، وَبِإِمْكَانِ نِسْيَانِهِ حِينَ سُؤَالِ أَبِي مَسْلَمَةَ لَهُ، وَتَذَكُّرِهِ لَهُ بَعْدُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ قَتَادَةَ أَيْضًا سَأَلَهُ: أَيَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ بِبَسْمِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ» . وَنَحْتَاجُ إِذِ اسْتَقَرَّ مُحَصَّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 حَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ إِلَى دَلِيلٍ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَبَاحِثِنَا، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الشَّارِحُ دَلِيلًا. وَأَرْشَدَ شَيْخُنَا لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ: " صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاسُ آمِينَ، وَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ وَإِذَا قَامَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ، يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، وَلَا عِلَّةَ لَهُ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ (الْجَهْرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، وَلَكِنْ تُعُقِّبَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَشْبَهُكُمْ فِي مُعْظَمِ الصَّلَاةِ، لَا فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ نُعَيْمٍ بِدُونِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ. وَالْخَبَرُ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ سَمَاعُ نُعَيْمٍ لَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَالَ مُخَافَتَتِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ فِي الْفَاتِحَةِ: (رَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَمْ يُكَبِّرْ عِنْدَ الْخَفْضِ إِلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: يَا مُعَاوِيَةُ، سَرَقْتَ الصَّلَاةَ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ ! أَيْنَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَالسُّجُودِ؟ ! فَأَعَادَ الصَّلَاةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ) . ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكَانَ مُعَاوِيَةُ سُلْطَانًا عَظِيمَ الْقُوَّةِ شَدِيدَ الشَّوْكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ كَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ عِنْدَ كُلِّ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - لَمَا قَدَرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَرْكِهِ ". انْتَهَى. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ بَعْدُ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا - يَعْنِي الْإِنْكَارَ الْمُتَقَدِّمَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَالْأَمْرِ الْمُتَوَاتِرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ إِيرَادِهِ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ بِـ " الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ ": حَدِيثُ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، وَوَافَقَهُ عَلَى تَخْرِيجِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ، بَلْ وَقَالَ التَّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِحَدِيثِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ» . . . . . . " الْحَدِيثَ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَقَدْ قَالَ بِهَذَا عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، رَأَوُا الْجَهْرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. [أُمُورٌ يُعَلُّ بِهَا الْحَدِيثِ] : (وَكَثُرَ) مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَسَبَ مَا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْعِلَلِ وَغَيْرِهَا (التَّعْلِيلُ) كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوِ الْإِعْلَالُ كَمَا لِغَيْرِهِ (بِالْإِرْسَالِ) الظَّاهِرِ (لِلْوَصْلِ) وَبِالْوَقْفِ لِلرَّفْعِ (إِنْ يَقْوَ) الْإِرْسَالُ، وَكَذَا الْوَقْفُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ أَضْبَطَ أَوْ أَكْثَرَ عَدَدًا (عَلَى اتِّصَالٍ) وَرَفْعٍ، وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَيِّدًا ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ الْوَصْلِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَرْجِيحٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِهِ - مُنَافٍ لِتَعْرِيفِ الْعِلَّةِ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَصْدَهُمْ جَمْعُ مُطْلَقِ الْعِلَّةِ خَفِيَّةً كَانَتْ أَوْ ظَاهِرَةً، لَا سِيَّمَا وَهُوَ يُفِيدُ الْإِرْشَادَ لِبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْ غَيْرِهِ بِجَمْعِ الطُّرُقِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: الْبَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ. وَكَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ عِنْدِي مِائَةُ طَرِيقٍ، فَأَنَا فِيهِ يَتِيمٌ. وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْإِرْسَالِ مِنَ الْخَفِيِّ لِخَفَاءِ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ لَهُ غَالِبًا (وَقَدْ يُعِلُّونَ) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ - كَمَا فِي كُتُبِهِمْ - أَيْضًا الْحَدِيثَ (بِكُلِّ قَدْحٍ) ظَاهِرٍ (فِسْقٍ) فِي رَاوِيهِ بِكَذِبٍ أَوْ غَيْرِهِ. (وَغَفْلَةٍ) مِنْهُ (وَنَوْعِ جَرْحٍ) فِيهِ ; كَسُوءِ حِفْظٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي يَأْبَاهَا أَيْضًا كَوْنُ الْعِلَّةِ خَفِيَّةً، وَلِذَا صَرَّحَ الْحَاكِمُ بِامْتِنَاعِ الْإِعْلَالِ بِالْجَرْحِ وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّ حَدِيثَ الْمَجْرُوحِ سَاقِطٌ وَاهٍ، وَلَا يُعَلُّ الْحَدِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 إِلَّا بِمَا لَيْسَ لِلْجَرْحِ فِيهِ مَدْخَلٌ. انْتَهَى. وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِي قَبْلَهُ قَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَفِيِّ ; لِخَفَاءِ وُجُودِ طَرِيقٍ آخَرَ يَنْجَبِرُ بِهَا مَا فِي هَذَا مِنْ ضَعْفٍ، فَكَأَنَّ الْمُعَلَّلَ أَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِهِ، وَ " فِسْقٍ " وَمَا بَعْدَهُ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (وَمِنْهُمُ) بِالضَّمِّ، وَهُوَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ (مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْعِلَّةِ) تَوَسُّعًا (لِـ) شَيْءٍ (غَيْرِ قَادِحٍ كَوَصْلِ ثِقَةٍ) ضَابِطٍ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ. وَلَا مُرَجِّحَ حَيْثُ (يَقُولُ) فِي إِرْشَادِهِ: إِنَّ الْحَدِيثَ عَلَى أَقْسَامٍ (مَعْلُولٌ صَحِيحٌ) وَمُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَيْ لَا عِلَّةَ فِيهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا، أَيْ: بِالنَّظَرِ لِلِاخْتِلَافِ فِي اسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهَا، وَمَثَّلَ لِأَوَّلِهَا بِحَدِيثِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ» ، حَيْثُ وَصَلَهُ مَالِكٌ خَارِجَ (الْمُوَطَّأِ) بِمُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْضَلِ. وَقَالَ: فَقَدْ صَارَ الْحَدِيثُ بِتَبْيِينِ الْإِسْنَادِ - أَيْ بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْهُ - صَحِيحًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَيِ: اتِّفَاقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خِلَافَ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنَ الصَّحِيحِ الْمُبَيَّنِ بِحُجَّةٍ ظَهَرَتْ، وَمَا سَلَكَهُ الْخَلِيلِيُّ فِي ذَلِكَ هُوَ (كَـ) الْحَدِيثِ (الَّذِي يَقُولُ) فِيهِ بَعْضُهُمْ كَالْحَاكِمِ: (صَحَّ) أَيْ: يُصَحِّحُهُ (مَعَ شُذُوذٍ) فِيهِ مُنَافٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلصِّحَّةِ (احْتُذِي) أَيِ: اقْتُدِيَ فِي الْأُولَى بِهَذِهِ، وَبِهِ يَتَأَيَّدُ شَيْخُنَا فِي كَوْنِ الشُّذُوذِ يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ، لَا فِي التَّسْمِيَةِ ; كَمَا أُشِيرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 إِلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا. (وَالنَّسْخَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ) زَادَ النَّاظِمُ (فَإِنْ يُرِدْ) التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ عِلَّةٌ (فِي عَمَلٍ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسُوخِ، لَا الْعِلَّةَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ (فَاجْنَحْ) بِالْجِيمِ ثُمَّ نُونٍ وَمُهْمَلَةٍ أَيْ: مِلْ (لَهُ) ; لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الصَّحِيحِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، بَلْ وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً ; فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ إِرَادَتُهُ. خَاتِمَةٌ: هَذَا النَّوْعُ مِنْ أَغْمَضِ الْأَنْوَاعِ وَأَدَقِّهَا، وَلِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ كَمَا سَلَفَ إِلَّا الْجَهَابِذَةُ أَهْلُ الْحِفْظِ وَالْخِبْرَةِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ مِثْلُ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَيَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَلِخَفَائِهِ كَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ يَقُولُ: مَعْرِفَتُنَا بِهَذَا كَهَانَةٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ، وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: هِيَ إِلْهَامٌ، لَوْ قُلْتَ لِلْقَيِّمِ بِالْعِلَلِ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ، يَعْنِي يُعَبِّرُ بِهَا غَالِبًا، وَإِلَّا فَفِي نَفْسِهِ حُجَجٌ لِلْقَوْلِ وَلِلدَّفْعِ. وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنِ الْحُجَّةِ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ: أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ، ثُمَّ تَسْأَلَ عَنْهُ ابْنَ وَارَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ، وَتَسْمَعَ جَوَابَ كُلٍّ مِنَّا، وَلَا تُخْبِرَ وَاحِدًا مِنَّا بِجَوَابِ الْآخَرِ، فَإِنِ اتَّفَقْنَا فَاعْلَمْ حَقِّيَّةَ مَا قُلْنَا، وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فَاعْلَمْ أَنَّا تَكَلَّمْنَا بِمَا أَرَدْنَا، فَفَعَلَ، فَاتَّفَقُوا، فَقَالَ السَّائِلُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِلْهَامٌ. وَسَأَلَ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ أَحَادِيثَ، فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: هَذَا خَطَأٌ، دَخَلَ لِصَاحِبِهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 صَحِيحٌ، فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا؟ أَأَخْبَرَكَ الرَّاوِي بِأَنَّهُ غَلَطٌ أَوْ كَذِبٌ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَدَّعِي الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: مَا هَذَا ادِّعَاءَ غَيْبٍ، قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِكَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَسْأَلَ غَيْرِي مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنِ اتَّفَقْنَا عَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ وَسَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِعَيْنِهَا فَاتَّفَقَا، فَتَعَجَّبَ السَّائِلُ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاتِمٍ: أَفَعَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ؟ ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّكَ تَحْمِلُ دِينَارًا بَهْرَجًا إِلَى صَيْرَفِيٍّ، فَإِنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ بَهْرَجٌ، وَقُلْتَ لَهُ: أَكُنْتَ حَاضِرًا حِينَ بُهْرِجَ، أَوْ هَلْ أَخْبَرَكَ الَّذِي بَهْرَجَهُ بِذَلِكَ؟ يَقُولُ: لَا، وَلَكِنْ عِلْمٌ رُزِقْنَا مَعْرِفَتَهُ. وَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلْتَ إِلَى جَوْهَرِيٍّ فَصَّ يَاقُوتٍ، وَفَصَّ زُجَاجٍ يَعْرِفُ ذَا مِنْ ذَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَنَعْرِفُ سُقْمَهُ وَنَكَارَتَهُ بِتَفَرُّدِ مَنْ لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ. وَهُوَ - كَمَا قَالَ غَيْرُهُ - أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ رَدُّهُ، وَهَيْئَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ لَا مَعْدِلَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلِهَذَا تَرَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يُشَارِكُهُمْ وَيَحْذُو حَذْوَهُمْ، وَرُبَّمَا يُطَالِبُهُمُ الْفَقِيهُ أَوِ الْأُصُولِيُّ الْعَارِي عَنِ الْحَدِيثِ بِالْأَدِلِّةِ. هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ فِي كُلِّ فَنٍّ إِلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ تَعَاطَى تَحْرِيرَ فَنٍّ غَيْرِ فَنِّهِ فَهُوَ مُتَعَنٍّ، فَاللَّهُ تَعَالَى بِلَطِيفِ عِنَايَتِهِ أَقَامَ لِعِلْمِ الْحَدِيثِ رِجَالًا نُقَّادًا تَفَرَّغُوا لَهُ، وَأَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ غَوَامِضِهِ، وَعِلَلِهِ، وَرِجَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَاللِّينِ. فَتَقْلِيدُهُمْ، وَالْمَشْيُ وَرَاءَهُمْ، وَإِمْعَانُ النَّظَرِ فِي تَوَالِيفِهِمْ، وَكَثْرَةُ مُجَالَسَةِ حُفَّاظِ الْوَقْتِ مَعَ الْفَهْمِ، وَجَوْدَةُ التَّصَوُّرِ، وَمُدَاوَمَةُ الِاشْتِغَالِ، وَمُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ - يُوجِبُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْرِفَةَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 [الْمُضْطَرِبُ] 209 - مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ مَا قَدْ وَرَدَا ... مُخْتَلِفًا مِنْ وَاحِدٍ فَأَزْيَدَا 210 - فِي مَتْنٍ أَوْ فِي سَنَدٍ إِنِ اتَّضَحْ فِيهِ ... تَسَاوِي الْخُلْفِ أَمَّا إِنْ رَجَحْ 211 - بَعْضُ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا ... وَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا 212 - كَالْخَطِّ لِلسُّتْرَةِ جَمُّ الْخُلْفِ ... وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ. [التَّعْرِيفُ بِالْحَدِيثِ الْمُضْطَرِبِ] : لَمَّا انْتَهَى مِنَ الْمُعَلِّ الَّذِي شَرْطُهُ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْعِلَّةِ، نَاسَبَ إِرْدَافَهُ بِمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَرْجِيحُ (مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ اضْطَرَبَ (مَا قَدْ وَرَدَا) حَالَ كَوْنِهِ (مُخْتَلِفًا مِنْ) رَاوٍ (وَاحِدٍ) بِأَنْ رَوَاهُ مَرَّةً عَلَى وَجْهٍ، وَأُخْرَى عَلَى آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ (فَأَزْيَدَا) بِأَنْ يَضْطَرِبَ فِيهِ كَذَلِكَ رَاوِيَانِ فَأَكْثَرُ. (فِي) لَفْظِ (مَتْنٍ أَوْ فِي) صُورَةِ (سَنَدٍ) رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِمَّا بِاخْتِلَافٍ فِي وَصْلٍ وَإِرْسَالٍ، أَوْ فِي إِثْبَاتِ رَاوٍ وَحَذْفِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ مَعًا، هَذَا كُلُّهُ (إِنِ اتَّضَحْ فِيهِ تَسَاوِي الْخُلْفِ) أَيِ: الِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَتَيْنِ أَوِ الْجِهَاتِ ; بِحَيْثُ لَمْ يَتَرَجَّحْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ. (أَمَّا إِنْ رَجَحَ بَعْضُ الْوُجُوهِ) أَوِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى غَيْرِهِ بِأَحْفَظِيَّةٍ أَوْ أَكْثَرِيَّةٍ مُلَازِمَةٍ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ - (لَمْ يَكُنْ) حِينَئِذٍ (مُضْطَرِبًا وَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْوُجُوهِ أَوْ مِنَ الْوَجْهَيْنِ (وَجَبَا) ; إِذِ الْمَرْجُوحُ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ التَّمَسُّكِ بِالرَّاجِحِ، وَكَذَا لَا اضْطِرَابَ إِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ ; بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مُعَبِّرًا بِاللَّفْظَيْنِ فَأَكْثَرَ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَوْ لَمْ يَتَرَجَّحْ شَيْءٌ. وَلِمُضْطَرِبِي الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، فَالَّذِي فِي السَّنَدِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، يُؤْخَذُ مِنَ الْعِلَلِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ. وَمِمَّا الْتَقَطَهُ شَيْخُنَا مِنْهَا مَعَ زَوَائِدَ، وَسَمَّاهُ الْمُقْتَرِبَ فِي بَيَانِ الْمُضْطَرِبِ. [أَمْثِلَةٌ لِاضْطِرَابِ السَّنَدِ] : (كَـ) حَدِيثِ (الْخَطِّ) ، مِنَ الْمُصَلِّي (لِلسُّتْرَةِ) الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لَفْظُهُ: «إِذَا لَمْ يَجِدْ عَصًا يَنْصِبُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَخُطَّ خَطًّا» ; أَيْ يُدِيرُ دَارَةً مُنْعَطِفَةً كَالْهِلَالِ فِيمَا قَالَهُ أَحْمَدُ، أَوْ يَجْعَلُهُ بِالطُّولِ فِيمَا قَالَهُ مُسَدَّدٌ، فَإِنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ (جَمُّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: كَثِيرُ (الْخُلْفِ) أَيِ الِاخْتِلَافِ عَلَى رَاوِيهِ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ; فَإِنَّهُ قِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلِذَا حَكَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ ; كَالنَّوَوِيِّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَابْنِ عَبْدِ الْهَادِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِاضْطِرَابِ سَنَدِهِ، بَلْ عَزَاهُ النَّوَوِيُّ لِلْحُفَّاظِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَثْبُتُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ. وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ فِي الْجَدِيدِ بَعْدَ أَنِ اعْتَمَدَهُ فِي الْقَدِيمِ ; لِأَنَّهُ مَعَ اضْطِرَابِ سَنَدِهِ، زَعَمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَشُدُّهُ بِهِ. لَكِنْ قَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمُ: ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَعَمَدَ إِلَى التَّرْجِيحِ، فَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَنَحْوُهُ حِكَايَةُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَلَا يُنَافِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ نُسِبَ الرَّاوِي فِيهِ إِلَى جَدِّهِ، وَسُمِّيَ أَبًا لِظَاهِرِ السِّيَاقِ، وَكَذَا لَا يُنَافِيهِ الثَّالِثُ وَالتَّاسِعُ وَالثَّامِنُ إِلَّا فِي سُلَيْمَانَ مَعَ سُلَيْمٍ، وَكَأَنَّ أَحَدَهُمَا تَصَحَّفَ، أَوْ سُلَيْمًا لَقَبٌ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ الرَّابِعُ إِلَّا بِالْقَلْبِ. بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ لِتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَالرَّاجِحَةُ مِنْهَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَنْتَفِي الِاضْطِرَابُ عَنِ السَّنَدِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلِذَلِكَ أَسْنَدَهُ الشَّافِعِيُّ مُحْتَجًّا بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ لِلْمُزَنِيِّ، وَمَا تَقَدَّمَ عَزْوُهُ إِلَيْهِ، فَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا بَأْسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ الْمُخْتَارُ، ثُمَّ إِنَّ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي اسْمِ رَجُلٍ، أَوْ نَسَبِهِ لَا يُؤَثِّرُ ; ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ ثِقَةً - كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ مَنْ صَحَّحَ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الْحَدِيثَ - فَلَا ضَيْرَ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُعَلِّ وَالْمُنْكَرِ. لَا سِيَّمَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى رَاوِيهِ جُمْلَةُ أَحَادِيثَ، وَبِذَلِكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الضَّبْطِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَضُرُّ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ رُوَاتُهُ ثِقَاتٍ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الرَّاوِي الْمُخْتَلَفِ عَلَيْهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا أَوْ بِالطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّهُ كَيْفَ مَا دَارَ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَجْهُولِ مِنْ تَقْرِيبِهِ: وَمَنْ عُرِفَتْ عَيْنُهُ وَعَدَالَتُهُ وَجُهِلَ اسْمُهُ، احْتُجَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، كَمَا هُوَ الْحَقُّ هُنَا ; لِجَزْمِ شَيْخِنَا فِي تَقْرِيبِهِ بِأَنَّ شَيْخَ إِسْمَاعِيلَ مَجْهُولٌ، فَضَعْفُ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ ضَعْفِهِ، لَا مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِ الثِّقَاتِ فِي اسْمِهِ. هَذَا مَعَ أَنَّ دَعْوَى ابْنِ عُيَيْنَةَ الْفَرْدِيَّةَ فِي الْمَتْنِ مُنْتَقَضَةٌ بِمَا رَوَيْنَا فِي " فَوَائِدَ عَبْدَانَ الْجَوَالِيقِيِّ " قَالَ: ثَنَا دَاهِرُ بْنُ نُوحٍ، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ إِلَى مَا يَسْتُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا» . وَكَذَا رُوِّينَا فِي أَوَّلِ جُزْءِ ابْنِ فِيلٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَسْقَلَانِيُّ ثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى مَسْجِدٍ، أَوْ إِلَى شَجَرَةٍ، أَوْ إِلَى بَعِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيَخُطَّ خَطًّا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» ) . وَرَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ عَنْ أَيُّوبَ، فَقَالَ: عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، بَدَلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَادَّعَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ تَفَرُّدَ أَبِي مَالِكٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ فِي الْبَابِ أَيْضًا، عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ قِبَلِ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، حَتَّى جَاءَ إِلَى وَجْهِ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَخَطَّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ خَطًّا عَرْضًا، ثُمَّ كَبَّرَ فَصَلَّى، وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ بَيْنَ الْخَطِّ وَالْكَعْبَةِ» . وَكَذَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي سَنَدِهِمَا ضَعْفٌ، لَكِنَّهُمَا مَعَ طَرِيقَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مُرْسَلَةٌ، وَالْأُخْرَى مَقْطُوعَةٌ، يَتَقَوَّى بِهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَإِذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الِاضْطِرَابَ الْوَاقِعَ فِي هَذَا السَّنَدِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَلْنَذْكُرْ مِثَالًا لَا خَدْشَ فِيهِ، مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الثِّقَاتُ مَعَ تَسَاوِيهِمْ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا أَتَوْا بِهِ ; وَهُوَ حَدِيثُ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، فَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ بَيْنَهُمَا ابْنَ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنِ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَبْسُوطًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 [الْبَقَرَةِ: 177] فِي بَعْضِ طُرُقِهِ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: إِذَا زَكَّى الرَّجُلُ مَالَهُ، أَيَطِيبُ لَهُ مَالُهُ؟ فَقَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ. . . . الْآيَةَ. هَذَا مَعَ ضَعْفِهِ بِغَيْرِ الِاضْطِرَابِ ; فَإِنَّ أَبَا حَمْزَةَ شَيْخُ شَرِيكٍ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَوَرَاءَ هَذَا نَفَى بَعْضُهُمُ الِاضْطِرَابَ عَنْهُ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْإِثْبَاتُ، لَكِنَّهُ لَمْ يُصِبْ، وَإِنْ سَبَقَهُ لِنَحْوِهِ الْبَيْهَقِيُّ. فَمِنْهَا الِاخْتِلَافُ فِي الصَّلَاةِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ: فَمَرَّةً شَكَّ الرَّاوِي أَهِيَ الظُّهْرُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أَوِ الْعَصْرُ؟ وَمَرَّةً قَالَ: إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، إِمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ، وَمَرَّةً جَزَمَ بِالظُّهْرِ، وَأُخْرَى بِالْعَصْرِ، وَأُخْرَى قَالَ: وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهَا الْعَصْرُ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مَا يَشْهَدُ لِأَنَّ الشَّكَّ فِيهَا كَانَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ "، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " وَلَكِنِّي نَسِيتُ» . قَالَ شَيْخُنَا: فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَاهُ كَثِيرًا عَلَى الشَّكِّ، وَكَانَ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الظُّهْرُ فَجَزَمَ بِهَا، وَتَارَةً غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْعَصْرُ فَجَزَمَ بِهَا، ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا ; لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ بِمَا فِي الْقِصَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ جَمَعَ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ، وَلَكِنْ كَثِيرًا مَا يَسْلُكُ الْحُفَّاظُ ; كَالنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ ; تَوَصُّلًا إِلَى تَصْحِيحِ كُلٍّ مِنَ الرِّوَايَاتِ ; صَوْنًا لِلرُّوَاةِ الثِّقَاتِ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْغَلَطُ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْوَاقِعُ التَّعَدُّدَ، نَعَمْ قَدْ رَجَّحَ شَيْخُنَا فِي هَذَا الْمِثَالِ الْخَاصِّ رِوَايَةَ مَنْ عَيَّنَ الْعَصْرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَالِاضْطِرَابُ) حَيْثُ وَقَعَ فِي سَنَدٍ أَوْ مَتْنٍ (مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ) لِإِشْعَارِهِ بِعَدَمِ ضَبْطِ رَاوِيهِ أَوْ رُوَاتِهِ. [الْمُدْرَجُ] [مُدْرَجُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهُ] الْمُدْرَجُ. 213 - الْمُدْرَجُ: الْمُلْحَقُ آخِرَ الْخَبَرْ ... مِنْ قَوْلِ رَاوٍ مَا بَلَا فَصْلٍ ظَهَرْ 214 - نَحْوُ " إِذَا قُلْتَ التَّشَهُّدُ " وَصَلْ ... ذَاكَ زُهَيْرٌ وَابْنُ ثَوْبَانَ فَصَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 215 - قُلْتُ: وَمِنْهُ مُدْرَجٌ قَبْلُ قُلِبْ كَـ " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْعَقِبْ " ... 216 - وَمِنْهُ جَمْعٌ مَا أَتَى كُلُّ طَرَفْ مِنْهُ بِإِسْنَادٍ بِوَاحِدٍ سَلَفْ ... 217 - كَوَائِلٍ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ قَدْ أَدْرَجَ ثُمَّ جِئْتُهُمْ وَمَا اتَّحَدْ ... 218 - وَمِنْهُ أَنْ يُدْرَجَ بَعْضُ الْمُسْنَدِ فِي غَيْرِهِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّنَدِ ... 219 - نَحْوُ " وَلَا تَنَافَسُوا " فِي مَتْنِ " لَا تَبَاغَضُوا " فَمُدْرَجٌ قَدْ نُقِلَا ... 220 - مِنْ مَتْنِ " لَا تَجَسَّسُوا " أَدْرَجَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ إِذْ أَخْرَجَهُ ... 221 - وَمِنْهُ مَتْنٌ عَنْ جَمَاعَةٍ وَرَدْ وَبَعْضُهُمْ خَالَفَ بَعْضًا فِي السَّنَدْ ... 222 - فَيَجْمَعُ الْكُلَّ بِإِسْنَادٍ ذُكِرْ كَمَتْنِ (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ) الْخَبَرْ ... 223 - فَإِنَّ عَمْرًا عِنْدَ وَاصِلٍ فَقَطْ بَيْنَ شَقِيقٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ سَقَطْ ... 224 - وَزَادَ الْأَعْمَشُ كَذَا مَنْصُورُ وَعَمْدُ الْإِدْرَاجِ لَهَا مَحْظُورُ. [مُدْرَجُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهُ] لَمَّا انْتَهَى مِمَّا هُوَ قَسِيمُ الْمُعَلِّ مِنْ حَيْثِيَّةِ التَّرْجِيحِ وَالتَّسَاوِي كَمَا قَدَّمْتُ، وَكَانَ مِمَّا يُعَلُّ بِهِ إِدْخَالُ مَتْنٍ وَنَحْوِهِ فِي مَتْنٍ، نَاسَبَ الْإِرْدَافَ بِذَلِكَ (الْمُدْرَجُ) وَيَقَعُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَقْسَامٌ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْمَتْنِ عَلَى أَحَدِهَا، هُوَ الْقَوْلُ (الْمُلْحَقُ آخِرَ الْخَبَرْ) الْمَرْفُوعِ (مِنْ قَوْلِ رَاوٍ مَا) مِنْ رُوَاتِهِ، إِمَّا الصَّحَابِيُّ أَوِ التَّابِعِيُّ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ (بِلَا فَصْلٍ ظَهَرْ) بَيْنَ هَذَا الْمُلْحَقِ بِعَزْوِهِ لِقَائِلِهِ، وَبَيْنَ كَلَامِ النُّبُوَّةِ ; بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْجَمِيعَ مَرْفُوعٌ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ تَفْسِيرُ الْغَرِيبِ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ ; كَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَنَظَائِرِهَا، أَوِ اسْتِنْبَاطًا مِمَّا فَهِمَهُ مِنْهُ أَحَدُ رُوَاتِهِ ; كَثَانِي حَدِيثَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، الْآتِيَيْنِ فِي الطَّرِيقِ لِمَعْرِفَةِ الْإِدْرَاجِ، أَوْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا، وَرُبَّمَا يَكُونُ حَدِيثًا آخَرَ، كَأَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَالْأَمْرُ فِي أَوَّلِهَا سَهْلٌ ; إِذِ الرَّاوِي أَعْرَفُ بِمَعْنَى مَا رَوَى. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَرْفُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابِيِّ بِإِلْحَاقِ التَّابِعِيِّ فَمَنْ بَعْدَهُ، أَوْ فِي الْمَقْطُوعِ بِإِلْحَاقِ تَابِعِي التَّابِعِيِّ فَمَنْ بَعْدَهُ. وَلَكِنَّ الْأَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ (نَحْوُ) قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْهُ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ ( «إِذَا قُلْتَ) هَذَا (التَّشَهُّدَ) فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» ) . فَقَدْ (وَصَلْ ذَاكَ) بِالْمَرْفُوعِ (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنِ الْقَاسِمِ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ، (وَابْنُ ثَوْبَانَ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتٍ أَحَدُ مَنْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ الْحُرِّ (فَصَلَ) الْمَوْقُوفَ عَنِ الْمَرْفُوعِ بِقَوْلِهِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، بَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 رَوَاهُ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ - وَهُوَ ثِقَةٌ - عَنْ زُهَيْرٍ نَفْسِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَيَتَأَيَّدُ بِاقْتِصَارِ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ، وَابْنِ عَجْلَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ فِي رِوَايَتِهِمْ عَنِ ابْنِ الْحُرِّ، بَلْ وَكُلُّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّدَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْمَرْفُوعِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِعَدَمِ رَفْعِهِ، بَلِ اتَّفَقُوا - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ عَلَى أَنَّهُ مُدْرَجٌ. ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ صَحَّ رَفْعُهُ، لَكَانَ ظَاهِرُهُ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "، مَعَ أَنَّ الْخَطَّابِيَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ فِي عَدَمِ الْإِدْرَاجِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: «فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ» أَيْ: مُعْظَمَهَا. (قُلْتُ: وَمِنْهُ) أَيْ: وَمِنَ الْمُدْرَجِ مِمَّا هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَتْنِ أَيْضًا (مُدْرَجٌ قَبْلُ) أَيْ: قَبْلَ الْآخَرِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ أَثْنَائِهِ (قُلِبَ) بِالنِّسْبَةِ لِمَا الْإِدْرَاجُ فِي آخِرِهِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَمْثِلَةٌ (كَـ) حَدِيثِ (أَسْبِغُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَكْمِلُوا (الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْعَقِبِ) أَيْ: مُؤَخَّرِ الْقَدَمِ، وَفِي لَفْظٍ وَهُوَ الْأَكْثَرُ: «لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . فَإِنَّ شَبَابَةَ بْنَ سَوَّارٍ، وَأَبَا قَطَنٍ عَمْرَو بْنَ الْهَيْثَمِ رَوَيَاهُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِرَفْعِ الْجُمْلَتَيْنِ مَعَ كَوْنِ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَمَا فَصَّلَهُ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 عَنْ شُعْبَةَ، وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى تَخْرِيجِهِ كَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ بَعْضِهِمْ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَرْفُوعِ فَقَطْ، فَهُوَ مِثَالٌ لِمَا الْإِدْرَاجُ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ نَادِرٌ جِدًّا، حَتَّى قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بُسْرَةَ الْآتِي. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَسْبِغُوا) قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَكَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ ; حَيْثُ أَدْرَجَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ: " وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ ". وَحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رَفَعَهُ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ» ; حَيْثُ أَدْرَجَ فِيهِ ابْنُ وَهْبٍ: " وَالزَّعِيمُ: الْحَمِيلُ ". وَحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُسْرَةَ ابْنَةِ صَفْوَانَ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رُفْغَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ» ; فَإِنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ جَعْفَرٍ رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ، وَكَذَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ هِشَامٍ كَذَلِكَ، مَعَ كَوْنِ الْأُنْثَيَيْنِ وَالرُّفْغِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ. كَمَا فَصَّلَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ هِشَامٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْهُ، ثُمَّ جُمْهُورُ أَصْحَابِ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وَاقْتَصَرَ عِشْرُونَ مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِ هِشَامٍ عَلَى الْمَرْفُوعِ فَقَطْ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ عُرْوَةَ، الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ، فَهِيَ أَمْثِلَةٌ لِمَا الْإِدْرَاجُ فِي وَسَطِهِ. لَكِنْ قَدْ رَوَى آخِرَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ الطَّاحِيِّ عَنْ هِشَامٍ، فَقَدَّمَ الْمُدْرَجَ، وَلَفْظُهُ: «مَنْ مَسَّ رُفْغَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ» وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مَعَ تَكَلُّفٍ، مِثَالٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ أَيْضًا، كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ قَرِيبًا. وَرَوَاهُ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: «إِذَا مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ» فَقَطْ، أَخْرَجَهُ ابْنُ شَاهِينَ فِي الْأَبْوَابِ. وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ بِلَفْظِ: «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ» ، أَوْ قَالَ: فَرْجَهُ، أَوْ قَالَ: أُنْثَيَيْهِ، فَتَرَدُّدُهُ فِيهِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا ضَبَطَهُ. [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْإِدْرَاجِ] [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْإِدْرَاجِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْإِدْرَاجِ إِمَّا بِاسْتِحَالَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ: «لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ أَجْرَانِ» - مَا نَصُّهُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِرُّ أُمِّي، لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ فِي حَدِيثِ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» - مَا نَصُّهُ: " وَمَا مِنَّا إِلَّا "، أَوْ بِتَصْرِيحِ صَحَابِيِّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، دَخَلَ النَّارَ» قَالَ: وَأُخْرَى أَقُولُهَا وَلَمْ أَسْمَعْهَا مِنْهُ: ( «مَنْ مَاتَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ) ، أَوْ بِتَصْرِيحِ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالْفَصْلِ بِإِضَافَتِهِ لِقَائِلِهِ، وَيَتَقَوَّى الْفَصْلُ بِاقْتِصَارِ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَلَى الْأَصْلِ ; كَحَدِيثِ التَّشَهُّدِ، وَثَالِثُهَا أَكْثَرُهَا. وَمَا أَحْسَنَ صَنِيعَ مُسْلِمٍ ; حَيْثُ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَجِيءِ دَاعِي الْجِنِّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَهَابِهِ مَعَهُمْ، وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «فَانْطَلَقَ بِنَا، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ، وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ: " لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ. . .» إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ جِهَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ دَاوُدَ، وَقَالَ بِسَنَدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: (وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ) -: قَالَ الشَّعْبِيُّ: (وَسَأَلُوهُ الزَّادَ. . . .) إِلَى آخِرِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ مُنْفَصِلَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ دَاوُدَ بِهِ بِدُونِ ذِكْرِ " وَسَأَلُوهُ. . . . " إِلَى آخِرِهِ، لَا مُتَّصِلًا وَلَا مُنْفَصِلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لِلْإِدْرَاجِ بِهَا مُخْتَلِفٌ، فَبِالْأَوَّلِ قَطْعًا، وَبِبَاقِيهَا بِحَسَبِ غَلَبَةِ الظَّنِّ لِلنَّاقِدِ، بَلْ أَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الِاقْتِرَاحِ إِلَى ضَعْفِهِ ; حَيْثُ كَانَ أَوَّلُ الْخَبَرِ ; كَقَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» ، أَوْ «مَنْ مَسَّ أُنْثَيَيْهِ» لَا سِيَّمَا إِنْ جَاءَ مَا بَعْدَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَكَذَا حَيْثُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ اللَّفْظِ الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ، وَكَذَا قَالَ فِي الْإِمَامِ لَهُ -: إِنَّمَا يَكُونُ الْإِدْرَاجُ بِلَفْظٍ تَابِعٍ يُمْكِنُ اسْتِقْلَالُهُ عَنِ اللَّفْظِ السَّابِقِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِآخِرِ الْخَبَرِ تَجْوِيزُ كَوْنِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنَ الرَّاوِي ; لِظَنِّهِ الرَّفْعَ فِي الْجَمِيعِ، وَاعْتِمَادِهِ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى، فَبَقِيَ الْمُدْرَجُ حِينَئِذٍ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ وَأَثْنَائِهِ بِخِلَافِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ النَّاظِمُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: وَإِنَّ الرَّاوِيَ رَأَى أَشْيَاءَ مُتَعَاطِفَةً، فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ ; لِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَصَارَ الْمَوْقُوفُ لِذَلِكَ أَوَّلَ الْخَبَرِ أَوْ وَسَطَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَاصِلَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَهُوَ أَوْلَى، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى مَا فِي الْأَوَّلِ أَوِ الْآخِرِ أَوِ الْوَسَطِ بِالْإِدْرَاجِ، إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ الْمُؤْثِرُ [عَلَى] غَلَبَةِ الظَّنِّ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ وَكِيعٌ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ: يَعْنِي كَذَا وَكَذَا، وَرُبَّمَا طَرَحَ " يَعْنِي "، وَذَكَرَ التَّفْسِيرَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَذَا كَانَ الزُّهْرِيُّ يُفَسِّرُ الْأَحَادِيثَ كَثِيرًا، وَرُبَّمَا أَسْقَطَ أَدَاةَ التَّفْسِيرِ، فَكَانَ بَعْضُ أَقْرَانِهِ دَائِمًا يَقُولُ لَهُ: افْصِلْ كَلَامَكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَايَاتِ. وَمِنْ مُدْرَجِ الْمَتْنِ أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ عَنْ شَيْخٍ فِي رِوَايَةٍ، وَيَكُونَ لِأَحَدِهِمْ زِيَادَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا، فَيَرْوِيَهُ عَنْهُمْ رَاوٍ بِالزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ، كَرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - حَدِيثَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي» ، وَفِيهِ: «وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً» . فَجُمْلَةُ " النُّهْبَةُ " إِنَّمَا رَوَاهَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً، بَلْ رَوَى الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُلْحِقُهَا فِي الْخَبَرِ، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ. [مُدَرْجُ السَّنَدِ وَأَمْثِلَتُهُ] [مُدَرْجُ السَّنَدِ وَأَمْثِلَتُهُ] (وَمِنْهُ) أَيِ: الْمُدْرَجِ - وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فِي السَّنَدِ - (جَمْعُ مَا أَتَى كُلُّ طَرَفٍ مِنْهُ) عَنْ رَاوِيهِ (بِإِسْنَادٍ) غَيْرِ إِسْنَادِ الطَّرَفِ الْآخَرِ (بِوَاحِدٍ سَلَفَ) مِنَ السَّنَدَيْنِ. (كَـ) حَدِيثِ (وَائِلٍ) هُوَ ابْنُ حُجْرٍ (فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ) النَّبَوِيَّةِ الَّذِي رَوَاهُ زَائِدَةُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَشَرِيكٌ جَمِيعًا عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ (قَدْ أَدْرَجَ) مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ فِي آخِرِهِ بِهَذَا السَّنَدِ. (ثُمَّ جِئْتُهُمْ) بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّ الثِّيَابِ تَحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ (وَمَا اتَّحَدْ) شَيْخُ عَاصِمٍ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، بَلِ الَّذِي عِنْدَهُ بِهَذَا السَّنَدِ صِفَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً. وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّمَا رَوَاهَا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ عَنْ وَائِلٍ، فَبَيْنَهُمَا وَاسِطَتَانِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، كَذَلِكَ فَصَلَهُمَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَرَجَّحَ رِوَايَتَهُمَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ، عُرِفَ بِالْحَمَّالِ، وَقَضَى عَلَى الْأَوَّلِ - وَهُوَ جَمْعُهُمَا بِسَنَدٍ وَاحِدٍ - بِالْوَهْمِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ الصَّوَابُ، وَنَحْوُ هَذَا الْقِسْمِ - وَأَفْرَدَهُ شَيْخُنَا عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ الْمَتْنُ عِنْدَ رَاوِيهِ عَنْ شَيْخٍ لَهُ إِلَّا بَعْضَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَاكَ الشَّيْخِ، فَيُدْرِجُهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ بِلَا تَفْصِيلٍ ; كَحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى إِبِلِنَا فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ; فَإِنَّ لَفْظَةَ " وَأَبْوَالِهَا " إِنَّمَا سَمِعَهَا حُمَيْدٌ مِنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا بَيَّنَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَآخَرُونَ ; إِذْ رَوَوْهُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ «فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا» فَعِنْدَهُمْ: قَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ: " وَأَبْوَالِهَا " ; فَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى هَذَا فِيهَا إِدْرَاجٌ يَتَضَمَّنُ تَدْلِيسًا. (وَمِنْهُ) وَهُوَ ثَانِي الثَّلَاثَةِ (أَنْ يُدْرَجَ) مِنَ الرَّاوِي (بَعْضُ) حَدِيثٍ (مُسْنَدٍ فِي) حَدِيثٍ (غَيْرِهِ) وَهُمَا عِنْدَ رَاوٍ وَاحِدٍ أَيْضًا، لَكِنْ (مَعَ اخْتِلَافِ السَّنَدِ) جَمِيعُهُ فِيهِمَا. (نَحْوُ) حَدِيثِ: (وَلَا تَنَافَسُوا) حَيْثُ أُدْخِلَ (فِي مَتْنِ لَا تَبَاغَضُوا) الْمَرْفُوعِ الثَّابِتِ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا» فَقَطْ. فَـ (لَفْظُ) : " وَلَا تَنَافَسُوا " (مُدْرَجٌ) فِيهِ (قَدْ نُقِلَا) مِنْ رَاوِيهِ (مِنْ مَتْنِ لَا تَجَسَّسُوا) بِالْجِيمِ أَوِ الْحَاءِ، الْمَرْفُوعِ الثَّابِتِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، لَكِنْ عَنْ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ; فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا» (أَدْرَجَهُ) أَيْ: " وَلَا تَنَافَسُوا " فِي السَّنَدِ الْأُولَى مِنَ الثَّانِي. (ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هُوَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَكَمُ الْجُمَحِيُّ الْمِصْرِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ (إِذْ أَخْرَجَهُ) أَيْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَصَيَّرَهُمَا بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْخَطِيبُ، وَصَرَّحَ هُوَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعًا بِأَنَّهُ خَالَفَ بِذَلِكَ جَمِيعَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ. قُلْتُ: وَكَذَا أَدْرَجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَ الْحُفَّاظَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ التَّمْثِيلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِحَدِيثِ مَالِكٍ (وَمِنْهُ) وَهُوَ ثَالِثُ الثَّلَاثَةِ (مَتْنٌ) أَيْ حَدِيثٌ (عَنْ جَمَاعَةٍ) مِنَ الرُّوَاةِ (وَرَدَ وَبَعْضُهُمْ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ بَعْضَهُمْ (خَالَفَ بَعْضًا) بِالزِّيَادَةِ أَوِ النَّقْصِ (فِي السَّنَدْ فَيَجْمَعُ) بَعْضُ الرُّوَاةِ (الْكُلَّ بِإِسْنَادٍ) وَاحِدٍ (ذُكِرَ) مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ، بَلْ يُدْرِجُ رِوَايَتَهُمْ عَلَى الِاتِّفَاقِ. كَمَتْنِ «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ " قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا» (الْخَبَرُ) الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،. . . وَذَكَرَهُ، (فَإِنَّ عَمْرًا) هُوَ ابْنُ شُرَحْبِيلَ أَبُو مَيْسَرَةَ أَحَدُ الْكِبَارِ مِنَ التَّابِعِينَ (عِنْدَ وَاصِلٍ) هُوَ ابْنُ حَيَّانَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ (فَقَطْ بَيْنَ) شَيْخِهِ (شَقِيقٍ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ أَيْضًا، بَلْ هُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ لَمْ يَرَهُ. (وَ) بَيْنَ (ابْنِ مَسْعُودٍ سَقَطْ، وَزَادَ الْأَعْمَشُ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ (كَذَا مَنْصُورُ) بْنُ الْمُعْتَمِرِ ; حَيْثُ رَوَيَاهُ عَنْ شَقِيقٍ، فَلَمَّا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ حَسْبَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَقَعَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْهُ عَنِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي وَاصِلًا وَالْأَعْمَشَ وَمَنْصُورًا، أَثْبَتَهُ فِي رِوَايَتِهِمْ، وَصَارَتْ رِوَايَةُ وَاصِلٍ مُدْرَجَةً عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِينَ. وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ وَاصِلٍ بِحَذْفِهِ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، وَشُعْبَةُ، وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، وَمَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، بَلْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ نَفْسِهِ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. قَالَ الْفَلَّاسُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ مَهْدِيٍّ - يَعْنِي لِكَوْنِهِ خِلَافَ مَا كَانَ حَدَّثَهُ، بَلْ وَحَدَّثَ غَيْرُهُ بِهِ - فَقَالَ: دَعْهُ دَعْهُ فَقَوْلُهُ: " دَعْهُ " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّمَسُّكِ بِمَا حَدَّثَهُ بِهِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ لِخِلَافِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِتَرْكِ عَمْرٍو مِنْ حَدِيثِ وَاصِلٍ لِكَوْنِهِ تَذَكَّرَ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ عِنْدَهُ مَحْمُولًا عَلَى رَفِيقَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ بِانْفِرَادِهِ أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ وَاصِلٍ وَحْدَهُ بِإِثْبَاتِهِ. وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الرُّوَاةِ ; حَيْثُ ظَنَّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ حَدِيثَ الثَّلَاثَةِ بِالْإِثْبَاتِ اتِّفَاقَ طُرُقِهِمْ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَاصِلٍ خَاصَّةً أَثْبَتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا ظَنَّهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ. وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي - كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ - لِمَنْ يَرْوِي حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ عَنْ شَيْخٍ أَنْ يَحْذِفَ بَعْضَهُمْ، بَلْ يَأْتِي بِهِ عَنْ جَمِيعِهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ سَنَدًا أَوْ مَتْنًا لِأَحَدِهِمُ الَّذِي رُبَّمَا يَكُونُ هُوَ الْمَحْذُوفَ، وَرِوَايَةُ مَنْ عَدَاهُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 عَلَى أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَى الْأَعْمَشِ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ عَمْرٍو وَحَذْفِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ فِي هَذَا الْمِثَالِ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ ; لِكَوْنِ شَقِيقٍ رَوَى عَنْ كُلٍّ مِنْ عَمْرٍو وَابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنْ قَدْ يَتَضَمَّنُ ارْتِكَابُ مِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ إِيهَامَ وَصْلِ مُرْسَلٍ، أَوِ اتِّصَالِ مُنْقَطِعٍ، وَمَا أَحْسَنَ مُحَافَظَةَ الْإِمَامِ مُسْلِمٍ عَلَى التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ، وَكَذَا شَيْخُهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَمِنْ أَقْسَامِ مُدْرَجِ الْإِسْنَادِ أَيْضًا وَهُوَ رَابِعٌ أَوْ خَامِسٌ أَلَّا يَذْكُرَ الْمُحَدِّثُ مَتْنَ الْحَدِيثِ، بَلْ يَسُوقَ إِسْنَادَهُ فَقَطْ، ثُمَّ يَقْطَعَهُ قَاطِعٌ فَيَذْكُرُ كَلَامًا فَيَظُنُّ بَعْضُ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ هُوَ مَتْنُ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ، مِنْهُمَا قِصَّةُ ثَابِتِ بْنِ مُوسَى الزَّاهِدِ مَعَ شَرِيكٍ الْقَاضِي، فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُدْرَجِ، وَمَثَّلَ بِهَا ابْنُ الصَّلَاحِ لِشَبَهِ الْوَضْعِ كَمَا سَيَأْتِي (وَعَمْدُ) أَيْ: تَعَمُّدُ (الْإِدْرَاجِ لَهَا) أَيْ: لِكُلِّ الْأَقْسَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَتْنِ وَالسَّنَدِ (مَحْظُورٌ) أَيْ: حَرَامٌ ; لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ عَزْوِ الشَّيْءِ لِغَيْرِ قَائِلِهِ، وَأَسْوَأُهُ مَا كَانَ فِي الْمَرْفُوعِ مِمَّا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْغَرِيبِ الْمُتَسَامَحِ فِي خَلْطِهِ، أَوِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطِيبُ فِي هَذَا النَّوْعِ كِتَابًا سَمَّاهُ (الْفَصْلَ لِلْوَصْلِ الْمُدْرَجِ فِي النَّقْلِ) وَلَخَّصَهُ شَيْخُنَا مَعَ تَرْتِيبِهِ لَهُ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَزِيَادَةٍ لِعِلَلٍ وَعَزْوٍ، وَسَمَّاهُ (تَقْرِيبَ الْمَنْهَجِ بِتَرْتِيبِ الْمُدْرَجِ) ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ جُمْلَةُ أَحَادِيثَ عَلَى شَرْطِ الْخَطِيبِ، وَإِنَّهُ عَزَمَ عَلَى جَمْعِهَا وَتَحْرِيرِهَا وَإِلْحَاقِهَا بِهَذَا الْمُخْتَصَرِ أَوْ فِي آخِرِهِ مُفْرَدَةً كَالذَّيْلِ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّضْهَا فَمَا رَأَيْتُهَا بَعْدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 [الْمَوْضُوعُ] [مَعْنَى الْمَوْضُوعِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] 225 - شَرُّ الضَّعِيفِ الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ ... الْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ الْمَصْنُوعُ 226 - وَكَيْفَ كَانَ لَمْ يُجِيزُوا ذِكْرَهْ ... لِمَنْ عَلِمْ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهْ 227 - وَأَكْثَرَ الْجَامِعُ فِيهِ إِذْ خَرَجْ ... لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ عَنَى أَبَا الْفَرَجْ 228 - وَالْوَاضِعُونَ لِلْحَدِيثِ أَضْرُبٌ ... أَضَرُّهُمْ قَوْمٌ لِزُهْدٍ نُسِبُوا 229 - قَدْ وَضَعُوهَا حِسْبَةً فَقُبِلَتْ ... مِنْهُمْ رُكُونًا لَهُمُ وَنُقِلَتْ 230 - فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهَا نُقَّادَهَا ... فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا 231 - نَحْوُ أَبِي عِصْمَةَ إِذْ رَأَى الْوَرَى ... زَعْمًا نَأَوْا عَنِ الْقُرَانِ فَافْتَرَى 232 - لَهُمْ حَدِيثًا فِي فَضَائِلِ السُّوَرْ ... عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبِئْسَ مَا ابْتَكَرْ 233 - كَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أُبَيٍّ اعْتَرَفْ ... رَاوِيهِ بِالْوَضْعِ وَبِئْسَ مَا اقْتَرَفْ 234 - وَكُلُّ مَنْ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ ... كَالْوَاحِدِيِّ مُخْطِئٌ صَوَابَهُ 235 - وَجَوَّزَ الْوَضْعَ عَلَى التَّرْغِيبِ ... قَوْمُ ابْنِ كَرَّامٍ وَفِي التَّرْهِيبِ 236 - وَالْوَاضِعُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا ... مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ وَضَعَا 237 - كَلَامَ بَعْضِ الْحُكَمَا فِي الْمُسْنَدِ ... وَمِنْهُ نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدِ 238 - نَحْوُ حَدِيثِ ثَابِتٍ " مَنْ كَثُرَتْ ... صَلَاتُهُ " الْحَدِيثَ وَهْلَةٌ سَرَتْ 239 - وَيُعْرَفُ الْوَضْعُ بِالْإِقْرَارِ وَمَا ... نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ وَرُبَّمَا 240 - يُعْرَفُ بِالرِّكَّةِ قُلْتُ اسْتَشْكَلَا ... الثَّبَجِيُّ الْقَطْعَ بِالْوَضْعِ عَلَى 241 - مَا اعْتَرَفَ الْوَاضِعُ إِذْ قَدْ يَكْذِبُ ... بَلَى نَرُدُّهُ وَعَنْهُ نُضْرِبُ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ ; إِذْ مِنْ أَقْسَامِهِ مَا يُلْحَقُ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَا تَجَاذَبَا بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ. (شَرُّ) أَنْوَاعِ (الضَّعِيفِ) مِنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَغَيْرِهِمَا (الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 [مَعْنَى الْمَوْضُوعِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] : وَهُوَ لُغَةً - كَمَا قَالَهُ ابْنُ دِحْيَةَ -: الْمُلْصَقُ، يُقَالُ: وَضَعَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَيْ: أَلْصَقَهُ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا الْحَطُّ وَالْإِسْقَاطُ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَلْيَقُ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ; كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا. وَاصْطِلَاحًا: (الْكَذِبُ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْمُخْتَلَقُ) بِفَتْحِ اللَّامِ، الَّذِي لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ، (الْمَصْنُوعُ) مِنْ وَاضِعِهِ، وَجِيءَ فِي تَعْرِيفِهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَارِبَةِ لِلتَّأْكِيدِ فِي التَّنْفِيرِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ مِنْهَا مِنَ الزَّوَائِدِ. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْعَجَمِ أَنْكَرَ عَلَى النَّاظِمِ قَوْلَهُ فِي حَدِيثٍ سُئِلَ عَنْهُ: أَنَّهُ كَذِبٌ، مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ مِنْ (الْمَوْضُوعَاتِ) لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ كَوْنِهِ لَا يَعْرِفُ مَوْضُوعَ الْمَوْضُوعِ. وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِكَوْنِهِ شَرَّ الضَّعِيفِ، بَلْ سَبَقَهُ لِذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الضَّعِيفِ: مَا عَدِمَ صِفَاتِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ هُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ الْأَرْذَلُ ; لِحَمْلِ ذَاكَ عَلَى مُطْلَقِ الْوَاهِي الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَوْضُوعِ وَغَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ: أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ، مَعَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهَا. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ بَيَّنَ نَوْعًا مِنْهُ، وَهُوَ شَرُّ أَنْوَاعِهِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَيْسَتْ هُنَا عَلَى بَابِهَا، حَتَّى لَا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْمَوْضُوعِ فِي الشَّرِّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَاكَ فِي الضَّعِيفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقْبُولِ. ثُمَّ إِنَّ وَرَاءَ هَذَا النِّزَاعِ فِي إِدْرَاجِ الْمَوْضُوعِ فِي أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ ; لِكَوْنِهِ لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بِحَدِيثٍ، وَلَكِنْ قَدْ أُجِيبَ بِإِرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ، أَوْ بِالنَّظَرِ لِمَا فِي زَعْمِ وَاضِعِهِ، وَأَحْسَنُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا لِمَعْرِفَتِهِ لِيُنْفَى عَنِ الْمَقْبُولِ وَنَحْوِهِ. [حُكْمُ بَيَانِ الْمَوْضُوعِ] [حُكْمُ بَيَانِ الْمَوْضُوعِ] (وَكَيْفَ كَانَ) الْمَوْضُوعُ أَيْ: فِي أَيِّ مَعْنًى كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوِ الْقِصَصِ، أَوِ الْفَضَائِلِ، أَوِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَوْ غَيْرِهَا (لَمْ يُجِيزُوا) أَيِ: الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ (ذِكْرَهُ) بِرِوَايَةٍ وَغَيْرِهَا (لِمَنْ عَلِمْ) بِإِدْغَامِ مِيمِهَا فِيمَا بَعْدَهَا، أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» وَ " يُرَى " مَضْبُوطَةٌ بِضَمِّ الْيَاءِ بِمَعْنَى يَظُنُّ، وَفِي " الْكَاذِبِينَ " رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى إِرَادَةِ التَّثْنِيَةِ، وَالْأُخْرَى: بِكَسْرِهَا عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ. وَكَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعِيدًا شَدِيدًا فِي حَقِّ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَاكَ وَلَا يُبَيِّنَهُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْمُحَدِّثَ بِذَلِكَ مُشَارِكًا لِكَاذِبِهِ فِي وَضْعِهِ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ رَوَى الْكَذِبَ فَهُوَ الْكَذَّابُ) . وَلِذَا قَالَ الْخَطِيبُ: (يَجِبُ عَلَى الْمُحَدِّثِ أَلَّا يَرْوِيَ شَيْئًا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَصْنُوعَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَاءَ بِالْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ) . وَكَتَبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ: مَنْ حَدَّثَ بِهَذَا، اسْتَوْجَبَ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالْحَبْسَ الطَّوِيلَ. لَكِنْ مَحَلُّ هَذَا (مَا لَمْ يُبَيِّنْ) ذَاكِرُهُ (أَمْرَهْ) ; كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا كَذِبٌ، أَوْ بَاطِلٌ، أَوْ نَحْوَهُمَا مِنَ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّعْرِيفِ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا نَظَرٌ، فَرُبَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ مَوْضُوعُهُ ; كَمَا قَدَّمْتُ الْحِكَايَةَ فِيهِ، وَكَذَا لَا يُبَرَّأُ مِنَ الْعُهْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى إِيرَادِ إِسْنَادِهِ بِذَلِكَ ; لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ الْمَحْذُورِ بِهِ، وَإِنْ صَنَعَهُ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، خُصُوصًا الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ. فَإِنَّهُمْ إِذَا سَاقُوا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ، اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بَرِئُوا مِنْ عُهْدَتِهِ، حَتَّى بَالَغَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أُبَيٍّ الْآتِي: (إِنَّ شَرَهَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ يَحْمِلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ عَادَاتِهِمْ تَنْفِيقَ حَدِيثِهِمْ وَلَوْ بِالْأَبَاطِيلِ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْهُمْ) . قَالَ شَيْخَنَا: (وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْإِسْنَادِ عِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيَانِ، هَذَا مَعَ إِلْحَاقِ اللَّوْمِ لِمَنْ سَمَّيْنَا بِسَبَبِهِ) . وَأَمَّا الشَّارِحُ فَإِنَّهُ قَالَ: (إِنَّ مَنْ أَبْرَزَ إِسْنَادَهُ بِهِ، فَهُوَ أَبْسَطُ لِعُذْرِهِ ; إِذْ أَحَالَ نَاظِرَهُ عَلَى الْكَشْفِ عَنْ سَنَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ) . انْتَهَى. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَمَنْ رَوَى حَدِيثًا مَوْضُوعًا عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِحَالِ وَاضِعِهِ، وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَى عَظِيمِ مَا جَاءَ بِهِ، وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ - سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ بِمَثَابَةِ إِظْهَارِ الشَّاهِدِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى كَشْفِهِ وَالْإِبَانَةِ عَنْهُ) . وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُبَيْلَ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ قَرِيبًا. [الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فِي الْمَوْضُوعِ] [الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فِي الْمَوْضُوعِ] وَيُوجَدُ الْمَوْضُوعُ كَثِيرًا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَكَذَا فِي الْعِلَلِ، (وَ) لَقَدْ (أَكْثَرَ الْجَامِعُ فِيهِ) مُصَنَّفًا نَحْوَ مُجَلَّدَيْنِ (إِذْ خَرَجَ) عَنْ مَوْضُوعِ كِتَابِهِ (لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ) ; حَيْثُ أَخْرَجَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ عَلَى وَضْعِهَا. وَ (عَنَى) ابْنُ الصَّلَاحِ بِهَذَا الْجَامِعِ الْحَافِظَ الشَّهِيرَ (أَبَا الْفَرَجِ) بْنَ الْجَوْزِيِّ، بَلْ رُبَّمَا أَدْرَجَ فِيهَا الْحَسَنَ، وَالصَّحِيحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 مِمَّا هُوَ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مَعَ إِصَابَتِهِ فِي أَكْثَرِ مَا عِنْدَهُ تَوَسُّعٌ مُنْكَرٌ، يَنْشَأُ عَنْهُ غَايَةُ الضَّرَرِ مِنْ ظَنِّ مَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ مَوْضُوعًا، مِمَّا قَدْ يُقَلِّدُهُ فِيهِ الْعَارِفُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ ; حَيْثُ لَمْ يَبْحَثْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ. وَلِذَا انْتَقَدَ الْعُلَمَاءُ صَنِيعَهُ إِجْمَالًا، وَالْمُوقِعُ لَهُ فِيهِ إِسْنَادُهُ فِي غَالِبِهِ بِضَعْفِ رَاوِيهِ الَّذِي رُمِيَ بِالْكَذِبِ مَثَلًا، غَافِلًا عَنْ مَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَرُبَّمَا يَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي التَّفَرُّدِ قَوْلَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَكُونُ كَلَامُهُ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى النِّسْبِيِّ، هَذَا مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَفَرُّدِ الْكَذَّابِ بَلِ الْوَضَّاعِ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الِاسْتِقْصَاءِ فِي التَّفْتِيشِ مِنْ حَافِظٍ مُتَبَحِّرٍ تَامِّ الِاسْتِقْرَاءِ - غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ انْضِمَامِ شَيْءٍ مِمَّا سَيَأْتِي. وَلِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَسِيرًا جِدًّا، وَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، بِخِلَافِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ مَنَحَهُمُ اللَّهُ التَّبَحُّرَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالتَّوَسُّعَ فِي حِفْظِهِ ; كَشُعْبَةَ وَالْقَطَّانِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ وَنَحْوِهِمْ، وَأَصْحَابِهِمْ مِثْلِ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَطَائِفَةٍ، ثُمَّ أَصْحَابِهِمْ مِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ. وَهَكَذَا إِلَى زَمَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَهُمْ مُسَاوٍ لَهُمْ، وَلَا مُقَارِبٌ. أَفَادَهُ الْعَلَائِيُّ، وَقَالَ: (فَمَتَى وَجَدْنَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْحُكْمَ بِهِ، كَانَ مُعْتَمَدًا ; لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْحِفْظِ الْغَزِيرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُمْ، عُدِلَ إِلَى التَّرْجِيحِ) . انْتَهَى. وَفِي جَزْمِهِ بِاعْتِمَادِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ تَوَقُّفٌ، ثُمَّ إِنَّ مِنَ الْعَجَبِ إِيرَادَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ) كَثِيرًا مِمَّا أَوْرَدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فِي الْمَوْضُوعَاتِ كَمَا أَنَّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ، بَلْ قَدْ أَكْثَرَ فِي تَصَانِيفِهِ الْوَعْظِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ إِيرَادِ الْمَوْضُوعِ وَشَبَهِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَفَاتَهُ مِنْ نَوْعَيِ الْمَوْضُوعِ وَالْوَاهِي فِي الْكِتَابَيْنِ قَدْرُ مَا كَتَبَ. قَالَ: (وَلَوِ انْتُدِبَ شَخْصٌ لِتَهْذِيبِ الْكِتَابِ ثُمَّ لِإِلْحَاقِ مَا فَاتَهُ، لَكَانَ حَسَنًا، وَإِلَّا فَمَا تَقَرَّرَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ إِلَّا لِلنَّاقِدِ ; إِذْ مَا مِنْ حَدِيثٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ مَوْضُوعًا، وَهُوَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ طَرَفَا نَقِيضٍ، يَعْنِي فَإِنَّهُ أَدْرَجَ فِيهِ الْحَسَنَ، بَلْ وَالضَّعِيفَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ الْمَوْضُوعُ. وَمِمَّنْ أَفْرَدَ بَعْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعِ كُرَّاسَةً الرَّضِيُّ الصَّغَانِيُّ اللُّغَوِيُّ، ذَكَرَ فِيهَا أَحَادِيثَ مِنَ (الشِّهَابِ) لِلْقُضَاعِيِّ، وَ (النَّجْمِ) لِلْإِقْلِيشِيِّ وَغَيْرِهِمَا كَـ (الْأَرْبَعِينَ) لِابْنِ وَدْعَانَ، وَ (فَضَائِلِ الْعُلَمَاءِ) لِمُحَمَّدِ بْنِ سُرُورٍ الْبَلْخِيِّ، وَ (الْوَصِيَّةِ) لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَ (خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَآدَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَأَحَادِيثِ أَبِي الدُّنْيَا الْأَشَجِّ، وَنَسْطُورٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ، وَيَغْنَمَ بْنِ سَالِمٍ، وَدِينَارٍ الْحَبَشِيِّ، وَأَبِي هُدْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هُدْبَةَ، وَنُسْخَةِ سَمْعَانَ عَنْ أَنَسٍ وَ (الْفِرْدَوْسِ) لِلدَّيْلَمِيِّ، وَفِيهَا الْكَثِيرُ أَيْضًا مِنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَمَا فِيهِ ضَعْفٌ يَسِيرٌ. وَقَدْ أَفْرَدَهُ النَّاظِمُ فِي جُزْءٍ، وَلِلْجَوْزَقَانِيِّ أَيْضًا " كِتَابُ الْأَبَاطِيلِ " أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِالْوَضْعِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ خَطَأٌ، إِلَّا إِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ ; وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: «لَا يَؤُمَّنَّ عَبْدٌ قَوْمًا، فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ. . . . .» الْحَدِيثَ، حَكَمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالْوَضْعِ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ» ، وَهَذَا خَطَأٌ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَمْ يُشْرَعْ لِلْمُصَلِّي مِنَ الْأَدْعِيَةِ، بِخِلَافِ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ. وَكَذَا صَنَّفَ عُمَرُ بْنُ بَدْرٍ الْمَوْصِلِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْمُغْنِي عَنِ الْحِفْظِ وَالْكِتَابِ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ فِي هَذَا الْبَابِ " وَعَلَيْهِ فِيهِ مُؤَاخِذَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي كُلٍّ مِنْ أَبْوَابِهِ سَلَفٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ خُصُوصًا الْمُتَقَدِّمِينَ، [وَنَحْوُ هَذَا أَشْيَاءُ كُلِّيَّةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مُنْتَقَدٌ كَثِيرٌ فِيهَا ; كَقَوْلِ: كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: يَا حُمَيْرَاءُ، وَكُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ زَبَدُ الْبَحْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: حَدِيثُ كَذَا لَيْسَ أَصْلًا، وَلَا أَصْلَ لَهُ فَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ] . [أَصْنَافُ الْوَاضِعِينَ] [أَصْنَافُ الْوَاضِعِينَ] (وَالْوَاضِعُونَ) جَمْعُ وَاضِعٍ (لِلْحَدِيثِ) وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرُونَ مَعْرُوفُونَ فِي كُتُبِ الضُّعَفَاءِ خُصُوصًا (الْمِيزَانَ) لِلذَّهَبِيِّ وَ " لِسَانَهُ " لِشَيْخِنَا، بَلْ أَفْرَدَهُمُ الْحَافِظُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ فِي تَأْلِيفٍ سَمَّاهُ (الْكَشْفَ الْحَثِيثَ عَمَّنْ رُمِيَ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ) وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاسْتِدْرَاكِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. وَفِي السَّبَبِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْوَضْعِ (أَضْرُبُ) أَيْ: أَصْنَافٌ، فَصِنْفٌ كَالزَّنَادِقَةِ، وَهُمُ الْمُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِدِينٍ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ ; لِيُضِلُّوا بِهِ النَّاسَ. فَقَدْ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ: إِنَّهُمْ وَضَعُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ. وَقَالَ الْمَهْدِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: أَقَرَّ عِنْدِي رَجُلٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ بِوَضْعِ مِائَةِ حَدِيثٍ، فَهِيَ تَجُولُ فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَمِنْهُمُ: الْحَارِثُ الْكَذَّابُ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبُ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، وَغَيْرُهُمْ كَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ خَالِ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيُّ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 زَمَنِ الْمَهْدِيِّ، بَعْدَ السِّتِّينَ وَمِائَةٍ، وَاعْتَرَفَ حِينَئِذٍ بِوَضْعِ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ تُحَرِّمُ حَلَالَهَا وَتُحِلُّ حَرَامَهَا. وَصِنْفٌ كَالْخَطَّابِيَّةِ، فِرْقَةٍ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الْمُشَايِعِينَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْتَسِبُونَ لِأَبِي الْخَطَّابِ الْأَسَدِيِّ، كَانَ يَقُولُ بِالْحُلُولِ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى التَّعَاقُبِ، ثُمَّ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَقُتِلَ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الرَّافِضَةِ ; إِذِ الرَّافِضَةُ فِرَقٌ مُتَنَوِّعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَانْتَسَبُوا كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: تَبَرَّأْ مِنَ الشَّيْخَيْنِ فَأَبَى، وَقَالَ: كَانَا وَزِيرَيْ جَدِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَرَكُوهُ وَرَفَضُوهُ. وَكَالسَّالِمِيَّةِ: فِرْقَةٍ يَنْتَسِبُونَ لِمَذْهَبِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ السَّالِمِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ مَذْهَبًا مَشْهُورًا بِالْبَصْرَةِ وَسَوَادِهَا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَفْعَلُونَهُ انْتِصَارًا وَتَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ (الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ) عَنْ شَيْخٍ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَمَا تَابَ: انْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا، زَادَ غَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ: وَنَحْتَسِبُ الْخَيْرَ فِي إِضْلَالِكُمْ. وَكَذَا قَالَ مُحْرِزٌ أَبُو رَجَاءٍ، وَكَانَ يَرَى الْقَدْرَ فَتَابَ مِنْهُ: لَا تَرْوُوا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ شَيْئًا، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَضَعُ الْأَحَادِيثَ، نُدْخِلُ بِهَا النَّاسَ فِي الْقَدَرِ، نَحْتَسِبُ بِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - كَمَا سَيَأْتِي فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ -: مَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَشْهَدُ بِالزُّورِ مِنَ الرَّافِضَةِ. وَصِنْفٌ يَتَقَرَّبُونَ لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بِوَضْعِ مَا يُوَافِقُ فِعْلَهُمْ وَآرَاءَهُمْ ; لِيَكُونَ كَالْعُذْرِ لَهُمْ فِيمَا أَتَوْهُ وَأَرَادُوهُ ; كَغَيَّاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ; حَيْثُ وَضَعَ لِلْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ وَالِدِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِي حَدِيثِ: «لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ» ، فَزَادَ فِيهِ: " أَوْ جَنَاحٍ ". وَكَانَ الْمَهْدِيُّ إِذْ ذَاكَ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ، فَأَمَرَ لَهُ بِبَدْرَةٍ يَعْنِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا قَفَّى قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى قَفَاكَ أَنَّهُ قَفَا كَذَّابٍ، ثُمَّ تَرَكَ الْحَمَامَ، وَأَمَرَ بِذَبْحِهَا وَقَالَ: أَنَا حَمَلْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَهَا أَبُو خَيْثَمَةَ. لَكِنْ أَسْنَدَ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَةِ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ مِنْ (تَأْرِيخِهِ) مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَتَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا رَوَى: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ جَنَاحٍ "؟ فَقَالَ: مَا رَوَى ذَاكَ إِلَّا ذَاكَ الْكَذَّابُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ. بَلْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَتِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا السَّاجِيِّ أَنَّ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ دَخَلَ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ يُطَيِّرُ الْحَمَامَ، فَقَالَ: هَلْ تَحْفَظُ فِي هَذَا شَيْئًا، فَقَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطَيِّرُ الْحَمَامَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَعَزَلْتُهُ. وَصِنْفٌ فِي ذَمِّ مَنْ يُرِيدُونَ ذَمَّهُ، كَمَا رُوِّينَا عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ الْإِسْكَافِ الْمُخَرَّجِ لَهُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ رَأَى ابْنَهُ يَبْكِي فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: ضَرَبَنِي الْمُعَلِّمُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لِأُخْزِيَنَّهُمْ، حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وَصِنْفٌ كَانُوا يَتَكَسَّبُونَ بِذَلِكَ، وَيَرْتَزِقُونَ بِهِ فِي قِصَصِهِمْ وَمَوَاعِظِهِمْ. وَصِنْفٌ يَلْجَئُونَ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِآرَائِهِمْ فَيَضَعُونَهُ. وَقَدْ حَصَلَ الضَّرَرُ بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ وَ (أَضَرُّهُمْ قَوْمٌ لِزُهْدٍ) وَصَلَاحٍ (نُسِبُوا) ; كَأَبِي بِشْرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ الْفَقِيهِ، وَأَبِي دَاوُدَ النَّخَعِيِّ (قَدْ وَضَعُوهَا) أَيِ: الْأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ وَالرَّغَائِبِ (حِسْبَةً) أَيْ: لِلْحِسْبَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَحْتَسِبُونَ بِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ وَجَهْلِهِمْ، لَا يُفَرِّقُونَ بِسَبَبِهِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ لَهُمْ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ فِي صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ - الْأَجْرَ وَطَلَبَ الثَّوَابِ ; لِكَوْنِهِمْ يَرُونَهُ قُرْبَةً، وَيَحْتَسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. كَمَا يُحْكَى عَمَّنْ كَانَ يَتَصَدَّى لِلشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ; زَاعِمًا لِلْخَيْرِ بِذَلِكَ ; لِكَوْنِ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِالتَّعَبُّدِ بِالصَّوْمِ يَكُفُّهُمْ عَنْ مَفَاسِدَ تَقَعُ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ (فَقُبِلَتْ) تِلْكَ الْمَوْضُوعَاتُ (مِنْهُمْ رُكُونًا لَهُمُ) بِضَمِّ الْمِيمِ ; أَيْ مَيْلًا إِلَيْهِمْ وَوُثُوقًا بِهِمْ ; لِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ التَّدَيُّنِ. (وَنُقِلَتْ) عَنْهُمْ عَلَى لِسَانِ مَنْ هُوَ فِي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِيَّةِ بِمَكَانٍ ; لِمَا عِنْدَهُ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ الْمُقْتَضِي لِحَمْلِ مَا سَمِعَهُ عَلَى الصِّدْقِ، وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِتَمْيِيزِ الْخَطَأِ مِنَ الصَّوَابِ (فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ (نُقَّادَهَا) جَمْعَ نَاقِدٍ يُقَالُ: نَقَدْتُ الدَّرَاهِمَ، إِذَا اسْتَخْرَجْتَ مِنْهَا الزَّيْفَ، وَهُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِنُورِ السُّنَّةِ، وَقُوَّةِ الْبَصِيرَةِ، فَلَمْ تَخْفَ عَنْهُمْ حَالُ مُفْتَرٍ، وَلَا زُورُ كَذَّابٍ. (فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا) ، وَمَيَّزُوا الْغَثَّ مِنَ السَّمِينِ، وَالْمُزَلْزَلَ مِنَ الْمَكِينِ، وَقَامُوا بِأَعْبَاءِ مَا تَحَمَّلُوهُ، وَلِذَا لَمَّا قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَصْنُوعَةُ؟ قَالَ: تَعِيشُ لَهَا الْجَهَابِذَةُ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] . انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَمِنْ حِفْظِهِ هَتْكُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَا أَهْلَ بَغْدَادَ، لَا تَظُنُّوا أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا حَيٌّ، وَقَدْ تَعَيَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَعُلَمَاءِ الرِّجَالِ. وَلِذَلِكَ - لَا سِيَّمَا الْأَخِيرُ - أَمْثِلَةٌ (نَحْوُ) مَا رُوِّينَاهُ عَنْ (أَبِي عِصْمَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَرْوَزِيِّ قَاضِيهَا فِي حَيَاةِ شَيْخِهِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُلَقَّبِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْمَغَازِي، وَالْفِقْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا - الْجَامِعُ. (إِذْ رَأَى الْوَرَى) أَيِ الْخَلْقَ (زَعْمًا) بِتَثْلِيثِ الزَّايِ بَاطِلًا مِنْهُ (نَأَوْا) أَيْ: أَعْرَضُوا (عَنِ الْقُرْآنِ) بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ - كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ - وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ، مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ شُيُوخِهِ (فَافْتَرَى) أَيِ: اخْتَلَقَ (لَهُمْ) أَيْ: لِلْوَرَى مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ حِسْبَةً بِاعْتِرَافِهِ حَسَبَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو عَمَّارٍ أَحَدُ الْمَجَاهِيلِ (حَدِيثًا فِي فَضَائِلِ السُّوَرِ) كُلِّهَا سُورَةً سُورَةً. وَرَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (فَبِئْسَ) كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ (مَا ابْتَكَرْ) فِي وَضْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا أَدْرَكَهُ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِوَضْعِ أَبِي عِصْمَةَ لَهُ الْحَاكِمُ، وَكَأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ بِهِ. وَقَالَ هُوَ وَابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ جَمَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الصِّدْقَ، وَ (كَذَا الْحَدِيثُ) الطَّوِيلُ (عَنْ أُبَيٍّ) هُوَ ابْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَيْضًا (اعْتَرَفْ رَاوِيهِ بِالْوَضْعِ) لَهُ. فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْعَدَوِيِّ الْبَصْرِيِّ ثُمَّ الْمَكِّيِّ الْمُتَوَفَّى بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ. وَكَانَ - كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 شَدِيدًا فِي السُّنَّةِ، وَرَفَعَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ شَأْنِهِ، مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ سَأَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ فِيهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ بِالْمَدَائِنِ وَهُوَ حَيٌّ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهِ، فَأَحَالَ عَلَى شَيْخٍ بِوَاسِطَ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهِ، فَأَحَالَ عَلَى شَيْخٍ بِالْبَصْرَةِ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهِ، فَأَحَالَ عَلَى شَيْخٍ بِعَبَادَانَ. قَالَ الْمُؤَمَّلُ: فَلَمَّا صِرْتُ إِلَيْهِ، أَخَذَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي بَيْتًا، فَإِذَا فِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَعَهُمْ شَيْخٌ، فَقَالَ: هَذَا الشَّيْخُ حَدَّثَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا شَيْخُ، مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: لَمْ يُحَدِّثْنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّا رَأَيْنَا النَّاسَ قَدْ رَغِبُوا عَنِ الْقُرْآنِ، فَوَضَعْنَا لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ ; لِيَصْرِفُوا قُلُوبَهُمْ إِلَى الْقُرْآنِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: أَظُنُّ الزَّنَادِقَةَ وَضَعَتْهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا عِصْمَةَ وَاضِعُ الَّذِي قَبْلَهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ هَذَا أَيْضًا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَنْ أُبَيٍّ طُرُقٌ (وَبِئْسَ) كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ أَيْضًا (مَا اقْتَرَفْ) أَيِ: اكْتَسَبَ وَاضِعُهُ (وَ) لِهَذَا (كُلُّ مَنْ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ) فِي التَّفْسِيرِ (كَـ) أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ (الْوَاحِدِيِّ) بِمُهْمَلَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: لَا أَدْرِي لِمَ نُسِبَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ وَاحِدُ قَوْمِهِ وَوَاحِدُ أُمِّهِ، فَلَعَلَّهُ نُسِبَ إِلَى أَبٍ أَوْ جَدٍّ، أَوْ قَرِيبٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ كَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْحَافِظِ ابْنِ الْحَافِظِ فَهُوَ (مُخْطِئٌ) فِي ذَلِكَ (صَوَابَهُ) ; إِذِ الصَّوَابُ تَجَنُّبُ إِيرَادِ الْمَوْضُوعِ إِلَّا مَقْرُونًا بِبَيَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أَشَدُّهُمْ خَطَأً ; حَيْثُ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ غَيْرَ مُبْرِزٍ لِسَنَدِهِ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِخِلَافِ الْآخَرِينَ، فَإِنَّهُمْ سَاقُوا إِسْنَادَهُ. وَإِنْ حَكَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَدَمَ جَوَازِهِ أَيْضًا (وَجَوَّزَ الْوَضْعَ) عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى) وَجْهِ (التَّرْغِيبِ) لِلنَّاسِ فِي الطَّاعَةِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ (قَوْمُ) أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ (ابْنِ كَرَّامٍ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْمَشْهُورِ ; كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ ضَبَطَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ مَاكُولَا وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ مَسْعُودٌ الْحَارِثِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ. وَأَبَاهُ مُتَكَلِّمُ الْكَرَّامِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي أَلْسِنَةِ الْمَشَايِخِ - يَعْنِي: مَشَايِخَهُمْ - بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَرَامَةٍ أَوْ كَرِيمٍ، فَقَالَ: وَيُقَالُ: بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى لَفْظِ جَمْعٍ كَرِيمٍ، قَالَ: وَهُوَ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ سِجِسْتَانَ، وَقَوْلُ أَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ فِيهِ، وَكَانَ وَلِعًا بِالْجِنَاسِ: إِنَّ الَّذِينَ بِجَهْلِهِمْ لَمْ يَقْتَدُوا ... بِمُحَمَّدِ بْنِ كِرَامَ غَيْرُ كِرَامِ الْفِقْهُ فِقْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ... وَالدِّينُ دِينُ مُحَمَّدِ بْنِ كِرَامِ - شَاهِدٌ لِلتَّخْفِيفِ فِيهِ [إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً] ، وَهُوَ السِّجِسْتَانِيُّ الَّذِي كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا ثُمَّ خُذِلَ - كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ - فَالْتَقَطَ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَرْدَأَهَا، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ أَوْهَاهَا، وَصَحِبَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوبَارِيَّ، فَكَانَ يَضَعُ لَهُ الْحَدِيثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ. (وَ) كَذَا جَوَّزُوا الْوَضْعَ (فِي التَّرْهِيبِ) زَجْرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، مُحْتَجِّينَ فِي ذَلِكَ - مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ إِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - بِأَنَّ الْكَذِبَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ هُوَ لِلشَّارِعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِكَوْنِهِ مُقَوِّيًا لِشَرِيعَتِهِ، لَا عَلَيْهِ، وَالْكَذِبَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا يُقْصَدُ شَيْنُهُ بِهِ، وَعَيْبُ دِينِهِ، وَبِزِيَادَةِ: " لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ " فِي حَدِيثِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» الَّتِي هِيَ مُقَيِّدَةٌ لِلْإِطْلَاقِ. وَبِكَوْنِ حَدِيثِ: " مَنْ كَذَبَ " إِنَّمَا وَرَدَ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ، ذَهَبَ إِلَى قَوْمٍ وَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَحَكَمَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَفِي هَذِهِ مُتَمَسَّكٌ لِلْمُحْتَسِبِينَ أَيْضًا الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ، لَكِنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمَا. [وُجُوهُ الرَّدِّ عَلَى الْمُحْتَسِبِينَ] أَمَّا الْأَوَّلُ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - جَهْلٌ مِنْهُمْ بِاللِّسَانِ ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ فِي وَضْعِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ قِسْمٌ مِنْهَا، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنِ اللَّهِ فِي الْوَعْدِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الثَّوَابِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى ضَعْفِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ قَبُولِهَا فَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ أَيْ: يَصِيرُ كَذِبُهُمْ لِلْإِضْلَالِ ; كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَصِ: 8] وَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَوْ لَامُ التَّأْكِيدِ - يَعْنِي كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ - وَلَا مَفْهُومَ لَهَا ; كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 144] ; لِأَنَّ افْتِرَاءَهُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا ; سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الْإِضْلَالَ، أَمْ لَمْ يَقْصِدْ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَالسَّبَبُ الْمَذْكُورُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادُهُ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ مُتَمَسَّكٌ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَنَحْوُ هَذَا الْمَذْهَبِ الرَّدِيءِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْآتِي قَرِيبًا، وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ كِفَايَةً عَنْ غَيْرِهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] . وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَسَقَطَ وَقْعُهُ، وَمَا هُوَ جَدِيدٌ فَوَقْعُهُ أَعْظَمُ، هُوَ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: هَوَسٌ وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ ; بِحَيْثُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ فَعَلَهُ، وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ كَمَا سَيَأْتِي، بَلْ بَالَغَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فَكَفَّرَ مُتَعَمِّدَهُ. (وَالْوَاضِعُونَ) أَيْضًا (بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا) مَا وَضَعَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامًا مُبْتَكَرًا (مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ) مِنْهُمْ قَدْ (وَضَعَا كَلَامَ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ) أَوِ الزُّهَّادِ، أَوِ الصَّحَابَةِ، أَوْ مَا يُرْوَى فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ (فِي الْمُسْنَدِ) الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; تَرْوِيجًا لَهُ. وَقَدْ رَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، كَأَنَّهُ الْمَصْلُوبُ، أَنَّهُ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بَأْسَ إِذَا كَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ أَنْ تَضَعَ لَهُ إِسْنَادًا. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الَّتِي بِآخِرِ (جَامِعِهِ) عَنْ أَبِي مُقَاتِلٍ الْخُرَاسَانِيِّ ; أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ وَبِأَحَادِيثَ طِوَالٍ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَخِيهِ: يَا عَمِّ، لَا تَقُلْ: حَدَّثَنَا عَوْنٌ، فَإِنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا، فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي، إِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا عَزَاهُ الزَّرْكَشِيُّ - وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا - لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ صَاحِبِ (الْمُفْهِمِ) قَالَ: اسْتَجَازَ بَعْضُ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ [نِسْبَةَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] نِسْبَةً قَوْلِيَّةً، فَيَقُولُ فِي ذَلِكَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا. وَلِهَذَا تَرَى كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةً بِأَحَادِيثَ تَشْهَدُ مُتُونُهَا بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ ; لِأَنَّهَا تُشْبِهُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ، وَلَا تَلِيقُ بِجَزَالَةِ كَلَامِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ; وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ لَهَا سَنَدًا صَحِيحًا، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ يَشْمَلُهُمُ الْوَعِيدُ فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى. [اخْتِلَافُ ضَرَرِ الْوَضْعِ] [اخْتِلَافُ ضَرَرِ الْوَضْعِ] وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ عَلَى حِكَايَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَالضَّرَرُ بِهَؤُلَاءِ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَلَائِيُّ: أَشَدُّ الْأَصْنَافِ ضَرَرًا أَهْلُ الزُّهْدِ ; كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَكَذَا الْمُتَفَقِّهَةُ الَّذِينَ اسْتَجَازُوا نِسْبَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا بَاقِي الْأَصْنَافِ - كَالزَّنَادِقَةِ - فَالْأَمْرُ فِيهِمْ أَسْهَلُ ; لِأَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كَذِبًا لَا تَخْفَى إِلَّا عَلَى الْأَغْبِيَاءِ، وَكَذَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فِي شَدِّ بِدَعِهِمْ، وَأَمْرُ أَصْحَابِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُصَّاصِ أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ لَيْسُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَأَخْفَى الْأَصْنَافِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْوَضْعَ، مَعَ الْوَصْفِ بِالصِّدْقِ ; كَمَنْ يَغْلَطُ فَيُضِيفُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَكَمَنِ ابْتُلِيَ بِمَنْ يَدُسُّ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، كَمَا وَقَعَ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ رَبِيبِهِ، وَلِسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ مَعَ وَرَّاقِهِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ مَعَ جَارِهِ، وَلِجَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمِصْرِيِّينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَعَ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ الْمَدَائِنِيِّ الْمِصْرِيِّ. وَكَمَنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ آفَةٌ فِي حِفْظِهِ، أَوْ فِي كِتَابِهِ، أَوْ فِي بَصَرِهِ، فَيَرْوِي مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ غَالِطًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ شَدِيدٌ لِدِقَّةِ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ. انْتَهَى. وَالْأَمْثِلَةُ لِمَنْ يَضَعُ كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ كَثِيرَةٌ ; كَحَدِيثِ: (الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ) ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةِ طَبِيبِ الْعَرَبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَحَدِيثِ: (مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَحَدِيثِ: (حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ) ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ الثَّوْرِيِّ مِنْ (الْحِلْيَةِ) مِنْ قَوْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَجَزَمَ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ لَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَابْنُ يُونُسَ فِي تَرْجَمَةِ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ التُّجِيبِيِّ مِنْ (تَأْرِيخِ مِصْرَ) لَهُ مِنْ قَوْلِ سَعْدٍ هَذَا. وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الْحَادِيَ وَالسَّبْعِينَ مِنْ (الشُّعَبِ) بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَفَعَهُ مُرْسَلًا، [قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: قَالَ الْعِرَاقِيُّ: مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ عِنْدَهُمْ شِبْهُ الرِّيحِ. وَأَوْرَدَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ، وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ بِلَا إِسْنَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَفَعَهُ أَيْضًا. وَلَا دَلِيلَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ مَعَ وُجُودِ هَذَا، وَلِذَا لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ مِمَّا رُكِّبَ، فَقَدْ رُكِّبَتْ أَسَانِيدُ مَقْبُولَةٌ لِمُتُونٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ مُتَوَهَّمَةٍ ; كَمَا سَيَأْتِي هُنَا وَفِي النَّوْعِ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَضْعِ السَّنَدِيِّ. (وَمِنْهُ) أَيِ الْمَوْضُوعِ (نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدِ نَحْوُ حَدِيثِ ثَابِتٍ) هُوَ ابْنُ مُوسَى الزَّاهِدُ، الَّذِي رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ عَنْهُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: (مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ) بِاللَّيْلِ. . . . . . (الْحَدِيثَ) ، وَتَمَامُهُ: " حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ " فَإِنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَإِنْ أَغْرَبَ الْقُضَاعِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ لَهُ لَمَّا سَاقَهُ مِنْ طُرُقٍ: مَا طَعَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ - أَيْ مِنَ الْحُفَّاظِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ - فِي إِسْنَادِهِ وَلَا مَتْنِهِ. وَاغْتَرَّ الرُّكْنُ بْنُ الْقَوْبَعِ الْمَالِكِيُّ ; حَيْثُ قَالَ مِنْ أَبْيَاتٍ: وَمَنْ كَثُرَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ مِنْهُ فَيَحْسُنُ وَجْهُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ. وَلَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ رَاوِيهِ الْأَوَّلُ وَهُوَ ثَابِتٌ وَضْعَهُ، إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى شَرِيكٍ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ إِمْلَائِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَتْنَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا السَّنَدِ، أَوْ ذَكَرَهُ - حَسَبَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ حِبَّانَ - وَهُوَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ» . فَقَالَ شَرِيكٌ مُتَّصِلًا بِالسَّنَدِ أَوْ بِالْمَتْنِ حِينَ نَظَرَ إِلَى ثَابِتٍ: " مَنْ كَثُرَتْ. . . . . " إِلَى آخِرِهِ، قَاصِدًا بِذَلِكَ مُمَاجَنَةَ ثَابِتٍ لِزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَظَنَّ ثَابِتٌ أَنَّ هَذَا مَتْنُ ذَاكَ السَّنَدِ، أَوْ بَقِيَّةُ الْمَتْنِ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ كَذَلِكَ مُدْرِجًا لَهُ فِي الْمَتْنِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْتُهُ. وَذَلِكَ (وَهْلَةٌ) أَيْ: غَلْطَةٌ مِنْ ثَابِتٍ لِغَفْلَتِهِ الَّتِي أَدَّى إِلَيْهَا صَلَاحُهُ (سَرَتْ) تِلْكَ الْغَلْطَةُ بِحَيْثُ انْتَشَرَتْ، فَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَرَنَ بَعْضُهُمْ بِشَرِيكٍ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَلَمْ يَقْنَعْ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ ثَابِتٍ، مَعَ تَصْرِيحِ ابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 عَدِيٍّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، بَلْ سَرَقُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ نَفْسِهِ. وَلِذَا قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ شَرِيكٍ، فَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ ثِقَةٌ، وَلَا يَخْدِشُ فِي قَوْلِهِمَا رِوَايَةُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى زَحْمَوَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً لَهُ عَنْ شَرِيكٍ، فَالرَّاوِي لَهُ عَنْ زَحْمَوَيْهِ ضَعِيفٌ. وَكَذَا سَرَقَهُ بَعْضُهُمْ وَرَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَبَعْضُهُمْ صَيَّرَ لَهُ إِسْنَادًا إِلَى الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ. وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ) لِابْنِ نَصْرٍ، وَمُسْنَدِ الشِّهَابِ لِلْقُضَاعِيِّ، وَالْمَوْضُوعَاتِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنْ طُرُقِهِ الْكَثِيرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جَمِيعِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا بَاطِلٌ، كَشَفَ النُّقَّادُ سِتْرَهَا، وَبَيَّنُوا أَمْرَهَا بِمَا لَا نُطِيلُ بِشَرْحِهِ. وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا يُخَالِفُ هَذَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مُسَبِّحُ بْنُ حَاتِمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا بَالُ الْمُتَهَجِّدِينَ بِاللَّيْلِ، أَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا؟ ! قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فَأَلْبَسَهُمْ مِنْ نُورِهِ. وَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ - تَبَعًا لِلْخَلِيلِيِّ فِي الْإِرْشَادِ -: إِنَّهُ شِبْهُ الْوَضْعِ حَسَنٌ ; إِذْ لَمْ يَضَعْهُ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ مَعِينٍ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، نَعَمِ الطُّرُقُ الْمُرَكَّبَةُ لَهُ مَوْضُوعَةٌ، وَلِذَا جَزَمَ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوهُ حَدِيثًا وَحَمَلَهُمُ الشَّرَهُ وَمَحَبَّةُ الظُّهُورِ عَلَى ادِّعَاءِ سَمَاعِهِ، وَهُمْ صِنْفٌ مِنَ الْوَضَّاعِينَ. كَمَا وَضَعَ بَعْضُهُمْ حِينَ سَمِعَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ يَذْكُرُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِمَّا نَسَبَهُ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامِ -: " مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " فَتَوَهَّمَهُ - كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحِوَارِيِّ مِنْ (الْحِلْيَةِ) - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ لَهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ سَنَدًا، وَهُوَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ لِسُهُولَتِهِ وَقُرْبِهِ، وَجَلَالَةُ الْإِمَامِ تَنْبُو عَنْ هَذَا. وَأَمَّا ابْنُ حِبَّانَ فَسَمَّاهُ مُدْرَجًا ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ ثَابِتًا قَالَهُ عَقِبَ حَدِيثِ: " يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ "، فَأَدْرَجَهُ فِي الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُدْرَجِ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ هُنَاكَ ; إِذْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي إِطْلَاقِ الْإِدْرَاجِ كَوْنَهُ عَمْدًا، بَلْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْوَضْعِ] [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْوَضْعِ] (وَيُعْرَفُ الْوَضْعُ) لِلْحَدِيثِ (بِالْإِقْرَارِ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، مِنْ وَاضِعِهِ كَمَا وَقَعَ لِأَبِي عِصْمَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ (وَ) كَذَا بِـ (مَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ) كَمَا اتَّفَقَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بِحَضْرَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوبَارِيِّ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [فَرَوَى لَهُمْ بِسَنَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: سَمِعَ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ] . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وَنَحْوُهُ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَارِثِ التَّمِيمِيَّ جَدَّ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيِّ سُئِلَ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: عَنْوَةً، فَطُولِبَ بِالْحُجَّةِ، فَقَالَ: ثَنَا ابْنُ الصَّوَّافِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي فَتْحِ مَكَّةَ ; أَكَانَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؟ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: كَانَ عَنْوَةً» ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ أَنَّهُ صَنَعَهُ فِي الْحَالِ، لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْخَصْمُ. (وَرُبَّمَا يُعْرَفُ بِالرِّكَّةِ) أَيِ: الضَّعْفِ عَنْ قُوَّةِ فَصَاحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مَعًا، مِثْلُ مَا يُرْوَى فِي وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَا فِي أَحَدِهِمَا، لَكِنَّهُ فِي اللَّفْظِ وَحْدَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَفْظُ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَحْصُلِ التَّصَرُّفُ بِالْمَعْنَى فِي نَقْلِهِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ قَالَ: إِنَّ لِلْحَدِيثِ ضَوْءًا كَضَوْءِ النَّهَارِ يُعْرَفُ، وَظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكَرُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: الْحَدِيثُ الْمُنْكَرُ يَقْشَعِرُّ مِنْهُ جِلْدُ طَالِبِ الْعِلْمِ، وَيَنْفِرُ مِنْهُ قَلْبُهُ فِي الْغَالِبِ، وَعَنَى بِذَلِكَ الْمُمَارِسَ لِأَلْفَاظِ الشَّارِعِ، الْخَبِيرَ بِهَا وَبِرَوْنَقِهَا وَبَهْجَتِهَا ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَكَثِيرًا مَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ - أَيْ بِالْوَضْعِ - بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ تَرْجِعُ إِلَى الْمَرْوِيِّ وَأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُمْ - لِكَثْرَةِ مُحَاوَلَةِ أَلْفَاظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَيْئَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ، وَمَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ يَعْرِفُونَ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ، وَمَا لَا يَجُوزُ. انْتَهَى. وَالرِّكَّةُ فِي الْمَعْنَى كَأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ ضَرُورَةً أَوِ اسْتِدْلَالًا، وَلَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا بِحَالٍ، نَحْوُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَعَنْ نَفْيِ الصَّانِعِ، وَقِدَمِ الْأَجْسَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِمَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ يُخَالِفُ الْعُقُولَ، أَوْ يُنَاقِضُ الْأُصُولَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، فَلَا تَتَكَلَّفِ اعْتِبَارَهُ، أَيْ: لَا تَعْتَبِرْ رُوَاتَهُ، وَلَا تَنْظُرْ فِي جَرْحِهِمْ. أَوْ يَكُونَ مِمَّا يَدْفَعُهُ الْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ، أَوْ مُبَايِنًا لِنَصِّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ ; حَيْثُ لَا يَقْبَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ. أَوْ يَتَضَمَّنَ الْإِفْرَاطَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى الْأَمْرِ الْيَسِيرِ، أَوْ بِالْوَعْدِ الْعَظِيمِ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي حَدِيثِ الْقُصَّاصِ وَالطُّرُقِيَّةِ، وَمِنْ رِكَّةِ الْمَعْنَى: " لَا تَأْكُلُوا الْفَرْعَةَ حَتَّى تَذْبَحُوهَا "، وَلِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِ رَاوِيهِ. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْقَرَائِنِ فِي الْمَرْوِيِّ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الرَّاوِي ; كَقِصَّةِ غَيَّاثٍ مَعَ الْمَهْدِيِّ، وَحِكَايَةِ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ الْمَاضِي ذِكْرُهُمَا، وَاخْتِلَاقِ الْمَأْمُونِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيِّ - حِينَ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَرَى الشَّافِعِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِخُرَاسَانَ - ذَاكَ الْكَلَامَ الْقَبِيحَ، حَكَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمَدْخَلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ جُمُعَةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَابْتَدَأَ لِيُورِدَهُ، فَسَقَطَ مِنْ قَامَتِهِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. أَوِ انْفِرَادِهِ عَمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُ بِمَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، أَوِ انْفِرَادِهِ بِشَيْءٍ مِنْ كَوْنِهِ فِيمَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفِينَ عِلْمُهُ، وَقَطْعُ الْعُذْرِ فِيهِ ; كَمَا قَرَّرَهُ الْخَطِيبُ فِي أَوَّلِ (الْكِفَايَةِ) ، أَوْ بِأَمْرٍ جَسِيمٍ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; كَحَصْرِ الْعَدُوِّ لِلْحَاجِّ عَنِ الْبَيْتِ، أَوْ بِمَا صَرَّحَ بِتَكْذِيبِهِ فِيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، أَوْ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. (قُلْتُ) وَقَدِ (اسْتَشْكَلَا) التَّقِيُّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ (الثَّبَجِيُّ) بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَجِيمٍ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ بِثَبَجِ الْبَحْرِ بِسَاحِلِ يَنْبُعَ مِنَ الْحِجَازِ، فِي كِتَابِهِ (الِاقْتِرَاحِ) مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ الْوَضْعِ (الْقَطْعَ بِالْوَضْعِ عَلَى مَا) أَيِ: الْمَرْوِيِّ الَّذِي (اعْتَرَفَ الْوَاضِعُ) فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِرَافِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَهُ (إِذْ قَدْ يَكْذِبُ) فِي خُصُوصِ اعْتِرَافِهِ ; إِمَّا لِقَصْدِ التَّنْفِيرِ عَنْ هَذَا الْمَرْوِيِّ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ الرِّيبَةَ وَالشَّكَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالِاحْتِيَاطُ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِالْوَضْعِ. (بَلَى نَرُدُّهُ) أَيِ: الْمَرْوِيَّ ; لِاعْتِرَافِ رَاوِيهِ بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ (وَعَنْهُ نَضْرِبُ) أَيْ نُعْرِضُ عَنْهُ فَلَا نَحْتَجُّ بِهِ، بَلْ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ، وَلَا فِي الْفَضَائِلِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ. وَنَصُّ (الِاقْتِرَاحِ) : " وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ - أَيْ فِي هَذَا النَّوْعِ - إِقْرَارُ الرَّاوِي بِالْوَضْعِ، وَهَذَا كَافٍ فِي رَدِّهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ فِي كَوْنِهِ مَوْضُوعًا ; لِجَوَازِ أَنْ يَكْذِبَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ بِعَيْنِهِ ". وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَاطِعٍ هُنَا الْقَطْعَ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لَا مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُجَرَّدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الْمَنْعِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَوْضُوعًا، وَلَكِنَّ الَّذِي قَرَّرَهُ شَيْخُنَا خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَدْ يُعْرَفُ الْوَضْعُ بِإِقْرَارِ وَاضِعِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَكِنْ لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَبَ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، قَالَ: وَفَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ - أَيْ كَابْنِ الْجَزَرِيِّ -، أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ أَصْلًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ، وَإِنَّمَا نَفَى الْقَطْعَ بِذَلِكَ ; وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْقَطْعِ نَفْيُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ قَتْلُ الْمُقِرِّ بِالْقَتْلِ، وَلَا رَجْمُ الْمُعْتَرِفِ بِالزِّنَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ. زَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَكَذَا حُكْمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ بِمُقْتَضَى اعْتِرَافِهِ، وَقَالَ أَيْضًا رَدًّا عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِي كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: فِيهِ بَعْضُ مَا فِيهِ، وَنَحْنُ لَوْ فَتَحْنَا بَابَ التَّجْوِيزِ وَالِاحْتِمَالِ، لَوَقَعْنَا فِي الْوَسْوَسَةِ وَغَيْرِهَا - مَا نَصُّهُ: لَيْسَ فِي هَذَا وَسْوَسَةٌ، بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ نَفَى الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، لَا الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا ; لِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، فَيُحْكَمُ بِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا، أَمَّا إِنَّهُ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَلَا. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ مَا قَرَّرْتُهُ، وَلَا يُنَازِعُ فِيهِ الْفُرُوعُ الْمَذْكُورَةُ. وَكَذَا تَعَقَّبَ شَيْخُنَا شَيْخَهُ الشَّارِحَ ; حَيْثُ مَثَّلَ فِي النُّكَتِ لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: أَوْ مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إِقْرَارِهِ، بِمَا إِذَا حَدَّثَ عَنْ شَيْخٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَوْلِدَهُ فِي تَأْرِيخٍ يُعْلَمُ تَأَخُّرُهُ عَنْ وَفَاةِ ذَاكَ الشَّيْخِ ; لِجَرَيَانِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُكْذَبَ فِي تَأْرِيخِ مَوْلِدِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُغْلَطَ فِي التَّأْرِيخِ، وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الْأَمْرِ صَادِقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَنْزِيلَهُ مَنْزِلَتَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا مَثَّلْتُ بِهِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ قَوْلٌ أَصْلًا. تَتِمَّةٌ: يَقَعُ فِي كَلَامِهِمُ " الْمَطْرُوحُ " وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ جَزْمًا، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الذَّهَبِيُّ نَوْعًا مُسْتَقِلًا، وَعَرَّفَهُ بِأَنَّهُ مَا نَزَلَ عَنِ الضَّعِيفِ وَارْتَفَعَ عَنِ الْمَوْضُوعِ، وَمَثَّلَ لَهُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ، وَبِجُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ الْمَتْرُوكُ فِي التَّحْقِيقِ، يَعْنِي الَّذِي زَادَهُ فِي نُخْبَتِهِ وَتَوْضِيحِهَا، وَعَرَّفَهُ بِالْمُتَّهَمِ رَاوِيهِ بِالْكَذِبِ. [الْمَقْلُوبُ] 242 - وَقَسَّمُوا الْمَقْلُوبَ قِسْمَيْنِ إِلَى ... مَا كَانَ مَشْهُورًا بِرَاوٍ أُبْدِلَا 243 - بِوَاحِدٍ نَظِيرِهِ كَيْ يَرْغَبَا ... فِيهِ لِلْإِغْرَابِ إِذَا مَا اسْتَغْرَبَا 244 - وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ نَحْوُ ... امْتِحَانِهِمْ إِمَامَ الْفَنِّ 245 - فِي مِائَةٍ لَمَّا أَتَى بَغْدَادَا ... فَرَدَّهَا وَجَوَّدَ الْإِسْنَادَا 246 - وَقَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ ... نَحْوُ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ " 247 - حَدَّثَهُ فِي مَجْلِسِ الْبُنَانِي ... حَجَّاجٌ أَعْنِي ابْنَ أَبِي عُثْمَانِ 248 - فَظَنَّهُ عَنْ ثَابِتٍ جَرِيرُ ... بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيرُ. وَحَقِيقَةُ الْقَلْبِ تَغْيِيرُ مَنْ يُعْرَفُ بِرِوَايَةٍ مَا بِغَيْرِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ وَاضِحَةٌ ; لِتَقْسِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى سَنَدٍ وَمَتْنٍ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمَوْضُوعِ بِخُصُوصِهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ أَنَّ مِنَ الْوَضَّاعِينَ مَنْ يَحْمِلُهُ الشَّرَهُ وَمَحَبَّةُ الظُّهُورِ لِأَنْ يَقْلِبَ سَنَدًا ضَعِيفًا بِصَحِيحٍ، ثُمَّ تَارَةً يَقْلِبُ جَمِيعَ السَّنَدِ، وَتَارَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 بَعْضَهُ. وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْمُزَالُ ضَعِيفًا، بَلْ صَحِيحًا بِصَحِيحٍ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ تَسْمِيَةِ هَذَا كُلِّهِ وَضْعًا وَقَلْبًا، وَلِذَا عَدَّ الشَّارِحُ الْمُغْرِبَ فِي أَصْنَافِ الْوَضَّاعِينَ وَإِنْ شُوحِحَ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ جَزَمَ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْإِغْرَابَ مِنْ أَقْسَامِ الْوَضْعِ. [قَلْبُ السَّنَدِ عَمْدًا وَأَقْسَامُهُ] [قَلْبُ السَّنَدِ عَمْدًا وَأَقْسَامُهُ] : (وَقَسَّمُوا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (الْمَقْلُوبَ) السَّنَدِيَّ خَاصَّةً لِكَوْنِهِ الْأَكْثَرَ، كَاقْتِصَارِهِمْ فِي الْمَوْضُوعِ عَلَى الْمَتْنِيِّ ; لِكَوْنِهِ الْأَهَمَّ. (قِسْمَيْنِ) عَمْدًا وَسَهْوًا، وَالْعَمْدُ (إِلَى) قِسْمَيْنِ أَيْضًا مِنْهُ (مَا كَانَ) مَتْنُهُ (مَشْهُورًا بِرَاوٍ) كَسَالِمٍ (أُبْدِلَا بِوَاحِدٍ) مِنَ الرُّوَاةِ (نَظِيرِهِ) فِي الطَّبَقَةِ كَنَافِعٍ (كِي يُرْغَبَا فِيهِ) أَيْ: فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَيَرُوجَ سُوقُهُ بِهِ (لِلْإِغْرَابِ) بِالنَّقْلِ (إِذَا مَا اسْتُغْرِبَا) مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ ; لِكَوْنِ الْمَشْهُورِ خِلَافَهُ. وَمِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُهُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو النَّصِيبِيُّ، أَحَدُ الْمَذْكُورِينَ بِالْوَضْعِ، كَمَا وَقَعَ لَهُ ; حَيْثُ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «إِذَا لَقِيتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي طَرِيقٍ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ» عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ; لِيُغْرِبَ بِهِ، وَهُوَ لَا يُعَرَفُ عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعُقَيْلِيُّ، وَقَدْ قِيلَ فِي فَاعِلِ هَذَا: يَسْرِقُ الْحَدِيثَ، وَرُبَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 قِيلَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: مَسْرُوقٌ. وَفِي إِطْلَاقِ السَّرِقَةِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي الْمُبْدَلُ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مُنْفَرِدًا بِهِ، فَيَسْرِقُهُ الْفَاعِلُ مِنْهُ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ كَرِهَ أَهْلُ الْحَدِيثِ تَتَبُّعَ الْغَرَائِبِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَمِنْهُ) وَهُوَ ثَانِي قِسْمَيِ الْعَمْدِ (قَلْبُ سَنَدٍ) تَامٍّ (لِمَتْنٍ) فَيُجْعَلُ لِمَتْنٍ آخَرَ مَرْوِيٍّ بِسَنَدٍ آخَرَ بِقَصْدِ امْتِحَانِ حِفْظِ الْمُحَدِّثِ وَاخْتِبَارِهِ، هَلِ اخْتَلَطَ أَمْ لَا؟ كَمَا اتَّفَقَ لَهُمْ مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ الْهُجَيْمِيِّ حِينَ جَازَ الْمِائَةَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آدَابِ الْمُحَدِّثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَلْ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ الَّذِي هُوَ قَبُولُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ ; كَالصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ إِنْ وَافَقَ عَلَى الْقَلْبِ فَغَيْرُ حَافِظٍ أَوْ مُخْتَلِطٌ، أَوْ خَالَفَ فَضَابِطٌ. [امْتِحَانُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ] : (نَحْوُ امْتِحَانِهِمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ بِبَغْدَادَ (إِمَامَ الْفَنِّ) وَشَيْخَ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيَّ، صَاحِبَ الصَّحِيحِ، (فِي مِائَةٍ) مِنَ الْحَدِيثِ (لَمَّا أَتَى) إِلَيْهِمْ (بَغْدَادَا) بِالْمُهْمَلَةِ آخِرُهُ عَلَى إِحْدَى اللُّغَاتِ ; حَيْثُ اجْتَمَعُوا عَلَى تَقْلِيبِ مُتُونِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَصَيَّرُوا مَتْنَ هَذَا السَّنَدِ لِسَنَدٍ آخَرَ، وَسَنَدَ هَذَا الْمَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، وَانْتَخَبُوا عَشْرَةً مِنَ الرِّجَالِ، فَدَفَعُوا لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْهَا عَشْرَةً، وَتَوَاعَدُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْحُضُورِ لِمَجْلِسِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ أَحَادِيثَهُ بِحَضْرَتِهِمْ. فَلَمَّا حَضَرُوا وَاطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ بِأَهْلِهِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْغُرَبَاءِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَحَادِيثِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ لَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا: لَا أَعْرِفُهُ. وَفَعَلَ الثَّانِي كَذَلِكَ إِلَى أَنِ اسْتَوْفَى الْعَشَرَةَ الْمِائَةَ، وَهُوَ لَا يَزِيدُ فِي كُلٍّ مِنْهَا عَلَى قَوْلِهِ: لَا أَعْرِفُهُ، فَكَانَ الْفُهَمَاءُ مِمَّنْ حَضَرَ يَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُونَ: فَهِمَ الرَّجُلُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ وَقِلَّةِ الْفَهْمِ ; لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ لِمُقْتَضَى عَدَمِ تَمْيِيزِهِ لَمْ يَعْرِفْ وَاحِدًا مِنْ مِائَةٍ. وَلَمَّا فَهِمَ الْبُخَارِيُّ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 انْتِهَاءَهُمْ مِنْ مَسْأَلَتِهِمُ، الْتَفَتَ لِلسَّائِلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَهُ: سَأَلْتَ عَنْ حَدِيثِ كَذَا وَصَوَابُهُ كَذَا، إِلَى آخِرِ أَحَادِيثِهِ، وَهَكَذَا الْبَاقِي (فَرَدَّهَا) أَيِ: الْمِائَةَ إِلَى حُكْمِهَا الْمُعْتَبَرِ قَبْلَ الْقَلْبِ (وَجَوَّدَ الْإِسْنَادَا) وَلَمْ يَرُجْ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ مِمَّا قَلَبُوهُ وَرَكَّبُوهُ، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالْحِفْظِ، وَعَظُمَ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَعَرَفُوا مَنْزِلَتَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَذْعَنُوا لَهُ. رُوِّينَاهَا فِي مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ لِأَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ عِدَّةَ مَشَايِخَ يَحْكُونَ، وَذَكَرَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ رَوَاهَا الْخَطِيبُ فِي تَأْرِيخِهِ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَضُرُّ جَهَالَةُ شُيُوخِ ابْنِ عَدِيٍّ فِيهَا ; فَإِنَّهُمْ عَدَدٌ يَنْجَبِرُ بِهِ جَهَالَتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ لَهَا، وَتَيَقُّظِهِ لِتَمَيُّزِ صَوَابِهَا مِنْ خَطَئِهَا ; لِأَنَّهُ فِي الْحِفْظِ بِمَكَانٍ، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حِفْظِهِ لِتَوَالِيهَا ; كَمَا أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ قَالَ الْعِجْلِيُّ: مَا خَلَقَ اللَّهُ أَحَدًا كَانَ أَعْرِفَ بِالْحَدِيثِ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ، لَقَدْ كَانَ يُؤْتَى بِالْأَحَادِيثِ قَدْ خُلِطَتْ وَقُلِبَتْ، فَيَقُولُ: هَذَا كَذَا، وَهَذَا كَذَا، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ. فِي تَرْجَمَةِ الْعُقَيْلِيِّ مِنَ (الصِّلَةِ) لِمَسْلَمَةَ بْنِ قَاسِمٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُخْرِجُ أَصْلَهُ لِمَنْ يَجِيئُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، بَلْ يَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ فِي كِتَابِكَ فَأَنْكَرْنَا - أَهْلَ الْحَدِيثِ - ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا عَلَيْهِ، وَقُلْنَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَكْذَبِهِمْ. ثُمَّ عَمَدْنَا إِلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَتِهِ بَعْدَ أَنْ بَدَّلْنَا مِنْهَا أَلْفَاظًا، وَزِدْنَا فِيهَا أَلْفَاظًا، وَتَرَكْنَا مِنْهَا أَحَادِيثَ صَحِيحَةً، وَأَتَيْنَاهُ بِهَا وَالْتَمَسْنَا مِنْهُ سَمَاعَهَا، فَقَالَ لِي: اقْرَأْ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَطِنَ وَأَخَذَ فِي الْكِتَابِ فَأَلْحَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فِيهِ بِخَطِّهِ النَّقْصَ، وَضَرَبَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَصَحَّحَهَا كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْنَا فَانْصَرَفْنَا وَقَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْقُصَّاصَ لَا يَحْفَظُونَ الْحَدِيثَ، فَكُنْتُ أَقْلِبُ عَلَى ثَابِتٍ الْحَدِيثَ، أَجْعَلُ أَنَسًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى لِأَنَسٍ أُشَوِّشُهَا عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ بِهَا عَلَى الِاسْتِوَاءِ. وَحَكَى الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: أَتَى صَاحِبُنَا ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي عَلَى الْمِزِّيِّ، فَقَالَ لَهُ: انْتَخَبْتُ مِنْ رِوَايَتِكَ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا أُرِيدُ قِرَاءَتَهَا عَلَيْكَ، فَقَرَأَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، وَكَانَ الشَّيْخُ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الثَّانِي تَبَسَّمَ، وَقَالَ: مَا هُوَ أَنَا، ذَاكَ الْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا عِنْدَنَا أَحْسَنَ مِنْ رَدِّهِ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى سَنَدِهِ. وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الدُّوَانِيُّ: اجْتَمَعْتُ بِالْأَمِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ مَاكُولَا، فَقَالَ لِي: خُذْ جُزْأَيْنِ مِنَ الْحَدِيثِ وَاجْعَلْ مَتْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي هَذَا الْجُزْءِ عَلَى إِسْنَادِ الَّذِي فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، حَتَّى أَرُدَّهُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ. وَرُبَّمَا يُقْصَدُ بِقَلْبِ السَّنَدِ كُلِّهِ الْإِغْرَابَ أَيْضًا ; إِذْ لَا انْحِصَارَ لَهُ فِي الرَّاوِي الْوَاحِدِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ الِامْتِحَانُ بِقَلْبِ رَاوٍ وَاحِدٍ. [حُكْمُ الْقَلْبِ لِلِامْتِحَانِ] : وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ فَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ سِوَى مَنْ حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَشُعْبَةُ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ حَرَمِيٌّ لَمَّا حَدَّثَهُ بَهْزٌ أَنَّهُ قَلَبَ أَحَادِيثَ عَلَى أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: يَا بِئْسَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 صَنَعَ، وَهَذَا يَحِلُّ؟ وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ - كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا -: لَا أَسْتَحِلُّهُ، وَكَأَنَّهُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ تَغْلِيظِ مَنْ يَمْتَحِنُهُ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى رِوَايَتِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَقَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ فَيَرْوِيهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ صَوَابٌ. وَاشْتَدَّ غَضَبُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرُوِّينَا فِي الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ لِلرَّامَهُرْمُزِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، وَبِهَا ابْنُ عَجْلَانَ، وَبِهَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ مَلِيحُ بْنُ الْجَرَّاحِ أَخُو وَكِيعٍ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَيُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، فَكُنَّا نَأْتِي ابْنَ عَجْلَانَ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَلُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِ حَدِيثَهُ حَتَّى نَنْظُرَ فَهْمَهُ. قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمَا كَانَ عَنْ أَبِيهِ جَعَلُوهُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَمَا كَانَ عَنْ سَعِيدٍ جَعَلُوهُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ يَحْيَى: فَقُلْتُ لَهُمْ: لَا أَسْتَحِلُّ هَذَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَعْطُوهُ الْجُزْءَ فَمَرَّ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ آخِرِ الْكِتَابِ انْتَبَهَ، فَقَالَ أَعِدْ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا كَانَ عَنْ أَبِي فَهُوَ عَنْ سَعِيدٍ، وَمَا كَانَ عَنْ سَعِيدٍ فَهُوَ عَنْ أَبِي. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى يُوسُفَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ شَيْنِي وَعَيْبِي فَسَلَبَكَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَقَالَ لِحَفْصٍ: فَابْتَلَاكَ اللَّهُ فِي دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَقَالَ لِمَلِيحٍ: لَا نَفَعَكَ اللَّهُ بِعِلْمِكَ. قَالَ يَحْيَى: فَمَاتَ مَلِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِعِلْمِهِ، وَابْتُلِيَ حَفْصٌ فِي بَدَنِهِ بِالْفَالِجِ وَفِي دِينِهِ بِالْقَضَاءِ، وَلَمْ يَمُتْ يُوسُفُ حَتَّى اتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ. وَكَذَا اشْتَدَّ غَضَبُ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمَنْصُورِ الرَّمَادِيُّ: خَرَجْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْدُمُهُمَا، فَلَمَّا عُدْنَا إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ يَحْيَى لِأَحْمَدَ: أُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِرَ أَبَا نُعَيْمٍ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: لَا تَفْعَلْ، الرَّجُلُ ثِقَةٌ، فَقَالَ: لَا بُدَّ لِي. فَأَخَذَ وَرَقَةً فَكَتَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فِيهَا ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ مِنْهَا حَدِيثًا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ، فَخَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخْرَجَ يَحْيَى الطَّبَقَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ عَشْرَةً، ثُمَّ قَرَأَ الْحَادِي عَشَرَ، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، اضْرِبْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ الْعَشَرَ الثَّانِيَ وَأَبُو نُعَيْمٍ سَاكِتٌ، فَقَرَأَ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ: فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، اضْرِبْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ الْعَشَرَ الثَّالِثَ، وَقَرَأَ الْحَدِيثَ الثَّالِثَ، فَانْقَلَبَتْ عَيْنَاهُ وَأَقْبَلَ عَلَى يَحْيَى فَقَالَ: أَمَّا هَذَا - وَذِرَاعُ أَحْمَدَ فِي يَدِهِ - فَأَوْرَعُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَأَمَّا هَذَا، يُرِيدُنِي، فَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِكَ يَا فَاعِلُ! ثُمَّ أَخْرَجَ رِجْلَهُ فَرَفَسَهُ فَرَمَى بِهِ، وَقَامَ فَدَخَلَ دَارَهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ لِيَحْيَى: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّهُ ثَبْتٌ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَرَفْسَتُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سُفْرَتِي. وَقَالَ الشَّارِحُ: وَفِي جَوَازِهِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَسْتَقِرُّ حَدِيثًا. قُلْتُ: إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ مَصْلَحَتَهُ - أَيِ: الَّتِي مِنْهَا مَعْرِفَةُ رُتْبَتِهِ فِي الضَّبْطِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ - أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، قَالَ: وَشَرْطُهُ - أَيِ: الْجَوَازِ، أَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ، بَلْ يَنْتَهِيَ بِانْتِهَاءِ الْحَاجَةِ. [قَلْبُ السَّنَدِ سَهْوًا وَأَمْثِلَتُهُ] [قَلْبُ السَّنَدِ سَهْوًا وَأَمْثِلَتُهُ] : وَالْقِسْمُ الثَّانِي (قَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ) قَلْبَهُ، بَلْ وَقَعَ الْقَلْبُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَالْوَهْمِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ (نَحْوُ) حَدِيثِ: ( «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» . فَإِنَّهُ (حَدَّثَهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ (فِي مَجْلِسِ) أَبِي مُحَمَّدٍ ثَابِتِ بْنِ أَسْلَمَ الْبَصْرِيِّ (الْبُنَانِيِّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ نِسْبَةً لِمَحِلَّةٍ بِالْبَصْرَةِ عُرِفَ بِبُنَانَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لُؤَيٍّ (حَجَّاجٌ أَعْنِي) بِالنَّقْلِ وَالتَّنْوِينِ (ابْنَ أَبِي عُثْمَانِ) بِالصَّرْفِ، هُوَ الصَّوَّافُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 (فَظَنَّهُ) أَيِ الْحَدِيثَ (عَنْ ثَابِتٍ) أَبُو النَّضْرِ (جَرِيرُ) بْنُ حَازِمٍ، وَرَوَاهُ جَرِيرٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّنِّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، كَمَا (بَيَّنَهُ حَمَّادٌ) وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ (الضَّرِيرُ) فِيمَا وَصَفَهُ بِهِ ابْنُ مَنْجَوَيْهِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ مِمَّا طَرَأَ عَلَيْهِ، لِمَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ إِنْسَانًا سَأَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَكَانَ حَمَّادٌ أُمِّيًّا؟ فَقَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَكْتُبُ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ لِيَجِفَّ. وَالرَّاوِي عَنْ حَمَّادٍ لَمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَطِ جَرِيرٍ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطِّبَاعِ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْعِلَلِ عَنْهُ، وَكَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الْمَدْخَلِ، وَيَحْيَى بْنِ حَسَّانَ كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ كِلَاهُمَا، وَاللَّفْظُ لِأَوَّلِهِمَا. عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَرِيرٌ عِنْدَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَ حَجَّاجٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَعْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ، فَظَنَّ جَرِيرٌ أَنَّهُ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، يَعْنِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ بَعْدَ نُزُولِ الْإِمَامِ مِنَ الْمِنْبَرِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ (جَامِعِهِ) ، وَيُرْوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، وَذَكَرَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وَكَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ، وَعَنْ كُلِّ ذِي نُهْبَةٍ، وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ، رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ الْإِفْرِيقِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ سَعِيدٌ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَسَمِعَهُ أَصْحَابُ سَعِيدٍ مِنْهُ. قَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنَ الْمُنْبَعِثِ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ الضَّبُعِ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: ثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَنَحْوُهُ أَنَّ ابْنَ عَجْلَانَ رَوَى عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» . فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّهُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا» وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ حَاضِرًا، فَحَدَّثَهُمْ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ بِحَدِيثِ: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةَ» ، فَسَمِعَهُمَا سُهَيْلٌ مِنْهُمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالتَّأْخِيرِ ; كَمُرَّةَ بْنَ كَعْبٍ فَيَجْعَلُهُ كَعْبَ بْنَ مُرَّةَ، وَمُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ فَيَجْعَلُهُ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ كَوْنُ اسْمِ أَحَدِهِمَا اسْمَ أَبِي الْآخَرِ، وَقَدْ صَنَّفَ كُلٌّ مِنَ الْخَطِيبِ وَشَيْخِنَا فِي هَذَا الْقِسْمِ خَاصَّةً. [كِتَابَا الْخَطِيبِ وَابْنِ حَجَرٍ عَنِ الْمَقْلُوبِ] : فَأَمَّا الْخَطِيبُ فَفِيمَا كَانَ مِنْ نَمَطِ الْمِثَالِ الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَسَمَّاهُ (رَافِعَ الِارْتِيَابِ فِي الْمَقْلُوبِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ) ، وَهُوَ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ، وَأَمَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ أَفْرَدَ مِنْ عِلَلِ الدَّارَقُطْنِيِّ مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا كَانَ مِنْ نَمَطِ الْمَثَّالَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَسَمَّاهُ (جَلَاءَ الْقُلُوبِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقْلُوبِ) . وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَنْ أَفْرَدَهُ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; بِحَيْثُ أَدَّى الْإِخْلَالُ بِهِ إِلَى عَدِّ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ أَحَادِيثَ إِذَا وَقَعَ الْقَلْبُ فِي الصَّحَابِيِّ، وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ، فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ، حَيْثُ يُقَالُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَيَكُونُ الْوَاقِعُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ اخْتُلِفَ عَلَى رَاوِيهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ يُبَالِغُ فِي عَيْبِ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، فَرُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ» . فَقُلْتُ لَهُ: تَعِسْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - أَيْ: عَثَرْتَ - فَقَالَ: كَيْفَ هُوَ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عِظَمِ دِينِ الثَّوْرِيِّ وَتَوَاضُعِهِ وَإِنْصَافِهِ، وَعَلَى قُوَّةِ حَافِظَةِ تِلْمِيذِهِ الْقَطَّانِ وَجُرْأَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ حَتَّى خَاطَبَهُ بِذَلِكَ، وَنَبَّهَهُ عَلَى عُثُورِهِ حَيْثُ سَلَكَ الْجَادَّةَ ; لِأَنَّ جُلَّ رِوَايَةِ نَافِعٍ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَكَانَ قَوْلُ الَّذِي يَسْلُكُ غَيْرَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 إِذَا كَانَ ضَابِطًا أَرْجَحَ. وَكَذَا خَطَّأَ يَحْيَى الْقَطَّانُ شُعْبَةَ حَيْثُ حَدَّثُوهُ بِحَدِيثِ: «لَا يَجِدُ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَلَا يَتَأَتَّى لِيَحْيَى أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شُعْبَةَ بِالْخَطَأِ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ فِي غَيْرِ رِوَايَتِهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَسْتَرْوِحُ فَيَقُولُ مَثَلًا: يُحْتَمِلُ يَكُونُ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَحَدَّثَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، إِلَّا أَنْ جَاءَتْ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَارِثِ يَجْمَعُهُمَا، وَمَدَارُ الْأَمْرِ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الْفَنِّ عَلَى مَا يَقْوَى فِي الظَّنِّ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ فَلَا تَعْوِيلَ عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. مَعَ زِيَادَةٍ وَحَذْفٍ، وَاخْتَارَ فِي تَسْمِيَةِ قِسْمَيِ الْعَمْدِ الْإِبْدَالَ لَا الْقَلْبَ. وَأَمَّا ابْنُ الْجَزَرِيِّ فَقَالَ فِي الثَّانِي: إِنَّهُ عِنْدِي بِالْمُرَكَّبِ أَشْبَهُ، وَجَعَلَهُ نَوْعًا مُسْتَقِلًا. [قَلْبُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهُ] [قَلْبُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهُ] وَأَمَّا قَلْبُ الْمَتْنِ فَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مَا اشْتُهِرَ لِلْآخَرِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ فَيَنْقَلِبُ بَعْضُ لَفْظِهِ عَلَى الرَّاوِي، فَيَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ وَرُبَّمَا انْعَكَسَ، وَجَعَلَهُ نَوْعًا مُسْتَقِلًا سَمَّاهُ الْمُنْقَلِبَ، فَاجْتَمَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَقْسَامٌ. وَأَمْثِلَتُهُ فِي الْمَتْنِ قَلِيلَةٌ ; كَحَدِيثِ: «حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» ; فَإِنَّهُ جَاءَ مَقْلُوبًا بِلَفْظِ: «حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» . وَمَا اعْتَنَى بِجَمْعِهَا، بَلْ وَلَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الْجَلَالُ بْنُ الْبَلْقِينِيِّ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَنَظَمَهَا فِي أَبْيَاتٍ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ تَبَعًا لِمَحَاسِنِ وَالِدِهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - حَدِيثُ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلَالٌ» فَهُوَ مَقْلُوبٌ ; إِذِ الصَّحِيحُ فِي لَفْظِهِ عَنْ عَائِشَةَ: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ» الْحَدِيثَ. وَكَذَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَرْتَضِ الْبَلْقِينِيُّ جَمْعَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بَيْنَهُمَا، بِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَعَلَ أَذَانَ اللَّيْلِ نُوَبًا بَيْنَهُمَا، فَجَاءَ الْخِبْرَانِ عَلَى حَسَبِ الْحَالَيْنِ، وَإِنْ تَابَعَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَلَيْهِ، بَلْ بَالَغَ فَجَزَمَ بِهِ. وَقَالَ الْبَلْقِينِيُّ: إِنَّهُ بَعِيدٌ، وَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ التَّأْوِيلِ، لَانْدَفَعَ كَثِيرٌ مِنْ عِلَلِ الْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا شَيْخُنَا فَمَالَ إِلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمَحْفُوظُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ [وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ] ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ( «ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ» ) . فَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مُعْتَمَدَةٍ قَدِيمَةٍ جِدًّا مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِلَفْظِ: (مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، مُسْتَدْبِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الشَّامِ) ; رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ وُهَيْبٍ، وَهُوَ مَقْلُوبٌ. قَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: (مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ) كَالْجَادَّةِ، فَانْحَصَرَ فِي الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ أَوِ ابْنِ حِبَّانَ. [تَنْبِيهَاتٌ] 249 - وَإِنْ تَجِدْ مَتْنًا ضَعِيفَ السَّنَدِ ... فَقُلْ: ضَعِيفٌ أَيْ بِهَذَا فَاقْصِدِ 250 - وَلَا تُضَعِّفْ مُطْلَقًا بِنَاءً ... عَلَى الطَّرِيقِ إِذْ لَعَلَّ جَاءَ 251 - بِسَنَدٍ مُجَوَّدٍ بَلْ يَقِفُ ... ذَاكَ عَلَى حُكْمِ إِمَامٍ يَصِفُ 252 - بَيَانَ ضَعْفِهِ فَإِنْ أَطْلَقَهُ ... فَالشَّيْخُ فِيمَا بَعْدَهُ حَقَّقَهُ 253 - وَإِنْ تُرِدْ نَقْلًا لِوَاهٍ أَوْ لِمَا ... يُشَكُّ فِيهِ لَا بِإِسْنَادِهِمَا 254 - فَأْتِ بِتَمْرِيضٍ كَيُرْوَى ... وَاجْزِمِ بِنَقْلِ مَا صَحَّ كَقَالَ فَاعْلَمِ 255 - وَسَهَّلُوا فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ رَوَوْا ... مِنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ وَرَأَوْا 256 - بَيَانَهُ فِي الْحُكْمِ وَالْعَقَائِدِ ... عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِ وَاحِدِ. تَنْبِيهَاتٌ: ثَلَاثَةٌ، إِرْدَافُ أَنْوَاعِ الضَّعِيفِ بِهَا مُنَاسِبٌ، كَمَا أَرْدَفَ الصَّحِيحَ وَالْحَسَنَ بِمَا يُنَاسِبُهُمَا، لَكِنْ كَانَ جَمْعُ أُولَيْهِمَا بِمَكَانٍ وَاحِدٍ ; لِكَوْنِهِمَا كَالْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْسَبَ. أَحَدُهَا: (وَإِنْ تَجِدْ مَتْنًا) أَيْ: حَدِيثًا (ضَعِيفَ السَّنَدِ فَقُلْ) فِيهِ: هُوَ (ضَعِيفٌ أَيْ: بِهَذَا) السَّنَدِ بِخُصُوصِهِ (فَاقْصِدْ) أَيِ: انْوِ ذَاكَ، فَإِنْ صَرَّحْتَ بِهِ فَأَوْلَى (وَلَا تُضَعِّفْ) ذَلِكَ الْمَتْنَ (مُطْلَقًا بِنَاءَ) بِالْمَدِّ (عَلَى) ضَعْفِ ذَاكَ (الطَّرِيقِ إِذْ لَعَلَّـ) ـهُ (جَاءَ) بِالْمَدِّ أَيْضًا (بِسَنَدٍ) آخَرَ (مُجَوَّدٍ) يَثْبُتُ الْمَتْنُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا. (بَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 يَقِفُ) جَوَازُ (ذَاكَ) أَيِ: الْإِطْلَاقِ (عَلَى حُكْمِ إِمَامٍ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، صَحِيحِ الِاطِّلَاعِ، مُعْتَبَرِ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّتَبُّعِ (يَصِفُ بَيَانَ) وَجْهِ (ضَعْفِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ يَثْبُتُ هَذَا الْمَتْنُ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ بِشُذُوذٍ أَوْ نَكَارَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. (فَإِنْ أَطْلَقَهُ) أَيْ: أَطْلَقَ ذَاكَ الْإِمَامُ الضَّعِيفُ (فَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (فِيمَا بَعْدَهُ) بِيَسِيرٍ، ذَيَّلَ مَسْأَلَةَ كَوْنِ الْجَرْحِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَسَّرًا قَدْ (حَقَّقَهُ) . ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْحَصْ عَنِ الطُّرُقِ وَيَبْحَثْ عَنْهَا، أَوْ مُطْلَقًا كَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَشَى عَلَى أَصْلِهِ فِي تَعَذُّرِ اسْتِقْلَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيثِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَافِظُ الْمُتَأَهِّلُ الْجُهْدَ، وَبَذَلَ الْوُسْعَ فِي التَّفْتِيشِ عَلَى ذَلِكَ الْمَتْنِ مِنْ مَظَانِّهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الضَّعِيفَةِ - سَاغَ لَهُ الْحُكْمُ بِالضَّعْفِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ، وَكَذَا إِذَا وُجِدَ جَزْمُ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ رَاوِيَهُ الْفُلَانِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ، وَعَرَفَ الْمُتَأَخِّرُ أَنَّ ذَاكَ الْمُتَفَرِّدَ قَدْ ضُعِّفَ بِقَادِحٍ أَيْضًا. وَوَرَاءَ هَذَا أَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَكْفِي فِي الْمُنَاظَرَةِ تَضْعِيفُ الطَّرِيقِ الَّتِي أَبْدَاهَا الْمَنَاظِرُ وَيَنْقَطِعُ ; إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. ثَانِيهَا: (وَإِنْ تُرِدْ نَقْلًا لِـ) حَدِيثٍ (وَاهٍ) يَعْنِي ضَعِيفًا، قَلَّ الضَّعْفُ أَوْ كَثُرَ، مَا لَمْ يَبْلُغِ الْوَضْعَ (أَوْ لَمَا يُشَكُّ) مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ (فِيهِ) أَصَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ، إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي رَاوِيهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، (لَا بِـ) إِبْرَازِ (إِسْنَادِهِمَا) أَيِ: الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَالْمَجْزُومِ بِهِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ إِضَافَتِهِمَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِلَى الصَّحَابِيِّ، أَوْ مَنْ دُونَهُ ; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بِحَيْثُ يَشْمَلُ الْمُعَلَّقَ. (فَأْتِ بِتَمْرِيضٍ كَيُرْوَى) وَيُذْكَرُ وَبَلَغَنَا وَرَوَى بَعْضُهُمْ، وَنَحْوِهَا مِنْ صِيَغِ التَّمْرِيضِ الَّتِي اكْتُفِيَ بِهَا عَنِ التَّصْرِيحِ بِالضَّعْفِ، وَلَا تَجْزِمْ بِنَقْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْوَعِيدِ، وَاحْتِيَاطًا، فَإِنْ سُقْتَ إِسْنَادَهُمَا فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِمَّا بَعْدَهُ (وَاجْزِمْ) فِيمَا تُورِدُهُ لَا بِسَنَدٍ (بِنَقْلِ مَا صَحَّ) بِالصِّيَغِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَزْمِ. (كَقَالَ) وَنَحْوِهَا (فَاعْلَمِ) ذَلِكَ وَلَا تَنْقُلْهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَاسْتَحْضِرْ مَا أَسْلَفْتُهُ لَكَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ. ثَالِثُهَا: (وَسَهَّلُوا فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ رَوَوْا) حَيْثُ اقْتَصَرُوا عَلَى سِيَاقِ إِسْنَادِهِ (مِنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ) ، لَكِنْ فِيمَا يَكُونُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْقِصَصِ، وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ خَاصَّةً (وَرَأَوْا بَيَانَهُ) وَعَدَمَ التَّسَاهُلِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ سَاقُوا إِسْنَادَهُ (فِي) أَحَادِيثَ (الْحُكْمِ) الشَّرْعِيِّ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَغَيْرِهِمَا. (وَ) كَذَا فِي الْعَقَائِدِ كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجُوزُ لَهُ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَا كَانَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ إِذَا رَوَى حَدِيثًا ضَعِيفًا قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَرُبَّمَا قَالَ هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ: إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ. وَهَذَا التَّسَاهُلُ وَالتَّشْدِيدُ مَنْقُولٌ (عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ (وَغَيْرِ وَاحِدٍ) مِنَ الْأَئِمَّةِ ; كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالسُّفْيَانَيْنِ ; بِحَيْثُ عَقَدَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي مُقَدِّمَةِ (كَامِلِهِ) ، وَالْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ لِذَلِكَ بَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " أَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ ". وَقَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيَّ يَقُولُ: " الْخَبَرُ إِذَا وَرَدَ لَمْ يُحَرِّمْ حَلَالًا، وَلَمْ يُحِلَّ حَرَامًا، وَلَمْ يُوجِبْ حُكْمًا، وَكَانَ فِي تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ أَغْمِضْ عَنْهُ، وَتَسَهَّلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فِي رُوَاتِهِ. وَلَفْظُ ابْنِ مَهْدِيٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ: (إِذَا رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَحْكَامِ، شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ وَانْتَقَدْنَا فِي الرِّجَالِ، وَإِذَا رُوِّينَا فِي الْفَضَائِلِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، سَهَّلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ وَتَسَامَحْنَا فِي الرِّجَالِ) . وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ عَنْهُ: (الْأَحَادِيثُ الرَّقَائِقُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُتَسَاهَلَ فِيهَا حَتَّى يَجِيءَ شَيْءٌ فِيهِ حُكْمٌ) . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْهُ: (ابْنُ إِسْحَاقَ رَجُلٌ تُكْتَبُ عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ - يَعْنِي: الْمَغَازِي - وَنَحْوَهَا، وَإِذَا جَاءَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَرَدْنَا قَوْمًا هَكَذَا، وَقَبَضَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ الْأَرْبَعَ) . لَكِنَّهُ احْتَجَّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالضَّعِيفِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ، وَتَبِعَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَدَّمَاهُ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَيُقَالُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ذَلِكَ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا سَلَفَ كُلُّ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْحَسَنِ. وَكَذَا إِذَا تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الضَّعِيفَ بِالْقَبُولِ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ فِي أَنَّهُ يَنْسَخُ الْمَقْطُوعَ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» : إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ احْتِيَاطٍ كَمَا إِذَا وَرَدَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِكَرَاهَةِ بَعْضِ الْبُيُوعِ أَوِ الْأَنْكِحَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ - أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ، وَمَنَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ مُطْلَقًا. وَلَكِنْ قَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي عِدَّةٍ مِنْ تَصَانِيفِهِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا خَاصَّةً. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَفَادَ شَيْخُنَا أَنَّ مَحَلَّ الْأَخِيرِ مِنْهَا حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الضَّعْفُ شَدِيدًا، وَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ ; حَيْثُ لَمْ يَقُمْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ دَلِيلٌ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَلَمْ يُعْتَقَدْ عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ ثُبُوتُهُ، كَمَا بَسَطْتُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 [مَعْرِفَةُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ] [ من هو مقبول الرواية ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعْرِفَةُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ 257 - أَجْمَعَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْأَثَرْ ... وَالْفِقْهِ فِي قَبُولِ نَاقِلِ الْخَبَرْ 258 - بِأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا مُعَدَّلًا ... أَيْ يَقِظًا وَلَمْ يَكُنْ مُغَفَّلًا 259 - يَحْفَظُ إِنْ حَدَّثَ حِفْظًا يَحْوِي ... كِتَابَهُ إِنْ كَانَ مِنْهُ يَرْوِي 260 - يَعْلَمُ مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ إِحَالَهْ ... إِنْ يَرْوِ بِالْمَعْنَى وَفِي الْعَدَالَهْ 261 - بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ذَا عَقْلِ ... قَدْ بَلَغَ الْحُلْمَ سَلِيمَ الْفِعْلِ 262 - مِنْ فِسْقٍ أَوْ خَرْمِ مُرُوءَةٍ وَمَنْ ... زَكَّاهُ عَدْلَانِ فَعَدْلٌ مُؤْتَمَنْ (مَعْرِفَةُ) صِفَةُ (مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ) مِنْ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ (وَمَنْ تُرَدُّ) ، وَمَا الْتَحَقَ بِذَلِكَ [سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبُولِ الضَّعِيفِ إِذَا اعْتُضِدَ، وَالْمُدَلِّسِ إِذَا صَرَّحَ، وَمَا سَيَأْتِي مِنْ قَبُولِ الْمُتَحَمِّلِ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ، وَالْأَعْمَى وَنَحْوِهِ، وَالْمُخْتَلِطِ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ] ، وَذِكْرُهُ بَعْدَ مَبَاحِثِ الْمَتْنِ وَمَا الْتَحَقَ بِهِ مُنَاسِبٌ، وَفِيهِ فُصُولٌ: [مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ] : الْأَوَّلُ: (أَجْمَعَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْأَثَرْ) أَيِ: الْحَدِيثِ (وَالْفِقْهِ) وَالْأُصُولِ (فِي) أَيْ: عَلَى (قَبُولِ نَاقِلِ الْخَبَرْ) أَيِ: الْحَدِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهِ بِانْفِرَادِهِ ; لِيَخْرُجَ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ، بِشَرْطِ (أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا مُعَدَّلًا) أَيْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شُرُوطٌ: [شُرُوطُ الضَّبْطِ] [شُرُوطُ الضَّبْطِ] : فَأَمَّا شُرُوطُ أَوَّلِهِمَا الَّذِي تَنْكِيرُهُ شَمِلَ التَّامَّ وَالْقَاصِرَ، فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي (يَقِظًا) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا (وَ) ذَلِكَ بِأَنْ (لَمْ يَكُنْ مُغَفَّلًا) لَا يُمَيِّزُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ ; كَالنَّائِمِ وَالسَّاهِي ; إِذِ الْمُتَّصِفُ بِهَا لَا يَحْصُلُ الرُّكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا تَمِيلُ النَّفْسُ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ (يَحْفَظُ) أَيْ: يُثْبِتُ مَا سَمِعَهُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 حِفْظِهِ بِحَيْثُ يَبْعُدُ زَوَالُهُ عَنِ الْقُوَّةِ الْحَافِظَةِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنَ اسْتِحْضَارِهِ مَتَى شَاءَ. (إِنْ حَدَّثَ حِفْظًا) أَيْ: مِنْ حِفْظِهِ (وَيَحْوِي كِتَابَهُ) أَيْ: يَحْتَوِي عَلَيْهِ [بِنَفْسِهِ أَوْ بِثِقَةٍ] ، وَيَصُونُهُ عَنْ تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ وَالتَّغْيِيرِ إِلَيْهِ، مِنْ حِينِ سَمِعَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ (إِنْ كَانَ مِنْهُ يَرْوِي) ، وَأَنْ يَكُونَ (يَعْلَمُ مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ إِحَالَهْ) ، بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مِنْ تَغْيِيرِ مَا يَرْوِيهِ (إِنْ يَرْوِ بِالْمَعْنَى) وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ بِحُرُوفِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ صَرِيحًا إِلَّا الْأَوَّلَ، فَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ " لِقَوْلِ ابْنِ حِبَّانَ: " هُوَ أَنْ يَعْقِلَ مِنْ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ مَا لَا يَرْفَعُ مَوْقُوفًا، وَلَا يَصِلُ مُرْسَلًا، أَوْ يُصَحِّفُ اسْمًا، فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْيَقَظَةِ ". وَقَدْ ضَبَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ الضَّبْطَ فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِهِ [بِمَا لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهِ] فَقَالَ: " هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ احْتِيَاطٍ فِي بَابِ الْعِلْمِ، وَلَهُ طَرَفَانِ: الْعِلْمُ عِنْدَ السَّمَاعِ، وَالْحِفْظُ بَعْدَ الْعِلْمِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، حَتَّى إِذَا سَمِعَ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، كَمَا لَوْ سَمِعَ صِيَاحًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمِ اللَّفْظَ بِمَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ ضَبْطًا، وَإِذَا شَكَّ فِي حِفْظِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ لَمْ يَكُنْ ضَبْطًا ". [نَوْعَا الضَّبْطِ] [نَوْعَا الضَّبْطِ] قَالَ: " ثُمَّ الضَّبْطُ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَالظَّاهِرُ ضَبْطُ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَالْبَاطِنُ ضَبْطُ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِهِ، وَهُوَ الْفِقْهُ، وَمُطْلَقُ الضَّبْطِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الرَّاوِي هُوَ الضَّبْطُ ظَاهِرًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 نَقْلُ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى، فَيَلْحَقُهُ تُهْمَةُ تَبْدِيلِ الْمَعْنَى بِرِوَايَتِهِ قَبْلَ الْحِفْظِ، أَوْ قَبْلَ الْعِلْمِ حِينَ سَمِعَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَلَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ; لِتَعَذُّرِ هَذَا الْمَعْنَى ". قَالَ: " وَهَذَا الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ قَلَّمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي حَقِّ الطِّفْلِ دُونَ الْمُغَفَّلِ ; فَإِنَّهُ مَتَى صَحَّ عِنْدَهُمْ سَمَاعُ الطِّفْلِ أَوْ حُضُورُهُ أَجَازُوا رِوَايَتَهُ. وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ لِلدِّينِ وَأَوْلَى " انْتَهَى. [وَحَاصِلُهُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ سَمَاعِهِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ تَامًّا] ، فَيَخْرُجُ مَنْ سَمِعَ صَوْتَ غَفْلٍ، وَكَوْنُهُ حِينَ التَّأْدِيَةِ عَارِفًا بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا انْحِصَارَ لَهُ فِي الثَّانِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِاكْتِفَائِهِمْ بِضَبْطِ كِتَابِهِ، وَلَا فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ خَاصَّةً ; لِاعْتِدَادِهِمْ بِسَمَاعِ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّ أَصْلًا كَمَا سَيَأْتِي كُلُّ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: " لِتَعَذُّرِ هَذَا الْمَعْنَى " ; أَيْ: عِنْدَ ذَاكَ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ ; لِخَوْفِهِ مِنْ عَدَمِ حِفْظِهِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي الْإِتْيَانِ بِكُلِّ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَوَرُّعٌ وَاحْتِيَاطٌ، وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأْخُذُهُ الرَّعْدَةُ إِذَا رَوَى، وَيَقُولُ: وَنَحْوَ ذَا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ] . [شُرُوطُ الْعَدَالَةِ] [شُرُوطُ الْعَدَالَةِ] (وَ) أَمَّا الشُّرُوطُ (فِي الْعَدَالَةِ) [الْمُتَّصِفُ بِهَا الْمُعَدَّلُ] ، وَضَابِطُهَا إِجْمَالًا أَنَّهَا مَلَكَةٌ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى اجْتِنَابُ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ مِنْ شِرْكٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، فَهِيَ خَمْسَةٌ (بِأَنْ) أَيْ: أَنْ (يَكُونَ مُسْلِمًا) بِالْإِجْمَاعِ (ذَا عَقْلٍ) ، فَلَا يَكُونُ مَجْنُونًا، سَوَاءٌ الْمُطْبِقُ وَالْمُتَقَطِّعُ إِذَا أَثَّرَ فِي الْإِفَاقَةِ. (قَدْ بَلَغَ الْحُلْمَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ ; أَيِ: الْإِنْزَالَ فِي النَّوْمِ، وَالْمُرَادُ الْبُلُوغُ بِهِ أَوْ بِنَحْوِهِ كَالْحَيْضِ، أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ; إِذْ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ (سَلِيمَ الْفِعْلِ مِنْ فِسْقٍ) ، وَهُوَ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى صَغِيرَةٍ (أَوْ) أَيْ: وَسَلِيمَ الْفِعْلِ مِنْ (خَرْمِ مُرُوَءَةٍ) ، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 إِدْرَاجِهِ آخِرَهَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَشْرُطْهَا، فِيمَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، سِوَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَتِمُّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ شَرَطَهَا - وَهُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ - بِدُونِهَا، بَلْ مَنْ لَمْ يَشْرُطْ مَزِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاكْتَفَى بِعَدَمِ ثُبُوتِ مَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ، وَأَنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يُنَافِيهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ، قَدْ لَا يُنَافِيهِ. نَعَمْ قَدْ حَقَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الَّذِي تَجَنَّبَهُ مِنْهَا شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ، وَارْتِكَابُهُ مُفْضٍ إِلَى الْفِسْقِ: مَا سَخُفَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي وَالضَّحِكِ، وَمَا قَبُحَ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلْهُو بِهِ وَيُسْتَقْبَحُ بِمَعَرَّتِهِ، كَنَتْفِ اللِّحْيَةِ وَخِضَابِهَا بِالسَّوَادِ، وَكَذَا الْبَوْلُ قَائِمًا، يَعْنِي فِي الطَّرِيقِ، وَبِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ إِذَا خَلَا، وَالتَّحَدُّثُ بِمَسَاوِئِ النَّاسِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَعَدَمِ الْإِفْضَالِ بِالْمَاءِ وَالطَّعَامِ، وَالْمُسَاعَدَةِ بِالنَّفْسِ وَالْجَاهِ، وَكَذَا الْأَكْلُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَشْيُ حَافِيًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الشِّقَّيْنِ نَظَرٌ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الزِّنْجَانِيِّ فِي شَرْحِ (الْوَجِيزِ) : " الْمُرُوءَةُ يُرْجَعُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الْعُرْفِ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْعِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأُمُورَ الْعُرْفِيَّةَ قَلَّمَا تُضْبَطُ، بَلْ هِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْبُلْدَانِ، فَكَمْ مِنْ بَلَدٍ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ بِمُبَاشَرَةِ أُمُورٍ لَوْ بَاشَرَهَا غَيْرُهُمْ لَعُدَّ خَرْمًا لِلْمُرُوءَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ رِعَايَةُ مَنَاهِجِ الشَّرْعِ وَآدَابِهِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَمْرٌ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ ". قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: " وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ سِيرَةَ مُطْلَقِ النَّاسِ، بَلِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ "، وَهُوَ كَمَا قَالَ، ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْبُلُوغِ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَإِلَّا فَقَدْ قَبِلَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمَوْثُوقِ بِهِ، وَلِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ، قَيَّدَهُمَا الرَّافِعِيُّ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ بِالْمُرَاهِقِ، مَعَ وَصْفِ النَّوَوِيِّ لِلْقَبُولِ بِالشُّذُوذِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " وَفِي الصَّبِيِّ بَعْدَ التَّمْيِيزِ وَجْهَانِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَخْبَارِ الرَّسُولِ، وَاخْتَصَرَهُ النَّوَوِيُّ بِالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَلَا تَنَاقُضَ، فَمَنْ قَيَّدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 بِالْمُرَاهِقِ عَنَى الْمُمَيِّزَ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ قَبُولِ غَيْرِ الْبَالِغِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَحَكَى فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِلْمُتَوَلِّي عَنِ الْجُمْهُورِ - قَبُولَ أَخْبَارِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ، بِخِلَافِ مَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ ; كَالْإِفْتَاءِ وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ: " وَقَبِلَ الْجُمْهُورُ أَخْبَارَهُمْ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهَا قَرِينَةٌ " انْتَهَى. أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا، وَكَذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي عَدْلِ الرِّوَايَةِ الْحُرِّيَّةَ، بَلْ أَجْمَعُوا - كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ - عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الْعَبْدِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ مِمَّا افْتَرَقَا فِيهِ كَمَا افْتَرَقَا فِي مَسْأَلَةِ التَّزْكِيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدُ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ شَيْخُنَا فَقَالَ: الْعَدْلُ مِنْ شَرْطِهِ الْمُرُوءَةُ وَالْ ... إِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ مَعًا يُجَانِبُ الْفِسْقَ رَاوِيًا وَمَتَى ... يَشْهَدُ فَحُرِّيَّةٌ تُضَفْ تَبَعَا وَلَا الذُّكُورَةُ، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: وَاسْتَثْنَى أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَمَّا مَنْ شَرَطَ فِي الرِّوَايَةِ الْعَدَدَ كَالشَّهَادَةِ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَكَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ، بَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ أَوْصَافَ الْقَبُولِ، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ. أَوْ كَوْنُ الرَّاوِي فَقِيهًا عَالِمًا كَأَبِي حَنِيفَةَ ; حَيْثُ شَرَطَ فِقْهَ الرَّاوِي إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَغَيْرَهُ، حَيْثُ قَصَرَهُ عَلَى الْغَرِيبِ. فَكُلُّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] الْآيَةَ، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُتَثَبَّتَ فِي غَيْرِ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا. وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» )) الْحَدِيثَ، أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَرِّقْ، بَلْ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: (( «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» )) . وَكَذَا مَنْ شَرَطَ عَدَمَ عَمَاهُ، أَوْ كَوْنَهُ مَشْهُورًا بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ، أَوْ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، أَوْ أَنْ لَا يُنْكِرَ رَاوِي الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ أَيْضًا. [مَا تُعْرَفُ بِهِ الْعَدَالَةُ] [مَا تُعْرَفُ بِهِ الْعَدَالَةُ] : الثَّانِي: فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ الْعَدَالَةُ مِنْ تَزْكِيَةٍ وَغَيْرِهَا (وَمَنْ زَكَّاهُ) أَيْ: عَدَّلَهُ فِي رِوَايَتِهِ (عَدْلَانِ فَهُوَ عَدْلٌ مُؤْتَمَنٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ ; أَيِ: اتِّفَاقًا. [ الاستفاضة والشهرة في العدالة ] 263 - وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بِالْوَاحِدِ ... جَرْحًا وَتَعْدِيلًا خِلَافَ الشَّاهِدِ 264 - وَصَحَّحُوا اسْتِغْنَاءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ ... تَزْكِيَةٍ كَمَالِكٍ نَجْمِ السُّنَنْ 265 - وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ مَنْ عُنِيَ ... بِحَمْلِهِ الْعِلْمَ وَلَمْ يُوَهَّنِ 266 - فَإِنَّهُ عَدْلٌ بِقَوْلِ الْمُصْطَفَى ... " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ " لَكِنْ خُولِفَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 (وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ) أَيْ: أَئِمَّةُ الْأَثَرِ فِيهَا (بِ) قَوْلِ الْعَدْلِ (الْوَاحِدِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا) أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ (خِلَافَ) أَيْ: بِخِلَافِ (الشَّاهِدِ) ، فَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِهِ فِيهِ بِدُونِ اثْنَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُزَكِّي لِلرَّاوِي نَاقِلًا عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ، أَوْ كَانَ اجْتِهَادًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ، وَفِي الْحَالَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَيِّقٌ: الْأَمْرُ فِي الشَّهَادَةِ ; لِكَوْنِهَا فِي الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّرَافُعُ فِيهَا، وَهِيَ مَحَلُّ الْأَغْرَاضِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ ; فَإِنَّهَا فِي شَيْءٍ عَامٍّ لِلنَّاسِ غَالِبًا لَا تَرَافُعَ فِيهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: " الْغَالِبُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ "، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَفَاتَتِ الْمَصْلَحَةُ، بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ فِي الْمُحَاكَمَاتِ ; وَلِأَنَّ بَيْنَ النَّاسِ إِحَنًا وَعَدَاوَاتٍ تَحْمِلُهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ اثْنَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ صِفَةٌ، فَتَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهَا إِلَى عَدْلَيْنِ كَالرُّشْدِ وَالْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِياسًا عَلَى الشَّاهِدِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، بَلْ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَإِلَّا فَأَبُو عُبَيْدٍ لَا يَقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ فِيهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مَتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ فِيمَنْ تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ: (( «حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا فَيَشْهَدُونَ لَهُ» )) . قَالَ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْحَاجَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وَالْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِيمَنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ قَبْلُ. وَمِمَّنْ رَجَّحَ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فِي الْبَابَيْنِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ، وَنَقَلَهُ هُوَ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَلَا تُنَافِيهِ الْحِكَايَةُ الْمَاضِيَةُ لِلتَّسْوِيَةِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ; لِتَقْيِيدِهَا هُنَاكَ بِالْفُقَهَاءِ. وَمِمَّنِ اخْتَارَ التَّفْرِقَةَ أَيْضًا الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا اخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ حِكَايَةِ مَا تَقَدَّمَ الِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدٍ، لَكِنْ فِي الْبَابَيْنِ مَعًا، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الشَّاهِدِ خَاصَّةً، وَعِبَارَتُهُ: وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ ; أَيْ: عَارِفٍ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ، وَمَا بِهِ يَحْصُلُ الْجَرْحُ، كَمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاسْتَثْنَى تَزْكِيَةَ الْمَرْأَةِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ عَدَمَ قَبُولِ تَزْكِيَةِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا فِي الْبَابَيْنِ. وَكَذَا أَشَارَ لِتَخْصِيصِ تَزْكِيَةِ الْعَبْدِ بِالرِّوَايَةِ لِقَبُولِهِ فِيهَا دُونَ الشَّهَادَةِ، وَلَكُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 التَّعْمِيمَ فِي قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ ; لِأَنَّهَا - كَمَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ - خَبَرٌ وَلَيْسَتْ شَهَادَةً، صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا صَاحِبٌ (الْمَحْصُولِ) وَغَيْرُهُ مِنْ تَقْيِيدٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَلُ - أَيْ: فِي الرِّوَايَةِ - تَعْدِيلُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الْعَارِفَيْنِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ. قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ سُؤَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ بَرِيرَةَ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَجَوَابُهَا لَهُ، يَعْنِي الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: تَعْدِيلُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا. وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ، وَلَا الْغُلَامِ الضَّابِطِ جَزْمًا، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي رِوَايَتِهِمَا ; لِأَنَّ الْغُلَامَ وَإِنْ كَانَتْ حَالُهُ ضَبْطَ مَا سَمِعَهُ، وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَا بِهِ مِنْهَا يَكُونُ الْعَدْلُ عَدْلًا، وَالْفَاسِقُ فَاسِقًا، فَذَلِكَ إِنَّمَا يَكْمُلُ لَهُ الْمُكَلَّفُ، وَأَيْضًا فَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ تَفْسِيقُ الْعَدْلِ وَتَعْدِيلُ الْفَاسِقِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ، فَافْتَرَقَ الْأَمْرُ فِيهِمَا، قَالَهُ الْخَطِيبُ. (وَصَحَّحُوا) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْخَطِيبُ، مِمَّا تَثْبُتُ بِهِ الْعَدَالَةُ أَيْضًا (اسْتِغْنَاءِ ذِي الشُّهْرِةِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَنَبَاهَةِ الذِّكْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالصِّدْقِ، مَعَ الْبَصِيرَةِ وَالْفَهْمِ، وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ (عَنْ تَزْكِيَةٍ) صَرِيحَةٍ (كَمَالِكٍ) ، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ (نَجْمِ السُّنَنْ) كَمَا وَصَفَهُ بِهِ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَشُعْبَةَ وَوَكِيعٍ وَأَحْمَدَ وَابْنِ مَعِينٍ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - وَقَدْ عَقَدَ بَابًا لِذَلِكَ فِي كِفَايَتِهِ - لَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ كَانَ فِي عِدَادِ الْمَجْهُولِينَ، أَوْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ. وَسَاقَ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ: مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنْهُ؟ إِسْحَاقُ عِنْدَنَا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ سُئِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْهُ؟ هُوَ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ. وَعَنِ ابْنِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إِلَّا مِمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِالطَّلَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ: إِلَّا عَنْ جَلِيسِ الْعَالِمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ طَلَبُهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: أَرَادَ أَنَّ مَنْ عُرِفَتْ مُجَالَسَتُهُ لِلْعُلَمَاءِ أَوْ أَخْذُهُ عَنْهُمْ أَغْنَى ظُهُورُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِهِ عَنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ حَالِهِ. وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ إِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَى، وَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا، وَمُجَوَّزًا فِيهِ الْعَدَالَةَ وَغَيْرَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ بِظُهُورِ سِتْرِهِمَا ; أَيِ: الْمَسْتُورِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَاشْتِهَارِ عَدَالَتِهِمَا أَقْوَى فِي النُّفُوسِ مِنْ تَعْدِيلِ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ فِي تَعْدِيلِهِ، وَأَغْرَاضٌ دَاعِيَةٌ لَهُمَا إِلَى وَصْفِهِ بِغَيْرِ صِفَتِهِ، وَبِالرُّجُوعِ إِلَى النُّفُوسِ يُعْلَمُ أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمُعَدِّلِ لَهُمَا، فَصَحَّ بِذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ نِهَايَةَ حَالَةِ تَزْكِيَةِ الْمُعَدِّلِ أَنْ تَبْلُغَ مَبْلَغَ ظُهُورِ سِتْرِهِ، وَهِيَ لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْدِيلِ؟ - انْتَهَى. وَمِنْ هُنَا لَمَّا شَهِدَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ الْقَاضِي بَكَّارِ بْنِ قُتَيْبَةَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ قَبْلَهَا، فَقَالَ: تُقَامُ الْبَيِّنَةُ عِنْدِي بِذَلِكَ فَقَطْ. وَكَذَا يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَيْضًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الْعَدَالَةُ رِوَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُلَّةِ عَنِ الرَّاوِي، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ، وَجَنَحَ إِلَيْهَا ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ قَطْعِ السِّدْرِ مِنْ كِتَابِهِ: الْوَهْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَالْإِيهَامِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ فِي تَرْجَمَةِ مَالِكِ بْنِ الْحَسِيرِ الزِّيَادِيِّ مِنْ مِيزَانِهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُ، يُرِيدُ أَنَّهُ مَا نَصَّ أَحَدٌ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ، قَالَ: وَفِي رُوَاةِ الصَّحِيحَيْنِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا نَصَّ عَلَى تَوْثِيقِهِمْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَشَايِخِ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، أَنَّ حَدِيثَهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ مَا نَسَبَهُ لِلْجُمْهُورِ: لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْدِ إِلَّا ابْنُ حِبَّانَ. نَعَمْ، هُوَ حَقٌّ فِيمَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي طَبَقَاتِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدَانَ أَنَّهُ حَكَى فِي كِتَابِهِ (شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ) عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي نَاقِلِ الْخَبَرِ مَا يَعْتَبِرْ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ مِنَ التَّزْكِيَةِ، بَلْ إِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ. وَاسْتَغْرَبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ) قَوْلٌ فِيهِ تَوَسُّعٌ أَيْضًا، وَهُوَ (كُلُّ مَنْ عُنِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بِحَمْلِهِ الْعِلْمَ) . زَادَ النَّاظِمُ: (وَلَمْ يُوَهَّنَا) بِتَشْدِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ ; أَيْ: لَمْ يُضَعَّفْ (فَإِنَّهُ عَدْلٌ بِقَوْلٍ الْمُصْطَفَى) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ] [الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ: يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ] « (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ) مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ» ; أَيِ: الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ، وَانْتِحَالَ أَيِ: ادِّعَاءَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ (لَكِنْ) قَدْ (خُولِفَا) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ ضَعِيفًا، بِحَيْثُ قَالَ الشَّارِحُ: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ، بَلْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ: أَسَانِيدُهُ كُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، يَعْنِي: مُسْنَدًا، وَقَالَ شَيْخُنَا: وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَحَكَمَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ، وَإِنْ قَالَ الْعَلَائِيُّ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ مِنْهَا: إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَذَا نَقَلَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ عَنْ أَبِي مُوسَى عِيسَى بْنِ صُبَيْحٍ تَصْحِيحَهُ، فَأَبُو مُوسَى هَذَا لَيْسَ بِعُمْدَةٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُعْتَزِلَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَأَحْمَدُ فَقَدْ تَعَقَّبَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، وَحَدِيثُ أُسَامَةَ بِخُصُوصِهِ قَالَ فِيهِ أَبُو نُعَيْمٍ: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ قَوِيٌّ، وَالْأَغْلَبُ عَدَمُ صِحَّتِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوِيًّا - انْتَهَى. وَسَأُحَقِّقُ الْأَمْرَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; فَإِنَّهُ عِنْدِي مِنْ غَيْرِ مُرْسَلِ إِبْرَاهِيمَ الْعُذْرِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ صَلَاحِيَتِهِ لِلْحُجَّةِ أَوْ ضَعْفِهِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنْ لَوْ كَانَ خَبَرًا، لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ لِوُجُودِ مَنْ يَحْمِلُ الْعِلْمَ، وَهُوَ غَيْرُ عَدْلٍ وَغَيْرُ ثِقَةٍ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَبَرًا وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ يَقُولُ: فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَحْمَلٌ إِلَّا عَلَى الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ الثِّقَاتِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يُقْبَلُ عَنِ الثِّقَاتِ. وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: " لِيَحْمِلْ " بِلَامِ الْأَمْرِ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وَحِينَئِذٍ سَوَاءٌ رُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، أَوْ بِالْجَزْمِ عَلَى إِرَادَةِ لَامِ الْأَمْرِ، فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، بَلْ لَا مَانِعَ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهِ خَبَرًا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَالْقَصْدُ أَنَّهُ مَظَنَّةٌ لِذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي أَوَّلِ تَهْذِيبِهِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَانَةِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ، وَعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوَفِّقُ لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ خَلَفًا مِنَ الْعُدُولِ يَحْمِلُونَهُ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ التَّحْرِيفَ فَلَا يَضِيعُ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِعَدَالَةِ حَامِلِيهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَضُرُّ مَعَ هَذَا كَوْنُ بَعْضِ الْفُسَّاقِ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْعُدُولَ يَحْمِلُونَهُ، لَا أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهُ - انْتَهَى. عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: مَا يَعْرِفُهُ الْفُسَّاقُ مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَ بِعِلْمٍ حَقِيقَةً ; لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ التَّلْخِيصِ: وَقَدْ يُنَزَّلُ الْعَالِمُ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ. وَصَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْعِلْمُ إِلَّا مَعَ التُّقَى ... وَلَا الْعَقْلُ إِلَّا مَعَ الْأَدَبِ وَمِنَ الْغَرِيبِ فِي ضَبْطِهِ مَا حَكَاهُ الشَّارِحُ فِي نُكَتِهِ عَنْ فَوَائِدِ رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ مِمَّا عَزَاهُ لِأَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيِّ: " يُحْمَلُ " بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَفْعِ مِيمِ الْعِلْمِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ مِنْ عَدُولَةٍ، مَعَ إِبْدَالِ الْهَاءِ تَاءً مُنَوَّنَةً. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَلَفَ هُوَ الْعَدُولَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَادِلٌ، كَمَا يُقَالُ: شَكُورٌ بِمَعْنَى شَاكِرٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَتَكُونُ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ صَرُورَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ يُحْمَلُ عَنْ كُلِّ خَلَفٍ كَامِلٍ فِي عَدَالَتِهِ. لَكِنْ يَتَأَيَّدُ بِمَا حَكَاهُ الْعَسْكَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عَقِبَ الْحَدِيثِ: فَسَبِيلُ الْعِلْمِ أَنْ يُحْمَلَ عَمَّنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ وَوَصْفُهُ. وَنَحْوُهُ مَا يُرْوَى مَرْفُوعًا: «أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ دِينَكَ» . وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَلَا يَسُوغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَقَوِيَ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ تَوَسُّعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَوَافَقَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ قَالَ: إِنَّهُ قَرِيبُ الِاسْتِمْدَادِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَقَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ مَجْهُولِ الْحَالِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ جَرْحُهُ. قَالَ: وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا ; لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاحْتِيَاطِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَوَسِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَافِلَةِ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمُ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا عَلَى الْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ فِيمَا يَشْهَدُونَ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ، فَرُوِّينَا فِي شَرَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِلْخَطِيبِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا قَدَّمَ آخَرَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ، فَادَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَأَنْكَرَ، فَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فُلَانٌ وَفُلَانٌ، أَمَّا فُلَانٌ فَمِنْ شُهُودِي، وَأَمَّا فُلَانٌ فَلَيْسَ مِنْ شُهُودِي، قَالَ: فَيَعْرِفُهُ الْقَاضِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: أَعْرِفُهُ بِكَتْبِ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَكَيْفَ تَعْرِفُهُ فِي كَتْبَتِهِ الْحَدِيثَ؟ قَالَ: مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» )) ، وَمَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِمَّنْ عَدَّلْتَهُ أَنْتَ، قَالَ: فَقُمْ فَهَاتِهِ، فَقَدْ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّاقِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَهْلُ الْعِلْمِ مَحْمُولُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ رَدَّهُ بَعْضُهُمْ، وَسَبَقَهُ الْمِزِّيُّ فَقَالَ: هُوَ فِي زَمَانِنَا مَرْضِيٌّ، بَلْ رُبَّمَا يَتَعَيَّنُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ: لَسْتُ أَرَاهُ إِلَّا مَرْضِيًّا، وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّهُ حَقٌّ، قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَسْتُورُ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ، فَكُلُّ مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ كَشَفُوا عَنْ أَخْبَارِهِ فَمَا وَجَدُوا فِيهِ تَلْيِينًا، وَلَا اتَّفَقَ لَهُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ أَحَدًا وَثَّقَهُ، فَهَذَا الَّذِي عَنَاهُ الْحَافِظُ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولَ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْ يَلُوحَ فِيهِ جَرْحٌ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لِجَمَاعَةٍ مَا اطَّلَعْنَا فِيهِمْ عَلَى جَرْحٍ وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 تَوْثِيقٍ، فَهَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ بِهِمْ ; لِأَنَّ الشَّيْخَيْنِ احْتَجَّا بِهِمْ ; وَلِأَنَّ الدَّهْمَاءَ أَطْبَقَتْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْكِتَابَيْنِ بِالصَّحِيحَيْنِ. قُلْتُ: بَلْ أَفَادَ التَّقِيُّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ إِطْبَاقَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ أَوْ كُلِّهِمْ عَلَى كِتَابَيْهِمَا يَسْتَلْزِمُ إِطْبَاقَهُمٍ أَوْ أَكْثَرِهِمْ عَلَى تَعْدِيلِ الرُّوَاةِ الْمُحْتَجِّ بِهِمْ فِيهِمَا اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا، قَالَ: مَعَ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَلَكِنْ كَانَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَضَّلِ شَيْخُ شُيُوخِنَا يَقُولُ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا قِيلَ فِيهِمْ. قَالَ التَّقِيُّ: وَهَكَذَا نَعْتَقِدُ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَا نَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا بِبَيَانٍ شَافٍ وَحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَزِيدُ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اسْتِلْزَامِ الِاتِّفَاقِ. وَوَافَقَهُ شَيْخُنَا، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِلْزَامِ الْقَوْلِ بِالْقَطْعِ بِصِحَّةِ مَا لَمْ يُنْتَقَدْ مِنْ أَحَادِيثِهِمَا الْقَطْعَ بِعَدَالَةِ رُوَاتِهِمَا، يَعْنِي فِيمَا لَمْ يُنْتَقَدْ. ثُمَّ قَالَ التَّقِيُّ: نَعَمْ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْجِيحِ مَدْخَلٌ عِنْدَ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ مَنْ لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ أَصْلًا رَاجِحًا عَلَى مَنْ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِهِمَا مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ - انْتَهَى. وَيُسْتَأْنَسُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَا جَاءَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةَ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَهَذَا يُقَوِّيهِ، لَكِنَّ ذَاكَ مَخْصُوصٌ بِحَمَلَةِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: وَكَذَا مِمَّا يُقَوِّيهِ أَيْضًا كَلَامُ الْخَطِيبِ الْمَاضِي قَبْلَ حِكَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [مَا يُعْرَفُ بِهِ الضَّبْطُ] 267 - وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِبًا ذَا الضَّبْطِ ... فَضَابِطٌ أَوْ نَادِرًا فَمُخْطِي 268 - وَصَحَّحُوا قَبُولَ تَعْدِيلٍ بِلَا ... ذِكْرٍ لِأَسْبَابٍ لَهُ أَنْ تَثْقُلَا 269 - وَلَمْ يَرَوْا قَبُولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا ... لِلْخُلْفِ فِي أَسْبَابِهِ وَرُبَّمَا 270 - اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ كَمَا ... فَسَّرَهُ شُعْبَةُ بِالرَّكْضِ فَمَا 271 - هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْأَثَرْ ... كَشَيْخَيِ الصَّحِيحِ مَعْ أَهْلِ النَّظَرْ 272 - فَإِنْ يُقَلْ قَلَّ بَيَانُ مَنْ جَرَحْ ... كَذَا إِذَا قَالُوا لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ 273 - وَأَبْهَمُوا فَالشَّيْخُ قَدْ أَجَابَا ... أَنْ يَجِبُ الْوَقْفُ إِذَا اسْتَرَابَا 274 - حَتَّى يُبِينَ بَحْثُهُ قَبُولَهُ ... كَمَنْ أُولُو الصَّحِيحِ خَرَّجُوا لَهُ 275 - فَفِي الْبُخَارِيِّ احْتِجَاجًا عِكْرِمَهْ ... مَعَ ابْنِ مَرْزُوقٍ وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ 276 - وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا ... نَحْوُ سُوَيْدٍ إِذْ بِجَرْحٍ مَا اكْتَفَى 277 - قُلْتُ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي ... وَاخْتَارَهُ تِلْمِيذُهُ الْغَزَّالِي 278 - وَابْنُ الْخَطِيبِ: الْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ بِمَا ... أَطْلَقَهُ الْعَالِمْ بِأَسْبَابِهِمَا [مَا يُعْرَفُ بِهِ الضَّبْطُ] الثَّالِثُ: فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الضَّبْطُ، وَتَأْخِيرُهُ عَمَّا قَبْلَهُ مُنَاسِبٌ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ أَنْسَبَ ; لِتَعَلُّقٍ مَا بَعْدَهُ بِمَا قَبْلَهُ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ سَابِقٌ أَوَّلَ الْبَابِ فِي الْوَضْعِ (وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِبًا) فِي اللَّفْظِ، وَلَوْ أَتَى بِأَنْقَصَ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى، أَوْ فِي الْمَعْنَى (ذَا الضَّبْطِ فَ) هُوَ (ضَابِطٌ) مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِهِ (أَوْ) يُوَافِقُهُ (نَادِرًا) ، وَيُكْثِرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِيمَا أَتَى بِهِ (فَ) هُوَ (مُخْطِي) بِدُونِ هَمْزٍ لِلْوَزْنِ، عَدِيمُ الضَّبْطِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَقَالَ: " وَيَكُونُ إِذَا شَرَكَ أَهْلَ الْحِفْظِ فِي حَدِيثٍ وَافَقَ حَدِيثَهُمْ ". قَالَ: " وَمَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلُ كِتَابٍ صَحِيحٍ لَمْ يُقْبَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 حَدِيثُهُ، كَمَا يَكُونُ مَنْ أَكْثَرَ التَّخْلِيطَ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ "، وَقَالَ فِيمَا يَعْتَضِدُ بِهِ الْمُرْسَلُ كَمَا تَقَدَّمَ: " وَيَكُونُ إِذَا شَرَكَ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ لَمْ يُخَالِفْهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقُصَ كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ ". وَيُعْرَفُ الضَّبْطُ أَيْضًا بِالِامْتِحَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقْلُوبِ، مَعَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِيهِ. [سَبَبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] [سَبَبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] وَالرَّابِعُ: فِي بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَكَانَ إِرْدَافُهُ الثَّانِيَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنْسَبَ (وَصَحَّحُوا) أَيِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ. (قَبُولَ تَعْدِيلٍ بِلَا ذِكْرٍ لِأَسْبَابٍ لَهُ) خَشْيَةَ (أَنْ تَثْقُلَا) لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ، وَمَتَى كُلِّفَ الْمُعَدِّلُ لِسَرْدِ جَمِيعِهَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ: يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا عَادًّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، وَلَيْسَ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، عَادًّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، وَفِيهِ طُولٌ. (وَلَمْ يَرَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ أَيْضًا. (قَبُولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا) ذِكْرُ سَبَبِهِ مِنَ الْمُجَرِّحِ ; لِزَوَالِ الْخَشْيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا ; فَإِنَّ الْجَرْحَ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَ (لِلْخُلْفِ) بَيْنَ النَّاسِ (فِي أَسْبَابِهِ) وَمُوجِبِهِ. (رُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ) بِبَيَانِ سَبَبِهِ مِنَ الْجَارِحِ (فَ) يَذْكُرُ مَا (لَمْ يَقْدَحْ) مَعَ إِطْلَاقِهِ الْجَرْحَ بِهِ ; لِتَمَسُّكِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ، أَوْ لِشِدَّةِ تَعَنُّتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ. (كَمَا فَسَّرَهُ شُعْبَةُ) بْنُ الْحَجَّاجِ مَرَّةً (بِالرَّكْضِ) ، وَهُوَ اسْتِحْثَاثُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ لِتَعْدُوَ، حَيْثُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلَانٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذُوْنٍ، بِكَسْرٍ الْمُوَحَّدَةِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، الْجَافِي الْخِلْقَةِ، الْجَلْدُ عَلَى السَّيْرِ فِي الشِّعَابِ، وَالْوَعْرُ مِنَ الْخَيْلِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُجْلَبُ مِنَ الرُّومِ، وَحِينَئِذٍ (فَمَا) ذَا يَلْزَمُ مِنْ رَكْضِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو لِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَرْفُوعًا: «سُرْعَةُ الْمَشْيِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 تُذْهِبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ» . وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، فَسَمِعَ مِنْ دَارِهِ صَوْتًا فَتَرَكَهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ سَمِعَ قِرَاءَةً بِالتَّطْرِيبِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِيهِ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ: إِنَّهُ سَمِعَ قِرَاءَةَ أَلْحَانٍ، فَكَرِهَ السَّمَاعَ مِنْهُ. وَقَوْلُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ: أَتَيْتُ مَنْزِلَ الْمِنْهَالِ، فَسَمِعْتُ مِنْهُ صَوْتَ الطُّنْبُورِ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ. قَالَ وَهْبٌ: فَقُلْتُ لَهُ: فَهَلَّا سَأَلْتَهُ، عَسَى كَانَ لَا يَعْلَمُ؟ قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ صَحِيحٌ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الْمِنْهَالِ، بَلْ وَلَا يُجَرَّحُ الثِّقَةُ بِمِثْلِ قَوْلٍ الْمُغِيرَةِ فِي الْمِنْهَالِ: إِنَّهُ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ لَهُ لَحْنٌ يُقَالُ لَهُ: وَزْنُ سَبْعَةٍ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَقِبَ كَلَامِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَا نَصُّهُ: هَذَا لَيْسَ بِجَرْحِهِ إِلَى أَنْ يَتَجَاوَزَ إِلَى حَدٍّ يَحْرُمُ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَاكَ عَنْهُ - انْتَهَى. وَجَرْحُهُ بِهَذَا تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا ; كَالنَّسَائِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وَابْنِ حِبَّانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ صَدُوقٌ. وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، بَلْ وَعَلَّقَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ نَفْسِهِ عَنْهُ، فَقَالَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمُثْلَةِ مِنَ الذَّبَائِحِ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ، يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ» . وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَتْرُكِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَذَلِكَ إِمَّا بِمَا لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْهُ عِنْدَهُ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ السَّمَاعَ يُكْرَهُ مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْأَلْحَانِ، وَنَصَّ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّرْجِيعِ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ بِالتَّلْحِينِ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ، أَوْ قَصْرِ مَمْدُودٍ أَوْ مَدِّ مَقْصُورٍ، أَوْ تَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ اللَّفْظُ وَيُلَبَّسُ بِهِ الْمَعْنَى، فَالْقَارِئُ فَاسِقٌ، وَالْمُسْتَمِعُ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ، فَلَا كَرَاهَةَ ; لِأَنَّهُ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 تَحْسِينِهِ. وَكَذَا اسْتَفْسَرَ غَيْرُ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ مَا الْجَرْحُ بِهِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: لِمَ لَمْ تَحْمِلْ عَنْ زَاذَانَ؟ قَالَ: كَانَ كَثِيرَ الْكَلَامِ. وَلَعَلَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى مَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» ، وَكَذَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَمِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ. وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي زَاذَانَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْمَتِينِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا، لَكِنْ قَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ: أَتَيْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ، فَرَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا، فَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ حَرْفٍ. قُلْتُ: قَدْ خَرِفَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بِحَيْثُ يَرَى النَّاسُ عَوْرَتَهُ. وَقَدْ عَقَدَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ لِهَذَا بَابًا، وَمِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مِمَّا تَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي إِيرَادِهِ: أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ لِصَالِحٍ الْمُرِّيِّ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِصَالِحٍ؟ ذَكَرُوهُ يَوْمًا عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَامْتَخَطَ حَمَّادٌ. وَإِدْخَالُ مِثْلِ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَصَالِحٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَلِذَا حَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ، بَلْ قَدْ بَانَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ عَدَمُ تَحَتُّمِ الْجَرْحِ بِهِ. (هَذَا) أَيِ: الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ، هُوَ (الَّذِي عَلَيْهِ) الْأَئِمَّةُ (حُفَّاظُ الْأَثَرْ) أَيِ: الْحَدِيثِ وَنُقَّادُهُ. كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (شَيْخَيِ الصَّحِيحِ) اللَّذَيْنِ كَانَا أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ فِيهِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحُفَّاظِ (مَعَ أَهْلِ النَّظَرِ) كَالشَّافِعِيِّ، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي عَكْسُهُ، فَيُشْتَرَطُ تَفْسِيرُ التَّعْدِيلِ دُونَ الْجَرْحِ ; لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَالَةِ يَكْثُرُ التَّصَنُّعُ فِيهَا، فَيَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، [فَ] هَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ مَعَ شِدَّةِ نَقْلِهِ وَتَحَرِّيهِ قِيلَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 غَرَّنِي بِكَثْرَةِ جُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي لِمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِهِ بَيْتَ كُلِّ تَقِيٍّ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ لِمَنْ قَالَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ الْعُمَرِيُّ ضَعِيفٌ: إِنَّمَا يُضَعِّفُهُ رَافِضِيٌّ مُبْغِضٌ لِآبَائِهِ، لَوْ رَأَيْتَ لِحْيَتَهُ وَخِضَابَهُ وَهَيْئَتَهُ لَعَرَفْتَ أَنَّهُ ثِقَةٌ. فَاسْتَدَلَّ لِثِقَتِهِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ حُسْنَ الْهَيْئَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَدْلُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَوَسُّمَهُ يَقْضِي بِعَدَالَتِهِ فَضْلًا عَنْ دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَضَبْطِهِ، لَكِنْ يَنْدَفِعُ هَذَا فِي الْعُمَرِيِّ بِخُصُوصِهِ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ مَدْحُ الْمَرْءِ بِأَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ سَمْتَهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ. [وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ سَبَبِهِمَا مَعًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَكَمَا يُجَرِّحُ الْجَارِحُ بِمَا لَا يَقْدَحُ، كَذَلِكَ يُوَثِّقُ الْمُعَدِّلُ بِمَا لَا يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ كَمَا بَيَّنَّا] . وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ، إِذَا صَدَرَ الْجَرْحُ أَوِ التَّعْدِيلُ مِنْ عَالِمٍ بَصِيرٍ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مَعَ الْخَدْشِ فِي كَوْنِهِ قَوْلًا مُسْتَقِلًّا (فَإِنْ يُقَلْ) عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَدْ (قَلَّ) فِيمَا يُحْكَى عَنِ الْأَئِمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا فِي الرِّجَالِ (بَيَانُ) سَبَبِ جَرْحِ (مَنْ جَرَحْ) ، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهَا غَالِبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِأَنَّ فُلًانًا ضَعِيفٌ، أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 (وَكَذَا) قَلَّ بَيَانُهُمْ لِسَبَبِ ضَعْفِ الْحَدِيثِ (إِذَا قَالُوا) فِي كُتُبِ الْمُتُونِ وَنَحْوِهَا (لِمَتْنٍ) : إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، بَلِ اقْتَصَرُوا أَيْضًا غَالِبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (وَأَبْهَمُوا) بَيَانَ السَّبَبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاشْتِرَاطُ الْبَيَانِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ، وَسَدِّ بَابِ الْجَرْحِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ. (فَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (قَدْ أَجَابَا) عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِ (أَنْ يَجِبُ الْوَقْفُ) مِنَ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِالرَّاوِي أَوْ بِالْحَدِيثِ (إِذِ اسْتَرَابَا) أَيْ: لِأَجْلِ حُصُولِ الرِّيبَةِ الْقَوِيَّةِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا (حَتَّى يُبِينَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ أَبَانَ ; أَيْ: يُظْهِرُ (بَحْثَهُ) وَفَحْصَهُ عَنْ حَالِ ذَاكَ الرَّاوِي أَوِ الْحَدِيثِ (قَبُولَهُ) مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ. وَالثِّقَةُ بِعَدَالَتِهِ وَعَدَمِ تَأْثِيرِ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ (كَمَنْ) أَيْ: كَالَّذِي مِنَ الرُّوَاةِ (أُولُو) أَيْ: أَصْحَابُ (الصَّحِيحِ) : الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا (خَرَّجُوا) فِيهِ (لَهُ) مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ مُسَّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِجَرْحٍ مُبْهَمٍ، وَقَالَ: فَافْهَمْ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مُخْلَصٌ حَسَنٌ. (فَفِي الْبُخَارِيِّ احْتِجَاجًا عِكْرِمَهْ) أَيْ: فَعِكْرِمَةُ التَّابِعِيُّ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَرَّجٌ لَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَضْلًا عَنِ الْمُتَابَعَاتِ وَنَحْوِهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ ; لِكَوْنِهِ لَهُ عَنْهُ أَتَمَّ مُخْلَصٍ، حَتَّى إِنَّ جَمَاعَةً صَنَّفُوا فِي الذَّبِّ عَنْ عِكْرِمَةَ ; كَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَحَقَّقَ ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَتِهِ بِمَا لَا نُطِيلُ بِهِ (مَعَ ابْنِ مَرْزُوقٍ) عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ الْبَصْرِيِّ، لَكِنْ مُتَابَعَةً لَا احْتِجَاجًا (وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ) أَيْ: رَاوٍ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ التَّضْعِيفُ لَهُمْ يُعْرَفُ تَعْيِينُهُمْ، وَالْمُخَرَّجُ لَهُمْ مِنْهُمْ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الْأُصُولِ مِمَّنْ فِي الْمُتَابَعَاتِ، مَعَ الْحُجَّةِ فِي التَّخْرِيجِ لَهُمْ، مِنَ الْمُقَدِّمَةِ أَيْضًا. وَكَذَا (احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا) مِنْ غَيْرِهِ (نَحْوَ سُوَيْدٍ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ (إِذْ بِجَرْحٍ) مُطْلَقٍ (مَا اكْتَفَى) كُلٌّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لِتَحْقِيقِهِمَا نَفْيَهُ، بَلْ أَكْثَرُ مَنْ فَسَّرَ الْجَرْحَ فِي سُوَيْدٍ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا عَمِيَ رُبَّمَا تَلَقَّنَ الشَّيْءَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَادِحًا فَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ الْعَمَى، لَا فِيمَا قَبْلَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْلِمًا عَرَفَ أَنَّ مَا خَرَّجَهُ عَنْهُ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ، أَوْ مِمَّا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: قُلْتُ لِمُسْلِمٍ: كَيْفَ اسْتَجَزْتَ الرِّوَايَةَ عَنْ سُوَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ؟ فَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ كُنْتُ آتِي بِنُسْخَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَرْوِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ حَفْصًا سِوَاهُ، وَرَوَى فِيهِ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَفْصٍ. (قُلْتُ وَقَدْ قَالَ) فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (أَبُو الْمَعَالِي) الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْبُرْهَانِ) (وَاخْتَارَهُ تِلْمِيذُهُ) حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ (الْغَزَّالِيُّ وَ) كَذَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ (ابْنُ الْخَطِيبِ) الرَّازِيُّ (الْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ) مُسَكَّنُ الْمِيمِ ; أَيْ: يُقْضَى (بِمَا أَطْلَقَهُ الْعَالِمْ) مُسَكَّنُ الْمِيمِ أَيْضًا، الْبَصِيرُ (بِأَسْبَابِهِمَا) أَيِ: الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ: قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: " إِذَا جَرَّحَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَرْحَ يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ ". قَالَ: " وَالَّذِي يُقَوِّي عِنْدَنَا تَرْكَ الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْجَارِحُ عَالِمًا، كَمَا لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 يَجِبُ اسْتِفْسَارُ الْمُعَدِّلِ عَمَّا بِهِ صَارَ عِنْدَهُ الْمُزَكَّى عَدْلًا ". وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْغَزَّالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، لَكِنَّهُ حَكَى عَنْهُ أَيْضًا فِي الْمَنْخُولِ خِلَافَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي الْمُسْتَصْفَى هُوَ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ (الْمَحْصُولِ) ، وَالْآمِدِيُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْقَاضِي، كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ فِي الْكِفَايَةِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، وَاخْتَارَهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَوَّبَهُ قَالَ: " عَلَى أَنَّا نَقُولُ أَيْضًا: إِنْ كَانَ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْجَرْحِ عَدْلًا مَرْضِيًّا فِي اعْتِقَادِهِ وَأَفْعَالِهِ، عَارِفًا بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ وَأَسْبَابِهِمَا، عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي أَحْكَامِ ذَلِكَ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَنْ جَرَّحَهُ مُجْمَلًا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ "، انْتَهَى. [وَقَرِيبٌ مِنْهُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْفَقِيهِ الْمُوَافِقِ بِتَنْجِيسِ الْمَاءِ دُونَ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْفَقِيهِ ; فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ السَّبَبَ] . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِ الْجَرْحِ الْمُبْهَمِ لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: " إِنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ مُسْتَقِلٍّ، بَلْ هُوَ تَحْقِيقٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَتَحْرِيرٌ لَهُ ; إِذْ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْأَسْبَابِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ لَا بِإِطْلَاقٍ وَلَا بِتَقْيِيدٍ، فَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ فَرْعٌ عَنِ الْعِلْمِ التَّصَوُّرِيِّ بِهِ ". وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، قَالَ: إِنَّهُ لَا تَعْدِيلَ وَجَرْحَ إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَكَذَا قَيَّدَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْقَوْلَ بِاسْتِفْسَارِ الْمُجَرِّحِ بِمَا إِذَا كَانَ الْجَرْحُ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَسَبَقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَتَرْجَمَ: " بَابٌ: لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ إِلَّا بِأَنْ نَقِفَ عَلَى مَا يُجَرَّحُ بِهِ ". وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ، وَثَبَتَتْ فِي الْعِلْمِ إِمَامَتُهُ، وَبَانَتْ هِمَّتُهُ فِيهِ وَعِنَايَتُهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْجَارِحُ فِي جَرْحِهِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا جَرْحُهُ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لِذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ قَبُولَهُ "، انْتَهَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِقَامَةَ بَيِّنَةٍ عَلَى جَرْحِهِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ فِي جَرْحِهِ لِمَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ، وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَنَحْوُهَا. وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي الْمُرَادِ مَا سَبَقَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: " وَكُلُّ رَجُلٍ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ تَجْرِيحُ أَحَدٍ حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَرْحِهِ ". وَلِذَا كُلِّهِ كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا أَنَّهُ إِنْ خَلَا الْمَجْرُوحُ عَنْ تَعْدِيلٍ قُبِلَ الْجَرْحُ فِيهِ مُجْمَلًا، غَيْرَ مُبَيِّنٍ السَّبَبَ إِذَا صَدَرَ مِنْ عَارِفٍ، قَالَ: " لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْدِيلٌ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْمَجْهُولِ، وَإِعْمَالُ قَوْلِ الْمُجَرِّحِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ "، قَالَ: " وَمَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى التَّوَقُّفِ " انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وَقَيَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَبُولَ الْجَرْحِ الْمُفَسَّرِ فِيمَنْ عُدِّلَ أَيْضًا، بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِأَنَّ مِثْلَهَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَقِيعَةِ مِنْ تَعَصُّبٍ مَذْهَبِيٍّ، أَوْ مُنَافَسَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ مَزِيدٍ فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ. [تَعَارُضِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] 279 - وَقَدَّمُوا الْجَرْحَ وَقِيلَ إِنْ ظَهَرْ ... مَنْ عَدَّلَ الْأَكْثَرَ فَهْوَ الْمُعْتَبَرْ [تَعَارُضِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] الْخَامِسُ: فِي تَعَارُضِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي رَاوٍ وَاحِدٍ (وَقَدَّمُوا) أَيْ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا (الْجَرْحَ) عَلَى التَّعْدِيلِ مُطْلَقًا، اسْتَوَى الطَّرَفَانِ فِي الْعَدَدِ أَمْ لَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْأُصُولِيُّونَ كَالْفَخْرِ وَالْآمِدِيِّ، بَلْ حَكَى الْخَطِيبُ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَوَى الْعَدَدَانِ، وَصَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَسَاكِرَ: " أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيمِ قَوْلِ مَنْ جَرَّحَ رَاوِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَّلَهُ، وَاقْتَضَتْ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ فِي التَّسَاوِي كَوْنَ ذَلِكَ أَوْلَى فِيمَا إِذَا زَادَ عَدَدُ الْجَارِحِينَ ". قَالَ الْخَطِيبُ: " وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنِيٍّ قَدْ عَلِمَهُ، وَيُصَدِّقُ الْمُعَدِّلَ وَيَقُولُ لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ مِنْ حَالِهِ الظَّاهِرِ مَا عَلِمْتُهُ، وَتَفَرَّدْتُ بِعِلْمٍ لَمْ تَعْلَمْهُ مِنِ اخْتِبَارِ أَمْرِهِ "، يَعْنِي: فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ. قَالَ: " وَإِخْبَارُ الْمُعَدِّلِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ لَا يَنْفِي صِدْقَ قَوْلِ الْجَارِحِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ الْجَرْحُ أَوْلَى مِنَ التَّعْدِيلِ "، وَغَايَةُ قَوْلِ الْمُعَدِّلِ كَمَا قَالَ الْعَضَدُ: " إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فِسْقًا وَلَمْ يَظُنَّهُ فَظَنَّ عَدَالَتَهُ ; إِذِ الْعِلْمُ بِالْعَدَمِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالْجَارِحُ يَقُولُ: أَنَا عَلِمْتُ فِسْقَهُ، فَلَوْ حَكَمْنَا بِعَدَمِ فِسْقِهِ كَانَ الْجَارِحُ كَاذِبًا، وَلَوْ حَكَمْنَا بِفِسْقِهِ كَانَا صَادِقَيْنِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ، وَالْجَمْعُ أَوْلَى مَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْعَدْلِ خِلَافُ الظَّاهِرِ " انْتَهَى. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْخَطِيبُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْجَارِحِ غَيْرُ مُتَضَمِّنٍ لِتُهَمَةِ الْمُزَكِّي بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ. قَالَ: وَلِأَجْلِ هَذَا وَجَبَ إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، وَشَهِدَ لَهُ آخَرَانِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ، أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِالْقَضَاءِ أَوْلَى ; لِأَنَّ شَاهِدَيِ الْقَضَاءِ يُصَدِّقَانِ الْآخَرَيْنِ، وَيَقُولَانِ: عَلِمْنَا خُرُوجَهُ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنْتُمَا لَمْ تَعْلَمَا ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ شَاهِدَا ثُبُوتِ الْحَقِّ: نَشْهَدُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَقِّ، لَكَانَتْ شَهَادَةً بَاطِلَةً. لَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِتَقْدِيمِ الْجَرْحِ بِمَا إِذَا فُسِّرَ، وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا يُسَاعِدُهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَدَّمَ التَّعْدِيلَ ; كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وَغَيْرِهِ، أَمَّا إِذَا تَعَارَضَا مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ فَالتَّعْدِيلُ كَمَا قَالَهُ الْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: " إِنَّ الْأَقْوَى حِينَئِذٍ أَنْ يُطْلَبَ التَّرْجِيحُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفِي قَوْلَ الْآخَرِ "، وَتَعْلِيلُهُ يُخْدَشُ فِيهِ بِمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَا قَيَّدَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا إِذَا أُطْلِقَ التَّعْدِيلُ، أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُعَدِّلُ: عَرَفْتُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَارِحُ، لَكِنَّهُ تَابَ مِنْهُ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ ; فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُعَدِّلُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ. وَكَذَا لَوْ نَفَاهُ بِطَرِيقٍ مُعْتَبَرٍ، كَأَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ عِنْدَ التَّجْرِيحِ بِقَتْلِهِ لِفُلَانٍ فِي يَوْمِ كَذَا: إِنَّ فُلَانًا الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ وَهُوَ حَيٌّ ; فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَارُضُ ; لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَيُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: (أَمَّا عِنْدَ إِثْبَاتِ مُعَيَّنٍ وَنَفْيِهِ بِالْيَقِينِ فَالتَّرْجِيحُ) . (وَقِيلَ: إِنْ ظَهَرْ مَنْ عَدَّلَ الْأَكْثَرَ) بِالنَّصْبِ حَالًا بِاعْتِقَادِ تَنْكِيرِهِ، يَعْنِي: إِنْ كَانَ الْمُعَدِّلُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا (فَهُوَ) أَيِ: التَّعْدِيلُ (الْمُعْتَبَرْ) . حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ طَائِفَةٍ، وَصَاحِبُ (الْمَحْصُولِ) لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تُقَوِّي الظَّنَّ، وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ كَمَا فِي تَعَارُضِ الْحَدِيثَيْنِ. قَالَ الْخَطِيبُ: " وَهَذَا خَطَأٌ وَبُعْدٌ مِمَّنْ تَوَهَّمَهُ ; لِأَنَّ الْمُعَدِّلِينَ وَإِنْ كَثُرُوا لَيْسُوا يُخْبِرُونَ عَنْ عَدَمِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْجَارِحُونَ، وَلَوْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ، لَخَرَجُوا بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ تَعْدِيلٍ أَوْ جَرْحٍ ; لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بَاطِلَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا يَصِحُّ وَيَجُوزُ وُقُوعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوهُ فَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ "، وَإِنَّ تَقْدِيمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الْجَرْحِ إِنَّمَا هُوَ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَةً خَفِيَتْ عَلَى الْمُعَدِّلِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُعَدِّلِ وَنَقْصِهِ وَمُسَاوَاتِهِ، فَلَوْ جَرَّحَهُ وَاحِدٌ وَعَدَّلَهُ مِائَةٌ، قُدِّمَ الْوَاحِدُ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا حِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ فَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعَ الْمُعَدِّلِ زِيَادَةَ قُوَّةٍ بِالْكَثْرَةِ، وَمَعَ الْجَارِحِ زِيَادَةَ قُوَّةٍ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْبَاطِنِ، وَبِالْجَمْعِ الْمُمْكِنِ، [وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الْأَحْفَظُ] . ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا صَدَرَا مِنْ قَائِلَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَا مِنْ قَائِلٍ وَاحِدٍ كَمَا يَتَّفِقُ لِابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْدِ، فَهَذَا قَدْ لَا يَكُونُ تَنَاقُضًا، بَلْ نِسْبِيًّا فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ نَاشِئًا عَنْ تَغَيُّرِ اجْتِهَادٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا إِنْ عُلِمَ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ. [التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ] 280 - وَمُبْهَمُ التَّعْدِيلِ لَيْسَ يَكْتَفِي ... بِهِ الْخَطِيبُ وَالْفَقِيهُ الصَّيْرَفِي 281 - وَقِيلَ يَكْفِي نَحْوُ أَنْ يُقَالَا ... حَدَّثَنِي الثِّقَةُ بَلْ لَوْ قَالَا 282 - جَمِيعُ أَشْيَاخِي ثِقَاتٌ لَوْ لَمْ ... أُسَمِّ لَا يُقْبَلُ مَنْ قَدْ أَبْهَمْ 283 - وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَرُدَّهُ ... مِنْ عَالِمٍ فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ 284 - وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أَوْ عَمَلَهُ ... عَلَى وِفَاقِ الْمَتْنِ تَصْحِيحًا لَهُ 285 - وَلَيْسَ تَعْدِيلًا عَلَى الصَّحِيحِ ... رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَلَى التَّصْرِيحِ [التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ] : السَّادِسُ: فِي التَّعْدِيلِ الْمُبْهَمِ، وَمُجَرَّدِ الرِّوَايَةِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الْمُعَيَّنِ بِدُونِ تَعْدِيلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَمُبْهَمُ التَّعْدِيلِ) أَيْ: تَعْدِيلُ الْمُبْهَمِ (لَيْسَ يَكْتَفِي بِهِ) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ (الْخَطِيبُ) ، وَعَصْرِيُّهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ (وَ) مِنْ قَبْلِهِمَا (الْفَقِيهُ) أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (الصَّيْرَفِيُّ) شَارِحُ الرِّسَالَةِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ; كَالْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ وَغَيْرُهُ. (وَقِيلَ: يَكْفِي) كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ ; لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا، نَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَيْضًا فِي الْعُدَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيِفَةَ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمَحْذُوفِ لَمَا حَذَفَهُ، فَكَأَنَّهُ عَدَّلَهُ، بَلْ هُوَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ ; لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِالتَّعْدِيلِ. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيلِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ كَذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ إِذَا سَمَّاهُ يُعْرَفُ بِخِلَافِهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ قَدِ انْفَرَدَ بِتَوْثِيقِهِ كَمَا وَقَعَ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يُوَثِّقْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ إِضْرَابُ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 رِيبَةٌ تَقَعُ تَرَدُّدًا فِي الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدُ فَرْعٍ، فَلَابُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِ لِلْحَاكِمِ الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَالَ شَاهِدُ الْفَرْعِ: أَشْهَدَنِي شَاهِدُ أَصْلٍ أَشْهَدُ بِعَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِكَذَا، لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ وِفَاقًا حَتَّى يُعَيِّنَهُ لِلْحَاكِمِ، ثُمَّ الْحَاكِمُ إِنْ عَلِمَ عَدَالَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ عَمِلَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ جَهِلَ حَالَهُ اسْتَزْكَاهُ - انْتَهَى. وَصُورَتُهُ: (نَحْوُ أَنْ يُقَالَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ) أَوِ الضَّابِطُ أَوِ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ (بَلْ) صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ (لَوْ قَالَا) أَيْضًا: (جَمِيعُ أَشْيَاخِي) الَّذِينَ رَوَيْتُ عَنْهُمْ (ثِقَاتٌ) ، وَ (لَوْ لَمْ أُسَمِّ) ، ثُمَّ رَوَى عَنْ وَاحِدٍ أَبْهَمَ اسْمَهُ (لَا يُقْبَلُ) أَيْضًا (مَنْ قَدْ أَبْهَمْ) لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّهُ كَمَا نَقَلَ عَنِ الْمُصَنِّفِ إِذَا قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ ضَعِيفٍ، يَعْنِي عِنْدَ غَيْرِهِ، وَإِذَا قَالَ: جَمِيعُ أَشْيَاخِي ثِقَاتٌ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، فَهِيَ أَرْفَعُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذِ احْتِمَالُ الضَّعْفِ عِنْدَ غَيْرِهِ قَدْ طَرَقَهُمَا مَعًا. بَلْ تَمْتَازُ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ بِاحْتِمَالِ الذُّهُولِ عَنْ قَاعِدَتِهِ، أَوْ كَوْنِهِ لَمْ يَسْلُكْ ذَلِكَ إِلَّا فِي آخِرِ أَمْرِهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ يَتَسَاهَلُ أَوَّلًا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ بِحَيْثُ كَانَ يَرْوِي عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، ثُمَّ شَدَّدَ. نَعَمْ، جَزَمَ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَالَ: كُلُّ مَنْ أَرْوِي لَكُمْ عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ رَضِيٌّ، كَانَ تَعْدِيلًا مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ، يَعْنِي بِحَيْثُ يَسُوغُ لَنَا إِضَافَةُ تَعْدِيلِهِ لَهُ، قَالَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِيهِمُ الضَّعِيفُ ; لِخَفَاءِ حَالِهِ عَلَى الْقَائِلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 قُلْتُ: أَوْ لِكَوْنِ عَمَلِهِ بِقَوْلِهِ هَذَا مِمَّا طَرَأَ كَمَا قَدَّمْتُهُ (وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ) كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَعَلَّهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَصَّلَ حَيْثُ (لَمْ يَرُدَّهُ) أَيِ: التَّعْدِيلَ لِمَنْ أُبْهِمَ إِذَا صَدَرَ (مِنْ عَالِمٍ) كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُقَلِّدِينَ (فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ) فِي مَذْهَبِهِ، فَكَثِيرًا مَا يَقَعُ لِلْأَئِمَّةِ ذَلِكَ، فَحَيْثُ رَوَى مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ وَلَدُهُ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَوِ الزُّهْرِيُّ، أَوِ ابْنُ لَهِيعَةَ، أَوْ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ اللَّيْثُ. وَجَمِيعُ مَا يَقُولُ: بَلَغَنِي عَنْ عَلِيٍّ، سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ. وَحَيْثُ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، فَهُوَ أَبُو أُسَامَةَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَهُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَوْ عَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الثِّقَةِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، فَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ وَذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ فَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ الشَّافِعِيِّ " أَنَا الثَّقَةُ " فَهُوَ أَبِي، يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا، نَعَمْ، فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَسَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِذَا قَالَ: " أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ " فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَوْ " مَنْ لَا أَتَّهِمُ " فَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، أَوْ " بَعْضُ النَّاسِ " فَيُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَوْ " بَعْضَ أَصْحَابِنَا " فَأَهْلُ الْحِجَازِ. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ أَدْرَكَ يَحْيَى، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى. بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقَلِّدْ كَابْنِ إِسْحَاقَ ; حَيْثُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ، فَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ فُسِّرَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ الْمَعْرُوفِ بِالضَّعْفِ، وَكَسِيبَوَيْهِ ; فَإِنَّ أَبَا زَيْدٍ قَالَ: إِذَا قَالَ: سِيبَوَيْهِ حَدَّثَنِي، فَإِنَّمَا يَعْنِينِي. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الْحَكَمِ، وَقَدْ عَرَفَ هُوَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ تَوَقَّفَ شَيْخُنَا [فِي هَذَا الْقَوْلِ] ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَبْحَثِ ; لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَتْبَعُ إِمَامَهُ، ذَكَرَ دَلِيلَهُ أَمْ لَا. تَنْبِيهٌ: أَلْحَقَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بِحَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ مِثْلِ الشَّافِعِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي مُطْلَقِ الْقَبُولِ، لَا فِي الْمَرْتَبَةِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الذَّهَبِيُّ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ مَنْ أَنْزَلَهُ مِنْ رُتْبَةِ الثِّقَةِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَهُوَ لَيِّنٌ عِنْدَهُ، وَضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَنَا مَجْهُولٌ، وَلَا حُجَّةَ فِي مَجْهُولٍ. وَنَفْيُ الشَّافِعِيِّ التُّهَمَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الضَّعْفِ ; فَإِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ وَوَالِدَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ الْأَفْرِيقِيَّ وَأَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ نَتَّهِمُهُمْ عَلَى السُّنَنِ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ لَا نَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ. قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: وَهُوَ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ حِينَ احْتِجَاجِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ وَالتَّوْثِيقُ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ. (وَلَمْ يَرَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ (فُتْيَاهُ) أَوْ فَتْوَاهُ كَمَا هِيَ بِخَطِّ النَّاظِمِ ; أَيِ: الْعَالِمِ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا (أَوْ عَمَلَهُ) فِي الْأَقْضِيَةِ وَغَيْرِهَا. (عَلَى وِفَاقٍ الْمَتْنِ) أَيِ: الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ ذَلِكَ بِمُفْرَدِهِ مُسْتَنَدُهُ (تَصْحِيحًا لَهُ) أَيْ: لِلْمَتْنِ، وَلَا تَعْدِيلًا لِرَاوِيهِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْمَتْنَ مِنْ مَتْنٍ غَيْرِهِ، أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَرَى الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ وَتَقْدِيمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَيَكُونُ اقْتِصَارُهُ عَلَى هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الْمَتْنِ أَنَّ ذِكْرَهُ إِمَّا لِكَوْنِهِ أَوْضَحَ فِي الْمُرَادِ، أَوْ لِأَرْجَحِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي رَاوِيهِ، قَالَ الْخَطِيبُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدَلَ عَنْهُ لِمُعَارِضٍ أَرْجَحَ عِنْدَهُ مِنْهُ مِنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرٍ انْفَرَدَ بِهِ رَاوٍ لِأَجْلِهِ، يَعْنِي: جَزْمًا، يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ، الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِهِ إِلَّا وَهُوَ رَضِيٌّ عِنْدَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِتَعْدِيلِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ بِالشَّهَادَةِ تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَعَمَلَ الْعَالِمِ مِثْلُهُ. (وَ) كَذَا (لَيْسَ تَعْدِيلًا) مُطْلَقًا (عَلَى) الْقَوْلِ (الصَّحِيحِ) الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (رِوَايَةُ الْعَدْلِ) الْحَافِظِ الضَّابِطِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، عَنِ الرَّاوِي (عَلَى) وَجْهِ (التَّصْرِيحِ) بِاسْمِهِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ، بَلْ وَعَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَا تَتَضَمَّنُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ تَعْدِيلَهُ وَلَا خَبَرًا عَنْ صِدْقِهِ، كَمَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدُ فَرْعٍ عَلَى شَاهِدِ أَصْلٍ لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَتِهِ تَعْدِيلًا مِنْهُ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إِذَا أَشْهَدَ الْحَاكِمُ عَلَى نَفْسِهِ رَجُلًا بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: " لَا تَسْتَدِلَّ بِمَعْرِفَةِ صِدْقِ مَنْ حَدَّثَنَا عَلَى صِدْقِ مَنْ فَوْقَهُ "، بَلْ صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّاوِي حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِمُجَرَّدِ رِوَايَةِ اثْنَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عَنْهُ. [وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ ; إِذْ لَوْ عَلِمَ فِيهِ جَرْحًا لَذَكَرَهُ ; لِئَلَّا يَكُونَ غَاشًّا فِي الدِّينِ، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْكَفِيلِ: لِلتَّعْدِيلِ قِسْمَانِ: صَرِيحِيٌّ وَغَيْرُ صَرِيحِيٍّ، فَالصَّرِيحِيُّ وَاضِحٌ، وَغَيْرُ الصَّرِيحِيِّ، وَهُوَ الضِّمْنِيُّ، كَرِوَايَةِ الْعَدْلِ وَعَمَلِ الْعَالِمِ. وَرَدَّهُ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ عَدَالَتُهُ وَلَا جَرْحُهُ] ، كَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ رَوَوْا عَنْ قَوْمٍ أَحَادِيثَ أَمْسَكُوا فِي بَعْضِهَا عَنْ ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْضِيِّينَ، وَفِي بَعْضِهَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ. وَكَذَا خَطَّأَهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ: " لِأَنَّ الرِّوَايَةَ تَعْرِيفٌ ; أَيْ: مُطْلَقُ تَعْرِيفٍ، يَزُولُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ بِهَا بِشَرْطِهِ، وَالْعَدَالَةُ بِالْخِبْرَةِ، وَالرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْخِبْرَةِ ". وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنِّي لَأَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَلِلْحُجَّةِ مِنْ رَجُلٍ، وَلِلتَّوَقُّفِ فِيهِ مِنْ آخَرَ، وَلِمَحَبَّةِ مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ مَنْ لَا أَعْتَدُّ بِحَدِيثِهِ، لَكِنْ قَدْ عَابَ شُعْبَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ لِأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ: أَهْلُ الْحَدِيثِ رُبَّمَا رَوَوْا حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا يَصِحُّ، فَقَالَ: عُلَمَاؤُهُمْ يَعْرِفُونَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، فَرِوَايَتُهُمُ الْحَدِيثَ الْوَاهِيَ لِلْمَعْرِفَةِ ; لِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ مَيَّزُوا الْآثَارَ وَحَفِظُوهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ. وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنِ الرَّاوِي تَعْدِيلًا لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ; كَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِمَا، بَلْ وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الشَّيْخَيْنِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صِحَاحِهِمْ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يَتَقَوَّى بِهِ الْمُرْسِلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ إِذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ - انْتَهَى. وَأَمَّا رِوَايَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ فَلَا يَكُونُ تَعَدْيِلًا بِاتِّفَاقٍ. تَتِمَّةٌ: مِمَّنْ كَانَ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ إِلَّا فِي النَّادِرِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَحُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَشُعْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَذَلِكَ فِي شُعْبَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَنَّتُ فِي الرِّجَالِ وَلَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثَبْتٍ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ عِصَامُ بْنُ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: لَوْ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ عَنْ ثَلَاثَةٍ. وَفِي نُسْخَةٍ: ثَلَاثِينَ. وَذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ يَرْوِي عَنِ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ، فَيُنْظَرُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ مَتْرُوكٍ، وَلَا عَمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى ضَعْفِهِ. وَأَمَّا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَكَانَ يَتَرَخَّصُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ وَشِدَّةِ وَرَعِهِ وَيَرْوِي عَنِ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ صَاحِبُهُ شُعْبَةُ: لَا تَحْمِلُوا عَنِ الثَّوْرِيِّ إِلَّا عَمَّنْ تَعْرِفُونَ ; فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ حَمَلَ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَا تَكْتُبْ عَنْ مُعْتَمِرٍ إِلَّا عَمَّنْ تَعْرِفُ ; فَإِنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ كُلٍّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وَاعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنَ التَّوَسُّطِ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْهِ بِمُوَافَقَةِ حَدِيثٍ لِمَا أَفْتَى بِهِ الْعَالِمُ أَوْ عَمِلَ بِهِ - ظَاهِرٌ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الْمُفَصَّلِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ خَالَفَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا الصَّنِيعَ. [ الاختلاف في المجهول ] 286 - وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقْبَلُ الْمَجْهُولُ ... وَهْوَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَجْعُولُ 287 - مَجْهُولُ عَيْنٍ: مَنَّ لَهُ رَاوٍ فَقَطْ ... وَرَدَّهُ الْأَكْثَرُ وَالْقِسْمُ الْوَسَطْ 288 - مَجْهُولُ حَالٍ بَاطِنٍ وَظَاهِرِ ... وَحُكْمُهُ الرَّدُّ لَدَى الْجَمَاهِرِ 289 - وَالثَّالِثُ الْمَجْهُولُ لِلْعَدَالَهْ ... فِي بَاطِنٍ فَقَطْ فَقَدْ رَأَى لَهْ 290 - حُجِّيَّةً فِي الْحُكْمِ بَعْضُ مَنْ مَنَعْ ... مَا قَبْلَهُ مِنْهُمْ سُلَيْمٌ فَقَطَعْ 291 - بِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ إِنَّ الْعَمَلَا ... يُشْبِهُ أَنَّهُ عَلَى ذَا جُعِلَا 292 - فِي كُتُبٍ مِنَ الْحَدِيثِ اشْتَهَرَتْ ... خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ بِهَا تَعَذَّرَتْ 293 - فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَبَعْضٌ يَشْهَرُ ... ذَا الْقِسْمَ مَسْتُورًا وَفِيهِ نَظَرُ [الاخْتِلَاف فِي الْمَجْهُولِ] : السَّابِعُ: (وَاخْتَلَفُوا) أَيِ: الْعُلَمَاءُ (هَلْ يُقْبَلُ) الرَّاوِي (الْمَجْهُولُ) مَعَ كَوْنِهِ مُسَمًّى (وَهْوَ عَلَى ثَلَاثِةٍ) مِنَ الْأَقْسَامِ (مَجْعُولُ) . الْأَوَّلُ: (مَجْهُولُ عَيْنٍ) ، وَهُوَ كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: (مَنْ لَهُ رَاوٍ) وَاحِدٌ (فَقَطْ) كَجَبَّارٍ - بِالْجِيمِ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنِ شَدَّادٍ، الطَّائِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ ذِيِ حُدَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَوْ مَالِكِ بْنِ أَعَزَّ، بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَعَمْرٍو الْمُلَقَّبِ ذِي مُرٍّ الْهَمْدَانِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ كُرْكُمَ الْأَحْدَبِ ; فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، وَكَجُرَيِّ بْنِ كُلَيْبٍ السَّدُوسِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَحَلَّامِ بْنِ جَزْلٍ، وَسَمْعَانَ بْنِ مُشَنَّجٍ أَوْ مُشَمْرَجٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ التَّيْمِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ الْيَحْصُبِيِّ، وَعُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، وَأَبِي يَحْيَى مَوْلَى أَبِي جَعْدَةَ ; حَيْثُ لَمْ يَرْوِ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَّا قَتَادَةُ. وَعَنِ الثَّانِي إِلَّا أَبُو الطُّفَيْلِ الصَّحَابِيُّ، وَعَنِ الثَّالِثِ إِلَّا الشَّعْبِيُّ، وَعَنِ الرَّابِعِ إِلَّا بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، وَعَنِ الْخَامِسِ إِلَّا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وَعَنِ السَّادِسِ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، وَعَنِ السَّابِعِ إِلَّا الزُّهْرِيُّ، وَعَنِ الثَّامِنِ إِلَّا شُعْبَةُ، وَعَنِ التَّاسِعِ إِلَّا الْأَعْمَشُ، هَذَا مَعَ تَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ لِابْنِ مَوْهَبٍ لَكِنْ مَقْرُونًا، وَالْبُخَارِيِّ لِابْنِ نَمِرٍ فِي الْمُتَابَعَةِ، وَلِلْمَخْزُومِيِّ تَعْلِيقًا، وَلِلتَّيْمِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَمُسْلِمٍ لِأَبِي يَحْيَى فِي الْمُتَابَعَةِ فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ تُؤْخَذُ مِنْ جُزْءِ الْوَحْدَانِ لِمُسْلِمٍ كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِيمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [ (وَ) لَكِنْ قَدْ (رَدَّهُ) أَيْ: مَجْهُولَ الْعَيْنِ (الْأَكْثَرُ) مِنَ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا. وَعِبَارَةُ الْخَطِيبِ: " أَقَلُّ مَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ ; أَيِ: الْعَيْنِيَّةُ عَنِ الرَّاوِي، أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ "، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ: " الْمُبْهَمُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ، أَوْ مَنْ سُمِّيَ وَلَا تُعْرَفُ عَيْنُهُ، لَا يَقْبَلُ رِوَايَتَهُ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ. نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَالْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لِأَهْلِهَا بِالْخَيْرِيَّةِ فَإِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِرِوَايَتِهِ، وَيُسْتَضَاءُ بِهَا فِي مَوَاطِنَ، كَمَا أَسْلَفْتُ حِكَايَتَهُ فِي آخِرِ رَدِّ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ. وَكَأَنَّهُ سَلَفَ ابْنَ السُّبْكِيِّ فِي حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الرَّدِّ وَنَحْوِهِ قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّاقِ: " لَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي رَدِّ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يُحْكَى الْخِلَافُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ "، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ] . وَقَدْ قَبِلَ أَهْلُ هَذَا الْقِسْمِ مُطْلَقًا مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الرَّاوِي مَزِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَزَاهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ لِلْحَنَفِيَّةِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، بَلْ قَبِلُوا رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الْإِطْلَاقِ - انْتَهَى. وَهُوَ لَازِمُ كُلِّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْعَدْلِ بِمُجَرَّدِهَا عَنِ الرَّاوِي تَعْدِيلٌ لَهُ، بَلْ عَزَا النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مُسْلِمٍ لِكَثِيرِينَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ. وَكَذَا ذَهَبَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى أَنَّ جَهَالَةَ الْعَيْنِ تَرْتَفِعُ بِرِوَايَةِ وَاحِدٍ مَشْهُورٍ. وَإِلَيْهِ يُومِئُ قَوْلُ تِلْمِيذِهِ ابْنِ حِبَّانَ: الْعَدْلُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ الْجَرْحُ ; إِذِ التَّجْرِيحُ ضِدُّ التَّعْدِيلِ، فَمَنْ لَمْ يُجَرَّحْ فَهُوَ عَدْلٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، إِذْ لَمْ يُكَلَّفِ النَّاسُ مَا غَابَ عَنْهُمْ. وَقَالَ فِي ضَابِطِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ مَا مُحَصِّلُهُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَرَّى رَاوِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَجْرُوحًا، أَوْ فَوْقَهُ مَجْرُوحٌ، أَوْ دُونَهُ مَجْرُوحٌ، أَوْ كَانَ سَنَدُهُ مُرْسَلًا أَوْ مُنْقَطِعًا، أَوْ كَانَ الْمَتْنُ مُنْكَرًا، فَهَذَا مُشْعِرٌ بِعَدَالَةِ مَنْ لَمْ يُجَرَّحْ مِمَّنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ. وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ فِي ثِقَاتِهِ: أَيُّوبُ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَنْهُ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ: لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، وَلَا ابْنَ مَنْ هُوَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُ يُؤَيِّدُ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي الثِّقَاتِ كُلَّ مَجْهُولٍ رَوَى عَنْهُ ثِقَةٌ وَلَمْ يُجَرَّحْ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ مُنْكَرًا، وَقَدْ سَلَفَتِ الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ الزَّائِدِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ. وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْقَبُولَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ ; كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَلَفَ ذِكْرُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ حَيْثُ اكْتَفَيْنَا فِي التَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الْمُعْتَمَدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَخْدُوشٌ بِمَا بُيِّنَ قَرِيبًا، وَكَذَا خَصَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا، أَيْ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَنَحْوِهَا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ بِالزُّهْدِ كَشُهْرَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ بِهِ، أَوْ بِالنَّجْدَةِ كَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، أَوْ بِالْأَدَبِ وَالصِّنَاعَةِ وَنَحْوِهَا. فَأَمَّا الشُّهْرَةُ بِالْعِلْمِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ فَهِيَ كَافِيَةٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، بَلْ نَقَلَهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ هُنَا أَيْضًا عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: الْمَجْهُولُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ هُوَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا عَرَفَهُ الْعُلَمَاءُ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ رَاوٍ وَاحِدٍ، يَعْنِي حَيْثُ لَمْ يَشْتَهِرْ. وَنَحْوُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلَ سُئِلَ عَنْهَا: الْمَجْهُولُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ هُوَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْعُلَمَاءُ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ رَاوٍ وَاحِدٍ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ لَا يَضُرُّهُ إِذَا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيِّ الْحَافِظِ: إِنَّهُ بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ لَا تَرْتَفِعُ عَنِ الرَّاوِي اسْمُ الْجَهَالَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا فِي قَبِيلَتِهِ، أَوْ يَرْوِيَ عَنْهُ آخَرُ. وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ انْفِرَادُ الْوَاحِدِ عَمَّنْ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; حَيْثُ جَزَمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الْمُؤَلِّفُ بِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُضِيفُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا بِذِكْرِهِ فِي الْغَزَوَاتِ، أَوْ فِيمَنْ وَفَدَ عَلَيْهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ. وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبُولَ بِمَنْ يُزَكِّيهِ مَعَ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي بَيَانِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ، وَصَحَّحَهُ شَيْخُنَا، وَعَلَيْهِ يَتَمَشَّى تَخْرِيجُ الشَّيْخَيْنِ فِي صَحِيحَيْهِمَا لِجَمَاعَةٍ أَفْرَدَهُمُ الْمُؤَلِّفُ بِالتَّأْلِيفِ. فَمِنْهُمُ مِمَّنِ اتُّفِقَ عَلَيْهِ حُصَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَمِمَّنِ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ جُوَيْرِيَةُ أَوْ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَزَيْدُ بْنُ رَبَاحٍ الْمَدَنِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَدِيعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَارُودِيُّ، وَمِمَّنِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ جَابِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَضْرَمِيُّ، وَخَبَّابٌ الْمَدَنِيُّ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ ; حَيْثُ تَفَرَّدَ عَنِ الْأَوَّلِ الزُّهْرِيُّ، وَعَنِ الثَّانِي أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضَّبَعِيُّ، وَعَنِ الثَّالِثِ مَالِكٌ، وَعَنِ الرَّابِعِ أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، وَعَنِ الْخَامِسِ الزُّهْرِيُّ، وَعَنِ السَّادِسِ ابْنُهُ الْمُنْذِرُ، وَعَنِ السَّابِعِ ابْنُ وَهْبٍ، وَعَنِ الثَّامِنِ عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ; فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُوَثَّقُونَ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بِتَجْهِيلٍ. نَعَمْ، جَهَّلَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَكَمِ الْمَرْوَزِيَّ الْأَحْوَلَ أَحَدَ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فِي صَحِيحِهِ، وَالْمُنْفَرِدَ عَنْهُ بِالرِّوَايَةِ ; لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَلَكِنْ نَقُولُ: مَعْرِفَةُ الْبُخَارِيِّ بِهِ الَّتِي اقْتَضَتْ لَهُ رِوَايَتَهُ عَنْهُ وَلَوِ انْفَرَدَ بِهِمَا كَافِيَةٌ فِي تَوْثِيقِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ عَرَفَهُ أَيْضًا، وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ رَشِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي بِأَنَّهُ لَوْ عُدَّ لَهُ الْمُنْفَرِدُ عَنْهُ كَفَى. وَصَحَّحَهُ شَيْخُنَا أَيْضًا إِذَا كَانَ مُتَأَهِّلًا لِذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا ثَبَتَتْ صُحْبَةُ الصَّحَابِيِّ بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ الْمُصَرِّحِ بِصُحْبَتِهِ عَنْهُ. عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّجُلِ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ، لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى وَاحِدٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ: مَجْهُولٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلِذَا قَالَ الذَّهَبِيُّ عَقِبَهُ: هَذَا الْقَوْلُ يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ وَلَوْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ثِقَاتٌ، يَعْنِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْحَالِ، وَقَدْ قَالَ فِي عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ كَرْدَمٍ بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُ بِرِوَايَةِ جَمَاعَةٍ عَنْهُ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ فِي زِيَادِ بْنِ جَارِيَةَ التَّمِيمِيِّ الدِّمَشْقِيِّ مَعَ أَنَّهُ قِيلَ فِي زِيَادٍ هَذَا: إِنَّهُ صَحَابِيٌّ. وَبِمَا تَقَرَّرَ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِ مَنْ خَرَّجَ لَهُمْ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِمَّنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ مَا نَصُّهُ: " وَذَلِكَ مُصَيَّرٌ مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولًا مَرْدُودًا بِرِوَايَةِ وَاحِدٍ عَنْهُ "، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَمِمَّنْ أَثْنَى عَلَى مَنِ اعْتُرِفَ لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ أَبُو دَاوُدَ، فَقَالَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ غَانِمٍ الرُّعَيْنِيِّ قَاضِي إِفْرِيقِيَّةَ: أَحَادِيثُهُ مُسْتَقِيمَةٌ، مَا أَعْلَمُ حَدَّثَ عَنْهُ غَيْرُ الْقَعْنَبِيِّ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ، فَقَالَ فِي جَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ: إِنَّهُ مَعْرُوفٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ كَلَامَهُ لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ، وَإِلَّا فَجَوْنٌ قَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ نَفْسَهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَجْهُولِينَ مَنْ شُيُوخِ الْحَسَنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَرِوَايَةُ إِمَامٍ نَاقِلٍ لِلشَّرِيعَةِ لِرَجُلٍ مِمَّنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى وَاحِدٍ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ كَافِيَةٌ فِي تَعْرِيفِهِ وَتَعْدِيلِهِ. وَوَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ مُخَالَفَةُ ابْنِ رَشِيدٍ فِي تَسْمِيَتِهِ مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ مَجْهُولُ الْعَيْنِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ تَخْرُجُ عَنْ جَهَالَةِ الْعَيْنِ إِذَا سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ. وَقَسَّمَ بَعْضُهُمُ الْمَجْهُولَ فَقَالَ: مَجْهُولُ الْعَيْنِ وَالْحَالِ مَعًا ; كَعَنْ رَجُلٍ، وَالْعَيْنِ فَقَطْ ; كَعَنِ الثِّقَةِ، [يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِالِاكْتِفَاءِ بِهِ] ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالْحَالِ فَقَطْ ; كَمَنْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ، فَأَمَّا جَهَالَةُ التَّعْيِينِ فَخَارِجَةٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ ; كَأَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ وَيُسَمِّيهِمَا، وَهُمَا عَدْلَانِ، فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ جُهِلَتْ عَدَالَةُ أَحَدِهِمَا مَعَ التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ أَوْ إِبْهَامِهِ فَلَا. [انْتَهَى، وَيُنْظَرُ فِي إِلْحَاقِ مَسْأَلَةِ الْبَابِ بِأَيِ أَقْسَامِهِ] . (وَالْقِسْمُ الْوَسَطْ) أَيِ: الثَّانِي (مَجْهُولُ حَالٍ بَاطِنٍ) وَحَالٍ (ظَاهِرِ) مِنَ الْعَدَالَةِ وَضِدِّهَا، مَعَ عِرْفَانِ عَيْنِهِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عَنْهُ (وَحُكْمُهُ الرَّدُّ) وَعَدَمُ الْقَبُولِ (لَدَى) أَيْ: عِنْدَ (الْجَمَاهِرِ) مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَعَزَاهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ لِلْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الرَّازِيُّ، وَمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ صَنِيعِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ يَشْهَدُ لَهُ. وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: لَا يَثْبُتُ لِلرَّاوِي حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَةِ الِاثْنَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَا فَرْقَ فِي جَهَالَةِ الْحَالِ بَيْنَ رِوَايَةِ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ مَا لَمْ يُصَرِّحِ الْوَاحِدُ أَوْ غَيْرُهُ بِعَدَالَتِهِ. نَعَمْ، كَثْرَةُ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ عَنِ الشَّخْصِ تُقَوِّي حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ. وَأَمَّا الْمَجَاهِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُمْ إِلَّا الضُّعَفَاءُ فَهُمْ مَتْرُوكُونَ، كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ، عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَتَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مُجَرَّدَ الرِّوَايَةِ عَنِ الرَّاوِي لَا تَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: تُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ لَازِمُ مَنْ جَعَلَ مُجَرَّدَ رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنِ الرَّاوِي تَعْدِيلًا لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَأَوْلَى، بَلْ نَسَبَهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ لِأَكْثَرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْبَزَّارِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ. وَعِبَارَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ: " مَنْ رَوَى عَنْهُ ثِقَتَانِ فَقَدِ ارْتَفَعَتْ جَهَالَتُهُ، وَثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِي الدِّيَاتِ نَحْوَهُ، وَكَذَا اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ رِوَايَتِهِمَا ابْنُ حِبَّانَ، بَلْ تَوَسَّعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَجْهُولِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: يُفَصَّلُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِيَانِ إِلَّا عَنْ عَدْلٍ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا. (وَ) الْقِسْمُ (الْثَالِثُ الْمَجْهُولُ لِلْعَدَالَهْ) أَيْ: مَجْهُولُ الْعَدَالَةِ (فِي بَاطِنٍ فَقَطْ) مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ (فَ) هَذَا (قَدْ رَأَى لَهْ حُجِّيَّةً) أَيِ: احْتِجَاجًا بِهِ (فِي الْحُكْمِ بَعْضُ مَنْ مَنَعْ) مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (مَا قَبْلَهُ) مِنَ الْقِسْمَيْنِ (مِنْهُمُ) الْفَقِيهُ (سُلَيْمٌ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُصَغَّرًا، ابْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ. وَزَادَ: (فَقَطَعْ) أَيْ: جَزَمَ (بِهِ) لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تُبْنَى عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، وَأَيْضًا فَلِتَعَسُّرِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ عَلَى النَّاقِدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وَبِهَذَا فَارَقَ الرَّاوِي الشَّاهِدَ ; فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَهُمْ لَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِمْ، لَا سِيَّمَا مَعَ اجْتِهَادِ الْأَخْصَامِ فِي الْفَحْصِ عَنْهَا، بَلْ عَزَى الِاحْتِجَاجَ بِأَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِكَثِيرِينَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مُسْلِمٍ. قُلْتُ: وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، وَكَذَا قَبْلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ فَقَدْ وَهِمَ. (وَقَالَ الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (إِنَّ الْعَمَلَا يُشْبِهُ أَنَّهُ عَلَى ذَا) الْقَوْلِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ سُلَيْمٌ (جُعِلَا فِي كُتُبٍ) كَثِيرَةٍ (مِنَ الْحَدِيثِ اشْتَهَرَتْ) ، وَتَدَاوَلَهَا الْأَئِمَّةُ فَمَنْ دُونَهُمْ، حَيْثُ خُرِّجَ فِيهَا لِرُوَاةٍ (خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ) خَرَّجَ لَهُ مِنْهُمْ (بِهَا) أَيْ: بِالْكُتُبِ ; لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ بِهِمْ. (تَعَذَّرَتْ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ) ، فَاقْتَصَرُوا فِي الْبَعْضِ عَلَى الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّحِيحَيْنِ ; فَإِنَّ جَهَالَةَ الْحَالِ مُنْدَفِعَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَنْ خَرَّجَا لَهُ فِي الْأُصُولِ، بِحَيْثُ لَا نَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ خَرَّجَا لَهُ كَذَلِكَ يُسَوِّغُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْجَهَالَةِ عَلَيْهِ أَصْلًا، كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَتِهِ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ لِمَنْ عَدَاهُمَا لَا سِيَّمَا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الصَّحِيحَ، فَمَا قَالَهُ مُمْكِنٌ، وَكَأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ غَلَبَةُ الْعَدَالَةِ عَلَى النَّاسِ فِي تِلْكَ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا لَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْبُولًا فِي زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، هَذَا مَعَ احْتِمَالِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ نَحْنُ مِنْ أَمْرِهِمْ. (وَبَعْضٌ) مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْبَغَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ (يَشْهَرُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ ; يَعْنِي: يُسَمِّي (ذَا الْقِسْمُ مَسْتُورًا) ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ فِي النِّكَاحِ مِنَ (الرَّوْضَةِ) : إِنَّ الْمَسْتُورَ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْمَسْتُورُ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ نَقِيضُ الْعَدَالَةِ، وَلَمْ يَتَّفِقِ الْبَحْثُ فِي الْبَاطِنِ عَنْ عَدَالَتِهِ. قَالَ: وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُحَدِّثُونَ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُعْتَبَرُونَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، قَالَ: وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَنَا. وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الْقَبُولَ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي الصَّوْمِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ. قِيلَ: وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطِ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، أَهُوَ الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ، أَوْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُفَسِّقِ؟ إِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يُقْبَلِ الْمَسْتُورُ، وَإِلَّا قَبِلْنَاهُ. وَأَمَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: وَإِنْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ فَهُوَ مَجْهُولُ الْحَالِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ. وَقَدْ قَبِلَ رِوَايَتَهُ جَمَاعَةٌ بِغَيْرِ قَيْدٍ، يَعْنِي بِعَصْرٍ دُونَ آخَرَ، وَرَدَّهَا الْجُمْهُورُ، قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ وَنَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ الِاحْتِمَالُ لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِرَدِّهَا وَلَا بِقَبُولِهَا، بَلْ يُقَالُ: هِيَ مَوْقُوفَةٌ إِلَى اسْتِبَانَةِ حَالِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى أَنَّا إِذَا كُنَّا نَعْتَقِدُ عَلَى شَيْءٍ، يَعْنِي مِمَّا لَا دَلِيلَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، بَلْ لِلْجَرْيِ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَرَوَى لَنَا مَسْتُورٌ تَحْرِيمَهُ، أَنَّهُ يَجِبُ الِانْكِفَافُ عَمَّا كُنَّا نَسْتَحِلُّهُ إِلَى تَمَامِ الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الرَّاوِي. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ عَادَتِهِمْ وَشِيَمِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُمْ بِالْحَظْرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَقُّفٌ فِي الْأَمْرِ، فَالتَّوَقُّفُ عَنِ الْإِبَاحَةِ يَتَضَمَّنُ الِانْحِجَازَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَظْرِ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَاعِدَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ مُمَهِّدَةٍ، وَهُوَ التَّوَقُّفُ عِنْدَ بَدْءِ وَظُهُورِ الْأُمُورِ إِلَى اسْتِبَانَتِهَا، فَإِذَا ثَبَتَتِ الْعَدَالَةُ فَالْحُكْمُ بِالرِّوَايَةِ إِذْ ذَاكَ، وَلَوْ فَرَضَ فَارِضٌ الْتِبَاسَ حَالِ الرَّاوِي وَالْيَأْسَ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهَا، بِأَنْ يَرْوِيَ مَجْهُولٌ ثُمَّ يَدْخُلَ فِي غِمَارِ النَّاسِ، وَيَعِزَّ الْعُثُورُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ عِنْدِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْيَأْسِ لَمْ يَجِبِ الِانْكِفَافُ، [وَانْقَلَبَتِ الْإِبَاحَةُ كَرَاهِيَةً] . قَالَ شَيْخُنَا: وَنَحْوُهُ ; أَيِ: الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَنْ جُرِّحَ بِجَرْحٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ. انْتَهَى، وَيُنْظَرُ فِي: " وَانْقَلَبَتِ الْإِبَاحَةُ كَرَاهَةً ". وَوَرَاءَ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ بِالْوَقْفِ لَا يُنَافِيهِ مَا حَكَيْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ جَزْمِهِ بِعَدَمِ قَبُولِهِ، فَالْمُرْسَلُ مَعَ كَوْنِهِ ضَعِيفًا صَرَّحَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بِأَنَّ الْأَظْهَرَ وُجُوبُ الِانْكِفَافِ إِذَا دَلَّ عَلَى مَحْظُورٍ وَلَمْ يُوجَدْ سِوَاهُ، بَلْ قِيلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ احْتِجَاجُهُ بِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ كَمَا أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، وَنَحْوُهُ مَا أَسْلَفْتُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَسَنِ عَنْ أَحْمَدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا يُضَعَّفُ إِلَّا إِنْ وُجِدَ مَا يَدْفَعُهُ. فَثَبَتَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِأَجْلِ رِوَايَةِ رَاوٍ لَا يُنَافِيهِ عَدَمُ قَبُولِهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ كَمَا فِي آخِرِ الْمَوْضُوعِ اسْتِحْبَابَ التَّنَزُّهِ إِذَا وُجِدَ ضَعِيفٌ لِكَرَاهَةِ بَعْضِ الْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ احْتِيَاطًا. ثُمَّ إِنَّهُ مِمَّنْ وَافَقَ الْبَغَوِيَّ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي تَسْمِيَةِ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ الْبَاطِنَةُ مَسْتُورًا ابْنُ الصَّلَاحِ (وَفِيهِ نَظَرُ) إِذْ فِي عِبَارَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهَا هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ تَعْرِيفُ الْمَسْتُورِ بِهَذَا ; فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسُوغُ لَهُ الْحُكْمُ بِالْمَسْتُورِ، وَأَيْضًا يَكُونُ خَادِشًا بِظَاهِرِهِ فِي قَوْلِ الرَّافِعِيِّ فِي الصَّوْمِ مِمَّا أَشَارَ الشَّارِحُ لِتَأْيِيدِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِهِ: الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ هِيَ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى أَقْوَالِ الْمُزَكِّينَ، يَعْنِي ثَبَتَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا، كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِخَفَائِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَكَلَامُهُ فِي أَوَّلِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ يُرْشِدُ لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ قَرَّرَ أَنَّا إِنَّمَا كَلَّفْنَا الْعَدْلَ بِالنَّظَرِ لِمَا يَظْهَرُ لَنَا ; لِأَنَّا لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 نَعْلَمُ مَغِيبَ غَيْرِنَا، وَلِذَا لَمَّا نَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ مَا أَسْلَفْتُ حِكَايَتَهُ عَنِ الرَّافِعِيِّ فِي الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ ذَكَرَ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُهُ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِشَهَادَتِهِمَا لِمَا انْضَمَّ إِلَى الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ سُكُوتِ الْخَصْمِ عَنْ إِبْدَاءٍ قَادِحٍ فِيهِمَا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّاعِيَةِ عَلَى الْفَحْصِ فَافْتَرَقَا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِي هَذَا بِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَتْرُكُ حَقَّهُ فِي الْفَحْصِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَمَحَلُّهُ التَّشَدُّدُ. وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِمَا نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ مِمَّا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَسْتُورَ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ سِوَى إِسْلَامِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ حَضَرَ الْعَقْدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ وَلَا يُعْرَفُ حَالُهُمَا مِنَ الْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا فِي الظَّاهِرِ، قَالَ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْنَعُ شُمُولُ الْمَسْتُورِ لِكُلٍّ مِنْ هَذَا، وَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّسْمِيَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَقْسَامَ الْمَجْهُولِ كُلَّهَا فِيهِ، وَشَيْخُنَا مَا عَدَا الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَشْبَهُ، بَلْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ مِمَّا صَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ الْمَسْتُورَ بِمَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مُدَّةً يُحْتَمَلُ طُرُقُ نَقِيضِهَا. ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا اكْتَفَى بِحُضُورِهِمَا الْعَقْدَ مَعَ رَدِّهِ الْمَسْتُورَ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّرَاضِي، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَمَحَلُّهُ التَّشَدُّدُ، وَأَيْضًا فَذَاكَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَلِهَذَا لَوْ رُفِعَ الْعَقْدُ بِهِمَا إِلَى حَاكِمٍ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ. وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَطْلَقَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ لَهُ عَدَمَ احْتِجَاجِهِ بِالْمَجْهُولِ، وَنَحْوُهُ حِكَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِأَحَادِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الْمَجْهُولِينَ عَلَى أَنَّ الْبَدْرَ الزَّرْكَشِيَّ نَقَلَ عَنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ مِمَّا قَدْ يَتَّفِقُ مَعَ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ الْمَاضِي، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ الِاسْتِقَامَةُ بِلِزُومِهِ أَدَاءَ أَوَامِرِ اللَّهِ وَتَجَنُّبِ مَنَاهِيهِ وَمَا يَثْلِمُ مُرُوءَتَهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا. [عَدَمُ قَبُولِ الْمَجْهُولِ] [عَدَمُ قَبُولِ الْمَجْهُولِ] إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْحُجَّةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْمَجْهُولِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ قَبُولٍ غَيْرِ الْعَدْلِ، وَالْمَجْهُولُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْعَدْلِ فِي حُصُولِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ لِيُلْحَقَ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنَ الْقَبُولِ، كَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكُفْرَ مَانِعَانِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الشَّكُّ فِيهِ أَيْضًا مَانِعًا مِنَ الْقَبُولِ، كَمَا أَنَّ الشَّكَّ فِيهِمَا مَانِعٌ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ شَكَّ الْمُقَلِّدِ فِي بُلُوغِ الْمُفْتِي مَرْتَبَةَ الِاجْتِهَادِ، أَوْ فِي عَدَالَتِهِ، مَانِعٌ مِنْ تَقْلِيدِهِ، فَكَذَلِكَ الشَّكُّ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي يَكُونُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ حِكَايَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ اجْتِهَادَهُ، وَبَيْنَ حِكَايَتِهِ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِ. وَالْحُجَّةُ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] ، فَأَوْجَبَ التَّثَبُّتَ عِنْدَ وُجُودِ الْفِسْقِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الْفِسْقِ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَبِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَلَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ سِوَى الْإِسْلَامِ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ قَالَ: ((أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا)) » . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. فَرَتَّبَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِإِسْلَامِهِ، وَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 جَازَ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ جَازَ فِي الرِّوَايَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّا إِذَا عَلِمْنَا زَوَالَ الْفِسْقِ ثَبَتَتِ الْعَدَالَةُ ; لِأَنَّهُمَا لَا ثَالِثَ لَهُمَا، فَمَتَى عُلِمَ نَفْيُ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ الْآخَرُ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْقَضِيَّةَ مُحْتَمَلَةٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَقَضَايَا الْأَعْيَانِ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَقَاعِدَةُ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ خَبَرَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ حَالَهُ، إِمَّا بِوَحْيٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. [رِوَايَةُ الْمُبْتَدِعِ] 294 - وَالْخُلْفُ فِي مُبْتَدِعٍ مَا كُفِّرَا ... قِيلَ يُرَدُّ مُطْلَقًا وَاسْتُنْكِرَا 295 - وَقِيلَ بَلْ إِذَا اسْتَحَلَّ الْكَذِبَا ... نُصْرَةَ مَذْهَبٍ لَهُ وَنُسِبَا 296 - لِلشَّافِعِيِّ إِذْ يَقُولُ: أَقْبَلُ ... مِنْ غَيْرِ خَطَّابِيَّةٍ مَا نَقَلُوا 297 - وَالْأَكْثَرُونَ وَرَآهُ الْأَعْدَلَا ... رَدُّوا دُعَاتَهُمْ فَقَطْ وَنَقَلَا 298 - فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ اتِّفَاقًا وَرَوَوْا ... عَنْ أَهْلٍ بِدْعٍ فِي الصَّحِيحِ مَا دَعَوْا [رِوَايَةُ الْمُبْتَدِعِ] : الثَّامِنُ: فِي الْمُبْتَدِعِ، وَالْبِدْعَةُ هِيَ مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ، فَيَشْمَلُ الْمَحْمُودَ وَالْمَذْمُومَ، وَلِذَا قَسَّمَهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، كَمَا أُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ التَّسْمِيعِ بِقِرَاءَةِ اللُّحَّانِ، إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَلَكِنَّهَا خُصَّتْ شَرْعًا بِالْمَذْمُومِ مِمَّا هُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُبْتَدِعُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ لَا بِمُعَانَدَةٍ بَلْ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ. (وَالْخُلْفُ) أَيِ: الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ (فِي) قَبُولِ رِوَايَةِ (مُبْتَدِعٍ) مَعْرُوفٍ بِالتَّحَرُّزِ مِنَ الْكَذِبِ، وَبِالتَّثَبُّتِ فِي الْأَخْذِ وَالْأَدَاءِ مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الْقَبُولِ (مَا كُفِّرَا) أَيْ: لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ تَكْفِيرًا مَقْبُولًا ; كَبِدَعِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ لَا يَغْلُونَ ذَاكَ الْغُلُوَّ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنَ الطَّوَائِفِ الْمُخَالِفِينَ لِأُصُولِ السُّنَّةِ خِلَافًا ظَاهِرًا، لَكِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى تَأْوِيلٍ ظَاهِرٍ سَائِغٍ. (قِيلَ يُرَدُّ مُطْلَقًا) الدَّاعِيَةُ وَغَيْرُهُ ; لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى رَدِّ الْفَاسِقِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، فَيَلْحَقُ بِهِ الْمُتَأَوِّلُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ، بَلْ هُوَ فَاسِقٌ بِقَوْلِهِ وَبِتَأْوِيلِهِ، فَيُضَاعَفُ فِسْقُهُ، كَمَا اسْتَوَى الْكَافِرُ الْمُتَأَوِّلُ وَالْمُعَانِدُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ: " إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ دِينَكَ "، بَلْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (( «يَا ابْنَ عُمَرَ، دِينَكَ دِينَكَ، إِنَّمَا هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، خُذْ عَنِ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا، وَلَا تَأْخُذْ عَنِ الَّذِينَ مَالُوا» )) ، وَلَا يَصِحُّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ: مَنْ قَدَرَ أَنْ لَا يَكْتُبَ الْحَدِيثَ إِلَّا عَنْ صَاحِبِ سُنَّةٍ ; فَإِنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ، كُلُّ صَاحِبِ هَوًى يَكْذِبُ وَلَا يُبَالِي. وَهَذَا الْقَوْلُ، كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، مَرْوِيٌّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَنَصُّهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَشْهَدُ لَهُ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، وَكَذَا جَاءَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، بَلْ نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ. (وَاسْتُنْكِرَا) أَيْ: أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ بَعِيدٌ مُبَاعِدٌ لِلشَّائِعِ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّ كُتُبَهُمْ طَافِحَةٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ، كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَكَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ بَعِيدٌ قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا عُلِّلَ بِهِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ، وَتَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُرْوَى عَنْ مُبْتَدِعٍ شَيْءٌ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُ مُبْتَدِعٍ. قُلْتُ: وَإِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ هُوَ ; إِخْمَادًا لِبِدْعَتِهِ، وَإِطْفَاءً لِنَارِهِ، يَعْنِي لِأَنَّهُ كَانَ يُقَالُ كَمَا قَالَ رَافِعُ بْنُ أَشْرَسَ: مِنْ عُقُوبَةِ الْفَاسِقِ الْمُبْتَدِعِ أَلَّا تُذْكَرَ مَحَاسِنُهُ. وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ إِلَّا عِنْدَهُ، مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِدْقِهِ، وَتَحَرُّزِهِ عَنِ الْكَذِبِ، وَاشْتِهَارِهِ بِالتَّدَيُّنِ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِبِدْعَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ مَصْلَحَةُ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَنَشْرِ تِلْكَ السُّنَّةِ عَلَى مَصْلَحَةِ إِهَانَتِهِ وَإِطْفَاءِ بِدْعَتِهِ. (وَقِيلَ) : إِنَّهُ لَا يُرَدُّ الْمُبْتَدِعُ مُطْلَقًا (بَلْ إِذَا اسْتَحَلَّ الْكَذِبَا) فِي الرِّوَايَةِ أَوِ الشَّهَادَةِ (نُصْرَةَ) أَيْ: لِنُصْرَةِ (مَذْهَبٍ لَهُ) أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مُتَابِعٌ لَهُ، كَمَا كَانَ مُحْرِزٌ أَبُو رَجَاءٍ يَفْعَلُ حَسْمًا، حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ تَابَ مِنْ بِدْعَتِهِ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْأَحَادِيثَ يَدْخُلُ بِهَا النَّاسُ فِي الْقَدَرِ، وَكَمَا حَكَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ بَعْضِ الْخَوَارِجِ مِمَّنْ تَابَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا هَوَوْا أَمْرًا صَيَّرُوهُ حَدِيثًا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْكَذِبَ كَانَ مَقْبُولًا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ حُرْمَةِ الْكَذِبِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلُ صِدْقُهُ. (وَنُسِبَا) هَذَا الْقَوْلُ فِيمَا نَقَلَهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ (لِلشَّافِعِيِّ) رَحِمَهُ اللَّهُ ; (إِذْ يَقُولُ) أَيْ: لِقَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 (أَقْبَلُ مِنْ غَيْرِ خَطَّابِيَّةٍ) بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، طَائِفَةٍ مِنَ الرَّافِضَةِ، شَرَحْتُ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ فِي الْمَوْضُوعِ (مَا نَقَلُوا) لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ شَهَادَةَ أَحَدِهِمْ لِصَاحِبِهِ إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ: لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَيُصَدِّقُهُ بِيَمِينِهِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَنْهُمْ: كَانَ إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا أَوْ أَقْسَمَ بِحَقِّ الْإِمَامِ عَلَى ذَلِكَ يَشْهَدُ لَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَقَسَمِهِ، بَلْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، وَالْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ: مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَوْمٌ أَشْهَدُ بِالزُّورِ مِنَ الرَّافِضَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْكُلَّ وَأَرَادَ الْبَعْضَ، أَوْ أَطْلَقَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ الْبَعْضَ لِكَوْنِهِمْ أَسْوَأَ كَذِبًا وَأَرَادَ الْكُلَّ. وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي: أُجِيزُ شَهَادَةَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ أَهْلِ الصِّدْقِ مِنْهُمْ، إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ حَتَّى يَكُونَ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمُ ادَّعَى أَنَّ الْخَطَّابِيَّةَ لَا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ ; فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ الْكَذِبَ، بَلْ مَنْ كَذَبَ عِنْدَهُمْ فَهُوَ مَجْرُوحٌ مَقْدُوحٌ فِيهِ، خَارِجٌ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ رِوَايَةً وَشَهَادَةً، فَإِنَّهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ مَذْهَبِهِمْ، فَإِذَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ شَيْئًا عَرَفَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُجَوِّزُ الْكَذِبَ، فَاعْتَمَدَ قَوْلَهُ لِذَلِكَ، وَشَهِدَ بِشَهَادَتِهِ، فَلَا يَكُونُ شَهِدَ بِالزُّورِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّهُ مُحِقٌّ. وَنَازَعَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَهَادَتَهُ أَصْلٌ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ، لِاعْتِمَادِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 أَصْلًا بَاطِلًا، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ. وَمِنْ هُنَا نَشَأَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ خَطَّابِيٌّ وَذَكَرَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ الِاعْتِمَادِ فِيهَا عَلَى قَوْلِ الْمُدَّعِي، بِأَنْ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا يُقِرُّ بِكَذَا لِفُلَانٍ، أَوْ رَأَيْتُهُ أَقْرَضَهُ، فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. وَعَنِ الرَّبِيعِ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى قَدَرِيًّا، قِيلَ لِلرَّبِيعِ: فَمَا حَمَلَ الشَّافِعِيَّ عَلَى أَنْ رَوَى عَنْهُ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: لَأَنْ يَخِرَّ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بُعْدٍ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ، وَكَانَ ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ. وَلِذَا قِيلَ كَمَا قَالَهُ الْخَلِيلِيُّ فِي الْإِرْشَادِ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا الثِّقَةُ فِي حَدِيثِهِ، الْمُتَّهَمُ فِي دِينِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ حَكَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ: إِنَّهُ الْحَقُّ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَقِيلَ: يُقْبَلُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ الدَّاعِيَةُ وَغَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي ; لِأَنَّ تَدَيُّنَهُ وَصِدْقَ لَهْجَتِهِ يَحْجِزُهُ عَنِ الْكَذِبِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَرْوِيُّ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تُرَدُّ بِهِ بِدْعَتُهُ ; لِبُعْدِهِ حِينَئِذٍ عَنِ التُّهَمَةِ جَزْمًا، وَكَذَا خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْبِدْعَةِ الصُّغْرَى ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 كَالتَّشَيُّعِ سِوَى الْغُلَاةِ فِيهِ وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّهُ كَثُرَ فِي التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَلَوْ رُدَّ حَدِيثُهُمْ لَذَهَبَ جُمْلَةٌ مِنَ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ بَيِّنَةٌ. أَمَّا الْبِدْعَةُ الْكُبْرَى ; كَالرَّفْضِ الْكَامِلِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ، وَالْحَطِّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَا وَلَا كَرَامَةَ، لَا سِيَّمَا وَلَسْتُ أَسْتَحْضِرُ الْآنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ رَجُلًا صَادِقًا وَلَا مَأْمُونًا، بَلِ الْكَذِبُ شِعَارُهُمْ، وَالنِّفَاقُ وَالتَّقِيَّةُ دِثَارُهُمْ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَنْ هَذَا حَالُهُ، حَاشَا وَكَلَّا، قَالَهُ الذَّهَبِيُّ. قَالَ: وَالشِّيعِيُّ وَالْغَالِي فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَعُرْفِهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ وَطَائِفَةٍ مِمَّنْ حَارَبَ عَلِيًّا، وَتَعَرَّضَ لِسَبِّهِمْ. وَالْغَالِي فِي زَمَنِنَا وَعُرْفِنَا هُوَ الَّذِي كَفَّرَ هَؤُلَاءِ السَّادَةَ وَتَبَرَّأَ مِنَ الشَّيْخَيْنِ أَيْضًا، فَهَذَا ضَالٌّ مُفْتَرٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ مِنْ تَهْذِيبِهِ: التَّشَيُّعُ فِي عُرْفِ الْمُتَقَدِّمِينَ هُوَ اعْتِقَادُ تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُصِيبًا فِي حُرُوبِهِ، وَأَنَّ مُخَالِفَهُ مُخْطِئٌ، مَعَ تَقْدِيمِ الشَّيْخَيْنِ وَتَفْضِيلِهِمَا، وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا كَانَ مُعْتَقِدُ ذَلِكَ وَرِعًا دَيِّنًا صَادِقًا مُجْتَهِدًا فَلَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُ بِهَذَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ غَيْرَ دَاعِيَةٍ. وَأَمَّا التَّشَيُّعُ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَهُوَ الرَّفْضُ الْمَحْضُ، فَلَا يُقْبَلُ رِوَايَةُ الرَّافِضِيِّ الْغَالِي وَلَا كَرَامَةَ. (وَالْأَكْثَرُونَ) مِنَ الْعُلَمَاءِ (وَرَآهُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (الْأَعْدَلَا) وَالْأَوْلَى مِنَ الْأَقْوَالِ (رَدُّوا دُعَاتَهُمْ فَقَطْ) . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْتُ لِأَبِي: لِمَ رَوَيْتَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ وَكَانَ مُرْجِئًا، وَلَمْ تَرْوِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ وَكَانَ قَدَرِيًّا؟ قَالَ: لِأَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو إِلَى الْإِرْجَاءِ، وَشَبَابَةُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الْقَدَرِ. وَحَكَى الْخَطِيبُ هَذَا الْقَوْلَ، لَكِنْ عَنْ كَثِيرِينَ، وَتَرَدَّدَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عَزْوِهِ بَيْنَ الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ. نَعَمْ، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ كُلِّهِمْ، بَلْ (وَنَقَلَا فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ اتِّفَاقًا) حَيْثُ قَالَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضَّبْعِيِّ مِنْ ثِقَاتِهِ: وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَئِمَّتِنَا خِلَافٌ أَنَّ الصَّدُوقَ الْمُتْقِنَ إِذَا كَانَتْ فِيهِ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَكُنْ يَدْعُو إِلَيْهَا أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِأَخْبَارِهِ جَائِزٌ، فَإِذَا دَعَا إِلَيْهَا سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارِهِ. وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الِاتِّفَاقِ لَا مُطْلَقًا وَلَا بِخُصُوصِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَكِنَّ الَّذِي اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ فِي الْعَزْوِ لَهُ الشِّقُّ الثَّانِي، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: " الدَّاعِيَةُ إِلَى الْبِدَعِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا "، عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ أَيْضًا لِإِرَادَةِ الشَّافِعِيَّةِ أَوْ مُطْلَقًا. وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ يَخْدِشُ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 " لَا تَأْخُذِ الْحَدِيثَ عَنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو إِلَى هَوَاهُ " التَّفْصِيلَ، وَنَازَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ; فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ الرَّدُّ مُطْلَقًا، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مُحْتَمِلَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ ابْنَ حِبَّانَ أَغْرَبَ فِي حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ يَشْتَرِطُ مَعَ هَذَيْنِ، أَعْنِي كَوْنَهُ صَدُوقًا غَيْرَ دَاعِيَةٍ، أَنْ لَا يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ مِمَّا يُعَضِّدُ بِدْعَتَهُ وَيَشُدُّهَا وَيُزَيِّنُهَا ; فَإِنَّا لَا نَأْمَنُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ غَلَبَةَ الْهَوَى، أَفَادَهُ شَيْخُنَا. وَإِلَيْهِ يُومِئُ كَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ الْمَاضِي، بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَافِظُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ، فَقَالَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: وَمِنْهُمْ زَائِغٌ عَنِ الْحَقِّ، صَدُوقُ اللَّهْجَةِ، قَدْ جَرَى فِي النَّاسِ حَدِيثُهُ، لَكِنَّهُ مَخْذُولٌ فِي بِدْعَتِهِ، مَأْمُونٌ فِي رِوَايَتِهِ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ حِيلَةٌ إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا يُعْرَفُ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، إِذَا لَمْ تَقْوَ بِهِ بِدْعَتُهُمْ فَيُتَّهَمُونَ بِذَلِكَ. (وَ) قَدْ (رَوَوْا) أَيِ: الْأَئِمَّةُ النُّقَّادُ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، أَحَادِيثَ (عَنْ) جَمَاعَةِ (أَهْلِ بِدْعٍ) بِسُكُونِ الدَّالِ (فِي الصَّحِيحِ) عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ ; لِأَنَّهُمْ (مَا دَعَوْا) إِلَى بِدَعِهِمْ، وَلَا اسْتَمَالُوا النَّاسَ إِلَيْهَا، مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، وَهُمَا مِمَّنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 اتُّهِمَ بِالْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَهَمَّا بِمُجَرَّدِ التَّشَيُّعِ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَسَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَهُمْ مِمَّنْ رُمِيَ بِالْقَدَرِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، وَهُمْ مِمَّنْ رُمِيَ بِالْإِرْجَاءِ. وَكَالْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ لِعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَى الْإِبَاضِيَّةِ مِنْ آرَاءِ الْخَوَارِجِ، وَكَمُسْلِمٍ وَحْدَهُ لِأَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ. وَكَذَا أَخْرَجَا لِجَمَاعَةٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ كَدَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ، وَالْبُخَارِيُّ وَحْدَهُ فِيهَا لِجَمَاعَةٍ، كَسَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَشِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، مَعَ أَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ يَرَى الْقَدَرَ فِي آخَرِينَ عِنْدَهُمَا اجْتِمَاعًا، وَانْفِرَادًا فِي الْأُصُولِ وَالْمُتَابَعَاتِ، يَطُولُ سَرْدُهُمْ، بَلْ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْأَخْرَمِ مِنْ (تَأْرِيخِ نَيْسَابُورَ) لِلْحَاكِمِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ مَلْآنُ مِنَ الشِّيعَةِ، مَعَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ قَبُولِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخْبَارَ الْخَوَارِجِ وَشَهَادَاتِهِمْ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْفُسَّاقِ بِالتَّأْوِيلِ، ثُمَّ اسْتِمْرَارِ عَمَلِ التَّابِعِينَ وَالْخَالِفِينَ، فَصَارَ ذَلِكَ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْحُجَجِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَبِهِ يَقْوَى الظَّنُّ فِي مُقَارَبَةِ الصَّوَابِ. وَرُبَّمَا تَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، أَوْ [لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ، أَوْ] رَجَعَ وَتَابَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ لَعِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ السَّدُوسِيِّ الشَّاعِرِ الَّذِي قَالَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهُ كَانَ رَأْسَ الْعِقْدِ مِنَ الصَّفَرِيَّةِ وَفَقِيهَهُمْ وَخَطِيبَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَشَاعِرَهُمْ، مَعَ كَوْنِهِ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى مَذْهَبِهِ، فَقَدْ مَدَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ قَاتِلَ عَلِيٍّ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْبِدْعَةِ. وَأَيْضًا فَالْقَعْدِيَّةُ قَوْمٌ مِنَ الْخَوَارِجِ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ بِالْخُرُوجِ، بَلْ يَدْعُونَ إِلَى آرَائِهِمْ وَيُزَيِّنُونَ مَعَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ وَيُحَسِّنُونَهُ، وَكَذَا لِعَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمَّانِيِّ، مَعَ قَوْلِ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ: إِنَّهُ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى الْإِرْجَاءِ. فَقَدْ أُجِيبَ عَنِ التَّخْرِيجِ لِأَوَّلِهِمَا بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا خَرَّجَ لَهُ مَا حُمِلَ عَنْهُ قَبْلَ ابْتِدَاعِهِ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ. وَكَذَا أُجِيبَ بِهَذَا عَنْ تَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ مَعًا لِشَبَابَةَ بْنِ سِوَّارٍ مَعَ كَوْنِهِ دَاعِيَةً. ثَالِثُهَا: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَلَا يَضُرُّ فِيهَا التَّخْرِيجُ لِمِثْلِهِ. وَأَجَابَ شَيْخُنَا عَنِ التَّخْرِيجِ لِثَانِيهِمَا بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْحِمَّانِيِّ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ إِلَّا مَا لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 أَصْلٌ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْبِدْعَةِ غَيْرِ الْمُكَفِّرَةِ، أَمَّا الْمُكَفِّرَةُ وَفِي بَعْضِهَا مَا لَا شَكَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ كَمُنْكِرِي الْعِلْمِ بِالْمَعْدُومِ، الْقَائِلِينَ مَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ حَتَّى يَخْلُقَهَا، أَوْ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَالْمُجَسِّمِينَ تَجْسِيمًا صَرِيحًا، وَالْقَائِلِينَ بِحُلُولِ الْإِلَهِيَّةِ فِي عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ. وَفِي بَعْضِهَا مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، كَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَالنَّافِينَ لِلرُّؤْيَةِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضِ ابْنُ الصَّلَاحِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى حِكَايَةِ خِلَافٍ فِيهَا. وَكَذَا أَطْلَقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ، وَابْنُ بُرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ عَدَمَ الْقَبُولِ، وَقَالَا: لَا خِلَافَ فِيهِ. نَعَمْ، حَكَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَخْبَارَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كُلَّهَا مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا بِالتَّأْوِيلِ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْمَحْصُولِ) : الْحَقُّ أَنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ حُرْمَةَ الْكَذِبِ قَبِلْنَا رِوَايَتَهُ ; لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ - كَمَا قَدَّمْتُ - يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ كُلُّ مُكَفَّرٍ بِبِدْعَةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّ مُخَالِفِيهَا مُبْتَدِعَةٌ، وَقَدْ تُبَالِغُ فَتُكَفِّرُهَا، فَلَوْ أُخِذَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَاسْتَلْزَمَ تَكْفِيرَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الَّذِي تُرَدُّ رِوَايَتُهُ مَنْ أَنْكَرَ أَمْرًا مُتَوَاتِرًا مِنَ الشَّرْعِ، مَعْلُومًا مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ; أَيْ: إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ ضَبْطُهُ لِمَا يَرْوِيهِ مَعَ وَرَعِهِ وَتَقْوَاهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ قَبُولِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ مَنْ كَانَ الْكُفْرُ صَرِيحَ قَوْلِهِ، وَكَذَا مَنْ كَانَ لَازِمَ قَوْلِهِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ فَالْتَزَمَهُ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَنَاضَلَ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا، وَلَوْ كَانَ اللَّازِمُ كُفْرًا، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْقَطْعِيِّ ; لِيُوَافِقَ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ. وَسَبَقَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: الَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْمَذَاهِبُ فِي الرِّوَايَةِ ; إِذْ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلَّا بِإِنْكَارٍ قَطْعِيٍّ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ انْضَمَّ إِلَيْهِ الْوَرَعُ وَالتَّقْوَى فَقَدْ حَصَلَ مُعْتَمَدُ الرِّوَايَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، قَالَ: وَأَعْرَاضُ الْمُسْلِمِينَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ: الْمُحَدِّثُونَ وَالْحُكَّامُ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ، كَمَا نَرِثُهُمْ وَنُوَرِّثُهُمْ، وَتُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنَ (الرَّوْضَةِ) : جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ فِي شُرُوطِ الْأَئِمَّةِ مِنْهَا: وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَمُنَاكَحَتِهِمْ، وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: ذَهَبَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ إِلَى أُمُورٍ تَبَايَنُوا فِيهَا تَبَايُنًا شَدِيدًا، وَاسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِمَا تَطُولُ حِكَايَتُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَقَادِمًا مِنْهُ مَا كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ وَإِلَى الْيَوْمِ، فَلَمْ نَعْلَمْ مِنْ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ رَدَّ شَهَادَةَ أَحَدٍ بِتَأْوِيلٍ، وَإِنْ خَطَّأَهُ وَضَلَّلَهُ وَرَآهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَا يَرُدُّ شَهَادَةَ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ يُحْتَمَلُ، وَإِنْ بَلَغَ فِيهِ اسْتِحْلَالَ الْمَالِ وَالدَّمِ، انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: " لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِي امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا ". [تَوْبَةِ الْكَاذِبِ] 299 - وَلِلْحُمَيْدِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَا ... بِأَنَّ مَنْ لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا 300 - أَيْ فِي الْحَدِيثِ لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُهُ ... وَإِنْ يَتُبْ، وَالصَّيْرَفِيُّ مِثْلُهُ 301 - وَأَطْلَقَ الْكِذْبَ وَزَادَ: أَنَّ مَنْ ... ضُعِّفَ نَقْلًا لَمْ يُقَوَّ بَعْدَ أَنْ 302 - وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ، وَالسَّمْعَانِي ... أَبُو الْمُظَفَّرِ يَرَى فِي الْجَانِي 303 - بِكَذِبٍ فِي خَبَرِ إِسْقَاطَ مَا ... لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ قَدْ تَقَدَّمَا [تَوْبَةِ الْكَاذِبِ] التَّاسِعُ: فِي تَوْبَةِ الْكَاذِبِ. (وَلِلْحُمَيْدِيِّ) ، صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَشَيْخِ الْبُخَارِيِّ، أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ (وَالْإِمَامِ أَحْمَدَا بِأَنَّ مَنْ) أَيْ: أَنَّ الَّذِي (لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا) أَيْ: فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ مُطْلَقًا، الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ وَغَيْرِهِمَا، بِأَنْ وَضَعَ، أَوْ رَكَّبَ سَنَدًا صَحِيحًا لِمَتْنٍ ضَعِيفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بِأَنَّ الْعَمْدَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ نَحْوِهِ، بِحَيْثُ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ. (لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُهُ) أَبَدًا فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ الْمَكْذُوبُ فِيهِ وَغَيْرُهُ، وَلَا نَكْتُبُ عَنْهُ شَيْئًا، وَيَتَحَتَّمُ جَرْحُهُ دَائِمًا (وَإِنْ يَتُبْ) وَتَحْسُنْ تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا لِمَا يَنْشَأُ عَنْ صَنِيعِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ تَصْيِيرُ ذَلِكَ شَرْعًا. نَعَمْ، تَوْبَتُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَيَلْتَحِقُ بِالْعَمْدِ مَنْ أَخْطَأَ وَصَمَّمَ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ لَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ مُجَرَّدَ عِنَادٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَأَمَّا مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ، ثُمَّ عَرَفَ ضَرَرَهُ فَتَابَ، فَالظَّاهِرُ - كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - قَبُولُ رِوَايَاتِهِ. وَكَذَا مَنْ كَذَبَ دَفْعًا لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ مِنْ عَدُوٍّ، وَرَجَعَ عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ أَحْمَدَ وَالْحُمَيْدِيَّ لَمْ يَنْفَرِدَا بِهَذَا الْحُكْمِ، بَلْ نَقَلَهُ كُلُّ مِنَ الْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْحَازِمِيِّ فِي شُرُوطِ السِّتَّةِ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَالذَّهَبِيِّ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ، وَاعْتَمَدُوهُ (وَ) كَذَا لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ (الصَّيْرَفِيِّ) شَارِحِ الرِّسَالَةِ، وَأَحَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 أَصْحَابِ الْوُجُوهِ فِي الْمَذْهَبِ (مِثْلُهُ) حَيْثُ قَالَ: كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ. (وَأَطْلَقَ الْكِذْبَ) [بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ عَنْ إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ] كَمَا تَرَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِتَقْيِيدِهِ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ. وَنَحْوُهُ حِكَايَةُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا رَوَى الْمُحَدِّثُ خَبَرًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: كُنْتُ أَخْطَأْتُ فِيهِ، وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ (الْأُصُولِ) : إِنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ خَاصَّةً، يَعْنِي فَلَا يَشْمَلُ الْكَذِبَ فِي غَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ سَائِرِ النَّاسِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّقَاتِ تُقْبَلُ رِوَايَةُ التَّائِبِ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا وَقَوْلُهُ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ: " مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ " قَرِينَةٌ فِي التَّقْيِيدِ. بَلْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَيْسَ يَطْعَنُ عَلَى الْمُحَدِّثِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الْأَوَّلِ ; أَيْ: فِي الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ وَاعْتَرَفَ بِالْكَذِبِ فِيهِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ; أَيْ: مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ، عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْمَوْضُوعِ (وَزَادَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 أَيِ: الصَّيْرَفِيُّ، عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْحُمَيْدِيِّ (أَنَّ مَنْ ضُعِّفَ نَقْلًا) أَيْ: مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِ، يَعْنِي لِوَهْمٍ وَقِلَّةِ إِتْقَانٍ وَنَحْوِهِمَا، وَحَكَمْنَا بِضَعْفِهِ وَإِسْقَاطِ خَبَرِهِ (لَمْ يُقَوَّ) أَبَدًا (بَعْدَ أَنْ) حُكِمَ بِضَعْفِهِ، هَكَذَا أَطْلَقَ. وَوِزَانُ مَا تَقَدَّمَ عَدَمُ قَبُولِهِ، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي وَالْإِتْقَانِ، وَلَكِنْ قَدْ حَمَلَهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى مَنْ يَمُوتُ عَلَى ضَعْفِهِ، فَكَأَنَّهُ لِيَكُونَ مُوافِقًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. ثُمَّ إِنَّ فِي تَوْجِيهِ إِرَادَةِ التَّقْيِيدِ بِمَا تَقَدَّمَ نَظَرًا ; إِذْ أَهْلُ النَّقْلِ هُمْ أَهْلُ الرِّوَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَيْفَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ، وَكَذَا الْوَصْفُ بِالْمُحَدِّثِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ يُخْبِرُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، بَلْ يَدُلُّ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ تَنْكِيرُهُ الْكَذِبَ. وَكَذَا يُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ فِي إِحْكَامِهِ: مَنْ أَسْقَطْنَا حَدِيثَهُ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ أَبَدًا، وَمَنِ احْتَجَجْنَا بِهِ لَمْ نُسْقِطْ رِوَايَتَهُ أَبَدًا ; فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّعْمِيمِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ فِي آخَرِينَ، بَلْ كَلَامُ الْحُمَيْدِيِّ الْمَقْرُونِ مَعَ أَحْمَدَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ قَدْ يُشِيرُ لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الَّذِي لَا يُقْبَلُ بِهِ حَدِيثُ الرَّجُلِ أَبَدًا؟ قُلْتُ: هُوَ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ ثُمَّ وُجِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، أَوْ بِأَمْرٍ يَتَبَيَّنُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَذِبٌ، فَلَا يَجُوزُ حَدِيثُهُ أَبَدًا لِمَا أُدْرِكَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ. وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ كَثِيرٍ فَقَالَ: التَّائِبُ مِنَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ خِلَافًا لِلصَّيْرَفِيِّ، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: (وَلَيْسَ) الرَّاوِي فِي ذَلِكَ (كَالشَّاهِدِ) ، يَعْنِي فَإِنَّ الشَّاهِدَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 بِشَرْطِهَا، وَأَيْضًا فَالشَّاهِدُ إِذَا حَدَثَ فِسْقُهُ بِالْكَذِبِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تَسْقُطُ شَهَادَاتُهُ السَّالِفَةُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهَا. (وَ) الْإِمَامُ (السَّمْعَانِيُّ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَرَى فِي) الرَّاوِي (الْجَانِي بِكَذِبٍ فِي خَبَرٍ) نَبَوِيٍّ (إِسْقَاطَ مَا لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ قَدْ تَقَدَّمَا) ، وَكَذَا وُجُوبَ نَقْضِ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَا: فَإِنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ، يَعْنِي: وَتَغْلِيظُ الْعُقُوبَةِ فِيهِ أَشَدُّ، مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ ; عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ» )) . وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «أَنَّ رَجُلًا كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: ((اذْهَبَا، فَإِنْ أَدْرَكْتُمَاهُ فَاقْتُلَاهُ» )) . وَلِهَذَا حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفُرُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَلَدُهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمُوبِقَةٌ كَبِيرَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُكَفَّرُ بِهَا إِلَّا إِنِ اسْتَحَلَّهُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يُضَاهِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ، يَعْنِي لِكَوْنِ رَدِّهِ لِحَدِيثِهِ الْمُسْتَقْبَلِ إِنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ، وَذَلِكَ جَارٍ فِي حَدِيثِهِ الْمَاضِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، وَقَدِ افْتَرَقَتِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ فِي أَشْيَاءَ، فَتَكُونُ مَسْأَلَتُنَا مِنْهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي شَاهِدِ الزُّورِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَاذِفِ الْمُحْصَنِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، فَاسْتَوَيَا فِي الرَّدِّ لِمَا بَعْدُ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا مَا تَقَدَّمَ. نَعَمْ، سَوَّى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ الْحَمَوِيُّ الشَّامِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، بَيْنَهُمَا، حَيْثُ قَالَ فِي الرَّاوِي: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْمَرْدُودِ خَاصَّةً، وَيُقْبَلُ فِي غَيْرِهِ. بَلْ نُسِبَ إِلَى الدَّامَغَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَبُولُهُ فِي الْمَرْدُودِ وَغَيْرِهِ، [يَعْنِي: إِذَا رَوَاهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ] ، وَهُوَ عَجِيبٌ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: لَمْ أَرَ لَهُ ; أَيْ: لِلْقَوْلِ، فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا بَلِيغًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ ; فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالشَّهَادَةِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُمَا قَاصِرَةٌ لَيْسَتْ عَامَّةً. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ فِي هَذَا، أَيِ: الْكَذِبُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبُولُ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا إِذَا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ: فَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ رِوَايَةِ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي هَذَا. وَكَذَا قَالَ فِي الْإِرْشَادِ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ غَيْرِنَا - انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا إِذَا كَانَ كَذِبُهُ فِي وَضْعِ حَدِيثٍ، وَحُمِلَ عَنْهُ وَدُوِّنَ: إِنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهُ، بَلْ هُوَ لَاحِقٌ لَهُ أَبَدًا، فَإِنَّ مَنْ سَنَّ سَيِّئَةً عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّوْبَةُ حِينَئِذٍ مُتَعَذِّرَةٌ ظَاهِرًا، وَإِنْ وُجِدَ مُجَرَّدُ اسْمِهَا، وَلَا يُسْتَشْكَلُ بِقَبُولِهَا مِمَّنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكَ بِرَدٍّ أَوْ مَحَالَةٍ، فَالْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ لَهَا مَرَدٌّ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَالِ، وَالْأَعْرَاضُ قَدِ انْقَطَعَ تَجَدُّدُ الْإِثْمِ بِسَبَبِهَا فَافْتَرَقَا. وَأَيْضًا فَعَدَمُ قَبُولِ تَوْبَةِ الظَّالِمِ رُبَّمَا يَكُونُ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالتَّمَادِي فِي غَيِّهِ، فَيَزْدَادُ الضَّرَرُ بِهِ، بِخِلَافِ الرَّاوِي ; فَإِنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ اسْتِرْسَالُهُ أَيْضًا وَوَسْمُهُ بِالْكَذِبِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ مُتَجَدِّدَاتِهِ، بَلْ قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْصُلُ لَنَا ثِقَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنِّي تُبْتُ، يَعْنِي كَمَا قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الْمُعْتَرِفِ بِالْوَضْعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 [إِنْكَارِ الْأَصْلِ تَحْدِيثَ الْفَرْعِ] 304 - وَمَنْ رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَكَذَّبَهْ ... فَقَدْ تَعَارَضَا وَلَكِنْ كَذِبَهْ 305 - لَا تُثْبِتَنْ بِقَوْلِ شَيْخِهِ فَقَدْ ... كَذَّبَهُ الْآخَرُ فَارْدُدْ مَا جَحَدْ 306 - وَإِنْ يَرُدَّهُ بِ " لَا أَذْكُرُ " أَوْ ... مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ فَقَدْ رَأَوْا 307 - الْحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ ... وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمِ 308 - كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذْ ... نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أُخِذْ 309 - عَنْهُ فَكَانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعَهْ ... عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهْ 310 - وَالشَّافِعِيُّ نَهَى ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ ... يَرْوِي عَنِ الْحَيِّ لِخَوْفِ التُّهَمِ [إِنْكَارِ الْأَصْلِ تَحْدِيثَ الْفَرْعِ] الْعَاشِرُ: فِي إِنْكَارِ الْأَصْلِ تَحْدِيثَ الْفَرْعِ بِالتَّكْذِيبِ أَوْ غَيْرِهِ. (وَمَنْ رَوَى) مِنَ الثِّقَاتِ (عَنْ) شَيْخٍ (ثِقَةٍ) أَيْضًا حَدِيثًا (فَكَذَّبَهُ) الْمَرْوِيُّ عَنْهُ صَرِيحًا، كَقَوْلِهِ: كَذَبَ عَلَيَّ (فَقَدْ تَعَارَضَا) فِي قَوْلِهِمَا ; كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَكَاذَبَتَا ; فَإِنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ ; إِذِ الشَّيْخُ قَطَعَ بِكَذِبِ الرَّاوِي، وَالرَّاوِي قَطَعَ بِالنَّقْلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا جِهَةُ تَرْجِيحٍ، أَمَّا الرَّاوِي فَلِكَوْنِهِ مُثْبِتًا، وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلِكَوْنِهِ نَفَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَمْرٍ يَقْرُبُ مِنَ الْمَحْصُورِ غَالِبًا. (وَلَكِنْ كَذِبَهْ) أَيِ: الرَّاوِي (لَا تُثْبِتَنْ) بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْخَفِيفَةِ مِنْ أَثْبَتَ (بِقَوْلِ شَيْخِهِ) هَذَا، بِحَيْثُ يَكُونُ جَرْحًا ; فَإِنَّ الْجَرْحَ كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَيْضًا (فَقَدْ كَذَّبَهُ الْآخَرُ) أَيْ: كَذَّبَ الرَّاوِي الشَّيْخَ بِالتَّصْرِيحِ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبَ، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ، أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ جَزْمُهُ بِكَوْنِ الشَّيْخِ حَدَّثَهُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَكَمَا قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: عَدَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَيَقَّنَةٌ، وَكَذِبُهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ، فَتَسَاقَطَا، كَرَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَعَكَسَ آخَرُ، وَلَمْ يُعْرَفِ الطَّائِرُ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ غَشَيَانِ امْرَأَتِهِ مَعَ أَنَّ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ طَالِقٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّاهِدِ ; فَإِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ قَالَ: إِنَّ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ جَرْحٌ لِلْفَرْعِ، وَالْفَرْقُ غِلَظُ بَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الشَّهَادَةِ وَضِيقُهُ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ لِيُوَافِقَ غَيْرَهُ. (وَ) إِذَا تَسَاقَطَا فِي مَسْأَلَتِنَا (فَارْدُدْ) أَيُّهَا الْوَاقِفُ عَلَيْهِ (مَا جَحَدْ) الشَّيْخُ مِنَ الْمَرْوِيِّ خَاصَّةً ; لِكَذِبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لَوْ حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ نَفْسُهُ أَوْ ثِقَةٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ، كُلُّ هَذَا إِذَا صَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ، فَإِنْ جَزَمَ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِهِ: مَا رَوَيْتُ هَذَا، أَوْ مَا حَدَّثْتُ بِهِ قَطُّ، أَوْ أَنَا عَالِمٌ أَنَّنِي مَا حَدَّثْتُكَ، أَوْ لَمْ أُحَدِّثْكَ، فَقَدْ سَوَّى ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْفَتْحِ: إِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَهُمْ ; أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ، الْقَبُولُ. وَتَمَسَّكَ بِصَنِيعِ مُسْلِمٍ ; حَيْثُ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ» ، مَعَ قَوْلِ أَبِي مَعْبَدٍ لِعَمْرٍو: لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ ; فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا كَانَ يَرَى صِحَّةَ الْحَدِيثِ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ رَاوِيهِ إِذَا كَانَ النَّاقِلُ عَنْهُ عَدْلًا. وَكَذَا صَحَّحَ الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الشَّيْخَ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسْيَانِ كَالصِّيَغِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ: كَأَنَّهُ نَسِيَ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 بَلْ قَالَ قَتَادَةُ حِينَ حَدَّثَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ [أَبِي كَثِيرٍ عَنْ] أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ كَثِيرٌ: مَا حَدَّثْتُ بِهَذَا قَطُّ، إِنَّهُ نَسِيَ، لَكِنَّ إِلْحَاقَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالصُّورَةِ الْأُولَى أَظْهَرُ. وَلَعَلَّ تَصْحِيحَ هَذَا الْحَدِيثِ بِخُصُوصِهِ لِمُرَجَّحٍ اقْتَضَاهُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالشَّيْخَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ التَّسَاوِي، فَلَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عُمِلَ بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ. هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ حَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْقَبُولَ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ الرَّدَّ قِياسًا عَلَى الشَّاهِدِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَظَاهِرُ صَنِيعِ شَيْخِنَا اتِّفَاقُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى الرَّدِّ فِي صُورَةِ التَّصْرِيحِ بِالْكَذِبِ، وَقَصْرُ الْخِلَافِ عَلَى هَذِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ، فَمِنْ مُتَوَقِّفٍ، وَمِنْ قَائِلٍ بِالْقَبُولِ مُطْلَقًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ، تَبَعًا لِأَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ حَكَيَا الِاتِّفَاقَ عَلَى الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ مِمَّا يُسَاعِدُ ظَاهِرَ صَنِيعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 شَيْخِنَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَيُنَازِعُ فِي الثَّانِيَةِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الْأُولَى وَالْخِلَافَ فِي الثَّانِيَةِ بِالنَّظَرِ لِلْمُحَدِّثِينَ خَاصَّةً. وَأَمَّا لَوْ أَنْكَرَ الشَّيْخُ الْمَرْوِيَّ بِالْفِعْلِ كَأَنْ عَمِلَ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ قَرِيبًا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا فِي رَاوِيهِ، وَكَذَا إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهَلْ يُسَوِّغُ عَمَلُ الرَّاوِي نَفْسِهِ بِهِ بِحَيْثُ لَمْ نَقْبَلْهُ مِنْهُ؟ الظَّاهِرُ نَعَمْ إِذَا كَانَ أَهْلًا، قِياسًا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي سَادِسِ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ فِيمَا إِذَا أَعْلَمَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ بِأَنَّ هَذَا مَرْوِيُّهُ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ ; إِذْ لَا فَرْقَ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الشَّيْخُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ أَصْلًا، فَإِنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَلَا، حَتَّى لَوْ رَوَاهُ ثَانِيًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، بَلْ ذَاكَ مُقْتَضٍ لِجَرْحِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يَرُدُّهُ الشَّيْخُ بِالصَّرِيحِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا شَرَحَ (وَ) إِمَّا (إِنْ يَرُدَّهُ بِ) قَوْلِهِ: (لَا أَذْكُرُ) هَذَا، أَوْ لَا أَعْرِفُ أَنِّي حَدَّثْتُهُ بِهِ (أَوْ) نَحْوِهِمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي فِيهَا (مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ) ، كَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّنِي مَا حَدَّثْتُهُ بِهَذَا، أَوْ لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِي، وَالرَّاوِي جَازِمٌ بِهِ (فَقَدْ رَأَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، قَبُولَهُ (الْحُكْمَ لِ) الرَّاوِي (الذَّاكِرِ) كَمَا هُوَ (عِنْدَ الْمُعْظَمِ) مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الْخَطِيبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وَابْنُ الصَّلَاحِ وَشَيْخُنَا، بَلْ حَكَى فِيهِ اتِّفَاقَ الْمُحَدِّثِينَ ; لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الرَّاوِيَ ثِقَةٌ جَزْمًا، فَلَا يُطْعَنُ فِيهِ بِالِاحْتِمَالِ ; إِذِ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ غَيْرُ جَازِمٍ بِالنَّفْيِ، بَلْ جَزْمُ الرَّاوِي عَنْهُ وَشَكُّهُ هُوَ قَرِينَةٌ لِنِسْيَانِهِ (وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ) فِي الْمَرْوِيِّ وَعَدَمُ الْقَبُولِ (عَنْ بَعْضِهِمِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ ; أَيْ: بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَنَسَبَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْكَرْخِيِّ مِنْهُمْ، بَلْ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ فِي التَّعْمِيمِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَسَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَمَاعُهُ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ لِسَمَاعِهِ يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ. وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِي مَسْأَلَتِنَا بِخُصُوصِهَا كَلَامٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ رَدِّهِمْ حَدِيثَ: (( «إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» )) الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ أَمْثِلَةِ مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ. وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَقْضِيَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَاهُ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ شَارِحُ اللُّمَعِ عَنِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ، وَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الشَّاهِدِ. وَتَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي إِثْبَاتِ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ إِذَا أَثْبَتَ الْأَصْلُ الْحَدِيثَ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ الْفَرْعِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرْعًا عَلَيْهِ وَتَبَعًا لَهُ فِي النَّفْيِ. وَلَكِنْ هَذَا مُتَعَقَّبٌ ; فَإِنَّ عَدَالَةَ الْفَرْعِ يَقْتَضِي صِدْقَهُ، وَعَدَمُ عِلْمِ الْأَصْلِ لَا يُنَافِيهِ، فَالْمُثْبِتُ الْجَازِمُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا الشَّاكُّ. قَالَ شَيْخُنَا: وَأَمَّا قِيَاسُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، يَعْنِي عَلَى الشَّهَادَةِ، إِذَا ظَهَرَ تَوَقُّفُ الْأَصْلِ، فَفَاسِدٌ ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ لَا تُسْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَافْتَرَقَا، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ - كَمَا حَكَاهُ الْبُلْقِينِيُّ - قَدْ أَجْرَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ لَمْ يُنْكِرِ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ بَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 تَوَقَّفَ، وَالْأَوْفَقُ هُنَاكَ لِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ بِحُكْمِهِ، فَاسْتَوَيَا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ إِنْ كَانَ الشَّيْخُ رَأْيُهُ يَمِيلُ إِلَى غَلَبَةِ النِّسْيَانِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ عَادَتَهُ فِي مَحْفُوظَاتِهِ، قُبِلَ الذَّاكِرُ الْحَافِظُ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إِلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رُدَّ، فَقَلَّمَا يَنْسَى الْإِنْسَانُ شَيْئًا حَفِظَهُ نِسْيَانًا لَا يَتَذَكَّرُهُ بِالتَّذْكِيرِ، وَالْأُمُورُ تُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى النَّادِرِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ. وَقَدْ صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْخَطِيبُ: (مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ) ، وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الصَّحِيحِ ; لِكَوْنِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ، ثُمَّ لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَذَكَّرْهَا، لَكِنْ لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الرُّوَاةِ عَنْهُمْ صَارُوا يَرْوُونَهَا عَنِ الَّذِي رَوَاهَا عَنْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ; (كَقِصَّةِ) حَدِيثِ (الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ) ، الَّذِي لَفْظُهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» . (إِذْ نَسِيَهُ سُهَيْلٌ) ابْنُ أَبِي صَالِحٍ (الَّذِي أُخِذْ) أَيْ: حُمِلَ (عَنْهُ) عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَكَانَ) سُهَيْلٌ (بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ (عَنْ رَبِيعَهْ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ) ، فَيَقُولُ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ، وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ، أَنَّنِي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ وَلَا أَحْفَظُهُ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَتْ سُهَيْلًا عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ، وَنَسِيَ بَعْضَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 حَدِيثِهِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ. وَفَائِدَتُهُ سِوَى مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الْوُثُوقِ بِالرَّاوِي عَنْهُ - مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - الْإِعْلَامُ بِالْمَرْوِيِّ، وَكَوْنُهُ (لَنْ يُضِيعَهْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَضَاعَ ; إِذْ بِتَرْكِهِ لِرِوَايَتِهِ يَضِيعُ. وَمِنْ ظَرِيفِ مَا اتَّفَقَ فِي الْمَعْنَى أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَسَاكِرَ، وَهُوَ أُسْتَاذُ زَمَانِهِ حِفْظًا وَإِتْقَانًا وَوَرَعًا، حَدَّثَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُبَارَكِ الدَّهَّانَ بِبَغَدَادَ يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ شَخْصًا أَعْرِفُهُ يُنْشِدُ صَاحِبًا لَهُ: أَيُّهَا الْمَاطِلُ دَيْنِي ... أُمْلِي وَتُمَاطِلْ عَلِّلِ الْقَلْبَ فَإِنِّي ... قَانِعٌ مِنْكَ بِبَاطِلْ وَحَدَّثَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا صَاحِبَهُ الْحَافِظَ أَبَا سَعْدِ بْنَ السَّمْعَانِيِّ، قَالَ أَبُو سَعْدٍ: فَرَأَيْتُ ابْنَ الدَّهَّانِ، فَعَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ. قَالَ أَبُو سَعْدٍ: وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ أَكْمَلِ مَنْ رَأَيْتُ، جُمِعَ لَهُ الْحِفْظُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْإِتْقَانُ، وَلَعَلَّ ابْنَ الدَّهَّانِ نَسِيَ، ثُمَّ كَانَ ابْنُ الدَّهَّانِ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ: وَلِأَجْلِ أَنَّ النِّسْيَانَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى جُحُودِ مَا رُوِيَ عَنْهُ، وَتَكْذِيبِ الرَّاوِي لَهُ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنَ الْعُلَمَاءِ التَّحْدِيثَ عَنِ الْأَحْيَاءِ، مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَوْنٍ: لَا تُحَدِّثْنِي عَنِ الْأَحْيَاءِ. وَمَعْمَرٌ ; فَإِنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُحَدِّثَ عَنْ حَيٍّ فَافْعَلْ. (وَالشَّافِعِيْ) بِالْإِسْكَانِ (نَهَى ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ) ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (يَرْوِي) أَيْ: عَنِ الرِّوَايَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 (عَنِ الْحَيِّ) ، وَهُوَ كَمَا [أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ قَرِيبًا] دُونَ ابْنِ الصَّلَاحِ (لِ) أَجْلِ (خَوْفِ التُّهَمِ) إِذَا جَزَمَ الشَّيْخُ بِالنَّفْيِ، وَذَلِكَ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي مَنَاقِبِهِ وَالْمَدْخَلِ، كِلَاهُمَا لِلْبَيْهَقِيِّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَصَّاصِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةً، فَحَكَيْتُهَا عَنْهُ، فَنُمِيَتْ إِلَيْهِ، فَأَنْكَرَهَا، قَالَ: فَاغْتَمَّ أَبِي ; أَيْ: لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَكُنَّا نُجِلُّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، أَنَا أُذَكِّرُهُ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ، فَمَضَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَلَيْسَ تَذْكُرُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى الْكَلِمَةِ؟ فَذَكَرَهَا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، لَا تُحَدِّثْ عَنِ الْحَيِّ ; فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَى. لَكِنْ قَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَى طَرِيقِ الْحَيِّ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا وَحَدَثَتْ وَاقِعَةٌ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ ; لِمَا فِي الْإِمْسَاكِ مِنْ كَتْمِ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَمُوتُ الرَّاوِي قَبْلَ مَوْتِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَيَضِيعُ الْعِلْمُ [إِنْ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَهُ] ، وَهُوَ حَسَنٌ ; إِذِ الْمَصْلَحَةُ مُحَقَّقَةٌ، وَالْمَفْسَدَةُ مَظْنُونَةٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَبُولِ الْمُبْتَدِعِ فِيمَا لَمْ نَرَهُ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ، مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ تَحْصِيلِ ذَاكَ الْمَرْوِيِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ إِهَانَتِهِ وَإِطْفَاءِ بِدْعَتِهِ. وَكَذَا يَحْسُنُ تَقْيِيدُ مَسْأَلَتِنَا بِمَا إِذَا كَانَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إِنْ كَانَا فِي بَلَدَيْنِ فَلَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ [الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ النَّفَاسَةَ] مَعَ قِلَّتِهَا بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِشَيْءٍ، وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 فَأَنْكَرَهُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَمْرًا، فَاجْتَمَعَ بِالزُّهْرِيِّ فَقَالَ لَهُ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ قَدْ حَدَّثْتَنِي بِكَذَا؟ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُكَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ، مَا حَدَّثْتَ بِهِ وَأَنَا حَيٌّ إِلَّا أَنْكَرْتُهُ، حَتَّى تُوضَعَ أَنْتَ فِي السِّجْنِ ". وَقَدْ أَوْرَدْتُ الْقِصَّةَ فِي السَّادِسِ مِنَ الْمُسَلْسَلَاتِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ حَدِيثًا، وَوُجِدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَصَفَهُ بِصَاحِبٍ لَنَا، وَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ حِينَئِذٍ. [الْأَخْذِ عَلَى التَّحْدِيثِ] 311 - وَمَنْ رَوَى بِأُجْرَةٍ لَمْ يَقْبَلِ ... إِسْحَاقُ وَالرَّازِيُّ وَابْنُ حَنْبَلِ 312 - وَهْوَ شَبِيهُ أُجْرَةِ الْقُرْآنِ ... يَخْرِمُ مِنْ مُرُوءَةِ الْإِنْسَانِ 313 - لَكِنْ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ أَخَذْ ... وَغَيْرُهُ تَرَخُّصًا فَإِنْ نَبَذْ 314 - شُغْلًا بِهِ الْكَسْبَ أَجِزْ إِرْفَاقَا ... أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَا [الْأَخْذِ عَلَى التَّحْدِيثِ] الْحَادِيَ عَشَرَ: فِي الْأَخْذِ عَلَى التَّحْدِيثِ. (وَمَنْ رَوَى) الْحَدِيثَ (بِأُجْرَةٍ) أَوْ نَحْوِهَا ; كَالْجُعَالَةِ (لَمْ يَقْبَلِ إِسْحَاقُ) بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ (وَ) أَبُو حَاتِمٍ (الرَّازِيُّ وَابْنُ حَنْبَلِ) هُوَ أَحْمَدُ فِي آخَرِينَ. أَمَّا إِسْحَاقُ ; فَإِنَّهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْمُحَدِّثِ يُحَدِّثُ بِالْأَجْرِ، قَالَ: لَا يُكْتَبُ عَنْهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَى الْحَدِيثِ، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيُكْتَبُ عَمَّنْ يَبِيعُ الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ. فَأَطْلَقَ أَبُو حَاتِمٍ جَوَابَ الْأَخْذِ الشَّامِلِ الْإِجَارَةَ وَالْجُعَالَةَ وَالْهِبَةَ وَالْهَدِيَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجُعَالَةِ ; لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ أَفْحَشَ. وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: لَمْ يَبْقَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ إِلَّا الْحَدِيثَ وَالْقَضَاءَ، وَقَدْ فَسَدَا جَمِيعًا، الْقُضَاةُ يَرْشُونَ حَتَّى يُوَلَّوْا، وَالْمُحَدِّثُونَ يَأْخُذُونَ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّرَاهِمَ. (وَهْوَ) أَيْ: أَخْذُ الْأُجْرَةِ (شَبِيهُ أُجْرَةِ) مُعَلِّمِ (الْقُرْآنِ) وَنَحْوِهِ ; كَالتَّدْرِيسِ، يَعْنِي فِي الْجَوَازِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَاكَ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِالْأَخْذِ فِيهِ، [وَهُوَ هُنَا فِي الْعُرْفِ] (يَخْرِمُ) أَيْ: يُنْقِصُ (مِنْ مُرُوءَةِ الْإِنْسَانِ) الْفَاعِلِ لَهُ ; لِكَوْنِهِ شَاعَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّخَلُّقُ بِعُلُوِّ الْهِمَمِ، وَطَهَارَةِ الشِّيَمِ، وَتَنْزِيهِ الْعِرْضِ عَنْ مَدِّ الْعَيْنِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَرَضِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِنَّمَا مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِلرَّاوِي عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ ; فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ عَلَى الرِّوَايَةِ عُثِرَ عَلَى تَزَيُّدِهِ وَادِّعَائِهِ مَا لَمْ يَسْمَعْ لِأَجْلِ مَا كَانَ يُعْطَى، وَمِنْ هُنَا بَالَغَ شُعْبَةُ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ وَقَالَ: لَا تَكْتُبُوا عَنِ الْفُقَرَاءِ شَيْئًا ; فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ، وَلِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْأَخْذِ مَنِ امْتَنَعَ، بَلْ تَوَرَّعَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ عَنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: لَمَّا جَلَسَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِلْحَدِيثِ أُهْدِيَ لَهُ، فَرَدَّهُ وَقَالَ: إِنَّ مَنْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلَاقٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 يَعْنِي إِنْ أَخَذَ. وَكَذَا لَمْ يَكُنِ النَّوَوِيُّ يَقْبَلُ مِمَّنْ لَهُ بِهِ عَلَقَةٌ مِنْ إِقْرَاءٍ أَوِ انْتِفَاعٍ مَا. قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: لِلْخُرُوجِ مِنْ حَدِيثِ إِهْدَاءِ الْقَوْسِ، يَعْنِي الْوَارِدَ الزَّجْرَ عَنْ آخِذِهِ مِمَّنْ عَلَّمَهُ الْقُرْآنَ، قَالَ: وَرُبَّمَا أَنَّهُ كَانَ يَرَى نَشْرَ الْعِلْمِ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ مَعَ قَنَاعَةِ نَفْسِهِ وَصَبْرِهَا، قَالَ: وَالْأُمُورُ الْمُتَعَيَّنَةُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا ; كَالْقَرْضِ الْجَارِّ إِلَى مَنْفَعَةٍ ; فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ - انْتَهَى. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى الْبَرْمَكِيُّ: مَا رَأَيْنَا فِي الْقُرَّاءِ مِثْلَ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا يَتَحَدَّثُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنِّي أَكَلْتُ لِلسُّنَّةِ ثَمَنًا، أَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَيَّ، فَأَمَّا عَلَى الْحَدِيثِ فَلَا، وَلَا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَلَا إِهْلِيلِجَةَ. وَهَذَا بِمَعْنَاهُ وَأَزْيَدُ عِنْدَ أَبِي الْفَرَجِ النَّهْرَوَانِيِّ فِي الْجَلِيسِ الصَّالِحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 قَالَ: دَخَلَ الرَّشِيدُ الْكُوفَةَ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ الْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ، فَسَمِعَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ، فَأَمَرَ لَهُمَا بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَلَمْ يَقْبَلَا، وَقَالَ لَهُ عِيسَى: لَا، وَلَا إِهْلِيلِجَةَ، وَلَا شَرْبَةَ مَاءٍ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ مَلَأْتَ لِي هَذَا الْمَسْجِدَ إِلَى السَّقْفِ ذَهَبًا. وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ: مَرَّ بِنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ فَاسْتَسْقَى، فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَجِئْتُهُ بِالْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُنَاوِلَهُ نَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَلَيْسَ تَحْضُرُنَا فِي وَقْتِ الْقِرَاءَةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَرَدَّهُ وَأَبَى أَنْ يَشْرَبَ وَمَضَى. وَأَهْدَى أَصْحَابُ الْحَدِيثِ لِلْأَوْزَاعِيِّ شَيْئًا، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ بِالْخِيَارِ إِنْ شِئْتُمْ قَبِلْتُهُ وَلَمْ أُحَدِّثْكُمْ، أَوْ رَدَدْتُهُ وَحَدَّثْتُكُمْ، فَاخْتَارُوا الرَّدَّ وَحَدَّثَهُمْ. وَنَحْوُهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كَمَا لِلْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ. وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ السَّقَطِيُّ: كَانَ أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الدَّجَاجِيِّ الْبَغْدَادِيُّ ذَا وَجَاهَةٍ وَتَقَدُّمٍ وَحَالٍ وَاسِعَةٍ، وَعَهْدِي بِي وَقَدْ أَخْنَى عَلَيْهِ الزَّمَانُ بِصُرُوفِهِ، وَقَدْ قَصَدْتُهُ فِي جَمَاعَةِ مُثْرِينَ ; لِنَسْمَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى بَادِيَةٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ قَدْ أَكَلَتِ النَّارُ أَكْثَرَهَا، وَلَيْسَ عِنْدَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا، فَحَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى قَرَأْنَا عَلَيْهِ بِحَسَبِ شَرَهِنَا، ثُمَّ قُمْنَا، وَقَدْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي إِكْرَامِنَا. فَلَمَّا خَرَجْنَا قُلْتُ: هَلْ مَعَ سَادَتِنَا مَا نَصْرِفُهُ إِلَى الشَّيْخِ؟ فَمَالُوا إِلَى ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ لَهُ نَحْوُ خَمْسَةِ مَثَاقِيلَ، فَدَعَوْتُ ابْنَتَهُ وَأَعْطَيْتُهَا، وَوَقَفْتُ لِأَرَى تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ وَأَعْطَتْهُ لَطَمَ حُرَّ وَجْهِهِ، وَنَادَى: وَافَضِيحَتَاهُ! آخُذُ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِوَضًا، لَا وَاللَّهِ، وَنَهَضَ حَافِيًا فَنَادَى بِحُرْمَةِ مَا بَيْنَنَا إِلَّا رَجَعْتُ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ، فَبَكَى وَقَالَ: تَفْضَحُنِي مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ؟ الْمَوْتُ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ. فَأَعَدْتُ الذَّهَبَ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَلَمْ يَقْبَلُوهُ وَتَصَدَّقُوا بِهِ. وَمَرِضَ أَبُو الْفَتْحِ الْكَرُوخِيُّ رَاوِي التِّرْمِذِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ، فَمَا قَبِلَهُ، وَقَالَ: بَعْدَ السَّبْعِينَ وَاقْتِرَابِ الْأَجَلِ آخُذُ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا؟ وَرَدَّهُ مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ. (لَكِنْ) الْحَافِظُ الْحُجَّةُ الثَّبْتُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ (أَبُو نُعَيْمٍ) ، هُوَ (الْفَضْلُ) بْنُ دُكَيْنٍ، قَدْ (أَخَذْ) الْعِوَضَ عَلَى التَّحْدِيثِ، بِحَيْثُ كَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ دَرَاهِمُ صِحَاحٌ بَلْ مُكَسَّرَةٌ أَخَذَ صِرْفَهَا. (وَ) كَذَا أَخَذَ (غَيْرُهُ) كَعَفَّانَ أَحَدِ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ، يَقُولُ: شَيْخَانِ كَانَ النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِمَا وَيَذْكُرُونَهُمَا، وَكُنَّا نَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِي أَمْرِهِمَا مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، قَامَا لِلَّهِ بِأَمْرٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَوْ كَبِيرُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا قَامَا بِهِ: عَفَّانُ وَأَبُو نُعَيْمٍ، يَعْنِي بِقِيَامِهِمَا عَدَمَ الْإِجَابَةِ فِي الْمِحْنَةِ، وَبِكَلَامِ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْخُذَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 عَلَى التَّحْدِيثِ. وَوَصَفَ أَحْمَدُ مَعَ هَذَا عَفَّانَ بِالتَّثَبُّتِ، وَقِيلَ لَهُ: مَنْ تَابَعَ عَفَّانَ عَلَى كَذَا؟ فَقَالَ: وَعَفَّانُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ؟ وَأَبَا نُعَيْمٍ بِالْحُجَّةِ الثَّبْتِ، وَقَالَ مَرَّةً: إِنَّهُ يُزَاحِمُ بِهِ ابْنَ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ عَلَى قِلَّةِ رِوَايَتِهِ أَثْبَتُ مِنْ وَكِيعٍ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، بَلْ وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَوْثِيقِهِ وَإِجْلَالِهِ، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَإِطْلَاقِهِمَا كَمَا مَضَى أَوَّلًا عَدَمُ الْكِتَابَةِ، بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ فِي الثِّقَةِ وَالتَّثَبُّتِ، أَوِ الْأَخْذُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ السُّؤَالُ لِأَحْمَدَ هُنَاكَ، وَمُضَايَقَةُ الْبَغَوِيِّ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِامْتِنَاعِ النَّسَائِيِّ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ: لَمْ يَكُونُوا يَعِيبُونَ مِثْلَ هَذَا، إِنَّمَا الْعَيْبُ عِنْدَهُمُ الْكَذِبُ. وَمِمَّنْ كَانَ يَأْخُذُ مِمَّنِ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الدَّوْرَقِيُّ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ، فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: (( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» )) الْحَدِيثَ،. . . . . . . . . . . . . . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَقَالَ عَقِبَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحَدِّثُ بِهِ إِلَّا بِدِينَارٍ. وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، فَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ قُسْطَنْطِينَ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْتَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا بَعْضُ مَشَايِخِنَا، ثُمَّ نَعِسَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُسْتَمْلِي: لَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَجَمَعُوا لَهُ شَيْئًا فَأَعْطَوْهُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُمْلِي عَلَيْهِمْ. بَلْ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَيَّارٍ: إِنَّ هِشَامًا كَانَ يَأْخُذُ عَلَى كُلِّ وَرَقَتَيْنِ دِرْهَمًا وَيُشَارِطُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ وَارَةَ: عَزَمْتُ زَمَانًا أَنْ أُمْسِكَ عَنْ حَدِيثِ هِشَامٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْحَدِيثَ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُحَدِّثُ مَا لَمْ يَأْخُذْ. وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، نَزِيلُ مَكَّةَ، وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ مَعَ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ عَلَى التَّحْدِيثِ. فِي آخَرِينَ سِوَى هَؤُلَاءِ مِمَّنْ أَخَذَهُ (تَرَخُّصًا) أَيْ: سُلُوكًا لِلرُّخْصَةِ فِيهِ لِلْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، فَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: سَمِعْتُ أَبَا نُعَيْمٍ الْفَضْلَ يَقُولُ: يَلُومُونَنِي عَلَى الْأَخْذِ، وَفِي بَيْتِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا، وَمَا فِيهِ رَغِيفٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَرَآهُ بِشْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسَأَلَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَظَرَ الْقَاضِي فِي أَمْرِي فَوَجَدَنِي ذَا عِيَالٍ فَعَفَا عَنِّي. وَكَذَا كَانَ الْبَغَوِيُّ يَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ، وَإِذَا عَاتَبُوهُ عَلَى الْأَخْذِ حِينَ يَقْرَأُ كُتُبَ أَبِي عُبَيْدٍ عَلَى الْحَاجِّ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ يَقُولُ: يَا قَوْمُ، أَنَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ، إِذَا خَرَجَ الْحَاجُّ نَادَى أَبُو قُبَيْسٍ قُعَيْقِعَانُ: مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيَ الْمُجَاوِرُونَ، فَيَقُولُ: أَطْبِقْ. لَكِنْ قَدْ قَبَّحَهُ النَّسَائِيُّ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا، لَا لِكَذِبِهِ، بَلْ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ قَوْمٌ لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، فَبَرُّوهُ بِمَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِمْ غَرِيبٌ فَقِيرٌ، فَأَعْفَوْهُ لِذَلِكَ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ كَمَا دَفَعُوا، أَوْ يَخْرُجَ عَنْهُمْ، فَاعْتَذَرَ الْغَرِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا قَصْعَةٌ، فَأَمَرَهُ بِإِحْضَارِهَا، فَلَمَّا أَحْضَرَهَا حَدَّثَهُمْ. وَنَحْوُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْأَنْصَارِيَّ الْمَعْرُوفَ بِقَاضِي الْمَرِسْتَانِ شَمَّ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ سَعْدِ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيِّ رَائِحَةً طَيِّبَةً، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: هِيَ عُودٌ، فَقَالَ: ذَا عُودٌ طَيِّبٌ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ نَزْرًا قَلِيلًا، وَدَفَعَهُ لِجَارِيَةِ الشَّيْخِ، فَاسْتَحْيَتْ مِنْ إِعْلَامِهِ بِهِ لِقِلَّتِهِ. وَجَاءَ سَعْدُ الْخَيْرِ عَلَى عَادَتِهِ، فَاسْتَخْبَرَ مِنَ الشَّيْخِ عَنْ وُصُولِ الْعُودِ، فَقَالَ لَهُ: لَا، وَطَلَبَ الْجَارِيَةَ، فَاعْتَذَرَتْ لِقِلَّتِهِ، وَأَحْضَرَتْ ذَلِكَ، فَأَخَذَ الشَّيْخُ بِيَدِهِ وَقَالَ لِسَعْدِ الْخَيْرِ: أَهُوَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَمَى بِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ سَعْدُ الْخَيْرِ أَنْ يُسْمِعَ وَلَدَهُ جُزْءَ الْأَنْصَارِيِّ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يُسْمِعَهُ إِيَّاهُ إِلَّا أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ خَمْسَةَ أَمْنَاءِ عُودٍ، فَامْتَنَعَ وَأَلَحَّ عَلَى الشَّيْخِ فِي تَكْفِيرِ يَمِينِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فَمَا فَعَلَ وَلَا حَمَلَ هُوَ شَيْئًا، وَمَاتَ الشَّيْخُ وَلَمْ يَسْمَعِ ابْنُهُ الْجُزْءَ. وَلَكِنَّهُ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ الْأَخْذِ مِنَ الْغُرَبَاءِ خَاصَّةً، فَرَوَى السِّلَفِيُّ فِي مُعْجَمِ السَّفَرِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ بِشْرٍ الْإِسْفَرَائِينِيِّ قَالَ: اجْتَمَعْنَا بِمِصْرَ طَبَقَةً مِنْ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ، فَقَصَدْنَا عَلِيَّ بْنَ مُنِيرٍ الْخَلَّالَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا فِي الدُّخُولِ، فَجَعَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ النَّخْشَبِيُّ فَاهُ عَلَى كُوَّةِ بَابِهِ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ)) ، قَالَ: فَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلْنَا، فَقَالَ: لَا أُحَدِّثُ الْيَوْمَ إِلَّا مِنْ وَزْنِ الذَّهَبِ، فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْغُرَبَاءِ شَيْئًا، وَكَانَ فَقِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ، وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَشْرِطُ شَيْئًا وَلَا يَذْكُرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ مَا يُعْطَى بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قَبْلَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْتَصِرُ فِي الْأَخْذِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ فِي الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ سُكَيْنَةَ: قُلْتُ لِلْحَافِظِ ابْنِ نَاصِرٍ: أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ شَرْحَ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي لِأَبِي زَكَرِيَّا، وَكَانَ يَرْوِيهِ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ دَائِمًا تَقْرَأُ عَلَيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الْحَدِيثَ مَجَّانًا، وَهَذَا شِعْرٌ، وَنَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى دَفْعٍ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِوَالِدِي، فَدَفَعَ إِلَيَّ كَاغِدًا فِيهِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ - انْتَهَى. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ فَقِيرًا. وَنَحْوُهُ أَنَّ أَبَا نَصْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ مَوْهُوبٍ الْبَغْدَادِيَّ الضَّرِيرَ الْفَرَضِيَّ كَانَ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ الْجَبْرَ وَالْمُقَابَلَةَ دُونَ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ، وَيَقُولُ: الْفَرَائِضُ مُهِمَّةٌ، وَهَذَا مِنَ الْفَضْلِ. حَكَاهُمَا ابْنُ النَّجَّارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا، وَلَكِنْ يَقُولُ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا مُحْتَاجِينَ، فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا لَمْ أُحَدِّثْكُمْ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ شَيْخِهِ: إِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ [مِنْ كَوْنِ الْأَخْذِ خَارِمًا، هُوَ حَيْثُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِعُذْرٍ مِنْ فَقْرٍ مُرَخِّصٍ، أَوْ تَعْطِيلٍ عَنْ كَسْبٍ] (فَإِنْ) كَانَ ذَا كَسْبٍ، وَلَكِنْ (نَبَذْ) بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ ; أَيْ: أَلْقَى (شُغْلًا بِهِ) أَيْ: لِاشْتِغَالِهِ بِالتَّحْدِيثِ (الْكَسْبَ) لِعِيَالِهِ (أَجِزْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لَهُ الْأَخْذَ (إِرْفَاقَا) أَيْ: لِأَجْلِ الْإِرْفَاقِ بِهِ فِي مَعِيشَتِهِ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَقَدْ (أَفْتَى بِهِ) أَيْ: بِجَوَازِ الْأَخْذِ (الشَّيْخُ) الْوَلِيُّ (أَبُو إِسْحَاقَا) الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، حِينَ سَأَلَهُ مُسْنِدُ الْعِرَاقِ فِي وَقْتِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُورِ ; لِكَوْنِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَانُوا يَمْنَعُونَهُ عَنِ الْكَسْبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 لِعِيَالِهِ، فَكَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ، وَعَلَى نُسْخَةِ طَالُوتَ بْنِ عَبَّادٍ أَبِي عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ بِخُصُوصِهَا دِينَارًا. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ جَاءَ غَرِيبٌ فَقِيرٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْهُ، فَاحْتَالَ بِأَنِ [اقْتَصَرَ عَلَى كُنْيَةِ طَالُوتَ ; لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَخْبَرَكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حُبَابَةَ] قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ؟ وَسَاقَ النُّسْخَةَ إِلَى آخِرِهَا، فَبَلَغَ مَقْصُودَهُ بِدُونِ دِينَارٍ. وَسَبَقَ إِلَى الْإِفْتَاءِ بِالْجَوَازِ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ فُطَيْسٍ وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ: جَمَعْنَا لِابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، دَنَانِيرَ، وَأَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ، وَقَرَأْنَا عَلَيْهِ مُوَطَّأَ عَمِّهِ وَجَامِعَهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَصَارَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، الْعَالِمُ يَأْخُذُ عَلَى قِرَاءَةِ الْعِلْمِ؟ فَاسْتَشْعَرَ فِيمَا ظَهَرَ لِي أَنِّي إِنَّمَا أَسْأَلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 عَنْ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِي: جَائِزٌ، عَافَاكَ اللَّهُ، حَلَالٌ أَنْ لَا أَقْرَأَ لَكَ وَرَقَةً إِلَّا بِدِرْهَمٍ، وَمَنْ أَخَذَنِي أَنْ أَقْعُدَ مَعَكَ طُولَ النَّهَارِ، وَأَدَعَ مَا يَلْزَمُنِي مِنْ أَسْبَابِي وَنَفَقَةِ عِيالِي. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالدَّلِيلُ لِمُطْلَقِ الْجَوَازِ كَمَا تَقَدَّمَ الْقِيَاسُ عَلَى الْقُرْآنِ ; فَقَدْ جَوَّزَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ الْجُمْهُورُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (( «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» )) . وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ لَا تَنْهَضُ بِالْمُعَارَضَةِ ; إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، خُصُوصًا وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِالْمَنْعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ هِيَ وَقَائِعُ أَحْوَالٍ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ لِتُوَافِقَ الصَّحِيحَ، وَقَدْ حَمَلَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأَخْذِ فِيمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ. وَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي الْعَالِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41] ; أَيْ: لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا، وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: يَا ابْنَ آدَمَ، عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا. وَلَيْسَ فِي قَوْلِ عَازِبٍ لِأَبِي بَكْرٍ، حِينَ سَأَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَهُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَمْلِ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ مَعَهُ: لَا حَتَّى يُحَدِّثَنَا بِكَذَا، مُتَمَسَّكٌ لِلْجَوَازِ ; لِتَوَقُّفِهِ كَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 شَيْخُنَا عَلَى أَنَّ عَازِبًا لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِهِ لَاسْتَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّحْدِيثِ، يَعْنِي: فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمَا امْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَا أَقَرَّ عَازِبًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ ; لِاحْتِمَالٍ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ تَأْدِيبًا وَزَجْرًا، وَتَقْرِيرُهُ عَازِبًا فَلِكَوْنِهِ فَهِمَ عَنْهُ قَصْدَ الْمُبَادَرَةِ لِإِسْمَاعِ ابْنِهِ، وَكَوْنِهِ حَاضِرًا مَعَهُ خَوْفًا مِنَ الْفَوَاتِ، لَا خُصُوصَ هَذَا الْمَحْكِيِّ. وَعَلَى هَذَا، فَمَا بَقِيَ فِيهِمَا مُتَمَسَّكٌ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ سَبَقَ لِلْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ: وَمِنِ الْمُهِمِّ هُنَا أَنْ نَقُولَ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ حِرْصَ الطَّلَبَةِ لِلْعِلْمِ قَدْ فَتَرَ، لَا بَلْ قَدْ بَطَلَ، فَيَنْبَغِي لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَبِّبُوا لَهُمُ الْعِلْمَ، وَإِلَّا فَإِذَا رَأَى طَالِبُ الْأَثَرِ أَنَّ الْإِسْنَادَ يُبَاعُ، وَالْغَالِبُ عَلَى الطَّلَبَةِ الْفَقْرُ، تَرَكَ الطَّلَبَ، فَكَانَ هَذَا سَبَبًا لِمَوْتِ السُّنَّةِ، وَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مَنْ كَانَ عَلَى مَأْثُورِ السَّلَفِ فِي نَشْرِ السُّنَّةِ بُورِكَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى السِّيرَةِ الَّتِي ذَمَمْنَاهَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ عَلَى غَزَارَةِ عِلْمِهِ - انْتَهَى. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْأَنْمَاطِيِّ الْحَافِظُ قَالَ: رَغَّبْتُ أَبَا عَلِيٍّ حَنْبَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيَّ الرَّصَافِيَّ رَاوِيَ مُسْنَدِ أَحْمَدَ فِي السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ فَقِيرًا جِدًّا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فَقُلْتُ لَهُ: يَحْصُلُ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا طَرَفٌ صَالِحٌ، وَيُقْبِلُ عَلَيْكَ وُجُوهُ النَّاسِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، فَقَالَ: دَعْنِي، فَوَاللَّهِ مَا أُسَافِرُ لِأَجْلِهِمْ، وَلَا لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أُسَافِرُ خِدْمَةً لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْوِي أَحَادِيثَهُ فِي بَلَدٍ لَا تُرْوَى فِيهِ. قَالَ: وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ هَذِهِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ أَقْبَلَ بِوُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَحَرَّكَ الْهِمَمَ لِلسَّمَاعِ عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ لَا نَعْلَمُهَا، اجْتَمَعَتْ فِي مَجْلِسِ سَمَاعٍ قَبْلَ هَذَا بِدِمَشْقَ، بَلْ لَمْ يَجْتَمِعْ مِثْلُهَا قَطُّ لِأَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى الْمُسْنَدَ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْإِخْلَاصَ قَوْلًا وَفِعْلًا. [مَا يَخْرِمُ الضَّبْطَ] 315 - وَرُدَّ ذُو تَسَاهُلٍ فِي الْحَمْلِ ... كَالنَّوْمِ وَالْأَدَاءِ كُلًّا مِنْ أَصْلِ 316 - أَوْ قَبِلَ التَّلْقِينَ أَوْ قَدْ وُصِفَا ... بِالْمُنْكَرَاتِ كَثْرَةً أَوْ عُرِفَا 317 - بِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَمَا حَدَّثَ مِنْ ... أَصْلٍ صَحِيحٍ فَهْوَ رَدٌّ ثُمَّ إِنْ 318 - بُيِّنْ لَهُ غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ ... سَقَطَ عِنْدَهُمْ حَدِيثُهُ جُمَعْ 319 - كَذَا الْحُمَيْدِيُّ مَعَ ابْنِ حَنْبَلِ ... وَابْنُ الْمُبَارَكِ رَأَوْا فِي الْعَمَلِ 320 - قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، نَعَمْ إِذَا ... كَانَ عِنَادًا مِنْهُ مَا يُنْكَرُ ذَا [مَا يَخْرِمُ الضَّبْطَ] الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي التَّسَاهُلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَخْرِمُ الضَّبْطَ. (وَرُدَّ) عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ (ذُو تَسَاهُلٍ فِي الْحَمْلِ) أَيِ: التَّحَمُّلِ لِلْحَدِيثِ وَسَمَاعِهِ (كَ) الْمُتَحَمِّلِ حَالَ (النَّوْمِ) الْكَثِيرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ، مَعَ عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا رِوَايَتَهُ. وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِمَامِ الثِّقَةِ الْحُجَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ مَعَ وَصْفِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ رَدِيءَ الْأَخْذِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَقَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنَّهُ رَآهُ وَأَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي حَالِ كَوْنِهِ يُقْرَأُ لَهُ عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَإِنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلْقَارِئِ: أَنْتَ تَقْرَأُ وَصَاحِبُكَ نَائِمٌ، فَضَحِكَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ عُثْمَانُ: فَتَرَكْنَا ابْنَ وَهْبٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَقِيلَ لَهُ: وَلِهَذَا تَرَكْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَا؟ رَوَاهُ الْخَطِيبُ. فَلِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ مَاشِيًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَجْوِيزِ الْإِجَازَةِ، وَأَنْ يُقَالَ فِيهَا: حَدَّثَنِي، بَلْ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الْحَدِيثِ، يَفْصِلُ السَّمَاعَ مِنَ الْعَرْضِ، وَالْحَدِيثَ مِنَ الْحَدِيثِ، مَا أَصَحَّ حَدِيثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ كَانَ يُسِيءُ الْأَخْذَ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ، وَلَكِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَشَايِخِهِ وَجَدْتَهُ صَحِيحًا. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي كُلِّ مِنَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ النُّعَاسُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَخْتَلُّ مَعَهُ فَهْمُ الْكَلَامِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الْفَطِنِ، فَقَدْ كَانَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ رُبَّمَا يَنْعَسُ فِي حَالِ إِسْمَاعِهِ، وَيَغْلَطُ الْقَارِئُ أَوْ يَزِلُّ فَيُبَادِرُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ، وَكَذَا شَاهَدْتُ شَيْخَنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، بَلْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يُقْرِئُ شَرْحَ أَلْفِيَّةِ النَّحْوِ لِابْنِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ نَاعِسٌ. وَمَا يُوجَدُ فِي الطِّبَاقِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى نُعَاسِ السَّامِعِ أَوِ الْمُسْمِعِ لَعَلَّهُ فِيمَنْ جُهِلَ حَالُهُ، أَوْ عُلِمَ بِعَدَمِ الْفَهْمِ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ التَّقِيِّ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مِنَ التَّحْدِيثِ عَنِ ابْنِ الْمُقَيَّرِ مَعَ صِحَّةِ سَمَاعِهِ مِنْهُ ; لِكَوْنِهِ شَكَّ هَلْ نَعِسَ حَالَ السَّمَاعِ أَمْ لَا، فَلِوَرَعِهِ ; فَقَدْ كَانَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الْوَرَعِ بِمَكَانٍ. وَنَحْوُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنَ شَقِيقٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَسَمِعْتَ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ نَهَقَ حِمَارٌ يَوْمًا فَاشْتَبَهَ عَلَيَّ حَدِيثٌ، وَلَمْ أَعْرِفْ تَعْيِينَهُ، فَتَرَكْتُ الْكِتَابَ كُلَّهُ. (وَ) كَذَلِكَ رُدَّ عِنْدَهُمْ ذُو تَسَاهُلٍ فِي حَالَةِ (الْأَدَاءِ) أَيِ: التَّحْدِيثِ (كَ) الْمُؤَدِّي (لَا مِنْ أَصْلٍ) صَحِيحٍ مَعَ كَوْنِهِ هُوَ أَوِ الْقَارِئِ أَوْ بَعْضِ السَّامِعِينَ غَيْرَ حَافِظٍ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ يُحَدِّثُ بَعْدَ ذَهَابِ أُصُولِهِ وَاخْتِلَالِ حِفْظِهِ، كَفِعْلِ ابْنِ لَهِيعَةَ فِيمَا حَكَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، فَقَالَ: جَاءَ قَوْمٌ وَمَعَهُمْ جُزْءٌ فَقَالُوا: سَمِعْنَاهُ مِنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْتُهُ وَأَعْلَمْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ؟ يَجِيئُونِي بِكِتَابٍ فَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ حَدِيثِكَ، فَأُحَدِّثُهُمْ بِهِ. وَنَحْوُهُ مَا وَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ، جَاءَهُ رَجُلٌ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ كُتُبُهُ بِنُسْخَةِ ضِمَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ هُمَا سَمَاعَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحَدِّثْنِي بِهِمَا، قَالَ: قَدْ ذَهَبَتْ كُتُبِي، وَلَا أُحَدِّثُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، فَمَا زَالَ حَتَّى خَدَعَهُ، وَلِذَا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا قَبْلَ ذِهَابِ كُتُبِهِ كَانَ صَحِيحَ الْحَدِيثِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا. وَمِمَّنْ وُصِفَ بِالتَّسَاهُلِ فِيهِمَا قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِنَّهُ كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي السَّمَاعِ وَفِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِكَذَّابٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّدَّ بِذَلِكَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ عُرِفَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الثِّقَةِ وَعَدَمِ الْمَجِيءِ بِمَا يُنْكَرُ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ الْمَاضِيَ قَرِيبًا يَشْهَدُ لَهُ، أَوْ لِكَوْنِ التَّسَاهُلِ يَخْتَلِفُ، فَمِنْهُ مَا يَقْدَحُ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْدَحُ. وَكَذَا مَنِ اخْتَلَّ ضَبْطُهُ بِحَيْثُ أَكْثَرَ مِنَ الْقَلْبِ أَوِ الْإِدْرَاجِ، أَوْ رَفَعِ الْمَوْقُوفِ، أَوْ وَصَلِ الْمُرْسَلِ (أَوْ قَبِلَ التَّلْقِينَ) الْبَاطِلَ مِمَّنْ يُلَقِّنُهُ إِيَّاهُ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا، وَبَادَرَ إِلَى التَّحْدِيثِ بِذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً ; لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُجَازَفَتِهِ وَعَدَمِ تَثَبُّتِهِ وَسُقُوطِ الْوُثُوقِ بِالْمُتَّصِفِ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ يَفْعَلُهُ اخْتِبَارًا وَتَجْرِبَةً لِحِفْظِ الرَّاوِي وَضَبْطِهِ وَحِذْقِهِ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: لَقَّنْتُ سَلَمَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ حَدِيثًا، فَحَدَّثَنِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ وَقَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُكَذِّبَ صَاحِبَكَ ; أَيْ: تَعْرِفَ كَذِبَهُ، فَلَقِّنْهُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُكَذِّبَ صَاحِبَكَ فَلَقِّنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ لِيَرْوِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّنْ لَقَّنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي فَاعِلِهِ. قَالَ عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ: كَانَ الْبَغْدَادِيُّونَ، كَعَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، يُلَقِّنُونَ الْمَشَايِخَ، وَكُنْتُ أَمْنَعُهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ فَضْلُكَ يَدُورُ عَلَى أَحَادِيثِ أَبِي مُسْهِرٍ وَغَيْرِهِ، يُلَقِّنُهَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، يَعْنِي: بَعْدَ مَا كَبِرَ، بِحَيْثُ كَانَ كُلَّمَا دُفِعَ إِلَيْهِ قَرَأَهُ، وَكُلَّمَا لُقِّنَ تَلَقَّنَ، وَيُحَدِّثُهُ بِهَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَفْتِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْقًا، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَيَّارٍ: لَمَّا لُمْتُهُ عَلَى قَبُولِ التَّلْقِينِ، قَالَ: أَنَا أَعْرِفُ حَدِيثِي، ثُمَّ قَالَ لِي بَعْدَ سَاعَةٍ: إِنْ كُنْتَ تَشْتَهِي أَنْ تَعْلَمَ فَأَدْخِلْ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ. فَتَفَقَّدْتُ الْأَسَانِيدَ الَّتِي فِيهَا قَلِيلُ اضْطِرَابٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَكَانَ يَمُرُّ فِيهَا، وَكَانَ أَيْضًا يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 180] . وَمِنِ الْأَوَّلِ مَا وَقَعَ لِحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، فَإِنَّهُ لَقِيَ هُوَ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُمَا مُوسَى بْنَ دِينَارٍ الْمَكِّيَّ، فَجَعَلَ حَفْصٌ يَضَعُ لَهُ الْحَدِيثَ فَيَقُولُ: حَدَّثَتْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: حَدَّثَتْنَي عَائِشَةُ، وَيَقُولُ لَهُ: وَحَدَّثَكَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ، فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ، أَوْ يَقُولُ: حَدَّثَكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ، فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ حَفْصٌ مَدَّ يَدَهُ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَقْصِدَ، وَلَيْسَتْ لَهُ نَبَاهَةٌ، فَأَخَذَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 أَلْوَاحَهُ الَّتِي كَتَبَ فِيهَا وَمَحَاهَا، وَبَيَّنَ لَهُ كَذِبَ مُوسَى. وَمِنَ الثَّانِي مَنْ عَمِدَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ إِلَى مَسَائِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَجَعَلُوا لَهَا أَسَانِيدَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَضَعُوهَا فِي كُتُبِ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَصَارَ يُحَدِّثُ بِهَا فِي جَمَاعَةٍ مِمَّنْ كَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ. أَفْرَدُوا بِالتَّأْلِيفِ (أَوْ قَدْ وُصِفَا) مِنَ الْأَئِمَّةِ (بِ) رِوَايَةِ (الْمُنْكَرَاتِ) أَوِ الشَّوَاذِّ (كَثْرَةً) أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا ذَاتَ كَثْرَةٍ. (أَوْ عُرْفًا بِكَثْرَةٍ السَّهْوِ) وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ، حَالَ كَوْنِهِ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ (وَمَا حَدَّثَ مِنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ فَهْوَ) أَيِ: الْمُتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ (رَدٌّ) أَيْ: مَرْدُودٌ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ يَخْرِمُ الثِّقَةَ بِالرَّاوِي وَضَبْطِهِ. قَالَ شُعْبَةُ: لَا يَجِيئُكَ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ إِلَّا مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ. وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: مَنِ الَّذِي نَتْرُكُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؟ قَالَ: إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الْمَعْرُوفِ بِمَا لَا يُعْرَفُ، وَأَكْثَرَ الْغَلَطَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، فِيمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ: " مَنْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَقِلَّةِ الضَّبْطِ رُدَّ حَدِيثُهُ ". قَالَ: وَكَذَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ عُرِفَ بِالتَّسَاهُلِ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، دُونَ الْمُتَسَاهِلِ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ فِي الدِّينِ، يَعْنِي: لِأَمْنِ الْخَلَلِ فِيهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ. وَيُخَالِفُهُ قَوْلُ ابْنِ النَّفِيسِ: مَنْ تَشَدَّدَ فِي الْحَدِيثِ وَتَسَاهَلَ فِي غَيْرِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ رِوَايَتَهُ تُرَدُّ، قَالَ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَشَدَّدَ فِي الْحَدِيثِ لِغَرَضٍ، وَإِلَّا لَلَزِمَ التَّشَدُّدُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْغَرَضُ أَوْ يَحْصُلُ بِدُونِ تَشَدُّدٍ، فَيَكْذِبُ - انْتَهَى. إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّسَاهُلِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ النَّفِيسِ بِهَذَا، بَلْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْحَدِيثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي تَسَاهُلٍ لَا يُفْضِي إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعَدَالَةِ، وَلَوْ فِيمَا يَكُونُ بِهِ خَارِمًا لِلْمُرُوءَةِ، فَاعْلَمْهُ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَكْثُرْ شُذُوذُهُ وَلَا مَنَاكِيرُهُ، أَوْ كَثُرَ ذَلِكَ مَعَ تَمْيِيزِهِ لَهُ وَبَيَانِهِ، أَوْ حَدَّثَ مَعَ اتِّصَافِهِ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ مِنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ، بِحَيْثُ زَالَ الْمَحْذُورُ فِي تَحْدِيثِهِ مِنْ حِفْظِهِ فَلَا، وَكَذَا إِذَا حَدَّثَ سَيِّئُ الْحِفْظِ عَنْ شَيْخٍ عُرِفَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ; حَيْثُ قُبِلَ فِي الشَّامِيِّينَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَوَقَّفَ فِي رَدِ مَنْ كَثُرَتِ الْمَنَاكِيرُ وَشَبَهُهَا فِي حَدِيثِهِ ; لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَمْ تُرَدْ رِوَايَتُهُمْ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي رِوَايِاتِهِ مَعَ ظُهُورِ إِلْصَاقِ ذَلِكَ بِهِ لِجَلَالَةِ بَاقِي رِجَالِ السَّنَدِ. (ثُمَّ إِنْ بُيِّنْ لَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ مُدْغَمَةٍ فِي اللَّامِ ; أَيِ: الرَّاوِي الَّذِي سَهَا أَوْ غَلَطَ وَلَوْ مَرَّةً (غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ) عَنْ خَطَئِهِ، بَلْ أَصَرَّ عَلَيْهِ (سَقَطَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 عِنْدَهُمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ (حَدِيثُهُ) ، بَلْ مَرْوِيُّهُ (جُمَعْ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَزْنَ مُضَرَ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْمَقَالَةِ. وَ (كَذَا) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ (الْحُمَيْدِيُّ مَعَ ابْنِ حَنْبَلِ) الْإِمَامِ أَحْمَدَ (وَابْنِ الْمُبَارَكِ) عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ (رَأَوْا) إِسْقَاطَ حَدِيثِ الْمُتَّصِفِ بِهَذَا (فِي الْعَمَلِ) احْتَجَاجًا وَرِوَايَةً، حَتَّى تَرَكُوا الْكِتَابَةَ عَنْهُ (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَفِيهِ نَظَرٌ) ، وَكَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ قَدْ لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مَا قِيلَ لَهُ، إِمَّا لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ عِلْمَ الْمُبَيَّنِ لَهُ، وَعَدْمَ أَهْلِيَّتِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَانَ) عَدَمُ رُجُوعِهِ (عِنَادًا) مَحْضًا (مِنْهُ) ، لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مَطْعَنَ عِنْدَهُ يُبْدِيهِ، فَ (مَا يُنْكَرُ ذَا) أَيِ: الْقَوْلُ بِسُقُوطِ رِوَايَاتِهِ وَعَدَمِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ. وَيُرْشِدُ لِذَلِكَ قَوْلُ شُعْبَةَ حِينَ سَأَلَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَنِ الَّذِي تَتْرُكُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؟ مَا نَصُّهُ: إِذَا تَمَادَى فِي غَلَطٍ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ، أَوْ رَجُلٌ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: " مَنْ يُبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ، وَعَلِمَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَتَمَادَى فِي ذَلِكَ، كَانَ كَذَّابًا بِعِلْمٍ صَحِيحٍ ". قَالَ التَّاجُ التِّبْرِيزِيُّ: لِأَنَّ الْمُعَانِدَ كَالْمُسْتَخِفِّ بِالْحَدِيثِ بِتَرْوِيجِ قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ جَهْلٍ فَأَوْلَى بِالسُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ ضَمَّ إِلَى جَهْلِهِ إِنْكَارَهُ الْحَقَّ. وَكَانَ هَذَا فِيمَنْ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ جَاهِلًا مَعَ اعْتِقَادِهِ عِلْمَ مَنْ أَخْبَرَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 [ تسهيل في الشروط ] 321 - وَأَعْرَضُوا فِي هَذِهِ الدُّهُورِ ... عَنِ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ 322 - لِعُسْرِهَا بَلْ يُكْتَفَى بِالْعَاقِلِ ... الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْفَاعِلِ 323 - لِلْفِسْقِ ظَاهِرًا وَفِي الضَّبْطِ بِأَنْ ... يَثْبُتَ مَا رَوَى بِخَطٍ مُؤْتَمَنْ 324 - وَأَنَّهُ يَرْوِي مِنْ أَصْلٍ وَافَقَا ... لِأَصْلِ شَيْخِهِ كَمَا قَدْ سَبَقَا 325 - لِنَحْوِ ذَاكَ الْبَيْهَقِيُّ فَلَقَدْ ... آلَ السَّمَاعُ لِتَسَلْسُلٍ السَّنَدْ [تسهيل في الشروط] الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي عَدَمِ مُرَاعَاةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ. (وَأَعْرَضُوا) أَيِ: الْمُحَدِّثُونَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ (فِي هَذِهِ الدُّهُورِ) الْمُتَأَخِّرَةِ (عَنِ) اعْتِبَارِ (اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ) الَّتِي شَرَحْتُ فِيمَا مَضَى فِي الرَّاوِي وَضَبْطِهِ، فَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَا فِي عَمَلِهِمْ ; (لِعُسْرِهَا) أَوْ تَعَذُّرِ الْوَفَاءِ بِهَا (بَلِ) اسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ (يُكْتَفَى) فِي الرِّوَايَةِ (بِالْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْفَاعِلِ لِلْفِسْقِ) وَمَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ (ظَاهِرًا) ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَسْتُورَ الْحَالِ. (وَ) يُكْتَفَى (فِي الضَّبْطِ بِأَنْ يَثْبُتَ مَا رَوَى بِخَطِّ) ثِقَةٍ (مُؤْتَمَنٍ) ، سَوَاءٌ الشَّيْخُ أَوِ الْقَارِئُ أَوْ بَعْضُ السَّامِعِينَ كَتَبَ عَلَى الْأَصْلِ أَوْ فِي ثَبْتٍ بِيَدِهِ، إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَذِهِ الشَّأْنِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الِاعْتِمَادُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الرَّاوِي عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى الثِّقَةِ الْمُفِيدِ لِذَلِكَ (وَأَنَّهُ يَرْوِي) حِينَ يُحَدِّثُ (مِنْ أَصْلٍ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ (وَافَقَا لِأَصْلِ شَيْخِهِ كَمَا قَدْ سَبَقَا لِنَحْوِ ذَلِكَ) الْحَافِظُ الْكَبِيرُ (الْبَيْهَقِيُّ) فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ فِي السَّمَاعِ مِنْ بَعْضِ مُحَدِّثِي زَمَانِهِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ حَدِيثَهُمْ، وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِمْ، وَذَلِكَ لِتَدْوِينِ الْأَحَادِيثِ فِي الْجَوَامِعِ الَّتِي جَمَعَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَمَنْ جَاءَ الْيَوْمَ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ; أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَمَنْ جَاءَ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَالَّذِي يَرْوِيهِ لَا يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وَحِينَئِذٍ (فَلَقَدْ آلَ السَّمَاعُ) الْآنَ (لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ) أَيْ: بَقَاءِ سِلْسِلَتِهِ بِحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا ; لِتَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةُ الَّتِي خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ شَرَفًا لِنَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي الَّذِي لَمْ يَقَعِ التَّبْدِيلُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَّا بِانْقِطَاعِهِ. قُلْتُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ أَوَّلًا مَعْرِفَةَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَتَفَاوُتِ الْمَقَامَاتِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ ; لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى التَّصْحِيحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّضْعِيفِ، حَصَلَ التَّشَدُّدُ بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ آخِرًا الِاقْتِصَارَ فِي التَّحْصِيلِ عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ السِّلْسِلَةِ السَّنَدِيَّةِ اكْتَفَوْا بِمَا تَرَى. وَلَكِنَّ ذَاكَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَالِبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُوجَدُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ نَمَطِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ التَّسَاهُلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ قَلِيلًا. وَقَدْ سَبَقَ الْبَيْهَقِيَّ إِلَى قَوْلِهِ شَيْخُهُ الْحَاكِمُ، وَنَحْوُهُ عَنِ السِّلَفِيِّ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، بَلْ حَصَلَ التَّوَسُّعُ فِيهِ أَيْضًا إِلَى مَا وَرَاءَ هَذَا، كَقِرَاءَةِ غَيْرِ الْمَاهِرِ فِي غَيْرِ أَصْلٍ مُقَابَلٍ، بِحَيْثُ كَانَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِإِنْكَارِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ. [مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ] 326 - وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قَدْ هَذَّبَهُ ... ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ إِذْ رَتَّبَهُ 327 - وَالشَّيْخُ زَادَ فِيهِمَا وَزِدْتُ ... مَا فِي كَلَامِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 328 - فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ مَا كَرَّرْتَهُ كَثِقَةٍ ثَبْتٍ وَلَوْ أَعَدَتَّهُ ... 329 - ثُمَّ يَلِيهِ ثِقَةٌ أَوْ ثَبْتٌ أَوْ مُتْقِنٌ أَوْ حُجَّةٌ أَوِ إِذَا عَزَوْا ... 330 - الْحِفْظَ أَوْ ضَبْطًا لِعَدْلٍ وَيَلِي لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ صَدُوقٌ وَصِلِ ... 331 - بِذَاكَ مَأْمُونًا خِيارًا وَتَلَا مَحَلُّهُ الصِّدْقُ رَوَوْا عَنْهُ إِلَى ... 332 - الصِّدْقِ مَا هُوَ؟ وَكَذَا شَيْخٌ وَسَطْ أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ، أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ ... 333 - وَصَالِحُ الْحَدِيثِ أَوْ مُقَارِبُهْ جَيِّدُهُ حَسَنُهُ مُقَارَبُهْ ... 334 - صُوَيْلِحٌ صَدُوقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهْ أَرْجُو بِأَنْ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عَرَاهْ ... 335 - وَابْنُ مَعِينٍ قَالَ مَنْ أَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ فَثِقَةٌ وَنُقِلَا ... 336 - أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ أَجَابَ مَنْ سَأَلْ أَثِقَةً كَانَ أَبُو خَلْدَةَ بَلْ ... 337 - كَانَ صَدُوقًا خَيِّرًا مَأْمُونَا الثِّقَةُ الثَّوْرِيُّ لَوْ تَعُونَا ... 338 - وَرُبَّمَا وَصَفَ ذَا الصِّدْقِ وُسِمْ ضَعْفًا بِصَالِحِ الْحَدِيثِ إِذْ يَسِمْ [مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ] : وَهِيَ سِتٌّ، وَقُدِّمَتْ لِشَرَفِهَا وَلِمُوَازَاةِ الْبَابِ قَبْلَهَا، الَّتِي هِيَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ تَتِمَّاتِهِ، وَلِذَا أَرْدَفَهُ بِهَا. (وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ) الْمُنْقَسِمَانِ إِلَى أَعْلَى وَأَدْنَى وَبَيْنَ ذَلِكَ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْوِيعُهُمْ لِلْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا لَهُمَا اخْتِصَارًا، مَعَ شُمُولِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ لَهَا (قَدْ هَذَّبَهُ) بِالْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: هَذَّبَ كُلًّا مِنْهُمَا، حَيْثُ نَقَّى اللَّفْظَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ فِيهِمَا (ابْنُ أَبِي حَاتِمِ) [بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِلْوَزْنِ وَبِهِ، مَعَ تَرْكِ هَمْزَةٍ مَا بَعْدَهُ] ، هُوَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الْإِمَامِ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الرَّازِيِّ ; (إِذْ رَتَّبَهُ) فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ (الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ) فَأَجَادَ وَأَحْسَنَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ. (وَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (زَادَ) عَلَيْهِ (فِيهِمَا) أَلْفَاظًا أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ (وَ) كَذَا (زِدْتُ) عَلَى كُلٍّ مِنِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (مَا فِي كَلَامِ) أَئِمَّةِ (أَهْلِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ (وَجَدْتُ) مِنَ الْأَلْفَاظِ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي: بِدُونِ اسْتِقْصَاءٍ، وَإِلَّا فَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الرِّجَالِ، كَكِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الْمَذْكُورِ، وَ (الْكَامِلِ) لِابْنِ عَدِيٍّ، وَ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهَا، ظَفَرَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوِ اعْتَنَى بَارِعٌ بِتَتَبُّعِهَا، وَوَضَعَ كُلَّ لَفْظَةٍ بِالْمَرْتَبَةِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا، مَعَ شَرْحِ مَعَانِيهَا لُغَةً وَاصْطِلَاحًا لَكَانَ حَسَنًا. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا يَلْهَجُ بِذِكْرِ ذَلِكَ، فَمَا تَيَسَّرَ، وَالْوَاقِفُ عَلَى عِبَارَاتِ الْقَوْمِ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ بِمَا عُرِفَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِقَرَائِنَ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ (فَأَرْفَعُ) مَرَاتِبِ (التَّعْدِيلِ) مَا أَتَى، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، كَأَنْ يُقَالَ: أَوْثَقُ النَّاسِ، أَوْ أَثْبَتُ النَّاسِ، أَوْ نَحْوُهُمَا، مِثْلُ قَوْلِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ: حَدَّثَنِي أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ; لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَأَلْحَقَ بِهَا شَيْخُنَا: " إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي التَّثَبُّتِ "، وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهَا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي ابْنِ مَهْدِيٍّ: لَا أَعْرِفُ لَهُ نَظِيرًا فِي الدُّنْيَا؟ مُحْتَمَلٌ. ثُمَّ يَلِيهِ مَا هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى عِنْدَ بَعْضِهِمْ، قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. ثُمَّ يَلِيهِ مَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى عِنْدَ الذَّهَبِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ مِيزَانِهِ، وَتَبِعَهُ النَّاظِمُ (مَا كَرَّرْتَهُ) [مِنْ أَلْفَاظِ الْمَرْتَبَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ خَاصَّةً، مَعَ تَبَايُنِ الْأَلْفَاظِ (كَثِقَةٍ ثَبْتٍ) ، أَوْ ثَبْتٍ حُجَّةٍ (وَلُوْ أَعَدَتَّهُ) أَيِ: اللَّفْظَ الْوَاحِدَ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ، [أَوْ ثَبْتٍ ثَبْتٍ] ; لِأَنَّ التَّأْكِيدَ الْحَاصِلَ بِالتَّكْرَارِ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْكَلَامِ الْخَالِي مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَا زَادَ عَلَى مَرَّتَيْنِ مَثَلًا يَكُونُ أَعْلَى مِنْهَا، كَقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ فِي شُعْبَةَ: ثِقَةٌ، مَأْمُونٌ، ثَبْتٌ، حُجَّةٌ، صَاحِبُ حَدِيثٍ. وَأَكْثَرُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَكَانَ ثِقَةً ثِقَةً تِسْعَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّهُ سَكَتَ لِانْقِطَاعِ نَفَسِهِ. (ثُمَّ يَلِيهِ) مَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ النَّاظِمِ، وَالرَّابِعَةُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ (ثِقَةٌ أَوْ ثَبْتٌ) ، بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، الثَّابِتُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْكِتَابِ وَالْحُجَّةِ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَمَا يُثْبِتُ فِيهِ الْمُحَدِّثُ مَسْمُوعَهُ مَعَ أَسْمَاءِ الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ كَالْحُجَّةِ عِنْدَ الشَّخْصِ لِسَمَاعِهِ وَسَمَاعِ غَيْرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَمِنْ صِيَغِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَأَنَّهُ مُصْحَفٌ: (أَوْ) فُلَانٌ (مُتْقِنٌ أَوْ حُجَّةٌ أَوْ إِذَا عَزَوْا) [بِنَقْلِ هَمْزَةِ الثَّلَاثَةِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَإِنِ اتَّزَنَ مَعَ تَرْكِهِ بِالْقَطْعِ] ; أَيْ: نَسَبَ الْأَئِمَّةُ (الْحِفْظَ أَوْ) نَسَبُوا (ضَبْطًا لِعَدْلٍ) كَأَنْ يُقَالَ فِيهِ: حَافِظٌ أَوْ ضَابِطٌ ; إِذْ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ كَافٍ فِي التَّوْثِيقِ، بَلْ بَيْنَ [الْعَدْلِ وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ ; لِأَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِهِمَا، وَيُوجَدَانِ بِدُونِهِ، وَتُوجَدُ الثَّلَاثَةُ] . وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ سَأَلَ أَبَا زُرْعَةَ عَنْ رَجُلٍ، فَقَالَ: " حَافِظٌ، فَقَالَ لَهُ: أَهُوَ صَدُوقٌ؟ " وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيُّ مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُتَّهَمُ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَبِالْوَضْعِ، حَتَّى قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَضْعَفُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ ضَعِيفٍ. وَرُؤِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، فَقِيلَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: كُنْتُ فِي طَرِيقِ أَصْبَهَانَ، فَأَخَذَنِي مَطَرٌ، وَكَانَ مَعِي كُتُبٌ، وَلَمْ أَكُنْ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا شَيْءٍ، فَانْكَبَبْتُ عَلَى كُتُبِي، حَتَّى أَصْبَحْتُ وَهَدَأَ الْمَطَرُ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي بِذَلِكَ فِي آخَرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بِالْإِتْقَانِ كَذَلِكَ، قِياسًا عَلَى الضَّبْطِ ; إِذْ هُمَا مُتَقَارِبَانِ، لَا يَزِيدُ الْإِتْقَانُ عَلَى الضَّبْطِ سِوَى إِشْعَارِهِ بِمَزِيدِ الضَّبْطِ، وَصَنِيعُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ يُشْعِرُ بِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا قِيلَ لِلْوَاحِدِ: إِنَّهُ ثِقَةٌ أَوْ مُتْقِنٌ ثَبْتٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ ; حَيْثُ أَرْدَفَ الْمُتْقِنَ بِثَبْتِ الْمُقْتَضِي لِلْعَدَالَةِ، بِدُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 " أَوْ " الَّتِي عَبَّرَ بِهَا فِي غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فِي جَعْلِهِ لَفْظَ ثَبْتٍ مِنْ زِيَادَاتِهِ عَلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ; لِأَنَّهَا فِيمَا ظَهَرَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً. وَكَذَا لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِ لَفْظُ الْحُجَّةِ وَمَا بَعْدَهَا، بَلِ الثَّلَاثَةُ مِنْ زِيَادَاتِ ابْنِ الصَّلَاحِ مَعَ تَفَاوُتِهَا، فَكَلَامُ أَبِي دَاوُدَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُجَّةَ أَقْوَى مِنَ الثِّقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآجُرِّيَّ سَأَلَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ ابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ، فَقَالَ: " ثِقَةٌ يُخْطِئُ، كَمَا يُخْطِئُ النَّاسُ، قَالَ الْآجُرِّيُّ: فَقُلْتُ: هُوَ حُجَّةٌ؟ قَالَ: الْحُجَّةُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ". وَكَذَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ: ثِقَةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: ثِقَةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي أَبِي أُوَيْسٍ: صَدُوقٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَكَأَنَّ هَذِهِ النُّكْتَةَ قَدَّمَهَا الْخَطِيبُ ; حَيْثُ قَالَ: أَرْفَعُ الْعِبَارَاتِ أَنْ يُقَالَ: حُجَّةٌ أَوْ ثِقَةٌ. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْوَصْفَ بِالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ، وَكَذَا الْإِتْقَانُ، لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي عَدْلٍ هُوَ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ ذَاكَ الْإِمَامُ بِهِ، إِذْ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَانَ أَعْلَى، وَلِذَا أَدْرَجَ شَيْخُنَا عَدْلًا ضَابِطًا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَخَالَفَ الذَّهَبِيُّ فَعَدَّ حَافِظًا ثِقَةً مِنْ هَذِهِ، وَأَدْرَجَ فِي أَلْفَاظِهَا إِمَامًا فَقَطْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وَجَعَلَ ثِقَةً، وَقَوِيَّ الْحَدِيثِ، وَصَحِيحَهُ، وَجَيِّدَ الْمَعْرِفَةِ، مَرْتَبَةً أُخْرَى، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَابُدَّ فِي آخِرِهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِعَدْلٍ. (وَيَلِي) هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ خَامِسَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ) ، أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ (صَدُوقٌ) ، وَصْفٌ بِالصِّدْقِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، لَا مَحَلُّهُ الصِّدْقُ، وَإِنْ أَدْرَجَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا ; فَإِنَّهَا كَمَا سَيَأْتِي تَبَعًا لِلذَّهَبِيِّ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا (وَصِلِ) بِكَسْرِ اللَّامِ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ (بِذَاكَ) أَيْ: بِقَوْلِ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَالَّذِينَ بَعْدَهُ (مَأْمُونًا) أَوْ (خِيَارًا) مِنَ الْخَيْرِ ضِدِّ الشَّرِّ. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِسَيْفِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِأَنَّهُ مِنْ خِيَارِ الْخَلْقِ، كَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ حَدِيثِهِ مِنْ سُنَنِ النَّسَّائِيِّ. (وَتَلَا) هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَادِسَةٌ، وَهِيَ (مَحَلُّهُ الصِّدْقُ) ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَتَبَعًا لِلذَّهَبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ (رَوَوْا عَنْهُ) ، أَوْ رَوَى النَّاسُ عَنْهُ، أَوْ يُرْوَى عَنْهُ، أَوْ (إِلَى الصِّدْقِ مَا هُوَ) ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الصِّدْقِ. وَ (كَذَا شَيْخٌ وَسَطْ أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ) أَيْ: بِدُونِ شَيْخٍ (أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ) أَيْ: بِدُونِ وَسَطٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمَا الثَّالِثَةُ غَيْرَ الْأَخِيرَةِ. نَعَمْ، زَادَ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُرَتِّبْهُ: وَسَطًا، وَرَوَى النَّاسُ عَنْهُ، وَمُقَارَبَ الْحَدِيثِ. (وَ) مِنْهَا أَيْضًا (صَالِحُ الْحَدِيثِ) ، وَهِيَ عِنْدَهُمَا الرَّابِعَةُ، بَلْ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 قَالَ: كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ رُبَّمَا جَرَى ذِكْرُ الرَّجُلِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَهُوَ صَدُوقٌ، فَيَقُولُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ وَالْوَصْفُ بِصَدُوقٍ عِنْدَ ابْنِ مَهْدِيٍّ سَوَاءٌ. وَمِنْهَا: يُعْتَبَرُ بِهِ ; أَيْ: فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، أَوْ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ (أَوْ مُقَارِبُهُ) أَيِ: الْحَدِيثِ، مِنَ الْقُرْبِ ضِدِّ الْبُعْدِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ كَمَا ضُبِطَ فِي الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ الْمَسْمُوعَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا ضَبَطَهَا النَّوَوِيُّ فِي مُخْتَصَرَيْهِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَدِيثَهُ مُقَارِبٌ لِحَدِيثِ غَيْرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ، أَوْ (جَيِّدُهُ) أَيِ: الْحَدِيثِ مِنَ الْجَوْدَةِ، أَوْ (حَسَنُهُ) ، أَوْ (مُقَارَبُهْ) بِفَتْحِ الرَّاءِ ; أَيْ: حَدِيثُهُ يُقَارِبُهُ حَدِيثُ غَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَسَطٌ لَا يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ السُّقُوطِ وَلَا الْجَلَالَةِ، وَهُوَ نَوْعُ مَدْحٍ، وَمِمَّنْ ضَبَطَهَا بِالْوَجْهَيْنِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ دِحْيَةَ، وَالْبَطْلَيُوسِيُّ، وَابْنُ رُشَيْدٍ فِي رِحْلَتِهِ. قَالَ: وَمَعْنَاهَا يُقَارِبُ النَّاسَ فِي حَدِيثِهِ وَيُقَارِبُونَهُ ; أَيْ: لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَاذٍّ وَلَا مُنْكَرٍ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ بَابِ: مِنْ فَضَائِلِ الْجِهَادِ، مِنْ جَامِعِهِ، وَقَدْ جَرَى لَهُ ذِكْرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا، يَعْنِي الْبُخَارِيَّ، يَقُولُ: هُوَ ثِقَةٌ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي بَابِ مَا جَاءَ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ: وَالْأَفْرِيقِيُّ - يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ - ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَكْتُبُ عَنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَأَيْتُ الْبُخَارِيَّ يُقَوِّي أَمْرَهُ وَيَقُولُ: هُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ، إِنَّ قَوْلَهُ: مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، تَقْوِيَةٌ لِأَمْرِهِ، وَتَفَهَّمُهُ ; فَإِنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ الْخَافِي الَّذِي أَوْضَحْنَاهُ - انْتَهَى. وَمِنْهَا: مَا أَقْرَبَ حَدِيثَهُ، أَوْ (صُوَيْلِحٌ أَوْ صَدُوقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهْ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، أَوْ (أَرْجُو بِأَنْ) أَيْ: أَنْ (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عَرَاهُ) بِمُهْمَلَتَيْنِ ; أَيْ: غَشِيَهُ. وَقَدْ خَالَفَ الذَّهَبِيُّ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَجَعَلَ " مَحَلُّهُ الصِّدْقُ "، وَ " حَسَنَ الْحَدِيثِ " وَ " صَالِحَهُ "، وَ " صَدُوقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَرْتَبَةً، وَ " رَوَى النَّاسُ عَنْهُ "، وَ " شَيْخًا "، وَ " صُوَيْلِحًا "، وَ " مُقَارِبًا "، مَعَ " مَا بِهِ الْمِسْكِينُ بَأْسٌ "، وَ " يُكْتَبُ حَدِيثُهُ "، وَ " مَا عَلِمْتُ فِيهِ جَرْحًا " أُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا، فَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ دُونَ: لَا بَأْسَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ الشَّارِحُ: إِنَّ " أَرْجُو لَا بَأْسَ بِهِ " أَرْفَعُ مِنْ " مَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا " ; فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ حُصُولُ الرَّجَاءِ بِهِ، وَكَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ لِذَلِكَ قَالَ: مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ عَلَى أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ نَظَرًا لِتَفْرِقَةِ الذَّهَبِيِّ، [وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ " فَطِنٌ كَيِّسٌ "، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا صَحِيحٌ، كَمَا لِيَحْيَى الْقَطَّانِ فِي حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافِ، فَأَعْلَى] . وَبِالْجُمْلَةِ، فَالضَّابِطُ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ كُلُّ مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلَ التَّجْرِيحِ، ثُمَّ إِنَّ الْحُكْمَ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الِاحْتِجَاجُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَأَمَّا الَّتِي بَعْدَهَا فَإِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا ; لِكَوْنِ أَلْفَاظِهَا لَا تُشْعِرُ بِشَرِيطَةِ الضَّبْطِ، بَلْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُمْ وَيُخْتَبَرُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ النَّظَرُ الْمُعَرَّفَ، بِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُحَدِّثِ فِي نَفْسِهِ ضَابِطًا مُطْلَقًا، وَاحْتَجْنَا إِلَى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِ، اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَنَظَرْنَا هَلْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ طَرِيقَةِ الِاعْتِبَارِ فِي مَحَلِّهِ. وَأَمَّا السَّادِسَةُ، فَالْحُكْمُ فِي أَهْلِهَا دُونَ أَهْلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ دُونَ اخْتِبَارِ ضَبْطِهِمْ ; لِوُضُوحِ أَمْرِهِمْ فِيهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الذَّهَبِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْلَهُمْ: ثَبْتٌ وَحُجَّةٌ وَإِمَامٌ وَثِقَةٌ وَمُتْقِنٌ، مِنْ عِبَارَاتِ التَّعْدِيلِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَأَمَّا صَدُوقٌ وَمَا بَعْدَهُ، يَعْنِي مِنْ أَهْلِ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَعَلَهُمَا ثَلَاثًا، فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْحُفَّاظِ هَلْ هِيَ تَوْثِيقٌ أَوْ تَلْيِينٌ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَهِيَ مُنْخَفِضَةٌ عَنْ كَمَالِ رُتْبَةِ التَّوْثِيقِ، وَمُرْتَفِعَةٌ عَنْ رُتَبِ التَّجْرِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقَدَّمَ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَصْفَ بِثِقَةٍ أَرْفَعُ مِنْ " لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ " (وَابْنُ مَعِينٍ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 بِفَتْحِ الْمِيمِ، هُوَ يَحْيَى الْإِمَامُ الْمُقَدَّمُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، سَوَّى بَيْنَهُمَا ; إِذْ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَفُلَانٌ ضَعِيفٌ (قَالَ: مَنْ أَقُولُ) فِيهِ: (لَا بَأْسَ بِهِ فَثِقَةٌ) ، وَمَنْ أَقُولُ فِيهِ: ضَعِيفٌ، فَلَيْسَ بِثِقَةٍ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ، يَعْنِي الَّذِي كَانَ فِي أَهْلِ الشَّامِ كَأَبِي حَاتِمٍ فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ: " مَا تَقُولُ فِي عَلِيِّ بْنِ حَوْشَبٍ الْفَزَارِيِّ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَلِمَ لَا تَقُولُ: ثِقَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا؟ قَالَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ ". فَالْجَوَابُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ إِنَّمَا نَسَبَ مَا تَقَدَّمَ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، فَهُوَ عَنْ صَنِيعِهِمْ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَنِيعُهُمْ كَذَلِكَ مَا سَأَلَ أَبُو زُرْعَةَ، لَكِنَّ جَوَابَ دُحَيْمٍ مُوَافِقٌ لِابْنِ مَعِينٍ، فَكَأَنَّهُ اخْتِيَارُهُ أَيْضًا. وَأَجَابَ الشَّارِحُ أَيْضًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، بَلْ أَشْرَكَهُمَا فِي مُطْلَقِ الثِّقَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَكَذَا أَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَ الْوَصْفَ بِالثِّقَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَقْبُولًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا، فَقَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ هُنَا يَتَمَشَّى عَلَيْهِ. (وَنُقِلَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ أَرْجَحِيَّةُ الْوَصْفِ بِالثِّقَةِ (أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ) ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الشَّأْنِ، حِينَ رَوَى عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، بِسُكُونِ اللَّامِ، خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ التَّمِيمِيِّ السَّعْدِيِّ الْبَصْرِيِّ الْخَيَّاطِ التَّابِعِيِّ (أَجَابَ مَنْ سَأَلْ) مِنْهُ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: (أَثِقَةٌ كَانَ أَبُو خَلْدَةَ) بِقَوْلِهِ: (بَلْ كَانَ صَدُوقًا) ، وَكَانَ (خَيِّرًا) أَوْ خِيَارًا، وَكَانَ (مَأْمُونَا الثِّقَةَ) شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ (الثَّوْرِيُّ) ، وَرُبَّمَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ: مِسْعَرٌ، بَدَلَ الثَّوْرِيِّ (لَوْ) كُنْتُمْ (تَعُونَا) أَيْ: تَفْهَمُونَ مَرَاتِبَ الرُّوَاةِ، وَمَوَاقِعَ أَلْفَاظِ الْأَئِمَّةِ، مَا سَأَلْتُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَصَرَّحَ بِأَرْجَحِيَّتِهَا عَلَى كُلِّ مِنْ " صَدُوقٍ، وَخَيِّرٍ، وَمَأْمُونٍ "، الَّذِي كُلٌّ مِنْهَا مِنْ مَرْتَبَةِ " لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ". وَلَا يَخْدِشُ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: كَلَامُ ابْنِ مَهْدِيٍّ لَا مَعْنَى لَهُ فِي اخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ ; إِذْ أَبُو خَلْدَةَ ثِقَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، يَعْنِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: هُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ. وَنَحْوُهُ مَا حَكَاهُ الْمَرْوَذِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ ثِقَةٌ؟ قَالَ: تَدْرِي مَنِ الثِّقَةُ؟ الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. هَذَا مَعَ تَوْثِيقِ ابْنِ مَعِينٍ وَجَمَاعَةٍ لَهُ. (وَ) كَذَا (رُبَّمَا) أَيْ: وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ (وَصَفَ) ابْنُ مَهْدِيٍّ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْهُ كَمَا قَدَّمْتُهُ [ (ذَا الصِّدْقِ) الَّذِي (وُسِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ضَعْفًا) أَيِ: الصَّدُوقَ مِنَ الرُّوَاةِ الْمَوْسُومَ بِالضَّعْفِ لِسُوءِ حِفْظِهِ وَغَلَطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (بِصَالِحِ الْحَدِيثِ) الْمُنْحَطِّ عَنْ مَرْتَبَةِ " لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ " (إِذْ يَسِمْ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ; أَيْ: حِينَ يُعَلِّمُ عَلَى الرُّوَاةِ بِلَفْظِهِ أَوْ كِتَابِهِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مَرَاتِبُهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ لِاصْطِلَاحِهِمْ] . [مَرَاتِبُ التَّجْرِيحِ] 339 - وَأَسْوَأُ التَّجْرِيحِ كَذَّابٌ يَضَعْ ... يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ 340 - وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ ... وَسَاقِطٌ وَهَالِكٌ فَاجْتَنِبِ 341 - وَذَاهِبٌ مَتْرُوكٌ أَوْ فِيهِ نَظَرْ ... وَسَكَتُوا عَنْهُ، بِهِ لَا يُعْتَبَرْ 342 - وَلَيْسَ بِالثِّقَةِ ثُمَّ رُدَّا ... حَدِيثُهُ كَذَا ضَعِيفٌ جِدَّا 343 - وَاهٍ بِمَرَّةٍ وَهُمْ قَدْ طَرَحُوا ... حَدِيثَهُ وَارْمِ بِهِ مُطَّرَحُ 344 - لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يُسَاوِي شَيْئَا ... ثُمَّ ضَعِيفٌ وَكَذَا إِنْ جِيئَا 345 - بِمُنْكَرِ الْحَدِيثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ ... وَاهٍ وَضَعَّفُوهُ لَا يُحْتَجُّ بِهْ 346 - وَبَعْدَهَا فِيهِ مَقَالٌ ضُعِّفْ ... وَفِيهِ ضَعْفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ 347 - لَيْسَ بِذَاكَ بِالْمَتِينِ بِالْقَوِي ... بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِي 348 - لِلضَّعْفِ مَا هُوَ فِيهِ خُلْفٌ طَعَنُوا ... فِيهِ كَذَا سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ 349 - تَكَلَّمُوا فِيهِ وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ ... مِنْ بَعْدِ " شَيْئًا " بِحَدِيثِهِ اعْتُبِرْ وَهِيَ أَيْضًا سِتٌّ، وَسِيقَتْ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، مَعَ أَنَّ الْعَكْسَ فِي هَذِهِ - كَمَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ - كَانَ أَنْسَبَ ; لِتَكُونَ مَرَاتِبُ الْقِسْمَيْنِ كُلُّهَا مُنْخَرِطَةً فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوَّلُهَا الْأَعْلَى مِنَ التَّعْدِيلِ، وَآخِرُهَا الْأَعْلَى مِنَ التَّجْرِيحِ. (وَأَسْوَأُ التَّجْرِيحِ) ، الْوَصْفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 بِمَا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا: قَالَ: وَأَصْرَحُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِ " أَفْعَلَ " كَأَكْذَبِ النَّاسِ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي الْوَضْعِ، وَهُوَ رُكْنُ الْكَذِبِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى. ثُمَّ يَلِيهَا (كَذَّابٌ) ، أَوْ (يَضَعْ) الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَكْذِبُ، أَوْ (وَضَّاعٌ وَ) كَذَا (دَجَّالٌ) ، أَوْ (وَضَعْ) حَدِيثًا، وَآخِرُ هَذِهِ الصِّيَغِ أَسْهَلُهَا، بِخِلَافِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، وَكَذَا الْأُولَى ; فَإِنَّ فِيهَا نَوْعَ مُبَالَغَةٍ، لَكِنَّهَا دُونَ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى. أَمَّا الصِّيغَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَهُمَا دَالَّتَانِ عُرْفًا عَلَى مُلَازَمَةِ الْوَضْعِ وَالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُرَتَّبْ أَلْفَاظُ كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنَ الْبَابَيْنِ لِلضَّرُورَةِ. (وَبَعْدَهَا) أَيِ: الْمَرْتَبَةِ، ثَالِثَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَهِيَ فُلَانٌ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ ; فَإِنَّهَا - كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ - أَهْوَنُ مِنْ وَضْعِهِ وَاخْتِلَافِهِ فِي الْإِثْمِ ; إِذْ سَرِقَةُ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثٌ يَنْفَرِدُ بِحَدِيثٍ، فَيَجِيءُ السَّارِقُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ سَمِعَهُ أَيْضًا مِنْ شَيْخِ ذَاكَ الْمُحَدِّثِ. قُلْتُ: أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ عُرِفَ بِرَاوٍ، فَيُضِيفُهُ لِرَاوٍ غَيْرِهِ مِمَّنْ شَارَكَهُ فِي طَبَقَتِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ يَسْرِقُ الْأَجْزَاءَ وَالْكُتُبَ ; فَإِنَّهَا أَنْحَسُ بِكَثِيرٍ مِنْ سَرِقَةِ الرُّوَاةِ. وَفُلَانٌ (مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ) ، أَوْ بِالْوَضْعِ (وَ) فُلَانٌ (سَاقِطٌ وَ) فُلَانٌ (هَالِكٌ فَاجْتَنِبِ) الرِّوَايَةَ، بَلِ الْأَخْذَ عَنْهُمْ (وَ) فُلَانٌ (ذَاهِبٌ) ، أَوْ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ، وَفُلَانٌ (مَتْرُوكٌ) ، أَوْ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، أَوْ تَرَكُوهُ. قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سُئِلَ شُعْبَةُ: مَنِ الَّذِي يُتْرَكُ حَدِيثُهُ؟ قَالَ: مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَمَنْ يُكْثِرُ الْغَلَطَ، وَمَنْ يُخْطِئُ فِي حَدِيثٍ يُجْمَعُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَّهِمُ نَفْسَهُ وَيُقِيمُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 غَلَطِهِ، وَرَجُلٌ رَوَى عَنِ الْمَعْرُوفِينَ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَعْرُوفُونَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ جِهَتِهِ: لَا يُتْرَكُ حَدِيثُ الرَّجُلِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ حَدِيثِهِ، يَعْنِي بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: ضَعِيفٌ. وَكَذَا مِنْهَا: مُجْمَعٌ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، أَوْ مُودٍ بِالتَّخْفِيفِ، كَمَا سَيَأْتِي مَعْنَاهُمَا (أَوْ) [بِالنَّقْلِ مَعَ تَنْوِينِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنِ اتَّزَنَ مَعَ تَرْكِهِ بِالْقَطْعِ] (فِيهِ نَظَرْ) . وَفُلَانٌ (سَكَتُوا عَنْهُ) ، وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُ الْبُخَارِيُّ بِهَاتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فِيمَنْ تَرَكُوا حَدِيثَهُ، بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُمَا أَدْنَى الْمَنَازِلِ عِنْدَهُ وَأَرَدَؤُهَا، [قُلْتُ: لِأَنَّهُ لِوَرَعِهِ قَلَّ أَنْ يَقُولَ: كَذَّابٌ أَوْ وَضَّاعٌ. نَعَمْ، رُبَّمَا يَقُولُ] : كَذَّبَهُ فُلَانٌ، وَرَمَاهُ فُلَانٌ بِالْكَذِبِ، فَعَلَى هَذَا فَإِدْخَالُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبُخَارِيِّ خَاصَّةً مَعَ تَجَوُّزٍ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 أَيْضًا، وَإِلَّا فَمَوْضِعُهُمَا مِنْهُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَمِنْهَا: فُلَانٌ (بِهِ لَا يُعْتَبَرْ) عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، أَوْ لَا يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ (وَ) فُلَانٌ (لَيْسَ بِالثِّقَةِ) ، أَوْ لَيْسَ بِثِقَةٍ، أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ثُمَّ) يَلِيهَا رَابِعَةٌ، وَهِيَ فُلَانٌ (رُدَّا حَدِيثُهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ; يَعْنِي: بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ، أَوْ رَدُّوا حَدِيثَهُ، أَوْ مَرْدُودُ الْحَدِيثِ (وَكَذَا) فُلَانٌ (ضَعِيفٌ جِدًّا) ، وَفُلَانٌ (وَاهٍ بِمَرَّةٍ) أَيْ: قَوْلًا وَاحِدًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْبَاءَ زِيدَتْ، تَأْكِيدًا وَتَالِفٌ (وَ) فُلَانٌ (هُمْ) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (قَدْ طَرَحُوا حَدِيثَهُ وَ) فُلَانٌ (ارْمِ بِهِ) ، وَفُلَانٌ (مُطَّرَحُ) ، أَوْ مُطَّرَحُ الْحَدِيثِ، وَفُلَانٌ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ ; أَيْ: لَا احْتِجَاجًا وَلَا اعْتِبَارًا، أَوْ لَا تَحِلُّ كِتَابَةُ حَدِيثِهِ، أَوْ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: الرِّوَايَةُ عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ حَرَامٌ، وَفُلَانٌ (لَيْسَ بِشَيْءٍ) ، أَوْ لَا شَيْءَ، أَوْ فُلَانٌ لَا يُسَاوِي فَلْسًا (أَوْ لَا يُسَاوِي شَيْئَا) ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَا أُدْرِجَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنْ " لَيْسَ بِشَيْءٍ " هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِنَّ ابْنَ مَعِينٍ إِذَا قَالَ فِي الرَّاوِي: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ حَدِيثًا كَثِيرًا، هَذَا مَعَ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ قَدْ حَكَى أَنَّ عُثْمَانَ الدَّارِمِيَّ سَأَلَهُ عَنْ أَبِي دِرَاسٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا وَاحِدًا، لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، عَلَى أَنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 سَمِعَنِي الشَّافِعِيُّ يَوْمًا وَأَنَا أَقُولُ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، اكْسُ أَلْفَاظَكَ أَحْسَنَهَا، لَا تَقُلْ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، وَلَكِنْ قُلْ: حَدِيثُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا حَيْثُ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ مِنَ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ. (ثُمَّ) تَلِي هَذِهِ مَرْتَبَةٌ خَامِسَةٌ، وَهِيَ فُلَانٌ (ضَعِيفٌ، وَكَذَا إِنْ جِيئَا) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ مِنْهُمْ فِي وَصْفِ الرُّوَاةِ (بِ) لَفْظِ (مُنْكَرِ الْحَدِيثِ) ، أَوْ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ، أَوْ لَهُ مَا يُنْكَرُ، أَوْ مَنَاكِيرُ (أَوْ) بِلَفْظِ (مُضْطَرِبِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ. وَفُلَانٌ (وَاهٍ وَ) فُلَانٌ (ضَعَّفُوهُ) ، وَفُلَانٌ (لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَبَعْدَهَا) ، وَهِيَ سَادِسَةُ الْمَرَاتِبِ، فُلَانٌ (فِيهِ مَقَالٌ) ، أَوْ أَدْنَى مَقَالٍ. وَفُلَانٌ (ضُعِّفْ، وَ) فُلَانٌ (فِيهِ) أَوْ فِي حَدِيثِهِ (ضَعْفٌ) . وَفُلَانٌ (تُنْكِرُ) يَعْنِي مَرَّةً (وَتَعْرِفُ) يَعْنِي أُخْرَى، وَفُلَانٌ (لَيْسَ بِذَاكَ) ، وَرُبَّمَا قِيلَ: لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، أَوْ لَيْسَ (بِالْمَتِينِ) ، أَوْ لَيْسَ (بِالْقَوِيِّ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى أَبِي سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيِّ: هُوَ مُتَوَسِّطُ الْحَالِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَفُلَانٌ لَيْسَ (بِحُجَّةٍ) ، أَوْ لَيْسَ (بِعُمْدَةٍ) ، أَوْ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِبَابِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ أَحَدِ مَنِ اخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ وَتَجْرِيحِهِ. قَالَ شَيْخُنَا فِي جَوَابِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذِكْرِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُرْوَى حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ ; لِمَا لَا يَخْفَى مِنَ الْكِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَنَحْوُهُ: لَيْسَ مِنْ جِمَالِ الْمَحَامِلِ، أَوْ كَمَا قَالَهُ دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ فِي سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ: لَيْسَ مِنْ جَمَّازَاتِ - أَيْ: أَبْعِرَةِ - الْمَحَامِلِ، وَالْجَمَّازُ: الْبَعِيرُ. أَوْ لَيْسَ (بِالْمَرْضِي) ، أَوْ لَيْسَ يَحْمَدُونَهُ، أَوْ لَيْسَ بِالْحَافِظِ، أَوْ غَيْرُهُ أَوْثَقُ مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِهِ شَيْءٌ، وَفُلَانٌ مَجْهُولٌ، أَوْ فِيهِ جَهَالَةٌ، [أَوْ لَا أَدْرِي مَا هُوَ] ، أَوْ لِلضَّعْفِ (مَا هُوَ) يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الضَّعْفِ، وَفُلَانٌ (فِيهِ خُلْفٌ) ، وَفُلَانٌ (طَعَنُوا فِيهِ) ، أَوْ مَطْعُونٌ فِيهِ (وَكَذَا) فُلَانٌ نَزَكُوهُ، بِنُونٍ وَزَايٍ ; أَيْ: طَعَنُوا فِيهِ، فُلَانٌ (سَيِّئُ الْحِفْظِ) ، وَفُلَانٌ (لَيِّنٌ) ، أَوْ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، أَوْ فِيهِ لِينٌ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِذَا قُلْتُ: فُلَانٌ لَيِّنٌ لَا يَكُونُ سَاقِطًا مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ مَجْرُوحًا بِشَيْءٍ لَا يَسْقُطُ بِهِ عَنِ الْعَدَالَةِ. وَفُلَانٌ (تَكَلَّمُوا فِيهِ) ، وَكَذَا سَكَتُوا عَنْهُ، أَوْ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْحُكْمُ فِي الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ (وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدِ) لَفْظِ: لَا يُسَاوِي (شَيْئًا) ، وَهُوَ مَا عَدَا الْأَرْبَعَ (بِحَدِيثِهِ اعْتُبِرْ) أَيْ: يُخَرَّجُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ ; لِإِشْعَارِ هَذِهِ الصِّيَغِ بِصَلَاحِيَةِ الْمُتَّصِفِ بِهَا لِذَلِكَ، وَعَدَمِ مُنَافَاتِهَا لَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 لَكِنْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: كُلُّ مَنْ قُلْتُ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ - يَعْنِي: الَّذِي أُدْرِجَ فِي الْخَامِسَةِ - لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِي لَفْظٍ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَصَنِيعُ شَيْخِنَا يُشْعِرُ بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ ; حَيْثُ قَالَ: فَقَوْلُهُمْ: مَتْرُوكٌ، أَوْ سَاقِطٌ، أَوْ فَاحِشُ الْغَلَطِ، أَوْ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَعِيفٌ، أَوْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، أَوْ فِيهِ مَقَالٌ. وَلَكِنْ يُسَاعِدُ كَوْنَهَا مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا قَوْلُ الشَّارِحِ فِي تَخْرِيجِهِ الْأَكْبَرِ لِلْإِحْيَاءِ: وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ الْمُنْكَرَ عَلَى الرَّاوِي ; لِكَوْنِهِ رَوَى حَدِيثًا وَاحِدًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الزُّبَيْرِيِّ مِنَ الْمِيزَانِ: قَوْلُهُمْ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، لَا يَعْنُونَ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ مُنْكَرٌ، بَلْ إِذَا رَوَى الرَّجُلُ جُمْلَةً، وَبَعْضُ ذَلِكَ مَنَاكِيرُ، فَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَقَدْ يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى الثِّقَةِ إِذَا رَوَى الْمَنَاكِيرَ عَنِ الضُّعَفَاءِ. قَالَ الْحَاكِمُ: قُلْتُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: سُلَيْمَانُ ابْنُ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ؟ قَالَ: ثِقَةٌ، قُلْتُ: أَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنَاكِيرُ؟ قَالَ: يُحَدِّثُ بِهَا عَنْ قَوْمٍ ضُعَفَاءَ، فَأَمَّا هُوَ فَثِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: قَوْلُهُمْ: رَوَى مَنَاكِيرَ، لَا يَقْتَضِي بِمُجَرَّدِهِ تَرْكَ رِوَايَتِهِ حَتَّى تَكْثُرَ الْمَنَاكِيرُ فِي رِوَايَتِهِ، وَيُنْتَهَى إِلَى أَنْ يُقَالَ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ وَصْفٌ فِي الرَّجُلِ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّرْكَ لِحَدِيثِهِ. وَالْعِبَارَةُ الْأُخْرَى لَا تَقْتَضِي الدَّيْمُومَةَ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ: يَرْوِي أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً، وَهُوَ مِمَّنِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الشَّيْخَانِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّيَغَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ سِتٌّ فَقَطْ: كَذَّابٌ، ذَاهِبٌ، مَتْرُوكٌ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَجَعَلَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ مِنْهَا مِنْ أَقْصَى الْمَرَاتِبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا بَقِيَ مَرْتَبَةً، فَانْحَصَرَتِ الْمَرَاتِبُ عِنْدَهُ فِي أَرْبَعٍ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَزَادَ فِي أَقْصَى الْمَرَاتِبِ أَيْضًا: سَاقِطٌ، تَبَعًا لِلْخَطِيبِ ; حَيْثُ قَرَنَهَا بِكَذَّابٍ. وَكَذَا زَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَرْتَبَةً: لَا شَيْءَ، مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ، مَجْهُولٌ، فِيهِ ضَعْفٌ، لَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فِيهِ ضَعْفٌ، أَقَلُّ مِنْ: فُلَانٌ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الذَّهَبِيُّ، فَالْمَرَاتِبُ عِنْدَهُ سِتٌّ، وَلَكِنْ فِيهَا بَعْضُ مُخَالَفَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ، فَأَرْدَؤُهَا: دَجَّالٌ، وَضَّاعٌ، كَذَّابٌ، ثُمَّ: مُتَّهَمٌ لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ، مُجْمَعٌ عَلَى تَرْكِهِ، لَا يَحِلُّ كِتَابَةُ حَدِيثِهِ، وَنَحْوُهَا، ثُمَّ: هَالِكٌ، سَاقِطٌ، مَطْرُوحُ الْحَدِيثِ، مَتْرُوكُهُ، ذَاهِبُهُ، ثُمَّ: مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، [ضَعِيفٌ جِدًّا، ضَعَّفُوهُ، تَالِفٌ، وَاهٍ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ: ضَعِيفٌ] ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، مُضْطَرِبُهُ، مُنْكَرُهُ، وَنَحْوُهَا، ثُمَّ: لَهُ مَنَاكِيرُ، لَهُ مَا يُنْكَرُ، فِيهِ ضَعْفٌ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، لَيْسَ بِعُمْدَةٍ، لَيْسَ بِالْمَتِينِ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لَيْسَ بِذَاكَ، غَيْرُهُ أَوْثَقُ مِنْهُ، وَتَعْرِفُ وَتُنْكِرُ، فِيهِ جَهَالَةٌ، وَلَيِّنٌ، يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَيُعْتَبَرُ بِهِ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الصَّادِقَةِ عَلَى مَنْ قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ، أَوْ يُتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ حَدِيثُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 حَسَنٌ غَيْرُ مُرْتَقٍ إِلَى الصَّحِيحِ. وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ أَقْوَالُ الْمُزَكِّينَ وَمَخَارِجُهَا، فَقَدْ يَقُولُونَ: فُلَانٌ ثِقَةٌ أَوْ ضَعِيفٌ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَلَا مِمَّنْ يُرَدُّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قُرِنَ مَعَهُ عَلَى وَفْقِ مَا وُجِّهَ إِلَى الْقَائِلِ مِنَ السُّؤَالِ، كَأَنْ يُسْأَلَ عَنِ الْفَاضِلِ الْمُتَوَسِّطِ فِي حَدِيثِهِ وَيُقْرَنُ بِالضُّعَفَاءِ، فَيُقَالُ: مَا تَقُولُ فِي فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: فُلَانٌ ثِقَةٌ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ مَنْ قُرِنَ بِهِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ بِمُفْرَدِهِ بَيَّنَ حَالَهُ فِي التَّوَسُّطِ. وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَا نُطِيلُ بِهَا، وَمِنْهَا قَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ مَعِينٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ كَيْفَ حَدِيثُهُمَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، قُلْتُ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ؟ قَالَ: سَعِيدٌ أَوْثَقُ، وَالْعَلَاءُ ضَعِيفْ. فَهَذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ ابْنُ مَعِينٍ أَنَّ الْعَلَاءَ ضَعِيفٌ مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِسَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ مِنِ اخْتِلَافِ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مِمَّنْ وَثَّقَ رَجُلًا فِي وَقْتٍ وَجَرَّحَهُ فِي آخَرَ، فَيَنْبَغِي لِهَذَا حِكَايَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِنَصِّهَا ; لِيَتَبَيَّنَ مَا لَعَلَّهُ خَفِيَ مِنْهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ لِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْحَسَنِ بْنِ غُفَيْرٍ بِالْمُعْجَمَةِ: إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 مَتْرُوكٌ. وَثَانِيهُمَا عَدَمُ تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، بَلْ هُمَا عِنْدَهُ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُ الصِّيَغِ، فَرُبَّ صِيغَةٍ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ فِيهَا بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِ ضَبْطِهَا ; كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُودٍ ; فَإِنَّهَا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُهَا ; أَيْ: هَالِكٌ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَوْدَى فُلَانٌ ; أَيْ: هَلَكَ، فَهُوَ مُودٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُهَا مَعَ الْهَمْزَةِ ; أَيْ: حَسَنُ الْأَدَاءِ. أَفَادَهُ شَيْخِي فِي تَرْجَمَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ مُخْتَصَرِ التَّهْذِيبِ، نَقْلًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ الْفَاسِيِّ. وَكَذَا أَثْبَتَ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ فِي ضَبْطِهَا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَأَفَادَ شَيْخُنَا أَيْضًا أَنَّ شَيْخَهُ الشَّارِحَ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ: هُوَ عَلَى يَدِي عَدْلٌ: إِنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّوْثِيقِ، وَكَانَ يَنْطِقُ بِهَا هَكَذَا بِكَسْرِ الدَّالِ الْأُولَى، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّفْظَةُ لِلْوَاحِدِ، وَبِرَفْعِ اللَّامِ وَتَنْوِينِهَا، قَالَ شَيْخُنَا: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ لِي أَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ أَلْفَاظِ التَّجْرِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ قَالَ فِي تَرْجَمَةِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: هُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ عَلَى يَدِي عَدْلٌ. ثُمَّ حَكَى أَقْوَالَ الْحُفَّاظِ فِيهِ بِالتَّضْعِيفِ، وَلَمْ يَنْقِلْ عَنْ أَحَدٍ فِيهِ تَوْثِيقًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا فَهِمْتُ مَعْنَاهَا، وَلَا اتَّجَهَ لِي ضَبْطُهَا، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْهَالِكِ، وَهُوَ تَضْعِيفٌ شَدِيدٌ، فَفِي كِتَابِ إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ لِيَعْقُوبَ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 السِّكِّيتِ، عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: جُزْءُ بْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ وَلَدِهِ الْعَدْلُ، وَكَانَ وَلِيَ شُرْطَةَ تُبَّعٍ، فَكَانَ تُبَّعٌ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ رَجُلٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: وُضِعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَمَعْنَاهُ هَلَكَ. قُلْتُ: وَنَحْوُهُ عِنْدَ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي أَوَائِلِ (أَدَبِ الْكَاتِبِ) ، وَزَادَ: ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ يُئِسَ مِنْهُ - انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبِهَانِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ الرَّشِيدِ وَطَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ كَانَا يَوْمًا يَتَغَدَّيَانِ مَعَ الْمَأْمُونِ، فَأَخَذَ أَبُو عِيسَى هِنْدَبَاةً فَغَمَسَهَا فِي الْخَلِّ، وَضَرَبَ بِهَا عَيْنَ طَاهِرٍ، فَانْزَعَجَ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِحْدَى عَيْنَيَّ ذَاهِبَةٌ، وَالْأُخْرَى عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، يُفْعَلُ بِي هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: يَا أَبَا الطَّيِّبِ، إِنَّهُ وَاللَّهِ يَعْبَثُ مَعِي أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَمِنْ ذَلِكَ: مُقَارَبُ الْحَدِيثِ ; حَيْثُ قِيلَ: إِنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ رَدِيءٌ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَمْرُهَا فِي فَتْحٍ وَلَا كَسْرٍ. [مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ أَوْ يُسْتَحَبُّ] 350 - وَقَبِلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمَّلَا ... فِي كُفْرِهِ كَذَا صَبِيٌّ حَمَلَا 351 - ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوغِ وَمَنَعْ ... قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ كَالسِّبْطَيْنِ مَعْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 352 - إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمْ قَبُولِهِمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ ... 353 - وَطَلَبُ الْحَدِيثِ فِي الْعِشْرِينِ عِنْدَ الزُّبَيْرِيِّ أَحَبُّ حِينِ ... 354 - وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَهْ وَالْعَشْرُ فِي الْبَصْرَةِ كَالْمُأْلُوفَهْ ... 355 - وَفِي الثَّلَاثِينَ لِأَهْلِ الشَّأْمِ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِالْفَهْمِ ... 356 - فَكَتْبُهُ بِالضَّبْطِ، وَالسَّمَاعُ حَيْثُ يَصِحُّ وَبِهِ نِزَاعُ ... 357 - فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الْحُجَّهْ قِصَّةُ مَحْمُودٍ وَعَقْلُ الْمَجَّهْ ... 358 - وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ وَقِيلَ أَرْبَعَهْ وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ ... 359 - بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا مُمَيِّزًا وَرَدُّهُ الْجَوَابَا ... 360 - وَقِيلَ لِابْنِ حَنْبَلٍ فَرَجُلُ قَالَ لِخَمْسَ عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ ... 361 - يَجُوزُ لَا فِي دُونِهَا فَغَلَّطَهْ قَالَ إِذَا عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ ... 362 - وَقِيلَ مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ فَرَّقَ سَامِعٌ، وَمَنْ لَا فَحَضَرْ ... 363 - قَالَ بِهِ الْحَمَّالُ وَابْنُ الْمُقْرِي سَمِعَ لِابْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ [مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ أَوْ يُسْتَحَبُّ] : أَيْ: هَلْ يَصِحُّ حِينَ الْكُفْرِ وَالصِّبَا، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ، وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ بِبَابِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَلَكِنْ كَانَ تَأْخِيرُهُ تِلْوَ ثَانِيَ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ أَنْسَبَ، [كَمَا ذُكِرَ فِي ثَالِثِهَا الْإِجَازَةُ لِلْكَافِرِ وَالطِّفْلِ وَنَحْوِهِمَا] . (وَقَبِلُوا) أَيْ: أَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ، الرِّوَايَةَ (مِنْ مُسْلِمٍ) مُسْتَكْمِلِ الشُّرُوطِ (تَحَمَّلَا) الْحَدِيثَ (فِي) حَالٍ (كُفْرِهِ) ، ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ ; لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ حِينَ التَّحَمُّلِ، مُحْتَجِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 «بِأَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَسَمِعَهُ حِينَئِذٍ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، قَالَ جُبَيْرٌ: " وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي» . وَفِي لَفْظٍ: " فَأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءَتِهِ الْكَرْبُ "، وَفِي آخَرَ: " فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ الْقُرْآنَ "، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ أَدَّى هَذِهِ السُّنَّةَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَحُمِلَتْ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَنَحْوُ تَحْدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ بِقِصَّةِ هِرَقْلَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. بَلْ عِنْدَنَا لَوْ تَحَمَّلَ الْكَافِرُ وَالصَّبِيُّ شَهَادَةً، ثُمَّ أَدَّيَاهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ قُبِلَ أَيْضًا، سَوَاءٌ سَبَقَ رَدُّهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا. نَعَمْ، الْكَافِرُ الْمُسِرُّ كُفْرَهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَعَادَهَا فِي الْأَصَحِّ ; كَالْفَاسِقِ غَيْرِ الْمُعْلِنِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ فِي الْحُكْمِ مِنَ الشَّهَادَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لِغَيْرٍ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا حَفِظُوهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، وَأَدَّوْهَا بَعْدَهُ - انْتَهَى. وَمِنْ هُنَا أَثْبَتَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الطِّبَاقِ اسْمَ مَنْ يَتَّفِقُ حُضُورُهُ مَجَالِسَ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُفَّارِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُؤَدِّيَ مَا سَمِعَهُ، كَمَا وَقَعَ فِي زَمَنِ التَّقِيِّ ابْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 تَيْمِيَّةَ أَنَّ الرَّئِيسَ الْمُتَطَبِّبَ يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ السَّيِّدِ بْنِ الْمُهَذِّبِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى الْإِسْرَائِيلِيَّ، عُرِفَ بِابْنِ الدَّيَّانِ، سَمِعَ فِي حَالِ يَهُودِيَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ مِنَ الشَّمْسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيِّ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ ; كَجُزْءِ ابْنِ عِتْرَةَ، وَكَتَبَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ اسْمَهُ فِي الطَّبَقَةِ فِي جُمْلَةِ السَّامِعِينَ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ. وَسُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَازَهُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، بَلْ مِمَّنْ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي الطَّبَقَةِ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَيَسَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَسُمِّيَ مُحَمَّدًا، وَأَدَّى فَسَمِعُوا مِنْهُ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ الشَّمْسُ الْحُسَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤَلَّفِ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ هُوَ السَّمَاعُ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ رَآهُ بِدِمَشْقَ، وَمَاتَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ. بَلْ وَمِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ، يَعْنِي أَبَاهُ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ أَخِي، وَكَانَ وَاللَّهِ صَدُوقًا، فَذَكَرَ شَيْئًا. وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَهُ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي رِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ بِذِي الْمَجَازِ مَعَ ابْنِ أَخِي، فَأَدْرَكَنِي الْعَطَشُ، فَذَكَرَ كَلَامًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَمِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ: سَمِعْتُ ابْنَ أَخِي الْأَمِينَ يَقُولُ: ((اشْكُرْ تُرْزَقْ، وَلَا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبْ)) ، وَلَكِنْ كُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَ (كَذَا) يُقْبَلُ عِنْدَهُمْ فَاسِقٌ تَحَمَّلَ فِي حَالِ فِسْقِهِ ثُمَّ زَالَ وَأَدَّى مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَ (صَبِيٌّ حُمِّلَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِي حَالِ صِغَرِهِ سَمَاعًا أَوْ حُضُورًا (ثَمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوغِ) ، وَكَذَا قَبِلَهُ عَلَى وَجْهٍ وَصَفَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِالشُّذُوذِ، قَدَّمْتُ حِكَايَتَهُ فِي أَوَّلِ فُصُولِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ. (وَ) لَكِنْ قَدْ (مَنَعْ قَوْمٌ) الْقَبُولَ (هُنَا) أَيْ: فِي مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ خَاصَّةً، فَلَمْ يَقْبَلُوا مَنْ تَحَمَّلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظَنَّةُ عَدَمِ الضَّبْطِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُرَاكِشِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. فَحَكَى ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ الرِّوَايَةِ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَيَقُولُ: مَشَايِخُنَا سَمِعُوا وَهُمْ صِغَارٌ لَا يَفْهَمُونَ، وَكَذَلِكَ مَشَايِخُهُمْ، وَأَنَا لَا أَرَى الرِّوَايَةَ عَمَّنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ. وَكَذَا كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَتَوَقَّفُ فِي تَحْدِيثِ الصَّبِيِّ. فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْبَصْرَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَدِّثَنِي، فَأَبَى وَقَالَ: أَنْتَ صَبِيٌّ. فَأَتَيْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ، دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ فَأَبَى أَنْ يُحَدِّثَنِي، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ، هَاتِي خُفِّي وَطَيْلَسَانِي، وَخَرَجَ مَعِي يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِي حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَتَحَدَّثَا سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ حَمَّادٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا تُحَدِّثُ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الْغُلَامَ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ، هُوَ صَبِيٌّ لَا يَفْقَهُ مَا يَحْمِلُهُ، فَقَالَ لَهُ حَمَّادٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدِّثْهُ فَلَعَلَّهُ وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا. فَحَدَّثَهُ، وَكَانَ كَذَلِكَ. وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيِّ قَالَ: لَمَّا رَحَلَ بِي أَبِي إِلَى أَبِي الْمُغِيرَةِ، يَعْنِي عَبْدَ الْقُدُّوسِ بْنَ الْحَجَّاجِ الْخَوْلَانِيَّ الْحِمْصِيَّ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ أَبِي وَأَخِي مِنْ قَبْلِي، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنِي، قَالَ: وَمَا تُرِيدُ بِهِ؟ قَالَ: يَسْمَعُ مِنْكَ، قَالَ: وَيَفْهَمُ؟ فَقَالَ لِي أَبِي، وَكُنَّا فِي الْمَسْجِدِ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالتَّكْبِيرِ وَالِاسْتِفْتَاحِ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ. فَفَعَلْتُ. فَقَالَ لِي أَبُو الْمُغِيرَةِ: أَحْسَنْتَ، ثُمَّ قَالَ لِي أَبِي: حَدِّثْنَا، فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي أَبِي وَأَخِي عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ ابْنَةِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: " مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ وَتَعْلِيمَهُ، فَإِذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَلَا حَقَّ لَهُ "، وَقَدْ وَجَبَ حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنْ هُوَ أَرْضَاهُ فَلْيَتَّخِذْهُ شَرِيكًا، وَإِنْ لَمْ يُرْضِهِ فَلْيَتَّخِذْهُ عَدُوًّا، فَقَالَ لِي أَبُو الْمُغِيرَةِ: اجْلِسْ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ وَقَالَ: قَدْ أَغْنَاكَ اللَّهُ عَنْ أَبِيكَ وَأَخِيكَ، قُلْ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمُغِيرَةِ. وَأَعْلَى مِنْ هَذَا أَنَّ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ كَانَ لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ عُدُولٌ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: لَقِيتُ شِهَابَ بْنَ خِرَاشٍ وَأَنَا شَابٌّ، فَقَالَ لِي: إِنْ لَمْ تَكُنْ قَدَرِيًّا وَلَا مُرْجِئًا حَدَّثْتُكَ، وَإِلَّا لَمْ أُحَدِّثْكَ. فَقُلْتُ: مَا فِيَّ مِنْ هَذَيْنِ شَيْءٌ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ إِذَا لَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فِي كَلَامِهِ لَمْ يُحَدِّثْهُ. (وَرُدَّ) عَلَى الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّبِيِّ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ عَلَى قَبُولِ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَحَمَّلُوهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ (كَالسِّبْطَيْنِ) ، وَهُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا ابْنَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، وَالْعَبَادِلَةِ: ابْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَالسَّائِبِ بْنَ يَزِيدَ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَنَسٍ وَمَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَيُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَعَائِشَةَ وَنَحْوِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ. (مَعَ إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ) خَلَفًا وَسَلَفًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (لِلصِّبْيَانِ) مَجَالِسَ الْعِلْمِ (ثُمَّ قَبُولِهِمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءِ أَيْضًا، مِنَ الصِّبْيَانِ (مَا حَدَّثُوا) بِهِ مِنْ ذَلِكَ (بَعْدَ الْحُلُمْ) أَيِ: الْبُلُوغِ. وَقَدْ رَأَى أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيَّ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَقَدْ طَيَّنُوهُ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَوَدَّةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا مُطَيَّنُ، قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَحْضُرَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَلْقِيبِهِ مُطَيَّنًا. وَمَاتَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلِلدَّبَرِيِّ سِتُّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٌ، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ عَامَّةَ كُتُبِهِ وَنَقَلَهَا النَّاسُ عَنْهُ، وَكَذَا سَمِعَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْهَاشِمِيُّ السُّنَنَ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 اللُّؤْلُؤِيِّ وَلَهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَاعْتَدَّ النَّاسُ بِسَمَاعِهِ وَحَمَلُوهُ عَنْهُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ذَهَبْتُ بِابْنِي إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسِنُّهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَحَدَّثَهُ. وَكَفَى بِبَعْضِ هَذَا مُتَمَسَّكًا فِي الرَّدِّ فَضْلًا عَنْ مَجْمُوعِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ مُجَرَّدَ إِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ لِلصِّبْيَانِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِدَادَهُمْ بِرِوَايَتِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحُضُورُ لِأَجْلِ التَّمْرِينِ وَالْبَرَكَةِ، ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَمَاعِ الصَّبِيِّ هُوَ بِالنَّظَرِ لِلصِّحَّةِ سَوَاءٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (وَ) أَمَّا (طَلَبُ الْحَدِيثِ) بِنَفْسِهِ وَكِتَابَتُهُ، وَكَذَا الرِّحْلَةُ فِيهِ، فَهُوَ (فِي الْعِشْرِينَ) مِنَ السِّنِينِ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى لُغَةٍ، [حَسْبَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ، مَعَ إِنْكَارِ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي النُّحَاةِ لَهَا] ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَاذَا تَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّيَ ... وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الْأَرْبَعِينِ (عِنْدَ) الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِ بْنِ أَحْمَدَ (الزُّبَيْرِيِّ) بِضَمِّ الزَّاءِ مُصَغَّرًا، الشَّافِعِيِّ (أَحَبُّ حِينِ) مِمَّا قَبْلَهُ، [يَعْنِي أَنَّهُ وَقْتُ الِاسْتِحْبَابِ ; إِذْ عِبَارَةُ الزُّبَيْرِيِّ: " وَيُسْتَحَبُّ كَتْبُ الْحَدِيثِ فِي الْعِشْرِينَ "، قَالَ] ; لِأَنَّهَا مُجْتَمَعُ الْعَقْلِ، قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 سُفْيَانُ: يَكْمُلُ عَقْلُ الْغُلَامِ لِعِشْرِينَ. وَالْفَهْمُ، كَمَا قَالَ ابْنُ نُفَيْسٍ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْمَلُ مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْفَرَائِضِ حَتَّى الْوَاجِبَاتِ، سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: مَنَعَنِي أَبِي مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ أَسْتَظْهِرَ الْقُرْآنَ حِفْظًا، فَلَمَّا حَفِظْتُهُ قَالَ لِي: خُذِ الْمَحْفَظَةَ، وَاذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ فَاكْتُبْ عَنْهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: لَمْ يَدَعْنِي أَبِي أَشْتَغِلُ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ الرَّازِيِّ، ثُمَّ كَتَبْتُ الْحَدِيثَ. (وَهُوَ) أَيِ: اسْتِحْبَابُ التَّقَيُّدِ بِهَذَا السِّنِّ فِي الطَّلَبِ (الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلٌ الْكُوفَهْ) ، فَقَدْ كَانُوا كَمَا حَكَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ صِغَارًا إِلَّا عِنْدَ اسْتِكْمَالِ عِشْرِينَ سَنَةً. وَنَحْوُهُ حِكَايَةُ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ عَنْهُمْ، وَقَالَ عِيَاضٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ شُيُوخِ الْعِلْمِ يَقُولُ: الرِّوَايَةُ مِنَ الْعِشْرِينَ، وَالدِّرَايَةُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ سَعْدُ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيُّ: كَانَ الْأَمْرُ الْمُوَاظَبُ عَلَيْهِ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَمَا يُقَارِبُهُ، لَا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ إِلَّا مَنْ جَاوَزَ حَدَّ الْبُلُوغِ، وَصَارَ فِي عِدَادِ مَنْ يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ. وَسَبَقَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الْخَطِيبُ فَقَالَ: قَلَّ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا بَلَغَنَا فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَقَرِيبًا مِنْهُ إِلَّا مَنْ جَاوَزَ حَدَّ الْبُلُوغِ، وَصَارَ فِي عِدَادِ مَنْ يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ. (وَ) خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَ (الْعَشْرِ) مِنَ السِّنِينَ (فِي) أَهْلِ (الْبَصْرَةِ) كَالسُّنَّةِ (الْمَأْلُوفَهْ) لَهُمْ ; حَيْثُ تَقَيَّدُوا بِهِ (وَ) الطَّلَبُ (فِي) بُلُوغِ (الثَّلَاثِينَ) مِنَ السِّنِينِ مَأْلُوفٌ (لِأَهْلِ الشَّأْمِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ مَهْمُوزٌ عَلَى أَشْهَرِ اللُّغَاتِ، حَكَاهُ مُوسَى الْحَمَّالُ أَيْضًا عَنْ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَأَعْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي الْأَحْوَصِ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ الْحَدِيثَ تَعَبَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً. فَاجْتَمَعَ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ فِي ابْتِدَاءِ الطَّلَبِ أَقْوَالٌ. (وَ) الْحَقُّ عَدَمُ التَّقَيُّدِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، بَلْ (يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ) أَيْ: طَلَبِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ (بِالْفَهْمِ) لِمَا يَرْجِعُ إِلَى الضَّبْطِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَعْرِفُ عِلَلَ الْأَحَادِيثِ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، وَلَا أَنْ يَعْقِلَ الْمَعَانِيَ وَاسْتِنْبَاطَهَا ; إِذْ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْأَدَاءِ فَضْلًا عَنِ التَّحَمُّلِ (فَكَتْبُهُ) [أَيْ: الْحَدِيثَ، بِنَفْسِهِ مُقَيَّدٌ بِالتَّأَهُّلِ] (لِلضَّبْطِ) ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ (السَّمَاعُ) مِنَ الصَّبِيِّ لِلْحَدِيثِ بِ (حَيْثُ) يَعْنِي بِحِينِ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى فِيهِ سَامِعًا. وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: " قُلْتُ: وَيَنْبَغِي بَعْدَ أَنْ صَارَ الْمَلْحُوظُ إِبْقَاءَ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ أَنْ يُبَكَّرَ بِإِسْمَاعِ الصَّغِيرِ فِي أَوَّلِ زَمَانٍ يَصِحُّ فِيهِ سَمَاعُهُ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِكَتَبَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الْحَدِيثِ وَتَحْصِيلِهِ - أَيْ: بِالسَّمَاعِ وَنَحْوِهِ - وَضَبْطِهِ وَتَقْيِيدِهِ فَمِنْ حِينِ يَتَأَهَّلُ لِذَلِكَ وَيَسْتَعِدُّ لَهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ - انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ. وَكَوْنُ التَّقْيِيدِ مُؤَكِّدًا لِلضَّبْطِ بِخِلَافِهِ فِيمَا مَضَى، وَيَتَأَيَّدُ التَّبْكِيرُ بِمَا جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: طَلَبُ الْحَدِيثِ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ، وَلِذَا قَالَ نَفْطَوَيْهِ: أُرَانِي أَنْسَى مَا تَعَلَّمْتُ فِي الْكِبَرِ ... وَلَسْتُ بِنَاسٍ مَا تَعَلَّمْتُ فِي الصِّغَرِ وَلَوْ فُلِقَ الْقَلْبُ الْمُعَلَّمُ فِي الصِّبَا ... لَأُلْفِيَ فِيهِ الْعِلْمُ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وَيُرْوَى مَعْنَاهُ فِي الْمَرْفُوعِ: (( «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا وَهُوَ شَابٌّ كَانَ كَوَشْيٍ فِي حَجَرٍ، وَمَنْ تَعَلَّمَ بَعْدَمَا يَدْخُلُ فِي السِّنِّ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى جَمْهَرِ الْمَاءِ» )) . وَنَحْوُهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 (( «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي شَبِيبَتِهِ اخْتَلَطَ الْقُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ» )) ، وَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. (وَبِهِ) أَيْ: وَفِي تَعْيِينِ وَقْتِ السَّمَاعِ (نِزَاعُ) بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (فَالْخَمْسُ) مِنَ السِّنِينَ التَّقْيِيدُ بِهِ (لِلْجُمْهُورِ) ، وَعَزَاهُ عِيَاضٌ فِي الْإِلْمَاعِ لِأَهْلِ الصَّنْعَةِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ عَمَلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَيَكْتُبُونَ لِابْنِ خَمْسٍ فَصَاعِدًا " سَمِعَ "، وَلِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا " حَضَرَ أَوْ أُحْضِرَ ". (ثُمَّ الْحُجَّهْ) لَهُمْ فِي التَّقْيِيدِ بِهَا (قِصَّةُ مَحْمُودٍ) ، هُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ (وَعَقْلُ الْمَجَّهْ) ، وَهِيَ إِرْسَالُ الْمَاءِ مِنَ الْفَمِ، الَّتِي مَجَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاعَبَةِ، أَوِ التَّبْرِيكِ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ مَعَ أَوْلَادِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَقْلَهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ، وَكَوْنُهُ سُنَّةً مَقْصُودَةً. (وَهُوَ) أَيْ: مَحْمُودٌ، حِينَئِذٍ (ابْنُ خَمْسَةٍ) مِنَ الْأَعْوَامِ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودٍ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: " مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وَأَفَادَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّقْيِيدَ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِهِ، لَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَانِيدِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ خَاصَّةً، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَتَّى قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِهِ خَطَأٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَيَشْهَدُ لَهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ قَالَ: وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَيْضًا أَنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي ضَبَطَهَا كَانَتْ فِي آخِرِ سَنَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُطَابِقُ ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، لَكِنْ قَدْ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ. (وَ) لَعَلَّ لِذَا (قِيلَ) إِنَّ حِفْظَهُ لِذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ (أَرْبَعَهْ) مِنَ الْأَعْوَامِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ عَقَلَ الْمَجَّةَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ، كَمَا أَنَّ لَعَلَّ قَوْلَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مُسْتَنَدُ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي شَيْءٍ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الرِّوَايَاتِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ ; لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْوَاقِدِيِّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ أَلْغَى الْكَسْرَ وَجَبَرَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ حَكَى السِّلَفِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ صِحَّةَ سَمَاعِ مَنْ بَلَغَ أَرْبَعَ سِنِينَ ; لِحَدِيثِ مَحْمُودٍ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ خَاصَّةً، أَمَّا ابْنُ الْعَجَمِيِّ فَإِذَا بَلَغَ سَبْعًا، وَقَيَّدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ عَنِ الْقُطَيْعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي سُئِلَ عَنْ سَمَاعِ الصَّبِيِّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ ابْنَ عَرَبِيٍّ فَابْنُ سَبْعٍ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَجَمِيٍّ فَإِلَى أَنْ يَفْهَمَ. وَقَيَّدَهُ بِالسَّبْعِ مُطْلَقًا بَعْضُهُمْ. وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ السِّلَفِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ الْإِجَازَةَ لِوَلَدٍ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَالَ: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ لِمِثْلِهِ حَتَّى تَمَّ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِجَازَةِ فَفِي السَّمَاعِ أَوْلَى. فَاجْتَمَعَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُسَمَّى فِيهِ الصَّغِيرُ سَامِعًا. (وَ) بِالْجُمْلَةِ (فَلَيْسَ فِيهِ) أَيْ: فِي تَعْيِينِ وَقْتِهِ (سُنَّةٌ) بِعَيْنِهَا (مُتَّبَعَهْ) دَائِمًا ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَمْيِيزِ مَحْمُودٍ أَنَّ تَمْيِيزَ كُلِّ أَحَدٍ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَلَّا يَعْقِلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسِنُّهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ عَقَلَ الْمَجَّةَ أَنْ يَعْقِلَ غَيْرَهَا مِمَّا سَمِعَهُ. (بَلِ الصَّوَابُ) الْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ سَمَاعِ الصَّغِيرِ قَوْلٌ خَامِسٌ، وَهُوَ: (فَهْمُهُ الْخِطَابَا) حَالَ كَوْنِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 (مُمَيِّزًا) مَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُهُ (وَرَدُّهُ الْجَوَابَا) الْمُطَابِقَ، سَوَاءٌ كَانَ ابْنَ خَمْسٍ أَوْ أَقَلَّ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ فَهْمَ الْخِطَابِ وَرَدَّ الْجَوَابِ لَمْ يَصِحَّ ; أَيْ: لَمْ يَكُنْ سَامِعًا، حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِنْ كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ. وَبِمَا قَيَّدْنَاهُ قَدْ يُشِيرُ إِلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ مِمَّا حَكَى فِيهِ الْقُشَيْرِيُّ الْإِجْمَاعَ بِعَدَمِ قَبُولِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حِينَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا، مَعَ أَنَّهُ قِيلَ فِي الْمُمَيِّزِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَفْهَمُ اللَّفْظَ بِسَمَاعِهِ صَحَّ سَمَاعُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ سَمِعَ كَلِمَةً أَدَّاهَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ كَانَ مُرَاعِيًا لِمَا يَقُولُهُ مِنْ تَحْدِيثٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقَارِئِ صَحَّ سَمَاعُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. بَلْ عَزَا النَّوَوِيُّ عَدَمَ التَّقْدِيرِ لِلْمُحَقِّقِينَ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْخَمْسِ أَنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ صَبِيٍّ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ يُمَيِّزُ لِدُونِ خَمْسٍ، وَقَدْ يَتَجَاوَزُ الْخَمْسَ وَلَا يُمَيِّزُ. وَاحْتُجَّ بِضَبْطِ ابْنِ الزُّبَيْرِ تَرَدُّدَ وَالِدِهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ. قَالَ شَيْخُنَا مُشِيرًا لِانْتِقَادِ الْحَصْرِ فِي سِنِّ ابْنِ الزُّبَيْرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا وُلِدَ فِي الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي الْأَحْزَابِ: إِنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ - انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 نَعَمْ، «قَوْلُ الْحَسَنِ: أَذْكُرُ أَنِّي أَخَذْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلْتُهَا فِي فِيَّ، فَنَزَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُعَابِهَا فَجَعَلَهَا فِي التَّمْرِ وَقَالَ: ((كِخْ كِخْ)) » ، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ دُونَ ذَلِكَ ; إِذْ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لَا يُقَالُ إِلَّا لِلطِّفْلِ الْمُرْضَعِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّقْيِيدِ بِالْخَمْسِ. وَنَحْوُ قِصَّةِ مَحْمُودٍ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالِدِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَنِي وَأَنَا خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ فَأَجْلَسَنِي فِي حِجْرِهِ، وَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي وَلِذُرِّيَّتِي بِالْبَرَكَةِ. » وَحَدَّثَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحَمَّادِيُّ عَنْ جَدِّهِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ بِحَدِيثٍ لَقِنَهُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ رُشَيْدٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِتَحْدِيدِ الْخَمْسِ أَنَّهَا مَظَنَّةٌ لِذَلِكَ، لَا أَنَّ بُلُوغَهَا شَرْطٌ لَابُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ: اعْتَبَرَ الْجُمْهُورُ الْمَظَنَّةَ وَهِيَ الْخَمْسُ، فَأَقَامُوهَا مَقَامَ الْمَئِنَّةِ وَهِيَ التَّمْيِيزُ وَالْإِدْرَاكُ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُعْتَبَرَ الْمَظَنَّةُ حَيْثُ لَا يَتَحَقَّقُ الْمَئِنَّةُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَعَلَّ تَحْدِيدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ بِالْخَمْسِ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ هَذَا [السِّنَّ] أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ وَعَقْلُ مَا يَسْمَعُ وَحِفْظُهُ. وَإِلَّا فَمَرْجُوعٌ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ، وَرُبَّ بَلِيدِ الطَّبْعِ غَبِيِّ الْفِطْرَةِ لَا يَضْبِطُ شَيْئًا فَوْقَ هَذَا السِّنِّ، وَنَبِيلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الْجِبِلَّةِ وَذَكِيِّ الْقَرِيحَةِ يَعْقِلُ دُونَ هَذَا السِّنِّ. (وَ) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّمْيِيزُ وَالْفَهْمُ خَاصَّةً دُونَ التَّقْيِيدِ بِسِنٍّ، أَنَّهُ قِيلَ لِلْإِمَامِ (ابْنِ حَنْبَلٍ) أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ مَا مَعْنَاهُ: (فَرَجُلٌ) ، هُوَ ابْنُ مَعِينٍ (قَالَ لِخَمْسَ عَشْرَةَ) سَنَةً (التَّحَمُّلُ يَجُوزُ لَا فِي دُونِهَا) مُتَمَسِّكًا بِأَنَّهُ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْبَرَاءَ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ لِصِغَرِهِمَا» عَنْ هَذَا السِّنِّ (فَغَلَّطَهْ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَ (قَالَ) : بِئْسَ الْقَوْلُ هَذَا، بَلْ (إِذَا عَقَلَهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ (وَضَبَطَهْ) صَحَّ تَحَمُّلُهُ وَسَمَاعُهُ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا، كَيْفَ يُعْمَلُ بِوَكِيعٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ سَمِعَ قَبْلَ هَذَا السَّنِّ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَاكَ، يَعْنِي التَّقْيِيدَ بِهَذَا السِّنِّ، فِي الْقِتَالِ، يَعْنِي وَهُوَ يَقْصِدُ فِيهِ مَزِيدَ الْقُوَّةِ وَالْجِدِّ وَالتَّبَصُّرِ فِي الْحَرْبِ، فَكَانَتْ مَظَنَّتُهُ الْبُلُوغَ، وَالسَّمَاعُ يُقْصَدُ فِيهِ الْفَهْمُ، فَكَانَتْ مَظَنَّتُهُ التَّمْيِيزَ. عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَعِينٍ هَذَا يُوَجَّهُ بِحَمْلِهِ عَلَى إِرَادَةِ تَحْدِيدِ ابْتِدَاءِ الطَّلَبِ بِنَفْسِهِ، أَمَّا مَنْ سَمِعَ اتِّفَاقًا، أَوِ اعْتَنَى بِهِ فَسَمِعَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَلَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ كَمَا أَسْلَفْتُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَى قَبُولِ هَذَا. وَمَعَ هَذَا فَاسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِابْنِ عُيَيْنَةَ يَقْتَضِي مُخَالَفَتَهُ، وَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ - كَمَا تَقَدَّمَ - الضَّبْطُ لَا السِّنُّ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَخْرَجَهُ أَبُوهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَسَمِعَ مِنَ النَّاسِ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ وَابْنَ أَبِي نُجَيْحٍ فِي الْفِقْهِ، لَيْسَ تَضُمُّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَقْرَانِهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ مُقَدَّمًا. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ وَفِي أُذْنِي قِرْطٌ وَلِي ذُؤَابَةٌ، فَلَمَّا رَآنِي جَعَلَ يَقُولُ: وَاسِنِينَهُ وَاسِنِينَهُ هَهُنَا هَهُنَا، مَا رَأَيْتُ طَالِبَ عِلْمٍ أَصْغَرَ مِنْ هَذَا. رَوَاهُمَا الْخَطِيبُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الْكِفَايَةِ. بَلْ رَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ الْهِلَالِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَنَظَرَ إِلَى صَبِيٍّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَكَأَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ تَهَاوَنُوا بِهِ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَقَالَ سُفْيَانُ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُنِي وَلِي عَشْرُ سِنِينَ، طُولِي خَمْسَةُ أَشْبَارٍ، وَوَجْهِي كَالدِّينَارِ، وَأَنَا كَشُعْلَةِ نَارٍ، ثِيَابِي صِغَارٌ، وَأَكْمَامِي قِصَارٌ، وَذَيْلِي بِمِقْدَارٍ، وَنَعْلِي كَآذَانِ الْفَارِ، أَخْتَلِفُ إِلَى عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ مِثْلِ الزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَجْلِسُ بَيْنَهُمْ كَالْمِسْمَارِ، وَمِحْبَرَتِي كَالْجَوْزَةِ، وَمِقْلَمَتِي كَالْمَوْزَةِ، وَقَلَمِي كَاللَّوْزَةِ، فَإِذَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ قَالُوا: أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ، أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ. ثُمَّ تَبَسَّمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَضَحِكَ، وَاتَّصَلَ تَسَلْسُلُهُ بِالضَّحِكِ وَالتَّبَسُّمِ إِلَى الْخَطِيبِ، مَعَ مَقَالٍ فِي السَّنَدِ، لَكِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ تَهْذِيبِهِ: وَرُوِّينَا عَنْ سَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَتَبْتُ الْحَدِيثَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. [ثُمَّ إِنَّ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِتَمْيِيزِ الصَّغِيرِ] أَنْ يَعِدَّ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عِشْرِينَ، ذَكَرَهُ شَارِحُ التَّنْبِيهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ مَنْقُولِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، أَوْ يُحْسِنُ الْوُضُوءَ أَوِ الِاسْتِنْجَاءَ وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 أَشْبَهَهُمَا. أَوْ نَحْوُ مَا اتَّفَقَ لِأَبِي حَنِيفَةَ حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي دِهْلِيزِهِ يَنْتَظِرُ الْإِذْنَ ; إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ خُمَاسِيٌّ مِنَ الدَّارِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْبِرَ عَقْلَهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَضَعُ الْغَرِيبُ الْغَائِطَ مِنْ بَلَدِكُمْ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ مُسْرِعًا فَقَالَ: تَوَقَّ شُطُوطَ الْأَنْهَارِ، وَمَسَاقِطَ الثِّمَارِ، وَأَفْنِيَةَ الْمَسَاجِدِ، وَقَوَارِعَ الطُّرُقِ، وَتَوَارَ خَلْفَ جِدَارٍ، وَأَشْلُ ثِيَابَكَ، وَسَمِّ بِسْمِ اللَّهِ، وَضَعْهُ أَيْنَ شِئْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ. أَوْرَدَهَا ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانِ مِنْ تَأْرِيخِهِ. أَوْ بِتَمْيِيزِ الدِّينَارِ مِنَ الدِّرْهَمِ، كَمَا رُوِّينَا فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الرَّعْدِ مِنْ تَأْرِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: وُلِدْتُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ إِلَى رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعِي لِصِغَرِي، وَأَبِي يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِلَى أَنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُعْطُونِي دِينَارًا وَدِرْهَمًا، فَإِنْ مَيَّزْتُ بَيْنَهُمَا يُثْبِتُونَ سَمَاعِي حِينَئِذٍ، قَالَ: فَأَعْطُونِي دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَقَالُوا: مَيِّزْ بَيْنَهُمَا، فَنَظَرْتُ وَقُلْتُ: أَمَّا الدِّينَارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فَمَغْرِبِيٌّ، فَاسْتَحْسَنُوا فَهْمِي وَذَكَائِي، وَقَالُوا: أَخْبَرَ بِالْعَيْنِ وَالنَّقْدِ. (وَقِيلَ) أَيْضًا (مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ) أَوِ الدَّابَّةِ (وَالْبَقَرْ فَرَّقَ) فَهُوَ (سَامِعٌ) لِتَمْيِيزِهِ (وَمَنْ لَا) يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا (فَ) يُقَالُ لَهُ (حَضَرْ) ، وَلَا يُسَمَّى سَامِعًا (قَالَ بِهِ) يَعْنِي: بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً، مُوسَى بْنَ هَارُونَ (الْحَمَّالُ) بِالْمُهْمَلَةِ، جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ: مَتَى يُسْمَعُ لِلصَّبِيِّ؟ فَقَالَ: إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الْبَقَرَةِ وَالْحِمَارِ، وَفِي لَفْظٍ: إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْبَقَرَةِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِاللَّفْظَيْنِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِلطَّرَفِ الثَّانِي أَيْضًا ; لِلِاكْتِفَاءِ بِمَا فُهِمَ مِنْهُ. وَجَنَحَ لَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، فَكَانَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ، وَأَنَا فِي الثَّالِثَةِ سَامِعٌ فَهِمٌ. وَيُحْتَجُّ بِتَمْيِيزِهِ بَيْنَ بَعِيرِهِ الَّذِي كَانَ رَاكِبَهُ حِينَ رَحَلَ بِهِ أَبُوهُ الشَّارِحُ أَوَّلَ مَا طَعَنَ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ يَشْمَلُهَا فَهْمُ الْخِطَابِ وَرَدُّ الْجَوَابِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَعْلَى، وَكَأَنَّ لِعَدَمِ التَّسَاوِي أُشِيرَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ عِبَارَةَ ابْنِ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: رُوِّينَا عَنْ مُوسَى إِلَى آخِرِهِ، بَلْ صَدَّرَ بِهِ أَوَّلَ زَمَنٍ يُسَمَّى فِيهِ الصَّغِيرُ سَامِعًا، وَحِينَئِذٍ فَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا حِكَايَةُ الْقَوْلِ لَا التَّمْرِيضُ، وَالشَّرْحُ يَشْهَدُ لَهُ. (وَ) الْإِمَامُ الْحَافِظُ مُسْنِدُ أَصْبَهَانَ أَبُو بَكْرِ (بْنُ الْمُقْرِي) ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمِ بْنِ زَاذَانَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمَائِةٍ 381 هـ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً ; لِكَوْنِهِ اعْتَبَرَ التَّمْيِيزَ وَالْفَهْمَ (سَمِعَ) أَيْ: أَفْتَى بِإِثْبَاتِ السَّمَاعِ (لِابْنِ أَرْبَعٍ) مِنَ السِّنِينَ (ذِي ذُكْرِ) ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: صَاحِبِ حِفْظٍ وَفَهْمٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ: حَفِظْتُ الْقُرْآنَ وَلِي خَمْسُ سِنِينَ، وَحُمِلْتُ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِئِ لِأَسْمَعَ مِنْهُ وَلِي أَرْبَعُ سِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ فِيمَا قُرِئَ ; فَإِنَّهُ صَغِيرٌ، فَقَالَ لِي ابْنُ الْمُقْرِئِ: اقْرَأْ سُورَةَ الْكَافِرُونَ، فَقَرَأْتُهَا، فَقَالَ: اقْرَأِ التَّكْوِيرَ، فَقَرَأْتُهَا، فَقَالَ لِي غَيْرُهُ: اقْرَأْ وَالْمُرْسَلَاتِ، فَقَرَأْتُهَا، وَلَمْ أَغْلَطْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُقْرِئِ: سَمِّعُوا لَهُ وَالْعُهْدَةُ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ صَاحِبَ الْحَافِظِ أَبِي مَسْعُودٍ أَحْمَدَ بْنِ الْفُرَاتِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: أَتَعَجَّبُ مِنْ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ الْمُرْسَلَاتِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَلَا يَغْلَطُ فِيهَا. هَذَا مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ أَصْبَهَانَ وَلَمْ تَكُنْ كُتُبُهُ مَعَهُ، فَأَمْلَى كَذَا كَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْكُتُبُ إِلَيْهِ قُوبِلَتْ بِمَا أَمْلَى فَلَمْ تَخْتَلِفْ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَمِنْ أَظْرَفِ شَيْءٍ سَمِعْنَاهُ فِي حِفْظِ الصَّغِيرِ مَا أَنَا أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَرَّاقِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ النَّجَّارُ، ثَنَا الصَّاغَانِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ صَبِيًّا ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ يَبْكِي - انْتَهَى. وَفِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وَأَغْرَبُ مَا ثَبَتَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْمُحِبَّ بْنَ الْهَائِمِ حَفِظَ الْقُرْآنَ بِتَمَامِهِ، وَ (الْعُمْدَةَ) ، وَجُمْلَةً مِنَ (الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ) ، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، وَكَانَ تُذْكَرُ لَهُ الْآيَةُ وَيُسْأَلُ عَمَّا قَبْلَهَا فَيُجِيبُ بِدُونِ تَوَقُّفٍ. وَرُوِّينَا عَنِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي حَفِيدِهِ أَبِي مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ: إِنَّهُ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَعْلَمُ الْفَرَائِضَ، وَأَجَابَ فِي مَسْأَلَةٍ أَخْطَأَ فِيهَا بَعْضُ قُضَاتِنَا، كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْيِيزِ وَالْفَهْمِ الْقُوَّةُ أَوِ الْفِعْلُ؟ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ شَيْخَنَا سُئِلَ عَمَّنْ لَا يَعْرِفُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَلِمَةً، فَأَمَرَ بِإِثْبَاتِ سَمَاعِهِ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنْ كُلٍّ مِنِ ابْنِ رَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ الْمُحِبِّ، بَلْ حَكَى ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْمِزِّيَّ كَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، يَعْنِي مِنَ الرِّجَالِ، وَيَكْتُبُ لِلْكُلِّ السَّمَاعَ، وَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ الْمَاضِي: " وَمَتَى لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ فَهْمَ الْخِطَابِ وَرَدَّ الْجَوَابِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ ابْنَ خَمْسٍ [بَلِ ابْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 خَمْسِينَ] "، عَلَى انْتِفَاءِ الْقُوَّةِ مَعَ الْفِعْلِ أَيْضًا. وَبَقِيَ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ: إِنَّ الصَّغِيرَ إِذَا حَضَرَ [إِنْ أُجِيزَ] لَهُ صَحَّ التَّحَمُّلُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُسَمِّعُ حَافِظًا، فَيَكُونُ تَقْرِيرُهُ لِكِتَابَةِ اسْمِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ مِنْهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ. [أَقْسَامُ التَّحَمُّلِ وَالْأَخْذِ] [أَوَّلُهَا سَمَاعُ لَفْظِ الشَّيْخِ] أَقْسَامُ التَّحَمُّلِ وَالْأَخْذِ وَأَوَّلُهَا سَمَاعُ لَفْظِ الشَّيْخِ 364 - أَعْلَى وُجُوهِ الْأَخْذِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ ... وَهْيَ ثَمَانٍ لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَمِ 365 - كِتَابًا أَوْ حِفْظًا وَقُلْ حَدَّثَنَا ... سَمِعْتُ أَوْ أَخْبَرَنَا أَنْبَأَنَا 366 - وَقَدَّمَ الْخَطِيبُ أَنْ يَقُولَا ... سَمِعْتُ إِذْ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَا 367 - وَبَعْدَهَا حَدَّثَنَا حَدَّثَنِي ... وَبَعْدَ ذَا أَخْبَرَنَا أَخْبَرَنِي 368 - وَهْوَ كَثِيرٌ وَيَزِيدُ اسْتَعْمَلَهْ ... وَغَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا قَدْ حَمَلَهْ 369 - مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ وَبَعْدَهُ تَلَا ... أَنْبَأَنَا نَبَّأَنَا وَقُلِّلَا 370 - وَقَوْلُهُ قَالَ لَنَا وَنَحْوَهَا ... كَقَوْلِهِ حَدَّثَنَا لَكِنَّهَا 371 - الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا مُذَاكَرَهْ ... وَدُونَهَا قَالَ بِلَا مُجَارَرَهْ 372 - وَهْيَ عَلَى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِي ... لَا سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوهُ فِي الْمُضِي 373 - أَنْ لَا يَقُولَ ذَا لِغَيْرِ مَا سَمِعْ ... مِنْهُ كَحَجَّاجٍ وَلَكِنْ يَمْتَنِعْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 374 - عُمُومُهُ عِنْدَ الْخَطِيبِ وَقَصَرْ ذَاكَ عَلَى الَّذِي بِذَا الْوَصْفِ اشْتَهَرْ (وَأَوَّلُهَا) أَيْ: أَعْلَاهَا رُتْبَةً (سَمَاعُ لَفْظِ الشَّيْخِ أَعْلَى وُجُوهِ) أَيْ: طُرُقِ (الْأَخْذِ) لِلْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ عَنِ الشُّيُوخِ (عِنْدَ الْمُعْظَمِ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (وَهْيَ) أَيِ: الطُّرُقُ (ثَمَانٍ) ، وَلَهَا أَنْوَاعٌ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. (لَفْظُ شَيْخٍ) أَيِ: السَّمَاعُ مِنْهُ (فَاعْلَمِ) ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ النَّاسَ ابْتِدَاءً وَأَسْمَعَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ، وَالتَّقْرِيرُ عَلَى مَا جَرَى بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ السُّؤَالُ عَنْهُ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ، فَالْأُولَى أَوْلَى، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ تَأْتِي حِكَايَتُهَا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ. وَلَكِنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، سَوَاءٌ حَدَّثَ (كِتَابًا) أَيْ: مِنْ كِتَابِهِ (أَوْ حِفْظًا) أَيْ: مِنْ حِفْظِهِ، إِمْلَاءً أَوْ غَيْرَ إِمْلَاءٍ فِي صُورَتَيِ الْحِفْظِ وَالْكِتَابِ، لَكِنَّهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَعْلَى ; لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ تَحَرُّزِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ، إِذِ الشَّيْخُ مُشْتَغِلٌ بِالتَّحْدِيثِ، وَالطَّالِبُ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ، فَهُمَا لِذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْغَفْلَةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ وَتَبْيِينِ الْأَلْفَاظِ مَعَ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالْمُقَابَلَةِ بَعْدَهُ، وَإِنْ حَصَلَ اشْتِرَاكُهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحْدِيثِ فِي أَصْلِ الْعُلُوِّ. وَمَا تَقَرَّرَ فِي أَرْجَحِيَّةِ هَذَا الْقِسْمِ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِلَا فَقَدْ يَعْرِضُ لِلْفَائِقِ مَا يَجْعَلُهُ مَفُوقًا، كَأَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ لَفْظًا غَيْرَ مَاهِرٍ، إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْقُرَّاءِ، [وَمَا اتَّفَقَ مِنْ تَحْدِيثِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ الْكُرْدِيِّ أَحَدِ الْمُسْنَدِينِ بِتَلْقِينِ] الْإِمَامِ التَّقِيِّ السُّبْكِيِّ بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِمَاكٍ كَلِمَةً كَلِمَةً ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 لِكَوْنِهِ كَانَ ثَقِيلَ السَّمْعِ جِدًّا، قَصْدًا لِتَحْقِيقِ سَمَاعِهِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ لَمْ يَزُلِ الشَّكُّ. وَإِنْ كَانَ شَيْخُنَا قَدْ وَقَعَ لَهُ مَعَ ابْنِ قَوَّامٍ فِي أَخْذِ الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ أَبِي مُصْعَبٍ ; لِكَوْنِهِ أَيْضًا كَانَ ثَقِيلَ السَّمْعِ جِدًّا، أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَيْهِ كَلِمَةً كَلِمَةً بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَالْأَذَانِ حَتَّى زَالَ الشَّكُّ، مَعَ قَرَائِنَ ; كَصَلَاةِ الْمُسَمِّعِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَضِّيهِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَا وَقَعَ لِلسُّبْكِيِّ أَضْبَطُ، بَلْ مَا وَقَعَ لَهُ أَيْضًا أَعْلَى مِنَ الْعَرْضِ فَقَطْ بِلَا شَكٍّ. وَأَمَّا تَلْقِينُ الْحَجَّارِ قِرَاءَةَ سُورَةِ الصَّفِّ قَصْدًا لِاتِّصَالِ تَسَلْسُلِهَا ; لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ يَحْفَظُهَا، فَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ; لِعَدَمِ الْخَلَلِ فِي سَمَاعِهِ (وَقُلْ) فِي حَالَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الْأَدَاءِ لِمَا سَمِعْتَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ: (حَدَّثَنَا) فُلَانٌ، أَوْ (سَمِعْتُ) فُلَانًا (أَوْ أَخْبَرَنَا) ، أَوْ خَبَّرَنَا، أَوْ (أَنْبَأَنَا) ، أَوْ نَبَّأَنَا فُلَانٌ، أَوْ قَالَ لَنَا، أَوْ ذَكَرَ لَنَا فُلَانٌ، عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ اتِّفَاقًا حَسْبَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ ; يَعْنِي: لُغَةً، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحْدِيثِ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِيهَا اصْطِلَاحًا كَمَا سَيَأْتِي. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 4] {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 14] ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَنْبَغِي - أَيْ: نَدْبًا - أَنْ لَا يُطْلَقَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ السَّمَاعِ لَفْظًا ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ وَالْإِلْبَاسِ ; يَعْنِي: حَيْثُ حَصَلَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصِّيَغِ بِحَسَبِ افْتِرَاقِ التَّحَمُّلِ. وَخُصَّ مَا يَلْفِظُ بِهِ الشَّيْخُ بِالتَّحْدِيثِ، وَمَا سُمِعَ فِي الْعَرْضِ بِالْإِخْبَارِ، وَمَا كَانَ إِجَازَةً مُشَافَهَةً بِالْإِنْبَاءِ، بَلْ عَدَمُ الْإِطْلَاقِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّارِحُ مِمَّا يَتَأَكَّدُ فِي أَنْبَأَنَا بِخُصُوصِهَا بَعْدَ اشْتِهَارِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْإِجَازَةِ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ الْمَرْوِيِّ مِمَّنْ لَا يَحْتَجُّ بِهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَقَدْ (قَدَّمَ) الْحَافِظُ (الْخَطِيبُ) مِنْهَا (أَنْ يَقُولَا) أَيِ: الرَّاوِي: (سَمِعْتُ إِذْ) لَفْظُهَا صَرِيحٌ (لَا يَقْبَلُ) ، كَمَا سَيَأْتِي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 (التَّأْوِيلَا وَبَعْدَهَا) أَيْ: بَعْدَ سَمِعْتُ فِي الرُّتْبَةِ (حَدَّثَنَا) لِأَنَّ سَمِعْتُ، كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ: " لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَقُولُهَا فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ، وَلَا فِي تَدْلِيسٍ، مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، بِخِلَافِ حَدَّثَنَا ; فَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الْإِجَازَةِ فِطْرٌ وَغَيْرُهُ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّدْلِيسِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يَقُولُ: ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيَتَأَوَّلُ حَدَّثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْحَسَنُ بِهَا، كَمَا كَانَ يَقُولُ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ، وَيُرِيدُ خَطَبَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، وَكَمَا كَانَ ثَابِتٌ يَقُولُ: قَدِمَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنِسْبَةِ الْحَسَنِ لِذَلِكَ الْبَزَّارُ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فَيَقُولُ: ثَنَا وَخَطَبَنَا ; يَعْنِي قَوْمَهُ الَّذِينَ حُدِّثُوا وَخُطِبُوا بِالْبَصْرَةِ. وَيَتَأَيَّدُ بِتَصْرِيحِ أَيُّوبَ وَبَهْزِ بْنِ أَسَدٍ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِشِيِّ وَالْبَزَّارِ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ، بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ قَالَ يُونُسُ: إِنَّهُ مَا رَآهُ قَطُّ، لَكِنْ يَخْدِشُ فِي دَعْوَى كَوْنِهِ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي زُرْعَةَ: فَمَنْ قَالَ عَنْهُ: ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: يُخْطِئُ، وَنَحْوُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَبِيعَةَ بْنَ كُلْثُومٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ يَعْمَلْ رَبِيعَةُ شَيْئًا، لِمَ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا. وَقَوْلُ سَالِمٍ الْخَيَّاطِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْحَسَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، مِمَّا يُبَيِّنُ ضَعْفَ سَالِمٍ ; فَإِنَّ حَاصِلَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ الْحَسَنِ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْ رَاوِيهِ عَلَى الْخَطَأِ أَوْ غَيْرِهِ. لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ وَقَعَ فِي سُنَنٍ النَّسَائِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنَ سَلَمَةَ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُخْتَلِعَاتِ، قَوْلُ الْحَسَنِ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرَهُ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا مَطْعَنَ فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجُمْلَةِ، كَذَا قَالَ. وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي السُّنَنِ الصُّغْرَى لِلنَّسَائِيِّ بِخَطِّ الْمُنْذِرِيِّ بِلَفْظِ: قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَا هُوَ فِي الْكُبْرَى بِزِيَادَةِ: أَحَدٍ، زَادَ فِي الصُّغْرَى: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي النَّسَّائِيَّ الْمُصَنِّفَ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ جَوَّزَ التَّدْلِيسَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا [بِإِرَادَةِ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 أَسْمَعْهُ] مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَلَى أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ فِي التَّأْوِيلِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ - انْتَهَى. وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ عَدَمُ سَمَاعِهِ، وَالْقَوْلُ بِمُقَابِلِهِ ضَعَّفَهُ النُّقَّادُ. وَكَذَا مِمَّا يَشْهَدُ لِكَوْنِهَا غَيْرَ صَرِيحَةٍ فِي السَّمَاعِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ، فَيَقُولُ: ((أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ تَأَخُّرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُرَادُهُ: حَدَّثَ الْأُمَّةَ وَهُوَ مِنْهُمْ. وَلَكِنْ قَدْ خَدَشَ فِي هَذَا أَيْضًا بِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِبَقَائِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مَانِعَ مِنْ سَمَاعِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وَبِالْجُمْلَةِ، فَالِاحْتِمَالُ فِيهَا ظَاهِرٌ. وَكَذَا بَعْدَ (سَمِعْتُ) (حَدَّثَنِي) ، وَهِيَ إِنْ لَمْ يَطْرُقْهَا الِاحْتِمَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَا تُوَازِي سَمِعْتُ ; لِكَوْنِ حَدَّثَنِي - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - قَدْ تُطْلَقُ فِي الْإِجَازَةِ، بَلْ سَمِعْنَا بِالْجَمْعِ لَا تُوَازِي الْمُفْرَدَ مِنْهُ ; لِطُرُوقِ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا فِيهِ. (وَبَعْدَ ذَا) أَيْ: حَدَّثَنِي وَثَنَا (أَخْبَرَنَا) ، أَوْ (أَخْبَرَنِي) ، إِلَّا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَبْعَدُ عَنْ تَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ - كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَسَالِكِ - قَالَ: " ثَنَا " أَبْلَغُ مِنْ " أَنَا " ; لِأَنَّ ثَنَا قَدْ تَكُونُ صِفَةً لِلْمَوْصُوفِ، وَالْمُخَبِرُ مَنْ لَهُ الْخَبَرُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ لِمَا سَيَأْتِي عِنْدَ حِكَايَةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِسْمِ بَعْدَهُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ثَنَا وَأَنَا وَأَنْبَأَنَا، فَقَالَ: " ثَنَا " أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا، وَ " أَنَا " دُونَ " ثَنَا "، وَ " أَنْبَأَنَا " مِثْلُ " أَنَا ". (وَهْوَ) أَيِ: الْأَدَاءُ " بِأَنَا " جَمْعًا وَإِفْرَادًا فِي السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ (كَثِيرٌ) فِي الِاسْتِعْمَالِ (وَيَزِيدُ) بْنُ هَارُونَ (اسْتَعْمَلَهُ) هُوَ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) ، مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَهُشَيْمٌ وَخَلْقٌ، مِنْهُمُ ابْنُ مَنْدَهْ (لِمَا قَدْ حَمَلَهْ) الْوَاحِدُ مِنْهُمْ (مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ) ، كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ أَوْسَعَ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الْخَطِيبِ: " وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ " أَنَا " وَرَعًا وَنَزَاهَةً لِأَمَانَتِهِمْ، فَلَمْ يَجْعَلُوهَا لِلِينِهَا بِمَنْزِلَةِ ثَنَا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَحْمَدُ، فَقَالَ: " أَنَا " أَسْهَلُ مِنْ " ثَنَا "، وَ " ثَنَا " شَدِيدٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَأَنَّ هَذَا كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَشِيعَ تَخْصِيصُ " أَنَا " بِالْعَرْضِ. لَكِنْ قَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ: إِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ كَانَ يَقُولُ: أَنَا، حَتَّى قَدِمَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فَقَالَا لَهُ: قُلْ: ثَنَا. قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: فَمَا سَمِعْتُهُ مَعَهُمَا كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ فِيهِ: ثَنَا، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ يَقُولُ: أَنَا. بَلْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: ثَنَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى عَادَتِهِ. وَكَأَنَّ أَحْمَدَ أَرَادَ اللَّفْظَ الْأَعْلَى، وَلَا يُنَافِيهِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. (وَبَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ لَفْظِ أَنَا وَأَخْبَرَنِي (تَلَا أَنْبَأَنَا) أَوْ (نَبَّأَنَا) بِالتَّشْدِيدِ، [فَهُوَ تِلْوُهُ فِي الْمَرْتَبَةِ] (وَقُلِّلَا) اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يُسْمَعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ ; أَيْ: قَبْلَ اشْتِهَارِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْإِجَازَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجِيحِ سَمِعْتُ مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ ظَاهِرٌ، لَكِنْ لِحَدَّثَنَا وَأَنَا أَيْضًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 جِهَةُ تَرْجِيحٍ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ رَوَاهُ الْحَدِيثَ وَخَاطَبَهُ بِهِ فِيهِمَا. وَقَدْ سَأَلَ الْخَطِيبُ شَيْخَهُ الْبَرْقَانِيَّ عَنِ النُّكْتَةِ فِي عُدُولِهِ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى سَمِعْتُ حِينَ التَّحْدِيثِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْآبَنْدُونِيِّ، فَقَالَ: لِأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ كَانَ مَعَ ثِقَتِهِ وَصَلَاحِهِ عَسِرًا فِي الرِّوَايَةِ، فَكُنْتُ أَجْلِسُ حَيْثُ لَا يَرَانِي وَلَا يَعْلَمُ بِحُضُورِي، فَلِهَذَا أَقُولُ: سَمِعْتُ ; لِأَنَّ قَصْدَهُ فِي الرِّوَايَةِ إِنَّمَا كَانَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ: قُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ. وَنَحْوُهُ حَذَفَ النَّسَائِيُّ الصِّيغَةَ، حَيْثُ يَرْوِي عَنِ الْحَارِثِ أَيْضًا، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ ; لِأَنَّ الْحَارِثَ كَانَ يَتَوَلَّى قَضَاءَ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّسَائِيِّ خُشُونَةٌ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ، فَكَانَ يَتَسَتَّرُ فِي مَوْضِعٍ وَيَسْمَعُ حَيْثُ لَا يَرَاهُ، فَلِذَلِكَ تَوَرَّعَ وَتَحَرَّى. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَنْ قَصَدَ إِفْرَادَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، كَمَا وَقَعَ لِلَّذِي أَمَرَ بِدَقِّ الْهَاوِنِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ حَدِيثَهُ مَنْ قَعَدَ عَلَى بَابِ دَارِهِ، وَلِذَا نُقِلَ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: " سَمِعْتُ " أَسْهَلُ عَلَيَّ مِنْ " حَدَّثَنَا وَأَنَا وَحَدَّثَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَأَخْبَرَنِي " ; لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْمَعُ وَلَا يُحَدَّثُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُحَدِّثْنِي، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَزَوَّجْتُ ابْنَةَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. . . الْحَدِيثَ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: قُلْتُ لِمُوسَى بْنِ عَلِيٍّ بِمَكَّةَ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: حَدَّثَ الْقَوْمَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَأَنَا أَقُولُ سَمِعْتُ. وَكُلُّ هَذَا يُوَافِقُ صَنِيعَ الْبَرْقَانِيِّ، وَكَذَا حَكَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحِ بْنِ الْمَدِينِيِّ: إِنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ مَعَ أَبِيهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي عِيَادَتِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا، وَعِنْدَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، إِذْ دَخَلَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، فَالْتَمَسَ مِنْهُ يَحْيَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْغَرِيبِ لَهُ، وَأَحْضَرَ الْكِتَابَ، وَأَخَذَ يَقْرَأُ الْأَسَانِيدَ وَيَدَعُ التَّفْسِيرَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا أَبَا عُبَيْدٍ، دَعْنَا مِنَ الْأَسَانِيدِ، نَحْنُ أَحْذَقُ بِهَا مِنْكَ، فَفَعَلَ، فَقَالَ يَحْيَى لِعَلِيٍّ: دَعْهُ يَقْرَأْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَا قَرَأْتُهُ إِلَّا عَلَى الْمَأْمُونِ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ قِرَاءَتَهُ فَاقْرَءُوهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنْ قَرَأْتَهُ عَلَيْنَا وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ. وَلَمْ يَكُنْ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْرِفُ عَلِيًّا، فَسَأَلَ يَحْيَى عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، قَالَ: فَالْتَزَمَهُ وَقَرَأَ حِينَئِذٍ. قَالَ: فَمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ فَلَا يَقُولُ: ثَنَا أَوْ نَحْوَهَا، يَعْنِي لِكَوْنِ عَلِيٍّ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالتَّحْدِيثِ. وَكَانَ أَبِي، يَعْنِي عَلِيًّا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 يَقُولُ: ثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: سَمَّعَنِي بِالتَّشْدِيدِ حَصَلَ التَّسَاوِي مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَثَبَتَ لِلسَّمَاعِ التَّفْصِيلُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: حَدَّثَ أَوْ أَخْبَرَ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: الْحَيْثِيَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي ثَنَا [وَأَنَا لَا تُقَاوِمُ مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَدْشِ] فِي الِاتِّصَالِ، مِمَّا لِأَجْلِهِ كَانَتْ سَمِعْتُ أَرْجَحَ مِنْهُمَا. (وَقَوْلُهُ) أَيِ: الرَّاوِي (قَالَ لَنَا وَنَحْوَهَا) مِثْلُ: قَالَ لِي، أَوْ ذَكَرَ لَنَا، أَوْ ذَكَرَ لِي (كَقَوْلِهِ حَدَّثَنَا) فُلَانٌ فِي الْحُكْمِ لَهَا بِالِاتِّصَالِ، حَسْبَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مَعَ الْإِحَاطَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِفْرَادِ عَلَى الْجَمْعِ (لَكِنَّهَا) أَيْ: هَذِهِ الْأَلْفَاظَ (الْغَالِبُ) مِنْ صَنِيعِهِمْ (اسْتِعْمَالُهَا) فِيمَا سَمِعُوهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ (مُذَاكَرَةً) . وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ ; أَيِ: السَّمَاعَ، مُذَاكَرَةٌ لَائِقٌ بِهِ ; أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ بِهِ أَشْبَهُ مِنْ حَدَّثَنَا - انْتَهَى. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ بِخُصُوصِهِ يَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمُذَاكَرَةِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: " عِنْدِي أَنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ ذَاكَرَ الْبُخَارِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ فُلَانٍ حَدِيثَ كَذَا، فَرَوَاهُ بَيْنَ الْمَسْمُوعَاتِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ حَسَنٌ ظَرِيفٌ، وَلَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنَ الْبُخَارِيِّ ". وَخَالَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي ذَلِكَ ; حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: قَالَ لِي فَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 إِجَازَةٌ. وَكَذَا قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْحَافِظُ: إِنَّهُ رِوَايَةٌ بِالْإِجَازَةِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ: إِنَّهُ عَرْضٌ وَمُنَاوَلَةٌ. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ مِنْهُمْ لَهُ حُكْمُ الِاتِّصَالِ أَيْضًا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّوْمِ مِنْ صَحِيحِهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: ((إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ)) ، فَقَالَ فِيهِ: ثَنَا عَبْدَانُ، وَأَوْرَدَهُ فِي تَأْرِيخِهِ بِصِيغَةِ: قَالَ لِي عَبْدَانُ. وَكَذَا أَوْرَدَ حَدِيثًا فِي التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بِصِيغَةِ التَّحْدِيثِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْهُ أَيْضًا بِصِيغَةِ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، فِي أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ، حَقَّقَ شَيْخُنَا بِاسْتِقْرَائِهِ لَهَا أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِهَذِهِ الصِّيغَةِ ; [يَعْنِي بِانْفِرَادِهَا] ، إِذَا كَانَ الْمَتْنُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ [فِي أَصْلِ مَوْضُوعِ كِتَابِهِ، كَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ الْوَقْفَ، أَوْ فِي السَّنَدِ مَنْ] لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ، [وَذَاكَ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ] . بَلْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ - كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي التَّعْلِيقِ - عَقِبَ حَدِيثٍ مِنْ مُسْتَخْرَجِهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ: كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْإِجَازَةِ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِي الْكِتَابِ حَدِيثًا بِالْإِجَازَةِ غَيْرَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 قَالَ شَيْخُنَا: وَمُرَادُ أَبِي نُعَيْمٍ بِذَلِكَ مَا كَانَ عَنْ شُيُوخِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِلَّا فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي أَثْنَاءِ الْإِسْنَادِ بِالْإِجَازَةِ الْكَثِيرُ، يَعْنِي كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مَنْدَهْ نَسَبَ مُسْلِمًا لِذَلِكَ أَيْضًا، فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مَشَايِخِهِ: قَالَ لَنَا فُلَانٌ، وَهُوَ تَدْلِيسٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَرَدَّهُ شَيْخُنَا ; يَعْنِي: النَّاظِمَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. (وَدُونَهَا) أَيْ: قَالَ لِي (قَالَ بِلَا مُجَارَرَةٍ) أَيْ: بِدُونِ ذِكْرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّتِي قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهَا أَوْضَعُ الْعِبَارَاتِ (وَهْيَ) مَعَ ذَلِكَ مَحْمُولَةٌ (عَلَى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِيِّ) بَيْنَهُمَا، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا، وَفِي التَّعْلِيقِ زَادَ هُنَاكَ: " وَكَأَنَّ الْقَائِلَ سَالِمًا مِنَ التَّدْلِيسِ " (لَا سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوهُ) أَيْ: [مَنْ عُرِفَ بَيْنَ] أَهْلِ الْحَدِيثِ (فِي الْمُضِيِّ) أَيْ: فِيمَا مَضَى (أَنْ لَا يَقُولَ ذَا) أَيْ: لَفْظَ قَالَ عَنْ شَيْخِهِ (لِغَيْرِ مَا سَمِعْ مِنْهُ كَحَجَّاجٍ) ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ ; فَإِنَّهُ رَوَى كُتُبَ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فَحَمَلَهَا النَّاسُ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِهَا. وَكَذَا قَالَ هَمَّامٌ: " مَا قُلْتُ: قَالَ قَتَادَةُ، فَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ ". وَقَالَ شُعْبَةُ: لِأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ، وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ. (وَلَكِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 يَمْتَنِعْ عُمُومُهُ) أَيِ: الْحُكْمُ بِذَلِكَ (عِنْدَ) الْحَافِظِ (الْخَطِيبِ) إِذَا لَمْ يُعْرَفُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ (وَقَصَرْ) الْخَطِيبُ (ذَاكَ) الْحُكْمَ (عَلَى) الرَّاوِي الَّذِي (بِذَا الْوَصْفِ اشْتَهَرْ) . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: " وَالْمَحْفُوظُ الْمَعْرُوفُ مَا قَدَّمْنَاهُ ". وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَاخْتَارَ شَيْخُنَا - كَمَا تَقَدَّمَ - فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْهُ بِخُصُوصِهِ عَدَمَ طَرْدِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ مَعَ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ ; لِجَزْمِهِ بِهِ كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي التَّعْلِيقِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، [وَقَرَّرَ رَدَّ دَعْوَى ابْنِ مَنْدَهْ فِيهَا تَدْلِيسُهُ، بِأَنْ قَالَ: لَمْ يَشْتَهِرِ اصْطِلَاحًا لِلْمُدَلِّسِينَ، بَلْ هِيَ وَعَنْ فِي عُرْفِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ] . فَائِدَةٌ: وَقَعَ فِي الْفِتَنِ مِنْ (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ طَرِيقِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ رَدَّهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ رَدَّهُ إِلَى مَعْقِلِ بْنَ يَسَارٍ، رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاتِّصَالِ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَحْتَمِلُ الْوَاسِطَةَ. [الثَّانِي الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ] 375 - ثُمَّ الْقِرَاءَةُ الَّتِي نَعَتُّهَا ... مُعْظَمُهُمْ عَرْضًا سَوَى قَرَأْتَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 376 - مِنْ حِفْظٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ سَمِعْتَا وَالشَّيْخُ حَافِظٌ لِمَا عَرَضْتَا ... 377 - أَوْ لَا وَلَكِنْ أَصْلُهُ يُمْسِكُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ ثِقَةٌ مُمْسِكُهُ ... 378 - قُلْتُ كَذَا إِنْ ثِقَةٌ مِمَّنْ سَمِعْ يَحْفَظُهُ مَعَ اسْتِمَاعٍ فَاقْتَنِعْ ... 379 - وَأَجْمَعُوا أَخْذًا بِهَا وَرَدُّوا نَقْلَ الْخِلَافِ وَبِهِ مَا اعْتَدُّوا ... 380 - وَالْخُلْفُ فِيهَا هَلْ تُسَاوِي الْأَوَّلَا أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ فَنُقِلَا ... 381 - عَنْ مَالِكٍ وَصَحْبِهِ وَمُعْظَمِ كُوفَةَ وَالْحِجَازِ أَهْلِ الْحَرَمِ ... 382 - مَعَ الْبُخَارِيِّ هُمَا سِيَّانِ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ مَعَ النُّعْمَانِ ... 383 - قَدْ رَجَّحَا الْعَرْضَ وَعَكْسُهُ أَصَحْ وَجُلُّ أَهْلِ الشَّرْقِ نَحْوَهُ جَنَحْ ... 384 - وَجَوَّدُوا فِيهِ: قَرَأْتُ أَوْ قُرِيَ مَعْ " وَأَنَا أَسْمَعُ " ثُمَّ عَبِّرِ ... 385 - بِمَا مَضَى فِي أَوَّلٍ مُقَيَّدَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ حَتَّى مُنْشِدَا ... 386 - أَنْشَدَنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ، لَا سَمِعْتُ لَكِنْ بَعْضُهُمْ قَدْ حَلَّلَا ... 387 - وَمُطْلَقُ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ مَنَعَهُ أَحْمَدُ ذُو الْمِقْدَارِ ... 388 - وَالنَّسَائِيُّ وَالتَّمِيمِيُّ يَحْيَى وَابْنُ الْمُبَارَكِ الْحَمِيدُ سَعْيَا ... 389 - وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَالْقَطَّانُ وَمَالِكٌ وَبَعْدَهُ سُفْيَانُ ... 390 - وَمُعْظَمُ الْكُوفَةِ وَالْحِجَازِ مَعَ الْبُخَارِيِّ إِلَى الْجَوَازِ ... 391 - وَابْنُ جُرَيْجٍ وَكَذَا الْأَوْزَاعِي مَعَ ابْنِ وَهْبٍ وَالْإِمَامِ الشَّافِعِي ... 392 - وَمُسْلِمٍ وَجُلِّ أَهْلِ الشَّرْقِ قَدْ جَوَّزُوا أَخْبَرَنَا لِلْفَرْقِ ... 393 - وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ لِلنَّسَّائِيِّ مِنْ غَيْرِ مَا خِلَافِ ... 394 - وَالْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرْ مُصْطَلَحًا لِأَهْلِهِ أَهْلِ الْأَثَرْ ... 395 - وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِذَا أَعَادَا قِرَاءَةَ الصَّحِيحِ حَتَّى عَادَا ... 396 - فِي كُلِّ مَتْنٍ قَائِلًا أَخْبَرَكَا إِذْ كَانَ قَالَ أَوَّلًا حَدَّثَكَا ... 397 - قُلْتُ وَذَا رَأْيُ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا إِعَادَةَ الْإِسْنَادِ وَهْوَ شَطَطُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الْقِسْمُ (الثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ وَالْأَخْذِ (الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ ثُمَّ) يَلِي السَّمَاعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ (الْقِرَاءَةُ) عَلَيْهِ، وَهِيَ (الَّتِي نَعَتَهَا) يَعْنِي سَمَاعًا (مُعْظَمُهُمُ) أَيْ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الشَّرْقِ وَخُرَاسَانَ (عَرْضًا) يَعْنِي أَنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ كَمَا يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُقْرِئِ، وَكَأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ وَضْعِ عَرْضِ شَيْءٍ عَلَى عَرْضِ شَيْءٍ آخَرَ ; لِيَنْظُرَ فِي اسْتِوَائِهِمَا وَعَدَمِهِ، وَأَدْرَجَ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ إِطْلَاقِهِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. (سَوَى) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَصْرِ عَلَى لُغَةٍ ; أَيْ: فِي تَسْمِيَتِهَا عَرْضًا (قَرَأْتَهَا) أَيِ: الْأَحَادِيثَ، بِنَفْسِكَ عَلَى الشَّيْخِ (مِنْ حِفْظٍ) مِنْكَ (أَوْ كِتَابٍ) لَكَ أَوْ لِلشَّيْخِ أَوْ لِغَيْرِهِ (أَوْ) [بِالنَّقْلِ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ مَعَ تَنْوِينِ مَا قَبْلَهُمَا، وَإِنِ اتَّزَنَ مَعَ تَرْكِهِ بِالْقَطْعِ] (سَمِعْتَا) بِقِرَاءَةِ غَيْرِكَ مِنْ كِتَابٍ كَذَلِكَ، أَوْ حِفْظِهِ أَيْضًا (وَالشَّيْخُ) فِي حَالِ التَّحْدِيثِ (حَافِظٌ لِمَا عَرَضْتَا) أَوْ عَرَضَ غَيْرُكَ عَلَيْهِ (أَوْ لَا) يَحْفَظُ (وَلَكِنْ) يَكُونُ (أَصْلُهُ) مَعَهُ (يُمْسِكُهُ) هُوَ (بِنَفْسِهِ أَوْ ثِقَةٌ) ضَابِطٌ، غَيْرُهُ (مُمْسِكُهُ) كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْفُرُوعِ الْآتِيَةِ قَرِيبًا. (قُلْتُ) : (كَذَا) الْحُكْمُ (إِنْ) كَانَ (ثِقَةٌ) ضَابِطٌ (مِمَّنْ سَمِعْ) مَعَكَ (يَحْفَظُهُ) أَيِ: الْمَقْرُوءَ (مَعَ اسْتِمَاعٍ) مِنْهُ لِمَا يَقْرَأُ وَعَدَمِ غَفْلَةٍ عَنْهُ (فَاقْتَنِعْ) بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ابْنُ الصَّلَاحِ، لَكِنَّهُ قَدِ اكْتَفَى بِالثِّقَةِ فِي إِمْسَاكِ الْأَصْلِ، فَلْيَكُنْ فِي الْحِفْظِ كَذَلِكَ ; إِذْ لَا فَرْقَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلِفَارِقٍ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ الْحِفْظَ خَوَّانٌ، وَلَا يَنْفِيَ هَذَا أَرْجَحِيَّةَ بَعْضِ الصُّوَرِ، كَأَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ أَوِ الثِّقَةُ مُتَمَيِّزًا فِي الْإِمْسَاكِ أَوْ فِي الْحِفْظِ، أَوْ يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا الْحِفْظُ وَالْإِمْسَاكُ. (وَأَجْمَعُوا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (أَخْذًا) أَيْ: عَلَى الْأَخْذِ وَالتَّحَمُّلِ (بِهَا) أَيْ: بِالرِّوَايَةِ عَرَضًا وَتَصْحِيحِهَا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ عِيَاضٌ، فَقَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ (وَرَدُّوا نَقْلَ الْخِلَافِ) الْمَحْكِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَامٍ الْجُمَحِيِّ، وَوَكِيعٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَالِكًا، فَإِذَا النَّاسُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ لِذَلِكَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَّنْ كَانَ يُشَدِّدُ وَلَا يَعْتَدُّ إِلَّا بِمَا سَمِعَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْمَشَايِخِ (وَبِهِ) أَيْ: بِالْخِلَافِ (مَا اعْتَدُّوا) لِعِلْمِهِمْ بِخِلَافِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وَكَانَ مَالِكٌ يَأْبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ عَلَى الْمُخَالِفِ وَيَقُولُ: كَيْفَ لَا يُجْزِيكَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ وَيُجْزِيكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَعْظَمُ؟ ! وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: صَحِبْتُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَا رَأَيْتُهُ قَرَأَ (الْمُوَطَّأَ) عَلَى أَحَدٍ، بَلْ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، لَا تَدَعُونَ تَنَطُّعَكُمْ، الْعَرْضُ مِثْلُ السَّمَاعِ. وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْحَدَّادُ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَدَّادُ: عِنْدِي خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ قِصَّةُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَالَ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) ، وَرَجَعَ ضِمَامٌ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ. فَأَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَهَذَا - أَيْ: قَوْلُ ضِمَامٍ: آللَّهُ أَمَرَكَ - قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَأَجَازُوهُ ; أَيْ: قَبِلُوهُ مِنْهُ. (وَ) لَكِنَّ (الْخُلْفُ) بَيْنَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 (فِيهَا) أَيْ: فِي الْقِرَاءَةِ عَرْضًا (هَلْ تُسَاوِي) الْقِسْمَ (الْأَوَّلَا) أَيِ: السَّمَاعَ لَفْظًا (أَوْ) هِيَ (دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ فَنُقِلَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ; [يَعْنِي: جَاءَ] (عَنْ مَالِكٍ) ، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ (وَصَحْبِهِ) ، بَلْ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَائِهَا كَالزُّهْرِيِّ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ. (وَ) كَذَا عَنْ (مُعْظَمِ) الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ (كُوفَةَ) بِفَتْحِ التَّاءِ غَيْرِ مُنْصَرِفٍ كَالثَّوْرِيِّ (وَ) مِنْ أَهْلٍ (الْحِجَازِ أَهْلِ الْحَرَمِ) أَيْ: مَكَّةَ ; كَابْنِ عُيَيْنَةَ (مَعَ) النَّاقِدِ الْحُجَّةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (الْبُخَارِيِّ) فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَوْرَدَهُمُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَائِلَ صَحِيحِهِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِي رِوَايَةٍ (هُمَا) أَيْ: إِنَّهُمَا فِي الْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ (سِيَّانِ) . وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِهِ أَسَمَاعٌ هُوَ؟ فَقَالَ: مِنْهُ سَمَاعٌ، وَمِنْهُ عَرْضٌ، وَلَيْسَ الْعَرْضُ عِنْدَنَا بِأَدْنَى مِنَ السَّمَاعِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; إِذْ لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهُ أَرْجَحِيَّةٍ، وَوَجْهُ مَرْجُوحِيَّةٍ، فَتَعَادَلَا. وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَعِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ، وَالصَّيْرَفِيُّ عَنْ نَصِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْزِلِي بَعِيدٌ، وَالِاخْتِلَافُ عَلَيَّ يَشُقُّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَى بِالْقِرَاءَةِ بَأْسًا قَرَأْتُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ أَوْ قَرَأْتَ عَلَيَّ، قَالَ: فَأَقُولُ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 قَالَ: نَعَمْ. وَيُرْوَى فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، لَفْظُهُ: ((قِرَاءَتُكَ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَةُ الْعَالِمِ عَلَيْكَ سَوَاءٌ)) ، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْوَقْفُ، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ، (وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) ، هُوَ أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَارِثِ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ الْمَدَنِيُّ (مَعَ) الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ (النُّعْمَانِ) بْنِ ثَابِتٍ (قَدْ رَجَّحَا الْعَرْضَ) عَلَى السَّمَاعِ لَفْظًا، فَرَوَى السُّلَيْمَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: قِرَاءَتُكَ عَلَى الْمُحَدِّثِ أَثْبَتُ وَأَوْكَدُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْكَ ; إِنَّهُ إِذَا قَرَأَ عَلَيْكَ فَإِنَّمَا يَقْرَأُ عَلَى مَا فِي الصَّحِيفَةِ، وَإِذَا قَرَأْتَ عَلَيْهِ فَقَالَ: حَدِّثْ عَنِّي مَا قَرَأْتَ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ. وَعَنْ مُوسَى بْنِ دَاوُدَ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ عَلَيَّ شَغَلْتُ نَفْسِي بِالْإِنْصَاتِ لَكَ، وَإِذَا حَدَّثْتُكَ غَفَلْتُ عَنْكَ. رَوَاهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ ثُمَّ عِيَاضٌ فِي آخَرِينَ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وَغَيْرِهِمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ فَرُّوخَ الْقَطَّانِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعْبَةُ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ الشَّيْخَ لَوْ سَهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لِلطَّالِبِ الرَّدُّ عَلَيْهِ ; إِمَّا لِجَهَالَتِهِ، أَوْ لِهَيْبَةِ الشَّيْخِ، أَوْ لِظَنِّهِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلِاخْتِلَافِ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ. وَبِهَذَا الْأَخِيرِ عَلَّلَ مَالِكٌ إِشَارَتَهُ لِنَافِعٍ الْقَارِئِ بِعَدَمِ الْإِمَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَالَ: الْمِحْرَابُ مَوْضِعُ مِحْنَةٍ، فَإِنْ زَلَلْتَ فِي حَرْفٍ وَأَنْتَ إِمَامٌ حُسِبَتْ قِرَاءَةً وَحُمِلَتْ عَنْكَ - انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لِلْأَخِيرِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاةٍ فَتَرَكَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ أَعْلَمَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ((فَهَلَّا أَذْكَرْتِنِيهَا؟)) قَالَ: كُنْتُ أُرَاهَا نُسِخَتْ» . بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْقَارِئَ ; فَإِنَّهُ لَا هَيْبَةَ لَهُ، وَلَا يُعَدُّ خَطَؤُهُ مَذْهَبًا، أَشَارَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ. وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: الْقِرَاءَةُ عَلَيَّ أَثْبَتُ لِي، [وَأَفْهَمُ لِي] ، مِنْ أَنْ أَتَوَلَّى الْقِرَاءَةَ أَنَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ فَارِسٍ: السَّامِعُ أَرْبَطُ جَأْشًا، وَأَوْعَى قَلْبًا، وَشُغْلُ الْقَلْبِ وَتَوَزُّعُ الْفِكْرِ إِلَى الْقَارِئِ أَسْرَعُ، فَلِذَلِكَ رَجَحَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ لِتَرْجِيحِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى قِرَاءَتِهِ، الْمُسْتَمِعُ غَالِبًا أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ، وَنَفْسُهُ أَخْلَى وَأَنْشَطُ لِذَلِكَ مِنَ الْقَارِئِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَأَحْكَامِهَا. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَنَقَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَالْخَطِيبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فِي الْكِفَايَةِ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي الْحَثِّ عَلَى الطَّلَبِ لِلسُّلَيْمَانِيِّ، وَفِي الْإِلْمَاعِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ قَالَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: قِرَاءَتُكَ عَلَيَّ أَصَحُّ مِنْ قِرَاءَتِي عَلَيْكَ. وَلَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ التَّسْوِيَةُ، وَمَا حَكَاهُ أَبُو خَلِيفَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَامٍ الْجُمَحِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ وَعَلَى بَابِهِ مَنْ يَحْجُبُهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: حَدَّثَكَ نَافِعٌ، حَدَّثَكَ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَكَ فُلَانٌ، وَمَالِكٌ يَقُولُ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَرَغَ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَوِّضْنِي مِمَّا حَدَّثْتَ بِثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ تَقْرَؤُهَا عَلَيَّ، قَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ أَخْرِجُوهُ عَنِّي. فَمُحْتَمِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ، أَوْ تَرْجِيحِ الْعَرْضِ. بَلْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الشَّيْخُ يُحَدِّثُ مِنْ كِتَابٍ، أَمَّا حَيْثُ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَلَا. (وَعَكْسُهُ) أَيْ: تَرْجِيحُ السَّمَاعِ لَفْظًا عَلَى الْعَرْضِ (أَصَحْ) وَأَشْهَرُ (وَجُلُّ) أَيْ: مُعْظَمُ (أَهْلِ الشَّرْقِ) وَخُرَاسَانَ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ (نَحْوَهُ جَنَحْ) ، لَكِنَّ مَحَلَّهُ مَا لَمْ يَعْرِضْ عَارِضٌ يَصِيرُ الْعَرْضُ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ أَعْلَمَ أَوْ أَضَبَطَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، كَأَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ أَوْعَى وَأَيْقَظَ مِنْهُ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ هُوَ. وَحِينَئِذٍ فَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّمَا كَانَ فِيهِ الْأَمْنُ مِنَ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ أَكْثَرَ كَانَ أَعْلَى مَرْتَبَةً. وَأَعْلَاهَا فِيمَا يَظْهَرُ أَنْ يَقْرَأَ الشَّيْخُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَحَدُ السَّامِعِينَ يُقَابِلُ بِأَصْلٍ آخَرَ ; لِيَجْتَمِعَ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْعَرْضُ (وَجَوَّدُوا فِيهِ) أَيْ: وَرَأَى أَهْلُ الْحَدِيثِ الْأَجْوَدَ وَالْأَسْلَمَ فِي أَدَاءِ مَا سَمِعَ كَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: (قَرَأْتُ) عَلَى فُلَانٍ إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 قَرَأَ (أَوْ قُرِئَ) عَلَى فُلَانٍ إِنْ كَانَ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ (مَعْ) بِالسُّكُونِ، تَصْرِيحِهِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَا أَسْمَعُ) لِلْأَمْنِ مِنَ التَّدْلِيسِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا سَائِغٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ. (ثُمَّ عَبِّرِ) أَيُّهَا الْمُحَدِّثُ (بِمَا مَضَى فِي أَوَّلِ) أَيْ: فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ (مُقَيِّدَا) ذَلِكَ بِقَوْلِكَ: (قِرَاءَةً عَلَيْهِ) ، فَقُلْ: ثَنَا فُلَانٌ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَوْ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، أَوْ أَنَا فُلَانٌ بِقِرَاءَتِي أَوْ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، أَوْ أَنْبَأَنَا، أَوْ نَبَّأَنَا فُلَانٌ بِقِرَاءَتِي أَوْ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، [أَوْ قَالَ لَنَا فُلَانٌ بِقِرَاءَتِي أَوْ قِرَاءَةً عَلَيْهِ] ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (حَتَّى) وَلَوْ كُنْتَ (مُنْشِدًا) نَظْمًا لِغَيْرِكَ سَمِعْتَهُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِكَ أَوْ قِرَاءَتِهِ، فَقُلْ: (أَنْشَدَنَا) فُلَانٌ (قِرَاءَةً عَلَيْهِ) ، [أَوْ بِقِرَاءَتِي، أَوْ سَمَاعًا عَلَيْهِ] ، هَذَا مَعَ ظُهُورِهَا فِيمَا يُنْشِدُهُ الشَّيْخُ لَفْظًا (لَا) أَيْ: إِلَّا (سَمِعْتُ) فُلَانًا ; فَإِنَّهُمْ [مَعَ شُمُولِ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَهَا] اسْتَثْنَوْهَا فِي الْعَرْضِ مِمَّا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَصَرَّحَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ بِعَدَمِ جَوَازِهَا (لَكِنْ بَعْضُهُمُ) [كَالسُّفْيَانَيْنِ وَمَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْهُمْ] (قَدْ حَلَّلَا) ذَلِكَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وَاسْتَعْمَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي اقْتِرَاحِهِ: " تَسَامُحٌ خَارِجٌ عَنِ الْوَضْعِ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ "، قَالَ: وَلَا أَرَى جَوَازَهُ لِمَنِ اصْطَلَحَهُ لِنَفْسِهِ. نَعَمْ، إِنْ كَانَ اصْطِلَاحًا عَامًّا فَقَدْ يَقْرُبُ الْأَمْرُ فِيهِ، قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ وَاقِعٌ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَرِّخِينَ فِي التَّرَاجِمِ: سَمِعَ فُلَانًا وَفُلَانًا، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَمَاعِهِ مِنْ لَفْظِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ الْخِلَافَ، وَقَالَ: يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ ; لِأَنَّ " سَمِعْتُ " صَرِيحَةٌ فِي السَّمَاعِ لَفْظًا ; يَعْنِي: كَمَا تَقَدَّمَ. [وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ] ، وَإِلَّا فَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا السِّلَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (الطِّبَاقِ) فَيَقُولُ: سَمِعْتُ بِقِرَاءَتِي، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَرُبَّمَا قَرَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ فُلَانًا قِرَاءَةً عَلَيْهِ. وَنَحْوُهُ صَنِيعُ النَّوَوِيِّ فِي جَمْعِهِمَا لِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهُوَ عَدَمُ اتِّصَافِهِ بِمَا يَمْنَعُ السَّمَاعَ، بَلْ (وَمُطْلَقُ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ) مِمَّنْ أَخَذَ عَرْضًا بِدُونِ تَقْيِيدٍ بِقِرَاءَتِهِ، أَوْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ (مَنَعَهُ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) بْنُ حَنْبَلٍ (ذُو الْمِقْدَارِ) الْجَلِيلِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ (وَ) كَذَا (النَّسَائِيُّ) صَاحِبُ السُّنَنِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَيْضًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ. (وَ) مِمَّنْ مَنَعَ أَيْضًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 (التَّمِيمِيْ) بِالسُّكُونِ بِنِيَّةِ الْوَقْفِ (يَحْيَى وَابْنُ الْمُبَارَكِ) عَبْدُ اللَّهِ (الْحَمِيدُ سَعْيًا) أَيْ: سَعْيُهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. (وَذَهَبَ) الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ (الزُّهْرِيُّ) ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (الْقَطَّانُ) ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَصَاحِبَاهُ (وَمَالِكٌ) ابْنُ أَنَسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ (وَبَعْدَهُ سُفْيَانُ) بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ (وَمُعْظَمُ) أَهْلِ (الْكُوفَةِ وَالْحِجَازِ) مَعَ الْإِمَامِ (الْبُخَارِيِّ) صَاحِبِ الصَّحِيحِ (إِلَى الْجَوَازِ) لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ كَمَا فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ. وَلَفْظُ الزُّهْرِيِّ: مَا أُبَالِي قِرَاءَةً عَلَى الْمُحَدِّثِ أَوْ حَدَّثَنِي، كِلَاهُمَا أَقُولُ فِيهِ: ثَنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ: رَأَيْتُ مَنْ يَقْرَأُ عَلَى الْأَعْرَجِ حَدِيثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: هَذَا حَدِيثُكَ يَا أَبَا دَاوُدَ؟ وَهِيَ كُنْيَةُ الْأَعْرَجِ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ قَرَأْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمَغَارِبَةِ، وَكَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَثَعْلَبٌ وَالطَّحَاوِيُّ، وَلَهُ فِيهِ جُزْءٌ سَمِعْتُهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 بِآيَاتٍ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَالْخَطِيبُ وَابْنُ فَارِسٍ، فِي جُزْءٍ لَهُ سَمِعْتُهُ سَمَّاهُ (مَآخِذُ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ) ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَسَأَلَ رَجُلٌ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيَّ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: سُوءُ الْخُلُقِ. وَكَذَا مِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ التَّسْوِيَةَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، مَعَ الْحِكَايَةِ عَنْهُ أَوَّلًا لِعَدَمِ قَبُولِهِ الْعَرْضَ أَصْلًا، [وَكَأَنَّ ذَاكَ اخْتِيَارُهُ، وَذَا مَشْيًا مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِهِ] (وَابْنُ جُرَيْجٍ) ، هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ، فِيمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ وَكِفَايَتِهِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْحَاشِيَةِ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَكَذَا) أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو (الْأَوْزَاعِيُّ) الشَّامِّيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ (مَعَ) الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، (وَابْنِ وَهْبٍ) عَبْدُ اللَّهِ الْمِصْرِيِّ. (وَالْإِمَامُ) الْأَعْظَمُ نَاصِرُ السُّنَّةِ (الشَّافِعِيُّ) ، مَعَ كَوْنِ الْحَاكِمِ قَدْ أَدْرَجَهُ فِي الْمُسَوِّينَ (وَ) مَعَ (مُسْلِمٍ) صَاحِبِ الصَّحِيحِ (وَجُلِّ) أَيْ: أَكْثَرِ (أَهْلِ الشَّرْقِ قَدْ جَوَّزُوا) إِطْلَاقَ (أَخْبَرَنَا) دُونَ حَدَّثَنَا (لِلْفَرْقِ) بَيْنَهُمَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بَعْضُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ بَعْضُ أَرِقَّائِهِ، بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ أَوْ كَلَامٍ، عُتِقَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مَنْ حَدَّثَنِي بِكَذَا فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ، إِلَّا إِنْ شَافَهَهُ. زَادَ بَعْضُهُمْ: وَالْإِشَارَةُ مِثْلُ الْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ثَنَا يَعْنِي فِي الْعَرْضِ بَعِيدٌ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، بِخِلَافِ أَنَا فَهُوَ صَالِحٌ لِمَا حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ، وَلِمَا قُرِئَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ، فَلَفْظُ الْإِخْبَارِ أَعَمُّ مِنَ التَّحْدِيثِ، فَكُلُّ تَحْدِيثٍ إِخْبَارٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. (وَقَدْ عَزَاهُ) أَيِ: الْقَوْلَ بِالْفَرْقِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَّادٍ التَّمِيمِيُّ الْمِصْرِيُّ الْجَوْهَرِيُّ صَاحِبُ (الْإِنْصَافِ) فِيمَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ثَنَا وَأَنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَكِتَابِ (إِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ) أَيْضًا (لِ) عَصْرِيِّهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ (النَّسَائِيِّ مِنْ غَيْرِ مَا خِلَافِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافِهِ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِمَّا هُوَ أَشْهَرُ مِنْ هَذَا. (وَالْأَكْثَرِينَ) [أَيْ: وَعَزَاهُ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا لِلْأَكْثَرِينَ] مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ لَا يُحْصِيهِمْ أَحَدٌ (وَهُوَ) بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ (الَّذِي اشْتَهَرْ) وَشَاعَ (مُصْطَلَحًا) أَيْ: مِنْ جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ (لِأَهْلِهِ أَهْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الْأَثَرِ) حَيْثُ جَعَلُوا أَنَا عَلَمًا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: أَنَا قَرَأْتُهُ، لَا أَنَّهُ لَفَظَ لِي بِهِ. وَالِاصْطِلَاحُ لَا مُشَاحَحَةَ فِيهِ، بَلْ خَطَّأَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَعِبَارَةُ أَوَّلِهِمَا: لَا يَجُوزُ فِيمَا قَرَأَ أَوْ سَمِعَ أَنْ يَقُولَ: ثَنَا، وَلَا فِيمَا سَمِعَ لَفْظًا أَنْ يَقُولَ: أَنَا ; إِذْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ. لَكِنْ قَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ الِاصْطِلَاحُ مُبَايِنًا لِلُّغَةِ مُبَايَنَةً كُلِّيَّةً، فَهَذَا يُشَاحَحُ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ هُنَا: " وَالِاحْتِجَاجُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فِيهِ عَنَاءٌ وَتَكَلُّفٌ "، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ تُكُلِّفَ لَهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَخْرَجَ مِنَ اللُّغَةِ مَا يَكُونُ وَجْهًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، قَالَ: " وَخَيْرُ مَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ، أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، ثُمَّ خُصِّصَ أَوَّلُهُمَا بِالتَّحْدِيثِ ; لِقُوَّةِ إِشْعَارِهِ بِالنُّطْقِ وَالْمُشَافَهَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ وَهْبٍ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، لَا مُطْلَقًا، [بَلْ بِخُصُوصِ مِصْرَ] (وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِذَا) أَيِ: الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْهَرَوِيُّ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ، فِيمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 عَنْ شَيْخِهِ الْبَرْقَانِيِّ عَنْهُ (أَعَادَا قِرَاءَةَ الصَّحِيحِ) لِلْبُخَارِيِّ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ لَهُ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ عَنِ الْفَرْبَرِيِّ (حَتَّى عَادَا) أَيْ: رَجَعَ (فِي كُلِّ مَتْنٍ) حَالَ كَوْنِهِ (قَائِلًا أَخْبَرَكَا) الْفَرْبَرِيُّ (إِذْ كَانَ قَالَ) لَهُ (أَوَّلًا) لِظَنِّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الْفَرْبَرِيِّ لَفْظًا: (حَدَّثَكَا) الْفَرْبَرِيُّ، بَلْ قَالَ لِشَيْخِهِ الَّذِي قَرَأَ عَلَيْهِ: تَسْمَعُنِي أَقُولُ: حَدَّثَكُمُ الْفَرْبَرِيُّ، فَلَا تُنْكِرُ عَلَيَّ، مَعَ عِلْمِكَ بِأَنَّكَ إِنَّمَا سَمِعْتَهُ مِنْهُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ؟ ! قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ ; أَيْ: أَبْلَغِ مَا يُحْكَى عَمَّنْ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ. (قُلْتُ: وَذَا رَأْيُ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا إِعَادَةَ الْإِسْنَادِ) فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ النُّسْخَةِ مَعَ اتِّحَادِ السَّنَدِ، وَإِلَّا لَكَانَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: أَخْبَرَكُمُ الْفَرْبَرِيُّ بِجَمِيعِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْكِتَابِ، وَلَا تَكْرِيرِ الصِّيغَةِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ (وَهْوَ) أَيِ: اشْتِرَاطُ الْإِعَادَةِ (شَطَطُ) لِمُجَاوَزَتِهِ الْحَدَّ، وَالصَّحِيحُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِخْبَارِ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ. [تَفْرِيعَاتٌ] 398 - وَاخْتَلَفُوا إِنْ أَمْسَكَ الْأَصْلَ رِضَا ... وَالشَّيْخُ لَا يَحْفَظُ مَا قَدْ عُرِضَا 399 - فَبَعْضُ نُظَّارِ الْأُصُولِ يُبْطِلُهْ ... وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يَقْبَلُهْ 400 - وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَإِنْ لَمْ يُعْتَمَدْ ... مُمْسِكُهُ فَذَلِكَ السَّمَاعُ رَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 (تَفْرِيعَاتٌ) ثَمَانِيَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: (وَاخْتَلَفُوا) أَيِ: الْعُلَمَاءُ (إِنْ أَمْسَكَ الْأَصْلَ) مَعَ الْمُرَاعَاةِ لَهُ حِينَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ (رِضَى) فِي الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ لِذَلِكَ (وَالشِّيْخُ) حِينَئِذٍ (لَا يَحْفَظُ مَا قَدْ عَرَضَا) الطَّالِبُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مُمْسِكٌ أَصْلَهُ بِيَدِهِ، هَلْ يَصِحُّ السَّمَاعُ أَمْ لَا؟ (فَبَعْضُ نُظَّارِ الْأُصُولِ) ، وَهُوَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَكَذَا الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ (يُبْطِلُهْ) أَيِ: السَّمَاعَ. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ تَرَدَّدَ فِيهِ، قَالَ: وَأَكْثَرُ مَيْلِهِ إِلَى الْمَنْعِ، بَلْ نَقَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُمَا لَا حُجَّةَ عِنْدَهُمَا، إِلَّا بِمَا رَوَاهُ الرَّاوِي مِنْ حِفْظِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ بِيَدِهِ، فَضْلًا عَنْ يَدِ ثِقَةٍ غَيْرِهِ، لَا يَكْفِي، كَمَا سَيَأْتِي فِي صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ. (وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يَقْبَلُهْ) ، بَلْ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ كَافَّةِ الشُّيُوخِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَنَقَلَ تَصْحِيحَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ (وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ، وَوَهَّنَ السِّلَفِيُّ الْخِلَافَ ; لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا، وَذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الطَّالِبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى شَيْخٍ شَيْئًا مِنْ سَمَاعِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يُرِيَهُ سَمَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ أَمْ يَكْفِيَ إِعْلَامُ الطَّالِبِ الثِّقَةِ الشَّيْخَ أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ سَمَاعُهُ عَلَى فُلَانٍ؟ وَقَالَ: هُمَا سِيَّانِ، عَلَى هَذَا عَهِدْنَا عُلَمَاءَنَا عَنْ آخِرِهِمْ. قَالَ: وَلَمْ يَزَلِ الْحُفَّاظُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يُخَرِّجُونَ لِلشُّيُوخِ مِنَ الْأُصُولِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْفُرُوعُ بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ أُصُولًا، [وَهَلْ كَانَتِ الْأُصُولُ] أَوَّلًا إِلَّا فُرُوعًا؟ ! انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: قُلْ لِمَنْ لَا يَرَى الْمُعَاصِرَ شَيْئًا ... وَيَرَى لِلْأَوَائِلِ التَّقْدِيمَا إِنَّ ذَاكَ الْقَدِيمَ كَانَ جَدِيدًا ... وَسَيَبْقَى هَذَا الْجَدِيدُ قَدِيمَا وَإِذَا اكْتَفَى بِإِعْلَامِ الثِّقَةِ بِأَصْلِ الْمَرْوِيِّ، فَهُنَا كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْقَارِئُ مَعَ كَوْنِهِ مَوْثُوقًا بِهِ دَيِّنًا وَمَعْرِفَةً يَقْرَأُ فِي نَفْسِ الْأَصْلِ صَحَّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، كَإِمْسَاكِ الشَّيْخِ نُسْخَتَهُ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى بَصَرِهِ أَوْ سَمَعِهِ ; حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ التَّشْدِيدِ فِي الرِّوَايَةِ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِمَا حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ مِنْ كِتَابِهِ، بَلْ هُوَ هُنَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا لَوْ كَانَ الْأَصْلُ بِيَدِ سَامِعٍ آخَرَ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَضْبَطُ فِي اتِّبَاعِ مَا حَمَلَهُ الشَّيْخُ، وَالذُّهُولَ فِيهَا أَقَلُّ. هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ الْمُمْسِكُ أَوِ الْقَارِئُ فِيهِ مُعْتَمَدًا رِضًى، وَكَانَ الشَّيْخُ غَيْرَ حَافِظٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (فَإِنْ لَمْ يُعْتَمَدْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (مُمْسِكُهُ) ، أَوِ الْقَارِئُ فِيهِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ (فَذَلِكَ السَّمَاعُ رَدْ) أَيْ: مَرْدُودٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَلِذَا ضَعَّفَ أَئِمَّةُ الصَّنْعَةِ رِوَايَةَ مَنْ سَمِعَ الْمُوَطَّأَ عَلَى مَالِكٍ بِقِرَاءَةِ ابْنِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ ; لِضَعْفِهِ عِنْدَهُمْ، بِحَيْثُ اتُّهِمَ بِتَصَفُّحِ الْأَوْرَاقِ وَمُجَاوَزَتِهَا بِدُونِ قِرَاءَةٍ، إِمَّا فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ، أَوْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ حِينَ الْبَلَاغِ، قَصْدًا لِلْعَجَلَةِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مَالِكٍ. قَالَ عِيَاضٌ: لَكِنَّ عَدَمَ الثِّقَةِ بِقِرَاءَةِ مِثْلِهِ، مَعَ جَوَازِ الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ عَنِ الْحَرْفِ وَشَبَهِهِ وَمَا لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، مُؤَثِّرَةٌ فِي تَصْحِيحِ السَّمَاعِ كَمَا قَالُوهُ. وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَكْثَرُ مِنْهُ عَنِ اللَّيْثِ، قَالُوا: لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 سَمَاعَهُ كَانَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ حَبِيبٍ - انْتَهَى. وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ حَافِظًا فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ أَصْلُهُ بِيَدِهِ، بَلْ أَوْلَى ; لِتَعَاضُدِ ذِهْنَيْ شَخْصَيْنِ عَلَيْهِ. 401 - وَاخْتَلَفُوا إِنْ سَكَتَ الشَّيْخُ وَلَمْ ... يُقِرَّ لَفْظًا فَرَآهُ الْمُعْظَمْ 402 - وَهْوَ الصَّحِيحُ كَافِيًا وَقَدْ مَنَعْ ... بَعْضُ أُولِي الظَّاهِرِ مِنْهُ وَقَطَعْ 403 - بِهِ أَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمُ الرَّازِي ... ثُمَّ أَبُو إِسْحَاقٍ الشِّيرَازِي 404 - كَذَا أَبُو نَصْرٍ وَقَالَ يُعْمَلُ ... بِهِ وَأَلْفَاظُ الْأَدَاءِ الْأُوَلُ الثَّانِي: (وَاخْتَلَفُوا) أَيِ: الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (إِنْ سَكَتَ الشَّيْخُ) الْمُتَيَقِّظُ الْعَارِفُ غَيْرُ الْمُكْرَهِ بَعْدَ قَوْلِ الطَّالِبِ لَهُ: أَخْبَرَكَ فُلَانٌ، أَوْ قُلْتَ: أَنَا فُلَانٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مَعَ إِصْغَائِهِ إِلَيْهِ وَفَهْمِهِ لِمَا يَقُولُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلِإِنْكَارِ الْإِخْبَارِ. (وَلَمْ يُقِرَّ لَفْظًا) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، وَمَا أَشْبَهَهُ، كَأَنْ يُومِئَ بِرَأْسِهِ أَوْ يُشِيرَ بِإِصْبَعِهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَارِئِ أَنَّ سُكُوتَهُ إِجَابَةٌ (فَرَآهُ الْمُعْظَمْ) مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالنُّظَّارِ (وَهْوَ الصَّحِيحُ كَافِيًا) فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ لَازِمٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ ذِي دِينٍ إِقْرَارٌ عَلَى الْخَطَأِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْرِيرِ بَعْدُ. وَلَعَلَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ مَالِكٍ ; يَعْنِي كَمَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَعَنْ أَمْثَالِهِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلُّزُومِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَسُكُوتُ الشَّيْخِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ تَصْرِيحِهِ بِتَصْدِيقِ الْقَارِئِ اكْتِفَاءً بِالْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ. قُلْتُ: وَأَيْضًا فَسُكُوتُهُ خُصُوصًا بَعْدَ قَوْلِهِ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ، فِيمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، مُوهِمٌ لِلصِّحَّةِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْعُدُولِ ; لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْغِشِّ وَعَدَمِ النُّصْحِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اسْتُثْنِيَ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ; حَيْثُ قَالَ: " لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ ". وَحِينَئِذٍ فَيُؤَدِّي بِأَلْفَاظِ الْعَرْضِ كُلِّهَا حَتَّى حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي، كَمَا حَكَى تَجْوِيزَهُ فِيهِمَا عَنِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ الْآمِدِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، بَلْ حَكَى عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْأَرْبَعَةِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: إِذَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْكَ بِحَدِيثٍ، يَعْنِي بِحَضْرَةِ الْمُحَدِّثِ عَنْهُ وَسُكُوتِهِ، ثُمَّ حَدَّثْتُ بِهِ عَنْكَ كُنْتُ صَادِقًا، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ عَلَى طَالِبٍ التَّصْرِيحَ مِنْهُ بِالْإِقْرَارِ، وَقَالَ: أَلَمْ أُفَرِّغْ لَكُمْ نَفْسِي، وَسَمِعْتُ عَرْضَكُمْ، وَأَقَمْتُ سَقْطَهُ وَزَلَلَهُ. وَبِهَذَا يَتَأَيَّدُ التَّأْوِيلُ الْمَاضِي فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ صَنِيعِهِ (وَ) لَكِنْ (قَدْ مَنَعْ بَعْضُ أُولِي الظَّاهِرِ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِسُكُوتِ الشَّيْخِ فِي الرِّوَايَةِ، فَاشْتَرَطُوا إِقْرَارَهُ بِذَلِكَ نُطْقًا، وَالْبَاقُونَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ إِمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 سَاكِتُونَ أَوْ مَعَ الْأَوَّلِينَ، بَلْ نَقَلَهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ قَالَ: زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَى شَيْخٍ حَدِيثًا لَمْ تَجُزْ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ الشَّيْخُ بِهِ - انْتَهَى. وَكَذَا حَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَارِقَةِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَهِدْتُ مَشَايِخَنَا لَا يُصَحِّحُونَ سَمَاعَ مَنْ سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْحَافِظِ فِي الْمَرَضِ ; فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ إِلَّا بِ " لَا "، فَكَانَ إِذَا قِيلَ لَهُ: كَمَا قَرَأْنَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: لَا لَا لَا، وَيُحَرِّكُ رَأْسَهُ بِ " نَعَمْ ". وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ كَانَ مَا يَقْدِرُ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: لَمْ يَصِحَّ لِي عَنْهُ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ ; فَإِنِّي قَرَأْتُهُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، إِلَى أَنْ أَشَارَ بِعَيْنَيْهِ إِشَارَةً فَهِمْنَاهَا عَنْهُ أَنْ نَعَمْ. (وَقَطَعْ بِهِ) أَيْ: بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (أَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمُ الرَّازِي ثُمَّ) الشَّيْخُ (أَبُو إِسْحَاقٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ (الشِّيرَازِي) ، وَ (كَذَا أَبُو نَصْرٍ) هُوَ ابْنُ الصَّبَّاغِ (وَ) لَكِنَّهُ (قَالَ) : إِنَّهُ (يُعْمَلُ بِهِ) أَيْ: بِالْمَرْوِيِّ، سَوَاءٌ السَّامِعُ أَوِ الْقَارِئُ أَوْ مَنْ حَمَلَهُ عَنْهُ. وَلَمْ يَمْنَعِ الرِّوَايَةَ مَعَ الْإِفْصَاحِ بِالْوَاقِعِ ; حَيْثُ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: (وَأَلْفَاظُ الْأَدَاءِ) لِمَنْ سَمِعَ أَوْ قَرَأَ كَذَلِكَ، وَأَرْدَأُ رِوَايَتِهِ هِيَ الْأَلْفَاظُ (الْأُوَلُ) ، خَاصَّةً الْمُنْبِئَةَ عَنِ الْحَالِ الْوَاقِعِ، الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، وَهِيَ: قَرَأْتُ عَلَيْهِ، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، لَا جَمِيعَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 فَلَا يَقُلْ: حَدَّثَنِي، وَلَا أَخْبَرَنِي. وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْغَزَّالِيُّ وَالْآمِدِيُّ، وَحَكَاهُ عَنِ الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ (الْمَحْصُولِ) بِأَنَّهُ لَا يَقُولُهُمَا، وَكَذَا سَمِعْتُ، لَوْ أَشَارَ بِرَأْسِهِ أَوْ إِصْبَعِهِ لِلْإِقْرَارِ بِهِ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; يَعْنِي: فَإِنَّ الْإِشَارَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ، فَتُجْرَى عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَتَصْرِيحُ الْمُحَدِّثِ بِالْإِقْرَارِ مُسْتَحَبٌّ ; فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَوْ قَالَ لَهُ الْقَارِئُ عِنْدَ الْفَرَاغِ: كَمَا قَرَأْتُ عَلَيْكَ، فَأَقَرَّ بِهِ، كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا - انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ الِاعْتِمَادُ فِي سَمَاعِهِ عَلَى الْمُفِيدِ فَالْحُكْمُ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ كَذَلِكَ. 405 - وَالْحَاكِمُ اخْتَارَ الَّذِي قَدْ عَهِدَا ... عَلَيْهِ أَكْثَرَ الشُّيُوخِ فِي الْأَدَا 406 - " حَدَّثَنِي " فِي اللَّفْظِ حَيْثُ انْفَرَدَا ... وَاجْمَعْ ضَمِيرَهُ إِذَا تَعَدَّدَا 407 - وَالْعَرْضُ إِنْ تَسْمَعْ فَقُلْ " أَخْبَرَنَا " ... أَوْ قَارِئًا " أَخْبَرَنِي " وَاسْتُحْسِنَا 408 - وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ رُوِيَا ... وَلَيْسَ بِالْوَاجِبِ لَكِنْ رُضِيَا 409 - وَالشَّكُّ فِي الْأَخْذِ أَكَانَ وَحْدَهْ ... أَوْ مَعْ سِوَاهُ فَاعْتِبَارُ الْوَحْدَهْ 410 - مُحْتَمَلٌ لَكِنْ رَأَى الْقَطَّانُ ... الْجَمْعَ فِيمَا أَوْهَمَ الْإِنْسَانُ 411 - فِي شَيْخِهِ مَا قَالَ وَالْوَحْدَةَ قَدْ ... اخْتَارَ فِي ذَا الْبَيْهَقِيُّ وَاعْتَمَدْ الثَّالِثُ: فِي افْتِرَاقِ الْحَالِ فِي الصِّيغَةِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ أَوْ مَنْ يَكُونُ فِي جَمَاعَةٍ (وَالْحَاكِمُ اخْتَارَ) الْأَمْرَ (الَّذِي قَدْ عَهِدَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ الشُّيُوخِ) لَهُ، بَلْ وَأَئِمَّةِ عَصْرِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 (فِي) صِيَغِ (الْأَدَا) ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: (حَدَّثَنِي) فُلَانٌ بِالْإِفْرَادِ (فِي) الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ مِنْ شَيْخِهِ بِصَرِيحِ (اللَّفْظِ حَيْثُ انْفَرَدَا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَقْتَ السَّمَاعِ غَيْرُهُ (وَاجْمَعْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (ضَمِيرَهُ) أَيِ: التَّحْدِيثِ، فَقُلْ: ثَنَا (إِذَا تَعَدَّدَا) بِأَنْ كَانَ مَعَكَ وَقْتَ السَّمَاعِ غَيْرُكَ. (وَ) كَذَا اخْتَارَ فِي الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ عَنْ شَيْخِكَ فِي الْعَرْضِ أَنَّكَ (إِنْ تَسْمَعْ) بِقِرَاءَةِ غَيْرِكَ (فَقُلْ: أَخْبَرَنَا) بِالْجَمْعِ، أَوْ إِنْ تَكُنْ (قَارِئًا) فَقُلْ: (أَخْبَرَنِي) بِالْإِفْرَادِ (وَاسْتُحْسِنَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ فَاعِلِهِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ حَسَنٌ رَائِقٌ. (وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ) ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (رُوِيَا) كَمَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي الْعِلَلِ، وَالْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: مَا قُلْتُ: ثَنَا، فَهُوَ مَا سَمِعْتُ مَعَ النَّاسِ، وَمَا قُلْتُ: حَدَّثَنِي، فَهُوَ مَا سَمِعْتُ وَحْدِي، وَمَا قُلْتُ: أَنَا، فَهُوَ مَا قُرِئَ عَلَى الْعَالِمِ وَأَنَا شَاهِدٌ، وَمَا قُلْتُ: أَخْبَرَنِي، فَهُوَ مَا قَرَأْتُ عَلَى الْعَالِمِ. فَاتَّفَقَ ابْنُ وَهْبٍ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُمُ الْحَاكِمُ فِي كَوْنِ الْقَارِئِ - كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ حَسْبَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ فِي النُّكَتِ - يَقُولُ: أَخْبَرَنِي، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ فِي الْمُنْفَرِدِ، وَمُحْتَمِلٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. لَكِنْ قَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الِاقْتِرَاحِ: إِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 الْقَارِئَ إِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ يَقُولُ: أَنَا، بِالْجَمْعِ، فَسَوَّى بَيْنَ مَسْأَلَتَيِ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ، يَعْنِي: فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ جَمَاعَةٌ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ: ثَنَا. وَفِي التَّسْوِيَةِ نَظَرٌ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ، عَلَى أَنَّ السِّلَفِيَّ قَدْ كَانَ يَأْتِي بِالْجَمْعِ فِيمَا يَقْرَؤُهُ وَلَمْ يَسْمَعْهُ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَيَكْتُبُ أَوَّلَ الْجُزْءِ: أَنَا فُلَانٌ بِقِرَاءَتِي، ثُمَّ يَكْتُبُ الطَّبَقَةَ بِآخِرِهِ، وَلَا يُثْبِتُ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَقُلْ: حَدَّثَنِي، أَوْ فِي مَلَأٍ فَقُلْ: ثَنَا، أَوْ قَرَأْتَ فَقُلْ: قَرَأْتُ عَلَيْهِ، أَوْ سَمِعْتَ فَقُلْ: قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ. وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْحَاجِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّحَرِّي. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ تَارَةً: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، وَتَارَةً: ثَنَا، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَكُونُ وَحْدِي فَأَقُولُ: حَدَّثَنِي، وَأَكُونُ مَعَ غَيْرِي فَأَقُولُ: ثَنَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ. وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، أَوْ أَخْبَرَ الْقَوْمَ وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَوَجَدْتُ سَوْطًا، وَذَكَرَ حَدِيثًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي اللُّقَطَةِ مِنْ صَحِيحِهِ. (وَلَيْسَ) مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ (بِالْوَاجِبِ) عِنْدَهُمْ، وَ (لَكِنْ رُضِيَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ; أَيِ: اسْتُحِبَّ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ ; لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ أَحْوَالِ التَّحَمُّلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُحَدِّثُ الرَّجُلَ وَحْدَهُ: أَيَقُولُ: ثَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، جَائِزٌ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، " فَعَلْنَا " وَإِنَّمَا هُوَ وَحْدَهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اصْطَلَحُوا لِلْمُنْفَرِدِ: حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ، وَإِنْ جَازَ فِيهِ لُغَةً: " ثَنَا " بِالْجَمْعِ. وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: إِذَا كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ عَلَى السَّمَاعِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي وَثَنَا وَسَمِعْتُ وَأَخْبَرَنِي وَأَنَا، فِي آخَرِينَ مُصَرِّحِينَ بِأَنَّهُ جَائِزٌ لِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ أَنْ يَقُولَ: نَا وَثَنَا، وَلِمَنْ سَمِعَ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي وَنَحْوَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ حَدَّثَهُ وَحَدَّثَ غَيْرَهُ. عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْخَطِيبِ مَا تَقَدَّمَ لِكَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُمُ الْجَمِيعُ، يُنَازِعُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةً ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ الْمُحَدِّثُ جَازَ أَنْ يُقَالَ: ثَنَا، وَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: ثَنَا وَلَا أَنَا، وَإِنْ حَدَّثَ جَمَاعَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: حَدَّثَنِي، أَوْ حَدَّثَ بِلَفْظٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَشْدِيدٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ الْخَطِيبُ خِلَافًا. ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِحْبَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ فِيمَا إِذَا تَحَقَّقَ حِينَ التَّحَمُّلِ صُورَةُ الْحَالِ (وَ) أَمَّا إِنْ وَقَعَ (الشَّكُّ فِي الْأَخْذِ) وَالتَّحَمُّلِ ; أَيْ: مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ (أَكَانَ وَحْدَهْ) ، فَيَأْتِي بِحَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ (أَوْ) كَانَ (مَعْ) بِالْإِسْكَانِ (سِوَاهُ) ، فَيَأْتِي بِالْجَمْعِ (فَاعْتِبَارُ الْوَحْدَهْ مُحْتَمَلٌ) أَيِ: الْقَوْلُ بِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ شَكَّ فِي تَحَمُّلِهِ أَهُوَ مِنْ قَبِيلِ " أَنَا " ; لِكَوْنِهِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ، أَوْ أَخْبَرَنِي ; لِكَوْنِهِ بِقِرَاءَتِهِ ; حَيْثُ مَشَيْنَا عَلَى اخْتِيَارِ الْحَاكِمِ وَمَنْ مَعَهُ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ: إِذَا قَرَأَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 يَأْتِي بِالْجَمْعِ ; لِأَنَّ سَمَاعَ نَفْسِهِ مُتَحَقِّقٌ، وَقِرَاءَتَهُ شَاكٌّ فِيهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ، وَإِنْ سَوَّى ابْنُ الصَّلَاحِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْإِفْرَادِ. عَلَى أَنَّ الْخَطِيبَ حَكَى فِي الْكِفَايَةِ عَنِ الْبَرْقَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: قَرَأْنَا، وَهُوَ - كَمَا قَالَ الشَّارِحُ - حَسَنٌ ; فَإِنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ يَقْتَضِي قِرَاءَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَجَمْعَهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى قِرَاءَةِ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ ; فَإِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي قَرَأَ غَيْرُهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْنَا، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ. وَقَالَ النُّفَيْلِيُّ: قَرَأْنَا عَلَى مَالِكٍ، مَعَ كَوْنِهِ إِنَّمَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ (لَكِنْ رَأَى) يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (الْقَطَّانُ) فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ (الْجَمْعَ) بِحَدَّثَنَا فِي مَسْأَلَةٍ تُشْبِهُ الْأُولَى، وَهِيَ (فِيمَا) إِذَا (أَوْهَمَ) أَيْ: وَهِمَ بِمَعْنَى شَكَّ (الْإِنْسَانُ فِي) لَفْظِ (شَيْخِهِ مَا) الَّذِي (قَالَ) : حَدَّثَنِي أَوْ حَدَّثَنَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمُقْتَضَاهُ الْجَمْعُ هُنَاكَ أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدِي هُنَا يَتَوَجَّهُ بِأَنَّ حَدَّثَنِي أَكْمَلُ مَرْتَبَةً، فَيُقْتَصَرُ فِي حَالَةِ الشَّكِّ عَلَى النَّاقِصِ احْتِيَاطًا ; لِأَنَّ عَدَمَ الزَّائِدِ هُوَ الْأَصْلُ، قَالَ: وَهَذَا لَطِيفٌ (وَالْوَحْدَةَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ ; أَيْ: صِيغَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 حَدَّثَنِي (قَدِ اخْتَارَ فِي ذَا) الْفَرْعِ (الْبَيْهَقِيُّ) بَعْدَ حِكَايَتِهِ قَوْلَ الْقَطَّانِ (وَاعْتَمَدْ) مَا اخْتَارَهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَا يُشَكُّ فِي وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي الزَّائِدِ، فَيُطْرَحُ الشَّكُّ وَيُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ. انْتَهَى، وَهُوَ الظَّاهِرُ. 412 - وَقَالَ أَحْمَدُ اتَّبِعْ لَفْظًا وَرَدْ ... لِلشَّيْخِ فِي أَدَائِهِ وَلَا تَعَدْ 413 - وَمَنَعَ الْإِبْدَالَ فِيمَا صُنِّفَا ... الشَّيْخُ لَكِنْ حَيْثُ رَاوٍ عُرِفَا 414 - بِأَنَّهُ سَوَّى فَفِيهِ مَا جَرَى ... فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى وَمَعْ ذَا فَيَرَى 415 - بِأَنَّ ذَا فِيمَا رَوَى ذُو الطَّلَبِ ... بِاللَّفْظِ لَا مَا وَضَعُوا فِي الْكُتُبِ الرَّابِعُ: فِي التَّقَيُّدِ بِلَفْظِ الشَّيْخِ (وَقَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: (اتَّبِعْ) أَيُّهَا الْمُحَدِّثُ (لَفْظًا وَرَدْ لِلشَّيْخِ فِي أَدَائِهِ) لَكَ مِنْ: حَدَّثَنَا، وَحَدَّثَنِي، وَسَمِعْتُ، وَأَنَا، وَنَحْوِهَا (وَلَا تَعَدْ) أَيْ: وَلَا تَتَجَاوَزْ لَفْظَهُ وَتُبَدِّلْهُ بِغَيْرِهِ، وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ فِي مُسْنَدِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَانِيفِهِ، فَيَقُولُ مَثَلًا: ثَنَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، كِلَاهُمَا عَنْ فُلَانٍ، قَالَ أَوَّلُهُمَا: ثَنَا، وَقَالَ ثَانِيهُمَا: أَنَا. وَفَعَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا. (وَ) كَذَا (مَنَعَ الْإِبْدَالَ) بِحَدَّثَنَا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ أَنَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَنَحْوَهُ (فِيمَا) يَقَعُ فِي الْكُتُبِ الْمُبَوَّبَةِ وَالْمُسْنَدَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا (صُنِّفَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الرَّاوِي الْقَائِلِ عَدَمَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، يَعْنِي: فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَوَّلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ. وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَ عِلْمِ عَدَمِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ. (لَكِنْ) بِإِسْكَانِ النُّونِ (حَيْثُ رَاوٍ عُرِفَا) بِالْبِنَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 لِلْمَفْعُولِ (بِأَنَّهُ سَوَّى) بَيْنَهُمَا (فَ) هَذَا خَاصَّةً يَجْرِي (فِيهِ) كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ (مَا جَرَى) مِنَ الْخِلَافِ (فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى وَمَعْ) بِالْإِسْكَانِ (ذَا) أَيْ: إِجْرَاءِ الْخِلَافِ (فَيَرَى) ابْنُ الصَّلَاحِ (بِأَنَّ ذَا) أَيِ: الْخِلَافَ (فِيمَا رَوَى ذُو الطَّلَبِ) مِمَّا تَحَمَّلَهُ (بِاللَّفْظِ) مِنْ شَيْخِهِ خَاصَّةً (لَا) فِي (مَا وَضَعُوا) أَيْ: أَصْحَابُ التَّصَانِيفِ (فِي الْكُتُبِ) الْمُصَنَّفَةِ مُسْنَدِهَا وَمُبَوَّبِهَا، يَعْنِي: فَذَاكَ يَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهُ جَزْمًا، سَوَاءٌ رُوِّينَاهُ فِي جُمْلَةِ التَّصَانِيفِ، أَوْ نَقَلْنَاهُ مِنْهَا إِلَى تَخَارِيجِنَا وَأَجْزَائِنَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مَعَ بَيَانِ مَا نُسِبَ لِابْنِ الصَّلَاحِ فِي اقْتِضَاءِ التَّجْوِيزِ فِيمَا نَنْقُلُهُ فِي تَخَارِيجِنَا، وَمَا قِيلَ فِي أَنَّهُ نُقِلَ مِنَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْمَعْنَى. عَلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي الدَّمِ قَدْ مَنَعَ الْفَرْقَ فِي الصُّورَتَيْنِ بَيْنَ مَا يَقَعُ فِي التَّصَانِيفِ، وَمَا حَصَلَ التَّلَفُّظُ بِهِ خَارِجَهَا أَيْضًا، بَلْ قَالَ أَيْضًا فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّهُ إِذَا جَازَتِ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ فَفِي صِيَغِ الرِّوَايَةِ فِي صُورَةِ عِلْمِ تَسْوِيَةِ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا مِنْ بَابِ أَوْلَى. 416 - وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ ... مِنْ نَاسِخٍ فَقَالَ بِامْتِنَاعِ 417 - الْإِسْفَرَايِينِيُّ مَعَ الْحَرْبِيِّ ... وَابْنِ عَدِيٍّ وَعَنِ الصِّبْغِيِّ 418 - لَا تَرْوِ تَحْدِيثًا وَإِخْبَارًا قُلِ ... حَضَرْتُ وَالرَّازِيُّ وَهْوَ الْحَنْظَلِي 419 - وَابْنُ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا كَتَبْ ... وَجَوَّزَ الْحَمَّالُ وَالشَّيْخُ ذَهَبْ 420 - بِأَنَّ خَيْرًا مِنْهُ أَنْ يُفَصِّلَا ... فَحَيْثُ فَهْمٍ صَحَّ أَوْ لَا بَطَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 421 - كَمَا جَرَى لِلدَّارَقُطْنِيِّ حَيْثُ عَدْ إِمْلَاءَ إِسْمَاعِيلَ عَدًّا وَسَرَدْ ... 422 - وَذَاكَ يَجْرِي فِي الْكَلَامِ أَوْ إِذَا هَيْنَمَ حَتَّى خَفِيَ الْبَعْضُ كَذَا ... 423 - إِنْ بَعُدَ السَّامِعُ ثُمَّ يُحْتَمَلْ فِي الظَّاهِرِ الْكِلْمَتَانِ أَوْ أَقَلْ الْخَامِسُ: فِي النَّسْخِ وَالْكَلِمِ وَغَيْرِهِمَا وَقْتَ السَّمَاعِ أَوِ الْإِسْمَاعِ (وَاخْتَلَفُوا) أَيِ: الْعُلَمَاءُ (فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ مِنْ نَاسِخٍ) يَنْسَخُ حِينَ الْقِرَاءَةِ، مُسْمِعًا كَانَ أَوْ سَامِعًا (فَقَالَ بِامْتِنَاعِ) ذَلِكَ مُطْلَقًا فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُسْتَاذُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ (الْإِسْفَرَايِينِيُّ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ التَّحْتَانِيَّةِ، إِذْ سُئِلَ عَنْهُمَا مَعًا (مَعَ) أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (الْحَرْبِيِّ وَ) أَبِي أَحْمَدَ (بْنِ عَدِيٍّ) فِي آخَرِينَ ; لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّسْخِ مُخِلٌّ بِالسَّمَاعِ. وَعِبَارَةُ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: فَإِنَّهُ إِذَا يَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ الِاسْتِمَاعِ، حَتَّى إِذَا اسْتُعِيدَ مِنْهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ - انْتَهَى. وَقَدْ قِيلَ السَّمْعُ لِلْعَيْنِ، وَالْإِصْغَاءُ لِلْأُذُنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُسَمَّى سَامِعًا، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: جَلِيسُ الْعَالِمِ. حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ (وَ) نَحْوُهُ مَا جَاءَ (عَنْ) أَحَدِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ بِخُرَاسَانَ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ (الصِّبْغِيِّ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ مُعْجَمَةٌ نِسْبَةً لِأَبِيهِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ يَبِيعُ الصِّبْغَ، إِنَّهُ قَالَ: (لَا تَرْوِ) أَيُّهَا الْمُحَدِّثُ مَا سَمِعْتَهُ عَلَى شَيْخِكَ فِي حَالِ نَسْخِهِ، أَوْ أَنْتَ تَنْسَخُ (تَحْدِيثًا وَ) لَا (إِخْبَارًا) يَعْنِي: لَا تَقُلْ: ثَنَا وَلَا أَنَا مَعَ إِطْلَاقِهِمَا، بَلْ (قُلْ حَضَرْتُ) ، يَعْنِي: كَمَنْ أَدَّى مَا تَحَمَّلَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَبْلَ فَهْمِ الْخِطَابِ وَرَدِّ الْجَوَابِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَعْلَى. (وَ) لَكِنْ أَبُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ (الرَّازِيُّ وَهْوَ الْحَنْظَلِيُّ) نِسْبَةً لِدَرْبِ حَنْظَلَةَ بِالرَّيِّ، وَكَفَى بِهِ حِفْظًا وَإِتِقْانًا (وَابْنُ الْمُبَارَكِ) عَبْدُ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ، وَكَفَى بِهِ دِينًا وَنُسُكًا وَفَضْلًا (كِلَاهُمَا) قَدْ (كَتَبْ) . أَمَّا أَوَّلُهُمَا فَفِي حَالِ تَحَمُّلِهِ عِنْدَ كُلِّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْمُلَقَّبِ عَارِمٍ وَعُمَرَ بْنِ مَرْزُوقٍ. وَأَمَّا ثَانِيهُمَا، فَفِي حَالِ تَحْدِيثِهِ، وَذَلِكَ مِنْهُمَا مُقْتَضٍ لِلْجَوَازِ، وَمُشْعِرٌ بِعَدَمِ التَّنْصِيصِ فِي الْأَدَاءِ عَلَى الْحُضُورِ (وَ) كَذَا (جَوَّزَ) مُوسَى بْنُ هَارُونَ (الْحَمَّالُ) بِالْمُهْمَلَةِ ذَلِكَ، بَلْ عَزَى صِحَّةَ السَّمَاعِ كَذَلِكَ لِلْجُمْهُورِ سَعْدُ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيُّ. (وَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (ذَهَبْ) إِلَى الْقَوْلِ (بِأَنَّ خَيْرًا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ أَوْ بِالْمَنْعِ (أَنْ يُفَصِّلَا فَحَيْثُ) صَحِبَ الْكِتَابَةَ (فَهْمٌ) يَعْنِي: تَمْيِيزُ اللَّفْظِ الْمَقْرُوءِ فَضْلًا عَنْ مَعْنَاهُ (صَحَّ) السَّمَاعُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ (أَوْ لَا) يَصْحَبُهَا ذَلِكَ، وَصَارَ كَأَنَّهُ صَوْتُ غَفْلٍ (بَطَلَا) هَذَا السَّمَاعُ ; يَعْنِي: وَصَارَ حُضُورًا. وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ سَعْدُ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَمْنَعِ الْكِتَابَةُ عَنْ فَهْمِ مَا قُرِئَ، فَالسَّمَاعُ صَحِيحٌ - انْتَهَى. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا، فَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا يَنْسَخُ فِي مَجْلِسِ سَمَاعِهِ ثُمَّ إِسْمَاعِهِ، بَلْ وَيَكْتُبُ عَلَى الْفَتَاوَى وَيُصَنِّفُ، وَيَرُدُّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا مُفِيدًا. وَكَذَا بَلَغَنَا عَنِ الْحَافِظِ الْمِزِّيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ (كَمَا جَرَى لِلدَّارَقُطْنِيِّ) ، نِسْبَةً لِدَارِ الْقُطْنِ بِبَغْدَادَ ; إِذْ حَضَرَ فِي حَدَاثَتِهِ إِمْلَاءَ أَبِي عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فَرَآهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ يَنْسَخُ، فَقَالَ لَهُ: لَا يَصِحُّ سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ خِلَافُ فَهْمِكَ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ (حَيْثُ عَدَّ إِمْلَاءً إِسْمَاعِيلَ) الْمُشَارَ إِلَيْهِ (عَدًّا) ، وَإِنَّ جُمْلَةَ مَا أَمْلَاهُ فِي ذَاكَ الْمَجْلِسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا بَعْدَ أَنْ سَأَلَ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِ: أَتَعْلَمُ كَمْ أَمْلَى حَدِيثًا؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَهَا إِجْمَالًا بَلْ سَاقَهَا عَلَى الْوَلَاءِ إِسْنَادًا وَمَتْنًا (وَسَرَدْ) ذَلِكَ أَحْسَنَ سَرْدٍ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُ. رَوَاهَا الْخَطِيبُ فِي تَأْرِيخِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَزْهَرِيُّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ، فَذَكَرَ مَعْنَاهَا. وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا يَحْكِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقْرِنُهَا بِمَا وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ ; حَيْثُ قُلِبَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ، وَبِتَعَجُّبِ شَيْخِنَا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّعَجُّبِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا إِذَا وَقَعَ النَّسْخُ حَالَ التَّحَمُّلِ أَوِ الْأَدَاءِ، فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِيهِمَا مَعًا كَانَ أَشَدَّ، وَوَرَاءَ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ ; فَإِنَّ الْمَرْءَ لَوْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنَ الْحِذْقِ وَالْفَهْمِ لَابُدَّ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَسْمُوعِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْأَكْثَرِ، فَمَنْ لَاحَظَ الِاحْتِيَاطَ قَالَ: لَيْسَ بِسَامِعٍ، وَمَنْ لَاحَظَ التَّسَامُحَ وَالْغَلَبَةَ عَدَّهُ سَامِعًا، وَرَأَى أَنَّ النَّسْخَ إِنْ حَجَبَ فَهُوَ حِجَابٌ رَقِيقٌ - انْتَهَى. [وَفِي تَسْمِيَتِهِ لَفْظِيًّا مَعَ ذَلِكَ تَوَقُّفٌ] . وَمَا قِيلَ فِي أَنَّ السَّمْعَ لِلْعَيْنِ قَدْ يَخْدِشُهُ مَا رُوِّينَاهُ فِي خَامِسِ الْمُحَامِلِيَّاتِ رِوَايَةَ ابْنِ مَهْدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ كُلْثُومٍ الْخُزَاعِيِّ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تُفَلِّي رَأْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْ زَيْنَبُ فَرَفَعَتْ طَرْفَهَا إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَقْبِلِي عَلَى فَلَّايَتِكِ ; فَإِنَّكِ لَا تُكَلِّمِينَهَا بِعَيْنِكِ» )) . وَيَلْتَحِقُ بِالنَّسْخِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ يُصَلِّي فِي حَالِ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا يُشِيرُ بِرَدِّ مَا يُخْطِئُ فِيهِ الْقَارِئُ، كَمَا اتُّفِقَ لَهُ حَيْثُ قَرَأَ الْقَارِئُ عَلَيْهِ مَرَّةً: يُسَيْرُ بْنُ ذُعْلُوقٍ، بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: {ن وَالْقَلَمِ} [هُودٍ: 87] . وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيهِ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّالَقَانِيُّ رُبَّمَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ يُصَلِّي، وَيُصْغِي إِلَى مَا يَقُولُ الْقَارِئُ، وَيُنَبِّهُهُ إِذَا زَلَّ، يَعْنِي بِالْإِشَارَةِ. وَفِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْإِسْتِرْابَاذِيِّ مِنْ تَأْرِيخِ سَمَرْقَنْدَ لِلنَّسَفِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ عَامَّةَ النَّهَارِ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا، لَا يَمْنَعُهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، بَلْ كَانَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْكَعْبَةِ كَمَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 الْقُوَّةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَجِمَاعِ النِّسْوَانِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ الدَّعْوَتَانِ. وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ قِرَاءَةُ قَارِئَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي آنٍ وَاحِدٍ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُقْرِئِينَ تَرَخَّصَ فِي إِقْرَاءِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا إِلَّا الشَّيْخَ عَلَمَ الدِّينِ السَّخَاوِيَّ. وَفِي النَّفْسِ مِنْ صِحَّةِ كَمَالِ الرِّوَايَةِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ شَيْءٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، قَالَ: وَمَا هَذَا فِي قُوَّةِ الْبَشَرِ، بَلْ فِي قُدْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " سُبْحَانَ مَنْ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ "، انْتَهَى. وَمِمَّنْ وَصَفَ الْعِلْمَ بِذَلِكَ ابْنُ خِلِّكَانَ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَآهُ مِرَارًا رَاكِبًا إِلَى الْجَبَلِ، وَحَوْلَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي أَمَاكِنَ مِنَ الْقُرْآنِ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرُدُّ عَلَى الْجَمِيعِ. وَلَمَّا تَرْجَمَ التَّقِيُّ الْفَاسِيُّ فِي تَأْرِيخِ مَكَّةَ الشَّمْسَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ الْحَلَبِيَّ، وَالِدَ بَعْضِ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ، قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ: وَكَانَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ يَقْرَأُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُقْرَأُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيَكْتُبُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيُصِيبُ فِيمَا يَقْرَؤُهُ وَيَكْتُبُهُ وَفِي الرَّدِّ، بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 بَلَغَنِي قَالَ: وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ، وَعِيبَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْمُقْرِئِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ عَنَى السَّخَاوِيَّ، وَكَذَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ شُوهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْحَلِبِيِّ مِرَارًا - انْتَهَى. وَفِيهِ تَسَاهُلٌ وَتَفْرِيطٌ، وَمُقَابِلُهُ فِي التَّشَدُّدِ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ مَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصُّورِيِّ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ طَلَبِهِ وَكُتُبِهِ صَعْبَ الْمَذْهَبِ فِيمَا يَسْمَعُهُ، رُبَّمَا كَرَّرَ قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ عَلَى شَيْخِهِ مَرَّاتٍ (وَذَاكَ) أَيِ: التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ (يَجْرِي فِي الْكَلَامِ) مِنْ كُلٍّ مِنَ السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ فِي وَقْتِ السَّمَاعِ، وَكَذَا فِي إِفْرَاطِ الْقَارِئِ فِي الْإِسْرَاعِ (أَوْ إِذَا هَيْنَمَ) أَيْ: أَخْفَى صَوْتَهُ (حَتَّى خَفِيَ) فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (الْبَعْضُ) ، وَ (كَذَا إِنْ بَعُدَ السَّامِعُ) عَنِ الْقَارِئِ، أَوْ كَانَ فِي سَمْعِهِ أَوِ الْمُسْمِعِ بَعْضُ ثِقَلٍ، أَوْ عَرَضَ نُعَاسٌ خَفِيفٌ بِحَيْثُ يَفُوتُ سَمَاعُ الْبَعْضِ (ثُمَّ) مَعَ اعْتِمَادِ التَّفْصِيلِ فِي كُلِّ مَا سَلَفَ (يُحْتَمَلْ) يَعْنِي: يُغْتَفَرْ (فِي الظَّاهِرِ) [مِنْ صَنِيعِهِمْ فِي الْمَسْمُوعِ] (الْكَلِمَتَانِ) [إِذَا فَاتَتَا] (أَوْ أَقَلْ) كَالْكَلِمَةِ. وَقَدْ سُئِلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَنْ كَلَامِ السَّامِعِ أَوِ الْمُسْمِعِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ السَّرِيعَةِ وَالْمُدْغَمَةِ الَّتِي تَشِذُّ مِنْهَا الْحَرْفُ وَالْحَرْفَانِ، وَالْإِغْفَاءِ الْيَسِيرِ، فَأَجَابَ: إِذَا كَانَتْ كَلِمَةً لَا تُلْهِيهِ عَنِ السَّمَاعِ جَازَتِ الرِّوَايَةُ، وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مَا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ السَّمَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِدْغَامُ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ حِينَئِذٍ تَارِكًا بَعْضَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الْكَلِمَةِ - انْتَهَى. بَلْ تَوَسَّعُوا حِينَ صَارَ الْمَلْحُوظُ إِبْقَاءَ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ لَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، بِحَيْثُ كَانَ يُكْتَبُ السَّمَاعُ عِنْدَ الْمِزِّيِّ وَبِحَضْرَتِهِ لِمَنْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْقَارِئِ، وَكَذَا لِلنَّاعِسِ، وَالْمُتَحَدِّثِ، وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ أَحَدُهُمْ، بَلْ يَلْعَبُونَ غَالِبًا وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ. حَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ. قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنِ الْقَاضِي التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ أَنَّهُ زَجَرَ فِي مَجْلِسِهِ الصِّبْيَانَ عَنِ اللَّعِبِ، فَقَالَ: لَا تَزْجُرُوهُمْ ; فَإِنَّا إِنَّمَا سَمِعْنَا مِثْلَهُمْ. وَكَذَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمُحِبِّ الْحَافِظِ التَّسَامُحُ فِي ذَلِكَ، وَيَقُولُ: كَذَا كُنَّا صِغَارًا نَسْمَعُ، فَرُبَّمَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ، فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْنَا مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ كَالْمِزِّيِّ وَالْبِرْزَالِيِّ وَالذَّهَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ يُسْرِعُ فِي الْقِرَاءَةِ وَيُعْرِبُ، لَكِنَّهُ يُدْغِمُ بَعْضَ أَلْفَاظِهِ، وَمِثْلُهُ ابْنُ حَبِيبٍ. وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، يَعْنِي: ابْنَ تَيْمِيَّةَ، يُسْرِعُ وَلَا يُدْغِمُ إِلَّا نَادِرًا، وَكَانَ الْمِزِّيُّ يُسْرِعُ وَيُبِينُ، وَرُبَّمَا تَمْتَمَ يَسِيرًا - انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَمِمَّنْ وُصِفَ بِسُرْعَةِ السَّرْدِ مَعَ عَدَمِ اللَّحْنِ وَالدَّمْجِ الْبِرْزَالِيُّ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ، بِحَيْثُ قَرَأَ الْبُخَارِيُّ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيِّ الْحِيرِيِّ الضَّرِيرِ رَاوِيهِ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ: اثْنَانِ مِنْهُمَا فِي لَيْلَتَيْنِ، كَانَ يَبْتَدِئُ بِالْقِرَاءَةِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، وَيَخْتِمُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَالثَّالِثُ مِنْ ضَحْوَةِ نَهَارٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا يَسْتَطِيعُهُ - انْتَهَى. وَقَدْ قَرَأَهُ شَيْخُنَا فِي أَرْبَعِينَ سَاعَةً رَمْلِيَّةً، وَصَحِيحَ مُسْلِمٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ، سِوَى الْخَتْمِ مِنْ نَحْوِ يَوْمَيْنِ وَشَيْءٍ ; فَإِنَّ كُلَّ مَجْلِسٍ كَانَ مِنْ بَاكِرِ النَّهَارِ إِلَى الظُّهْرِ. وَأَسْرَعُ مَنْ عَلِمْتُهُ قَرَأَ مِنَ الْخُطُوطِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي عَصْرِنَا مَعَ الصِّحَّةِ، بِحَيْثُ لَمْ يَنْهَضِ الْأَكَابِرُ لِضَبْطِ شَاذَّةٍ وَلَا فَاذَّةٍ عَلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ، خَاصَّةً مَعَ عَدَمِ تَبْيِيتِ مُطَالَعَةِ شَيْخِنَا ابْنُ خَضِرٍ، وَلَكِنْ مَا كَانَ يَخْلُو مِنْ هَذْرَمَةٍ، [وَأَسْرَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 مَا وَقَعَ لِي اتِّفَاقًا أَنَّنِي قَرَأْتُ فِي جِلْسَةٍ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سَاعَاتٍ مِنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إِلَى الصِّيَامِ] . 424 - وَيَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ يُجِيزَ مَعْ ... إِسْمَاعِهِ جَبْرًا لِنَقْصٍ إِنْ وَقَعْ 425 - قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ وَلَا غِنَى عَنْ ... إِجَازَةٍ مَعَ السَّمَاعِ تُقْرَنْ 426 - وَسُئِلَ ابْنُ حَنْبَلٍ إِنْ حَرْفَا ... أَدْغَمَهُ فَقَالَ: أَرْجُو يُعْفَى 427 - لَكِنْ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ مَنَعْ ... فِي الْحَرْفِ يَسْتَفْهِمُهُ فَلَا يَسَعْ 428 - إِلَّا بِأَنْ يَرْوِيَ تِلْكَ الشَّارِدَهْ ... عَنْ مُفْهِمٍ وَنَحْوُهُ عَنْ زَائِدَهْ 429 - وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ قَدْ قَالَ: " نَا ... إِذْ فَاتَهُ حَدَّثَ " مِنْ حَدَّثَنَا 430 - مِنْ قَوْلِ سُفْيَانٍ وَسُفْيَانُ اكْتَفَى ... بِلَفْظٍ مُسْتَمْلٍ عَنِ الْمُمْلِي اقْتَفَى 431 - كَذَاكَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَفْتَى ... اسْتَفْهِمِ الَّذِي يَلِيكَ حَتَّى 432 - رَوَوْا عَنِ الْأَعْمَشِ كُنَّا نَقْعُدُ ... لِلنَّخَعِيِّ فَرُبَّمَا قَدْ يَبْعُدُ 433 - الْبَعْضُ لَا يَسْمَعُهُ فَيَسْأَلُ ... الْبَعْضَ عَنْهُ ثُمَّ كُلٌّ يَنْقُلُ 434 - وَكُلُّ ذَا تَسَاهُلٌ وَقَوْلُهُمْ ... يَكْفِي مِنَ الْحَدِيثِ شَمُّهُ فَهُمْ 435 - عَنَوْا إِذَا أَوَّلُ شَيْءٍ سُئِلَا ... عَرَفَهُ وَمَا عَنَوْا تَسَهُّلَا السَّادِسُ: (وَيَنْبَغِي) عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ ; حَيْثُ لَمْ يَنْفَكَّ الْأَمْرُ غَالِبًا عَنْ أَحَدِ أُمُورٍ، إِمَّا خَلَلٌ فِي الْإِعْرَابِ أَوْ فِي الرِّجَالِ، أَوْ هَذْرَمَةٌ، أَوْ هَيْنَمَةٌ، أَوْ كَلَامٌ يَسِيرٌ، أَوْ نُعَاسٌ خَفِيفٌ، أَوْ بُعْدٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ (لِلشَّيْخِ) الْمُسْمِعِ (أَنْ يُجِيزَ) لِلسَّامِعِينَ رِوَايَةَ الْكِتَابِ أَوِ الْجُزْءِ أَوِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ لَهُمْ (مَعْ) إِسْمَاعِهِ لَهُمْ (جَبْرًا لِنَقْصٍ) يَصْحَبُ السَّمَاعَ (إِنْ يَقَعْ) بِسَبَبِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَا وُجِدَ بِخَطِّهِ لِمَنْ سَمِعَ مِنْهُ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ: وَأَجَزْتُ لَهُ رِوَايَتَهُ عَنِّي مُخَصِّصًا مِنْهُ بِالْإِجَازَةِ مَا زَلَّ عَنِ السَّمْعِ لِغَفْلَةٍ أَوْ سَقْطٍ عِنْدَ السَّمَاعِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَكَذَا كَانَ ابْنُ رَافِعٍ يَتَلَفَّظُ بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ قَائِلًا: أَجَزْتُ لَكُمْ رِوَايَتَهُ عَنِّي سَمَاعًا وَإِجَازَةً لِمَا خَالَفَ أَصْلَ السَّمَاعِ إِنْ خَالَفَ، بَلْ (قَالَ) مُفْتِي قُرْطُبَةَ وَعَالِمُهَا (ابْنُ عَتَّابٍ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَوْقَانِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ، هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ الْجُذَامِيُّ الْمُتَوَفَّى فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمَائِةٍ (462هـ) فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَلَدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ عَنْهُ مَا مَعْنَاهُ: (وَ) الَّذِي أَقُولُ: إِنَّهُ (لَا غِنَى) [بِالْقَصْرِ لِلْمُنَاسَبَةِ] ، لِطَالِبِ الْعِلْمِ، يَعْنِي: فِي زَمَنِهِ فَمَا بَعْدَهُ (عَنْ إِجَازَةٍ) بِذَاكَ الدِّيوَانِ أَوِ الْحَدِيثِ (مَعَ السَّمَاعِ) لَهُ (تُقْرَنُ) بِهِ ; لِجَوَازِ السَّهْوِ أَوِ الْغَفْلَةِ أَوِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى الطَّالِبِ وَالشَّيْخِ مَعًا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَكَلَامُهُ إِلَى الْوُجُوبِ أَقْرَبُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ ; فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ، حَتَّى إِنَّهُ لِكَوْنِ مَدَارِ الْفَتْوَى عَلَيْهِ كَانَ يَخَافُ عَاقِبَتَهَا، وَيُظْهِرُ مَهَابَتَهَا، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: مَنْ يَحْسُدُنِي فِيهَا جَعَلَهُ اللَّهُ مُفْتِيًا، وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو مِنْهَا كَفَافًا، ثُمَّ عَلَى كَاتِبِ الطَّبَقِةِ اسْتِحْبَابًا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ إِجَازَةِ الْمُسْمِعِ فِيهَا، وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَهَا فِي الطِّبَاقِ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الْمُحْسِنِ بْنِ الْأَنْمَاطِيِّ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشَرَ وَسِتِّمَائَةٍ (619هـ) ، وَكَانَ دَأْبُهُ النُّصْحَ وَكَثْرَةَ الْإِفَادَةِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ اسْتَجَازَ لِخَلْقٍ ابْتِدَاءً مِنْهُ بِدُونِ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، وَتَبِعَهُ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ الْحَسَنَةِ ; أَعْنِي: كِتَابَةَ الْإِجَازَةِ، فِي الطِّبَاقِ مَنْ بَعْدَهُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ نَفْعٌ كَثِيرٌ، فَلَقَدِ انْقَطَعَتْ بِسَبَبِ إِهْمَالِ ذَلِكَ وَتَرْكِهِ بِبَعْضِ الْبِلَادِ رِوَايَةُ بَعْضِ الْكُتُبِ لِكَوْنِ رَاوِيهَا كَانَ قَدْ فَاتَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الطَّبَقَةِ إِجَازَةُ الْمُسْمِعِ لِلسَّامِعِينَ، فَمَا أَمْكَنَ قِرَاءَةُ ذَلِكَ الْفَوْتِ عَلَيْهِ بِالْإِجَازَةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهَا، كَمَا اتَّفَقَ فِي أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ اللَّهِ بْنَ الصَّوَّافِ الشَّاطِبِيِّ فِي السُّنَنِ الصُّغْرَى لِلنَّسَائِيِّ لَمْ يَأْخُذُوا عَنْهُ سِوَى مَسْمُوعِهِ مِنْهُ عَلَى الصَّفِيِّ أَبِي بَكْرِ بْنِ بَاقَا فَقَطْ، هَذَا مَعَ قُرْبِ سَمَاعِهِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَكَرَ فِيهِ ابْنُ الْأَنْمَاطِيِّ كِتَابَتَهَا، وَلَكِنْ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنِ اشْتَهَرَ، عَلَى أَنِّي قَدْ وَقَفْتُ عَلَى مَنْ سَبَقَ الْأَنْمَاطِيَّ بِذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، حَيْثُ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى تَقْيِيدِ سَمَاعٍ لِبَعْضِ نُبَهَاءِ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِنَحْوِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَتَّابٍ، فَقَالَ: سَمِعَ هَذَا الْجُزْءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَأَجَازَ مَا أُغْفِلَ وَصُحِّفَ وَلَمْ يُصْغِ إِلَيْهِ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ عَلَى الصِّحَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مَنْزَعٌ نَبِيلٌ فِي الْبَابِ جِدًّا - انْتَهَى. وَتُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ بِالْقَدْرِ الَّذِي أُجِيزَ بِسَبَبِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِفْصَاحُ بِذَلِكَ حِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 رِوَايَتِهِ إِلَّا إِنْ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ الْمُخْبِرَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ سَمِعَ كَاذِبٌ ; لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ، وَلَا تَجْبُرُ الْإِجَازَةُ مِثْلَ هَذَا. نَعَمْ، إِنْ أَطْلَقَ الْإِخْبَارَ كَانَ صَادِقًا كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ ثَالِثِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ. وَإِنَّمَا كُرِهَ إِطْلَاقُهُ فِي الْإِجَازَةِ الْمَحْضَةِ ; لِمُخَالَفَتِهِ الْعَادَةَ، أَوْ لِإِيقَاعِهِ تُهَمَةً إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَصْلًا، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ هُنَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ السَّمَاعُ مُثْبَتًا بِغَيْرِ خَطِّهِ ; لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ عَنْهُ بِكُلِّ وَجْهٍ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَإِذَا انْتَهَتْ مَسْأَلَةُ الْإِجَازَةِ الَّتِي كَانَ تَأْخِيرُهَا أَنْسَبَ لِتَعَلُّقِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا، وَلِتَكُونَ فَرْعًا مُسْتَقِلًّا، وَلَكِنْ هَكَذَا هِيَ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ اغْتِفَارُ الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَتَيْنِ، يَعْنِي: سَوَاءٌ أَخَلَّتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا بِفَهْمِ الْبَاقِي أَمْ لَا ; لِأَنَّ فَهْمَ الْمَعْنَى لَا يُشْتَرَطُ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَعْرِفُهُمَا أَمْ لَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَإِلَّا فَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابٍ النَّسَائِيِّ يَقُولُ: وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا كَذَا وَكَذَا ; لِكَوْنِهِ فِيمَا يَظْهَرُ لَمْ يَسْمَعْهَا جَيِّدًا وَعَلِمَهَا. (وَسُئِلَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ، هُوَ (ابْنُ حَنْبَلٍ) ، مِنِ ابْنِهِ صَالِحٍ ; حَيْثُ قَالَ لَهُ: إِنْ أَدْمَجَ الشَّيْخُ أَوِ الْقَارِئُ (إِنْ حَرْفَا) يَعْنِي: لَفْظًا يَسِيرًا (أَدْغَمَهُ) فَلَمْ يَفْهَمْهُ السَّامِعُ ; أَيْ: لَمْ يَسْمَعْهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ أَنَّهُ كَذَا وَكَذَا، أَتَرَى لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ؟ (فَقَالَ: أَرْجُو) أَنَّهُ (يُعْفَى) عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَضِيقَ الْحَالُ عَنْهُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ، فَقَيَّدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الْعَفْوَ بِكَوْنِهِ يَعْرِفُهُ، وَتَمَامُهُ: قَالَ صَالِحٌ: فَقُلْتُ لَهُ: الْكِتَابُ قَدْ طَالَ عَهْدُهُ عَنِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْرِفُ بَعْضَ حُرُوفِهِ، فَيُخْبِرُهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي يُوقِفُهُ عَلَى الصَّوَابِ، فَيَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ. (لَكِنْ) الْحَافِظُ (أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ) بْنُ دُكَيْنٍ (مَنَعْ) مِنْ سُلُوكِهِ (فِي الْحَرْفِ) يَعْنِي: فِي اللَّفْظِ الْيَسِيرِ مِمَّا يَشْرِدُ عَنْهُ فِي حَالِ سَمَاعِهِ مِنْ سُفْيَانَ وَالْأَعْمَشِ الَّذِي (يَسْتَفْهِمُهُ) مِنْ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ (فَ) قَالَ: (لَا يَسَعْ) مَنْ وَقَعَ لَهُ مِثْلُهُ (إِلَّا بِأَنْ) أَيْ: أَنْ. (يَرْوِيَ تِلْكَ) الْكَلِمَةَ (الشَّارِدَهْ عَنْ مُفْهِمٍ) أَفْهَمَهُ إِيَّاهَا مِنْ صَاحِبٍ (وَنَحْوُهُ) مَرْوِيٌّ (عَنْ زَائِدَهْ) ، هُوَ ابْنُ قُدَامَةَ. قَالَ خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ: سَمِعْتُ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَشَرَةَ آلَافِ حَدِيثٍ أَوْ نَحْوَهَا، فَكُنْتُ أَسْتَفْهِمُ جَلِيسِي، فَقُلْتُ لِزَائِدَةَ، فَقَالَ لِي: لَا تُحَدِّثْ مِنْهَا إِلَّا بِمَا تَحْفَظُ بِقَلْبِكَ، وَتَسْمَعُ بِأُذُنِكَ، قَالَ: فَأَلْقَيْتُهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ. وَكُلُّ هَذَا إِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ عَلِمَ بِنَفْسِهِ، أَوِ اسْتَفْهَمَ، أَوْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي الْحَرْفِ الْحَقِيقِيِّ، وَالثَّانِيَ فِي الْكَلِمَةِ، يُخَالِفُ الْمَحْكِيَّ عَنْ أَحْمَدَ (وَ) أَيْضًا فَأَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ أَبُو مُحَمَّدٍ (خَلَفُ بْنُ سَالِمٍ) الْمَخْرَمِيُّ بِالتَّشْدِيدِ، نِسْبَةً لِمَحِلَّةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 بِبَغْدَادَ (قَدْ قَالَ: نَا) مُقْتَصِرًا عَلَى النُّونِ وَالْأَلِفِ ; (إِذْ فَاتَهُ حَدَّثَ مِنْ حَدَّثَنَا مِنْ قَوْلِ) شَيْخِهِ (سُفْيَانَ) بْنِ عُيَيْنَةَ حِينَ تَحْدِيثِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِخُصُوصِهِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: قُلْ: حَدَّثَنَا، فَيَمْتَنِعُ وَيَقُولُ: إِنَّهُ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ عِنْدَ سُفْيَانَ لَمْ أَسْمَعْ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِ " ح د ث ". فَهَذَا مُخَالِفٌ لِأَحْمَدَ بِلَا شَكٍّ. هَذَا (وَسُفْيَانُ) شَيْخُهُ (اكْتَفَى بِ) سَمَاعِ (لَفْظِ مُسْتَمْلٍ عَنْ) لَفْظِ (الْمُمْلِي) إِذِ الْمُسْتَمْلِي (اقْتَفَى) أَيِ: اتَّبَعَ لَفْظَ الْمُمْلِي، وَذَاكَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْمُسْتَمْلِي قَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ لَا يَسْمَعُونَ، فَقَالَ: أَتَسْمَعُ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَسْمِعْهُمْ. وَلَعَلَّ سَمَاعَ خَلَفٍ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِمْلَاءِ (كَذَاكَ) أَبُو إِسْمَاعِيلَ (حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَفْتَى) مَنِ اسْتَفْهَمَهُ فِي حَالِ إِمْلَائِهِ، وَاسْتَعَادَهُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: (اسْتَفْهِمِ الَّذِي يَلِيكَ) ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ بَيْنَ أَكَابِرِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ كَانَ يَعْظُمُ الْجَمْعُ فِي مَجَالِسِهِمْ جِدًّا، وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ عَدَدُهُمْ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً، وَيَصْعَدُ الْمُسْتَمْلُونَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَيُبَلِّغُونَ عَنِ الْمَشَايِخِ مَا يُمْلُونَ، أَنَّ مَنْ سَمِعَ الْمُسْتَمْلِيَ دُونَ سَمَاعِ لَفْظِ الْمُمْلِي جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنِ الْمُمْلِي، يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ يَسْمَعَ الْمُمْلِي لَفْظَ الْمُسْتَمْلِي، وَإِنْ أَطْلَقَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ كَالْعَرْضِ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْمُسْتَمْلِيَ فِي حُكْمِ الْقَارِئِ عَلَى الْمُمْلِي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ فِي الْأَدَاءِ لِذَلِكَ: سَمِعْتُ فُلَانًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَرْضِ، بَلِ الْأَحْوَطُ بَيَانُ الْوَاقِعِ كَمَا فَعَلَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ كَانَ يَقُولُ: وَثَبَّتَنِي فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، أَوْ وَأَفْهَمَنِي فُلَانٌ بَعْضَهُ، حَسْبَمَا يَجِيءُ مَبْسُوطًا فِي آخِرِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ. وَلِقَصْدِ السَّلَامَةِ مِنْ إِغْفَالِ لَفْظِ الْمُمْلِي، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ: مَا كَتَبْتُ قَطُّ مِنْ فِي الْمُسْتَمْلِي، وَلَا الْتَفَتُّ إِلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ، إِنَّمَا كُنْتُ أَكْتُبُ عَنْ فِي الْمُحَدِّثِ، وَكَذَا تَوَرَّعَ آخَرُونَ وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْأَوَّلُ أَصْلَحُ لِلنَّاسِ (حَتَّى) إِنَّهُمْ (رَوَوْا عَنْ) سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ (الْأَعْمَشِ) الْحَافِظِ الْحُجَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: (كُنَّا نَقْعُدُ لِلنَّخَعِيِّ) إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ أَحَدِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ حِينَ تَحْدِيثِهِ، وَالْحَلْقَةُ مُتَّسِعَةٌ. (فَرُبَّمَا قَدْ يَبْعُدُ الْبَعْضُ) مِمَّنْ يَحْضُرُ (وَلَا يَسْمَعُهُ فَيَسْأَلُ) ذَلِكَ الْبَعِيدُ (الْبَعْضَ) الْقَرِيبَ مِنَ الشَّيْخِ [ (عَنْهُ) عَمَّا قَالَ الشَّيْخُ] (ثُمَّ كُلٌّ) مِمَّنْ سَمِعَ مِنَ الشَّيْخِ أَوْ رَفِيقِهِ (يَنْقُلُ) كُلَّ ذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ بِلَا وَاسِطَةٍ (وَكُلُّ ذَا) أَيْ: رِوَايَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا مِنْ رَفِيقِهِ أَوِ الْمُسْتَمْلِي عَنْ لَفْظِ الشَّيْخِ (تَسَاهُلٌ) مِمَّنْ فَعَلَهُ، وَلِذَا كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ وَغَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَرَوْنَ لَهُ التَّحْدِيثَ بِمَا اسْتَفْهَمَهُ إِلَّا عَنِ الْمُفْهِمِ، وَلَا يُعْجِبُ أَبَا نُعَيْمٍ - كَمَا قَالَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 أَبُو زُرْعَةَ عَنْهُ - صَنِيعُهُمْ هُنَا، وَلَا يَرْضَى بِهِ لِنَفْسِهِ. (وَقَوْلُهُمُ) كَالْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ تَبَعًا لِلْإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: (يَكْفِي) مِنْ سَمَاعِ (الْحَدِيثِ شَمُّهُ) الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ: سَمِعْتُ بُنْدَارًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَكْفِيهِمُ الشَّمُّ. (فَهُمْ) أَيِ: الْقَائِلُونَ ذَلِكَ - كَمَا قَالَ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ الْحَافِظُ، حَسْبَمَا نَقَلَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ عَنْهُ - إِنَّمَا (عَنَوْا) بِهِ (إِذَا أَوَّلُ شَيْءٍ) أَيْ: طَرَفُ حَدِيثٍ (سُئِلَا) عَنْهُ الْمُحَدِّثُ (عَرَفَهُ) ، وَاكْتَفَى بِطَرَفِهِ عَنْ ذِكْرِ بَاقِيهِ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْتُبُونَ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ لِيُذَاكِرُوا الشُّيُوخَ فَيُحَدِّثُوهُمْ بِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كُنْتُ أَلْقَى عُبَيْدَةَ بْنَ عَمْرٍو السَّلْمَانِيَّ بِالْأَطْرَافِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ بِكِتَابَةِ الْأَطْرَافِ (وَمَا عَنَوْا) بِهِ (تَسَهُّلَا) فِي التَّحَمُّلِ وَلَا الْأَدَاءِ. وَمَيْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَضْلُ وَزَائِدَةُ. 436 - وَإِنْ يُحَدِّثْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِ ... عَرَفْتَهُ بِصَوْتٍ أَوْ ذِي خُبْرِ 437 - صَحَّ وَعَنْ شُعْبَةَ لَا تَرْوِ، لَنَا ... إِنَّ بِلَالًا وَحَدِيثُ أُمِّنَا [السَّابِعُ] السَّادِسُ بَلِ السَّابِعُ بِاعْتِبَارِ إِفْرَادِ مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ: (وَإِنْ يُحَدِّثْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِ) إِزَارٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مَنْ (عَرَفْتَهُ) إِمَّا (بِصَوْتٍ) ثَبَتَ لَكَ أَنَّهُ صَوْتُهُ بِعِلْمِكَ (أَوْ) بِإِخْبَارِ (ذِي خُبْرِ) بِهِ مِمَّنْ تَثِقُ بِعَدَالَتِهِ وَضَبْطِهِ أَنَّ هَذَا صَوْتُهُ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 حَيْثُ كَانَ يُحَدِّثُ بِلَفْظِهِ، أَوْ أَنَّهُ حَاضِرٌ إِنْ كَانَ السَّمَاعُ عَرْضًا. (صَحَّ) عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ ; لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ. وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ لَهُ كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ تَمْيِيزُ عَيْنِهِ مِنْ بَيْنِ الْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَإِنْ قَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ مَا نَصُّهُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْفُرَاوِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَسْمَعُ بِقِرَاءَةِ أَبِي مُسْنَدَ أَبِي عَوَانَةَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، فَكَانَ يَخْرُجُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَسْوَدُ خَشِنٌ وَعِمَامَةٌ صَغِيرَةٌ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَعَنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُحْتَشِمِينَ، فَيَجْلِسُ بِجَانِبِ الشَّيْخِ، فَاتَّفَقَ انْقِطَاعُهُ بَعْدَ قِرَاءَةِ جُمْلَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَقْطَعْ أَبِي الْقِرَاءَةَ فِي غَيْبَتِهِ، فَقُلْتُ لَهُ لِظَنِّي أَنَّهُ هُوَ الْمُسْمَعُ: يَا سَيِّدِي عَلَى مَنْ تَقْرَأُ وَالشَّيْخُ مَا حَضَرَ؟ فَقَالَ: كَأَنَّكَ تَظُنُّ أَنَّ شَيْخَكَ هُوَ الْمُحْتَشِمُ، قُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، فَضَاقَ صَدْرُهُ وَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّمَا شَيْخُكَ هَذَا الْقَاعِدُ. ثُمَّ عَلَّمَ ذَلِكَ الْمَكَانَ حَتَّى أَعَادَ لِي مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ. (وَعَنْ شُعْبَةَ) بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَرْوِ) عَمَّنْ يُحَدِّثُكَ مِمَّنْ لَمْ تَرَ وَجْهَهُ، فَلَعَلَّهُ شَيْطَانٌ قَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ يَقُولُ: ثَنَا وَأَنَا. وَهُوَ وَإِنْ أَطْلَقَ الصُّورَةَ إِنَّمَا أَرَادَ الصَّوْتَ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَلَهُمْ قُوَّةُ التَّشَكُّلِ فِي الصُّوَرِ فَضْلًا عَنِ الْأَصْوَاتِ، فَطَرَقَ احْتِمَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّاوِي شَيْطَانًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وَلَكِنْ هَذَا بَعِيدٌ، لَا سِيَّمَا وَيَتَضَمَّنُ عَدَمَ الْوُثُوقِ بِالرَّاوِي وَلَوْ رَآهُ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، فَإِذَا عُرِفَ وَقَامَتْ عِنْدَهُ قَرَائِنُ أَنَّهُ فُلَانٌ الْمَعْرُوفُ، فَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ عَجِيبٌ وَغَرِيبٌ جِدًّا - انْتَهَى. وَالْحُجَّةُ (لَنَا) فِي اعْتِمَادِ الصَّوْتِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: « (إِنَّ بِلَالًا) يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا تَأْذِينَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)) » ، كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ، حَيْثُ أَمَرَ الشَّارِعُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى صَوْتِهِ مَعَ غَيْبَةِ شَخْصِهِ عَمَّنْ يَسْمَعُهُ، وَقَدْ يُخْدَشُ فِيهِ بِأَنَّ الْأَذَانَ لَا قُدْرَةَ لِلشَّيَاطِينِ عَلَى سَمَاعِ أَلْفَاظِهِ، فَكَيْفَ بِقَوْلِهِ. (وَ) لَكِنْ مِنَ الْحُجَّةِ لَنَا أَيْضًا (حَدِيثُ أُمِّنَا) ، مُعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَالنَّقْلُ لِذَلِكَ عَنْهُنَّ مِمَّنْ سَمِعَهُ، وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الصَّحِيحِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ شَهَادَةَ الْأَعْمَى، وَأَمْرَهُ، وَنِكَاحَهُ، وَإِنْكَاحَهُ، وَمُبَايَعَتَهُ، وَقَبُولَهُ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَصْوَاتِ، وَأَوْرَدَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ حَدِيثَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ قِبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: ((خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ)) . وَحَدِيثَ عَائِشَةَ: «تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟)) قُلْتُ: نَعَمْ» . الْحَدِيثَ. وَقَوْلَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَعَرَفَتْ صَوْتِي قَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ادْخُلْ. إِلَى غَيْرِهَا. عَلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي الدَّمِ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ شُعْبَةَ مَحْمُولٌ عَلَى احْتِجَابِ الرَّاوِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبَالَغَةً فِي كَرَاهَةِ احْتِجَابِهِ، أَمَّا النِّسَاءُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَنْهِنَّ مَعَ وُجُوبِ احْتِجَابِهِنَّ - انْتَهَى. وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ لِلرِّوَايَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; حَيْثُ لَمْ تُمْكِنْ مَعْرِفَتُهَا بِدُونِهِ، وَعَلَى اعْتِمَادِهِ فَهِيَ تُخَالِفُ الشَّهَادَةَ ; حَيْثُ يَجُوزُ النَّظَرُ لِلْمَرْأَةِ بَلْ يَجِبُ، وَلَا يَكْفِي الِاعْتِمَادُ عَلَى صَوْتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. 438 - وَلَا يَضُرُّ سَامِعًا أَنْ يَمْنَعَهْ ... الشَّيْخُ أَنْ يَرْوِيَ مَا قَدْ سَمِعَهْ 439 - كَذَلِكَ التَّخْصِيصُ أَوْ رَجَعْتُ ... مَا لَمْ يَقُلْ أَخْطَأْتُ أَوْ شَكَكْتُ الثَّامِنُ: (وَلَا يَضُرُّ سَامِعًا) مِمَّنْ سَمِعَ لَفْظًا أَوْ عَرْضًا (أَنْ يَمْنَعَهُ الشَّيْخُ) الْمُسْمِعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ السَّمَاعِ أَوْ قَبْلَهُ (أَنْ يَرْوِيَ) عَنْهُ (مَا قَدْ سَمِعَهْ) مِنْهُ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ لَا لِعِلَّةٍ أَوْ رِيبَةٍ فِي الْمَسْمُوعِ أَوْ إِبْدَاءِ مُسْتَنَدٍ سِوَى الْمَنْعِ الْيَابِسِ: لَا تَرْوِهِ عَنِّي، أَوْ مَا أَذِنْتُ لَكَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِّي، وَنَحْوَ ذَلِكَ، بَلْ يَسُوغُ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ; مِنْهُمُ ابْنُ خَلَّادٍ فِي الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ فِي مَسْأَلَتِنَا، بَلْ زَادَ ابْنُ خَلَّادٍ مِمَّا قَالَ بِهِ أَيْضًا ابْنُ الصَّبَّاغِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سَادِسِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: هَذِهِ رِوَايَتِي لَكِنْ لَا تَرْوِهَا عَنِّي وَلَا أُجِيزُهَا لَكَ، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ. وَتَبِعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ: وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ، لَا يَقْتَضِي النَّظَرُ سِوَاهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ، فَلَا يُؤْثَرُ مَنْعُهُ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ مُقْتَدًى بِهِ قَالَ خِلَافَ هَذَا فِي تَأْثِيرِ مَنْعِ الشَّيْخِ وَرُجُوعِهِ عَمَّا حَدَّثَ بِهِ مَنْ حَدَّثَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ سَنَدَهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنِّي قَرَأْتُ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيِّ فِي طَبَقَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 عُلَمَاءِ أَفْرِيقِيَّةَ نَقَلَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ جِلَّةِ شُيُوخِهَا أَنَّهُ أَشْهَدَ بِالرُّجُوعِ عَمَّا حَدَّثَ بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ لِأَمْرٍ نَقَمَهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ مِثْلُ هَذَا بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ مِنْ مَشَايِخِ الْأَنْدَلُسِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَطِيَّةَ ; حَيْثُ أَشْهَدَ بِالرُّجُوعِ عَمَّا حَدَّثَ بِهِ بَعْضَ جَمَاعَتِهِ لِهَوًى ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ، وَأُمُورٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ. وَلَعَلَّ هَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ تَأْدِيبًا وَتَضْعِيفًا لَهُمْ عِنْدَ الْعَامَّةِ، لَا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ تَأْثِيرِهِ. وَقِيَاسُ مَنْ قَاسَ الرِّوَايَةَ هُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْإِشْهَادِ، لَا كَذَلِكَ الرِّوَايَةُ ; فَإِنَّهَا مَتَى صَحَّ السَّمَاعُ صَحَّتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ - انْتَهَى. وَإِنْ رُوِيَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ قَالَ: كُنْتُ آتِي أَبَا هُرَيْرَةَ فَأَكْتُبُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَرَدْتُ فِرَاقَهُ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: هَذَا حَدِيثُكَ أُحَدِّثُ بِهِ عَنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ. وَصَرَّحَ غَيْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَيَلْحَقُ بِالسَّمِعِ فِي ذَلِكَ الْمُجَازُ أَيْضًا، وَمَا أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ مَرْوِيُّهُ مِمَّا لَمْ يُجِزْهُ بِهِ صَرِيحًا كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَكَذَلِكَ لَا يَضُرُّ (التَّخْصِيصُ) مِنَ الشَّيْخِ لِوَاحِدٍ فَأَكْثَرَ بِالسَّمَاعِ إِذَا سَمِعَ هُوَ، سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّيْخُ بِسَمَاعِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى، كَمَا صَرَّحَ بِالْحُكْمِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِذَا سَأَلَهُ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عُلَيْكٍ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَسْئِلَةِ عِنْدِي فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَعَمِلَ بِهِ النَّسَائِيُّ وَالسِّلَفِيُّ وَآخَرُونَ. بَلْ وَلَوْ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: أُخْبِرُكُمْ وَلَا أُخْبِرُ فُلَانًا، لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 الْأَدَاءِ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي وَنَحْوَهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ رَوَاهُ كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ. وَكَذَا لَا يَضُرُّ الرُّجُوعُ بِالْكِنَايَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا (أَوْ) بِالتَّصْرِيحِ كَأَنْ يَقُولَ: (رَجَعْتُ) وَنَحْوَهَا مِمَّا لَا يَنْفِي أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِهِ كَمَا سَلَفَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى (مَا لَمْ يَقُلْ) مَعَ ذَلِكَ: (أَخْطَأْتُ) فِيمَا حَدَّثْتُ بِهِ، أَوْ تَزَيَّدْتُ (أَوْ شَكَكْتُ) فِي سَمَاعِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ ; إِذْ سَمِعْنَا عَلَيْهِ ذَمَّ الْكَلَامِ لِلْهَرَوِيِّ، حَيْثُ قَالَ: أَذِنْتُ لَكُمْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِّي مَا عَدَا كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الشَّيْخُ إِسْمَاعَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَزَيَّدْتُ أَوْ أَخْطَأْتُ، كَانَ قَدْحًا فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: شَكَكْتُ. [الثَّالِثُ الْإِجَازَةُ وَأَنْوَاعهَا] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ تَعْيِينُهُ الْمُجَازَ وَالْمُجَازَ لَهْ] الثَّالِثُ: الْإِجَازَةُ 440 - ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَلِي السَّمَاعَا ... وَنُوِّعَتْ لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا 441 - أَرْفَعُهَا بِحَيْثُ لَا مُنَاوَلَهْ ... تَعْيِينُهُ الْمُجَازَ وَالْمُجَازَ لَهْ 442 - وَبَعْضُهُمْ حَكَى اتِّفَاقَهُمْ عَلَى ... جَوَازِ ذَا وَذَهَبَ الْبَاجِي إِلَى 443 - نَفْيِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا وَهْوَ غَلَطْ ... قَالَ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ قَطْ 444 - وَرَدَّهُ الشَّيْخُ بِأَنْ لِلشَّافِعِي ... قَوْلَانِ فِيهَا ثُمَّ بَعْضُ تَابِعِي 445 - مَذْهَبِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ مَنَعَا ... وَصَاحِبُ الْحَاوِي بِهِ قَدْ قَطَعَا 446 - قَالَا كَشُعْبَةٍ وَلَوْ جَازَتْ إِذَنْ ... لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ طُلَّابِ السُّنَنْ 447 - وَعَنْ أَبِي الشَّيْخِ مَعَ الْحَرْبِيِّ ... إِبْطَالُهَا كَذَاكَ لِلسِّجْزِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 448 - لَكِنْ عَلَى جَوَازِهَا اسْتَقَرَّا عَمَلُهُمْ وَالْأَكْثَرُونَ طُرَّا ... 449 - قَالُوا بِهِ، كَذَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا وَقِيلَ لَا كَحُكْمِ الْمُرْسَلِ الْقِسْمُ (الثَّالِثُ) مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ (الْإِجَازَةُ) ، وَهِيَ مَصْدَرٌ، وَأَصْلُهَا إِجْوَازَةٌ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَتُوُهِّمَ انْفِتَاحُ مَا قَبْلَهَا، فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا، وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْأَلِفَيْنِ إِمَّا الزَّائِدَةُ أَوِ الْأَصْلِيَّةُ، بِالنَّظَرِ لِاخْتِلَافِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ ; لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَصَارَتْ إِجَازَةً. وَتَرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْعُبُورِ، وَالِانْتِقَالِ، وَلِلْإِبَاحَةِ الْقَسِيمَةِ لِلْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ الِاصْطِلَاحُ ; فَإِنَّهَا إِذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَفْظًا أَوْ كَتْبًا تُفِيدُ الْإِخْبَارَ الْإِجْمَالِيَّ عُرْفًا. وَقَالَ الْقُطْبُ الْقَسْطَلَانِيُّ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّجَوُّزِ، وَهُوَ التَّعَدِّي، فَكَأَنَّهُ عَدَّى رِوَايَتَهُ حَتَّى أَوْصَلَهَا لِلرَّاوِي عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْحَجَّاجِ: إِنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنَ الْمَجَازِ، فَكَأَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالسَّمَاعَ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَا عَدَاهُ مَجَازٌ. وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَالْمَجَازُ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَيَقَعُ أَجَزْتُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي لَفْظِ الْإِجَازَةِ وَشَرْطِهَا. (ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَلِي السَّمَاعَا) عَرْضًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ أَقْوَى مِنْهُ ; لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنَ الْكَذِبِ، وَأَنْفَى عَنِ التُّهَمَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ. قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْدَهْ، بَلْ كَانَ يَقُولُ: مَا حَدَّثْتُ بِحَدِيثٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِجَازَةِ، حَتَّى لَا أُوبِقَ فَأُدْخَلَ فِي كِتَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 أَهْلِ الْبِدْعَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ مُيَسَّرٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَقِيلَ: هَمَّا سَوَاءٌ، قَالَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ وَحَفِيدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَاتٍ عَنْهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي طَلِحَةَ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ الْفَقِيهِ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ خُزَيْمَةَ الْإِجَازَةَ لِمَا بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ تَصَانِيفِهِ، فَأَجَازَهَا لِي، وَقَالَ: الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي إِرَادَةِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْمُنَاوَلَةِ. وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الِاسْتِوَاءَ بِالْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي حَصَلَ التَّسَامُحُ فِيهَا فِي السَّمَاعِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ ; لِكَوْنِهِ آلَ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدِ ; إِذْ هُوَ حَاصِلٌ بِالْإِجَازَةِ، إِلَّا إِنْ وُجِدَ عَالِمٌ بِالْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ وَفَوَائِدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إِنَّمَا هُوَ حِينَئِذٍ أَوْلَى ; لِمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُسْمِعِ وَقْتَ السَّمَاعِ، لَا لِمُجَرَّدِ قُوَّةِ رِوَايَةِ السَّمَاعِ عَلَى الْإِجَازَةِ. وَيَتَأَيَّدُ هَذَا التَّفْصِيلُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُيَسَّرٍ الْإِسْكَنْدَرِيِّ الْمَالِكِيِّ كَمَا رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ الْأَنْدَلُسِيُّ شَيْخُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الْحَافِظِ أَبِي ذَرٍّ عَبْدِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْوِجَازَةِ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْإِجَازَةِ) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْعَطَّارِ عَنْهُ: الْإِجَازَةُ عِنْدِي عَلَى وَجْهِهَا خَيْرٌ وَأَقْوَى فِي النَّقْلِ مِنَ السَّمَاعِ الرَّدِيِّ، وَبَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا تَعَذَّرَ السَّمَاعُ. وَكَلَامُ ابْنِ فَارِسٍ الْآتِي قَدْ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِجَازَةَ دُونَ السَّمَاعِ ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ التَّصْحِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، وَقَدْ (نُوِّعَتْ لِتِسْعَةٍ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ (أَنْوَاعَا) أَيْ: مِنَ الْأَنْوَاعِ مَعَ كَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً أَيْضًا، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَتَتَرَكَّبُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ أُخَرُ سَتَأْتِي، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ آخِرَ الْأَنْوَاعِ، هَذَا مَعَ إِدْرَاجِهِ الْخَامِسَ فِي الرَّابِعِ، وَالسَّابِعَ فَيَ السَّادِسِ، بِحَيْثُ كَانَتِ الْأَنْوَاعُ عِنْدَهُ سَبْعَةً. [النَّوْعُ الْأَوَّلُ] : فَ (أَرْفَعُهَا) مِمَّا تَجَرَّدَ (بِحَيْثُ لَا مُنَاوَلَهْ) مَعَهَا ; لِعُلُوِّ تِلْكَ، وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنْوَاعِهَا (تَعْيِينُهُ) أَيِ: الْمُحَدِّثِ (الْمُجَازَ) بِهِ، وَتَعْيِينُهُ الطَّالِبَ (الْمُجَازَ لَهْ) ، كَأَنْ يَقُولَ: إِمَّا بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ، وَهُوَ أَعْلَى، أَوْ بِأَحَدِهِمَا: أَجَزْتُ [لَكَ أَوْ] لَكُمْ أَوْ لِفُلَانٍ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ أَوْ فِهْرِسَتِي ; بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ الَّذِي يَجْمَعُ فِيهِ مَرْوِيَّهُ، وَالْمُجَازُ عَارِفٌ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ وَقَدْ أَدْخَلَهُ خِزَانَةَ كُتُبِهِ: ارْوِ جَمِيعَ هَذِهِ الْكُتُبِ عَنِّي ; فَإِنَّهَا سَمَاعَاتِي مِنَ الشُّيُوخِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْهُمْ، أَوْ أَحَالَهُ عَلَى تَرَاجِمِهَا، وَنَبَّهَهُ عَلَى طُرُقِ أَوَائِلِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 (وَبَعْضُهُمُ) كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ (حَكَى اتِّفَاقَهُمُ) أَيِ: الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ (عَلَى جَوَازِ ذَا) النَّوْعِ، وَأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِهَا غَيْرُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي مَرْوَانَ الطُّبُنِيِّ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ: إِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدِي إِذَا عَيَّنَ الْمُجِيزُ لِلْمُجَازِ مَا أَجَازَ لَهُ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا رَأَيْتُ إِجَازَاتِ الْمَشْرِقِ وَمَا رَأَيْتُ مُخَالِفًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَبْهَمَ وَلَمْ يُسَمِّ مَا أَجَازَ. بَلْ وَسَوَّى بَعْضُهُمْ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاوَلَةِ، قَالَ: وَسَمَّاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ إِجَازَةَ مُنَاوَلَةٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ يَحِلُّ مَحَلَّ السَّمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ. (وَذَهَبَ) الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ الْمَالِكِيُّ (الْبَاجِيُّ) ، نِسْبَةً لِبَاجَةَ مَدِينَةٍ بِالْأَنْدَلُسِ، [وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ] (إِلَى نَفْيِ الْخِلَافِ) عَنْ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ (مُطْلَقًا) ، هَذَا النَّوْعُ وَغَيْرُهُ (وَهُوَ غَلَطْ) كَمَا سَتَرَاهُ. (قَالَ) الْبَاجِيُّ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ: لَا خِلَافَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِهَا (وَالِاخْتِلَافُ) إِنَّمَا هُوَ (فِي الْعَمَلِ) بِهَا (قَطْ) أَيْ: فَقَطْ كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 سَيَأْتِي. (وَرَدَّهُ) أَيِ: الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْخِلَافِ وَبِقَصْرِهِ عَلَى الْعَمَلِ مُصَرِّحًا بِبُطْلَانِهِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (بِأَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ (لِلشَّافِعِي) وَكَذَا لِمَالِكٍ (قَوْلَانِ فِيهَا) أَيْ: فِي الْإِجَازَةِ جَوَازًا وَمَنْعًا. وَقَالَ بِالْمَنْعِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ كَأَشْهَبَ وَالْأُصُولِيِّينَ (ثُمَّ) رَدَّهُ أَيْضًا بِالْقَطْعِ بِمُقَابِلِهِ فَ (بَعْضُ تَابِعِي مَذْهَبِهِ) أَيِ: الشَّافِعِّيُّ، [أَصْحَابُ الْوُجُوهِ فِيهِ] ، وَهُوَ (الْقَاضِي الْحُسَيْنُ) بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ (مَنَعَا) الرِّوَايَةَ بِهَا ; يَعْنِي جَزْمًا. (وَ) كَذَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ (صَاحِبُ الْحَاوِي) فِيهِ (بِهِ) أَيْ: بِعَدَمِ الْجَوَازِ (قَدْ قَطَعَا) مَعَ عَزْوِهِ الْمَنْعَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ، حَيْثُ قَالَ: فَاتَنِي عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ كِتَابِهِ ثَلَاثُ وَرَقَاتٍ مِنَ الْبُيُوعِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَجِزْهَا لِي، فَقَالَ: بَلِ اقْرَأْهَا عَلَيَّ كَمَا قُرِئَتْ عَلَيَّ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ حَتَّى أَذِنَ لِي فِي الْجُلُوسِ وَجَلَسَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ، [وَلَمْ يَنْفَرِدَا بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ: إِنَّهَا لَا تَجُوزُ الْبَتَّةَ بِدُونِ مُنَاوَلَةٍ] . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْإِجَازَةِ، فَقَالَ: لَا أَرَاهَا، إِنَّمَا يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقِيمَ الْمُقَامَ الْيَسِيرَ، وَيَحْمِلَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ. وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ: مَا يُعْجِبُنِي وَإِنَّ النَّاسَ يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الشَّيْءَ الْكَثِيرَ فِي الْمُقَامِ الْقَلِيلِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ لِرَسُولِ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ فِي ذَلِكَ: قُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْعِلْمَ فَارْحَلْ لَهُ. وَ (قَالَا) أَيِ: الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمَاوَرْدِيُّ (كَ) قَوْلِ (شُعْبَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَضْرَابِهِمَا مَا مَعْنَاهُ: (وَلَوْ جَازَتْ) الْإِجَازَةُ (إِذَنْ) بِالنُّونِ لِجَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ الْمُبَرِّدُ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: أَشْتَهِي أَنْ أَكْوِيَ يَدَ مَنْ يَكْتُبُهَا بِالْأَلِفِ ; لِأَنَّهَا مِثْلُ أَنْ وَلَنْ، وَلَا يَدْخُلُ التَّنْوِينُ فِي الْحُرُوفِ (لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا ; أَيِ: انْتِقَالُ (طُلَّابِ السُّنَنْ) لِأَجْلِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ ; لِاسْتِغْنَائِهِمْ بِالْإِجَازَةِ عَنْهَا. زَادَ شُعْبَةُ: وَكُلُّ حَدِيثٍ لَيْسَ فِيهِ " سَمِعْتُ قَالَ: سَمِعْتُ " فَهُوَ خَلٌّ وَبَقْلٌ وَنَحْوُهُ. وَقَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا يَفْعَلُهَا، وَإِنْ تَسَاهَلْنَا فِي هَذَا يَذْهَبِ الْعِلْمُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلطَّلَبِ مَعْنًى، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 (وَ) جَاءَ أَيْضًا (عَنْ أَبِي الشَّيْخِ) ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الشَّهِيرَةِ (مَعَ) أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (الْحَرْبِيِّ إِبْطَالُهَا) . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ الْجَلَّابُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ لَا تَجُوزُ، وَلَيْسَ هِيَ بِشَيْءٍ. وَكَذَا قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ جَزَرَةُ، فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ، وَالْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ: الْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. (كَذَاكَ لِلسِّجْزِيِّ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ جِيمٍ بَعْدَهَا زَاءٌ نِسْبَةً لِسِجِسْتَانَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْوَائِلِيُّ الْحَافِظُ، أَحَدُ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ، الْقَوْلُ بِإِبْطَالِهَا، بَلْ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيَهُ، فَقَالَ: وَسَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: قَوْلُ الْمُحَدِّثِ: قَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، تَقْدِيرُهُ: أَجَزْتُ لَكَ مَا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُبِيحُ مَا لَمْ يُسْمَعْ. وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِبْطَالِ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي طَاهِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الدَّبَّاسِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا لَمْ تَسْمَعْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ. وَرَوَاهُ السِّلَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْوَجِيزِ فِي ذِكْرِ الْمُجَازِ وَالْمُجِيزِ) مِنْ طَرِيقِ الْخَلِيلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 بْنِ أَحْمَدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (الْإِحْكَامِ) : الْإِجَازَةُ، يَعْنِي الْمُجَرَّدَةَ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا النَّاسُ، بَاطِلَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيزَ بِالْكَذِبِ، وَمَنْ قَالَ لَآخَرَ: ارْوِ عَنِّي جَمِيعَ رِوَايَتِي، أَوْ يُجِيزُهُ بِهَا دِيوَانًا دِيوَانًا وَإِسْنَادًا إِسْنَادًا، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الْكَذِبَ، قَالَ: وَلَمْ تَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَحَسْبُكَ بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ. وَكَذَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ: ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَلَقَّى بِالْإِجَازَةِ حُكْمٌ، وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا عَمَلًا وَرِوَايَةً (لَكِنْ عَلَى جَوَازِهَا) أَيِ: الْإِجَازَةِ (اسْتَقَرَّا عَمَلُهُمُ) أَيْ: أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَصَارَ بَعْدَ الْخُلْفِ إِجْمَاعًا، وَأَحْيَا اللَّهُ بِهَا كَثِيرًا مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ مُبَوَّبَهَا وَمُسْنَدَهَا، مُطَوَّلَهَا وَمُخْتَصَرَهَا، وَأُلُوفًا مِنَ الْأَجْزَاءِ النَّثْرِيَّةِ، مَعَ جُمْلَةٍ مِنَ الْمَشْيَخَاتِ وَالْمَعَاجِمِ وَالْفَوَائِدِ انْقَطَعَ اتِّصَالُهَا بِالسَّمَاعِ. وَاقْتَدَيْتُ بِشَيْخِي فَمَنْ قَبِلَهُ فَوَصَلْتُ بِهَا جُمْلَةً، وَرَحِمَ اللَّهُ الْحَافِظَ عَلَمَ الدِّينِ الْبِرْزَالِيَّ حَيْثُ بَالَغَ فِي الِاعْتِنَاءِ بِطَلَبِ الِاسْتِجَازَاتِ مِنَ الْمُسْنِدِينَ لِلصِّغَارِ وَنَحْوِهِمْ، فَكَتَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْتِدْعَاءَاتِ أَلْفِيًّا ; أَيْ: مُشْتَمِلًا عَلَى أَلْفِ اسْمٍ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ كَابْنِ سَعْدٍ وَالْوَانِيِّ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ. وَكَذَا مِمَّنْ بَالَغَ فِي عَصْرِنَا فِي ذَلِكَ مُفِيدُنَا الْحَافِظُ أَبُو النَّعِيمِ الْمُسْتَمْلِي، وَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 عُمْدَةُ الْمُحَدِّثِينَ النَّجْمُ بْنُ فَهْدٍ الْهَاشِمِيُّ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا. وَمِمَّنِ اخْتَارَ التَّعْوِيلَ عَلَيْهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْحَدِيثِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ لَضَاعَ الْعِلْمُ، وَلِذَا قَالَ عِيسَى بْنُ مِسْكِينٍ صَاحِبُ سُحْنُونٍ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ: هِيَ رَأْسُ مَالٍ كَبِيرٍ، وَهِيَ قَوِيَّةٌ. وَقَالَ السِّلَفِيُّ: هِيَ ضَرُورِيَّةٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَمُوتُ الرُّوَاةُ، وَتُفْقَدُ الْحُفَّاظُ الْوُعَاةُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى إِبْقَاءِ الْإِسْنَادِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَّا الْإِجَازَةُ، فَالْإِجَازَةُ فِيهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ، وَرِفْدٌ جَسِيمٌ ; إِذِ الْمَقْصُودُ إِحْكَامُ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِحْيَاءُ الْآثَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِالسَّمَاعِ [الْحَجِّ: 78] ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، قَالَ: وَمِنْ مَنَافِعِهَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 طَالِبٍ يَقْدِرُ عَلَى رِحْلَةٍ وَسَفَرٍ، إِمَّا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ عَدَمَ الرِّحْلَةِ، أَوْ بُعْدِ الشَّيْخِ الَّذِي يَقْصِدُهُ، فَالْكِتَابَةُ حِينَئِذٍ أَرْفَقُ، وَفِي حَقِّهِ أَوْفَقُ، فَيَكْتُبُ مَنْ بِأَقْصَى الْغَرْبِ إِلَى مَنْ بِأَقْصَى الشَّرْقِ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِي رِوَايَةِ مَا يَصِحُّ عَنْهُ - انْتَهَى. وَقَدْ كَتَبَ السِّلَفِيُّ هَذَا مِنْ ثَغْرِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ صَاحِبِ (الْكَشَّافِ) ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، يَسْتَجِيزُهُ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِهِ وَإِجَازَاتِهِ وَرِوَايَاتِهِ، وَمَا أَلَّفَهُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ، وَأَنْشَأَهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالرَّسَائِلِ وَالشِّعْرِ، فَأَجَابَهُ بِجُزْءٍ لَطِيفٍ فِيهِ لُغَةٌ وَفَصَاحَةٌ مَعَ الْهَضْمِ فِيهِ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَقَرِيبَةُ الْمِيلَادِ، حَدِيثَةُ الْإِسْنَادِ، لَمْ تَعْتَضِدْ بِأَشْيَاخٍ نَحَارِيرَ، وَلَا بِأَعْلَامٍ مَشَاهِيرَ. وَكَذَا اسْتَجَازَ أَبَا شُجَاعٍ عُمَرَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ فِي أَبْيَاتٍ: إِنِّي أَجَزْتُ لَكُمْ عَنِّي رِوَايَتَكُمْ ... بِمَا سَمِعْتُ مِنْ أَشْيَاخِي وَأَقْرَانِي مِنْ بَعْدِ أَنْ تَحْفَظُوا شَرْطَ الْجَوَازِ لَهَا ... مُسْتَجْمِعِينَ بِهَا أَسْبَابَ إِتْقَانِ أَرْجُو بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَذْكُرُنِي ... يَوْمَ النُّشُورِ وَإِيَّاكُمْ بِغُفْرَانِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ النِّعْمَةِ: لَمْ تَزَلْ مَشَايِخُنَا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْإِجَازَاتِ، وَيَرَوْنَهَا مِنْ أَنْفَسِ الطَّلَبَاتِ، وَيَعْتَقِدُونَهَا رَأْسَ مَالِ الطَّالِبِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَيَرَوْنَ مَنْ عَدِمَهَا الْمَغْلُوبَ لَا الْغَالِبَ، فَإِذَا ذَكَرَ حَدِيثًا أَوْ قِرَاءَةً أَوْ مَعْنًى مَا قَالُوا: أَيْنَ إِسْنَادُهُ، وَعَلَى مَنِ اعْتِمَادُهُ؟ فَإِنْ عُدِمَ سَنَدًا يُتْرَكُ سُدًى، وَنُبِذَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ فَضْلُهُ. (وَالْأَكْثَرُونَ) مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ (طُرَّا) بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ; أَيْ: جَمِيعًا (قَالُوا بِهِ) أَيْ: بِالْجَوَازِ أَيْضًا قَبْلَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخَانِ، وَلَكِنَّ شَيْخَنَا مُتَوَقِّفٌ فِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ كَانَ يَرَى بِهَا ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ، يَعْنِي فِي الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ، الْإِجَازَةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْمُكَاتَبَةِ، وَلَا الْوِجَادَةَ وَلَا الْوَصِيَّةَ وَلَا الْإِعْلَامَ الْمُجَرَّدَاتِ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَكَأَنَّهُ لَا يَرَى بِشَيْءٍ مِنْهَا - انْتَهَى. وَقَدْ يَغْمُضُ الِاحْتِجَاجُ لِصِحَّتِهَا وَيُقَالُ: الْغَرَضُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْإِفْهَامُ، وَالْفَهْمُ حَاصِلٌ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ غُمُوضٌ ; أَيْ: مِنْ جِهَةِ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ بِالتَّفَاصِيلِ، وَيَتَّجِهُ أَنْ نَقُولَ: إِذَا أَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَرْوِيَّاتِهِ، يَعْنِي الْمُعَيَّنَةَ أَوِ الْمَعْلُومَةَ، فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا جُمْلَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ بِهَا تَفْصِيلًا، وَإِخْبَارُهُ لَهُ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّصْرِيحِ نُطْقًا، يَعْنِي فِي كُلِّ حَدِيثٍ كَالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ حُصُولُ الْإِفْهَامِ وَالْفَهْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَارْتَضَاهُ كُلُّ مَنْ بَعْدَهُ. لَكِنْ قَدْ بَحَثَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ: إِنَّهُ قِيَاسٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْعِلَّةِ، فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 يَكُونُ صَحِيحًا، وَأَيْضًا فَمَنْعُ الْإِلْحَاقِ مُتَّجِهٌ، وَالْفَرْقُ نَاهِضٌ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْجَوَازِ فِي الْمُفَصَّلِ الْجَوَازُ فِي الْمُجْمَلِ ; لِجَوَازِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمُفَصَّلِ، وَلَوْ عَكَسَ لَجَازَ. وَفِيهِ نَظَرٌ ; فَابْنُ الصَّلَاحِ لَمْ يُجَرِّدِ الْقِيَاسَ عَنِ الْعِلَّةِ، بَلْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْإِفْهَامَ يَعْنِي الْإِعْلَامَ بِأَنَّ هَذَا مَرْوِيَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَاحِثَ قَدْ ذَكَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى الدَّبَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ مَا لَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنِ ابْنِ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّاوِيَ بِهَا إِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّ الَّذِي يَسُوقُهُ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ، وَأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةِ تَعَيُّنِهِ وَتَشَخُّصِهِ، فَلَا نِزَاعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْكَذِبِ فِي شَيْءٍ، وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْجَوَازُ - انْتَهَى. وَالْإِفْصَاحُ فِي الْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ إِجَازَةً بَعْدَ اشْتِهَارِ مَعْنَاهَا كَافٍ، وَكَذَا يُسْتَدَلُّ لَهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( «بَلِّغُوا عَنِّي» )) الْحَدِيثَ ; فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ كَمَا سَيَأْتِي لِلْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، فَيَكُونُ هُنَا أَوْلَى. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ حَمَلَهُ الْخَطِيبُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيَتَأَيَّدُ بِتَصْرِيحِ الرَّبِيعِ بِالْجَوَازِ، بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِإِجَازَتِهَا لِمَنْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ سَمَاعِ الصَّغِيرِ، وَيَأْتِي فِي النَّوْعِ السَّابِعِ أَيْضًا، وَلَمَّا قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْكُتُبَ؟ قَالَ لَهُ: خُذْ كُتُبَ الزَّعْفَرَانِيِّ فَانْتَسِخْهَا ; فَقَدْ أَجَزْتُهَا لَكَ. وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ مَعَ الرَّبِيعِ لِيَكُونَ تَحَمُّلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 لِلْكِتَابِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا حَمَلَ الْخَطِيبُ قَوْلَ مَالِكٍ: لَا أَرَاهَا، عَلَى الْكَرَاهَةِ أَيْضًا ; لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْحَافِظُ: إِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمَا - أَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ - أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ بِظَاهِرِهَا، وَالصَّحِيحُ تَأْوِيلُهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَأَنَّ مَذْهَبَهُمَا الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا - انْتَهَى. وَحِينَئِذٍ فَالْكَرَاهَةُ إِمَّا لِخَشْيَةِ الِاسْتِرْوَاحِ بِهَا، بِحَيْثُ يُتْرَكُ السَّمَاعُ وَكَذَا الرِّحْلَةُ بِسَبَبِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ شُعْبَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقَدْ رَدَّهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ بِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِاقْتِصَارِ الطَّالِبِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَسْعَى وَلَا يَرْحَلُ، بَلْ نَقُولُ بِهَا لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ قُصُورِ نَفَقَةٍ، أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، أَوْ صُعُوبَةِ مَسْلَكٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، يَعْنِي مِمَّنْ قَالَ بِهَا، لَا زَالُوا يَتَجَشَّمُونَ الْمَصَاعِبَ، وَيَرْكَبُونَ الْأَهْوَالَ فِي الِارْتِحَالِ أَخْذًا بِمَا حَثَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُقْعِدْهُمُ اعْتِمَادُهَا عَنْ ذَلِكَ. وَكَلَامُ السِّلَفِيِّ الْمَاضِي يُسَاعِدُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهَا مُلَازِمَةٌ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ لِبَقَاءِ الرِّحْلَةِ مِنْ جِهَةِ تَحْصِيلِ الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنَ الْإِجَازَةِ فِي التَّحَمُّلِ. نَعَمْ، قَدْ زَادَ الرُّكُونُ الْآنَ إِلَيْهَا، وَكَادَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِالسَّمَاعِ وَنَحْوِهِ الْكَثِيرُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا ; لِعَدَمِ تَمْيِيزِ السَّامِعِ مِنَ الْمُجَازِ، أَوْ لِلْخَوْفِ مِنَ النِّسْبَةِ لِلتَّعْجِيزِ ; حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِلرِّوَايَةِ قَدْ حَازَ، بَلْ قَدْ تُوُسِّعَ فِي الْإِذْنِ لِمَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ بِالْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ، وَاسْتُدْرِجَ لِلْخَوْضِ فِي ذَلِكَ الْإِيهَامُ وَالتَّلْبِيسُ، وَكَثُرَ الْمُتَسَمَّوْنَ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 مِنَ الْعُلُومِ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَحْلَامِ وَالْفُهُومِ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ. وَإِمَّا لِتَضَمُّنِهَا حَمْلَ الْعِلْمِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا عُرِفَ بِخِدْمَتِهِ وَحَمْلِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مَالِكٍ مِنْ إِجَازَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَوْلُهُ: يُحِبُّ أَحَدُهُمْ أَنْ يُدْعَى قِسًّا وَلَمَّا يَخْدُمِ الْكَنِيسَةَ. يَعْنِي بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ بَلَدِهِ وَمُحَدِّثَ مِصْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَاسِيَ عَنَاءَ الطَّلَبِ وَمَشَقَّةَ الرِّحْلَةِ ; اتِّكَالًا عَلَى الْإِجَازَةِ، كَمَنْ أَحَبَّ مِنْ رُذَّالِ النَّصَارَى أَنْ يَكُونَ قِسًّا، وَمَرْتَبَتُهُ لَا يَنَالُهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْرَاجٍ طَوِيلٍ، وَتَعَبٍ شَدِيدٍ - انْتَهَى. وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَتُحِبُّ أَنْ تَتَزَبَّبَ قَبْلَ أَنْ تَتَحَصْرَمَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا: تُرِيدُ أَخْذَ هَذَا الْعِلْمِ الْكَثِيرِ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَكُلُّ هَذَا مُوَافِقٌ لِمُشْتَرِطِ التَّأَهُّلِ حِينَ الْإِجَازَةِ، كَمَا سَيَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي النَّوْعِ السَّابِعِ، وَفِي لَفْظِ الْإِجَازَةِ وَشَرْطِهَا. وَمَا حَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا عَلَى الْبُطْلَانِ، بَلْ هُوَ عَيْنُ النِّزَاعِ. وَكَذَا مَا قَالَهُ الدَّبَّاسُ وَابْنُ حَزْمٍ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ ; لِمَا عُلِمَ مِنْ رَدِّهِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُجِيزِ، وَلَا بِدُونِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ، بَلْ قَيَّدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ الصِّحَّةَ بِتَحَقُّقِ الْحَدِيثِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَّالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى. وَكَذَا قَيَّدَ الْبَرْقَانِيُّ الصِّحَّةَ بِمَنْ كَانَتْ لَهُ نُسْخَةٌ مَنْقُولَةٌ مِنَ الْأَصْلِ أَوْ مُقَابَلَةٌ بِهِ، وَإِطْلَاقُ الْحَرْبِيِّ الْمَنْعَ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 لِقَوْلِ الْجَلَّابِ رَاوِي مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ: قُلْتُ لَهُ: سَمِعْتُ كِتَابَ الْكَلْبِيِّ وَقَدْ تَقَطَّعَ عَلَيَّ، وَالَّذِي هُوَ عِنْدَهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَهَلْ تَرَى أَنْ أَسْتَجِيزَهُ أَوْ أَسْأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إِلَيَّ؟ قَالَ: الْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، سَلْهُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إِلَيْكَ. وَ (كَذَا) الْمُعْتَمَدُ (وُجُوبُ الْعَمَلِ) وَالِاحْتِجَاجِ بِالْمَرْوِيِّ (بِهَا) مِمَّنْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ كَالسَّمَاعِ إِلَّا لِمَانِعٍ آخَرَ (وَقِيلَ) ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ: (لَا) يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ (كَحُكْمِ) الْحَدِيثِ (الْمُرْسَلِ) . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِجَازَةِ مَا يَقْدَحُ فِي اتِّصَالِ الْمَنْقُولِ بِهَا، وَلَا فِي الثِّقَةِ بِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ، فَلَا إِخْبَارَ فِيهِ الْبَتَّةَ. وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ مَنْ نَعْرِفُ عَيْنَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَدَالَتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: وَهَذَا وَاضِحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. تَتِمَّةٌ: هَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الْإِجَازَاتُ بِالْقِرَاءَاتِ؟ الظَّاهِرُ نَعَمْ، وَلَكِنْ قَدْ مَنَعَهُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ الْآتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ قَرِيبًا، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ وَالْحَدِيثِ، وَبَالَغَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَكَأَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الشَّيْخُ أَهْلًا ; لِأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ لَا تَحْكُمُهَا إِلَّا الْمُشَافَهَةُ، وَإِلَّا فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ، إِذَا كَانَ قَدْ أَحْكَمَ الْقُرْآنَ وَصَحَّحَهُ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو الْعَلَاءِ نَفْسُهُ، حَيْثُ يَذْكُرُ سَنَدَهُ بِالتِّلَاوَةِ ثُمَّ يُرْدِفُهُ بِالْإِجَازَةِ، إِمَّا لِلْعُلُوِّ أَوِ الْمُتَابَعَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ، بَلْ (سَوْقُ الْعَرُوسِ) لِأَبِي مَعْشَرٍ الطَّبَرِيِّ شَيْخِ مَكَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 مَشْحُونٌ بِقَوْلِهِ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وَقَدْ قَرَأَ بِمَضْمُونِهِ، وَرَوَاهُ الْخَلْقُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ رِوَايَةُ الْكَمَالِ الضَّرِيرِ شَيْخِ الْقُرَّاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ - الْقِرَاءَاتِ بِكِتَابِ (الْمُسْتَنِيرِ) لِأَبِي طَاهِرِ بْنِ سِوَارٍ، عَنِ الْحَافِظِ السِّلَفِيِّ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، أَفَادَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ. [النَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ دُونَ الْمُجَازِ] 450 - وَالثَّانِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ ... دُونَ الْمُجَازِ وَهْوَ أَيْضًا قَبِلَهْ 451 - جُمْهُورُهُمْ رِوَايَةً وَعَمَلَا ... وَالْخُلْفُ أَقْوَى فِيهِ مِمَّا قَدْ خَلَا وَالنَّوْعُ (الثَّانِ) ، بِحَذْفِ الْيَاءِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدِةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ (أَنْ يُعَيِّنَ) الْمُحَدِّثُ الطَّالِبَ (الْمُجَازَ لَهْ دُونَ) الْكِتَابِ (الْمُجَازِ) بِهِ، كَأَنْ يَقُولَ إِمَّا بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا: أَجَزْتُ لَكَ أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (وَهْوُ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ (أَيْضًا قَبِلَهْ جُمْهُورُهُمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالنُّظَّارِ سَلَفًا وَخَلَفًا (رِوَايَةً) بِهِ (وَعَمَلًا) بِالْمَرْوِيِّ بِهِ بِشَرْطِهِ الْآتِي فِي شَرْطِ الْإِجَازَةِ، وَلَكِنَّ (الْخُلْفُ) فِي كُلِّ مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ (أَقْوَى فِيهِ) أَيْ: فِي هَذَا النَّوْعِ (مِمَّا قَدْ خَلَا) فِي الَّذِي قَبْلَهُ، بَلْ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ الْإِجْمَاعَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا أَحَالَهُ عَلَى تَرَاجُمِ كُتُبٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أُصُولِهِ، وَلَا مِنَ الْفُرُوعِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ، وَهُوَ فِي تَصْحِيحِ مَا رَوَى النَّاسُ عَنْهُ عَلَى خَطَرٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي بَلَدٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - عَلَى هَذَا الطَّالِبِ التَّفَحُّصُ عَنْ أُصُولِ الرَّاوِي مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ الْأَثْبَاتِ، فَمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَيَكُونُ مِثَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلَ الرَّجُلِ لَآخَرَ: وَكَّلْتُكَ فِي جَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَكَ أَنَّهُ مِلْكٌ لِي أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْوِكَالَةِ الْمُفَوِّضَةِ. فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ صَحِيحٌ، [وَمَتَى صَحَّ عِنْدَهُ مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْإِجَازَةُ الْمُطْلَقَةُ] ، مَتَى صَحَّ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ التَّعْمِيمُ فِي الْمُجَازِ] 452 - وَالثَّالِثُ التَّعْمِيمُ فِي الْمُجَازِ ... لَهُ وَقَدْ مَالَ إِلَى الْجَوَازِ 453 - مُطْلَقًا الْخَطِيبُ وَابْنُ مَنْدَهْ ... ثُمَّ أَبُو الْعَلَاءِ أَيْضًا بَعْدَهْ 454 - وَجَازَ لِلْمَوْجُودِ عِنْدَ الطَّبَرِي ... وَالشَّيْخُ لِلْإِبْطَالِ مَالَ فَاحْذَرِ 455 - وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ ... كَالْعُلَمَا يَوْمَئِذٍ بِالثَّغْرِ 456 - فَإِنَّهُ إِلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ ... قُلْتُ: عِيَاضٌ، قَالَ: لَسْتُ أَحْسَبُ 457 - فِي ذَا اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَرَى ... إِجَازَةً لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا وَالنَّوْعُ (الثَّالِثُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (التَّعَّمْيمُ فِي الْمُجَازِ لَهُ) ، سَوَاءٌ عُيِّنَ الْمُجَازُ بِهِ أَوْ أُطْلِقَ، كَأَنْ يَقُولَ إِمَّا بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا: أَجَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَرْوِيَّاتِي. (وَقَدْ) تَكَلَّمَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِمَّنْ جَوَّزَ أَصْلَ الْإِجَازَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ (فَمَالَ) أَيْ: ذَهَبَ (إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا) ، سَوَاءٌ الْمَوْجُودُ حِينَ الْإِجَازَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَبْلَ وَفَاةِ الْمُجِيزِ، قُيِّدَ بِوَصْفٍ حَاصِرٍ كَأَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ مَنْ دَخَلَ بَلَدَ كَذَا، أَوْ مَنْ وَقَفَ عَلَى خَطِّي، أَوْ مَنْ مَلَكَ نُسْخَةً مِنْ تَصْنِيفِي هَذَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُقَيَّدْ كَأَهْلِ لَا إِلَهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 إِلَّا اللَّهُ، الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ (الْخَطِيبُ) فَإِنَّهُ اخْتَارَ فِيمَا إِذَا أَجَازَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةَ مُتَمَسِّكًا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَمَنْ لَا يُحْصَى كَبَنِي تَمِيمٍ وَقُرَيْشٍ الَّذِي جَنَحَ إِلَى كَوْنِهِ أَظَهَرَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قِيَاسًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ; إِذْ كُلُّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِ الْوَقْفُ إِذَا أَحْصَى وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُحْصَ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْإِجَازَةِ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ. وَمِمَّنْ صَحَّحَ الْوَقْفَ كَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالُوا: وَمَنْ جَازَ الْوَقْفُ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَكَذَا جَوَّزَ هَذَا النَّوْعَ جَمَاعَةٌ (وَ) مَالَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ابْنُ مَنْدَهْ) فَإِنَّهُ أَجَازَ لِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (ثُمَّ) الْحَافِظُ الثِّقَةُ (أَبُو الْعَلَاءِ) الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْهَمْدَانِيُّ الْعَطَّارُ جَوَّزَهُ (أَيْضًا بَعْدَهْ) أَيْ: بَعْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، حَسْبَمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، بَلْ وَإِلَى غَيْرِهِ، الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ ; إِذْ سَأَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الدُّبَيْثِيُّ عَنِ الرِّوَايَةِ بِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: لَمْ أَرَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَعْمَلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ، وَلَمْ يَرَوْا بِهَا بَأْسًا، وَرَأَوْا أَنَّ التَّخْصِيصَ وَالتَّعْمِيمَ فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَقَالُوا: مَتَى عُدِمَ السَّمَاعُ الَّذِي هُوَ مُضَاهٍ لِلشَّهَادَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّعْيِينِ، قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْحُفَّاظِ نَحْوِ أَبِي الْعَلَاءِ، يَعْنِي الْعَطَّارَ، وَغَيْرِهِ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى الْجَوَازِ، وَفِيمَا كَتَبَ إِلَيْنَا الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي بَعْضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 مُكَاتَبَاتِهِ أَجَازَ لِأَهْلِ بُلْدَانٍ عِدَّةٍ، مِنْهَا بَغْدَادُ، وَوَاسِطُ، وَهَمْدَانُ، وَأَصْبَهَانُ، وَزَنْجَانُ - انْتَهَى. وَأَجَازَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الشِّنْتَجَانِيُّ، أَحَدُ الْجُلَّةِ مِنْ شُيُوخِ الْأَنْدَلُسِ، لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ قُرْطُبَةَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ صَاحِبُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ، حَكَاهُ عَنْهُمَا عِيَاضٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ أَوَّلَهُمَا أَجَازَ (صَحِيحَ مُسْلِمٍ) لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حَمْلَهُ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ سَمِعَهُ مِنَ السِّجْزِيِّ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ عِيَاضٌ: وَإِلَى صِحَّةِ الْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ، ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ. (وَ) كَذَا (جَازَ) التَّعْمِيمُ فِي الْإِجَازَةِ (لِلْمَوْجُودِ) حِينَ صُدُورِهَا خَاصَّةً (عِنْدَ) الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ طَاهِرٍ (الطَّبَرِيِّ) فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ لِي: يَجُوزُ أَنْ يُجِيزَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ إِجَازَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ أَوْ جَهَالَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ ; كَأَجَزْتُ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، أَمْ عَامٍّ ; كَأَجَزْتُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، وَمِثْلُهُ إِذَا قَالَ: أَجَزْتُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 الطَّيِّبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا كَانَتِ الْإِجَازَةُ لِمَوْجُودٍ - انْتَهَى. وَمِنِ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( «بَلِّغُوا عَنِّي» )) الْحَدِيثَ. وَقَدْ قَوَّى الِاسْتِدْلَالَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ، وَمَنَعَ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَفَاتِي مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِ اللَّهِ» ، بِأَنَّ الْعِتْقَ النَّافِذَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ضَبْطٍ وَتَحْدِيثٍ وَعَمَلٍ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَفِيهَا ذَلِكَ. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي تَعْيِينَ الْمَحَلِّ وَتَشْخِيصَهُ، ضَرُورَةَ أَنَّ الرَّاوِيَ بِالْإِجَازَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ الْوَحْدَةَ النَّوْعِيَّةَ، بَلْ مَآلُهُ الْوَحْدَةُ الشَّخْصِيَّةُ. وَكَذَلِكَ مَا يَنْفَذُ فِيهِ الْعِتْقُ وَيَصِحُّ فِيهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ قَالَ الْحَازِمِيُّ: إِنَّ التَّوَسُّعَ بِهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ غَيْرُ مَحْمُودٍ، فَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ، أَوْ تَهَيَّأَ تَأْكِيدُهُ بِمُتَابِعٍ لَهُ سَمَاعًا أَوْ إِجَازَةً خَاصَّةً، كَانَ ذَلِكَ أَحْرَى. بَلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ كَمَا وَجَدَهُ الْمُنْذِرِيُّ بِخَطِّهِ، مَنْعُ الرِّوَايَةِ بِهَا وَعَدَمُ التَّعْرِيجِ عَلَيْهَا، قَالَ: وَالْإِتْقَانُ تَرْكُهَا. وَذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ - كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ - إِلَى الْمَنْعِ أَيْضًا فِي الْمَجْهُولِ كُلِّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ. (وَ) كَذَا (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (لِلْإِبْطَالِ) أَيْضًا (مَالَ) ، حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْإِجَازَةَ فَرَوَى بِهَا، وَلَا عَنِ الشِّرْذِمَةِ الْمُسْتَأْخَرَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الَّذِينَ سَوَّغُوهَا، وَالْإِجَازَةُ فِي أَصْلِهَا ضَعِيفَةٌ، وَتَزْدَادُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِرْسَالِ ضَعْفًا كَثِيرًا لَا يَنْبَغِي احْتِمَالُهُ، [وَعَلَى هَذَا] (فَاحْذَرِ) أَيُّهَا الطَّالِبُ اسْتِعْمَالَهَا رِوَايَةً وَعَمَلًا. وَقَدْ أَنْصَفَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي قَصْرِهِ النَّفْيَ عَلَى رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ ; لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَعْمَلَهَا جَمَاعَاتٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ، كَالْحَافِظِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ الْفَقِيهِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُحْسِنِ الْمَقْدِسِيُّ الْفَقِيهُ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ السِّلَفِيُّ كَمَا فِي مُعْجَمِ السَّفَرِ لَهُ: إِنَّهُ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ، فَقَالَ: قَدْ أَجَزْتُ لَكَ، وَلِكُلِّ مَنْ وَقَعَ بِيَدِهِ جُزْءٌ مِنْ رِوَايَاتِي فَاخْتَارَ الرِّوَايَةَ عَنِّي. وَكَالْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَتَّانِيِّ ; فَإِنَّ صَاحِبَهُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ الْأَكْفَانِيِّ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ لَهُ: أَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَجَزْتُ لِكُلِّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ الْآنَ فِي الْإِسْلَامِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَرَوَى عَنْهُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ مَحْفُوظُ بْنُ صَصَرَى التَّغْلِبِيُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَكَالْحَافِظِ السِّلَفِيِّ حَيْثُ حَدَّثَ بِهَا عَنِ ابْنِ خَيْرُونَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَإِنِ اسْتُفِيدَ مِنْ كَلَامِ الْحَازِمِيِّ الَّذِي صَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ مُشْعِرٌ بِاقْتِفَائِهِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ. بَلْ عَزَى تَجْوِيزَهَا وَالرِّوَايَةَ بِهَا أَيْضًا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، وَحَدَّثَ بِهَا أَيْضًا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَيْرٍ الْأَشْبِيلِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي بَرْنَامَجِهِ الشَّهِيرِ، وَابْنُ أَبِي الْمُعَمِّرِ فِي كِتَابِ (عُلُومِ الْحَدِيثِ) عَنِ السِّلَفِيِّ، وَكَذَا أَبُو الْعَلَاءِ الْعَطَّارُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشِّيرُوِيِّ فِيمَا أَفَادَهُ الرَّافِعِيُّ، بَلْ حَدَّثَ بِهَا الرَّافِعِيُّ نَفْسُهُ فِي تَأْرِيخِ قَزْوِينَ عَنِ السِّلَفِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَجَازَ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتَهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَمَّا تَرْجَمَ الْوَزِيرُ بْنُ بِنْيَمَانَ بْنِ عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي تَأْرِيخِهِ قَالَ: إِنَّهُ شَيْخٌ مَسْتُورٌ مُعَمِّرٌ، ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ حِينَ كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ بِقَزْوِينَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَتَنَاوَلَتْهُ إِجَازَةُ الشِّيرُوِيِّ الْعَامَّةُ ; لِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سَنَةَ سِتِّمَائَةٍ أَحَادِيثَ مُخَرَّجَةً مِنْ مَسْمُوعَاتِ الشِّيرَوِيِّ - انْتَهَى. وَحَدَّثَ بِهَا أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي تَصَانِيفِهِ عَنْ أَبِي الْوَقْتِ وَالسِّلَفِيِّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وَاسْتَعْمَلَهَا خَلْقٌ بَعْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ، كَأَبِي الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ الْقِفْطِيِّ، حَدَّثَ فِي تَأْرِيخِ النُّحَاةِ بِهَا عَنِ السِّلَفِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الطَّيْلَسَانِ حَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَضَاءٍ الْجَيَّانِيِّ، وَالْحَافِظِ الدِّمْيَاطِيِّ حَدَّثَ بِهَا عَنِ الْمُؤَيَّدِ الطُّوسِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَبْدِ الْبَارِي الصَّعِيدِيِّ حَدَّثَ بِهَا عَنِ الصَّفْرَاوِيِّ بِمَشْيَخَتِهِ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالتَّقِيِّ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالْعِمَادِ ابْنِ كَثِيرٍ حَيْثُ حَدَّثَ بِهَا عَنِ الدِّمْيَاطِيِّ عَنِ الْمُؤَيَّدِ عَامَّةً [عَنْ عَامَّةٍ] ، وَالزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ الْمُصَنِّفِ حَدَّثَ فِي الْأَرْبَعِينَ الْعُشَارِيَّاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 لَهُ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزُّهْرِيِّ الْعَوْفِيِّ عَنْ سَبْطِ السِّلَفِيِّ إِذْنًا عَامًّا، وَوَلَدُهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ حَدَّثَ عَنِ اثْنَيْنِ مِنْ شُيُوخِهِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي عُمُومِ إِجَازَةِ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ - أَعْنِي النَّوَوِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّنْ صَحَّحَ جَوَازَهَا فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ قَضَاءِ الْقَاضِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ جَامِعِ آدَابِ الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ صُوَرِهَا أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ. قَالَ: وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَصَاحِبُهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى جَوَازِهَا، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الرَّوْضَةِ مِنْ تَصَانِيفِهِ. وَكَذَا رَجَّحَ جَوَازَهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ، وَالْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ - أَيْ: جَوَازُ الرِّوَايَةِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ - بِهَا أَلْحَقُ. وَعَمِلَ بِهَا النَّوَوِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ - كَمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ - فِي آخِرِ بَعْضِ تَصَانِيفِهِ: وَأَجَزْتُ رِوَايَتَهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَجَازَهَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَأَجَازَ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَضَاءٍ الْمَاضِي، وَأَبُو الْحُسَيْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْقُرَشِيُّ، وَالْقُطْبُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْقَسْطَلَانِيُّ، وَأَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ الْحَافِظُ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ خَطَّهُ فِي آخِرِ بَعْضِ تَصَانِيفِهِ، وَالْفَخْرُ بْنُ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو الْمَعَالِي الْأَبَرْقُوهِيُّ، وَخَلْقٌ مِنَ الْمُسْنِدِينَ كَالْحَجَّارِ وَزَيْنَبَ ابْنَةِ الْكَمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لِكَثْرَةِ مَنْ جَوَّزَهَا أَفْرَدَهُمُ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْبَدْرِ الْبَغْدَادِيُّ الْكَاتِبُ فِي تَصْنِيفٍ رَتَّبَهُمْ فِيهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَكَذَا جَمَعَهُمْ أَبُو رُشَيْدِ بْنُ الْغَزَّالِ الْحَافِظُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ: (الْجَمْعُ الْمُبَارَكُ) . أَفَادَهُ أَبُو الْعَلَاءِ الْفَرَضِيُّ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ حَيْدَرَ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَيْدَرٍ الْقَزْوِينِيَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وَقَالَ النَّوَوِيُّ مُشِيرًا لِتَعَقُّبِ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَرَ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا، حَتَّى وَلَا مَنْ سَوَّغَهَا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ: إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ مَنْ صَحَّحَهَا جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَهَذَا مُقْتَضَى صِحَّتِهَا، وَأَيُّ فَائِدَةٍ لَهَا غَيْرُ الرِّوَايَةِ - انْتَهَى. وَاسْتَجَازَ بِهَا خَلْقٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ وَاجِبٍ ; فَإِنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ مَضَاءٍ الْإِجَازَةَ الْعَامَّةَ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ لِجَمِيعِ مَنْ أَرَادَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، فَأَسْعَفَهُمْ بِهَا، وَأَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْوَرَّاقُ ; فَإِنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْوَلِيدِ بْنَ رُشْدٍ الْإِجَازَةَ لِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ الْحَمْلَ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانُوا مِمَّنْ ضَمَّتْهُ وَأَبَاهُ حَيَاةٌ فِي عَامِ الْإِجَازَةِ، فَأَجَابَهُ لِذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ خَيْرٍ. وَدَعَا الْحَافِظُ الْمُزَكِّي الْمُنْذِرِيُّ النَّاسَ لِأَخْذِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَامَتِيتَ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، فَأَخَذَهُ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَسَمِعَ بِهَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ وَالْبِرْزَالِيُّ وَالذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الرُّكْنِ الطَّاوُوسِيِّ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَغَيْرِهِ. وَكَذَا لَمَّا قَدِمَ الصَّدْرُ أَبُو الْمُجَامِعِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَيَّدِ الْحَمَوِيُّ بُعَيْدَ السَّبْعِمِائَةِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ وَالْمُحَدِّثُونَ، وَسَمِعُوا مِنْهُ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الصَّيْدَلَانِيِّ أَيْضًا. وَقَرَأَ الصَّلَاحُ أَبُو سَعِيدٍ الْعَلَائِيُّ الْحَافِظُ عَلَى الْحَجَّارِ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنْ دَاوُدَ بْنِ مَعْمَرِ بْنَ الْفَاخِرِ، وَالْبُرْهَانِيُّ الْحَلَبِيُّ عَلَى بَعْضِ رُفَقَائِهِ فِي السَّفِينَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ جَامِعِ تَنِّيسَ الَّذِي خَرِبَ، بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الْحَجَّارِ، وَالْمُحَدِّثُ الرَّحَّالُ أَبُو جَعْفَرٍ الْبِسْكَرِيُّ الْمَدَنِيُّ عَلَى التَّقِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكِنَانِيِّ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الدِّمْيَاطِيِّ، وَالصَّلَاحُ خَلِيلٌ الْأَقْفَهْسِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ عَلَى زَيْنَبَ ابْنَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْعَصِيدَةِ بِإِجَازَتِهَا الْعَامَّةِ مِنَ الْفَخْرِ وَزَيْنَبَ ابْنَةِ مَكِّيٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وَنَحْوِهِمَا، [وَرَوَى بِهَا ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنِ الْمَيْدُومِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ حَكَى اتِّفَاقَ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ ; حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى مَا أَسْنَدَ عَامَّةُ الْمُتَضَمِّنَةِ الِاسْتِجَازَةَ لِأَهْلِ الْعَصْرِ] . وَسَمِعَ شَيْخُنَا مِنَ الزَّيْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْفِيشِيِّ، عُرِفَ بِالْمُزْجَانِيِّ، بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الدِّمْيَاطِيِّ، وَمِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّبَيْدِيِّ الدَّاعِيَةِ بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الْبَهَاءِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَالْحَافِظُ الْجَمَالُ بْنُ مُوسَى الْمُرَاكِشِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ الْخُضَرِيِّ الْإِسْكَنْدَرِيِّ بِهَا بِإِجَازَتِهِ الْعَامَّةِ مِنَ الْفَخْرِ بْنِ الْبُخَارِيِّ، وَصَاحِبُنَا النَّجْمُ بْنُ فَهْدٍ الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِيِّ الدِّمَشْقِيِّ بِهَا بِإِجَازَتِهِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 زَيْنَبَ ابْنَةِ الْكَمَالِ فِي آخَرِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ. غَيْرَ أَنَّهُ اغْتُفِرَ فِي الطَّلَبِ مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِي الْأَدَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَقُولُونُ: إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ ; أَيْ: جَمِّعْ مَا وَجَدْتَ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ ; أَيْ: تَثَبَّتْ عِنْدَ الرِّوَايَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ مَعَ كَوْنِهِ كَمَا قَدَّمْتُ مِمَّنْ رَوَى بِهَا: وَفِي النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَنَا أَتَوَقَّفُ عَنِ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَقَالَ فِي نُكَتِهِ: وَالِاحْتِيَاطُ تَرْكُ الرِّوَايَةِ بِهَا، بَلْ نَقَلَ شَيْخُنَا عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِهَا عَنْ مُتْقِنِي شُيُوخِهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ أَيْضًا يَعْتَدُّ بِهَا، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِيهَا بَعْضُ خُصُوصٍ، كَأَهْلِ مِصْرَ ; اقْتِنَاعًا بِمَا عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ وَالْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ، وَلَا يُورِدُ فِي تَصَانِيفِهِ بِهَا شَيْئًا، وَيَرَى هُوَ وَشَيْخُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِإِسْنَادٍ تَتَوَالَى فِيهِ الْأَجَايِزُ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُهُ كَذَلِكَ، أَوْلَى مِنْ سَنَدٍ فِيهِ إِجَازَةٌ عَامَّةٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ التَّاسِعِ. وَقَالَ فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ لَهُ: إِنَّ الْقَوْلَ بِهَا تَوَسُّعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ; لِأَنَّ الْإِجَازَةَ الْخَاصَّةَ الْمُعَيِّنَةَ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا اخْتِلَافًا قَوِيًّا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ اسْتَقَرَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَهِيَ دُونَ السَّمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَيْفَ إِذَا حَصَلَ فِيهَا الِاسْتِرْسَالُ الْمَذْكُورُ ; فَإِنَّهَا تَزْدَادُ ضَعْفًا، لَكِنَّهَا فِي الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ إِيرَادِ الْحَدِيثِ مُعْضَلًا. قُلْتُ: وَالْحُجَّةُ لِلْمُبْطِلِينَ أَنَّهَا إِضَافَةٌ إِلَى مَجْهُولٍ، فَلَا تَصِحُّ كَالْوَكَالَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي لِلْأَخْذِ بِهَا، فَضْلًا عَنِ الرِّوَايَةِ، لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ مَنْ لَقِينَاهُ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّعْمِيرَ، أَوْ يُدَّعَى لَهُ، فِيهِ تَوَقُّفٌ، حَتَّى إِنَّ شَخْصًا مِنْ أَعْيَانِهِمْ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 تَقَدُّمٌ فِي عُلُومٍ زَعَمَ أَنَّهُ جَازَ الْمِائَةَ بِثَلَاثِينَ فَأَزْيَدَ، وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ، بَلْ وَمَنْ لَهُ شُهْرَةٌ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ حَقَّقْتُ لَهُمْ أَنَّهُ نَحْوُ الثَّمَانِينَ فَقَطْ. وَنَحْوُهُ مَا اتَّفَقَ أَنَّ شَخْصًا كَانَ يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَجِّي الْخَلِيلِيُّ مِمَّنْ تُوُفِّيَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ وَثَمَانِي مِائَةٍ، ادَّعَى أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضُ الطَّلَبَةِ بِإِجَازَتِهِ مِنَ الْحَجَّارِ وَنَحْوِهِ، مَعَ طَعْنِ الْحَافِظِ التَّقِيِّ الْفَاسِيِّ عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، فَعِنْدِي بِحَمْدِ اللَّهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ وَالْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ مَا يُغْنِي عَنِ التَّوَسُّعِ بِذَلِكَ. نَعَمْ، قَدْ دَخَلَتْ فِي إِجَازَةِ خَلْقٍ مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ، هِيَ إِلَى الْخُصُوصِ أَقْرَبُ، وَهِيَ الِاسْتِجَازَةُ لِأَبْنَاءِ صُوفِيَّةِ الْخَانْقَاهِ الْبِيبَرْسِيَّةِ، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ مِنْهُمْ، فَأَوْرَدْتُهُمْ فِي مُعْجَمِي مَعَ تَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ ; لِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى أَحَدِهِمْ، وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّ مَنْ يُصَحِّحُ الْإِجَازَةَ الْخَاصَّةَ خَاصَّةً لَا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ كَالْعُلَمَا) بِالْقَصْرِ، الْمَوْجُودِينَ (يَوْمَئِذٍ) أَيْ: يَوْمَ الْإِجَازَةِ (بِالثَّغْرِ) دِمْيَاطَ أَوْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ أَوْ صَيْدَا أَوْ غَيْرِهَا [أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ] ، كَأَجَزْتُ لِمَنْ مَلَكَ نُسْخَةً مِنَ التَّصْنِيفِ الْفُلَانِيِّ (فَإِنَّهُ) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (إِلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ) ، هَذَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 بِتَصْحِيحٍ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ، حَيْثُ أَجَازَ رِوَايَةَ عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ تَصْنِيفِهِ عَنْهُ لِمَنْ مَلَكَ مِنْهُ نُسْخَةً، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ لِمَنْ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ كَمَا تَقَدَّمَ: أَجَزْتُ لَكَ وَلِكُلِّ مَنْ وَقَعَ بِيَدِهِ جُزْءٌ مِنْ رِوَايَاتِي فَاخْتَارَ الرِّوَايَةَ عَنِّي، وَكَذَا أَجَازَ أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ الْقَاضِي لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ بِبَلَدِهِ. (قُلْتُ) : (وَعِيَاضٌ) [سَبَقَ ابْنَ الصَّلَاحِ] فَ (قَالَ: لَسْتُ أَحْسَبُ) أَيْ: أَظُنُّ (فِي) جَوَازِ (ذَا) أَيِ: الْإِجَازَةِ لِمَنْ هُوَ الْآنَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِبَلَدِ كَذَا، أَوْ لِمَنْ قَرَأَ عَلَيَّ قَبْلَ هَذَا (اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءِ (مِمَّنْ يَرَى إِجَازَةً) أَيْ: يَعْتَمِدُ الْإِجَازَةَ الْخَاصَّةَ رِوَايَةً وَعَمَلًا، وَلَا رَأَيْتُ مَنْعَهُ ; أَيْ: بِخُصُوصِهِ لِأَحَدٍ ; (لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا) مَوْصُوفًا، كَقَوْلِهِ: لِأَوْلَادِ فُلَانٍ أَوْ إِخْوَةِ فُلَانٍ - انْتَهَى. وَكَذَا جَزَمَ بِهِ شَيْخُنَا فِي أَوْلَادِ فُلَانٍ وَنَحْوِهِ، وَسَبَقَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فَقَالَ: وَقَعَ لَنَا وَقْتَ الطَّلَبِ اسْتِدْعَاءَاتٌ فِيهَا أَسْمَاءٌ مُعَيَّنَةٌ، وَفِي بَعْضِهَا: وَلِفُلَانٍ وَأَوْلَادِهِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَفِي بَعْضِهَا: وَلِفُلَانٍ وَإِخْوَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي تَأْرِيخِ الِاسْتِدْعَاءِ، وَأَدْرَكْنَا جَمَاعَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَأُجْرِيَ مَجْرَى مَنْ هُوَ مُسَمًّى، وَفِي نَفْسِي أَنَّهُ دُونَهُ - انْتَهَى. وَحِينَئِذٍ، فَكُلُّ مَا قَلَّ فِيهِ الْعُمُومُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْخُصُوصِ الْحَقِيقِيِّ ; لِوُجُودِ الْخُصُوصِ الْإِضَافِيِّ فِيهِ، يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ: أَجَزْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَوِ الشِّيعَةِ أَوِ الْحَنَفِيَّةِ أَوِ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَلُّ انْتِشَارًا ; لِانْحِصَارِ الْمَجَازِ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ مَعَ الْعُمُومِ فِيهِ. [النَّوْعُ الرَّابِعُ الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيزَ لَهْ] 458 - وَالرَّابِعُ الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيزَ لَهْ ... أَوْ مَا أُجِيزَ، كَأَجَزْتُ أَزْفَلَهْ 459 - بَعْضَ سَمَاعَاتِي كَذَا إِنْ سَمَّى ... كِتَابًا أَوْ شَخْصًا وَقَدْ تَسَمَّى 460 - بِهِ سِوَاهُ، ثُمَّ لَمَّا يَتَّضِحْ ... مُرَادُهُ مِنْ ذَاكَ فَهْوَ لَا يَصِحْ 461 - أَمَّا الْمُسَمَّوْنَ مَعَ الْبَيَانِ ... فَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالْأَعْيَانِ 462 - وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَّلَهُمْ ... مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَتَصَفُّحٍ لَهُمْ (وَ) النَّوْعُ (الرَّابَعُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيزَ لَهْ) مِنَ النَّاسِ (أَوْ) بِ (مَا أُجِيزَ) بِهِ مِنَ الْمَرْوِيِّ، فَالْأَوَّلُ (كَأَجَزْتُ) بَعْضَ النَّاسِ، أَوْ (أَزْفَلَهْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْفَاءِ ثُمَّ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَاءِ التَّأْنِيثِ، الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وَالثَّانِي: كَأَجَزْتُ فُلَانًا (بَعْضَ سَمَاعَاتِي) ، وَ (كَذَا) مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا هُوَ جَهْلٌ بِالتَّعْيِينِ (إِنْ سَمَّى) الْمُجِيزُ (كِتَابًا أَوْ) بِالنَّقْلِ (شَخْصًا وَقَدْ تَسَمَّى بِهِ) أَيْ: بِذَاكَ الْكِتَابِ أَوِ الشَّخْصِ. (سِوَاهُ) ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وَفِي مَرْوِيَّاتِهِ عِدَّةُ كُتُبٍ يُعْرَفُ كُلٌّ مِنْهَا بِالسُّنَنِ ; كَأَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ، أَوْ يَقُولُ: أَجَزْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الِاسْمِ، وَقَدْ تَكُونُ الْجَهَالَةُ فِيهِمَا مَعًا، كَأَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ جَمَاعَةً بَعْضَ مَسْمُوعَاتِي، أَوْ أَجَزْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ كِتَابَ السُّنَنِ. (ثُمَّ لَمَّا) أَيْ: لَمْ (يَتَّضِحْ مُرَادُهُ) أَيِ: الْمُجِيزُ (مِنْ ذَاكَ) كُلِّهِ بِقَرِينَةٍ (فَهْوَ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ (لَا يَصِحْ) لِلْجَهْلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا عِنْدَ السَّامِعِ، وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ فِيهِ، وَكَوْنِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِمَعْرِفَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى عِيَاضٌ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: أَجَزْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ، أَوْ لِقَوْمٍ، أَوْ لِنَفَرٍ لَا غَيْرُ، لَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ، وَلَا تُفِيدُ هَذِهِ الْإِجَازَةُ ; إِذْ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةٍ هَذَا الْمُبْهَمِ وَلَا تَعْيِينِهِ. وَصَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: فَهَذِهِ إِجَازَةٌ فَاسِدَةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا. وَكَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِيهَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَقِبَ آدَابِ الْقَضَاءِ قُبَيْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَالِبِ فِي مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ. نَعَمْ، إِنِ اتَّضَحَ مُرَادُهُ فِيهَا بِقَرِينَةٍ كَأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَجَزْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ؟ بِحَيْثُ لَا يَلْتَبِسُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنِ اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَنِسْبَتِهِ، فَيَقُولُ: أَجَزْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، أَوْ يُقَالُ لَهُ: أَجَزْتَ لِي كِتَابَ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ؟ فَيَقُولُ: أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَةَ السُّنَنِ، أَوْ يُقَالُ لَهُ: أَجَزْتُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُقِيمِينَ بِمَسْجِدِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: أَجَزْتُ الْجَمَاعَةَ، فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ، وَيُنَزَّلُ عَلَى الْمَسْئُولِ فِيهِ بِقَرِينَةِ سَبْقِ ذِكْرِهِ. (أَمَّا) الْجَمَاعَةُ (الْمُسَمَّوْنَ) الْمُعَيَّنُونَ فِي اسْتِدْعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ (مَعَ الْبَيَانِ) لِأَنْسَابِهِمْ وَشُهَرِهِمْ، بِحَيْثُ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ عَنْهُمْ، وَيَتَمَيَّزُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَى الْعَادَةِ الشَّائِعَةِ فِي ذَلِكَ (فَلَا يَضُرُّ) وَالْحَالَةُ هَذِهِ (الْجَهْلُ) مِنَ الْمُجِيزِ (بِالْأَعْيَانِ) ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، وَالْإِجَازَةُ صَحِيحَةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُسْمِعِ عَيْنَ السَّامِعِ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ، وَإِنْ أَشْعَرَ مَا حَكَيْتُهُ فِي سَابِعِ التَّفْرِيعَاتِ الَّتِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ بِخِلَافِهِ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا الْوَاحِدُ الْمُسَمَّى الْمُعَيَّنُ مِمَّنْ يَجْهَلُ الْمُجِيزُ عَيْنَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَضُرُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 جَهَالَتُهُ عَيْنَ مَنْ سَمَّى لَهُ عِيَاضٌ. (وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَّلَهُمْ) أَيْ: جَمَّعَهُمْ بِالْإِجَازَةِ (مِنْ غَيْرِ) حَصْرٍ فِي (عَدٍّ، وَ) مِنْ غَيْرِ (تَصَفُّحٍ لَهُمْ) وَاحِدًا وَاحِدًا ; قِيَاسًا عَلَى السَّمَاعِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْقِيَاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ قِسْمِ السَّمَاعِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَازَةُ كَذَلِكَ ; لِإِمْكَانِ ادِّعَاءِ الْقَدْحِ فِي الْإِجَازَةِ دُونَ السَّمَاعِ، فَالْقِيَاسُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ فِي السَّمَاعِ الَّذِي الْأَمْرُ فِيهِ أَضْيَقُ ; لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَاضِرِ مَعَ الْجَهْلِ بِعَيْنِهِ، فَصِحَّتُهُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْإِجَازَةِ الَّتِي الْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ ; لِكَوْنِهَا لِلْحَاضِرِ وَلِلْغَائِبِ، مِنْ بَابِ أَوْلَى. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ نُوزِعَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَهِيَ مَنْ لَمْ يُسَمَّ أَصْلًا، وَبَيْنَ مَنْ سُمِّيَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا بَعْدَهَا مَعَ اشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الْإِبْهَامِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ إِنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ الْجَهَالَةِ وَالْإِبْهَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي ذَاكَ شَدِيدٌ ; لِخَفَائِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، بِخِلَافِهِ هُنَا فَهُوَ عِنْدَ سَامِعِهِ فَقَطْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ فِي قَوِيِّ وَصْفِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ فِي ضَعِيفِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، [وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ بِالْمُجِيزِ مَعْرِفَتَهُ فِي الْأُولَى ; لِتَعَذُّرِ الْبَحْثِ عَنْ تَعْيِينِهِ] ، وَكَذَا بَحْثُ بَعْضِهِمْ فِي صِحَّتِهِ فِي الْأُولَى حَمْلًا لَهُ عَلَى الْعُمُومِ، يَعْنِي حَيْثُ صَحَّحْنَا الْإِجَازَةَ الْعَامَّةَ ; إِذِ اللَّفْظُ صَالِحٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ لَمْ نَسْتَفِدْ تَعْيِينَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوَاهُ فِيمَا إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَذِنْتُ لِلْعَاقِدِ بِهَذَا الْبَلَدِ أَنْ يُزَوِّجَنِي، وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ عَاقِدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا [بِجَهَالَةِ الْجَمَاعَةِ لِتَنْكِيرِهَا بِخِلَافِ الْعَاقِدِ] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 [النَّوْعُ الْخَامِسُ التَّعْلِيقُ فِي الْإِجَازَهْ] 463 - وَالْخَامِسُ التَّعْلِيقُ فِي الْإِجَازَهْ ... بِمَنْ يَشَاؤُهَا الَّذِي أَجَازَهْ 464 - أَوْ غَيْرُهُ مُعَيَّنًا وَالْأُولَى ... أَكْثَرُ جَهْلًا وَأَجَازَ الْكُلَّا 465 - مَعًا أَبُو يَعْلَى الْإِمَامُ الْحَنْبَلِي ... مَعَ ابْنِ عَمْرُوسٍ وَقَالَ: يَنْجَلِي 466 - الْجَهْلُ إِذْ يَشَاؤُهَا وَالظَّاهِرُ ... بُطْلَانُهَا أَفْتَى بِذَاكَ طَاهِرُ 467 - قُلْتُ: وَجَدْتُ ابْنَ أَبِي خَيْثَمَةِ ... أَجَازَ كَالثَّانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ 468 - وَإِنْ يَقُلْ: مَنْ شَاءَ يَرْوِي قَرُبَا ... وَنَحْوَهُ الْأَزْدِي مُجِيزًا كُتُبَا 469 - أَمَّا أَجَزْتُ لِفُلَانٍ إِنْ يُرِدْ ... فَالْأَظْهَرُ الْأَقْوَى الْجَوَازُ فَاعْتَمِدْ (وَ) النَّوْعُ (الْخَامِسُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (التَّعْلِيقُ فِي الْإِجَازَهْ) ، وَلَمْ يُفْرِدْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلْ قَالَ فِيهِ: وَيَتَثَبَّتُ بِذَيْلِهِ الْإِجَازَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ، وَذَكَرَهُ، وَإِفْرَادُهُ حَسَنٌ، خُصُوصًا وَالصُّورَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي لَا جَهَالَةَ فِيهَا. ثُمَّ التَّعْلِيقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ (بِمَنْ يَشَاؤُهَا) أَيِ: الْإِجَازَةَ (الَّذِي أَجَازَهْ) الشَّيْخُ، يَعْنِي أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ مُبْهَمٍ لِنَفْسِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: مَنْ شَاءَ أَنْ أُجِيزَ لَهُ فَقَدْ أَجَزْتُ لَهُ، أَوْ أَجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ. وَقَدْ كَتَبَ أَبُو الطَّيِّبِ الْكَوْكَبِيُّ إِلَى ابْنِ حَيَّوَيْهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَقَدْ سَأَلَنِي ابْنُكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَنْ أُجِيزَ لَكَ هَذَا التَّأْرِيخَ الَّذِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَقَدْ أَجَزْتُهُ لَكَ وَلِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ، فَارْوِهِ عَنِّي وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ (أَوْ) يَشَاؤُهَا (غَيْرُهُ) أَيْ: غَيْرُ الْمُجَازِ، حَالَ كَوْنِهِ (مُعَيَّنًا) ، فَهِيَ مُعَلَّقَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 بِمَشِيئَةِ مُسَمًّى لِغَيْرِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: مَنْ شَاءَ فُلَانٌ أَنْ أُجِيزَهُ فَقَدْ أَجَزْتُهُ، أَوْ أَجَزْتُ لِمَنْ يَشَاءُ فُلَانٌ، أَوْ يَقُولُ لِشَخْصٍ: أَجَزْتُ لِمَنْ شِئْتَ رِوَايَةَ حَدِيثِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَلْحَقَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِهَا الصُّورَةَ الْأُولَى، لَكِنَّهُ قَالَ: (وَالْأُولَى) أَيِ: التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ الْمُجَازِ لَهُ الْمُبْهَمِ (أَكْثَرُ جَهْلًا) وَانْتِشَارًا مِنَ الثَّانِيَةِ ; فَإِنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا يُحْصَرُ عَدَدُهُمْ، وَالثَّانِيَةُ بِمَشِيئَةِ مُعَيَّنٍ، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي جَهَالَةِ الْمُجَازِ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْغَيْرُ مُبْهَمًا، كَأَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي، فَأَكْثَرُ جَهْلًا ; لِوُجُودِ الْجَهَالَةِ فِيهَا فِي الْجِهَتَيْنِ، وَلِذَا كَانَتْ فِيهَا بِخُصُوصِهَا بَاطِلَةً قَطْعًا. (وَأَجَازَ الْكُلَّا) أَيِ: الصُّورَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ (مَعًا) الْقَاضِي (أَبُو يَعْلَى) مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ الْفَرَّاءِ (الْإِمَامُ الْحَنْبَلِي) وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدٍ مُؤَلِّفِ طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ (مَعَ ابْنِ عَمْرُوسٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ، فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الشَّافِعِيُّ فِي جُزْءِ الْإِجَازَةِ لِلْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُولِ (وَقَالَا) مُسْتَدِلِّينَ لِلْجَوَازِ: (يَنْجَلِي الْجَهْلُ) فِيهَا فِي ثَانِي الْحَالِ (إِذْ يَشَاؤُهَا) أَيِ: الْإِجَازَةَ، الْمُجَازُ لَهُ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ الِاسْتِدْلَالَ وَلَا الصُّورَةَ الْأُولَى فِي الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ، وَلَا عَزَاهَا ابْنُ الصَّلَاحِ لَهُمَا، بَلْ كَلَامُهُ مُحْتَمِلٌ لِكَوْنِ الِاسْتِدْلَالِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى الصِّحَّةِ فِيهَا ; حَيْثُ قَالَ: فَهَذَا فِيهِ جَهَالَةٌ وَتَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ. (وَالظَّاهِرُ بُطْلَانُهَا) وَعَدَمُ صِحَّتِهَا، وَقَدْ (أَفْتَى بِذَاكَ) الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ (طَاهِرُ) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ ; إِذْ سَأَلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ عَنْهَا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِجَازَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، يَعْنِي الْمُجِيزَيْنِ وَالْمُبْطِلَ، كَانُوا مَشَايِخَ مَذَاهِبِهِمْ بِبَغَدَادَ إِذْ ذَاكَ، وَكَذَا مَنَعَهَا الْمَاوَرْدِيُّ كَمَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ: لِأَنَّهُ تَحَمُّلٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْمُتَحَمِّلِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَعَلَّ مَنْ مَنَعَ صِحَّتَهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْوَكَالَةِ ; فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: وَكَّلْتُكَ إِذْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، لَمْ يَصِحْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ الْإِجَازَةَ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ، يَعْنِي: الْمُعَيَّنِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ يُعَلَّلُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ; فَإِنَّ مَا يَفْسَدُ [بِالْجَهَالَةِ يَفْسَدُ] بِالتَّعْلِيقِ عَلَى مَا عُرِفَ عِنْدَ قَوْمٍ. (قُلْتُ) : وَلَكِنْ قَدْ (وَجَدْتُ) الْحَافِظَ (ابْنَ أَبِي خَيْثَمَةَ) أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ (أَجَازَ) بِكَيْفِيَّتِهِ (كَالثَّانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ) فِي الْمُجَازِ فَقَطْ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ: أَجَزْتُ لِأَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ مَسْلَمَةَ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي مَا أَحَبَّ مِنْ تَأْرِيخِي الَّذِي سَمِعَهُ مِنِّي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ الْأَصْبَغِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، كَمَا سَمِعَاهُ مِنِّي، وَأَذِنْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلِمَنْ أَحَبَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ تَكُونَ الْإِجَازَةُ لِأَحَدٍ بَعْدَ هَذَا فَأَنَا أَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ بِكِتَابِيِّ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَافِظِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ: أَجَزْتُ لِعُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ، وَوَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَتَنِهِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ جَمِيعَ مَا فَاتَهُ مِنْ حَدِيثِي مِمَّا لَمْ يُدْرِكْ سَمَاعَهُ مِنَ الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ، وَلِكُلِّ مَنْ أَحَبَّ عُمَرُ فَلْيَرْوُوهُ عَنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَازَةِ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، إِلَّا أَنَّ اسْمَهُ ذَهَبَ مِنْ حِفْظِي، انْتَهَى. وَلَعَلَّ مَا رَآهُ هُوَ مَا حَكَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا الصَّنِيعِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، بِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ ذَاكَ، وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِالتَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ الْمُعَيَّنِ الْإِذْنُ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي مَنْ شِئْتَ؟ لَمْ أَرَ فِيهَا نَقْلًا، إِلَّا مَا حَكَاهُ شَيْخُنَا فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَنْصُورٍ الْغَسَّانِيِّ مِنْ لِسَانِ الْمِيزَانِ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ وَكَالَاتٌ بِالْإِجَازَةِ مِنْ شُيُوخٍ وَكَّلُوهُ فِي الْإِذْنِ لِمَنْ يُرِيدُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ، قَالَ ابْنُ مَسْدِيٍّ: وَكُنْتُ مِمَّنْ كُتِبَ إِلَيَّ بِالْإِجَازَةِ عَنْهُ وَعَنْ مُوَكِّلِهِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 (603) هـ، انْتَهَى. وَقَدْ فَعَلَهُ شَيْخُنَا، بَلْ وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ فِيهِ الصِّحَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ: وَكِّلْ عَنِّي. وَيَكُونُ مُجَازًا مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ، وَيَنْعَزِلُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ بِمَوْتِ الْآذِنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ كَالْوَكِيلِ، فَلَوْ قَالَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي فُلَانًا، كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي قِسْمِ الْكِتَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّعْلِيقِ لِنَفْسِ الْإِجَازَةِ. (وَإِنْ يَقُلْ: مَنْ شَاءَ) الرِّوَايَةَ عَنِّي (يَرْوِي) [فَقَدْ أَجَزْتُهُ] ، وَكَانَ التَّعْلِيقُ لِلرِّوَايَةِ (قَرُبَا) الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ. وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ: أَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، يَعْنِي مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ عِنْدَ مُجِيزِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُقْتَضَى كُلِّ إِجَازَةٍ تَفْوِيضُ الرِّوَايَةِ بِهَا إِلَى مَشِيئَةِ الْمُجَازِ لَهُ، فَكَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ تَصْرِيحًا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ، وَحِكَايَةً لِلْحَالِ لَا تَعْلِيقًا فِي الْحَقِيقَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَفْظِيًّا فَهُوَ لَازِمٌ حُصُولُهُ بِحُصُولِهَا، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُ ذِكْرِهِ سَوَاءً فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ. وَاسْتَظْهَرَ لِلْأَوْلَوِيَّةِ بِتَجْوِيزِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْبَيْعِ ; أَيْ: وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا، أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا إِنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ: قَبِلْتُ. وَنُوزِعَ فِي الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْمُبْتَاعَ مُعَيَّنٌ، وَالْمُجَازَ لَهُ هُنَا مُبْهَمٌ، وَكَذَا تَعَقَّبَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ التَّعْلِيقُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لِلْإِيجَابِ عَلَى مَا عَلَيْهِ تَفَرُّعٌ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيحِ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ ; فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَبِلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لِتَوَقُّفِ تَمَامِ الْبَيْعِ عَلَى قَبُولِهِ، بِخِلَافِهِ فِي الْإِجَازَةِ، فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَجَزْتُ لِمَنْ شَاءَ الرِّوَايَةَ، تَعْلِيقًا ; لِأَنَّهُ قَبْلَ مَشِيئَةِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ مُجَازًا، وَبَعْدَ مَشِيئَتِهَا يَكُونُ مُجَازًا. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعْلِيقٍ وَجَهْلٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ. نَعَمْ، نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ: وَكَّلْتُ مَنْ شَاءَ، أَوْ أَوْصَيْتُ لِمَنْ شَاءَ وَأَمْثَالُهُمَا مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهَا، قَالَ: وَإِذَا بَطَلَ فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِهَا مَا لَا تَحْتَمِلُهُ غَيْرُهَا فَلَأَنْ يَبْطَلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَنَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيقِ الرِّوَايَةِ، أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ (الْأَزْدِي) الْمَوْصِلِيُّ الْحَافِظُ، حَالَ كَوْنِهِ (مُجِيزًا كُتُبًا) بِخَطِّهِ فَقَالَ: أَجَزْتُ رِوَايَةَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنِّي (أَمَّا) لَوْ قَالَ: (أَجَزْتُ) لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، أَوْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ فِهْرِسَتِي إِنْ شِئْتَ الرِّوَايَةَ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ (لِفُلَانٍ) الْفُلَانِيِّ (إِنْ يُرِدْ) ، أَوْ يُحِبَّ الرِّوَايَةَ عَنِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ أَوْ يُشَابِهُهَا (فَالْأَظْهَرُ الْأَقْوَى) فِيهَا (الْجَوَازُ) إِذْ قَدِ انْتَفَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَحَقِيقَةُ التَّعْلِيقِ، وَلَمْ يَبْقَ سِوَى صِيغَتِهِ (فَاعْتَمِدْ) ذَلِكَ. وَإِنْ حَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ الْمَنْعَ فِيهَا عَنْ قَوْمٍ ; لِأَنَّهَا تَحَمُّلٌ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَعْيِينُ الْمُتَحَمِّلِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَجْدَرُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَالْأَوْلَى بِنَجَابَةِ الْمُحَدِّثِ وَحِفْظِهِ - انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ إِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 شِئْتِ، لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ قَالَ: أَجَزْتُ لِفُلَانٍ إِنْ يُرِدِ الْإِجَازَةَ، فَالظَّاهِرُ - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ -: إِنَّهُ لَا فَرْقَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِتَعْلِيقِ الْإِجَازَةِ فِي الْمُعَيَّنِ، فَتَعْلِيلُهُ وَبَعْضُ أَمْثِلَتِهِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ فِيهِ بِعُمُومِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ ابْنِ الصَّلَاحِ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ عَنِ الصُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ قَالَ الْمُجِيزُ: أَذِنْتُ لِمَنْ أَجَزْتُ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنِّي إِنْ شَاءَ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَتِهِ فِي الْإِجَازَةِ، وَيَتَأَيَّدُ بِتَسْوِيَةِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ إِرَادَةِ الْإِجَازَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ فِي الْمُعَيَّنِ. [النَّوْعُ السَّادِسُ الْإِجَازَةُ لِمَعْدُومٍ] 470 - وَالسَّادِسُ الْإِذْنُ لِمَعْدُومٍ تَبَعْ ... كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لِفُلَانٍ مَعْ 471 - أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ ... حَيْثُ أَتَوْا أَوْ خَصَّصَ الْمَعْدُومَ بِهْ 472 - وَهْوَ أَوْهَى، وَأَجَازَ الْأَوَّلَا ... ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَهْوَ مَثَّلَا 473 - بِالْوَقْفِ، لَكِنَّ أَبَا الطَّيِّبِ رَدْ ... كِلَيْهِمَا وَهْوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدْ 474 - كَذَا أَبُو نَصْرٍ وَجَازَ مُطْلَقَا ... عِنْدَ الْخَطِيبِ، وَبِهِ قَدْ سَبَقَا 475 - مِنِ ابْنِ عَمْرُوسٍ مَعَ الْفَرَّاءِ ... وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلَى اسْتِوَاءِ 476 - فِي الْوَقْفِ أَيْ فِي صِحَّةِ مَنْ تَبِعَا ... أَبَا حَنِيفَةٍ وَمَالِكًا مَعَا (وَ) النَّوْعُ (السَّادِسُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (الْإِذْنُ) أَيِ: الْإِجَازَةُ (لِمَعْدُومٍ) ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ، إِمَّا لِمَعْدُومٍ (تَبَعْ) لِمَوْجُودٍ عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ أُدْرِجَ فِيهِ (كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ) الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَرْوِيَّاتِي (لِفُلَانٍ) الْفُلَانِيِّ (مَعْ أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ حَيْثُ أَتَوْا) فِي حَيَاةِ الْمُجِيزِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَا: أَجَزْتُ لَكَ، وَلِمَنْ يُولَدُ لَكَ، وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ بِبَلَدِ كَذَا مَتَى كَانُوا، [ (أَوْ) غَيْرَ تَبَعٍ بِأَنْ] (خَصَّصَ) الْمُجِيزُ (الْمَعْدُومَ بِهْ) أَيْ: بِالْإِذْنِ، وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى مَوْجُودٍ سَابِقٍ، كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي (وَهْوَ أَوْهَى) وَأَضْعَفُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذَاكَ أَقْرَبُ إِلَى الْجَوَازِ (وَ) لِذَا (أَجَازَ الْأَوَّلَا) خَاصَّةً (ابْنُ) الْحَافِظِ الشَّهِيرُ (أَبِي دَاوُدَ) السِّجِسْتَانِيِّ، وَهْوَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، بَلْ فَعَلَهُ فَقَالَ: أَجَزْتُ لَكَ وَلِأَوْلَادِكَ وَلِحَبَلِ الْحَبَلَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ، قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمُحَدِّثِينَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا، وَلَا بَلَغَنِي عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ سِوَاهُ فِيهِ رِوَايَةٌ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَتَأْكِيدِ الْإِجَازَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ. قُلْتُ: لَكِنْ قَدْ عَزَى شَيْخُنَا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ اسْتِعْمَالَهَا، وَابْنُ الصَّبَّاغِ جَوَازَهَا لِقَوْمٍ (وَهْوَ مَثَّلَا) أَيْ: شَبَّهَ (بِالْوَقْفِ) عَلَى الْمَعْدُومِ حَيْثُ صَحَّ فِيمَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ ; فَإِنَّهُ فِي وَصِيَّتِهِ الْمُكْتَتَبَةِ فِي الْأُمِّ أَوْصَى فِيهَا أَوْصِيَاءَ عَلَى أَوْلَادِهِ الْمَوْجُودِينَ، وَمَنْ يُحْدِثُهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَا شَكَ أَنْ يُغْتَفَرَ فِي التَّبَعِ وَالضِّمْنِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأَصْلِ، أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْدُومِ ابْتِدَاءً، كَعَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِفُلَانٍ، فَلَا عَلَى الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ، وَ (لَكِنَّ) الْقَاضِيَ (أَبَا الطَّيِّبِ) طَاهِرًا الطَّبَرِيَّ (رَدَّ كِلَيْهِمَا) أَيِ: الْقِسْمَيْنِ مُطْلَقًا فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وَكَذَا مَنَعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ (وَهْوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدْ) الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ ; لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ جُمْلَةً بِالْمُجَازِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَكَمَا لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ لِلْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ لَهُ، بَلْ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا كَالْوَكَالَةِ لِلْمَعْدُومِ ; لِوُقُوعِهِ فِي حَالَةٍ يَتَعَذَّرُ فِيهَا الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ. وَأَيْضًا فَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَلْزَمُ مِنَ الْجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ الرِّوَايَةُ فِي بَعْضِ صُوَرِ هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي السَّنَدِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا لُقْيٍ وَلَا إِدْرَاكِ عَصْرٍ، وَمِثْلُ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَسَاقِطٌ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَلَمْ نَرَ مَنْ صَرَّحَ بِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ الرَّدُّ، وَ (كَذَا) رَدَّهَا (أَبُو نَصْرٍ) هُوَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَا مُحَادَثَةٌ، يَعْنِي: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُجُودُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا رَدُّهُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا إِذْنٌ (وَ) لَكِنْ (جَازَ) الْإِذْنُ لِلْمَعْدُومِ (مُطْلَقًا عِنْدَ) الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ (الْخَطِيبِ) ، قِياسًا عَلَى صِحَّةِ الْإِجَازَةِ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِذَا صَحَّتِ الْإِجَازَةُ مَعَ عَدَمِ اللِّقَاءِ، وَبُعْدِ الدِّيَارِ، وَتَفَرُّقِ الْأَقْطَارِ فَكَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ اللِّقَاءِ، وَبُعْدِ الزَّمَانِ، وَتَفَرُّقِ الْأَعْصَارِ. وَخَرَّجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ: وَإِذَا جَازَ فِيهِ فَهُنَا أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفِي الْقِيَاسِ تَوَقُّفٌ، ثُمَّ إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي اسْتِلْزَامِهِ رِوَايَةَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ يُدْرِكُهُ وَلَا عَاصَرَهُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: أَجَازَ فُلَانٌ لِي، وَمَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُجِيزِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، قِيلَ: كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَقَفَ فُلَانٌ عَلَيَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْوَاقِفِ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، وَلِأَنَّ بُعْدَ أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ مِنَ الْآخَرِ كَبُعْدِ أَحَدِ الْوَطَنَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، فَلَوْ أَجَازَ مَنْ مَسْكَنُهُ بِالشَّرْقِ لِمَنْ يَسْكُنُ بِالْغَرْبِ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَقُولَ الْمُجَازُ لَهُ: أَجَازَ لِي فُلَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَقِيَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَجَازَ لِمَنْ يُولَدُ بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَجَازَ لِي فُلَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَاصَرَا. وَفِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ يَلْزَمُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا عَكْسَ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بُلُوغُ الْخَبَرِ بِالْإِذْنِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِيهِمَا (وَبِهِ) أَيْ: بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا (قَدْ سَبَقَا) أَيِ: الْخَطِيبُ (مِنْ) جَمَاعَةٍ (كَابْنِ عَمْرُوسٍ) الْمَالِكِيِّ (مَعَ) أَبِي يَعْلَى بْنِ (الْفَرَّاءِ) الْحَنْبَلِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيِّ وَأَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ الْخَطِيبُ قَدِيمًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا أَجَازَهُ غَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بَلْ قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ أَجَازَهُ مُعْظَمُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ: وَبِهَذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُهُمْ بَعْدُ شَرْقًا وَغَرْبًا - انْتَهَى. وَجَزَمَ شَيْخُنَا بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْمَشَارِقَةِ، وَبِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَبِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا (وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْوَقْفِ أَيْ فِي صِحَّةٍ) أَيْ: رَأَى صِحَّةَ الْوَقْفِ فِي الْقِسْمَيْنِ مُعْظَمُ (مَنْ تَبِعَا أَبَا حَنِيفَةٍ) بِالصَّرْفِ [وَبِعَدَمِهِ، لَكِنْ مَعَ الْخَبَلِ] (وَمَالِكًا) رَحِمَهُمَا اللَّهُ. . . . . . . . . . . . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 (مَعَا) ، فَيَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِهِ فِي الْإِجَازَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ; لِأَنَّ أَمْرَهَا أَوْسَعُ مِنَ الْوَقْفِ الَّذِي هُوَ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ، إِلَّا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَنْتَقِلُ إِلَى الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى الثَّالِثِ عَنِ الثَّانِي، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَهِيَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ حَسَبَ مَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَنَحْوُهُ مَا قِيلَ: إِنَّ الْوَقْفَ يَئُولُ غَالِبًا إِلَى الْمَعْدُومِ حِينَ الْإِيقَافِ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَلَفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الْإِجَازَةِ، وَتَبِعَهُ مِنْ مُقَلِّدِيهِ الدَّبَّاسُ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَشْهَرُهُمَا عَنْ مَالِكٍ، [وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ إِلْحَاقُ مَا بَعْدَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ بِهِ فِي التَّلَقِّي مِنَ الْوَاقِفِ. وَفِي الْفَرْقِ الثَّانِي نَظَرٌ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدِي، وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جُزْءًا. [النَّوْعُ السَّابِعُ الْإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ لِلْأَخْذِ عَنْهُ] 477 - وَالسَّابِعُ الْإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ ... لِلْأَخْذِ عَنْهُ كَافِرٍ أَوْ طِفْلِ 478 - غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَذَا الْأَخِيرُ ... رَأَى أَبُو الطَّيِّبِ وَالْجُمْهُورُ 479 - وَلَمْ أَجِدْ فِي كَافِرٍ نَقْلًا بَلَى ... بِحَضْرَةِ الْمِزِّيِّ تَتْرَا فُعِلَا 480 - وَلَمْ أَجِدْ فِي الْحَمْلِ أَيْضًا نَقْلَا ... وَهْوَ مِنَ الْمَعْدُومِ أَوْلَى فِعْلَا 481 - وَلِلْخَطِيبِ لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ ... قُلْتُ: رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَأَلَهْ 482 - مَعْ أَبَوَيْهِ فَأَجَازَ وَلَعَلَّ ... مَا أَصْفَحَ الْأَسْمَاءَ فِيهَا إِذْ فَعَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 483 - وَيَنْبَغِي الْبِنَا عَلَى مَا ذَكَرُوا هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ وَهَذَا أَظْهَرُ (وَ) النَّوْعُ (السَّابِعُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (الْإِذْنُ) أَيِ: الْإِجَازَةُ (لِغَيْرِ أَهْلِ) حِينَ الْإِجَازَةِ (لِلْأَخْذِ عَنْهُ) وَلِلْأَدَاءِ (كَافِرٍ) أَوْ فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ أَوْ مَجْنُونٍ (أَوْ طِفْلِ غَيْرِ مُمَيِّزٍ) تَمْيِيزًا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَ مَعَهُ سَامِعًا (وَذَا الْأَخِيرُ) أَيِ: الْإِجَازَةُ لِلطِّفْلِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِالتَّصْرِيحِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُفْرِدْهُ بِنَوْعٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ذَيْلَ مَسْأَلَةِ الْإِجَازَةِ لِلْمَعْدُومِ (رَأَى) أَيْ: رَآهُ صَحِيحًا مُطْلَقًا، الْقَاضِي (أَبُو الطَّيِّبِ) الطَّبَرِيُّ، حَيْثُ سَأَلَهُ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ عَنْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاعِ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ أَوْسَعُ ; فَإِنَّهَا تَصِحُّ لِلْغَائِبِ بِخِلَافِ السَّمَاعِ (وَ) كَذَا رَآهُ (الْجُمْهُورُ) ، وَحَكَاهُ السِّلَفِيُّ عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الشُّيُوخِ وَالْحُفَّاظِ، وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ الْخَطِيبُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَعَلَى هَذَا رَأَيْنَا كَافَّةَ شُيُوخِنَا يُجِيزُونَ لِلْأَطْفَالِ الْغُيَّبِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَبْلَغِ أَسْنَانِهِمْ، وَحَالِ تَمْيِيزِهِمْ. وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا هِيَ إِبَاحَةُ الْمُجِيزِ الرِّوَايَةَ لِلْمُجَازِ لَهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِغَيْرِ الْمُمَيِّزِ، بَلْ وَلِلْمَجْنُونِ، يَعْنِي لِعَدَمِ افْتِرَاقِهِمَا فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا الطِّفْلَ أَهْلًا لِتَحَمُّلِ هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ لِيُؤَدَّيَ بِهِ بَعْدَ حُصُولِ أَهْلِيَّتِهِ ; حِرْصًا عَلَى تَوَسُّعِ السَّبِيلِ إِلَى بَقَاءِ الْإِسْنَادِ الَّذِي اخْتُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الْأُمَّةُ، وَتَقْرِيبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: الْبُطْلَانُ، وَكَذَا أَبْطَلَهَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ سَبْعَ سِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي " مَتَى يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ". قَالَ ابْنُ زَبْرٍ: وَهُوَ مَذْهَبِي. وَكَأَنَّ الضَّبْطَ بِهِ ; لِأَنَّهُ مَظَنَّةُ التَّمْيِيزِ غَالِبًا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَازَمَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُجَازِ عَالِمًا كَمَا سَيَأْتِي فِي لَفْظِ الْإِجَازَةِ قَرِيبًا مَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَّا بَاقِي الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فَالْمَجْنُونُ، قَدْ عُلِمَ الْحُكْمُ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ الْخَطِيبِ. قَالَ النَّاظِمُ: (وَلَمْ أَجِدْ فِي) الْإِجَازَةِ لِ (كَافِرٍ نَقْلًا) مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِصِحَّةِ سَمَاعِهِ (بَلَى) أَيْ: نَعَمْ (بِحَضْرَةِ) الْحَافِظِ الْحُجَّةِ أَبِي الْحَجَّاجِ (الْمِزِّيِّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ نِسْبَةً لِلْمِزَّةِ قَرْيَةٍ مِنْ دِمَشْقَ (تَتْرَا) أَيْ: مُتَتَابِعًا (فُعِلَا) حَيْثُ أَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيُّ لِابْنِ الدَّيَّانِ حَالَ يَهُودِيَّتِهِ فِي جُمْلَةِ السَّامِعِينَ جَمِيعَ مَرْوِيَّاتِهِ، وَكَتَبَ اسْمَهُ فِي الطَّبَقَةِ، وَأَقَرَّهُ الْمِزِّيُّ الْمَذْكُورُ، بَلْ وَأَجَازَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ كَمَا قَدَّمْتُ كُلَّ ذَلِكَ فِي " مَتَى يَصِحُّ التَّحَمُّلُ "، وَإِذَا جَازَ فِي الْكَافِرِ فَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. (وَ) كَذَا (لَمْ أَجِدْ فِي) إِجَازَةِ (الْحَمْلِ) ، سَوَاءٌ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَمْ لَمْ يُنْفَخْ، عُطِفَ عَلَى مَوْجُودٍ كَأَبَوَيْهِ مَثَلًا أَوْ لَمْ يُعْطَفْ (أَيْضًا نَقْلًا وَهْوَ) أَيْ: جَوَازُ الْإِجَازَةِ لَهُ (مِنْ) جَوَازِ إِجَازَةِ (الْمَعْدُومِ أَوْلَى فِعْلًا) بِلَا شَكٍّ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَنُفِخَ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الرُّوحُ، وَيَشْهَدُ لَهُ تَصْحِيحُهُمُ الْوَصِيَّةَ لِلْحَمْلِ، وَإِيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِمُطَلَّقَتِهِ الْحَامِلِ ; حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّهَا لِأَجْلِهِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمَوْجُودِ. (وَلِلْخَطِيبِ) مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ عَدَمُ النَّقْلِ فِي الْحَمْلِ (لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ) أَيْ: أَجَازَ الْحَمْلَ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يَرَى - كَمَا تَقَدَّمَ - صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلْمَعْدُومِ. (قُلْتُ) : قَدْ (رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ) ، وَهُوَ أَحَدُ شُيُوخِهِ الْمُتَأَخِّرِينَ، الْحَافِظُ الْعُمْدَةُ صَلَاحُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدٍ الْعَلَائِيُّ شَيْخُ بَعْضِ شُيُوخِنَا (قَدْ سَأَلَهْ) أَيِ: الْإِذْنَ لِلْحَمْلِ (مَعْ) بِالسُّكُونِ (أَبَوَيْهِ) إِذْ سُئِلَ فِي الْإِجَازَةِ لَهُمَا وَلِحَمْلِهِمَا (فَأَجَازَ) وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَرَاهَا مُطْلَقًا، أَوْ يَغْتَفِرُهَا تَبَعًا، وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَحْفَظُ وَأَتْقَنُ مِنَ الْمُحَدِّثِ الْمُكْثِرِ الثِّقَةِ أَبِي الثَّنَاءِ مَحْمُودِ بْنِ خَلِيفَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ الْمَنْبِجِيِّ الدِّمَشْقِيِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا، الَّذِي صَرَّحَ فِي كِتَابَتِهِ بِمَا يُشْعِرُ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْإِجَازَةِ لَهُ، بَلْ وَمَنْ أَبْهَمَ اسْمَهُ فَإِنَّهُ قَالَ: أَجَزْتُ لِلْمُسَمَّيْنَ فِيهِ (وَ) لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: (لَعَلَّ) ، يَعْنِي: الْعَلَائِيَّ (مَا أَصْفَحَ) أَيْ: تَصَفَّحَ بِمَعْنَى نَظَرَ (الْأَسْمَاءَ) الَّتِي (فِيهَا) أَيْ: فِي الِاسْتِجَازَةِ، حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ فِيهَا حَمْلٌ أَمْ لَا؟ (إِذْ فَعَلْ) أَيْ: حَيْثُ أَجَازَ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِجَازَةِ بِدُونِ تَصَفُّحٍ وَلَا عَدٍّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ قَرِيبًا، إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ لَا يُجِيزُونَ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْمَنْبِجِيَّ أَيْضًا لَمْ يَتَصَفَّحِ الْإِجَازَةَ، وَظَنَّ الْكُلَّ مُسَمَّيْنَ، أَوْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَمْلَ اسْمُهُ حِينَئِذٍ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الصَّنِيعَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وَعَلَى كُلِّ حَالٍ (فَيَنْبَغِي الْبِنَا) بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ ; أَيْ: بِنَاءُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ لَهُ (عَلَى مَا ذَكَرُوا) أَيِ: الْفُقَهَاءُ، مِنْ أَنَّهُ (هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ) أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُعْلَمُ، فَيَكُونُ كَالْإِذْنِ لِلْمَعْدُومِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُعْلَمُ كَمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ صَحَّ الْإِذْنُ (وَهَذَا) أَيِ: الْبِنَاءُ وَكَوْنُ الْحَمْلِ يُعْلَمُ (أَظْهَرُ) ، فَاعْتَمِدْهُ. ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، إِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَعْلُومِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ، وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا بِنَحْوِ صَفْحَةٍ فِي أَثْنَاءِ فَرْقٍ. وَمُحَصَّلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ كَالسَّمَاعِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ بِهَا. تَتِمَّةٌ: رَأَيْتُ مَنْ كَتَبَ بِهَامِشِ نُسْخَةٍ نَقْلًا عَنِ الْمُصَنِّفِ إِنَّهُ هُوَ السَّائِلُ الْعَلَائِيَّ، وَإِنَّ الْحَمْلَ هُوَ وَلَدُهُ أَحْمَدُ، يَعْنِي الْوَلِيَّ أَبَا زُرْعَةَ. وَفِيهِ نَظَرٌ ; فَمَوْلِدُ أَبِي زُرْعَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَوَفَاةُ الْعَلَائِيِّ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَثَ حَمْلًا أَزْيَدَ مِنَ الْمُعْتَادِ غَالِبًا. [النَّوْعُ الثَّامِنُ الْإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ الشَّيْخُ] 484 - وَالثَّامِنُ الْإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ ... الشَّيْخُ وَالصَّحِيحُ أَنَّا نُبْطِلُهْ 485 - وَبَعْضُ عَصْرِيِّي عِيَاضٍ بَذَلَهْ ... وَابْنُ مُغِيثٍ لَمْ يُجِبْ مَنْ سَأَلَهْ 486 - وَإِنْ يَقُلْ: أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ ... أَوْ سَيَصِحُّ فَصَحِيحٌ عَمِلَهْ 487 - الدَّارَقُطْنِيُّ وَسِوَاهُ أَوْ حَذَفْ ... يَصِحُّ جَازَ الْكُلُّ حَيْثُ مَا عَرَفْ (وَ) النَّوْعُ (الثَّامِنُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (الْإِذْنُ بِمَا) أَيِ: الْإِجَازَةُ بِمَعْدُومٍ (سَيَحْمِلُهُ الشَّيْخُ) الْمُجِيزُ مِنَ الْمَرْوِيِّ مِمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 التَّحَمُّلِ لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ (وَالصَّحِيحُ) بَلِ الصَّوَابُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ عِيَاضٌ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (أَنَّا نُبْطِلُهْ) ، وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا يَكُونُ الْمَعْدُومُ فِيهِ مُنْعَطِفًا عَلَى مَوْجُودٍ كَأَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ مَا رَوَيْتُهُ وَمَا سَأَرْوِيهِ، أَوْ لَا، كَمَا قِيلَ بِهِ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ. (وَبَعْضُ عَصْرِيِّي عِياضٍ) [قَدْ (بَذَلَهْ) بِالْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: أَعْطَى مَنْ سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ كَذَلِكَ مَا سَأَلَهُ] كَمَا حَكَاهُ فِي إِلْمَاعِهِ ; حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ لَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنَ الْمَشَايِخِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْعَصْرِيِّينَ يَصْنَعُونَهُ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ أَكْثَرُ مَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَحِينَئِذٍ فَسَوَاءٌ تَحَمَّلَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ أَوْ قَبْلَهَا إِذَا ثَبَتَ حِينَ الْأَدَاءِ أَنَّهُ تَحَمَّلَهُ. (وَ) لَكِنْ (ابْنُ مُغِيثٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَهُوَ أَبُو الْوَلِيدِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرْطُبِيُّ قَاضِي الْجَمَاعَةِ، وَصَاحِبُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بِهَا، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الصَّفَّارِ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَالْوَافِرُ الْحَظِّ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَشْرِقِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ تَصَانِيفِهِ (التَّسَلِّي عَنِ الدُّنْيَا بِتَأْمِيلِ خَيْرِ الْآخِرَةِ) ، جَاءَهُ إِنْسَانٌ - حَسْبَمَا حَكَاهُ تِلْمِيذُهُ أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زِيَادَةِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الطُّبُنِيُّ الْقُرْطُبِيُّ فِي فِهْرِسَتِهِ - فَسَأَلَهُ الْإِجَازَةَ لَهُ بِجَمِيعِ مَا رَوَاهُ إِلَى تَأْرِيخِهَا، وَمَا يَرْوِيهِ بَعْدُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَ (لَمْ يُجِبْ) فِيهِ (مَنْ سَأَلَهْ) ، فَغَضِبَ السَّائِلُ، فَنَظَرَ يُونُسُ إِلَى الطُّبُنِيِّ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الطُّبُنِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ ; أَيْ: لِلسَّائِلِ: يَا هَذَا، يُعْطِيكَ مَا لَمْ يَأْخُذْ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 هَذَا مُحَالٌ، فَقَالَ يُونُسُ: هَذَا جَوَابِي. قَالَ عِيَاضٌ بَعْدَ سِيَاقِهِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ هَذَا يُخْبِرُ بِمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَيَأْذَنُ لَهُ بِالتَّحْدِيثِ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْدُ، وَيُبِيحُ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُ هَلْ يَصِحُّ لَهُ الْإِذْنُ فِيهِ، فَمَنْعُهُ الصَّوَابُ. قَالَ غَيْرُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَنَّ ذَاكَ دَاخِلٌ فِي دَائِرَةِ حَصْرِ الْعِلْمِ بِأَصْلِهِ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَرْوِهِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ يَنْبَغِي بِنَاؤُهُ، يَعْنِي صِحَّةً وَعَدَمًا، عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ هَلْ هِيَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ بِالْمُجَازِ جُمْلَةً أَوْ هِيَ إِذْنٌ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحْ ; إِذْ كَيْفَ يُخْبِرُ بِمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصْحِيحِ الْإِذْنِ فِي الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْآذِنُ بَعْدُ، كَأَنْ يُوَكَّلَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَكَذَا فِي عِتْقِهِ إِذَا اشْتَرَاهُ، وَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، كَمَا زَادَهُمَا ابْنُ أَبِي الدَّمِ، وَكَمَا إِذَا أَذِنَ الْمَالِكُ لِعَامِلِهِ فِي بَيْعِ مَا سَيَمْلِكُهُ مِنَ الْعُرُوضِ، أَوْ أَوْصَى بِمَنَافِعِ عَيْنٍ يَمْلِكُهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي هَاتَيْنِ، وَوَجْهٌ فِي مَا قَبْلَهُمَا، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ كَذَا، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ كَذَا عَلَى أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ فِي ثَمَرِ نَخْلِهِ قَبْلَ إِثْمَارِهَا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْأَصْحَابِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ مِنْ حُقُوقِهِ وَمَا سَيَجِبُ، أَوْ فِي بَيْعِ مَا مَلَكَهُ وَمَا سَيَمْلِكُهُ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ لِلرَّافِعِيِّ فِي الْأَخِيرَةِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ ; لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي وَصِيَّتِهِ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ فِي الْبَيَانِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ فِي فَتَاوَاهُ، بَلْ أَفْتَى بِأَنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ دَخَلَ فِيهِ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْهَا. وَبِالنَّظَرِ لِهَذِهِ الْفُرُوعِ صِحَّةً وَإِبْطَالًا حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَجَّحَ فِي جُلِّهَا إِنَّمَا يُنَاسِبُهُ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ فِي الْمُنْعَطِفِ فَقَطْ، وَصَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ مُشْعِرٌ بِفَرْضِهَا فِي غَيْرِهِ، وَلِذَا سَاغَ تَنْظِيرُهُ بِالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الَّذِي سَيَمْلِكُهُ مُجَرَّدًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ فَالْإِجَازَةُ أَوْلَى، بِدَلِيلِ صِحَّةِ إِجَازَةِ الطِّفْلِ دُونَ تَوْكِيلِهِ. وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَيَتَعَيَّنُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْوِيَ عَنِ الشَّيْخِ بِالْإِجَازَةِ، أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْهُ مِمَّا تَحَمَّلَهُ شَيْخُهُ قَبْلَ إِجَازَتِهِ لَهُ - انْتَهَى. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يَتَجَدَّدُ لِلْمُجِيزِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِجَازَةِ مِنْ نَظْمٍ أَوْ تَأْلِيفٍ، وَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ لِلْمُصَنِّفِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ تَوْرِيخُ صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُ. (وَ) إِمَّا (إِنْ يَقُلْ) الشَّيْخُ: (أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ) أَيْ: حَالَ الْإِجَازَةِ (أَوْ سَيَصِحُّ) أَيْ: وَيَصِحُّ عِنْدَهُ بَعْدَهَا أَنَّنِي أَرْوِيهِ (فَ) ذَاكَ (صَحِيحٌ) سَوَاءٌ كَانَ الْمُجِيزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 عَرَفَ أَنَّهُ يَرْوِيهِ حِينَ الْإِجَازَةِ أَمْ لَا ; لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَقَدْ (عَمِلَهْ) الْحَافِظُ (الدَّارَقُطْنِيُّ وَسِوَاهُ) مِنَ الْحُفَّاظِ، وَلَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ حِينَ الْإِجَازَةِ وَبَعَّدَهَا أَنَّهُ تَحَمَّلَهُ قَبْلَهَا، سَوَاءٌ جَمَعَ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ (أَوْ) اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: صَحَّ، وَ (حَذَفْ) قَوْلَهُ: (يَصِحُّ) [يَعْنِي: بَعْدَهَا] (جَازَ الْكُلُّ حَيْثُ مَا عَرَفَ الطَّالِبُ) حَالَةَ الْأَدَاءِ أَنَّهُ مِمَّا تَحَمَّلَهُ شَيْخُهُ قَبْلَ صُدُورِ الْإِجَازَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ هُنَاكَ لَمْ يَرْوِ بَعْدُ، بِخِلَافِهِ هُنَا فَقَدْ رَوَى، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ عَالِمًا بِمَا رَوَاهُ، وَهَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ عَالِمًا، فَيُحِيلُ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُجَازِ. [النَّوْعُ التَّاسِعُ الْإِذْنُ بِمَا أُجِيزَا لِشَيْخِهِ] 488 - وَالتَّاسِعُ الْإِذْنُ بِمَا أُجِيزَا ... لِشَيْخِهِ فَقِيلَ: لَنْ يَجُوزَا 489 - وَرُدَّ، وَالصَّحِيحُ الِاعْتِمَادُ ... عَلَيْهِ قَدْ جَوَّزَهُ النُّقَّادُ 490 - أَبُو نُعَيْمٍ وَكَذَا ابْنُ عُقْدَهْ ... وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَصْرٌ بَعْدَهْ 491 - وَالَى ثَلَاثًا بِإِجَازَةٍ، وَقَدْ ... رَأَيْتُ مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ يُعْتَمَدْ 492 - وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الْإِجَازَهْ ... فَحَيْثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَازَهْ 493 - بِلَفْظِ مَا صَحَّ لَدَيْهِ لَمْ يُخَطْ ... مَا صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ فَقَطْ (وَ) النَّوْعُ (التَّاسِعُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ: (الْإِذْنُ) أَيِ: الْإِجَازَةُ (بِمَا أُجِيزَا لِشَيْخِهِ) الْمُجِيزِ خَاصَّةً، كَأَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ مُجَازَاتِي، أَوْ رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لِي، أَوْ مَا أُبِيحَ لِي رِوَايَتُهُ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ (فَقِيلَ) كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْبَرَكَاتِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ الْأَنْمَاطِيِّ: إِنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 (لَنْ يَجُوزَا) ، يَعْنِي مُطْلَقًا، عُطِفَ عَلَى الْإِذْنِ بِمَسْمُوعٍ أَمْ لَا، وَصَنَّفَ فِيهِ جُزْءًا وَحَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيُّ، بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ وَقَبْلَ يَاءِ النِّسْبَةِ نُونٌ، عَنْ بَعْضِ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ ; لِأَنَّ الْإِجَازَةَ ضَعِيفَةٌ، فَيَقْوَى ضَعْفُهَا بِاجْتِمَاعِ إِجَازَتَيْنِ (وَ) لَكِنْ قَدْ (رُدَّ) هَذَا الْقَوْلُ حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَمَّنْ أَبْهَمَهُ الْبَرَدَانِيُّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْأَنْمَاطِيِّ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْبَرَدَانِيِّ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيُبْعِدُ إِرَادَتَهُ لَهُ كَوْنُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ - كَانَ حَافِظًا ثِقَةً مُتْقِنًا، وَقَالَ رَفِيقُهُ السِّلَفِيُّ: كَانَ حَافِظًا ثِقَةً لَدَيْهِ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ يَبْكِي، فَاسَتَفَدْتُ بِبُكَائِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْتِفَادَتِي بِرِوَايَتِهِ، وَانْتَفَعْتُ بِهِ مَا لَمْ أَنْتَفِعْ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: كَانَ حَافِظَ عَصْرِهِ بِبَغْدَادَ. فَمَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: قِيلَ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وَقِيلَ: إِنْ عُطِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ بِمَسْمُوعٍ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (وَالصَّحِيحُ) الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ (الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْإِجَازَةِ بِمَا أُجِيزَ مُطْلَقًا، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِمَنْعِ الْوَكِيلِ مِنَ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ ; فَإِنَّ الْحَقَّ فِي الْوَكَالَةِ لِلْمُوَكِّلِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ عَزْلُهُ لَهُ، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ ; فَإِنَّهَا صَارَتْ مُخْتَصَّةً بِالْمُجَازِ لَهُ، لَوْ رَجَعَ الْمُجِيزُ عَنْهَا لَمْ يَنْفُذْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْوَكَالَةِ التَّوَصُّلُ إِلَى تَحْصِيلِ غَرَضِ الْمُوَكِّلِ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالْمَصْلَحَةِ، وَرُبَّمَا ضَاعَ ذَلِكَ بِالْوَاسِطَةِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِ الْوَسَائِطِ، فَلَا بُدَ مِنْ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ، مُحَافَظَةً عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَمَوْضُوعُهَا التَّوَصُّلُ إِلَى بَقَاءِ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ مَعَ الْإِلْمَامِ بِالْغَرَضِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْإِذْنُ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ التَّحْدِيثِ بِهَا، وَهُوَ حَاصِلٌ تَعَدَّدَتِ الْوَسَائِطُ أَمْ لَا، بَلْ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ غَالِبًا مَعَ التَّعَدُّدِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الْمُجِيزِ الْأَوَّلِ فِي الْإِجَازَةِ. وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّ الْقَرِينَةَ الْحَالِيَّةَ مِنْ إِرَادَةِ بَقَاءِ السِّلْسِلَةِ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجِيزٍ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ آذِنٌ لِمَنْ أَجَازَهُ أَنْ يُجِيزَهُ، وَذَلِكَ فِي الْإِذْنِ فِي الْوَكَالَةِ جَائِزٌ، يَعْنِي حَيْثُ وَكَّلَهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَعَاطِيهِ بِنَفْسِهِ، وَ (قَدْ جَوَّزَهُ) أَيْ: مَا مَرَّ (النُّقَّادُ) ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ (أَبُو نُعَيْمٍ) الْأَصْبَهَانِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو السَّفَاقُسِيُّ الْمَغْرِبِيُّ: الْإِجَازَةُ عَلَى الْإِجَازَةِ قَوِيَّةٌ جَائِزَةٌ (وَكَذَا) جَوَّزَهُ (ابْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 عُقْدَهْ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَقَافٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، لَكِنْ فِي الْمَعْطُوفِ خَاصَّةً، كَمَا اقْتَضَاهُ صَنِيعُهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: أَجَزْتُ لَكَ مَا سَمِعَهُ فُلَانٌ مِنْ حَدِيثِي، وَمَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ حَدِيثِي، وَكُلُّ مَا أُجِيزَ لِي أَوْ قَوْلٍ قُلْتُهُ أَوْ شَيْءٍ قَرَأْتُهُ فِي كِتَابٍ، وَكَتَبْتُ إِلَيْكَ بِذَلِكَ فَارْوِهِ عَنْ كِتَابِي إِنْ أَحْبَبْتَ. (وَ) أَبُو الْحَسَنِ (الدَّارَقُطْنِيُّ) فَإِنَّهُ كَتَبَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُسْتَمْلِي، عُرِفَ بِالنَّجَّادِ، جَمِيعَ التَّأْرِيخِ الْكَبِيرِ لِلْبُخَارِيِّ بِرِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ النَّيْسَابُورِيِّ سَمَاعًا مَا عَدَا أَجْزَاءً يَسِيرَةً مِنْ آخِرِهِ، فَإِجَازَةً عَنْ مُصَنِّفِهِ، كَذَلِكَ سَمَاعًا وَإِجَازَةً كَمَا حَكَى كُلَّ ذَلِكَ الْخَطِيبُ، وَعَقَدَ لَهُ بَابًا فِي كِفَايَتِهِ. وَقَالَ: إِذَا دَفَعَ الْمُحَدِّثُ إِلَى الطَّالِبِ كِتَابًا وَقَالَ لَهُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ، وَهُوَ إِجَازَةٌ لِي مِنْهُ، وَقَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَمَاعًا لِلْمُحَدِّثِ، فَأَجَازَهُ لَهُ، بَلْ نَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَلَفْظُهُ فِي جَوَابٍ أَجَابَ بِهِ أَبَا عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيَّ إِذْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِجَازَةِ فِي الْعَمَلِ بِإِجَازَةِ الْإِجَازَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ، ثُمَّ رَوَى عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبِ (الْمُسْتَدْرَكِ) وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ حَدَّثَ فِي تَأْرِيخِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، هُوَ الْأَصَمُّ، إِجَازَةً، قَالَ: وَقَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ فِيمَا أَجَازَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، هُوَ الْفَرَّاءُ، قَالَ الْمَقْدِسِيُّ: وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْحَبَّالِ الْحَافِظِ بِمِصْرَ عَنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظِ أَجَازَهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ إِجَازَةً - انْتَهَى. (وَ) الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ (نَصْرٌ) ، هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ (بَعْدَهْ) أَيْ: بَعْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إِجَازَتَيْنِ، بَلْ (وَالَى) أَيْ: تَابَعَ (ثَلَاثًا) بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ (بِإِجَازَةٍ) ، فَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْتُهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَرْوِي بِالْإِجَازَةِ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَرُبَّمَا تَابَعَ بَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْهَا. وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ أَبِي الْفَوَارِسِ حَدَّثَ بِجُزْءٍ مِنَ (الْعِلَلِ) لِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الصَّوَّافِ إِجَازَةً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ كَذَلِكَ، عَنْ أَبِيهِ كَذَلِكَ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَقَدْ رَأَيْتُ) غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ زَادُوا عَلَى ثَلَاثِ أَجَايِزَ، فَرَوَوْا بِأَرْبَعٍ مُتَوَالِيَةٍ، يَعْنِي كَأَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ الْعُشَارِيِّ الْحَنْبَلِيِّ الثِّقَةِ الصَّالِحِ، حَدَّثَ بِالْإِجَازَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَكَثِيرًا مَا يَرْوِي فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ تَصَانِيفِهِ بِالْإِجَازَةِ عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ خَيْرُونَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، بَلْ وَ (مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ) رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْإِجَازَةِ مِمَّنْ (يُعْتَمَدْ) مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْقُطْبُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ ; فَإِنَّهُ رَوَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ تَأْرِيخِ مِصْرَ لَهُ عَنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ الْحَافِظِ بِخَمْسِ أَجَايِزَ مُتَوَالِيَةٍ. وَكَذَا حَدَّثَ الْحَافِظُ زَكِيُّ الدِّينِ الْمُنْذِرِيُّ بِالْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ بِخَمْسِ أَجَايِزَ مُتَوَالِيَةٍ عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ خَيْرُونَ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ مُصَنِّفِهِ ; لِكَوْنِهِ عَلَا فِيهِ بِهَا دَرَجَةً عَمَّا لَوْ حَدَّثَ بِهِ بِالسَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ عَنْ أَصْحَابِ السِّلَفِيِّ، عَنْهُ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الْفَالِيِّ، عَنِ النَّهَاوَنْدِيِّ، عَنْ مُصَنِّفِهِ. وَحَدَّثَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الرُّهَاوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْكُبْرَى الَّتِي خَرَّجَهَا لِنَفْسِهِ بِأَثَرٍ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عَنِ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ إِجَازَةً، عَنْ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ خَيْرُونَ بِسَنَدِهِ الْمَاضِي أَوَّلًا إِلَى ابْنِ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ لَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ، فَذَكَرَهُ، وَقَرَأَ شَيْخُنَا بَعْضَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى ابْنِ الشَّيْخَةِ، عَنِ الدَّبُّوسِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُقَيَّرِ، وَسَنَدَهُ فَقَطْ عَلَى ابْنِ قَوَّامٍ، عَنِ الْحَجَّارِ، عَنِ الْقَطِيعِيِّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 كِلَاهُمَا عَنِ الشَّهْرُزُورِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُهْتَدِي، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، فَفِي الثَّانِي سِتٌ أَجَايِزَ، وَأَعْلَى مَا رَأَيْتُهُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ شَيْخِنَا فِي فِهْرِسَتِهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ لِقَصْدِ الْعُلُوِّ عَنِ الْعَفِيفِ النَّشَاوُرِيِّ إِجَازَةً مُشَافَهَةً عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُقَيَّرِ، عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ، عَنِ الْجَوْزَقِيِّ، عَنْ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدَانَ، عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَهُوَ جَمِيعُهُ بِالْإِجَازَاتِ، وَهُوَ عِنْدِي أَوْلَى مِمَّا لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَوَالِيحَ، فِي عُمُومِ إِذْنِهِ لِلْمِصْرِيِّينَ بِسَمَاعِهِ مِنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ كِنْدِيٍّ، عَنِ الْمُؤَيَّدِ الطُّوسِيِّ إِجَازَةً، يَعْنِي مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَدَدِ، قَالَ: لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ ضَعْفِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ - انْتَهَى. وَفِي كَلَامِ ابْنِ نُقْطَةَ وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْجَوْزَقِيَّ سَمِعَهُ مِنْ مَكِّيٍّ، وَمَكِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ، فَاعْتَمَدَهُ، وَإِنْ مَشَى شَيْخُنَا عَلَى خِلَافِهِ، وَكَذَا أَغْرَبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ فَحَدَّثَ بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَرْقُونَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْجَوْزَقِيِّ، عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بِالْإِجَازَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْجَوْزَقِيَّ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ بَعْضُ الْكِتَابِ بِالسَّمَاعِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِذَلِكَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْمُتَّفِقِ لَهُ. (وَيَنْبَغِي) ، حَيْثُ تَقَرَّرَتِ الصِّحَّةُ فِي ذَلِكَ وُجُوبًا لِمَنْ يُرِيدُ الرِّوَايَةَ كَذَلِكَ (تَأَمُّلُ) كَيْفِيَّةِ (الْإِجَازَهْ) الصَّادِرَةِ مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ لِشَيْخِهِ، وَكَذَا مِمَّنْ فَوْقَهُ لِمَنْ يَلِيهِ، وَمُقْتَضَاهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرْوِيَ بِهَا مَا لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَهَا، فَرُبَّمَا قَيَّدَ بَعْضُ الْمُجِيزِينَ الْإِجَازَةَ (فَحَيْثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَازَهْ) أَيْ: أَجَازَ شَيْخَهُ (بِلَفْظِ) : أَجَزْتُهُ (مَا صَحَّ لَدَيْهِ) أَيْ: عِنْدَ شَيْخِهِ الْمُجَازِ فَقَطْ (لَمْ يُخَطْ) أَيْ: لَمْ يَتَعَدَّ الرَّاوِي (مَا) أَيْ: [الَّذِي (صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ مَرْوِيِّ الْمُجِيزِ (فَقَطْ) ] ، حَتَّى لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ مَرْوِيِ هَذَا الْمُجِيزِ عِنْدَ الرَّاوِي عَنِ الْمُجَازِ لَهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ شَيْخُهُ الْمَجَازُ لَهُ، أَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، لَا تَسُوغُ لَهُ رِوَايَتُهُ بِالْإِجَازَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَسُوغَ الرِّوَايَةُ بِمُجَرَّدِ صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ ; لِأَنَّ صِحَّةَ ذَلِكَ قَدْ وُجِدَتْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِحَّتِهِ عِنْدَ شَيْخِهِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ بِرُؤْيَتِهَا الْهِلَالَ ; فَإِنَّهُ يَقَعُ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهَا حَمْلًا عَلَى الْعِلْمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الِاسْتِدْعَاءَاتِ مِنِ اسْتِجَازَةِ الشُّيُوخِ لِمَنْ بِهَا مَا صَحَّ عِنْدَهُمْ مِنْ مَسْمُوعَاتِهَا، فَالضَّمِيرُ فِي " عِنْدَهُمْ " مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ وَبَيْنَ الْمُسْتَجَازِ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَ أَظْهَرُ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَسُوغُ لِلرَّاوِي، حَيْثُ قَيَّدَ شَيْخُهُ الْإِجَازَةَ بِمَسْمُوعَاتِهِ خَاصَّةً، التَّعَدِّي إِلَى مَا عِنْدَهُ بِالْإِجَازَةِ، كَإِجَازَةِ أَبِي الْفَتْحِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَدَّادِ لِلْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ، حَيْثُ لَمْ يُجِزْ لَهُ مَا أُجِيزَ لَهُ، بَلْ مَا سَمِعَهُ فَقَطْ، وَلِذَا رَجَعَ السِّلَفِيُّ عَنْ رِوَايَةِ الْجَامِعِ لِلتِّرْمِذِيَ عَنْهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَنَالَ الْمَحْبُوبِيِّ، عَنْ مُصَنِّفِهِ ; لِكَوْنِ الْحَدَّادِ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنِ الْمَحْبُوبِيِّ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ مِنْ مَرْوَ. وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا مَنْ قَيَّدَهَا بِمَا حَدَّثَ بِهِ مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ فَقَطْ، كَمَا فَعَلَهُ التَّقِيُّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُجِيزُ بِرِوَايَةِ جَمِيعِ مَسْمُوعَاتِهِ، بَلْ بِمَا حَدَّثَ بِهِ مِنْهَا عَلَى مَا اسْتُقْرِئَ مِنْ صَنِيعِهِ، [وَنَقَلَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي النَّضَّارِ، وَأَنَّ صُورَةَ إِجَازَتِهِ لَهُ: أَجَزْتُ جَمِيعَ مَا أُجِيزَ لِي وَمَا حَدَّثْتُ بِهِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 مَسْمُوعَاتِي] ; لِكَوْنِهِ كَانَ يَشُكُّ فِي بَعْضِ سَمَّاعَاتِهِ عَلَى ابْنِ الْمُقَيَّرِ، فَتَوَرَّعَ عَنِ التَّحْدِيثِ بِهِ، بَلْ وَعَنِ الْإِجَازَةِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ غَلَطَ فِي بَعْضِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَكَثُرَ عِثَارُهُمُ مِنْ أَجْلِهِ ; لِعَدَمِ التَّفَطُّنِ لَهُ، وَنَحْوُهُ رِوَايَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْبَلَنْسِيِّ، عُرِفَ بِالْأَنْدَرَشِيِّ وَبِابْنِ الْيَتِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُتْقِنِ مَعَ كَوْنِهِ رِحْلَةَ الْأَنْدَلُسِ، حَيْثُ كَتَبَ سَنَدَهُ بِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ السِّلَفِيِّ عَنِ ابْنِ الْبَطِرِ عَنِ ابْنِ الْبَيِّعِ عَنِ الْمُحَامِلِيِّ عَنْهُ، مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ عِنْدَ السِّلَفِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الثَّغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ، بَلْ وَالْكِرْمَانِيُّ الشَّارِحُ وَآخَرُونَ. فَرْعٌ: الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ عَنْ شَيْخٍ سَمِعَ شَيْخَهُ، وَبِالسَّمَاعِ مِنْ شَيْخٍ أُجِيزَ مِنْ شَيْخِ الْأَوَّلِ، يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ. [ثُمَّ إِنَّ كُلَّ مَا سَلَفَ فِي تَوَالِي الْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ، أَمَّا الْعَامَّةُ فَنَقَلَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُحِبِّ مَنْعَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 عَدَمٌ عَلَى عَدَمٍ، وَعَنْ شَيْخِهِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا أَرْوِي صَحِيحَ مُسْلِمٍ عَنِ الدِّمْيَاطِيِّ إِذْنًا عَامًّا مِنَ الْمُؤَيَّدِ الطُّوسِيِّ، كَذَلِكَ قَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَمِلَ بِهِ، وَلَا سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ] . [لَفْظُ الْإِجَازَةِ وَشَرْطُهَا] 494 - أَجَزْتُهُ ابْنُ فَارِسٍ قَدْ نَقَلَهْ ... وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ قَدْ أَجَزْتُ لَهْ 495 - وَإِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الْإِجَازَهْ ... مِنْ عَالِمٍ بِهِ وَمَنْ أَجَازَهْ 496 - طَالِبُ عِلْمٍ وَالْوَلِيدُ ذَا ذَكَرْ ... عَنْ مَالِكٍ شَرْطًا وَعَنْ أَبِي عُمَرْ 497 - أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ ... إِلَّا لِمَاهِرٍ وَمَا لَا يُشْكِلُ 498 - وَاللَّفْظُ إِنْ تُجِزْ بِكَتْبٍ أَحْسَنُ ... أَوْ دُونَ لَفْظٍ فَانْوِ وَهْوَ أَدْوَنُ (لَفْظُ الْإِجَازَةِ) أَيْ: كَيْفِيَّتُهُ (وَشَرْطُهَا) فِي الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ وَالنِّيَّةِ لِمَنْ كَتَبَ بِهَا، وَكَانَ الْأَنْسَبُ إِيرَادَهُ قَبْلَ أَنْوَاعِهَا مَعَ اشْتِقَاقِهَا وَضَابِطِهَا وَوَزْنِهَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُنَاكَ، فَأَمَّا لَفْظُهَا فَ (أَجَزْتُهُ) أَيِ: الطَّالِبَ، مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي، مَتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِدُونِ ذِكْرِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ أَوْ نَحْوِهِ الَّذِي هُوَ الْمُجَازُ بِهِ حَقِيقَةً (ابْنُ فَارِسٍ) أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ (الْمُجْمَلِ) وَغَيْرُهُ، وَالْقَائِلُ: اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ ... جَمَعَ النَّصِيحَةَ وَالْمَقَهْ إِيَّاكَ فَاحْذَرْ أَنْ تَبِيتَ ... مِنَ الثِّقَاتِ عَلَى ثِقَهْ وَالْمُقْتَبِسُ مِنْهُ الْحَرِيرِيَّ فِي مَقَامَاتِهِ، وَضَعَ الْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ فِي الْمَقَامَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 الطِّيبِيَّةِ (قَدْ نَقَلَهْ) أَيْ: تَعَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ فِي جُزْءٍ لَهُ سَمَّاهُ: مَآخِذَ الْعِلْمِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْإِجَازَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَأْخُوذٌ مِنْ جَوَازِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْقَاهُ الْمَالُ مِنَ الْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ، يُقَالُ مِنْهُ: اسْتَجَزْتُ فُلَانًا فَأَجَازَنِي، إِذَا سَقَاكَ مَاءً لِأَرْضِكَ أَوْ مَاشِيَتِكَ، كَذَلِكَ طَالِبُ الْعِلْمِ يَسْأَلُ الْعَالِمَ أَنْ يُجِيزَهُ عِلْمَهُ ; أَيْ: يُجِيزُ إِلَيْهِ عِلْمَهُ، فَيُجِيزُهُ إِيَّاهُ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ) يَعْنِي: لُغَةً وَاصْطِلَاحًا، أَنْ يَقُولُ: (قَدْ أَجَزْتُ لَهْ) رِوَايَةَ مَسْمُوعَاتِي، يَعْنِي مَتَعَدِّيًا بِحَرْفِ الْجَرِّ وَبِدُونِ إِضْمَارٍ، قَالَ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِجَازَةَ بِمَعْنَى التَّسْوِيغِ وَالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ، قَالَ: وَمَنْ يَقُولُ: أَجَزْتُ لَهُ مَسْمُوعَاتٍ، فَعَلَى سَبِيلِ الْإِضْمَارِ لِلْمُضَافِ الَّذِي لَا يَخْفَى نَظِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ فَفِي الْأَوَّلِ الْإِضْمَارُ وَالْحَذْفُ دُونَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، وَفِي الثَّالِثِ الْإِضْمَارُ فَقَطْ. (وَ) أَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (إِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الْإِجَازَةُ مِنْ عَالِمٍ بِهِ) أَيْ: بِالْمُجَازِ (وَمَنْ أَجَازَهْ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الْمُجَازَ لَهُ (طَالِبُ عِلْمٍ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا هِيَ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ ; إِذِ الْمَرْءُ وَلَوْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعِلْمِ لَا يَزَالُ لِلَّهِ طَالِبًا، وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( «كُلُّ عَالِمٍ غَرْثَانُ إِلَى عِلْمٍ» )) أَيْ: جَائِعٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَقَالَ أَيْضًا: (( «أَرْبَعٌ لَا يَشْبَعْنَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا: وَعَالِمٌ مِنْ عِلْمٍ» )) ، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ; لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَوَسُّعٌ وَتَرْخِيصٌ يَتَأَهَّلُ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لِمَسِيسِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، وَهَلِ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْعِلْمِ أَوْ خُصُوصُ الْمُجَازِ بِهِ كَمَا قُيِّدَ فِي الْمُجِيزِ، أَوِ الصِّنَاعَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ؟ الظَّاهِرُ الْأَخِيرُ (وَالْوَلِيدُ) بْنُ بَكْرٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَالِكِيُّ (ذَا ذَكَرْ) أَيْ: نَقَلَ فِي كِتَابِهِ (الْوِجَازَةِ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْإِجَازَةِ) (عَنْ) إِمَامِهِ (مَالِكٍ) ، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، [عِلْمَ الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ] (شَرْطًا) فِيهَا، وَعِبَارَتُهُ: وَلِمَالِكٍ شَرْطٌ فِي الْإِجَازَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ، ثِقَةً فِي دِينِهِ وَرِوَايَتِهِ، مَعْرُوفًا بِالْعِلْمِ، وَالْمُجَازُ بِهِ مُعَارِضًا بِالْأَصْلِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ، وَالْمُجَازُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ مُتَّسِمًا بِسِمَتِهِ، حَتَّى لَا يُوضَعُ الْعِلْمُ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَكْرَهُ الْإِجَازَةَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيَقُولُ: مَا أَسْلَفْتُهُ فِي أَوَّلِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ. وَفِي أَخْذِ الِاشْتِرَاطِ مِنْهَا نَظَرٌ، إِلَا أَنَّ أَوَّلَ قَوْلِهِ: " أَوْ مُتَّسِمَا بِسِمَتِهِ " بِمَنْ هُوَ دُونَ مَنْ قَبْلَهُ فِي الْعِلْمِ، وَكَانَتِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّحْرِيمِ. (وَعَنِ) الْحَافِظِ (أَبِي عُمَرْ) ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَمَا فِي جَامِعِ الْعِلْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 لَهُ (أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا) أَيِ: الْإِجَازَةَ (لَا تُقْبَلُ إِلَّا لِمَاهِرٍ) بِالصِّنَاعَةِ، حَاذِقٍ فِيهَا، يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَنَاوَلُهَا (وَ) فِي (مَا لَا يُشْكِلُ) إِسْنَادُهُ ; لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا مُعَيَّنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُحَدِّثَ الْمُجَازُ لَهُ عَنِ الشَّيْخِ بِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، أَوْ يُنْقِصَ مِنْ إِسْنَادِهِ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ، وَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا وَقَعُوا فِي هَذَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الْإِجَازَةَ لِهَذَا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ، قَالَ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِلطَّالِبِ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا شِئْتَ مِنْ حَدِيثِي، لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أُصُولَهُ، أَوْ فُرُوعًا كُتِبَتْ مِنْهَا، وَيَنْظُرُ فِيهَا وَيُصَحِّحُهَا. وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ قَالَ: الِاسْتِجَازَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْعَمَلِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَالْفَهْمِ بِاللِّسَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَحِلْ لَهُ الْأَخْذُ بِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ فِي مَسْأَلَتِهِ فَصْلٌ أَوْ وَجْهٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُجِيزُ، وَلَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُ مَا أَجَابَ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرِّوَايَةِ خَاصَّةً، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالنَّقْلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَلْفَاظِ مَا أُجِيزَ لَهُ ; لِيَسْلَمَ مِنَ التَّصْحِيفِ وَالتَّحْرِيفِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ بِهَا فَفِي نَقْلِهِ بِهَا ضَعْفٌ. وَقَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: أَصْلُ الْإِجَازَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَنْ أَجَازَهَا فَهِيَ قَاصِرَةٌ عِنْدَهُ عَنْ رُتْبَةِ السَّمَاعِ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ مِنْ كُلِّ مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ السَّمَاعُ، وَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ وَجَوَّزَهَا مِنْ كُلِّ مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ السَّمَاعُ، فَأَقَلُّ مَرَاتِبَ الْمُجِيزِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ الْعِلْمَ الْإِجْمَالِيَّ مِنْ أَنَّهُ رَوَى شَيْئًا، وَأَنَّ مَعْنَى إِجَازَتِهِ لِغَيْرِهِ إِذْنُهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فِي رِوَايَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْإِجَازَةِ الْمَعْهُودَةِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، لَا الْعِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ بِمَا رُوِيَ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْإِجَازَةِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ حَاصِلٌ فِيمَنْ رَأَيْنَاهُ مِنْ عَوَامِ الرُّوَاةِ، فَإِنِ انْحَطَّ رَاوٍ فِي الْفَهْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ - وَلَا إِخَالُ أَحَدًا يَنْحَطُّ عَنْ إِدْرَاكِ هَذَا إِذَا عُرِفَ بِهِ - فَلَا أَحْسَبُهُ أَهْلًا لِأَنْ يُتَحَمَّلَ عَنْهُ بِإِجَازَةٍ وَلَا سَمَاعٍ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْإِجَازَةِ هُوَ طَرِيقُ الْجُمْهُورِ. قُلْتُ: وَمَا عَدَاهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فَهُوَ مُنَافٍ لِمَا جَوَّزَتِ الْإِجَازَةُ لَهُ مِنْ بَقَاءِ السِّلْسِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَابِعِ أَنْوَاعِهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّأَهُّلِ حِينَ التَّحَمُّلِ بِهَا كَالسَّمَاعِ، وَفِي أَوَّلِهَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْأَدَاءِ بِهَا بِدُونِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ: أَجَزْتُ لَهُ رِوَايَةَ كَذَا بِشَرْطِهِ، وَمِنْهُ ثُبُوتُ الْمَرْوِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُجِيزِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو مَرْوَانَ الطُّبُنِيُّ: إِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ لِغَيْرِ مُقَابَلَةِ نُسْخَةٍ بِأُصُولِ الشَّيْخِ، وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِالصِّحَّةِ مَعَ تَحَقُّقِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: تَصِحُّ بَعْدَ تَصْحِيحِ شَيْئَيْنِ: تَعْيِينِ رِوَايَاتِ الشَّيْخِ وَمَسْمُوعَاتِهِ وَتَحْقِيقِهَا، وَصِحَّةِ مُطَابَقَةِ كُتُبِ الرَّاوِي لَهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ. وَقَدْ كَتَبَ أَبُو الْأَشْعَثِ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ كَمَا أَوْرَدَهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ وَعِيَاضٌ فِي الْإِلْمَاعِ: كِتَابِي إِلَيْكُمْ فَافْهَمُوهُ فَإِنَّهُ ... رَسُولِي إِلَيْكُمْ وَالْكِتَابُ رَسُولُ فَهَذَا سَمَاعِي مِنْ رِجَالٍ لَقِيتُهُمْ ... لَهُمْ وَرَعٌ مَعَ فَهْمِهِمْ وَعُقُولُ فَإِنْ شِئْتُمْ فَارْوُوهُ عَنِّي فَإِنَّمَا ... تَقُولُونَ مَا قَدْ قُلْتُهُ وَأَقُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 أَلَّا فَاحْذَرُوا التَّصْحِيفَ فِيهِ فَرُبَّمَا تَغَيَّرَ عَنْ تَصْحِيفِهِ فَيَحُولُ وَقَالَ غَيْرُهُ فِي أَبْيَاتٍ: وَأَكْرَهُ فِيمَا قَدْ سَأَلْتُمْ غُرُورَكُمْ ... وَلَسْتُ بِمَا عِنْدِي مِنَ الْعِلْمِ أَبْخَلُ فَمَنْ يَرْوِهِ فَلْيَرْوِهِ بِصَوَابِهِ ... كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ فَالصِّدْقُ أَجْمَلُ وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الشَّرْطُ كَوْنُهَا مِنْ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، أَوْ كَوْنُهَا غَيْرَ مَجْهُولَةٍ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ كَتَبَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْهُ التَّأَهُّلَ: أَجَزْتُ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنِّي، وَهُوَ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ إِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ غَنِيٌّ عَنْ تَقْيِيدِي ذَلِكَ بِشَرْطِهِ. ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَارَةً تَكُونُ بِلَفْظِ الْمُجِيزِ بَعْدَ السُّؤَالِ فِيهَا مِنَ الْمُجَازِ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ مُبْتَدِئًا بِهَا، وَتَارَةً تَكُونُ بِخَطِّهِ عَلَى اسْتِدْعَاءٍ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، أَوْ بِدُونِ اسْتِدْعَاءٍ (وَاللَّفْظُ) بِالْإِجَازَةِ (إِنْ تُجِزْ) أَيُّهَا الْمُحَدِّثُ (بِكَتْبٍ) أَيْ: بِأَنْ تَجْمَعَهُمَا (أَحْسَنُ) وَأَوْلَى مِنْ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا (أَوْ) بِكَتْبٍ (دُونَ لَفْظٍ فَانْوِ) الْإِجَازَةَ (وَهْوَ) ، أَيْ: هَذَا الصَّنِيعُ (أَدْوَنُ) مِنَ الْإِجَازَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا فِي الْمَرْتَبَةِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ دَلِيلُ رِضَاهُ الْقَلْبِيِّ بِالْإِجَازَةِ، وَالْكِتَابَةَ دَلِيلُ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَى، وَالدَّالُّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَعْلَى، وَبِالثَّانِي يُوَجَّهُ صِحَّتُهَا بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ: وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ تَصْحِيحٌ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْكِتَابَةِ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَلْفِظْ بِمَا قُرِئَ عَلَيْهِ إِخْبَارًا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي الدَّمِ: قَدْ تَقُومُ الْأَفْعَالُ مَقَامَ الْأَقْوَالِ كَمَا فِي نَقْلِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِ الْمُعَاطَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَقَضِيَّةٌ مَا هُنَا - وَقَالَ الشَّارِحُ: إِنَّهُ الظَّاهِرُ - عَدَمُ الصِّحَّةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَةُ شَرْطُهَا النِّيَّةُ، وَلَا نِيَّةَ هُنَا فَبَطَلَتْ، وَكَأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 مَحَلَّ هَذَا حَيْثُ صَرَّحَ بِعَدَمِ النِّيَّةِ، أَمَّا لَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ فَالظَّاهِرُ الصِّحَّةُ، إِذِ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا يَكْتُبُهُ الْعَاقِلُ خُصُوصًا فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لَهُ، وَلَعَلَّهَا الصُّورَةُ الَّتِي لَمْ يَسْتَبْعِدُ ابْنُ الصَّلَاحِ صِحَّتَهَا، وَإِنِ احْتَمَلَ كَلَامُهُ مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فِيهَا أَظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي نَظَمَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَحَيْثُ لَا نِيَّةَ قَدْ جَوَّزَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ بَاحِثًا أَبْرَزَهَا فَرْعٌ: كَثِيرٌ تَصْرِيحُهُمْ فِي الْأَجَايِزِ بِمَا يَجُوزُ لِي وَعَنِّي رِوَايَتُهُ، فَقِيلَ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِ " وَعَنِّي "، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِ " لِي " مَرْوِيَّاتِهِمْ، وَبِ " عَنِّي " مُصَنَّفَاتِهِمْ وَنَحْوَهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَكِتَابَتُهَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ تَصْنِيفٌ أَوْ نَظْمٌ أَوْ نَثْرٌ [أَوْ بَحْثٌ حُفِظَ عَنْهُ وَمَا أَشْبَهَهُ] عَبَثٌ أَوْ جَهْلٌ. [الرَّابِعُ الْمُنَاوَلَةُ] ُ 499 - ثُمَّ الْمُنَاوَلَاتُ إِمَّا تَقْتَرِنْ ... بِالْإِذْنِ أَوْ لَا، فَالَّتِي فِيهَا أُذِنْ 500 - أَعْلَى الْإِجَازَاتِ وَأَعْلَاهَا إِذَا ... أَعْطَاهُ مِلْكًا فَإِعَارَةً كَذَا 501 - أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ لَهْ ... عَرْضًا وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاوَلَهْ 502 - وَالشَّيْخُ ذُو مَعْرِفَةٍ فَيَنْظُرَهْ ... ثُمَّ يُنَاوِلَ الْكِتَابَ مُحْضِرَهْ 503 - يَقُولُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِي فَارْوِهِ ... وَقَدْ حَكَوْا عَنْ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ 504 - بِأَنَّهَا تُعَادِلُ السَّمَاعَا ... وَقَدْ أَبَى الْمُفْتُونَ ذَا امْتِنَاعَا 505 - إِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ مَعَ النُّعْمَانِ ... وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ الشَّيْبَانِي 506 - وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ رَأَوْا ... بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، قُلْتُ: قَدْ حَكَوْا 507 - إِجْمَاعَهُمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَهْ ... مُعْتَمَدًا وَإِنْ تَكُنْ مَرْجُوحَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 508 - أَمَّا إِذَا نَاوَلَ وَاسْتَرَدَّا فِي الْوَقْتِ صَحَّ، وَالْمُجَازُ أَدَّى ... 509 - مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ وَهَذِهِ لَيْسَتْ لَهَا مَزِيَّهْ ... 510 - عَلَى الَّذِي عَيَّنَ فِي الْإِجَازَهْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ مَازَهْ ... 511 - أَهْلُ الْحَدِيثِ آخِرًا وَقِدْمَا أَمَّا إِذَا مَا الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا ... 512 - أَحْضَرَهُ الطَّالِبُ لَكِنَّ اعْتَمَدْ مَنْ أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ مُعْتَمَدْ ... 513 - صَحَّ وَإِلَّا بَطَلَ اسْتِيقَانَا وَإِنْ يَقُلْ: أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا ... 514 - ذَا مِنْ حَدِيثِي فَهْوَ فِعْلٌ حَسَنُ يُفِيدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ ... 515 - وَإِنْ خَلَتْ مِنْ إِذْنِ الْمُنَاوَلَهْ قِيلَ: تَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ بَاطِلَهْ الْقِسْمُ (الرَّابِعُ) مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ: (الْمُنَاوَلَةُ) ، وَهِيَ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ، وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الْخَضِرِ: (( «فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرٍ نَوْلٍ» )) أَيْ: إِعْطَاءٍ، وَاصْطِلَاحًا: إِعْطَاءُ الشَّيْخِ الطَّالِبَ شَيْئًا مِنْ مَرْوِيِّهِ مَعَ إِجَازَتِهِ بِهِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً. وَأُخِّرَ عَنِ الْإِجَازَةِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ أَعْلَى ; لِأَنَّهَا جُزْءٌ لِأَوَّلِ نَوْعَيْهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ سَعِيدٍ: إِنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُشَافَهَةِ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ وَحُضُورِهِ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ النَّوْعِ الثَّانِي فَأَنْكَرَ مَزِيدَهُ فَائِدَةً فِيهِ، وَقَالَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهَا. بَلِ اشْتَرَطَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ كَمَا مَضَى قَرِيبًا الْمُنَاوَلَةَ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَاحْتِيجَ لِسَبْقِ مَعْرِفَتِهَا، أَوْ قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا تَشْمَلُ الْمَرْوِيَّ الْكَثِيرَ بِخِلَافِ الْمُنَاوَلَةِ عَلَى الْأَغْلَبِ فِيهِمَا، أَوْ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمُنَاوَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْفَاضِلِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 أَوْ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ عَلَى فَاضِلٍ وَمَفْضُولٍ [إِذْ أَوَّلُ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ] أَعْلَى مِنْ ثَانِي نَوْعَيِ الْمُنَاوَلَةِ، فَلَمْ يَنْحَصِرْ لِذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي وَاحِدٍ، وَحِينَئِذٍ فَقُدِّمَتْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ فِي الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ لَهُ: (( «لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا)) ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وَعَزَى الْبُخَارِيُّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهَذَا قَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ إِلَى نَخْلَةَ، فَقَالَ لَهُ: (( «كُنْ بِهَا حَتَّى تَأْتِيَنَا بِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ» )) ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقِتَالٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ يَسِيرَ، فَقَالَ: (( «اخْرُجْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَتَّى إِذَا سِرْتَ يَوْمَيْنِ فَافْتَحْ كِتَابَكَ، وَانْظُرْ فِيهِ، فَمَا أَمَرْتُكَ بِهِ فَامْضِ لَهُ، وَلَا تَسْتَكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى الذَّهَابِ مَعَكَ» )) ، فَلَمَّا سَارَ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: (( «أَنِ امْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً فَتَأْتِيَنَا مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ» )) . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، قَدْ صَرَّحَ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ بِالتَّحْدِيثِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عُرْوَةَ، بَلْ رُوِّينَاهُ مُتَّصِلًا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْمُدْخَلِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّوَّارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَفَعَهُ وَهُوَ حُجَّةٌ، وَلِذَا جَزَمَ الْبُخَارِيُّ بِهِ إِذْ عَلَّقَهُ، وَأَوْرَدَهُ الضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ لَا سِيَّمَا وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (ثُمَّ الْمُنَاوَلَاتُ) عَلَى نَوْعَيْنِ: (إِمَّا تَقْتَرِنْ بِالْإِذْنِ) أَيْ: بِالْإِجَازَةِ (أَوْ لَا) ، بِأَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَنْهَا (فَ) الْمُنَاوَلَةُ (الَّتِي فِيهَا أُذِنْ) أَيْ: أُجِيزَ، وَهِيَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ (أَعْلَى الْإِجَازَاتِ) مُطْلَقًا ; لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْيِينِ وَالتَّشْخِيصِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ فِيهِ، حَتَّى كَانَ مِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، فَقَالَ: وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهَا. وَقَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَخْفَضُ مِنَ الْإِجَازَةِ ; لِأَنَّ أَعْلَى دَرَجَاتِهَا أَنَّهَا إِجَازَةٌ مَخْصُوصَةٌ فِي كِتَابٍ بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ ; فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَالِبًا فِي كِتَابٍ بِعَيْنِهِ فَهِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِمَا فِيهِ مَزِيدُ ضَبْطٍ، بَلْ وَالتَّخْصِيصُ أَبْلَغُ فِي الضَّبْطِ، وَتَحْتَ هَذَا النَّوْعِ صُوَرٌ، فَالْجَمْعُ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ لِذَلِكَ، وَهِيَ - أَعْنِي الصُّوَرَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْعُلُوِّ (وَأَعْلَاهَا إِذَا أَعْطَاهُ) أَيْ: أَعْطَى الشَّيْخُ الطَّالِبَ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاوَلَةِ تَصْنِيفًا لَهُ، أَوْ أَصْلًا مِنْ سَمَاعِهِ، وَكَذَا مِنْ مُجَازِهِ، أَوْ فَرْعًا مُقَابَلًا بِالْأَصْلِ (مِلْكًا) أَيْ: عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ لَهُ بِالْهِبَةِ، أَوْ بِالْبَيْعِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، قَائِلًا لَهُ: هَذَا مِنْ تَصْنِيفِي، أَوْ نَظْمِي، أَوْ سَمَاعِي، أَوْ رِوَايَتِي عَنْ فُلَانٍ، أَوْ عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَنَا عَالِمٌ بِمَا فِيهِ، فَارْوِهِ أَوْ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ، فَضْلًا عَنْ لَفْظِهَا كَأَجَزْتُكَ بِهِ، بَلْ وَكَذَا لَوْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ شَيْخِهِ وَاكْتَفَى بِكَوْنِهِ مُبَيَّنًا فِي الْكِتَابِ الْمُنَاوَلِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبَّادٍ الزُّبَيْرِيُّ: طَلَبْتُ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَحَادِيثَ أَبِيهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ دَفْتَرًا، فَقَالَ لِي: هَذِهِ أَحَادِيثُ أَبِي قَدْ صَحَّحْتُهُ وَعَرَفْتُ مَا فِيهِ فَخُذْهُ عَنِّي، وَلَا تَقُلْ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ حَتَّى أَعْرِضَهُ، وَلَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِكَوْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْلَى، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَهَا فِي الذِّكْرِ كَمَا فَعَلَ عِيَاضٌ، وَهُوَ مِنْهُمَا مُشْعِرٌ بِذَلِكَ. (فَ) يَلِيهَا مَا يُنَاوِلُهُ الشَّيْخُ لَهُ مِنْ أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ أَيْضًا (إِعَارَةً) أَيْ: عَلَى جِهَةِ الْإِعَارَةِ، أَوْ إِجَارَةً وَنَحْوَهَا، فَيَقُولُ لَهُ: خُذْهُ، وَهُوَ رِوَايَتِي عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوحِ أَوَّلًا فَانْتَسِخْهُ، ثُمَّ قَابِلْ بِهِ، أَوْ قَابِلْ بِهِ نُسْخَتَكَ الَّتِي انْتَسَخْتَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ رُدَّهُ إِلَيَّ. وَهَلْ تَكْفِي الْإِشَارَةُ إِلَى نُسْخَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ أَمْرِ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ بِالْإِعْطَاءِ؟ الظَّاهِرُ نَعَمْ، وَبِهِ صَرَّحَ الرَّازِيُّ فِي الْإِشَارَةِ غَيْرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْإِجَازَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ لَوْ أَدْخَلَهُ خِزَانَةَ كُتُبِهِ وَقَالَ: ارْوِ جَمِيعَ هَذِهِ عَنِّي ; فَإِنَّهَا سَمَاعَاتِي مِنَ الشُّيُوخِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْهُمْ، كَانَ بِمَثَابَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصِّحَّةِ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 لِأَنَّهُ أَحَالَهُ عَلَى أَعْيَانٍ مُسَمَّاةٍ مُشَاهَدَةٍ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فِيهَا، وَأَمَرَهُ بِرِوَايَةِ مَا تَضَمَّنَتْ مِنْ سَمَاعَاتِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْتُ لَهُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الصُّنْدُوقِ، أَوْ نَحْوَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا فِيهِ، فَقَالَ: قَبِلْتُ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: " أَعْطَاهُ إِلَى آخِرِهِ "، عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ لَوْ سَمِعَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ كِتَابٍ مَشْهُورٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: سَمِعْتُ هَذَا ; لِأَنَّ النُّسَخَ تَخْتَلِفُ مَا لَمْ يُعْلَمِ اتِّفَاقُهُمَا بِالْمُقَابَلَةِ ; فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ اتِّفَاقُهُمَا كَفَى، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى إِعْطَاءِ كَذَا، فَوَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ طُلِّقَتْ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قِسْمًا مُسْتَقِلَا يُسَمَّى بِالْإِشَارَةِ، وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ كَالْمُنَاوَلَةِ، فَلَا فَرْقَ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ الْعَارِيَةِ مَا يُوَازِي التَّمْلِيكَ بِأَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ عَارِيَةً ; لِيُحَدِّثَ بِهِ مِنْهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَ (كَذَا) مِمَّا يُوَازِي الصُّورَةَ الْمَرْجُوحَةَ فِي الْعُلُوِّ (أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ) الَّذِي هُوَ أَصْلُ الشَّيْخِ أَوْ فَرْعٌ مُقَابَلٌ عَلَيْهِ (لَهْ) أَيْ: لِلشَّيْخِ (عَرْضًا) أَيْ: لِأَجْلِ عَرْضِ الشَّيْخِ لَهُ، وَقَدْ سَمَّى هَذِهِ الصُّورَةَ عَرْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلِقَصْدِ التَّمْيِيزِ لِذَلِكَ مِنْ عَرْضِ السَّمَاعِ الْمَاضِي فِي مَحَلِّهِ يُقَيَّدُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا مَعْنَاهُ: (وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاوَلَةِ وَالشَّيْخُ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الشَّيْخَ الَّذِي أُعْطِيَ الْكِتَابَ (ذُو مَعْرِفَةٍ) وَحِفْظٍ وَيَقَظَةٍ (فَيَنْظُرَهْ) وَيَتَصَفَّحَهُ مُتَأَمِّلًا ; لِيَعْلَمَ صِحَّتَهُ وَعَدَمَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ، أَوْ يُقَابِلَهُ بِأَصْلِ كِتَابِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا، كُلُّ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 (ثُمَّ يُنَاوِلَ) الشَّيْخُ ذَاكَ (الْكِتَابَ) بَعْدَ اعْتِبَارِهِ (مُحْضِرَهْ) الطَّالِبَ لِرِوَايَتِهِ مِنْهُ، وَ (يَقُولُ) لَهُ: (هَذَا مِنْ حَدِيثِي) ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (فَارْوِهِ) ، أَوْ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوحِ أَوَّلًا حَتَّى فِي الِاكْتِفَاءِ بِكَوْنِ سَنَدِهِ بِهِ مُبَيَّنًا فِيهِ. وَمِمَّنْ فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، إِمَّا ابْنُ عُمَرَ أَوِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِكِتَابٍ فِيهِ أَحَادِيثُ، فَقُلْتُ لَهُ: انْظُرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَمَا عَرَفْتَ مِنْهُ اتْرُكْهُ، وَمَا لَمْ تَعْرِفْهُ امْحُهُ. وَابْنُ شِهَابٍ قَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ أَشْهَدُ أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالْكِتَابِ مِنْ كُتُبِهِ فَيَتَصَفَّحُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِي أَعْرِفُهُ، خُذْهُ عَنِّي. وَمَالِكٌ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرُّقْعَةُ، فَأَخْرَجَ رُقْعَةً وَقَالَ: قَدْ نَظَرْتُ فِيهَا، وَهِيَ مِنْ حَدِيثِي فَارْوِهَا عَنِّي. وَأَحْمَدُ جَاءَهُ رَجُلٌ بِجُزْئَيْنِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُجِيزَهُ بِهِمَا، فَقَالَ: ضَعْهُمَا وَانْصَرِفْ. فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَهُمَا فَعَرَضَ بِهِمَا كِتَابَهُ وَأَصْلَحَ لَهُ بِخَطِّهِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِيهِمَا. وَالْأَوْزَاعِيُّ كَمَا سَيَأْتِي، وَالذُّهْلِيُّ وَآخَرُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 (وَقَدِ) اخْتَلَفُوا فِي مُوَازَاةِ هَذَا النَّوْعِ لِلسَّمَاعِ، فَ (حَكَوْا) كَالْحَاكِمِ وَمَنْ تَبِعَهُ (عَنْ) الْإِمَامِ (مَالِكٍ) رَحِمَهُ اللَّهُ (وَنَحْوِهِ) مِنْ أَئِمَّةِ الْمَدَنِيِّينَ ; كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَكِّيِّينَ ; كَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، وَمُسْلِمٍ الزَّنْجِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمِنِ الْكُوفِيِّينَ كَعَلْقَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّيْنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمِنِ الْبَصْرِيِّينَ كَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، وَمِنِ الْمِصْرِيِّينَ ; كَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَمِنِ الشَّامِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخَ الْحَاكِمِ، الْقَوْلَ (بِأَنَّهَا) أَيِ: الْمُنَاوَلَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالْإِجَازَةِ (تُعَادِلُ السَّمَاعَا) ، وَلَمْ يَحْكِ الْحَاكِمُ لَفْظَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا بِحَضْرَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ السَّمَاعَ، فَقَالَ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُوَيْسٍ: السَّمَاعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمُحَدِّثِ، وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَقِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ، وَالْمُنَاوَلَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرْوِيهِ عَنْكَ وَأَقُولُ: ثَنَا، وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ، فَهَذَا مُشْعِرٌ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ بِتَسْوِيَةِ السَّمَاعِ لَفْظًا وَالْمُنَاوَلَةِ، وَحِينَئِذٍ فَكَأَنَّ عَرْضَ السَّمَاعِ وَعَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ عِنْدَ مَالِكٍ سِيَّانِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِاسْتِوَاءِ عَرْضِ السَّمَاعِ وَالسَّمَاعِ لَفْظًا، وَكَذَا مِمَّنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ذَهَبَ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَعَرْضِ الْمُنَاوَلَةِ أَحْمَدُ، فَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ الْمَرُوَّذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتُكَ كِتَابِي وَقُلْتُ لَكَ: ارْوِهِ عَنِّي وَهُوَ مِنْ حَدِيثِي، فَمَا تُبَالِي أَسَمِعْتَهُ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ، وَأَعْطَانِي أَنَا وَأَبَا طَالِبٍ الْمُسْنَدَ مُنَاوَلَةً، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي الْيَمَانِ: قَالَ لِي أَحْمَدُ: كَيْفَ تُحَدِّثُ عَنْ شُعَيْبٍ؟ فَقُلْتُ: بَعْضُهَا قِرَاءَةً، وَبَعْضُهَا أَنَا، وَبَعْضُهَا مُنَاوَلَةً، فَقَالَ: قُلْ فِي كُلٍّ: أَنَا. وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ الْآتِيَةِ. وَعَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ: الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ، بَلْ أَعْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالِاسْتِوَاءِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مُقَدِّمَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُنَاوَلَةَ أَوْفَى مِنَ السَّمَاعِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَسْنَدَهُ عِيَاضٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَلَّمَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَكَتَبْتُ لَهُ أَحَادِيثَ ابْنِ شِهَابٍ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَسَمِعَهَا مِنْكَ؟ قَالَ: كَانَ أَفْقَهَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي لَفْظٍ: بَلْ أَخَذَهَا عَنِّي وَحَدَّثَ بِهَا، فَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ عَقِبَهُ: وَهَذَا بَيِّنٌ ; لِأَنَّ الثِّقَةَ بِكِتَابِهِ مَعَ إِذْنِهِ أَكْثَرُ مِنَ الثِّقَةِ بِالسَّمَاعِ وَأَثْبَتُ ; لِمَا يَدْخُلُ مِنَ الْوَهْمِ عَلَى السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ. (وَ) لَكِنْ (قَدْ أَبَى الْمُفْتُونَ) ، جَمْعُ مُفْتٍ ; اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفْتَى، فَلَمَّا جُمِعَ جَمْعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 تَصْحِيحٍ الْتَقَى سَاكِنَانِ: الْيَاءُ الَّتِي آخِرَ الْكَلِمَةِ، وَوَاوُ الْجَمْعِ، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ، فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ (ذَا) أَيِ: الْقَوْلَ بِأَنَّهَا حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ، فَضْلًا عَنْ تَرْجِيحِهَا، [حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ] (امْتِنَاعًا) ، مِنْهُمْ (إِسْحَاقُ) بْنُ رَاهَوَيْهِ (وَ) سُفْيَانُ (الثَّوْرِيِّ) بِالْمُثَلَّثَةِ نِسْبَةً لِثَوْرٍ، بَطْنٍ مِنْ تَمِيمٍ (مَعَ) بَاقِي الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ: أَبِي حَنِيفَةَ (النُّعْمَانِ وَ) إِمَامِنَا (الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) بْنِ حَنْبَلٍ (الشَّيْبَانِيِّ) ، نِسْبَةً لِشَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ (وَابْنِ الْمُبَارَكِ) عَبْدِ اللَّهِ (وَغَيْرِهِمْ) كَالْبُوَيْطِيِّ، وَالْمُزَنِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى حَسْبَمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُمْ، حَيْثُ (رَأَوْا) الْقَوْلَ (بِأَنَّهَا) أَيِ: الْمُنَاوَلَةَ (أَنْقَصُ) مِنَ السَّمَاعِ. وَالَّذِي حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُهَا سَمَاعًا فَقَطْ، وَلَكُنَّ مُقَابَلَتَهَ الْأَوَّلَ بِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ قَبْلَ ذِكْرِهِ كَلَامَ الْحَاكِمِ فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَالٍّ مَحَلَّ السَّمَاعِ، وَأَنَّهُ مُنْحَطٌّ عَنْ دَرَجَةِ التَّحْدِيثِ لَفْظًا، وَالْإِخْبَارِ قِرَاءَةً. ثُمَّ حَكَى عَنِ الْحَاكِمِ الْعَزْوَ لِلْمَذْكُورِينَ إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ الْحَاكِمُ: وَعَلَيْهِ عَهِدْنَا أَئِمَّتَنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبُوا، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعُهَا» )) ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ((تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ» )) فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمَا غَيْرَ السَّمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، لَكِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ تَنْزِيلِ الْمُنَاوَلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ فِي الْقُوَّةِ، قَالَ: عَلَى أَنِّي لَمْ أَجِدْ مِنْ صَرِيحِ كَلَامِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ - انْتَهَى، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا أَنْقَصُ مَالِكٌ، فَأَخْرَجَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ أَصَحِ السَّمَاعِ، فَقَالَ: قِرَاءَتُكَ عَلَى الْعَالِمِ أَوِ الْمُحَدِّثِ، ثُمَّ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ عَلَيْكَ، ثُمَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْكَ كِتَابَهُ فَيَقُولَ: ارْوِ هَذَا عَنِّي. وَهَذَا يَقْتَضِي انْحِطَاطَ دَرَجَتِهَا عَنِ الْقِرَاءَةِ، لَكِنَّهُ مُشْعِرٌ بِتَسْمِيَتِهَا سَمَاعًا، لِيَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ فِي الْجَوَابِ، وَحِينَئِذٍ فَاخْتَلَفَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ " ثُمَّ " لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ، وَكَذَا بِمُقْتَضَى مَا سَلَفَ اخْتَلَفَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَلَلُ مِنَ الْحَاكِمِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ فِي كَلَامِهِ بَعْضَ التَّخْلِيطِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ خَلَطَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي عَرْضِ الْقِرَاءَةِ بِمَا وَرَدَ فِي عَرْضِ الْمُنَاوَلَةِ، وَسَاقَ الْجَمِيعَ مَسَاقًا وَاحِدًا، [أَوْ تُحْمَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أَحْمَدَ بِاسْتِوَائِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْحُجِّيَّةِ] ، لَا عَلَى الْقُوَّةِ، وَهُوَ أَوْلَى ; فَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا جَاءَهُ الرَّجُلُ بِالرُّقْعَةِ مِنَ الْحَدِيثِ فَيَأْخُذُهَا فَيُعَارِضُ بِهَا كِتَابَهُ، ثُمَّ يَقْرَؤُهَا عَلَى صَاحِبِهَا. وَكَذَا لَا يَخْدِشُ فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِمَا حَكَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ نَصَّ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مَعَ فَتْحِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمَا، قَالَ: كَالصُّكُوكِ لِلنَّاسِ عَلَى النَّاسِ لَا نَقْبَلُهَا مَخْتُومَةً، وَهُمَا لَا يَدْرِيَانِ مَا فِيهَا ; لِأَنَّ الْخَاتَمَ قَدْ يُصْنَعُ عَلَى الْخَاتَمِ، وَيُبَدَّلُ الْكِتَابُ، وَحَكَى فِي تَبْدِيلِ الْكِتَابِ حِكَايَتَهُ، وَلَا فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِكَرَاهِيَةِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي صَحِيفَةٍ مَخْتُومَةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا ; لِأَنَّا نَقُولُ: بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ، وَأَيْضًا فَالتَّبْدِيلُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ فِي صُورَةِ الْمُنَاوَلَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ - وَإِنْ حُكِيَتِ الْكَرَاهَةُ فِيهَا أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَمَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 (الْمَدْخَلِ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يُوسُفَ: 81] فَقَدْ حُكِيَ أَيْضًا فِيهَا الْجَوَازُ عَنْ مَالِكٍ، بَلْ وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، وَيَدْفَعُهَا إِلَى ابْنِ عَمِّهِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَيَقُولُ: اشْهَدْ عَلَى مَا فِيهَا، وَبِهَا اسْتَدَلَّ ابْنُ شِهَابٍ، حَيْثُ قِيلَ لَهُ فِي جَوَازِ الْمُنَاوَلَةِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ الرَّجُلَ يَشْهَدُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يَفْتَحُهَا؟ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ بِهِ. وَأَمَّا النِّزَاعُ مَعَهُ فِي إِدْرَاجِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجِيزِينَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْقِنْيَةِ حُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ مُحَمَّدٍ فِي إِعْطَاءِ الشَّيْخِ الْكِتَابَ لِلطَّالِبِ وَإِجَازَتِهِ لَهُ بِهِ - عَدَمَ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، فَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا إِنَّمَا مَنَعَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ ; إِمَّا السَّمَاعُ أَوْ مَعْرِفَةُ الطَّالِبِ، بِمَا فِي الْكِتَابِ ; أَيْ: بِصِحَّتِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِنْ بُطْلَانِ الْإِجَازَةِ ; لِجَوَازِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ، أَفَادَ حَاصِلَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَمَا حَكَاهُ أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ الرَّازِيُّ، عَنْ إِمَامِهِ وَصَاحِبِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا مَنَعَا الْإِجَازَةَ وَالْمُنَاوَلَةَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَكَذَا فِي ذِكْرِ ابْنِ رَاهَوَيْهِ مَعَهُمْ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ مِنِ احْتِجَاجِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ بِحَدِيثٍ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ لَهُ: هَذَا سَمَاعٌ، وَذَاكَ كِتَابٌ، يَعْنِي: فَهُوَ مُقَدَّمٌ، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ» [بِإِرَادَةِ أَصْلِ الِاحْتِجَاجِ] . وَلِأَجْلِ مَا نُسِبَ لِلْحَاكِمِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَقِبَ حِكَايَتِهِ الِاسْتِوَاءَ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ جَوَّزُوا الرِّوَايَةَ بِهَا، لَا أَنَّهُمْ نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ. وَنَحْوُهُ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ بِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ فِي الْحُكْمِ وَالْإِجْمَالِ، وَعَدَمَهَا فِي التَّفْصِيلِ وَالتَّحْقِيقِ، فَصَارَ الْخِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ لَفْظِيًّا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، قَالَ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَقُولُ فِي الْعَرْضِ: قَرَأْتُ وَقُرِئَ، وَفِي الْمُنَاوَلَةِ يَتَدَيَّنُ بِهِ وَلَا يُحَدِّثُ بِهِ. وَهَذَا قَدْ لَا يُنَافِيهِ إِدْرَاجُ الْحَاكِمِ لَهُ فِيمَنْ يَرَاهَا دُونَ السَّمَاعِ، لَكِنْ قَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورٍ قَالَ: لَقِيتُ الْأَوْزَاعِيَّ وَمَعِي كِتَابٌ كَتَبْتُهُ مِنْ حَدِيثِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، هَذَا كِتَابٌ كَتَبْتُهُ مِنْ أَحَادِيثِكَ، فَقَالَ: هَاتِهِ، فَأَخَذَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَانْصَرَفْتُ أَنَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ لَقِيَنِي بِهِ فَقَالَ: هَذَا كِتَابُكَ قَدْ عَرَضْتُهُ وَصَحَّحْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، فَأَرْوِيهِ عَنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَذْهَبُ فَأَقُولُ: أَخْبَرَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الْأَوْزَاعِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ شُعَيْبٍ: وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالَ، وَبِالْجُمْلَةِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ مَنْ يَرُدُّ عَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَرُدُّ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. (قُلْتُ) : وَلَكِنْ (قَدْ حَكَوْا) أَيِ: الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ (إِجْمَاعَهُمْ) أَيْ: أَهْلُ النَّقْلِ، عَلَى الْقَوْلِ (بِأَنَّهَا) أَيِ: الْمُنَاوَلَةَ (صَحِيحَهْ مُعْتَمَدًا) أَيْ: مِنْ أَجْلِ اعْتِمَادِهَا وَتَصْدِيقِهَا، يَعْنِي وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَعِبَارَةُ عِيَاضٍ بَعْدَ أَنْ قَالَ: وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ مُعْظَمِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَسَمَّى جَمَاعَةً: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْأَدَاءِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ (وَإِنْ تَكُنِ) الْمُنَاوَلَةُ كَمَا تَقَرَّرَ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّمَاعِ (مَرْجُوحَهْ) عَلَى الْمُعْتَمَدِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ صُوَرِ هَذَا النَّوْعِ صُورَتَانِ (أَمَّا) الْأُولَى (إِذَا نَاوَلَ) الشَّيْخُ الْكِتَابَ أَوِ الْجُزْءَ لِلطَّالِبِ مَعَ إِجَازَتِهِ لَهُ بِهِ (وَاسْتَرَدَّا) ذَلِكَ مِنْهُ (فِي الْوَقْتِ) ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْهُ، بَلْ أَمْسَكَهُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ، فَقَدْ (صَحَّ) هَذَا الصَّنِيعُ، وَتَصِحُّ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ (وَ) لَكِنَّ الْمُجَازَ لَهُ [إِذَا أَرَادَ] الرِّوَايَةَ لِذَلِكَ (أَدَّى مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ) الْمُجَازِ بِهِ بِمُقَابَلَتِهَا، أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ بِمُوَافَقَتِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَازَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ، أَوْ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي اسْتَرَدَّهُ مِنْهُ شَيْخُهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ سَلَامَتُهُ مِنَ التَّغْيِيرِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى (وَ) لَكِنْ (هَذِهِ) (لَيْسَتْ لَهَا) ، وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ: لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهَا (مَزِيَّهْ عَلَى) الْكِتَابِ (الَّذِي عَيَّنَ فِي الْإِجَازَةِ) مُجَرَّدًا عَنِ الْمُنَاوَلَةِ (عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ) أَيْ: مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ كَمَا هِيَ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَسَبَقَهُ لِحَاصِلِ ذَلِكَ عِيَاضٌ فَقَالَ: وَلَا مَزِيَّةَ لَهُ عِنْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 مَشَايِخِنَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالتَّحْقِيقِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِجَازَتِهِ إِيَّاهُ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِكِتَابٍ (الْمُوَطَّأِ) وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ حَاضِرٌ ; إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْيِينُ مَا أَجَازَ لَهُ [انْتَهَى، فَهِيَ مُتَقَاعِدَةٌ عَمَّا سَبَقَ، وَالْخِلَافُ فِيهَا أَقْوَى ; لِعَدَمِ احْتِوَاءِ الطَّالِبِ عَلَى الْمَرْوِيِّ الَّذِي تَحَمَّلَهُ وَغَيْبَتِهِ عَنْهُ] (لَكِنْ مَازَهْ) أَيْ: جَعَلَ لَهُ مَزِيَّةً مُعْتَبَرَةً عَلَى ذَلِكَ (أَهْلُ الْحَدِيثِ) ، أَوْ مَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْهُمْ (آخِرًا وَقِدْمَا) ، وَسَبَقَ ابْنَ الصَّلَاحِ لِذَلِكَ عِيَاضٌ، وَعِبَارَتُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ: لَكِنْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا شُيُوخُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ لِهَذَا مَزِيَّةً عَلَى الْإِجَازَةِ، يَعْنِي: فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ كَيْفَ مَا كَانَ لَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ إِلَّا مِنَ الْأَصْلِ أَوِ الْمُقَابَلِ بِهِ مُقَابَلَةً يُوثَقُ بِمِثْلِهَا، وَرُبَّمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا مَعْرِفَةً الْمُنَاوِلُ، فَيَرْوِي مِنْهُ أَوْ مِنْ فَرْعِهِ بَعْدُ. بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَشْهُورِ ; كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، كَصُورَةِ التَّمْلِيكِ أَوِ الْإِعَارَةِ - انْتَهَى. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَدْ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: جَعَلَ النَّاسُ الْمُنَاوَلَةَ الْيَوْمَ أَنْ يَأْتِيَ الطَّالِبُ الشَّيْخَ فَيَقُولَ: نَاوِلْنِي كِتَابَكَ، فَيُنَاوِلُهُ، ثُمَّ يُمْسِكُهُ سَاعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الطَّالِبُ فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ مُنَاوَلَةً، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ لَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يَذْهَبَ بِالْكِتَابِ مَعَهُ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِمَا فِيهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِاقْتِرَانِهِ بِالْإِجَازَةِ، فَيَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، أَوْ [تَجَرُّدِهِ عَنْهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَيَكُونُ مِنْ ثَانِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 النَّوْعَيْنِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ] . وَ (أَمَّا) الثَّانِيَةُ (إِذَا مَا) أَيْ: إِذَا (الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا أَحْضَرَهُ) إِلَيْهِ الطَّالِبُ مِمَّا ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ مَرْوِيُّهُ [لِيَعْلَمَ صِحَّتَهُ وَيَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ مَرْوِيِّهِ] ، وَ (لَكِنْ) نَاوَلَهُ لَهُ (وَاعْتَمَدْ) فِي صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ فِي مَرْوِيِّهِ (مَنْ أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ) أَيِ: الطَّالِبُ الْمُحْضِرُ (مُعْتَمَدْ) لِإِتْقَانِهِ وَثِقَتِهِ، فَقَدْ (صَحَّ) ذَلِكَ كَمَا يَصِحُّ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الطَّالِبِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْقَارِئُ مِنَ الْأَصْلِ إِذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ مَعْرِفَةً وَدِينًا، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الصَّلَاحِ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ التَّفْرِقَةَ، فَإِنَّهُ رَوَى مِنْ طَرِيقِ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَتْ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا إِذَا كَانَ رَجُلٌ يَعْرِفُ وَيَفْهَمُ، قُلْتُ لَهُ: فَالْمُنَاوَلَةُ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا حَتَّى يَعْرِفَ الْمُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، وَمَا يُدْرِيهِ مَا فِي الْكِتَابِ؟ وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَلَوْ كَانَ الْمُحْضِرُ ذَا مَعْرِفَةٍ وَفَهْمٍ لَا يَكْفِي، قَالَ: وَأَهْلُ مِصْرَ يَذْهَبُونَ إِلَى هَذَا، وَأَنَا لَا يُعْجِبُنِي. قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَرَاهُ عَنَى - يَعْنِي بِمَا نَسَبَهُ لِأَهْلِ مِصْرَ - الْمُنَاوَلَةَ لِلْكِتَابِ وَإِجَازَتَهُ رِوَايَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ مَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِهِ أَمْ لَا، وَحَمَلَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالْكِتَابِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا كِتَابُكَ نَرْوِيهِ عَنْكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَمَا رَآهُ وَلَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نَظَرُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صِحَّتَهُ وَأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ الْإِذْنَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْشُرَهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدَهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَفَّحُ الْكِتَابَ وَيَنْظُرُ فِيهِ، وَكَذَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْ هِشَامِ بْنَ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي ابْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 جُرَيْجٍ بِصَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، هَذِهِ أَحَادِيثُ أَرْوِيهَا عَنْكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّالِبُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِخِبْرَتِهِ، فَقَدْ (بَطَلَ) الْإِذْنُ (اسْتِيقَانَا) ، وَلَمْ تَصِحَّ الْإِجَازَةُ فَضْلًا عَنِ الْمُنَاوَلَةِ. نَعَمْ، إِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُعْتَمَدٍ صِحَّتُهُ وَثُبُوتُهُ فِي مَرْوِيِّهِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: الصِّحَّةُ أَخْذًا مِنَ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ زَالَ مَا كُنَّا نَخْشَى مِنْ عَدَمِ ثِقَةِ الطَّالِبِ الْمُخْبِرِ مَعَ إِمْكَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. (وَ) إِمَّا (إِنْ يَقُلْ) أَيِ: الشَّيْخُ لِلطَّالِبِ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ: (أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا ذَا) أَيِ: الْمُجَازُ بِهِ (مِنْ حَدِيثِي) مَعَ بَرَاءَتِي مِنَ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ (فَهْوَ) أَيِ: الْقَوْلُ (فِعْلٌ) جَائِزٌ (حَسَنُ) كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ. وَمِمَّنْ فَعَلَهُ مَالِكٌ ; فَإِنَّ ابْنَ وَهْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَكْتُبُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَذِهِ الْكُتُبُ مِنْ حَدِيثِكَ أُحَدِّثُ بِهَا عَنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ مِنْ حَدِيثِي فَحَدِّثْ بِهَا عَنِّي، وَكَذَا فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَزَادَ النَّاظِمُ أَنَّهُ (يُفِيدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ) لِصِحَّةِ كَوْنِهِ مِنْ حَدِيثِ الشَّيْخِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: ( إِنْ خَلَتْ مِنْ إِذْنِ الْمُنَاوَلَهْ ) بِأَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ شَيْئًا مِنْ مَرْوِيِّهِ مِلْكًا أَوْ عَارِيَةً لِيَنْتَسِخَ مِنْهُ، أَوْ يَأْتِيَ إِلَى الشَّيْخِ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ فَيَتَصَفَّحُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا: هَذَا مِنْ رِوَايَاتِي عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوحِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ لَا يُصَرِّحُ لَهُ بِالْإِذْنِ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَ (قِيلَ) كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: (تَصِحُّ) وَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا ; كَالرَّجُلِ يَجِيءُ إِلَى آخَرَ بِصَكٍّ فِيهِ ذِكْرُ حَقٍّ، فَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ هَذَا الصَّكَّ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، هُوَ دَيْنٌ عَلَيَّ لِفُلَانٍ، أَوْ يَقُولُ لَهُ ابْتِدَاءً: فِي هَذَا الصَّكِّ دَيْنٌ عَلَيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 لِفُلَانٍ، أَوْ يَجِدُ فِي يَدِهِ صَكًّا يَقْرَؤُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا فِي هَذَا الصَّكِّ؟ فَيَقُولُ: ذِكْرُ حَقٍّ عَلَيَّ لِفُلَانٍ، ثُمَّ يَسْمَعُهُ بَعْدُ يُنْكِرُهُ ; فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَدَائِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. وَإِذَا جَازَ فِي الشَّهَادَةِ بِدُونِ إِذْنِ الْمُقِرِّ فَفِي الرِّوَايَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُجِيزُ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ إِعْلَامِ الشَّيْخِ الطَّالِبَ بِأَنَّ هَذَا مَرْوِيَّهُ، أَوِ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ إِرْسَالِهِ إِلَيْهِ بِالْكِتَابِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِيهِمَا، بَلْ هُوَ هُنَا أَوْلَى لِتَرَجُّحِهِ بِزِيَادَةِ الْمُنَاوَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَسْأَلَةِ الْإِعْلَامِ، وَبِالْمُوَاجَهَةِ بِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِرْسَالِ ; فَإِنَّ الْمُنَاوَلَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا تَخْلُو مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْإِذْنِ فِي الرِّوَايَةِ، فَحَصَلَ الِاكْتِفَاءُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا بِالْقَرِينَةِ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِنَّهَا قَرِيبٌ مِنَ السَّمَاعِ عَلَى الشَّيْخِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ ; لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلْمِ بِالْمَرْوِيِّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهَا دُونَ الرِّوَايَةِ. حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْزَاعِيُّ قَائِلًا بِهِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ الْمُنَاوَلَةَ وَفَعَلَهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهَا وَلَا يُحَدِّثُ بِهَا، فَقَالَ عِيَاضٌ: وَلَعَلَّ قَوْلَهُ، يَعْنِي: الثَّانِيَ، فِيمَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْحَدِيثِ بِهِ عَنْهُ. (وَالْأَصَحُّ) أَنَّهَا بِدُونِ إِذْنٍ (بَاطِلَهْ) ، لَمْ نَرَ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - مَنْ فَعَلَهَا لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ فِيهَا، فَلَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَعَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ تَجْوِيزَهَا وَإِسَاغَةَ الرِّوَايَةِ بِهَا، قُلْتُ: مِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى: مُجَرَّدُ الْمُنَاوَلَةِ دُونَ قَوْلِهِ: حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 مَعْنَى لَهُ، وَإِذَا قَالَ: حَدِّثْ بِهِ عَنِّي، فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَاوَلَةِ، بَلْ هُوَ زِيَادَةُ تَكَلُّفٍ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِلَا فَائِدَةٍ، بَلْ أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي تَقْرِيبِهِ حِكَايَةَ الْبُطْلَانِ عَنِ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ، [وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ السَّيْفِ الْآمِدِيِّ ; حَيْثُ اشْتَرَطَ الْإِذْنَ فِي الرِّوَايَةِ] ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي عَدَمِ التَّعْمِيمِ أَحْسَنُ ; لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ - مِنْهُمُ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ - الْإِذْنَ، بَلْ وَلَا الْمُنَاوَلَةَ، حَتَّى قَالُوا: إِنَّ الشَّيْخَ لَوْ أَشَارَ إِلَى كِتَابٍ وَقَالَ: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ، جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ، سَوَاءٌ نَاوَلَهُ إِيَّاهُ أَمْ لَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ: ارْوِهِ عَنِّي، أَمْ لَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ سِوَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَاوِلَ الْكِتَابَ الَّذِي يَشُكُّ فِيمَا فِيهِ، وَقَدْ يَصِحُّ عِنْدَ الْغَيْرِ مِنْ حَدِيثِهِ مَا يُعْتَقَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ بِهِ لِعِلَلٍ فِي حَدِيثِهِ هُوَ أَعْرَفُ بِهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَحَمَّلُ الشَّهَادَةَ مَنْ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُقِيمَهَا، وَلَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ كَانَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَدَائِهِ لَهَا، وَعَلِمَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَلَى صِفَةٍ تَجُوزُ إِقَامَتُهُ لَهَا، فَكَذَلِكَ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ مِنَ الْعَدْلِ الثِّقَةِ - انْتَهَى. وَقَدْ مَالَ شَيْخُنَا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ ثَانِي النَّوْعَيْنِ أَيْضًا مِنَ الْقِسْمِ بَعْدَهُ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِي فَرْقٌ قَوِيٌّ بَيْنَهُمَا إِذَا خَلَا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْإِذْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 [كَيْفَ يَقُولُ مَنْ رَوَى بِالْمُنَاوَلَةِ وَبِالْإِجَازَةِ] 516 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَوَى مَا نُووِلَا ... فَمَالِكٌ وَابْنُ شِهَابٍ جَعَلَا 517 - إِطْلَاقَهُ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَا ... يَسُوغُ وَهْوَ لَائِقٌ بِمَنْ يَرَى 518 - الْعَرْضَ كَالسَّمَاعِ بَلْ أَجَازَهْ ... بَعْضُهُمُ فِي مُطْلَقِ الْإِجَازَهْ 519 - وَالْمَرْزُبَانِي وَأَبُو نُعَيْمِ ... أَخْبَرَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْقَوْمِ 520 - تَقْيِيدُهُ بِمَا يُبِينُ الْوَاقِعَا ... إِجَازَةً تَنَاوُلًا هُمَا مَعَا 521 - أَذِنَ لِي، أَطْلَقَ لِي، أَجَازَنِي ... سَوَّغَ لِي، أَبَاحَ لِي، نَاوَلَنِي 522 - وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ لِلْمُجَازِ ... إِطْلَاقَهُ لَمْ يَكْفِ فِي الْجَوَازِ 523 - وَبَعْضُهُمْ أَتَى بِلَفْظٍ مُوهِمْ ... شَافَهَنِي، كَتَبَ لِي، فَمَا سَلِمْ 524 - وَقَدْ أَتَى بِخَبَّرَ الْأَوْزَاعِي ... فِيهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنَ النِّزَاعِ 525 - وَلَفْظُ " أَنَّ " اخْتَارَهُ الْخَطَّابِي ... وَهْوَ مَعَ الْإِسْنَادِ ذُو اقْتِرَابِ 526 - وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الْإِجَازَهْ ... أَنْبَأَنَا كَصَاحِبِ الْوِجَازَهْ 527 - وَاخْتَارَهُ الْحَاكِمُ فِيمَا شَافَهَهْ ... بِالْإِذْنِ بَعْدَ عَرْضِهِ مُشَافَهَهْ 528 - وَاسْتَحْسَنُوا لِلْبَيْهَقِيِّ مُصْطَلَحَا ... أَنْبَأَنَا إِجَازَةً فَصَرَّحَا 529 - وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ اسْتَعْمَلَ " عَنْ " إِجَازَةً وَهْيَ قَرِيبَةٌ لِمَنْ ... 530 - سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيهِ يَشُكْ وَحَرْفُ " عَنْ " بَيْنَهُمَا فَمُشْتَرَكْ ... 531 - وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ لِي فَجَعَلَهْ حِيرِيُّهُمْ لِلْعَرْضِ وَالْمُنَاوَلَهْ (كَيْفَ يَقُولُ مَنْ رَوَى) مَا تَحَمَّلَهُ (بِالْمُنَاوَلَةِ وَبِالْإِجَازَةِ) الْمَاضِيَيْنِ (وَاخْتَلَفُوا) أَيِ: الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (فِي) مَا يَقُولُ (مَنْ رَوَى مَا نُووِلَا) الْمُنَاوَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ مِمَّا تَقَدَّمَ (فَمَالِكٌ) ، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ (وَابْنُ شِهَابٍ) الزُّهْرِيُّ (جَعَلَا إِطْلَاقَهُ) أَيِ: الرَّاوِي. (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَا) أَيْ: وَأَخْبَرَنَا (يَسُوغُ وَهْوَ) أَيِ: الْإِطْلَاقُ (لَائِقٌ بِ) مَذْهَبِ (مَنْ يَرَى) كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ (الْعَرْضَ) فِي الْمُنَاوَلَةِ (كَ) عَرْضِ (السَّمَاعِ) . وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الْإِطْلَاقَ عَنْ مَالِكٍ الْخَطِيبُ، وَإِنَّهُ قَالَ: قُلْ مَا شِئْتَ مِنْ ثَنَا وَأَنَا. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. وَاجْتَمَعَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ رَوَى الْكِتَابَ، بَعْضَهُ قِرَاءَةً وَبَعْضَهُ تَحْدِيثًا وَبَعْضَهُ مُنَاوَلَةً وَبَعْضَهُ إِجَازَةً، أَنَّهُ يَقُولُ فِي كُلِّهِ: أَنَا (بَلْ أَجَازَهْ) أَيْ: إِطْلَاقَهُمَا (بَعْضُهُمُ) كَابْنِ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، حَسْبَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِمْ عِيَاضٌ، وَكَمَالِكٍ أَيْضًا وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْوِجَازَةِ (فِي مُطْلَقِ) أَيْ: فِي الرِّوَايَةِ بِمُطْلَقِ (الْإِجَازَهْ) يَعْنِي: الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ مَذْهَبُ عَامَّةِ حُفَّاظِ الْأَنْدَلُسِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَيَقُولُونَ فِيمَا يُجَازُ: حَدَّثَنَا وَأَنَا. وَعَنْ عِيسَى بْنِ مِسْكِينٍ قَالَ: الْإِجَازَةُ رَأْسُ مَالٍ كَبِيرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ فِيهَا: حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ: إِنَّ الْإِجَازَةَ كَيْفَ مَا كَانَتْ إِخْبَارٌ وَتَحْدِيثٌ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا، وَالِاتِّصَالُ السَّنَدِيُّ وَاقِعٌ بِهِ ; إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيِ الْإِجَازَةِ وَالسَّمَاعِ طَرِيقُ تَحَمُّلٍ، وَالتَّعَرُّضُ لِتَعْيِينِ النَّوْعِ الْمُتَحَمَّلِ بِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَلَا الْعَمَلُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ الطُّبُنِيُّ: لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِجَازَةِ بِالْمُعَيَّنِ: حَدَّثَنِي. وَذَهَبَ إِلَى جَوَازِهِ كَذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، مُحْتَجًّا لَهُ بِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 مَدْلُولَ التَّحْدِيثِ لُغَةً: إِلْقَاءُ الْمَعَانِي إِلَيْكَ، سَوَاءٌ أَلْقَاهُ لَفْظًا أَوْ كِتَابَةً أَوْ إِجَازَةً، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ حَدِيثًا حَدَّثَ بِهِ الْعِبَادَ وَخَاطَبَهُمْ بِهِ، فَكُلُّ مُحَدِّثٍ أَحْدَثَ إِلَيْكَ شِفَاهًا أَوْ بِكِتَابٍ أَوْ بِإِجَازَةٍ فَقَدْ حَدَّثَكَ بِهِ، وَأَنْتَ صَادِقٌ فِي قَوْلِكَ: حَدَّثَنِي، وَيُسَمَّى الْوَاقِعُ فِي الْمَنَامِ حَدِيثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يُوسُفَ: 21] . (وَ) كَذَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدٍ (الْمَرْزُبَانِيُّ) بِضَمٍ الزَّايِ نِسْبَةً لِجَدٍّ لَهُ اسْمُهُ الْمَرْزُبَانُ الْبَغْدَادِيُّ، صَاحِبُ أَخْبَارٍ وَرِوَايَةٍ لِلْأَدَبِ وَتَصَانِيفَ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ فِي دَارِهِ خَمْسُونَ مَا بَيْنَ لِحَافٍ وَمِحْبَرَةٍ لِمَنْ يَبِيتُ عِنْدَهُ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ 348 هـ. (وَأَبُو نُعَيْمِ) الْأَصْبِهَانِيُّ الْحَافِظُ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، أَطْلَقَا فِي الْإِجَازَةِ لَفْظَ (أَخْبَرَ) أَيْ: أَخْبَرَنَا، خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْهُمَا الْخَطِيبُ، وَعَنْ ثَانِيهِمَا فَقَطْ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ، وَحَكَى الْخَطِيبُ أَنَّ أَوَّلَهُمَا عِيبَ بِذَلِكَ، وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ طَاهِرٍ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ عَنِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ عَابَ ثَانِيَهُمَا أَيْضًا بِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ لِأَبِي نُعَيْمٍ أَشْيَاءَ يَتَسَاهَلُ فِيهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِجَازَةِ: أَنَا، مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. بَلْ أَدْخَلَهُ لِذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَذْهَبٌ رَآهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، قَالَ: وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّدْلِيسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 قُلْتُ: أَمَّا عَيْبُ الْأَوَّلِ بِهِ فَظَاهِرٌ ; لِكَوْنِهِ لَمْ يُبَيِّنِ اصْطِلَاحَهُ، وَأَكْثَرَ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، بِحَيْثُ أَنَّ أَكْثَرَ مَا أَوْرَدَهُ فِي كُتُبِهِ بِالْإِجَازَةِ لَا السَّمَاعِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رُمِيَ بِالِاعْتِزَالِ، وَبِأَنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْمِحْبَرَةَ وَقِنِّينَةَ النَّبِيذِ وَلَا يَزَالُ يَكْتُبُ وَيَشْرَبُ. وَأَمَّا ثَانِيهِمَا فَبَعْدَ بَيَانِ اصْطِلَاحِهِ لَا يَكُونُ مُدَلِّسًا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: سَخَّمَ اللَّهُ وَجْهَ مَنْ يَعِيبُهُ بِهَذَا، بَلْ هُوَ الْإِمَامُ عَالِمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُمْ وَإِنْ عَابُوهُ بِذَلِكَ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ لَهُ خَالَفَ فِيهِ الْجُمْهُورَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يَقُولَ فِي السَّمَاعِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَرَأَ بِنَفْسِهِ أَوْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ عَلَى شَيْخِهِ: ثَنَا، بِلَفْظِ التَّحْدِيثِ فِي الْجَمِيعِ، وَيَخُصُّ الْإِخْبَارَ بِالْإِجَازَةِ، يَعْنِي كَمَا صَرَّحَ هُوَ بِاصْطِلَاحِهِ ; حَيْثُ قَالَ: إِذَا قُلْتُ: أَنَا، عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَذْكُرَ فِيهِ إِجَازَةً أَوْ كِتَابَةً أَوْ كُتِبَ لِي أَوْ أُذِنَ لِي، فَهُوَ إِجَازَةٌ، أَوْ ثَنَا فَهُوَ سَمَاعٌ، وَيُقَوِّي الْتِزَامَهُ لِذَلِكَ أَنَّهُ أَوْرَدَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَاكِمِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ رَوَاهَا عَنِ الْحَاكِمِ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ مُطْلَقًا، وَقَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: الَّذِي رَوَيْتُهُ عَنِ الْحَاكِمِ بِالْإِجَازَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْإِخْبَارَ عَلَى اصْطِلَاحِهِ عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِجَازَةَ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ; لِئَلَا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ - انْتَهَى. وَمَعَ كَوْنِهِ بَيَّنَ اصْطِلَاحَهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: إِنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ نَادِرًا ; لِاسْتِغْنَائِهِ بِكَثْرَةِ الْمَسْمُوعَاتِ الَّتِي عِنْدَهُ، فَقَدْ قَرَأْتُ مُسْتَخْرَجَهُ عَلَى مُسْلِمٍ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ شَيْئًا بِالْإِجَازَةِ، إِلَّا مُوَيْضِعَاتٍ يَسِيرَةً، حَدِيثًا عَنِ الْأَصَمِّ، وَآخَرَ عَنْ خَيْثَمَةَ، وَعَنْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا اعْتَذَرَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِالنُّدُورِ، وَكَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ أَيْضًا مُشْعِرٌ بِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا لَا يَنْقُصُهُ شَيْئًا ; إِذْ هُوَ يَقُولُ فِي مُعْظَمِ تَصَانِيفِهِ: أَخْبَرَنَا فُلَانٌ إِجَازَةً، قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُطْلِقَ فِي الْإِجَازَةِ أَنَا بِدُونِ بَيَانٍ فَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لَهُ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا جَوَّزَ أَنَّ الْحَافِظَ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنَ عُمَرَ الْغَازِيَّ الْأَصْبِهَانِيَّ مِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَافِظَ بْنَ السَّمْعَانِيِّ لَمَّا قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُفَرِّقُ السَّمَاعَ مِنَ الْإِجَازَةِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ السَّمَاعَ وَالْإِجَازَةَ سَوَاءٌ فِي الِاتِّصَالِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ، وَإِلَّا فَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ يُرِيدُ - أَيْ: يَفْهَمُ - أَنَّ السَّمَاعَ شَيْءٌ، وَالْإِجَازَةَ شَيْءٌ. قَالَ شَيْخُنَا: مَا أَظُنُّهُ أَرَادَ مَا فَهِمَهُ الذَّهَبِيُّ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ لَا يُمَيِّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، بَلْ يَقُولُ مَثَلًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: أَنَا، وَلَا يُعَيِّنُ فِي الْإِجَازَةِ كَوْنَهَا إِجَازَةً - انْتَهَى. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ كَانَ يَقُولُ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مَشَايِخِهِ بَلْ رَوَاهُ إِجَازَةً: أَخْبَرَنَا فُلَانٌ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُولُ: وَأَنَا أَسْمَعُ، فَيَشْتَدُّ الِالْتِبَاسُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْحَالِ. وَفِي تَأْرِيخِ أَصْبَهَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ. بَلْ وَكَذَا فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْأَصْبِهَانِيِّ مِنَ الْحِلْيَةِ لَهُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، زَادَ فِيهَا: وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَّضِحُ بِهَا الْمُرَادُ ; فَإِنَّهَا تُشْعِرُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَالِيًا عَنِ الْأَوَّلِ إِجَازَةً، وَبِنُزُولٍ عَنِ الثَّانِي سَمَاعًا. وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ مِنَ الْحِلْيَةِ أَيْضًا: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَذِنَ لِي فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ حَكَى ابْنُ طَاهِرٍ فِي أَطْرَافِ الْأَفْرَادِ هَذَا الْمَذْهَبَ أَيْضًا عَنْ شَيْخِهِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لَهُمَا غَرِيبٌ، وَكَأَنَّ النُّكْتَةَ فِي التَّصْرِيحِ عَنْ شَيْخِهِ بِذَلِكَ اعْتِمَادُهُ الْمَرْوِيَّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 (وَالصَّحِيحُ) الْمُخْتَارُ (عِنْدَ) جُمْهُورِ (الْقَوْمِ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الشَّرْقِ، وَاخْتَارَ أَهْلُ التَّحَرِّي وَالْوَرَعِ الْمَنْعَ مِنْ إِطْلَاقِ كُلٍّ مِنْ ثَنَا وَأَنَا وَنَحْوِهِمَا فِي الْمُنَاوَلَةِ وَالْإِجَازَةِ؛ خَوْفًا مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْكَامِلِ، وَ (تَقْيِيدُهُ) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنْهَا (بِمَا يُبِينُ) أَيْ: يُوَضِّحُ (الْوَاقِعَا) فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَمُّلِ مِنَ السَّمَاعِ، أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوِ الْمُنَاوَلَةِ، بِلَفْظٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنِ الْآخَرِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَنَا أَوْ ثَنَا فُلَانٌ (إِجَازَةً) ، أَوْ أَنَا أَوْ ثَنَا (تَنَاوُلًا) ، أَوْ (هُمَا مَعَا) أَيْ: إِجَازَةَ مُنَاوَلَةٍ، أَوْ فِيمَا (أَذِنَ لِي) ، أَوْ فِيمَا (أَطْلَقَ لِي) رِوَايَتَهُ عَنْهُ، أَوْ فِيمَا (أَجَازَنِي) ، أَوْ فِيمَا (سَوَّغَ لِي) ، أَوْ فِيمَا (أَبَاحَ لِي) ، أَوْ فِيمَا (نَاوَلَنِي) . قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ يَقُولُ فِي الْمُنَاوَلَةِ: أَعْطَانِي فُلَانٌ أَوْ دَفَعِ إِلَيَّ كِتَابَهُ، وَشَبِيهًا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي نَسْتَحْسِنُهُ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ التَّقْيِيدِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ فِيهَا؛ أَيْ: فِي الْإِجَازَةِ، أَنَا لَا بِالْإِطْلَاقِ وَلَا بِالتَّقْيِيدِ ; لِبُعْدِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْإِجَازَةِ عَنِ الْإِخْبَارِ؛ إِذْ مَعْنَاهَا فِي الْوَضْعِ الْإِذْنُ فِي الرِّوَايَةِ - انْتَهَى، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ فِي أَوَّلِ ثَالِثِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ. وَمِمَّنْ كَانَ يَسْلُكُ التَّقْيِيدَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخَلَّالُ ; فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ (اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ) : أَنَا فُلَانٌ إِجَازَةً، وَكَذَا أَجَازَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيَّ أَخْبَرَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ: مِمَّا يَحْسُنُ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ لِلتَّقْيِيدِ هُنَا أَيْضًا، إِنْ أَلْجَأَتْ ضَرُورَةٌ مَنْ يُرِيدُ تَخْرِيجَ حَدِيثٍ فِي بَابٍ وَلَمْ يَجِدْ مَسْلَكًا سِوَاهُ، أَعْنِي الرِّوَايَةَ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ، اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَحَرَّرَ أَلْفَاظَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ إِجَازَةً عَامَّةً، أَوْ فِيمَا أَجَازَ مَنْ أَدْرَكَ حَيَاتَهُ، أَوْ يَحْكِي لَفْظَ الْمُجِيزِ فِي الرِّوَايَةِ، فَيَتَخَلَّصُ عَنْ غَوَائِلِ التَّدْلِيسِ وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُقْتَدِيًا، وَلَا يُعَدُّ مُفْتَرِيًا - انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الْإِطْلَاقُ فِي الْعَامَّةِ مَعَ الِاضْطِرَارِ لِلرِّوَايَةِ بِهَا يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُفْتَرِيًا، فَمَا بَالُكَ بِمَنِ الْوَقْتُ فِي غُنْيَةٍ عَنْ تَحْدِيثِهِ لَوْ سَمِعَ لَفْظًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُقِلًّا مِنَ الْمَسْمُوعِ وَالشُّيُوخِ، وَيَرْوِي بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَا إِفْصَاحٍ (وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ) الْمُجِيزُ (لِلْمُجَازِ) لَهُ (إِطْلَاقَهُ) ثَنَا أَوْ أَنَا فِي الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْإِجَازَةِ الْخَاصَّةِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ كَمَا فَعَلَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمَشَايِخِ فِي إِجَازَاتِهِمْ؛ حَيْثُ قَالُوا لِمَنْ أَجَازُوا لَهُ: إِنْ شَاءَ قَالَ: ثَنَا، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: أَنَا. وَوُجِدَ ذَلِكَ كَمَا حُكِيَ عَنْ شَيْخِنَا، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي إِجَازَاتِ الْمَغَارِبَةِ (لَمْ يَكْفِ) ذَلِكَ (فِي الْجَوَازِ) ، وَإِنْ عَلَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ التَّفْرِيعَاتِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ الْمَنْعَ مِنْ إِبْدَالِ ثَنَا بِأَخْبَرَنَا وَعَكْسَهُ، بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الرَّاوِي عَدَمَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ؛ لِتَعَقُّبِ الْمُصَنِّفِ لَهُ هُنَاكَ مِنْ نُكَتِهِ، بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنِعِ بِكَوْنِ الشَّيْخِ يَرَى الْجَائِزَ مُمْتَنِعًا، وَالْمُمْتَنِعَ جَائِزًا. فَرْعٌ: لَوْ قَرَأَ عَلَى شَيْخٍ شَيْئًا بِالْإِجَازَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا مِنْ شَيْخِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 سَمِعَهُ، فَالْأَحْسَنُ حِكَايَةُ الْوَاقِعِ بِأَنْ يَقُولَ: إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا، ثُمَّ ظَهَرَ سَمَاعُهُ، كَمَا وَقَعَ لِأَبِي زُرْعَةَ الْمَقْدِسِيِّ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَلِلصَّلَاحِ بْنِ أَبِي عُمَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ؛ حَيْثُ أَخْبَرَ فِيهَا كَذَلِكَ، لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ فِيهَا، ثُمَّ ظَهَرَ سَمَاعُهُ لَهَا، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ اتَّفَقَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ السَّمَاعِ كَافٍ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ عَاصَرَهُمَا ; كَابْنِ الْمُحِبِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا، وَنَحْوُهُ إِخْبَارُ الزَّيْنِ ابْنِ الشَّيْخَةِ بِالْإِجَازَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْحَجَّارِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةً خَاصَّةً. (وَبَعْضُهُمْ) أَيْ: وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَا مَضَى كَالْحَاكِمِ؛ حَيْثُ (أَتَى بِلَفْظٍ مُوهِمْ) تَجَوُّزًا فِيمَا أَجَازَهُ فِيهِ شَيْخُهُ بِلَفْظِهِ شَفَاهًا، وَهُوَ أَنَا فُلَانٌ مُشَافَهَةً، أَوْ (شَافَهَنِي) فُلَانٌ، وَفِيمَا أَجَازَهُ بِهِ شَيْخُهُ بِكِتَابِهِ أَنَا فُلَانٌ كِتَابَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ فِي كِتَابِهِ، أَوْ (كَتَبَ لِي) ، أَوْ إِلَيَّ، وَحَكَى الشِّقَّ الثَّانِيَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِجَازَةِ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ فِي كِتَابِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْمَيْمُونِ بْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَيَّ جَعْفَرٌ الْخَلَدِيُّ، وَكَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ، وَإِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا لِذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ بَعْدِ الْخَمْسِمِائَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا (فَمَا سَلِمْ) مَنِ اسْتَعْمَلَهَا مُطْلَقًا مِنَ الْإِيهَامِ وَطَرَفٍ مِنَ التَّدْلِيسِ، أَمَّا الْمُشَافَهَةُ فَتُوهِمُ مُشَافَهَتَهُ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَتُوهِمُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيهِ. وَلِذَا نَصَّ الْحَافِظُ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْهَمْدَانِيُّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ هَذَا مُعَلِّلًا بِالْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ (وَقَدْ أَتَى بِخَبَّرَ) بِالتَّشْدِيدِ أَبُو عَمْرٍو (الْأَوْزَاعِيُّ فِيهَا) أَيْ: فِي الْإِجَازَةِ خَاصَّةً، وَجَعَلَ " أَنَا " بِالْهَمْزَةِ لِلْقِرَاءَةِ (وَلَمْ يَخْلُ) أَيْضًا (مِنَ النِّزَاعِ) مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَعْنَى خَبَّرَ وَأَخْبَرَ فِي اللُّغَةِ وَكَذَا الِاصْطِلَاحِ وَاحِدٌ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ خَبَّرَ أَبْلَغُ. وَكَانَ لِلْأَوْزَاعِيِّ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ بِالْمُنَاوَلَةِ اصْطِلَاحٌ، قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: قُلْتُ لَهُ فِي الْمُنَاوَلَةِ: أَقُولُ فِيهَا: ثَنَا؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ حَدَّثْتُكَ فَقُلْ: ثَنَا، فَقُلْتُ: فَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو، أَوْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 (وَلَفْظُ " أَنَّ ") بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ (اخْتَارَهُ) ، أَوْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ حَمَدٌ (الْخَطَّابِيُّ) نِسْبَةً لِجَدِّهِ خَطَّابٍ، فَكَانَ يَقُولُ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ بِالسَّمَاعِ عَنِ الْإِجَازَةِ: أَنَا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ، قَالَ صَاحِبُ الْوِجَازَةِ: وَكَأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ " أَنَّ " دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ فِي مَفْهُومِ اللُّغَةِ، وَقَدْ تَأَمَّلْتُهُ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَةَ أَصْلُهَا التَّأْكِيدُ، وَمَعْنَى أَنَا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ، أَيْ: بِأَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ، فَدُخُولُ الْبَاءِ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ لِأَنَّهَا صَارَتِ اسْمًا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْهُ كَانَتِ الْإِجَازَةُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ قَارَنَهُ التَّأْكِيدُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ - انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ سَبَقَ حِكَايَةُ تَفْضِيلِ الْإِجَازَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ، بَلْ لَمْ يَنْفَرِدِ الْخَطَّابِيُّ بِهَذَا الصَّنِيعِ؛ فَقَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ اخْتِيَارِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَحَقُّهُ أَنْ يُنْكِرَ، فَلَا مَعْنَى لَهُ يُتَفَهَّمُ مِنْهُ الْمُرَادُ، وَلَا اعْتِيدَ هَذَا الْوَضْعُ لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا اصْطِلَاحًا؛ وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ اصْطِلَاحٌ بَعِيدٌ، بَعِيدٌ عَنْ مَقَاصِدِ أَهْلِ الْأَفْكَارِ الْقَوْمِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِلَاحِ؛ لِبُعْدِهِ عَنِ الْإِشْعَارِ بِالْإِجَازَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: (وَهْوَ مَعَ) سَمَاعِ (الْإِسْنَادِ) خَاصَّةً لِشَيْخِهِ مِنْ شَيْخِهِ، وَكَوْنِ الْإِجَازَةِ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ الْإِسْنَادِ، أَيْ: مِنْ حَدِيثٍ وَنَحْوِهِ (ذُو اقْتِرَابِ) ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ إِشْعَارًا بِوُجُودِ أَصْلِ الْإِخْبَارِ، وَإِنْ أَجْمَلَ الْخَبَرَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَفْصِيلًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الِاقْتِرَاحِ: إِذَا أَخْرَجَ الشَّيْخُ الْكِتَابَ وَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ، [وَسَاقَ السَّنَدَ، فَهَلْ يَجُوزُ لِسَامِعٍ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا فُلَانٌ] ، وَيَذْكُرَ الْأَحَادِيثَ كُلًّا أَوْ بَعْضًا؟ الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 يَجُوزُ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ؛ فَإِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالْإِخْبَارِ بِالْكِتَابِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ إِخْبَارٌ جُمْلِيٌّ، وَلَا فَرْقَ فِي مَعْنَى الصِّدْقِ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ. نَعَمْ، فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنْ لَا يُطْلَقَ الْإِخْبَارُ إِلَّا فِيمَنْ قُرِئَ، وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا مُنَاوَلَةً، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِالْمُتَعَيَّنِ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ، فَإِنْ أَوْقَعَ تُهْمَةً فَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ - انْتَهَى. وَمَعَ الْقُرْبِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَهُوَ يَلْتَبِسُ بِاصْطِلَاحِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ فِي أَنَّهُ إِذَا زَادَ فِي نَسَبِ شَيْخِ شَيْخِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخٍ يَأْتِي بِلَفْظِ: " أَنَّ " (وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الْإِجَازَهْ) لَفْظَ (أَنْبَأَنَاكَ) الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الْغَمْرِيُّ بِالْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَقِيلَ: الْمَضْمُومَةُ، وَالْمِيمِ السَّاكِنَةِ، نِسْبَةً إِلَى الْغَمْرِ، بَطْنٍ مِنْ غَافِقَ، الْأَنْدَلُسِيُّ الْمَالِكِيُّ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ (صَاحِبُ الْوِجَازَهْ) وَشَيْخُ الْحَاكِمِ، بَلْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً فِيهَا: قَالَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: " أَنَا "، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى الْإِجَازَةَ، كَمَا سَبَقَ فِي مَحَلِّهِ. نَعَمْ، اصْطَلَحَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى إِطْلَاقِهَا فِيهَا (وَاخْتَارَهُ) أَيْ: لَفْظَ أَنْبَأَنَا (الْحَاكِمُ) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (فِيمَا شَافَهَهْ) شَيْخُهُ (بِالْإِذْنِ) فِي رِوَايَتِهِ (بَعْدَ عَرْضِهِ) لَهُ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ (مُشَافَهَهْ) ، قَالَ: وَعَلَيْهِ عَهِدْتُ أَكْثَرَ مَشَايِخِي وَأَئِمَّةَ عَصْرِي (وَاسْتَحْسَنُوا) كَمَا أَشْعَرَهُ صَنِيعُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَمَنْ بَعْدَهُ (لِلْبَيْهَقِي) الْحَافِظِ (مُصْطَلَحَا) ، وَهُوَ (أَنْبَأَنَا إِجَازَةً فَصَرَّحَا) بِالْإِجَازَةِ، وَلَمْ يُطْلِقِ الْإِنْبَاءَ؛ لِكَوْنِهِ عِنْدَ الْقَوْمِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ، وَرَاعَى فِي التَّعْبِيرِ بِهِ عَنِ الْإِجَازَةِ اصْطِلَاحَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَكُنِ الِاصْطِلَاحُ بِذَلِكَ انْتَشَرَ، بَلْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ إِطْلَاقَهَا فِي الْإِجَازَةِ بَعِيدٌ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، إِلَّا أَنْ يُوضَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 اصْطِلَاحًا. (وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ (اسْتَعْمَلَ) كَثِيرًا اللَّفْظَ (عَنْ) فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ الرَّاوِي عَمَّنْ فَوْقَهُ (إِجَازَةً) ، فَيَقُولُ: قَرَأْتُ عَلَى فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ (وَهِيَ) أَيْ: عَنْ (قَرِيبَةٌ لِمَنْ) أَيْ: لِشَيْخٍ (سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيهِ يُشَكْ) مَعَ تَحَقُّقِ إِجَازَتِهِ مِنْهُ (وَحَرْفُ عَنْ بَيْنَهِمَا) أَيِ: السَّمَاعِ وَالْإِجَازَةِ (فَمُشْتَرَكْ) ، وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْخَبَرِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَيُحَدِّثُ نَاسٌ وَالصَّغِيرُ فَيَكْبَرُ. وَهُوَ رَأْيُ الْأَخْفَشِ خَاصَّةً، لَا الْكِسَائِيِّ، وَهَذَا الْفَرْعُ - وَإِنْ سَبَقَ فِي الْعَنْعَنَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْحُكْمِ لَهُ بِالِاتِّصَالِ - فَإِعَادَتُهُ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَلِيَكُونَ مُنْضَمًّا لِمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الِاصْطِلَاحِ الْخَاصِّ (وَفِي) صَحِيحِ (الْبُخَارِيِّ قَالَ لِي) فُلَانٌ (فَجَعَلَهُ حِيرِيُّهُمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ الْحِيرِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الزُّهَّادِ الْمُجَابِي الدَّعْوَةَ، فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ وَلَدِهِ أَبِي عَمْرٍو عَنْهُ (لِلْعَرْضِ) أَيْ: لِمَا أَخَذَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى وَجْهِ الْعَرْضِ (وَالْمُنَاوَلَهْ) ، وَانْفَرَدَ أَبُو جَعْفَرٍ بِذَلِكَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، بَلِ الَّذِي اسْتَقْرَأَهُ شَيْخُنَا - كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي آخِرِ أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ - أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الصِّيغَةَ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، أَوْ يَكُونَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَوْرَدَ أَشْيَاءَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ هِيَ مَرْوِيَّةٌ عِنْدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِصِيغَةِ التَّحْدِيثِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 [الْمُكَاتَبَةُ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْخَامِسُ: الْمُكَاتَبَةُ. (532) ثُمَّ الْكِتَابَةُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَوْ ... بِإِذْنِهِ عَنْهُ لِغَائِبٍ وَلَوْ (533) لِحَاضِرٍ فَإِنْ أَجَازَ مَعَهَا ... أَشْبَهَ مَا نَاوَلَ أَوْ جَرَّدَهَا (534) صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ ... قَالَ بِهِ أَيُّوبُ مَعْ مَنْصُورِ (535) وَاللَّيْثُ وَالسَّمْعَانُ قَدْ أَجَازَهْ ... وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَهْ (536) وَبَعْضُهُمْ صِحَّةَ ذَاكَ مَنَعَا ... وَصَاحِبُ الْحَاوِي بِهِ قَدْ قَطَعَا (537) وَيُكْتَفَى أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ لَهْ ... خَطَّ الَّذِي كَاتَبَهُ وَأَبْطَلَهْ (538) قَوْمٌ لِلِاشْتِبَاهِ لَكِنْ رَدَّا ... لِنُدْرَةِ اللَّبْسِ وَحَيْثُ أَدَّى (539) فَاللَّيْثُ مَعْ مَنْصُورٍ اسْتَجَازَا ... أَخْبَرَنَا حَدَّثَنَا جَوَازَا (540) وَصَحَّحُوا التَّقْيِيدَ بِالْكِتَابَهْ ... وَهْوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالنَّزَاهَهْ الْقِسْمُ (الْخَامِسُ) مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ (الْمُكَاتَبَةُ) إِلَى الطَّالِبِ مِنَ الرَّاوِي، وَالصِّيغَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا، وَإِلْحَاقُهَا بِالْمُنَاوَلَةِ (ثُمَّ الْكِتَابَةُ) مِنَ الشَّيْخِ بِشَيْءٍ مِنْ مَرْوِيِّهِ حَدِيثًا فَأَكْثَرَ، أَوْ مِنْ تَصْنِيفِهِ أَوْ نَظْمِهِ، وَيُرْسِلُهُ إِلَى الطَّالِبِ مَعَ ثِقَةٍ مُؤْتَمَنٍ بَعْدَ تَحْرِيرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِثِقَةٍ مُعْتَمَدٍ، وَشَدِّهِ وَخَتْمِهِ احْتِيَاطًا لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ تَوَهُّمِ تَغْيِيرِهِ، وَذَلِكَ شَرْطٌ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ مُؤْتَمَنًا، تَكُونُ (بِخَطِّ الشَّيْخِ) نَفْسِهِ وَهُوَ أَعَلَى (أَوْ بِإِذْنِهِ) فِي الْكِتَابَةِ (عَنْهُ) لِثِقَةٍ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ سُئِلَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا. (لِغَائِبٍ) عَنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، بَلْ (وَلَوْ) كَانَتْ (لِحَاضِرٍ) عِنْدَهُ فِي بَلَدِهِ دُونَ مَجْلِسِهِ، وَيَبْدَأُ فِي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. فَإِنْ بَدَأَ بِاسْمِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَقَدْ كَرِهَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَسْتَحِبُّ إِذَا كَتَبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 الصَّغِيرُ إِلَى الْكَبِيرِ أَنْ يُقَدَّمَ اسْمُ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَبْتَدِئُ بِاسْمِ مَنْ يُكَاتِبُهُ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا تَوَاضُعًا ; وَهِيَ كَالْمُنَاوَلَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ:. [الْمُكَاتَبَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِجَازَةِ] : فَإِنْ أَجَازَ الشَّيْخُ بِخَطِّهِ أَوْ بِإِذْنِهِ (مَعَهَا) . أَيِ: الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لَكَ مَا كَتَبْتُهُ لَكَ، أَوْ مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ. أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِجَازَاتِ، وَهِيَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ الْمُسَمَّى بِالْكِتَابَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْإِجَازَةِ. (أَشْبَهَ) حِينَئِذٍ فِي الْقُوَّةِ وَالصِّحَةِ حَيْثُ ثَبَتَ عِنْدَ الْمُكَاتِبِ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ هُوَ مِنَ الرَّاوِي الْمُجِيزِ، تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمَرَ مَعْرُوفًا بِالثِّقَةِ بِكَتْبِهِ عَنْهُ، (مَا) إِذَا (نَاوَلَ) مَعَ الِاقْتِرَانِ بِالْإِجَازَةِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي مُطْلَقِ الْمُنَاوَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ إِذْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ - وَذَكَرَ الْمُنَاوَلَةَ وَكِتَابَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ -: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ وَمَالِكًا رَأَوْا ذَلِكَ جَائِزًا. وَلَكِنْ قَدْ رَجَّحَ قَوْمٌ - مِنْهُمُ الْخَطِيبُ - الْمُنَاوَلَةَ عَلَيْهَا ; لِحُصُولِ الْمُشَافَهَةِ فِيهَا بِالْإِذْنِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرَجِّحًا فَالْمُكَاتَبَةُ تَتَرَجَّحُ أَيْضًا بِكَوْنِ الْكِتَابَةِ لِأَجْلِ الطَّالِبِ، ثُمَّ مُقْتَضَى الِاسْتِوَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْقَوْلِ بِتَرْجِيحِ الْمُنَاوَلَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ بِهَا أَنْزَلُ مِنَ الْمَرْوِيِّ بِالسَّمَاعِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا. وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِمُنَاظَرَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ بِحَضْرَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (دِبَاغُهَا طَهُورُهَا) . قَالَ إِسْحَاقُ: (فَمَا الدَّلِيلُ؟) قَالَ: (حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ: ( «هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا» ؟)) يَعْنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 الشَّاةَ الْمَيِّتَةَ، فَقَالَ إِسْحَاقُ: (حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ: «كَتَبَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: (لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا كِتَابٌ وَذَاكَ سَمَاعٌ. فَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. فَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ مَعَ بَقَاءِ حُجَّتِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَالِكِيُّ، يَعْنِي: فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَرْجِيحِ السَّمَاعِ لَا فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ، وَكَأَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَقْصِدِ الرَّدَّ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْمُنَاوَلَةَ أَنْقَصُ مِنَ السَّمَاعِ كَمَا سَلَفَ هُنَاكَ، بَلْ هُوَ مِمَّنْ أَخَذَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَالشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَحْمَدَ. وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَ الْمُكَاتَبَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالْإِجَازَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى: (سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ، جَاءَنَا أَبُو أُسَامَةَ فَذَكَرَ أَنَّكَ أَحْبَبْتَ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثَ، فَقَدْ كَتَبَهَا ابْنِي إِمْلَاءً مِنِّي لَهَا إِلَيْهِ، فَهِيَ حَدِيثٌ مِنِّي لَكَ عَمَّنْ سَمَّيْتُ لَكَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَارْوِهَا وَحَدِّثْ بِهَا عَنِّي، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ هَوِيتَ ذَلِكَ، وَكَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 يَكْفِيكَ أَنْ تَسْمَعَ مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنِّي، وَلَكِنَّ النَّفْسَ تَطَلَّعُ إِلَى مَا هَوِيتَ، فَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ يَهْوَى طَاعَتَهُ وَرِضْوَانَهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ) . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: سَمِعْتُ خَالِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ: الْتَقِطْ لِي مِائَةَ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ حَتَّى أَرْوِيَهَا عَنْكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَكَتَبْتُهَا ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَيْهِ. بَلْ صَرَّحَ ابْنُ النَّفِيسِ بِنَفْيِ الْخِلَافِ عَنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَأَلْحَقَ الْخَطِيبُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصِّحَّةِ الْكِتَابَةَ بِإِجَازَةِ كِتَابٍ مُعَيَّنٍ أَوْ حَدِيثٍ خَاصٍّ، كَمَا كَتَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي لِأَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ التَّنُوخِيِّ بِالْإِجَازَةِ بِكِتَابِ (النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) عَنِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَبِـ (الْعِلَلِ) عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَبِـ (الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ) . وَبِـ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) ، وَ (مَسَائِلِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ) وَ (الْمَسَائِلِ الْمَبْسُوطَةِ) عَنْ مَالِكٍ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ دَخَلَ فِي أَوَّلِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ. [الْمُكَاتَبَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْإِجَازَةِ] : (أَوْ) لَمْ يُجِزْ بَلْ (جَرَّدَهَا) أَيِ الْكِتَابَةَ عَنِ الْإِجَازَةِ وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي (صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ) عِنْدَ أَهْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الْحَدِيثِ قَالَ عِيَاضٌ: (لِأَنَّ فِي نَفْسِ كِتَابِهِ إِلَيْهِ بِهِ بِخَطِّهِ، أَوْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَهُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ أَقْوَى إِذْنٍ مَتَى صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطُّهُ وَكِتَابُهُ) . يَعْنِي كَمَا فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ. قَالَ: (وَقَدِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ السَّلَفِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الشُّيُوخِ بِالْحَدِيثِ) بِقَوْلِهِمْ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ قَالَ: ثَنَا فُلَانٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَدُّوهُ فِي الْمُسْنَدِ بِغَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَسَانِيدِ كَثِيرًا. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: (وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ) قَوْلُهُمْ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ: ثَنَا فُلَانٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا، وَذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْمُسْنَدِ الْمَوْصُولِ، وَفِيهَا إِشْعَارٌ قَوِيٌّ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْإِجَازَةِ لَفْظًا فَقَدْ تَضَمَّنَتْهَا مَعْنًى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِرْسَالَ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَفَظَ لَهُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّلَفُّظِ بِالْإِذْنِ. وَنَحْوُهُ مَا حَكَاهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: الْكِتَابُ الْمُتَيَقَّنُ مِنَ الرَّاوِي وَسَمَاعُ الْإِقْرَارِ مِنْهُ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ فِيمَا تَقَعُ الْعِبَارَةُ فِيهِ بِاللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرُ اللِّسَانِ عَنْ ضَمِيرِ الْقَلْبِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْعِبَارَةُ عَنِ الضَّمِيرِ بِأَيِ سَبَبٍ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِبَارَةِ ; إِمَّا بِكِتَابٍ، وَإِمَّا بِإِشَارَةٍ، وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءً. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقَامَ الْإِشَارَةَ مُقَامَ الْقَوْلِ فِي الْعِبَارَةِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ وَقَوْلَهُ لَهَا: ( «أَيْنَ رَبُّكِ؟) فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ» . (قَالَ بِهِ) أَيْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 بِتَصْحِيحِ هَذَا النَّوْعِ وَالرِّوَايَةِ بِهِ، (أَيُّوبُ) السِّخْتِيَانِيُّ (مَعَ مَنْصُورِ) بْنِ الْمُعْتَمِرِ. (وَاللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ وَخَلْقٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. أَمَّا اللَّيْثُ فَقَدْ حَدَّثَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِالْمُكَاتَبَةِ، بَلْ وَصَرَّحَ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ، بَلْ قَالَ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُهُ: إِنَّهُ كَانَ يُجِيزُ كَتْبَ الْعِلْمِ لِمَنْ يَسْأَلُهُ، وَيَرَاهُ جَائِزًا وَاسِعًا. وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَقَالَ شُعْبَةُ: كَتَبَ إِلَيَّ مَنْصُورٌ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ لَقِيتُهُ فَقُلْتُ: أُحَدِّثُ بِهِ عَنْكَ؟ قَالَ: أَوَ لَيْسَ إِذَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فَقَدْ حَدَّثْتُكَ؟ ثُمَّ لَقِيتُ أَيُّوبَ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَمِلَ بِهِ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ: إِنَّهُ كَتَبَ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَةِ: (مِنْ زَكَرِيَّا إِلَى مُعَاذٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ، أَمَّا بَعْدُ، أَصْلَحَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بِمَا أَصْلَحَ بِهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ هُوَ أَصْلَحَهُمْ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ ذُرَيْحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ بِمَعَاصِي اللَّهِ يُعَدَّ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا، وَالسَّلَامُ. وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَصَاحِبُ (الْمَحْصُولِ) ، (وَ) أَبُو الْمُظَفَّرِ (السَّمْعَانُ) بِحَذْفِ يَاءِ النِّسْبَةِ مِنْهُمْ (قَدْ أَجَازَهُ) ; أَيِ: الْكِتَابَ الْمُجَرَّدَ، بَلْ وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَإِلَى ذَلِكَ، أَعْنِي تَفْضِيلَ الْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ، صَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضًا، مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَكَأَنَّهُ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْخِيصِ وَالْمُشَاهَدَةِ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ تَقْدِيمَ الْكِنَايَةِ عَلَى الصَّرِيحِ، (وَبَعْضُهُمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءِ (صِحَّةَ ذَاكَ) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنَ الْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ (مَنَعَا) كَالْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِيهَا. وَقَالَ السَّيْفُ الْآمِدِيُّ: (لَا يَرْوِيهِ إِلَّا بِتَسْلَيِطٍ مِنَ الشَّيْخِ كَقَوْلِهِ: فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ) . وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ إِلَى انْقِطَاعِ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ، (وَ) الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ (الْحَاوِي الْكَبِيرِ) فِيهِ (بِهِ) . أَيْ: بِالْمَنْعِ (قَدْ قَطَعَا) وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَلَطٌ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ أَوْ حَكَاهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ صِحَّتُهُ وَتَسْوِيغُ الرِّوَايَةِ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِنَسْخِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَصَاحِفَ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ وَاضِحٌ لِأَصْلِ الْمُكَاتَبَةِ لَا خُصُوصِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْإِجَازَةِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِفِ وَمُخَالَفَةِ مَا عَدَاهَا، وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ بِعْثَةِ الْمَصَاحِفِ إِنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ إِسْنَادِ صُورَةِ الْمَكْتُوبِ فِيهَا إِلَى عُثْمَانَ، لَا أَصْلُ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَهُمْ. بَلِ اسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ( «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى» ) . وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ» . وَوَجْهُ دَلَالَتِهِمَا عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ، بَلْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِأَوَّلِهِمَا لِلْمُنَاوَلَةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَ الْكِتَابَ لِرَسُولِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَظِيمَ الْبَحْرَيْنِ بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مَا فِيهِ وَلَا قَرَأَهُ، وَقَدْ صَارَتْ كُتُبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينًا يُدَانُ بِهَا، وَالْعَمَلُ بِهَا لَازِمٌ لِلْخَلْقِ، وَكَذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي يُحْكَمُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا - أَحَادِيثُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ رِوَايَةِ التَّابِعِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ، أَوْ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ التَّابِعِيِّ عَنِ التَّابِعِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمِمَّا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 حَدِيثُ وَرَّادٍ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ. الْحَدِيثَ. وَحِدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ: «كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: حَدَّثَنِي هَذَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ» . وَحَدِيثُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ) . وَحَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ. وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: ( «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» ) . وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ حَدِيثُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ غُلَامِي نَافِعٍ: أَنْ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ عَشِيَّةَ رَجْمِ الْأَسْلَمِيِّ. فَذَكَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الْحَدِيثَ. بَلْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ شَيْخِهِ بِالْمُكَاتَبَةِ حَيْثُ قَالَ فِي (بَابٍ إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا) فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ. وَذَكَرَ حَدِيثًا لِلشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ سِوَاهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ بِخُصُوصِهِ، فَرَوَاهُ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ بِالسَّمَاعِ، وَكَذَا رَوَى بِهَا أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَبُو عَمَّارٍ الْمَرْوَزِيُّ. فَذَكَرَ حَدِيثًا. [يُكْتَفَى مَعْرِفَةُ الْمَكْتُوبِ لَهُ خَطَّ الْكَاتِبِ فِي الْمُكَاتَبَةِ] : (وَيُكْتَفَى) فِي الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ (أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ لَهُ) بِنَفْسِهِ، وَكَذَا - فِيمَا يَظْهَرُ - بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ مُعْتَمَدٍ، (خَطَّ) الْكَاتِبِ (الَّذِي كَاتَبَهُ) وَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْكَاتِبِ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ ذَلِكَ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ بِمَعْرَفَةِ أَنَّهُ خَطُّهُ لِلتَّوَسُّعِ فِي الرِّوَايَةِ. (وَأَبْطَلَهُ قَوْمٌ) فَلَمْ يُجَوِّزُوا الِاعْتِمَادَ عَلَى الْخَطِّ، وَاشْتَرَطُوا الْبَيِّنَةَ بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، (لِلِاشْتِبَاهِ) فِي الْخُطُوطِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُ الْكَاتِبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَمِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي (الْمُسْتَصْفَى) : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَالْخَطُّ لَا يَعْرِفُهُ. يَعْنِي جَزْمًا. وَ (لَكِنْ رَدَّا) هَذَا، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ (لِنُدْرَةِ اللَّبْسِ) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَطَّ الْإِنْسَانِ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ إِلْبَاسٌ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرُهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخَطَّ يَتَشَابَهُ، أَخْذًا مِنَ الْحَاكِمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُكَاتَبَاتِ الْحُكْمِيَّةِ مِنَ قَاضٍ آخَرَ إِذَا عَرَفَ الْخَطَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ اتِّجَاهٌ فِي الْحُكْمِ، فَالْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، يَعْنِي سَلَفًا وَخَلَفًا، هُنَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْخَطِّ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ إِلَى عُمَّالِهِ فَيَعْمَلُونَ بِهَا وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مَعْرِفَتِهَا. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِصْطَخْرِيُّ حَيْثُ اكْتَفَى بِكِتَابِ الْقَاضِي الْمُجَرَّدِ عَنِ الْإِشْهَادِ إِذَا وَثِقَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ. وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ، وَبَابُ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، بَلْ صَرَّحَ فِي (زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ) بِاعْتِمَادِ خَطِّ الْمُفْتِي إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي فُرُوعٍ، مِنْهَا: لَوْ وَجَدَ بِخَطِّ أَبِيهِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ دَيْنًا عَلَى أَحَدٍ سَاغَ لَهُ الْحَلِفُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَمُحَاكَاةُ الْخُطُوطِ فِيهَا مِنَ الْمَحْظُورِ مَا لَا يَخْفَى، فَيَتَعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ، وَإِنْ حَاكَى حَافِظُ دِمَشْقَ الشَّمْسُ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ خَطَّ الذَّهَبِيِّ، ثُمَّ حَاكَاهُ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ فِي طَائِفَةٍ. [عِبَارَةُ الرَّاوِي بِطَرِيقِ الْمُكَاتَبَةِ] : (بِحَيْثُ أَدَّى) الْمُكَاتَبُ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْ ذَلِكَ فَبِأَيِ صِيغَةٍ يُؤَدِّي، (فَاللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ (مَعْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ (اسْتَجَازَا) إِطْلَاقَ: (أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا جَوَازًا) لِأَنَّهُمَا كَمَا سَلَفَ قَرِيبًا قَالَا: أَلَيْسَ إِذَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فَقَدْ حَدَّثْتُكَ؟ وَكَذَا قَاَلَ لُوَيْنٌ: كَتَبَ إِلَيَّ وَحَدَّثَنِي وَاحِدٌ. وَلَكِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 الْجُمْهُورَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ مَنَعُوا الْإِطْلَاقَ. (وَصَحَّحُوا التَّقْيِيدَ بِالْكِتَابَةِ) فَيَقُولُ: ثَنَا أَوْ أَنَا كِتَابَةً أَوْ مُكَاتَبَةً، وَكَذَا كَتَبَ إِلَيَّ - إِنْ كَانَ بِخَطِّهِ - وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَهُوَ) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ: (الَّذِي يَلِيقُ بِ) مَذَاهِبِ أَهْلِ التَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ وَالْوَرَعِ (وَالنَّزَاهَةِ) ; أَيِ: التَّبَاعُدِ عَنْ إِيهَامِ التَّلْبِيسِ. قَالَ الْحَاكِمُ: الَّذِي أَخْتَارُهُ وَعَهِدْتُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مَشَايِخِي وَأَئِمَّةَ عَصْرِي أَنْ يَقُولَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُحَدِّثُ مِنْ مَدِينَةٍ وَلَمْ يُشَافِهْهُ بِالْإِجَازَةِ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ. وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَفْعَلُونَهُ. [إِعْلَامُ الشَّيْخِ] السَّادِسُ إِعْلَامُ الشَّيْخِ. (541) وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا ... يَرْوِيهِ أَنْ يَرْوِيَهُ فَجَزَمَا (542) بِمَنْعِهِ الطُّوسِيُّ وَذَا الْمُخْتَارُ ... وَعِدَّةٌ كَابْنِ جُرَيْجٍ صَارُوا (543) إِلَى الْجَوَازِ وَابْنُ بَكْرٍ نَصَرَهْ ... وَصَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْمًا ذَكَرَهْ (544) بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ لَوْ مَنَعَهْ ... لَمْ يَمْتَنِعْ كَمَا إِذَا قَدْ سَمِعَهْ (545) وَرُدَّ كَاسْتِرْعَاءِ مَنْ يُحَمِّلُ ... لَكِنْ إِذَا صَحَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْقِسْمُ (السَّادِسُ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ (إِعْلَامُ الشَّيْخِ) الطَّالِبَ لَفْظًا بِشَيْءٍ مِنْ مَرْوِيِّهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَأُخِّرَ مَعَ كَوْنِهِ صَرِيحًا عَنِ الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ الْإِعْلَامُ، كِنَايَةً لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْهَا. ( وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا يَرْوِيهِ ) حَدِيثًا فَأَكْثَرَ عَنْ شَيْخٍ فَأَكْثَرَ، حَسْبَ مَا اتَّفَقَ لَهُ وُقُوعُهُ سَمَاعًا أَوْ إِجَازَةً أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ مُجَرَّدًا عَنِ التَّلَفُّظِ بِالْإِجَازَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 (أَنْ يَرْوِيَهِ) أَمْ لَا؟ (فَجَزَمَا بِمَنْعِهِ) أَبُو حَامِدٍ (الطُّوسِيُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ وَأَئِمَّةِ الْأُصُولِ حَيْثُ قَطَعَ بِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - أَنَّهُ الْغَزَالِيُّ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْحَابِنَا مِمَّنْ وَقَفْتُ عَلَيْهِ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَيُعْرَفُ بِأَبِي حَامِدٍ الطُّوسِيِّ، لِكَوْنِهِمَا لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ تَصَانِيفُ. وَالْغَزَالِيُّ وُلِدَ بِطُوسٍ، وَكَانَ وَالِدُهُ يَبِيعُ غَزْلَ الصُّوفِ فِي دُكَّانٍ بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ نُسِبَ إِلَى غَزَالَةَ - بِالتَّخْفِيفِ - قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا. وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ لَا سِيَّمَا وَالْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ فِي (الْمُسْتَصْفَى) . وَعِبَارَتُهُ: أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا مَسْمُوعِي مِنْ فُلَانٍ. فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، يَعْنِي بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ، وَهُوَ تَلَفُّظُ الْقَارِئِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَإِقْرَارُهُ بِهِ وَلَوْ بِالسُّكُوتِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُ الرَّاوِي عَنْهُ السَّامِعُ ذَلِكَ: ثَنَا وَأَنَا صِدْقًا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِعِلَّةٍ - كَمَا قَالَ فِي (الْمُسْتَصْفَى) : لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ لِخَلَلٍ يَعْرِفُهُ فِيهِ وَإِنْ سَمِعَهُ. يَعْنِي كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي ثَانِي نَوْعَيِ الْمُنَاوَلَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِالْمَنْعِ، بَلْ مَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ الْأُصُولِ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ. (وَذَا) : أَيِ: الْمَنْعُ هُوَ (الْمُخْتَارُ) لِابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ السَّيْفِ الْآمِدِيِّ فِي ثَانِي نَوْعَيِ الْكِتَابَةِ: إِنَّهُ لَا يُرْوَى إِلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنَ الشَّيْخِ، كَقَوْلِهِ: فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ. وَكَذَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ يَقْتَضِيهِ. (وَعِدَّةٌ) مِنَ الْأَئِمَّةِ كَثِيرُونَ (كَابْنِ جُرَيْجٍ) عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَأَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ كَالزُّهْرِيِّ، وَطَوَائِفَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ كَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ كَصَاحِبِ (الْمَحْصُولِ) وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ (صَارُوا إِلَى الْجَوَازِ) . قَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: (شَهِدْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ جَاءَ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَ: الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا فُلَانًا هِيَ حَدِيثُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَسَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ بَعْدُ يَقُولُ: ثَنَا هِشَامٌ. وَحَكَاهُ عِيَاضٌ عَنِ الْكَثِيرِ، وَأُجِيبَ بِكَوْنِ مَذْهَبِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الْجَوَازَ مِنْ غَمْزِهِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَسَدِ بْنِ مُوسَى مَعَ قَوْلِ أَسَدٍ: إِنَّمَا طَلَبَ مِنِّي كُتُبِي لِيَنْسَخَهَا فَلَا أَدْرِي مَا صَنَعَ. أَوْ نَحْوُ هَذَا، بَلْ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 هَذِهِ الصُّورَةِ زِيَادَةٌ عَلَى الْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ، وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ أَيْضًا، وَلَا يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ كَوْنُ أَسَدٍ لَا يُجِيزُ الْإِجَازَةِ. (وَابْنُ بَكْرٍ) هُوَ الْوَلِيدُ الْغَمْرِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْوِجَادَةُ) اخْتَارَهُ، وَ (نَصَرَهْ) بَلْ (وَ) أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ (صَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْمًا ذَكَرَهُ) أَيْ: ذَكَرَهُ جَازِمًا بِهِ، وَالْحُجَّةُ لِلْجَوَازِ الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا إِذَا سَمِعَ الْمُقِرَّ يُقِرُّ بِشَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّ اعْتِرَافَهُ لَهُ بِهِ وَتَصْحِيحَهُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَتِهِ كَتَحْدِيثِهِ لَهُ بِلَفْظِهِ أَوْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ لَهُ، (بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ) وَهُوَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ أَحَدُ مَنِ اخْتَارَهُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ، فَصَرَّحَ (بِأَنْ) أَيْ: بِأَنَّهُ (لَوْ مَنَعَهُ) مِنْ رِوَايَتَهِ عَنْهُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ مِنْ مَرْوِيِّهِ صَرِيحًا بِقَوْلِهِ: لَا تَرْوِهِ عَنِّي، أَوْ لَا أُجِيزُهُ لَكَ. (لَمْ يَمْتَنِعْ) بِذَلِكَ عَنْ رِوَايَتِهِ، يَعْنِي فَإِنَّ الْإِعْلَامَ طَرِيقٌ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ بِهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ بِهِ عَنْهُ، فَمَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوعِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ لَا يَقْتَضِي النَّظَرُ سِوَاهُ. (كَمَا) أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ (إِذَا) مَنَعَهُ مِنَ التَّحْدِيثِ بِمَا (قَدْ سَمِعَهُ) لَا لِعِلَّةٍ وَرِيبَةٍ فِي الْمَرْوِيِّ ; لِكَوْنِهِ هُنَا أَيْضًا قَدْ حَدَّثَهُ، يَعْنِي إِجْمَالًا، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ كَمَا سَلَفَ فِي ثَامِنِ الْفُرُوعِ الَّتِي قُبَيْلَ الْإِجَازَةِ، (وَ) لَكِنْ قَدْ (رُدَّ) أَيِ: الْقُولُ بِالْجَوَازِ (كَـ) مَا فِي مَسْأَلَةِ (اسْتِرْعَاءِ) الشَّاهِدِ (مَنْ يُحَمِّلُـ) ـهُ الشَّهَادَةَ حَيْثُ لَا يَكْفِي إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ أَوْ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِقَامَتِهَا لِتَشَكُّكٍ أَوِ ارْتِيَابٍ يَدْخُلُهُ عِنْدَ أَدَائِهَا أَوِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الِاسْتِئْذَانِ فِي نَقْلِهَا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا، أَشَارَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا مِمَّا تَسَاوَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنِ افْتَرَقَتَا فِي غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَمَا خَدَشَ بِهِ عِيَاضٌ فِي الِاسْتِوَاءِ مِنْ كَوْنِهِ إِذَا سَمِعَهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ تَسُوغُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِدُونِ إِذْنٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ شَخْصًا أَوْ سَمِعَهُ يُبَيِّنُ السَّبَبَ كَمَا أَلْحَقَهُمَا غَيْرُهُ بِهَا، قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ زَالَ مَا كُنَّا نَتَوَهَّمُهُ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ إِقَامَتِهَا، كَمَا أَنَّهُ يَسُوغُ لِمَنْ قَرَأَ أَوْ سَمِعَ رِوَايَةَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ اتِّفَاقًا، بَلْ وَيُمْكِنُ التَّخَلُّصُ بِهَذَا أَيْضًا مِنْ مَنْعِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ صِحَّةَ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ. وَقَرَّرَ الْمَنْعَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَنَّهَا شَرْعٌ عَامٌّ، وَالْإِثْبَاتُ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: أَرْوِيهِ عَنْ فُلَانٍ. مُؤَثِّرٌ فِي إِيجَابِ الْعَمَلِ مَعَ الثِّقَةِ، وَذَاكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الرِّوَايَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ نِيَابَةٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْإِذْنُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ: لَا تُؤَدِّ عَنِّي. امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ مَنْعُهُ لِرِيبَةٍ وَعِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ. وَتَرَجَّحَ تَوْجِيهُ الْمَنْعِ بِدُونِ إِذْنٍ فِي الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا (لَكِنْ إِذَا صَحَّ) عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَمَا عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 الْمُخْتَارِ مَا حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ حَصَلَ الْوُثُوقُ بِهِ، يَجِبُ (عَلَيْهِ الْعَمَلُ) بِمَضْمُونِهِ إِنْ كَانَ أَهْلًا، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ لَهُ رِوَايَتُهُ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ تَكْفِي فِيهِ صِحَّتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ كَمَا سَلَفَ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، مَعَ ذَهَابِ بَعْضِهِمْ إِلَى مَنْعِ الرِّوَايَةِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى مَنْعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ بِالْإِجَازَةِ كَالْمُرْسَلِ مَنْعُهُ هُنَا مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ هُنَا: كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ السَّابِقُ، يَعْنِي فِي الْإِجَازَةِ، يَقْتَضِي مَنْعَ هَذَا أَيْضًا. [الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابِ] السَّابِعُ: الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابِ. (546) وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ لِلْمُوصَى لَهُ ... بِالْجُزْءِ مِنْ رَاوٍ قَضَى أَجَلَهُ (547) يَرْوِيهِ أَوْ لِسَفَرٍ أَرَادَهْ ... وَرُدَّ مَا لَمْ يُرِد ِ الْوِجَادَهْ الْقِسْمُ (السَّابِعُ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ (الْوَصِيَّةُ) مِنَ الرَّاوِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ سَفَرِهِ لِلطَّالِبِ (بِالْكِتَابِ) أَوْ نَحْوِهِ مِنْ مَرْوِيِّهِ (وَبَعْضُهُمْ) كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ (أَجَازَ لِلْمُوصَى لَهُ) الْمُعَيَّنِ وَاحِدًا فَأَكْثَرَ (بِالْجُزْءِ) مِنْ أُصُولِهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَأَكْثَرَ، وَلَوْ بِكُتُبِهِ كُلِّهَا (مِنْ رَاوٍ) لَهُ رِوَايَةٌ بِالْمُوصَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ صَرِيحًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 بِأَنَّ هَذَا مِنْ مَرْوِيِّهِ حِينَ (قَضَى أَجَلَهُ) بِالْمَوْتِ (يَرْوِيهِ) ; أَيْ: أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا فَعَلَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ حَيْثُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ بِالشَّامِ إِذْ هَرَبَ إِلَيْهَا لَمَّا أُرِيدَ لِلْقَضَاءِ بِكُتُبِهِ إِلَى تِلْمِيذِهِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَّا فَلْتُحْرَقْ، وَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ وَجِيءَ بِالْكُتُبِ الْمُوصَى بِهَا مِنَ الشَّأْمِ لِأَيُّوبَ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَأَعْطَى فِي كِرَائِهَا بِضْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ سِيرِينَ: أَيَجُوزُ لَهُ التَّحْدِيثُ بِذَلِكَ؟ فَأَجَازَهُ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) (أَوْ) حِينَ تَوَجَّهَ (لِسَفَرٍ أَرَادَهُ) إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمَوْتِ، بَلْ عَزَى شَيْخُنَا الْجَوَازَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِقَوْمٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: إِنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ. وَسَبَقَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ: هَذَا طَرِيقٌ قَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ إِجَازَةُ الرِّوَايَةِ بِهِ. ثُمَّ عَلَّلَهَا بِأَنَّ فِي دَفْعِهَا لَهُ نَوْعًا مِنَ الْإِذْنِ وَشَبَهًا مِنَ الْعَرْضِ وَالْمُنَاوَلَةِ. قَالَ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي قَبْلَهُ (وَ) لَكِنْ (رُدَّ) الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ حَسْبَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ، بَلْ نَقَلَهُ عَنْ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَابْتِيَاعِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرِّوَايَةِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْوِجَادَةِ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْنَا كَافَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَقَدَّمَتْ مِنَ الرَّاوِي إِجَازَةٌ لِلَّذِي سَارَتْ إِلَيْهِ الْكُتُبُ بِرِوَايَةِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ سَمَاعَاتِهِ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ حِينَئِذٍ فِيمَا يَرْوِيهِ مِنْهَا: أَنَا وَثَنَا. عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَهُوَ زَلَّةُ الْعَالِمِ (مَا لَمْ يُرِدِ) الْقَائِلُ بِهِ (الْوِجَادَةُ) الْآتِيَةُ بَعْدُ ; أَيِ: الرِّوَايَةُ بِهَا. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِوَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيِ الْإِعْلَامِ وَالْمُنَاوَلَةِ، فَإِنَّ لِمُجَوِّزٍ بِهِمَا مُسْتَنَدًا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَقَرَّرُ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ هَاهُنَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَالرِّوَايَةُ بِالْوِجَادَةِ لَمْ يُجَوِّزْهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي حِكَايَةٍ قَالَ فِيهَا: وَعَنْ كِتَابِ أَبِيهِ بِتَيَقُّنٍ أَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَالْقَوْلُ بِحَمْلِ الرِّوَايَةِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الْوِجَادَةِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَسَبَقَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ بِالْوِجَادَةِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي بُطْلَانِهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَهِيَ عَلَى هَذَا أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْوِجَادَةِ بِلَا خِلَافٍ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَقُولُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ، غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ عَمِلَ بِالْوِجَادَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْبُطْلَانُ هُوَ الْحَقُّ الْمُتَعَيِّنُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَحْدِيثٍ لَا إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، وَلَا تَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً. عَلَى أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ الْمُفْتِيَ بِالْجَوَازِ كَمَا تَقَدَّمَ تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْدُ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 نَفْسِهِ: لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ. بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ عَقِبَ حِكَايَتِهِ: يُقَالُ: إِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ سَمِعَ تِلْكَ الْكُتُبَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْفَظُهَا، فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَى ابْنَ سِيرِينَ فِي التَّحْدِيثِ مِنْهَا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ وَرَدَ عَنْهُ كَرَاهَةُ الرِّوَايَةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي لَيْسَتْ مَسْمُوعَةً. فَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَجِدُ الْكِتَابَ، أَيَقْرَؤُهُ أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْ ثِقَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ فَضْلًا عَنِ الْوَصِيَّةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ: أَرَدْتُ أَنْ أَضَعَ عِنْدَهُ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، وَقَالَ: لَا يَلْبَثُ عِنْدِي كِتَابٌ. [الْوِجَادَةُ] الثَّامِنُ: الْوِجَادَةُ. (548) ثُمَّ الْوِجَادَةُ وَتِلْكَ مَصْدَرْ ... وَجَدْتُهُ مُوَلَّدًا لِيَظْهَرْ (549) تَغَايُرُ الْمَعْنَى وَذَاكَ إِنْ تَجِدْ ... بِخَطِّ مَنْ عَاصَرْتَ أَوْ قَبْلُ عُهِدْ (550) مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ ... فَقُلْ بِخَطِّهِ وَجَدْتُ وَاحْتَرِزْ (551) إِنْ لَمْ تَثِقْ بِالْخَطِّ قُلْ وَجَدْتُ ... عَنْهُ أَوِ اذْكُرْ قِيلَ أَوْ ظَنَنْتُ (552) وَكُلُّهُ مُنْقَطِعٌ وَالْأَوَّلُ ... قَدْ شِيبَ وَصْلًا مَا وَقَدْ تَسَهَّلُوا (553) فِيهِ بِعَنْ قَالَ وَهَذَا دُلْسَهْ ... تَقْبُحُ إِنْ أَوْهَمَ أَنَّ نَفْسَهْ (554) حَدَّثَهُ بِهِ وَبَعْضٌ أَدَّى ... حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا وَرُدَّا (555) وَقِيلَ فِي الْعَمَلِ إِنَّ الْمُعْظَمَا ... لَمْ يَرَهُ وَبِالْوُجُوبِ جَزَمَا (556) بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَهْوَ الْأَصْوَبُ ... وَلِابْنِ إِدْرِيسَ الْجَوَازَ نَسَبُوا (557) وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ خَطِّهِ فَقُلْ ... قَالَ وَنَحْوَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ (558) بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوقُ قُلْ بَلَغَنِي ... وَالْجَزْمُ يُرْجَى حِلُّهُ لِلْفَطِنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الْقِسْمُ (الثَّامِنُ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَنَقْلِهِ (الْوِجَادَةُ) ، (ثُمَّ) يَلِي مَا تَقَدَّمَ (الْوِجَادَةُ) بِكَسْرِ الْوَاوِ، (وَتِلْكَ) ; أَيْ: لَفْظُ الْوِجَادَةِ (مَصْدَرْ وَجَدْتُهُ مُوَلَّدًا) ; أَيْ: غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الْعَرَبِ، بِمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الِاصْطِلَاحِ - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا النَّهْرَوَانِيُّ - وَلَّدُوا قَوْلَهُمْ: وِجَادَةٌ. فِيمَا أُخِذَ مِنَ الْعِلْمِ مِنْ صَحِيفَةٍ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ وَلَا إِجَازَةٍ وَلَا مُنَاوَلَةٍ، اقْتِفَاءً لِلْعَرَبِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَصَادِرِ " وَجَدَ " لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ. (لِيَظْهَرَ تَغَايُرُ الْمَعْنَى وَذَاكَ) ; أَيْ: قِسْمُ الْوِجَادَةِ اصْطِلَاحًا نَوْعَانِ: حَدِيثٌ وَغَيْرُهُ ; فَالْأَوَّلُ (أَنْ تَجِدَ بِخَطِّ) بَعْضِ (مَنْ عَاصَرْتَ) سَوَاءً لَقِيتَهُ أَمْ لَا، أَوْ بِخَطِّ بَعْضِ مَنْ (قَبْلُ) مِمَّنْ لَمْ تُعَاصِرْهُ مِمَّنْ (عُهِدَ) وُجُودُهُ فِيمَا مَضَى فِي تَصْنِيفٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَرْوِيهِ، مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَكَذَا الْمَوْقُوفُ وَمَا أَشْبَهَهُ. (مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ) لَكَ رِوَايَتَهُ (فَقُلْ) حَسْبَمَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِيمَا تُورِدُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا مَعْنَاهُ (بِخَطِّهِ) أَيْ: بِخَطِّ فُلَانٍ (وَجَدْتُ) ، وَكَذَا: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: كَقَرَأْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ، أَوْ فِي كِتَابِ فُلَانٍ بِخَطِّهِ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. وَتَذْكُرُ شَيْخَهُ وَتَسُوقُ سَائِرَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، أَوْ مَا وَجَدْتَهُ بِخَطِّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، (وَاحْتَرِزْ) عَنِ الْجَزْمِ (إِنْ لَمْ تَثِقْ بِ) ذَاكَ (الْخَطِّ) بِطَرِيقِهِ الْمَشْرُوحِ فِي الْمُكَاتَبَةِ، بَلْ (قُلْ وَجَدْتُ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ فُلَانٍ، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ، أَوْ أَذْكُرُ: وَجَدْتُ بِخَطٍّ قِيلَ: إِنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ، أَوْ قَالَ لِي فُلَانٌ: إِنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ. (أَوْ ظَنَنْتُ) أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ أَوْ ذَكَرَ كَاتِبَهُ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُفْصِحَةِ بِالْمُسْتَنَدِ فِي كَوْنِهِ خَطَّهُ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ خَطِّهِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 يَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ لِلْوُثُوقِ بِهِ وَعَدَمِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي قَرِيبًا. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْيِيدِ بِمَنْ لَمْ يُجِزْ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَى الْوِجَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْإِجَازَةِ، أَهِيَ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ الْعَمَلِ؟ وَإِلَّا فَقَدَ اسْتَعْمَلَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ الْإِجَازَةِ فَيُقَالُ: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ وَأَجَازَهُ لِي. وَهُوَ - كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ - وَاضِحٌ، وَرُبَّمَا لَا يُصَرِّحُ بِالْإِجَازَةِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي: ثَنَا فُلَانٌ. وَلَفْظُ الْوِجَادَةِ يَشْمَلُهُمَا (وَكُلُّهُ) أَيِ: الْمَرْوِيُّ بِالْوِجَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ سَوَاءٌ وَثِقْتَ بِكَوْنِهِ خَطَّهُ أَمْ لَا. (مُنْقَطِعٌ) أَوْ مُعَلَّقٌ، فَقَدْ قَالَ الرَّشِيدُ الْعَطَّارُ فِي (الْغُرَرِ الْمَجْمُوعَةِ) لَهُ: الْوِجَادَةُ دَاخِلَةٌ فِي بَابِ الْمَقْطُوعِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الرِّوَايَةِ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ عَدَّهُ مِنَ التَّعْلِيقِ أَوْلَى مِنَ الْمُنْقَطِعِ وَمِنَ الْمُرْسَلِ - يَعْنِي بِالنَّظَرِ لِثَالِثِ الْأَقْوَالِ فِي تَعْرِيفِهِ - وَإِنْ أَجَازَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الرِّوَايَةَ عَنِ الْوِجَادَةِ فِي الْكُتُبِ مِمَّا لَيْسَ بِسَمَاعٍ لَهُمْ وَلَا إِجَازَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) وَعَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا وَسَاقَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي قَائِمِ سَيْفِ أَبِيهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَحِيفَةً فِيهَا كَذَا. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: رَأَيْتُ فِي كِتَابٍ عِنْدِي عَتِيقٍ لِسُفْيَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 الثَّوْرِيِّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ أَبُو الزِّنَادِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا. وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: أَوْدَعَنِي فُلَانٌ كِتَابًا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُ هَذِهِ، فَوَجَدْتُ فِيهِ: عَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ، وَكَانَ يُحَدِّثُنَا بِأَشْيَاءَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ وَلَا يَقُولُ: أَنَا وَلَا ثَنَا فِي آخَرِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَاكَ عَمَّنْ سَمِعُوا مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَرَفُوا حَدِيثَهُ مَعَ إِيرَادِهِمْ لَهُ بِوَجَدْتُ أَوْ رَأَيْتُ وَنَحْوِهِمَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَرِهَ الرِّوَايَةَ عَنِ الصُّحُفِ غَيْرِ الْمَسْمُوعَةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا، وَسَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فِيهِ عِلْمٌ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَالِمٍ فَلْيَدْعُ بِإِنَاءٍ وَمَاءٍ فَلْيَنْقَعْهُ فِيهِ حَتَّى يَخْتَلِطَ سَوَادُهُ مَعَ بَيَاضِهِ) . وَعَنْ وَكِيعٍ قَالَ: لَا يُنْظَرْ فِي كِتَابٍ لَمْ يَسْمَعْهُ ; لَا يَأْمَنُ أَنْ تَعْلَقَ بِقَلْبِهِ مِنْهُ. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَمَا فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلْ قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا، يَعْنِي بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ النَّوَوِيِّ الْمَاضِي عَلَى مَنْعِ النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَمَّا وَجَدَهُ فِي الْكِتَابِ. قُلْتُ: وَمَا وَقَعَ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنَ الْمَنَاقِبِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِمَّا رَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذَهَبْتُ أَسْأَلُ الزُّهْرِيَّ عَنْ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ فَصَاحَ بِي قَالَ: فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَلَمْ تَحْمِلْهُ عَنْ أَحَدٍ؟ . قَالَ: وَجَدْتُهُ فِي كِتَابٍ كَانَ كَتَبَهُ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. لَا يُخْدَشُ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ نَفْسِهِ مُتَّصِلًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ (وَ) لَكِنِ (الْأَوَّلُ) وَهُوَ مَا إِذَا وَثِقَ بِأَنَّهُ خَطُّهُ (قَدْ شِيبَ وَصْلًا) أَيْ: بِوَصْلِ (مَا) حَيْثُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 قِيلَ فِيهِ: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ. لِمَا فِيهِ مِنَ الِارْتِبَاطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَزِيَادَةِ قُوَّةٍ لِلْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ حَدِيثٌ فِي (مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ) مَثَلًا وَهُوَ بِخَطِّهِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَحْمَدَ كَذَا. أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ أَحْمَدُ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ رُبَّمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَالتَّغْيِيرَ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْخَطِّ. (وَقَدْ تَسَهَّلُوا) ; أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَبَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ مِقْسَمٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، وَوَائِلِ بْنِ دَاوُدَ. (فِيهِ) أَيْ: فِي إِيرَادٍ مَا يَجِدُونَهُ بِخَطِّ الشَّخْصِ فَأَتَوْا (بِ) لَفْظِ (عَنْ) فُلَانٍ أَوْ نَحْوِهَا، مِثْلَ " قَالَ " مَكَانَ " وَجَدْتُ " ; إِذْ أَكْثَرُ رِوَايَةِ بَهْزٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِيمَا قِيلَ مِنْ صَحِيفَةٍ، وَكَذَا قَالَهُ شُعْبَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَصَالِحٌ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي رِوَايَةِ وَائِلٍ عَنْ وَلَدِهِ بَكْرٍ. وَصَرَّحَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، عَمَّنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُحَدِّثُنَا؟ فَقَالَ: صَحِيفَةٌ وَجَدْنَاهَا. وَالْجُمْهُورُ فِي رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ. وَكَذَا قِيلَ: إِنَّ الْحَكَمَ عَنْ مِقْسَمٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، وَالْبَاقِي كِتَابٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَهَذَا دُلْسَةٌ تَقْبُحُ إِنْ أَوْهَمَ) الْوَاجِدُ بِأَنْ كَانَ مُعَاصِرًا لَهُ (أَنَّ نَفْسَهُ) أَيِ: الشَّخْصُ الَّذِي وَجَدَ الْمَرْوِيَّ بِخَطِّهِ (حَدَّثَهُ بِهِ) أَوْ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُوهِمْ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاصِرًا لَهُ (وَبَعْضٌ) جَازَفَ فَـ (أَدَّى) مَا وَجَدَهُ كَذَلِكَ قَائِلًا: ثَنَا وَأَنَا. قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا صَاحِبٌ لَنَا مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ ثِقَةٌ يُقَالُ لَهُ: أَشْرَسُ. قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَكَانَ يُحَدِّثُنَا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا إِسْحَاقُ فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ لَقِيتَهُ قَالَ: لَمْ أَلْقَهُ، مَرَرْتُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَجَدْتُ كِتَابًا لَهُ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْضًا، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَبُو جَعْفَرٍ: اسْتَوْصِ بِإِسْحَاقَ خَيْرًا فَإِنَّهُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَقِيَ الزُّهْرِيَّ، وَحِينَئِذٍ ; فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِالْبَعْضِ، فَقَدْ ظَهَرَ الْخَدْشُ فِيهِ وَلَعَلَّهُ عَنَى غَيْرَهُ، وَمُقْتَضَى جَزْمِ غَيْرِ وَاحِدٍ بِكَوْنِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَدِّهِ، إِنَّمَا وَجَدَ كِتَابَهُ فَحَدَّثَ مِنْهُ، مَعَ تَصْرِيحِهِ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ قَلِيلَةٍ بِالسَّمَاعِ وَالتَّحْدِيثِ، إِدْرَاجُهُ فِي الْبَعْضِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدَ (رَدَّا) ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَجَازَ النَّقْلَ فِيهِ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ عَدَّهُ مَعَدَّ الْمُسْنَدِ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ فَاعِلَهُ كَانَتْ لَهُ مِنْ صَاحِبِ الْخَطِّ إِجَازَةٌ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى إِطْلَاقَهُمَا فِي الْإِجَازَةِ كَمَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ. وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ: إِنَّ الْمُجَوِّزِينَ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. احْتَجُّوا بِأَنَّهُ إِذَا وَجَدَ سَمَاعَهُ بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ بِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: ثَنَا فُلَانٌ، يَعْنِي كَمَا سَيَجِيءُ فِي مَحَلِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ أَقْبَحُ تَدْلِيسٍ قَادِحٍ فِي الرِّوَايَةِ. (وَ) لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ (قِيلَ فِي الْعَمَلِ) بِمَا تَضَمَّنَهُ (إِنَّ الْمُعْظَمَا) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ (لَمْ يَرَهُ) قِيَاسًا عَلَى الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَمْ يَتَّصِلْ، وَكَانَ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا يُفَرِّقُ بِأَنَّهُ هُنَاكَ فِي الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى مِنْهُمُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ فَقَدْ يُفَرِّقُ بِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهَا الِاتِّصَالَ. (وَ) لَكِنْ (بِالْوُجُوبِ) فِي الْعَمَلِ حَيْثُ سَاغَ (جَزَمَا) أَيْ: قَطَعَ (بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ حُصُولِ الثِّقَةِ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ عُرِضَ عَلَى جُمْلَةِ الْمُحَدِّثِينَ لَأَتَوْهُ ; فَإِنَّ مُعْظَمَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً. (وَ) الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ (هُوَ الْأَصْوَبُ) الَّذِي لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، يَعْنِي الَّتِي قَصُرَتِ الْهِمَمُ فِيهَا جِدًّا، وَحَصَلَ التَّوَسُّعُ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى الرِّوَايَةِ لَانْسَدَّ بَابُ الْعَمَلِ بِالْمَنْقُولِ لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، يَعْنِي: فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ وِجَادَاتٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. قُلْتُ: وَقَوْلُ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ: (كُنَّا نَسْمَعُ بِالصَّحِيفَةِ فِيهَا عِلْمٌ فَنَنْتَابُهَا كَمَا يَنْتَابُ الرَّجُلُ الْفَقِيهَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا هَهُنَا آلُ الزُّبَيْرِ وَمَعَهُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ) مُشْعِرٌ بِعَمَلِهِمْ بِمَا فِيهَا كَالْعَمَلِ بِقَوْلِ الْفَقِيهِ. (وَلِـ) لْإِمَامِ الْأَعْظَمِ (ابْنِ إِدْرِيسَ) الشَّافِعِيِّ (الْجَوَازَ نَسَبُوا) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ أَصْحَابِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَاخْتَارَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ. فَاجْتَمَعَ فِي الْعَمَلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْمَنْعُ، الْوُجُوبُ، الْجَوَازُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟) قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: (وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟) وَذَكَرُوا الْأَنْبِيَاءَ، قَالَ: (وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟) قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: (وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟) قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِهَا» ) حَيْثُ قَالَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَدْحُ مَنْ عَمِلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمُجَرَّدِ الْوِجَادَةِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ. قُلْتُ: وَفِي الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ ; فَالْوُجُودُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُسَوِّغُ الْعَمَلَ. (وَ) أَمَّا (إِنْ يَكُنْ) وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مَا تَجِدُ مِنْ مُصَنَّفٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ عَاصَرْتَهُ أَوَّلًا كَمَا بَيَّنَ أَوَّلًا (بِغَيْرِ خَطِّهِ) أَيِ: الْمُصَنِّفِ، مَعَ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ بِأَنْ قَابَلَهَا الْمُصَنِّفُ أَوْ ثِقَةٌ غَيْرُهُ بِالْأَصْلِ أَوْ بِفَرْعٍ مُقَابَلٍ كَمَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ. (فَقُلْ: قَالَ) فُلَانٌ كَذَا (وَنَحْوَهَا) مِنْ أَلْفَاظِ الْجَزْمِ، كَذَكَرَ فُلَانٌ، أَوِ بِخَطِّ مُصَنِّفِهِ مَعَ الثِّقَةِ بِأَنَّهُ خَطُّهُ فَقُلْ أَيْضًا: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ. وَنَحْوَهَا كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَاحْكِ كَلَامَهُ، (وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوقُ) فَـ (قُلْ: بَلَغَنِي) عَنْ فُلَانٍ أَنَّهُ ذَكَرَ كَذَا، أَوْ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي الْجَزْمَ. (وَ) لَكِنِ (الْجَزْمُ) فِي الْمَحْكِيِّ لِمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (يُرْجَى حَلُّهُ لِلْفَطِنِ) الْعَالِمِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مَوَاضِعُ الْأَسْقَاطِ وَالسَّقْطِ وَمَا أُحِيلَ عَنْ جِهَتِهِ ; أَيْ: بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِلَى هَذَا - فِيمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 أَحْسَبُ - اسْتَرْوَحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنَ كُتُبِ النَّاسِ مَعَ تَسَامُحِ كَثِيرٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْجَازِمِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَلَا تَثَبُّتٍ، فَيُطَالِعُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا مَنْسُوبًا إِلَى مُصَنِّفٍ مُعَيَّنٍ وَيَنْقُلُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثِقَ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ قَائِلًا: قَالَ فُلَانٌ كَذَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يُوجَدُ بِحَوَاشِي الْكُتُبِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالتَّقْيِيدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ ; فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهَا وَعَزْوِهَا إِلَى مَنْ هِيَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا إِلَّا لِعَالِمٍ مُتْقِنٍ، وَرُبَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَوَاشِي بِخَطِّ شَخْصٍ وَلَيْسَتْ لَهُ، أَوْ بَعْضُهَا لَهُ وَبَعْضُهَا لِغَيْرِهِ فَيَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَى نَاقِلِهِ بِحَيْثُ يَعْزُو الْكُلَّ لِوَاحِدٍ. [كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ] [حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا] كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ. (559) وَاخْتَلَفَ الصِّحَابُ وَالْأَتْبَاعُ ... فِي كِتْبَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعُ (560) عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ بِالْجَزْمِ ... لِقَوْلِهِ اكْتُبُوا، وَكَتَبَ السَّهْمِي (كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ) بِالشَّكْلِ وَنَحْوِهِ وَمَا أُلْحِقَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَطِّ الدَّقِيقِ وَالرَّمْزِ وَالدَّارَةِ، مِمَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الضَّبْطِ وَمِنْ آدَابِ الْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا كَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمَهُ عَلَى الضَّبْطِ. [حُكْمُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَأَدِلَّتُهَا] : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (وَاخْتَلَفَ الصِّحَابُ) ; أَيِ: الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا - جَمْعُ صَاحِبٍ كَجِيَاعٍ وَجَائِعٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْكَسْرَ فِي صِحَابٍ وَالْفَتْحَ فِي صَحَابَةٍ أَكْثَرُ، (وَ) كَذَا (الْأَتْبَاعُ) لِلصَّحَابَةِ (فِي كِتْبَةِ) بِكَسْرِ الْكَافِ ; أَيْ: كِتَابَةِ (الْحَدِيثِ) وَالْعِلْمِ عَمَلًا وَتَرْكًا. فَكَرِهَهَا لِلتَّحْرِيمِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ النَّفِيسِ - غَيْرُ وَاحِدٍ ; فَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، بَلْ أَمَرُوا بِحِفْظِهِ عَنْهُمْ كَمَا أَخَذُوهُ حِفْظًا مُتَمَسِّكِينَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ، مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتْبِ الْحَدِيثِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَأَجَازَهَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وَعَلِيٌّ وَابْنُهُ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَتَادَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بَلْ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 كَمَا صَحَّ: ( «قَيِّدُوا الْعِلْمَ. بِالْكِتَابِ» ) بَلْ رُوِيَ رَفْعُهُ وَلَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَنَسٌ: (كَتْبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ) . (وَ) لَكِنِ (الْإِجْمَاعُ) مُنْعَقِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ (عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ) ، أَيْ: بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا زَادَهُ الذَّهَبِيُّ (بِالْجَزْمِ) فِي حِكَايَتِهِ بِدُونِ تَرَدُّدٍ بِحَيْثِ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ، كَمَا أَجْمَعَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى جَوَازِهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَدِلَّةٍ مُنْتَشِرَةٍ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى فَضْلِ تَدْوِينِ الْعِلْمِ وَتَقْيِيدِهِ. كَـ (قَوْلِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَصَحُّهَا: ( «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» ) يَعْنِي بِهَاءٍ مُنَوَّنَةٍ فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ; أَيِ: الْخُطْبَةُ الَّتِي سَمِعَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَكِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: ( «إِيتُونِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 بِكَتِفٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» ) . (وَ) لِـ (كَتْبِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (السَّهْمِيِّ) نِسْبَةً لِسَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ، كَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ» ) . كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُهُ مِنْكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسَمِّي صَحِيفَتَهُ تِلْكَ الصَّادِقَةَ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ احْتِرَازًا عَنْ صَحِيفَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ رُوِيَ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِمَّا ضَعَّفَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ الْحِفْظِ، فَقَالَ لَهُ: (اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ» ) . وَرُوِيَ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: ( «هَذِهِ أَحَادِيثُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبْتُهَا وَعَرَضْتُهَا» ) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَأَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةٌ. وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ (مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) . وَلِقَوْلِ قَتَادَةَ إِذْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ؟ وَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَنْبَأَكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ! وَقَرَأَ: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَلِيحِ الْهُذَلِيُّ الْبَصْرِيُّ: يَعِيبُونَ عَلَيْنَا أَنْ نَكْتُبَ الْعِلْمَ أَوْ نُدَوِّنَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه: 52] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ فَارِسٍ فِي مَآخِذِ الْعِلْمِ: فَاكْتُبُوهُ حَيْثُ قَالَ: فَجَعَلَ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَأَجَلَهُ وَكَمِّيَّتَهُ مِنَ الْقِسْطِ عِنْدَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِيامًا لِلشَّهَادَةِ وَنَفْيًا لِلِارْتِيَابِ لِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] ، [الْبَقَرَةَ: 282] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 قُلْتُ: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] . قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَعَلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] فَقَدْ فَسَّرَهُمَا الْحَسَنُ بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ: ( «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيِ: الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِلْوِجَادَةِ: ( «يَجِيءُ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا» ) عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ مِنْ إِخْبَارِهِ عَمَّا سَيَقَعُ، وَهُوَ تَدْوِينُ الْقُرْآنِ وَكَتْبُهُ فِي صُحُفِهِ ; يَعْنِي: وَكِتَابَةُ الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهَا قِصَرُ الْهِمَمِ وَنَقْصُ الْحِفْظِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّمَنِ الْأَوَّلِ ; لِكَوْنِ الْعَرَبِ كَانُوا مَطْبُوعِينَ عَلَى الْحِفْظِ مَخْصُوصِينَ بِهِ، بِحَيْثُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنِّي لِأَمُرُّ بِالنَّقِيعِ فَأَسُدُّ أُذُنِي مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَنَا، فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ. وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ نَحْوَهُ، وَحَفِظَ ابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَصِيدَةَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبَكِّرُ. فِي سَمْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا قِيلَ، بَلْ بَلَغَنَا عَنِ الْبُلْقِينِيِّ أَنَّهُ حَفِظَ قَصِيدَةً مِنْ مَرَّةٍ، وَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا، فَخُشِيَ مِنْ عَدَمِ تَقْيِيدِهِ انْدِرَاسُهُ وَضَيَاعُهُ فَدُوِّنَ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ صَلَاحٍ: وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ فِي الْكُتُبِ لَدَرَسَ فِي الْأَعْصُرِ الْأَخِيرَةَ، يَعْنِي: كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (انْظُرُوا مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبُوهُ فَإِنِّي خَشِيتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ) . وَقَالَ عِيَاضٌ: " وَالْحَالُ الْيَوْمَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْكِتَابَةِ لِانْتِشَارِ الطُّرُقِ وَطُولِ الْأَسَانِيدِ وَقِلَّةِ الْحِفْظِ وَكَلَالِ الْأَفْهَامِ ". وَقَالَ الْخَطِيبُ: قَدْ صَارَ عِلْمُ الْكَاتِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَثْبَتُ مِنْ عِلْمِ الْحَافِظِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ يَنِدُّ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ، وَلَكِنَّ الْكَتْبَ لَهُ حُمَاةٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وَالْأَقْلَامَ عَلَيْهِ رُعَاةٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: لَوْلَا الْكِتَابَةُ أَيُّ شَيْءٍ كُنَّا؟ بَلْ قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ: كُلُّ مَنْ لَا يَكْتُبُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: لَوْلَا الْكِتَابُ مَا حَفِظْنَا. لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ طُرُقًا ; أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِوَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ، وَالْإِذْنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَا خَصَّ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: النَّهْيُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ مِنَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ يُضَاهَى بِهِ. يَعْنِي: فَحَيْثُ أُمِنَ الْمَحْذُورُ بِكَثْرَةِ حُفَّاظِهِ وَالْمُعْتَنِينَ بِهِ وَقُوَّةِ مَلَكَةِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ لِتَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ. أَوْ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَأْوِيلَهُ فَرُبَّمَا كَتَبُوهُ مَعَهُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَعَلَّ مِنْ ذَلِكَ مَا قُرِئَ شَاذًّا فِي قَوْلِهِ: (مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) وَالْإِذْنُ فِي تَفْرِيقِهِمَا. أَوِ النَّهْيُ مُتَقَدِّمٌ وَالْإِذْنُ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ ابْنُ شَاهِينٍ، فَإِنَّ الْإِذْنَ لِأَبِي شَاهٍ كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَاسْتُظْهِرَ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَكْتُبُونَ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَقْرَبُهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا. وَقِيلَ: النَّهْيُ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحِفْظِ. وَالْإِذْنُ لِغَيْرِهِ، وَقِصَّةُ أَبِي شَاهٍ حَيْثُ كَانَ الْإِذْنُ لَهُ لَمَّا سَأَلَ فِيهَا مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: النَّهْيُ خَاصٌّ بِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الْحِفْظِ، وَالْإِذْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 لِمَنْ أُمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سَيُرِينَ أَنِّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالْكِتَابَةِ بَأْسًا، فَإِذَا حَفِظَ مَحَاهُ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِمَا. وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَكْتُبُونَ، إِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْهُمُ الشَّيْءَ فَإِنَّمَا كَانَ لِيَحْفَظَهُ فَإِذَا حَفِظَهُ مَحَاهُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ صَلَاحٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا تَتَلَاقَاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي حَدِيثٍ أَبِي سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ أَنَّ الصَّوَابَ وَقْفُهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بَلْ قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَا يَبْعُدُ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ خَشِيَ النِّسْيَانَ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ الْعِلْمِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ: إِنَّهُ تَعَيَّنَ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا وَتَحَتَّمَ. قَالَ غَيْرُهُمَا: وَلَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَصِيرَ لَهُ تَصَوُّرٌ وَلَا يَحْفَظَ شَيْئًا، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمْطَرُ ... مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ وَقَالَ آخَرُ: اسْتَوْدَعَ الْعِلْمُ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ ... وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ وَلِذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عَالِمًا فَاكْسَرِ الْقَلَمَ. وَأَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الْحَدِيثَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ، ثُمَّ كَثُرَ التَّدْوِينُ ثُمَّ التَّصْنِيفُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ قَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَّخِذَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ عِبَادَةً، سَوَاءٌ تَوَقَّعَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَمْ لَا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى حِفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا، وَذَلِكَ لِلَذَاذَةِ نَظْمِهِ وَإِيجَازِهِ، وَحُسْنِ تَأْلِيفِهِ وَإِعْجَازِهِ، وَكَمَالِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 بَلَاغَاتِهِ، وَحُسْنِ تَنَاسُبِ فَوَاصِلِهِ وَغَايَاتِهِ، وَزِيَادَةِ التَّبَرُّكِ بِهِ، وَطَلَبِ تَحْصِيلِ الْأُجُورِ الْعَظِيمَةِ بِسَبَبِهِ. [حُكْمُ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ] (561) وَيَنْبَغِي إِعْجَامُ مَا يُسْتَعْجَمْ ... وَشَكْلُ مَا يُشْكِلُ لَا مَا يُفْهَمْ (562) وَقِيلَ كُلُّهُ لِذِي ابْتِدَاءِ ... وَأَكَّدُوا مُلْتَبِسَ الْأَسْمَاءِ (563) وَلْيَكُ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْهَامِشِ مَعْ ... تَقْطِيعِهِ الْحُرُوفَ فَهْوَ أَنْفَعْ [حُكْمُ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ] : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (وَيَنْبَغِي) اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا، بَلْ عِبَارَةُ ابْنُ خَلَّادٍ وَعِيَاضٍ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، لَكِنَّ فِي حَقِّ مَنْ حَفِظَ الْعِلْمَ بِالْخَطِّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، لَا سِيَّمَا الْحَدِيثُ وَمُتَعَلَّقَاتُهُ مَعَ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِضَبْطِ مَا يُحَصِّلُهُ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ غَيْرِهِ مِنْ مَرْوِيِّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ ضَبْطًا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِالْتِبَاسُ. (إِعْجَامُ) أَيْ: نَقْطُ (مَا يُسْتَعْجَمُ) بِإِغْفَالِ نَقْطِهِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ فِيهِ عُجْمَةٌ بِأَنْ يُمَيِّزَ الْخَاءَ الْمُعْجَمَةَ مِنَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالذَّالَ الْمُعْجَمَةَ مِنَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، كَحَدِيثِ: ( «عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» ) فَيُعْجِمُ كُلًّا مِنَ الْخَاءِ وَالذَّالِ بِالنَّقْطِ وَكَالْنَقِيعِ وَالْبَقِيعِ، فَيُمَيِّزُ مَا يَكُونُ بِالنُّونِ مِمَّا هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ. وَكَذَا فِي الْأَسْمَاءِ، يُبَيِّنُ خَبَّابًا مِنْ جَنَابٍ وَحُبَابٍ، وَأَبَا الْجَوْزَاءِ مِنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَنِ بِذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ اتِّكَالًا عَلَى حِفْظِهِمْ، كَإِيرَادِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 الْمَوْضُوعَاتِ بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِبَيَانِهَا، فَقَدْ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ) لَهُ: الْخُطُوطُ الْمُعْجَمَةُ كَالْبُرُودِ الْمُعَلَّمَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: رُبَّ عِلْمٍ لَمْ تُعْجَمْ فُصُولُهُ اسْتُعْجِمَ مَحْصُولُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ مَعْبَدٍ: نُورُ الْكِتَابِ الْعَجْمُ. وَكَذَا يُرْوَى مِنْ قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِعْجَامُ الْمَكْتُوبِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْجَامِهِ. بَلْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَوْسٍ الْغَسَّانِيِّ كَاتِبِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبْتُ بَيْنَ يَدَيْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ لِي: يَا عُبَيْدُ، ارْقُشْ كِتَابَكَ، فَإِنِّي كَتَبْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: ( «يَا مُعَاوِيَةُ، ارْقُشْ كِتَابَكَ» ) قُلْتُ: وَمَا رَقْشُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِعْطَاءُ كُلِّ حَرْفٍ مَا يَنُوبُهُ مِنَ النَّقْطِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 (وَ) كَذَا يَنْبَغِي (شَكْلُ مَا يُشْكِلُ) إِعْرَابُهُ مِنَ الْمُتُونِ وَالْأَسْمَاءِ فِي الْكِتَابِ، فَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِشْكَالِهِ. (لَا مَا يُفْهَمُ) بِدُونِ شَكْلٍ وَلَا نَقْطٍ. فَإِنَّهُ تَشَاغُلٌ بِمَا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ، وَفِيهِ عَنَاءٌ، بَلْ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُشْكِلُ الْحَرْفَ إِذَا كَانَ شَدِيدًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا. وَكَانَ عَفَّانُ وَبَهْزٌ وَحَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ أَصْحَابُ الشَّكْلِ وَالتَّقْيِيدِ، وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ (سِمَاتِ الْخَطِّ وَرُقُومِهِ) أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ الْإِعْجَامَ وَالْإِعْرَابَ إِلَّا فِي الْمُلْبِسِ، وَرُبَّمَا يَحْصُلُ لِلْكِتَابِ إِظْلَامٌ. (وَقِيلَ) بَلْ يَنْبَغِي الشَّكْلُ وَالْإِعْجَامُ لِلْمَكْتُوبِ (كُلُّهُ) أَشْكَلَ أَمْ لَا. وَصَوَّبَهُ عِيَاضٌ (لِـ) أَجْلِ (ذِي ابْتِدَاءٍ) فِي الصَّنْعَةِ وَالْعِلْمِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْمُؤْتَلِفَ وَالْمُخْتَلِفَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمَيِّزُ الْمُشْكِلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا صَوَابَ وَجْهِ الْإِعْرَابِ لِلْكَلِمَةِ مِنْ خَطِئِهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ وَاضِحًا عِنْدَ قَوْمٍ مُشْكِلًا عِنْدَ آخَرِينَ، كَالْعَجَمِ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ، وَالْقَصْدُ عُمُومُ الِانْتِفَاعِ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ هُوَ لِبَرَاعَتِهِ الْمُشْكِلَ وَاضِحًا، بَلْ وَقَدْ يَخْفَى عَنْهُ الصَّوَابُ بَعْدُ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَثِيرًا مَا يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ الْوَاثِقُ بِذِهْنِهِ وَتَيَقُّظِهِ، وَذَلِكَ وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنِّسْيَانِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ - وَكَانَ يُكْثِرُ التَّجْنِيسَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 فِي شِعْرِهِ -: يَا أَفَضَلَ النَّاسِ إِفْضَالًا عَلَى النَّاسِ ... وَأَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانًا إِلَى النَّاسِ نَسِيتُ وَعْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ ... فَاعْذُرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوُّلُ النَّاسِ وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسٍ. وَمِمَّنْ كَانَ كَثِيرَ الْعَجْمِ وَالنَّقْطِ لِكِتَابِهِ أَبُو عَوَانَةَ الْوَضَّاحُ أَحَدُ الْحُفَّاظِ، فَقُدِّمَ كِتَابُهُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهِ لِشِدَّةِ إِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ لَهُ. وَرُبَّمَا - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ - يَقَعُ النِّزَاعُ فِي حُكْمٍ مُسْتَنْبَطٍ مِنْ حَدِيثٍ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلَى ضَبْطِ الْإِعْرَابِ فِيهِ، فَيُسْأَلُ الرَّاوِي: كَيْفَ ضَبْطُ هَذَا اللَّفْظِ؟ فَيَصِيرُ مُتَحَيِّرًا لِكَوْنِهِ أَهْمَلَهُ، أَوْ يَجْسُرُ عَلَى شَيْءٍ بِدُونِ بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ كَقَوْلِهِ: ( «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» ) فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ يُرَجِّحُونَ النَّصْبَ لِاشْتِرَاطِهِمُ التَّذْكِيَةَ، وَالْجُمْهُورُ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا يُرَجِّحُونَ الرَّفْعَ لِإِسْقَاطِهِمْ ذَكَاتَهُ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الْمُحَقِّقِينَ وَجَّهَ النَّصْبَ أَيْضًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: ( «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ) فَالْجَمَاعَةُ يَرْوُونَهُ بِرَفْعِ صَدَقَةٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ، وَالْإِمَامِيَّةُ يَرْوُونَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ مَا تَرَكُوهُ صَدَقَةً دُونَ غَيْرِهِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ وَجَّهَ النَّصْبَ بِمَا يُوَافِقُ الْجَمَاعَةَ فَقَالَ: التَّقْدِيرُ: مَا تَرَكْنَا مَبْذُولٌ صَدَقَةً. فَحَذَفَ الْخَبَرَ وَبَقِيَ الْحَالُ مِنْهُ. وَنَظِيرُهُ: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] بِالنَّصْبِ، وَقَوْلُهُ: ( «هُوَ لَكَ عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ» ) فَالْجَمَاعَةُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ بَيْنَ " لَكَ " وَ " عَبْدٍ " وَبَعْضُ الْمُخَالِفِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حَذْفِهِ بَيْنَ " عَبْدٍ " وَ " ابْنٍ " مَعَ تَنْوِينِ " عَبْدٍ ". وَنَحْوُهُ فِي السَّنَدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَلِكَوْنِ سَلُولَ أُمَّهُ ; إِنْ لَمْ يُثْبِتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 الْأَلِفَ فِي ابْنِ سَلُولَ وَيُنَوِّنْ أُبَيًّا يُظَنُّ أَنَّهُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ، كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِيمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. وَرَحِمَ اللَّهُ كُلًّا مِنَ السِّلَفِيِّ وَالْمِزِّيِّ فَقَدْ كَانَا مَعَ جَلَالَتِهِمَا يَضْبِطَانِ الْأَشْيَاءَ الْوَاضِحَةَ، حَتَّى إِنَّ السِّلَفِيَّ تَكَرَّرَ لَهُ نَقْطُ الْخَاءِ مِنْ " أَنَا "، وَالْمِزِّيَّ قَدْ يُسَكِّنُ النُّونَ مِنْ " عَنْ "، وَلَكِنَّ هَذَا تَكَلُّفٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي ضَبْطِ الْمُتُونِ ; لِأَنَّ تَغْيِيرِهَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُقَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ أَوْ يُثْبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ. (وَ) لَكِنْ (أَكَّدُوا) أَيِ: الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (مُلْتَبِسَ) ; أَيْ: ضَبْطَ مُلْتَبِسِ (الْأَسْمَاءِ) لَا سِيَّمَا الْأَسْمَاءُ الْأَعْجَمِيَّةُ وَالْقَبَائِلُ الْغَرِيبَةُ لِقِلَّةِ الْمُتَمَيِّزِينَ فِيهَا. بِخِلَافِ الْإِعْرَابِ، وَلِأَنَّهَا - كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّجِيرَمِيُّ: أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالضَّبْطِ. قَالَ: لِأَنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ وَلَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَمَا لَعَلَّهُ يُقَالُ فِي رَدِّ هَذَا التَّعْلِيلِ مِنْ كَوْنِ الرَّاوِي عَنْ ذَاكَ الْمُلْتَبِسِ أَوْ شَيْخِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ لِلْعَالِمِ بِهِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ. وَمِمَّنْ كَانَ يَحُضُّ عَلَى الضَّبْطِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَعَفَّانُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا عِيَاضٌ. (وَلْيَكُ) بِسُكُونٍ اللَّامِ كَمَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِيهَا مِثْلَ: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] ضَبْطُهُ لِلْمُشْكِلِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ (فِي الْأَصْلِ وَ) كَذَا (فِي الْهَامِشِ) مُقَابِلَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 حَسْبَمَا جَرَى عَلَيْهِ رَسْمُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ ; لِأَنَّ جَمْعَهَا أَبْلَغُ فِي الْإِبَانَةِ وَأَبْعَدُ مِنَ الِالْتِبَاسِ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَوَّلِهِمَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا دَاخَلَهُ نَقْطٌ أَوْ شَكْلٌ لِغَيْرِهِ مِمَّا فَوْقَهُ أَوْ تَحْتَهُ، فَيَحْصُلُ الِالْتِبَاسِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ دِقَّةِ الْخَطِّ وَضِيقِ الْأَسْطُرِ، قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ. وَيَكُونُ مَا بِالْهَامِشِ مِنْ ذَلِكَ (مَعْ تَقْطِيعِهِ الْحُرُوفَ) مِنَ الْمُشْكِلِ (فَهْوَ أَنْفَعْ) وَأَحْسَنُ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ شَكْلَ الْحَرْفِ بِكِتَابَتِهِ مُفْرَدًا فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ كَالنُّونِ وَالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كُتِبَتْ مُجْتَمِعَةً وَالْحَرْفُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِهَا أَوْ وَسَطِهَا، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ فَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ. نَعَمْ نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ عِيَاضٍ، وَهُوَ إِمَّا سَهْوٌ أَوْ رَآهُ فِي غَيْرِ " الْإِلْمَاعِ " وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ عَنِ الْمُتْقِنِينَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَالَ فِي " الِاقْتِرَاحِ ": وَمِنْ عَادَةِ الْمُتْقِنِينَ أَنْ يُبَالِغُوا فِي إِيضَاحِ الْمُشْكِلِ فَيُفَرِّقُوا حُرُوفَ الْكَلِمَةِ فِي الْحَاشِيَةِ وَيَضْبِطُوهَا حَرْفًا حَرْفًا فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ إِشْكَالٌ. [فَائِدَةٌ] : وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّيَقُّظُ لِمَا يَقَعُ مِنَ الضَّبْطِ نَقْطًا وَشَكْلًا فِي خَطِّ الْأَئِمَّةِ بِغَيْرِ خُطُوطِهِمْ وَلَوْ كَانَ صَوَابًا، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَرُبَّمَا لَا يُمَيِّزُهُ الْحُذَّاقُ، وَيَا فَضِيحَةَ مَنِ اعْتَمَدَ صَنِيعَهُ بِقَصْدِ التَّخْطِئَةِ لِلْأَئِمَّةِ. الثَّانِي: قَدِ اسْتَثْنَى ابْنُ النَّفِيسِ مِمَّا تَقَدَّمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَقَالَ: إِنَّ الْأَوْلَى تَجْرِيدُهُ عَنِ الْإِعْجَامِ وَالْإِعْرَابِ ; لِأَنَّ هَذِهِ جَمِيعَهَا زَوَائِدُ عَلَى الْمَتْنِ. وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي كَوْنِ دِقَّةِ الْخَطِّ قَدْ تَقْتَضِي الِالْتِبَاسَ كَانَ إِيضَاحُهُ مِمَّا يَتِمُّ بِهِ الضَّبْطُ. [حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ] (564) وَيُكْرَهُ الْخَطُّ الدَّقِيقُ إِلَّا ... لِضِيقِ رَقٍّ أَوْ لِرَحَّالٍ فَلَا (565) وَشَرُّهُ التَّعْلِيقُ وَالْمَشْقُ كَمَا ... شَرُّ الْقِرَاءَةِ إِذَا مَا هَذْرَمَا [حُكْمُ دِقَّةِ الْخَطِّ] : (وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (الْخَطُّ الدَّقِيقُ) أَوِ الرَّقِيقُ، لَا سِيَّمَا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لِمَنْ يَقَعُ لَهُ الْكِتَابُ مِمَّنْ يَكُونُ ضَعِيفَ الْبَصَرِ أَوْ ضَعِيفَ الِاسْتِخْرَاجِ مُمْتَنِعٌ أَوْ بَعِيدٌ، بَلْ رُبَّمَا يَعِيشُ الْكَاتِبُ نَفْسُهُ حَتَّى يَضْعُفَ بَصَرُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّ الَّذِي يَكْتُبُ الْخَطَّ الدَّقِيقَ رُبَّمَا يَكُونُ قَصِيرَ الْأَمَلِ لَا يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا. وَأَقُولُ: بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ طَوِيلَ الْأَمَلِ حَيْثُ تَرَجَّى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنَّهُ وَلَوْ عَمَّرَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْخَطِّ الدَّقِيقِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمُ بِالْكَرَاهَةِ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْحُكَمَاءِ فِي كَوْنِهِ رِيَاضَةً لِلْبَصَرِ وَتَدْمِينًا لَهُ كَمَا يُرَاضُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بِمَا يَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَدْمَنَ عَلَى سِوَاهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ مُعَانَاتُهُ، كَمَنْ يَتْرُكُ الْمَشْيَ أَوْ لَا يَشَمُّ إِلَّا الرَّوَائِحَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَى الْمَشْيَ وَشَمَّ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِخِلَافِ مَنِ اعْتَادَهُ أَحْيَانًا. وَلَا فَعَلَ جَمَاعَةٌ لِذَلِكَ حَتَّى بَعْدَ تَقَدُّمِهِمْ فِي السِّنِّ، مِنْهُمُ الْحَافِظَانِ الشَّمْسُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ، وَمِنْهُمْ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الْمُتَقَدِّمِينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ كَتَبَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " وَ " مُسْلِمٍ " فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ وَبِيعَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فَالْمَشَقَّةُ بِذَلِكَ هِيَ الْأَغْلَبُ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ لِابْنِ عَمِّهِ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَرَآهُ يَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا: لَا تَفْعَلْ ; فَإِنَّهُ يَخُونُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ "، وَسَاقَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ قَالَ: كُنَّا نَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْكُوفَةِ فَيَمُرُّ بِنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَيَقُومُ عَلَيْنَا فَيَقُولُ: أَجْلِ قَلَمَكَ. قَالَ: فَقَطَطْتُ مِنْهُ ثُمَّ كَتَبْتُ فَقَالَ: هَكَذَا نَوِّرُوا مَا نَوَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (إِلَّا) أَنْ تَكُونَ دِقَّةُ الْخَطِّ (لِـ) عُذْرٍ كَـ (ضِيقِ رَقٍّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْقِرْطَاسُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْكَاغِدُ أَيْضًا. بِأَنْ يَكُونَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ ثَمَنَهُ أَوْ يَجِدُ الثَّمَنَ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ الرَّقَّ، (أَوْ لِرَحَّالٍ) مُسَافِرٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ يُرِيدُ حَمْلَ كُتُبِهِ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِمَّا لِفَقْرِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَضْبَطَ، أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْحَمْلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ: كُنْتُ أَمْشِي بِمِصْرَ وَفِي كُمِّي مِائَةُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ أَلْفُ حَدِيثٍ. (فَلَا) كَرَاهَةَ حَيْثُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 اتَّصَفَ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ، فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ، كَأَنْ يَكُونَ فَقِيرًا رَحَّالًا، وَأَكْثَرُ الرَّحَّالِينَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ يَجْتَمِعُ فِي حَالِهِ الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَقُومُ بِهِمَا الْعُذْرُ فِي تَدْقِيقِ الْخَطِّ، يَعْنِي كَمَا وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُوزْبَةَ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا حَيْثُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: لِقِلَّةِ الْوَرَقِ وَالْوَرِقِ، وَخِفَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُنُقِ. وَلَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى خَطًّا دَقِيقًا قَالَ: هَذَا خَطُّ مَنْ لَا يُوقِنَ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ دَاعِيَةَ الْحِرْصِ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَرَقِ أَلْجَأَتْهُ لِذَلِكَ ; إِذْ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَخْلَفٌ لَوَسَّعَ. [كَرَاهَةُ تَعْلِيقِ الْخَطِّ وَالْمَشْقِ] : (وَشَرُّهُ) أَيِ: الْخَطِّ (التَّعْلِيقُ) وَهُوَ فِيمَا قِيلَ: خَلْطُ الْحُرُوفِ الَّتِي يَنْبَغِي تَفْرِقَتُهَا، وَإِذْهَابُ أَسْنَانِ مَا يَنْبَغِي إِقَامَةُ أَسْنَانِهِ، وَطَمْسُ مَا يَنْبَغِي إِظْهَارُ بَيَاضِهِ. (وَ) كَذَا (الْمَشْقُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ، وَهُوَ خِفَّةُ الْيَدِ وَإِرْسَالُهَا مَعَ بَعْثَرَةِ الْحُرُوفِ وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْأَسْنَانِ، كَمَا كَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَرَاهُ يَكْتُبُ كَذَلِكَ: تَكْتُبُونَ تَمْشُقُونَ تُضَيِّعُونَ الْكَاغِدَ. فَيَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ إِقَامَةِ الْأَسْنَانِ، وَيَخْتَصُّ التَّعْلِيقُ بِخَلْطِ الْحُرُوفِ وَضَمِّهَا، وَالْمَشْقُ بِبَعْثَرَتِهَا وَإِيضَاحِهَا بِدُونِ الْقَانُونِ الْمَأْلُوفِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ: مَفْسَدَةٌ لِخَطِّ الْمُبْتَدِي، وَدَالٌّ عَلَى تَهَاوُنِ الْمُنْتَهِي بِمَا يَكْتُبُ. غَيْرَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْمَشْقَ وَالتَّعْلِيقَ وَإِغْفَالَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ فِي الْمُكَاتَبَاتِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ": وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ فِيهَا، فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 إِدْلَالِهِمْ بِالصَّنْعَةِ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى التَّلْوِيحِ، وَيَرَوْنَ الْحَاجَةَ إِلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الْإِبَانَةِ تَقْصِيرًا. قَالَ: وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ مُسْتَقْبَحًا (كَمَا) أَنَّهُ (شَرُّ الْقِرَاءَةِ إِذَا مَا) ; أَيْ: إِذَا (هَذْرَمَا) بِالْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: أَسْرَعَ بِحَيْثُ يَخْفَى السَّمَاعُ. فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ دُرُسْتُوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " شَرُّ الْكِتَابَةِ الْمَشْقُ، وَشَرُّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ ". وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " الْخَطُّ عَلَامَةٌ، فَكُلَّمَا كَانَ أَبْيَنَ كَانَ أَحْسَنَ " وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وَزْنُ الْخَطِّ وَزْنُ الْقِرَاءَةِ، أَجْوَدُ الْقِرَاءَةِ أَبْيَنُهَا، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ. [تَحْقِيقُ الْخَطِّ وَتَحْسِينُهُ] : وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْقِيقُ الْخَطِّ، وَهُوَ أَنْ يُمَيِّزَ كُلَّ حَرْفٍ بِصُورَتِهِ الْمُمَيِّزَةِ لَهُ بِحَيْثُ لَا تَشْتَبِهُ الْعَيْنُ الْمَوْصُولَةُ بِالْفَاءِ أَوِ الْقَافِ، وَالْمَفْصُولَةُ بِالْحَاءِ أَوِ الْخَاءِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَاتِبِهِ: " أَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ، وَأَسْمِنْهَا، وَأَيْمِنْ قِطَّتَكَ وَحَرِّفْهَا، وَأَسْمِعْنِي طَنِينَ النُّونِ، وَخَرِيرَ الْخَاءِ، أَسْمِنِ الصَّادَ، وَعَرِّجِ الْعَيْنَ، وَاشْقُقِ الْكَافَ، وَعَظِّمِ الْفَاءَ، وَرَتِّلِ اللَّامَ، وَاسْلُسِ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالثَّاءَ، وَأَقِمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الْوَاوَ عَلَى ذَنَبِهَا وَاجْعَلْ قَلَمَكَ خَلْفَ أُذُنِكَ فَهُوَ أَجْوَدُ لَكَ " رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَصْرِفَ زَمَنَهُ فِي مَزِيدِ تَحْسِينِهِ وَمَلَاحَةِ نَظْمِهِ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِدُونِهِ، بَلِ الزَّمَنُ الَّذِي يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ يَشْتَغِلُ فِيهِ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ، وَلَيْسَتْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى الِاشْتِبَاهِ بِقَادِحَةٍ، إِنَّمَا الْقَادِحُ الْجَهْلُ. وَلِذَا بَلَغَنَا عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الرَّبَّانِيِّ الشِّهَابِ الْحِنَّاوِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَآهُ يُلَازِمُ بَعْضَ الْكِتَابِ فِي تَعَلُّمِ صِنَاعَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَرَاكَ حَسَنَ الْفَهْمِ، فَأَقْبِلْ عَلَى الْعِلْمِ وَدَعْ عَنْكَ هَذَا، فَإِنَّ غَايَتَكَ فِيهِ أَنْ تَصِلَ لِشَيْخِكَ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - مُعَلِّمُ كِتَابٍ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَأَوْشَكَ إِنِ اشْتَغَلْتَ بِالْعِلْمِ تَسُودُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. قَالَ: فَنَفَعَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ مَعَ بَرَاعَتِهِ فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا. وَنَحْوُهُ مَنْ رَأَى الْبَدْرَ الْبَشْتَكِيَّ عِنْدَ بَعْضِ الْكُتَّابِ، وَرَأَى قُوَّةَ عَصَبِهِ وَسُرْعَةَ كِتَابَتِهِ فَسَأَلَهُ: كَمْ تَكْتُبُ مِنْ هَذَا كُلَّ يَوْمٍ؟ فَذَكَرَ لَهُ عِدَّةَ كَرَارِيسَ، فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ هَذَا، وَاتْرُكْ عَنْكَ الِاشْتِغَالَ بِقَانُونِ الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ وَلَوِ ارْتَقَيْتَ لَا تَنْهَضُ فِي الْكِتَابَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِمَا تُحَصِّلُهُ مِنْ كِتَابَتِكَ الْآنَ. فَأَعْرَضَ عَنِ التَّعَلُّمِ فَفَاقَ فِي سُرْعَةِ الْكِتَابَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَمَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ مَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ، مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْعَرَبُ: حُسْنُ الْخَطِّ إِحْدَى الْفَصَاحَتَيْنِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: اعْذُرْ أَخَاكَ عَلَى رَدَاءَةِ خَطِّهِ ... وَاغْفِرْ رَدَاءَتَهُ لِجَوْدَةِ ضَبْطِهِ وَالْخَطُّ لَيْسَ يُرَادُ مِنْ تَعْظِيمِهِ ... وَنِظَامِهِ إِلَّا إِقَامَةُ سَمْطِهِ فَإِذَا أَبَانَ عَنِ الْمَعَانِي خَطُّهُ ... كَانَتْ مَلَاحَتَهُ زِيَادَةُ شَرْطِهِ وَلْيَتَجَنَّبْهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، لِمَا ثَبَتَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ. وَالْكِتَابَةُ بِالْحِبْرِ أَوْلَى مِنَ الْمِدَادِ، بَلْ وَمِنْ مَاءِ الذَّهَبِ وَمِنَ الْأَحْمَرِ ; لِأَنَّهُ أَثْبَتُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْكِتَابَةَ بِالْأَحْمَرِ شِعَارُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ، وَيَكُونُ الْحِبْرُ بَرَّاقًا جَارِيًا، وَالْقِرْطَاسُ نَقِيًّا صَافِيًا. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ الْقَلَمُ صُلْبًا جِدًّا، فَلَا يَجْرِي بِسُرْعَةٍ، وَلَا رَخْوًا جِدًّا فَيَحْفَى سَرِيعًا، وَلْيَكُنْ أَمْلَسَ الْعُودِ مُزَالَ الْعُقُودِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَلَمَ الَّذِي بِآخِرِهِ عُقْدَةٌ يُورِثُ الْفَقْرَ. حَكَاهُ صَاحِبُ " تَارِيخِ إِرْبَلَ " عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، وَاسِعَ الْفَتْحَةِ، طَوِيلَ الْجِلْفَةِ، مُحَرَّفَ الْقِطَّةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْكِتَابَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 بِالْمُدَوَّرِ، وَمَا يُقَطُّ عَلَيْهِ صُلْبًا جِدًّا، وَيُحْمَدُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ وَخَشَبُ الْآبَنُوسِ النَّاعِمِ، وَسِكِّينُ قَلَمِهِ أَحَدُّ مِنَ الْمُوسَى، صَافِيَةُ الْحَدِيدِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا فِي غَيْرِهِ. كَمَا بَيَّنَ أَكْثَرَهُ الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ ". وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ كِتَابَةِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْ مَحْبَرَةِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِلَّا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ رِضَاهُ، فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ مِرْبَعٌ: كُنْتُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَحْبَرَةٌ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَكْتُبَ مِنْهَا، فَقَالَ لِي: اكْتُبْ يَا هَذَا، فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ. وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ لِضَبْطِ الْفَوَائِدِ وَنَحْوِهَا قِيلَ: مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ بِلَا مَحْبَرَةٍ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْكُدْيَةِ. وَعنِ الْمُبَرِّدِ قَالَ: رَأَيْتُ الْجَاحِظَ يَكْتُبُ شَيْئًا، فَتَبَسَّمَ فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقِرْطَاسُ صَافِيًا، وَالْمِدَادُ نَامِيًا، وَالْقَلَمُ مُوَاتِيًا، وَالْقَلْبُ خَالِيًا، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ غَانِيًا. وَكَمَا يُهْتَمُّ بِضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهَا - بِالنَّقْطِ - كَذِلِكَ يُهْتَمُّ بِضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، أَوْ خَفِيِّهَا فَقَطْ كَمَا اتَّضَحَ هُنَاكَ بِعَلَامَةٍ لِلْإِهْمَالِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِعْجَامِهَا ; إِذْ رُبَّمَا يَحْصُلُ بِإِغْفَالِهِ خَلْطٌ. كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَمَرَ عَامِلًا لَهُ فِي رِسَالَةٍ أَنْ يُحْصِيَ مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الْمُخَنَّثِينَ وَيَأْمُرَهُمْ بِكِيتَ وَكِيتَ، فَقَرَأَهَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. [كَيْفِيَّةُ ضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَة] (566) وَيُنْقَطُ الْمُهْمَلُ لَا الْحَا أَسْفَلَا ... أَوْ كَتْبُ ذَاكَ الْحَرْفِ تَحْتُ مَثَلَا (567) أَوْ فَوْقَهُ قُلَامَةً أَقْوَالُ ... وَالْبَعْضُ نَقْطَ السِّينِ صَفًّا قَالُوا (568) وَبَعْضُهُمْ يَخُطُّ فَوْقَ الْمُهْمَلْ ... وَبَعْضُهُمْ كَالْهَمْزِ تَحْتُ يَجْعَلْ [كَيْفِيَّةُ ضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَة] : (وَيُنْقَطُ) الْحَرْفُ (الْمُهْمَلُ) كَالدَّالِ وَالرَّاءِ وَالصَّادِ وَالطَّاءِ وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، (لَا الْحَا) بِالْقَصْرِ، بِمَا فَوْقَ الْحَرْفِ الْمُعْجَمِ الْمُشَاكِلِ لَهُ (أَسْفَلَا) أَيْ: أَسْفَلَ الْحَرْفِ الْمُهْمَلِ، وَلَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَاءِ اكْتِفَاءً بِالْعِلَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَهِيَ تَحْصِيلُ التَّمْيِيزِ، فَمَتَى كَانَ مُوقِعًا فِي الِالْتِبَاسِ لَمْ يَحْصُلِ الْغَرَضُ. وَالْحَاءُ إِذَا جُعِلَتْ نُقْطَةَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةَ تَحْتَهَا الْتَبَسَتْ بِالْجِيمِ، وَحِينَئِذٍ فَتَرْكُ الْعَلَامَةِ لِهَذَا الْحَرْفِ عَلَامَةٌ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْلُ الزَّرْكَشِيِّ: خَرَجَ بِقَوْلِهِ: " فَوْقَ " مَا إِذَا كَانَ النَّقْطُ تَحْتُ فَلَا يُسْتَحَبُّ، وَذَلِكَ كَالْحَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ نُقِطَتْ مِنْ تَحْتِهَا لَالْتَبَسَتْ بِالْجِيمِ. وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّمَا تَرْكُ الْحَاءِ لِوُضُوحِهَا. وَلَيْسَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: وَسَبِيلُ النَّاسِ فِي ضَبْطِهَا مُخْتَلِفٌ. يَعْنِي: فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُكُ هَذَا، أَوْ كَمَا لِبَعْضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْأَنْدَلُسِ مِمَّا قَالَهُ عِيَاضٌ أَيْضًا (كَتْبُ) أَيْ: يَكْتُبُ نَظَيْرَ (ذَاكَ الْحَرْفِ) الْمُهْمَلِ الْمُتَّصِلِ أَوِ الْمُنْفَصِلِ (تَحْتُ) ; أَيْ: تَحْتَهُ (مَثَلَا) بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: عَلَى صِفَتِهِ، سَوَاءً كَانَ شَبِيهًا لَهُ فِي الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَفِي الْقَدْرِ أَوْ لَا، غَيْرَ أَنَّ كَوْنَهُ أَصْغَرُ مِنْهُ وَمُجَرَّدًا أَنْسَبُ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يُكْتَبُ تَحْتَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ حَاءٌ مُفْرَدَةٌ صَغِيرَةٌ، وَكَذَا يُكْتَبُ تَحْتَ كُلٍّ مِنَ الدَّالِ وَالصَّادِ وَالطَّاءِ وَالسِّينِ وَالْعَيْنِ صِفَتُهَا صَغِيرَةً. (أَوْ) يُجْعَلُ (فَوْقَهُ) ; أَيِ: الْمُهْمَلِ (قُلَامَةً) كَقُلَامَةِ الظُّفْرِ مُضْجَعَةٌ عَلَى قَفَاهَا لِتَكُونَ فَرْجَتُهَا إِلَى فَوْقَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَطْ مُثِّلَتْ بِالْقُلَامَةِ ; إِذِ الْمُشَاهَدُ فِي خَطِّ كَثِيرِينَ لَا يُشَابِهُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ هِيَ مُنْجَمِعَةٌ لَا هَكَذَا مِنْ أَسْفَلِهَا. (أَقْوَالُ) ثَلَاثَةٌ وَأَوَّلُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّقْطُ مِنْ أَسْفَلَ كَهَيْئَتِهِ مِنْ فَوْقُ بِحَيْثُ يَكُونُ مَا تَحْتَ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ كَالْأَثَافِيِّ، وَهِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَقَدْ تُخَفَّفُ - مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْقِدْرُ مِنْ حَدِيدٍ وَحِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا فِي سَفَرٍ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْأَنْسَبَ وَالْأَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ قَلْبُهَا، فَتَكُونُ النُّقْطَتَانِ الْمُحَاذِيَتَانِ لِلْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقُ مُحَاذِيَتَيْنِ لِلْمُهْمَلَةِ مِنْ أَسْفَلَ. وَ (الْبَعْضُ) مِمَّنِ اصْطَلَحَ عَلَى النَّقْطِ (نَقْطَ السِّينِ صَفًّا) وَاحِدًا يُصَفُّ تَحْتَهَا (قَالُوا) أَيْ: قَالُوهُ لِئَلَّا تَزْدَحِمَ النُّقْطَةُ أَوِ النُّقْطَتَانِ مَعَ مَا يُحَاذِيهَا مِنَ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهَا فَيُظْلِمُ، بَلْ رُبَّمَا يَحْصُلُ بِهِ لَبْسٌ (وَبَعْضُهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 يَخُطُّ فَوْقَ) الْحَرْفِ (الْمُهْمَلِ) خَطًّا صَغِيرًا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَلَا يَفْطِنُ لَهُ كَثِيرُونَ. يَعْنِي: لِكَوْنِهِ خَفِيًّا غَيْرَ شَائِعٍ، وَلِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْعَلَاءِ مُغْلِطَائِيِّ الْحَنَفِيِّ حَيْثُ تَوَهَّمَهُ فَتْحَةً لِذَاكَ الْحَرْفِ إِذْ قَرَأَ: " رَضْوَانُ " بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَلَيْسَتِ الْفَتْحَةُ إِلَّا عَلَامَةَ الْإِهْمَالِ، وَكَذَا وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْعَلَامَةِ لِلْمُهْمَلِ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ الْمُصَنَّفِ. (وَبَعْضُهُمْ) وَهُوَ طَرِيقٌ خَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ (كَالْهَمْزِ تَحْتُ) ; أَيْ: تَحْتَ الْمُهْمَلِ (يَجْعَلُ) حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ تَحْتَ الْمُهْمَلِ عَلَى مِثَالِ النَّبْرَةِ وَهِيَ - كَمَا ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ وَابْنُ سِيدَهْ - الْهَمْزَةُ، بَلْ حَكَى عِيَاضٌ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمَشَارِقَةِ أَنَّهُ يَجْعَلُ فَوْقَ الْمُهْمَلِ خَطًّا صَغِيرًا يُشْبِهُ النَّبْرَةَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَادِسًا أَوْ سَابِعًا، وَإِنْ تَرَدَّدَ الْمُصَنِّفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 أَهُوَ غَيْرُ الْخَطِّ أَوْ عَيْنُهُ؟ وَوَجَدْتُ أَيْضًا سَابِعًا أَوْ ثَامِنًا. فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ طِرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِدْرِيسَ يَقُولُ: كَتَبْتُ - يَعْنِي عَنْ شُعْبَةَ - حَدِيثَ أَبِي الْحَوْرَاءِ - يَعْنِي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَخِفْتُ أَنْ أُصَحِّفَ فِيهِ فَأَقُولَ: أَبُو الْجَوْزَاءِ بِالْجِيمِ وَالزَّاءِ، فَكَتَبْتُ تَحْتَهُ: حُورُ عِينٍ. وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَرُبَّمَا كَتَبُوا مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّبْطِ بِأَلْفَاظٍ كَامِلَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ. وَنَحْوُهُ رَدُّ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ: يُسَيْرُ بْنُ ذُعْلُوقٍ - بِالْيَاءِ - بِقَوْلِهِ: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] . وَوَرَاءَ هَذَا مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْبَيَانِ عَلَى مَا هُوَ الْأُسْلُوبُ الْأَصْلِيُّ لَهَا، وَهُوَ إِخْلَاؤُهَا عَنِ الْعَلَامَةِ الْوُجُودِيَّةِ لِغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا طَرِيقُ مَنْ لَمْ يَسْلُكْ جَانِبَ الِاسْتِظْهَارِ، وَهُوَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ فِي الظُّهُورِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ. وَنَحْوُهُ مَنِ اصْطَلَحَ فِي الْبَيَانِ مَعَ نَفْسِهِ شَيْئًا انْفَرَدَ بِهِ عَنِ النَّاسِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ غَيْرَهُ بِهِ فِي الْحَيْرَةِ وَاللَّبْسِ لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِهِ فِيهِ كَمَا اتَّفَقَ فِي " رِضْوَانَ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَقَدْ قَرَأْتُ جُزْءًا عَلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ فَكَانَ كَاتِبُهُ يَعْمَلُ عَلَى الْكَافِ عَلَامَةً شَبِيهَةً بِالْخَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى الْكَلِمَاتِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا نُسْخَةٌ أُخْرَى، وَكَانَ الْكَلَامُ يُسَاعِدُ عَلَى إِسْقَاطِ الْكَلِمَةِ وَإِثْبَاتِهَا فِي مَوَاضِعَ، فَقَرَأْتُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا نُسْخَةٌ، وَبَعْدَ فَرَاغِ الْجُزْءِ تَبَيَّنَ لِي اصْطِلَاحُهُ فَاحْتَجْتُ إِلَى إِعَادَةِ قِرَاءَةِ الْجُزْءِ. انْتَهَى. وَرُبَّ عَلَامَةٍ أَحْوَجَتْ إِلَى عَلَامَةٍ حَتَّى لِفَاعِلِهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْبَغِي - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - أَنْ يَأْتِيَ بِاصْطِلَاحٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ. [رُمُوزُ الْكُتَّابِ وَحُكْمَهَا] (569) وَإِنْ أَتَى بِرَمْزِ رَاوٍ مَيَّزَا ... مُرَادَهُ وَاخْتِيرَ أَلَّا يَرْمُزَا (570) وَتَنْبَغِي الدَّارَةُ فَصْلًا وَارْتَضَى ... إِغْفَالَهَا الْخَطِيبُ حَتَّى يُعْرَضَا (571) وَكَرِهُوا فَصْلَ مُضَافِ اسْمِ اللَّهْ ... مِنْهُ بِسَطْرٍ إِنْ يُنَافِ مَا تَلَاهْ [رُمُوزُ الْكُتَّابِ وَحُكْمَهَا] : (وَإِنْ أَتَى بِرَمْزِ رَاوٍ) فِي كِتَابٍ جَمَعَ فِيهِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي تَرْجَمَةٍ مَعْقُودَةٍ لِذَلِكَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَ لَهُ الْكِتَابُ مِنْهَا، كَالْبُخَارِيِّ مَثَلًا مِنْ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ النَّسَوِيِّ، وَأَبِي طَلْحَةَ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيِّ، كُلُّهِمْ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِأَنْ جَعَلَ لِلْفَرَبْرِيِّ مَثَلًا (ف) وَلِلنَّسَفِيِّ (س) وَلِحَمَّادٍ (حَ) وَلِلْبَزْدَوِيِّ (ط) أَوْ لِبَعْضِهِمْ بِالْحُمْرَةِ وَلَآخَرَ بِالْخُضْرَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اصْطَلَحَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُفْصِحْ بِذِكْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الرَّاوِي بِتَمَامِهِ إِيثَارًا لِلتَّخْفِيفِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ، كَمَا اخْتَصَرُوا: ثَنَا وَأَنَا وَنَحْوَهُمَا، أَوِ ابْتَكَرَ اصْطِلَاحًا فِي الْمُهْمَلِ (مَيَّزَا مُرَادَهُ) بِتِلْكَ الرُّمُوزِ وَالْعَلَامَاتِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَوْ آخِرِهِ إِنْ كَانَ فِي مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا فَفِي كُلِّ مُجَلَّدٍ، كَمَا فَعَلَ كُلٌّ مِنْ أَبِي ذَرٍّ إِذْ رَقَمَ لِكُلٍّ مِنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُسْتَمْلِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيِّ وَأَبِي الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. وَالْحَافِظِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيِّ إِذْ رَقَمَ لِلرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ، فِي آخَرِينَ مِمَّنْ بَيَّنَ الرَّمْزَ أَوِ الْعَلَامَاتِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يَكْثُرُ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ كُلِّهِمْ حِينَئِذٍ مُشِقٌّ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الرُّمُوزِ أَخْصَرُ. (وَ) مَعَ كَوْنِهِ لَا بَأْسَ بِهِ (اخْتِيرَ أَلَّا يَرْمُزَ) لَهُ بِبَعْضِ حُرُوفِهِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ: الْأَوْلَى أَنْ يُجْتَنَبَ الرَّمْزُ وَيُكْتَبَ عِنْدَ كُلِّ رِوَايَةٍ اسْمُ رَاوِيهَا بِكَمَالِهِ مُخْتَصَرًا. يَعْنِي: بِدُونِ زَائِدٍ عَلَى التَّعْرِيفِ بِهِ، فَلَا يَقُولُ فِي الْفَرَبْرِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 مَثَلًا: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ. بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ أَوْ نَحْوِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ شَاعَ وَعُرِفَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ الْأَجْرِ لِنَقْصِ الْكِتَابَةِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ مَعَ مَعْرِفَةِ الِاصْطِلَاحِ بَيْنَ الرَّمْزِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَهُوَ - أَيِ الْإِتْيَانُ بِهِ بِكَمَالِهِ - أَوْلَى وَأَرْفَعُ لِلِالْتِبَاسِ. قَدْ يُوَجَّهُ بِكَوْنِ اصْطِلَاحِهِ فِي الرَّمْزِ قَدْ تَسْقُطُ بِهِ الْوَرَقَةُ أَوِ الْمُجَلَّدُ فَيَتَحَيَّرُ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ مِنْ مُبْتَدِئٍ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ مَا تَقَدَّمَ مَا لَمْ يَكُنِ الرَّمْزُ مِنَ الْمُصَنِّفِ، أَمَّا هُوَ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَا اصْطَلَحَهُ لِنَفْسِهِ فِي أَصْلِ تَصْنِيفِهِ، كَمَا فَعَلَ الْمِزِّيُّ فِي " تَهْذِيبِهِ " وَالشَّاطِبِيُّ، وَأَمْرُهُ فِيهِ بَدِيعٌ جِدًّا، فَقَدِ اشْتَمَلَ بَيْتٌ مِنْهَا عَلَى الرَّمْزِ لِسِتَّةَ عَشَرَ شَيْخًا فِي أَرْبَعِ قِرَاءَاتٍ بِالْمَنْطُوقِ. [الدَّارَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ] (وَيَنْبَغِي) اسْتِحْبَابًا لِأَجْلِ تَمَامِ الضَّبْطِ (الدَّارَةُ) وَهِيَ حَلْقَةٌ مُنْفَرِجَةٌ أَوْ مُطْبَقَةٌ (فَصْلًا) أَيْ: لِلْفَصْلِ بِهَا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَتَمْيِيزِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، زَادَ بَعْضُهُمْ: لِئَلَّا يَحْصُلَ التَّدَاخُلُ. يَعْنِي بِأَنْ يَدْخُلَ عَجُزُ الْأَوَّلِ فِي صَدْرِ الثَّانِي أَوِ الْعَكْسُ، وَذَلِكَ إِذَا تَجَرَّدَتِ الْمُتُونُ عَنْ أَسَانِيدِهَا وَعَنْ صَحَابَتِهَا، كَأَحَادِيثِ الشِّهَابِ وَالنَّجْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَمُقْتَضَاهُ اسْتِحْبَابُهَا أَيْضًا بَيْنَ الْحَدِيثِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَبَيْنَ مَا لَعَلَّهُ يَكُونُ بِآخِرِهِ مِنْ إِيضَاحٍ لِغَرِيبٍ وَشَرْحٍ لِمَعْنًى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ إِغْفَالُهُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ أَحَدَ أَسْبَابِ الْإِدْرَاجِ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَمِمَّنْ جَاءَ عَنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِالدَّارَةِ أَبُو الزِّنَادِ ; فَرَوَى الرَّامَهُرْمُزِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، أَنَّ كِتَابَ أَبِيهِ كَانَ كَذَلِكَ. وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، بَلْ وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ رَآهَا كَذَلِكَ فِي خَطِّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا بَلْ يَتْرُكُ بَقِيَّةَ السَّطْرِ بَيَاضًا، وَكَذَا يَفْعَلُ فِي التَّرَاجِمِ وَرُءُوسِ الْمَسَائِلِ، وَمَا أَنْفَعَ ذَلِكَ. (وَارْتَضَى) عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ (إِغْفَالَهَا) أَيْ: تَرْكَ الدَّارَةِ مِنَ النَّقْطِ بِحَيْثُ تَكُونُ غُفْلًا - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ - لَا عَلَامَةَ بِهَا، الْحَافِظُ (الْخَطِيبُ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي " جَامِعِهِ " (حَتَّى) ; أَيْ: إِلَى أَنْ (يُعْرَضَا) ; أَيْ: يُقَابَلُ بِالْأَصْلِ وَنَحْوِهِ حِينَ السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ فَكُلَّمَا فَرَغَ مِنْ عَرْضِ حَدِيثٍ يَنْقُطُ فِي الدَّارَةِ الَّتِي تَلِيهِ نُقْطَةً، أَوْ يَخُطُّ فِي وَسَطِهَا خَطًّا ; يَعْنِي: حَتَّى لَا يَكُونَ بَعْدُ فِي شَكٍّ: هَلْ عَارَضَهُ أَوْ سَهَا فَتَجَاوَزَهُ، لَا سِيَّمَا حِينَ يُخَالَفُ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: كُنْتُ أَرَى فِي كِتَابِ أَبِي إِجَازَةً ; يَعْنِي: دَارَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَمَرَّتَيْنِ وَوَاحِدَةً أَقَلَّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْشِ تَصْنَعُ بِهَا؟ فَقَالَ: أُعَرِّفُهُ، فَإِذَا خَالَفَنِي إِنْسَانٌ قُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَعْتَدُّ مِنْ سَمَاعِهِ إِلَّا بِمَا كَانَ كَذَلِكَ أَوْ فِي مَعْنَاهُ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: كَانَ غُنْدَرٌ رَجُلًا صَالِحًا سَلِيمَ النَّاحِيَةِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ لَيْسَتْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ (ع) لَا يَقُولُ فِيهِ: ثَنَا ; لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِضْهُ عَلَى شُعْبَةَ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ. قُلْتُ: وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ إِذَا أَوْرَدَ شَيْئًا مِمَّا لَا عَلَامَةَ فِيهِ نَبَّهَ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: فِي كِتَابِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِغَيْرِ إِجَازَةٍ. وَسَاقَ حَدِيثًا. [حُكْمُ فَصْلِ مُضَافِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَحْبِهِ] : (وَكَرِهُوا) ; أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْكِتَابَةِ (فَصْلَ مُضَافِ اسْمِ اللَّهِ) كَعَبْدٍ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ، فَلَا يَكْتُبُونَ التَّعْبِيدَ فِي آخِرِ سَطْرٍ، وَاللَّهُ أَوِ الرَّحْمَنُ أَوِ الرَّحِيمُ مَعَ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ابْنُ فُلَانٍ مَثَلًا (بِ) أَوَّلٍ (سَطْرٍ) آخَرَ، احْتِرَازًا عَنْ قَبَاحَةِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ. وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ، وَإِنْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ الْعُكْبَرِيِّ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ أَبِيهِ وَنِسْبَتِهِ - أَنَّهُ قَالَ: وَفِي الْكِتَابِ - يَعْنِي - مَنْ لَا يَتَجَنَّبُهُ أَوْ هُوَ غَلَطٌ - أَيْ: خَطَأٌ قَبِيحٌ - فَيَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَتَوَقَّاهُ وَيَتَأَمَّلَهُ وَيَتَحَفَّظَ مِنْهُ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ، فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ لِحَمْلِ شَيْخِنَا لَهُ عَلَى التَّأْكِيدِ لِلْمَنْعِ، وَلَا شَكَّ فِي تَأَكُّدِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّعْبِيدُ آخِرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى، وَالِاسْمُ الْكَرِيمُ وَمَا بَعْدَهُ أَوَّلَ الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى، فَإِنَّ النَّاظِرَ إِذَا رَآهُ كَذَلِكَ رُبَّمَا لَمْ يَقْلِبِ الْوَرَقَةَ وَيَبْتَدِئُ بِقِرَاءَتِهِ كَذَلِكَ بِدُونِ تَأَمُّلٍ، وَكَذَا إِذَا كَانَ عَزْمُهُ عَدَمَ حَبْكِ الْكِتَابِ، وَكَانَ ابْتَدَأَ وَرَقَهُ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ تَقْلِيبِ أَوْرَاقِهِ وَتَفَرُّقِهَا، وَلَكِنْ لَا يَرْتَقِي فِي كُلِّ هَذَا إِلَى الْوُجُوبِ، إِلَّا إِنِ اقْتَرَنَ بِقَصْدٍ فَاسِدٍ، كَإِيقَاعٍ لِغَيْرِهِ فِي الْمَحْذُورِ، وَيَتَأَيَّدُ مَا جَنَحَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا بِتَصْرِيحِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " الِاقْتِرَاحِ " بِأَنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ، بَلْ وَنَصَرَهُ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ. وَكَرَسُولٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلَا يُكْتَبُ رَسُولٌ فِي آخِرِ سَطْرٍ، وَاسْمُ اللَّهِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ آخَرَ، فَقَدْ كَرِهَهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا وَقَالَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي التَّحَفُّظُ مِنْهُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَجَزَمَ بِالْكَرَاهَةِ فِيهِ وَفِيمَا أَشْبَهَهُ. وَيَلْتَحِقُ بِهِ - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: «سَابُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِرٌ» . وَكَذَا أَسْمَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: «قَاتِلُ ابْنِ صَفِيَّةَ فِي النَّارِ» يَعْنِي بِابْنِ صَفِيَّةَ. الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَلَا يُكْتَبُ " سَابُّ " أَوْ " قَاتِلُ " فِي آخِرِ سَطْرٍ وَمَا بَعْدَهُ فِي أَوَّلِ آخَرَ، بَلْ وَلَا اخْتِصَاصَ لِلْكَرَاهَةِ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وُجِدَ الْمَحْذُورُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَشْنَعُ، كَقَوْلِهِ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ الَّذِي أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ثَمِلٌ فَقَالَ عُمَرُ: " أَخْزَاهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ " وَكَقَوْلِهِ: " اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ". بِأَنْ كَتَبَ " فَقَالَ " أَوْ " لَا " فِي آخِرِ سَطْرٍ، وَمَا بَعْدَهُ فِي أَوَّلِ آخَرَ ; كَانَتِ الْكَرَاهَةُ أَيْضًا، وَمَحَلُّهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (إِنْ يُنَافِ) بِالْفَصْلِ (مَا تَلَاهُ) مِنَ اللَّفْظِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ اسْمِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْمِ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُنَافِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الِاسْمُ آخِرَ الْكِتَابِ أَوْ آخِرَ الْحَدِيثِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مُلَائِمٌ لَهُ غَيْرُ مُنَافٍ، فَلَا بَأْسَ بِالْفَصْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْبُخَارِيِّ (سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) فَإِنَّهُ إِذَا فَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ كَانَ أَوَّلُ السَّطْرِ: اللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَجَمْعُهُمَا فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ أَوْلَى. بَلْ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْكَرَاهَةِ فِي فَصْلٍ مِثْلَ أَحَدَ عَشَرَ لِكَوْنِهِمَا بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ ; أَخْذًا مِنْ قَوْلِ النَّحَّاسِ فِي " صِنَاعَةِ الْكِتَابِ ": وَكَرِهُوا جَعْلَ بَعْضِ الْكَلِمَةِ فِي سَطْرٍ وَبَعْضِهَا فِي أَوَّلِ سَطْرٍ ; فَتَكُونُ مَفْصُولَةً. [الْحَثُّ عَلَى كِتْبَةِ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ] (572) وَاكْتُبْ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمَا ... مَعَ الصَّلَاةِ لِلنَّبِيِّ تَعْظِيمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 (573) وَإِنْ يَكُنْ أُسْقِطَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ خُولِفَ فِي سَقْطِ الصَّلَاةِ أَحْمَدْ ... (574) وَعَلَّهُ قَيَّدَ بِالرِّوَايَهْ مَعَ نُطْقِهِ كَمَا رَوَوْا حِكَايَهْ ... (575) وَالْعَنْبَرِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيُّ بَيَّضَا لَهَا لِإِعْجَالٍ وَعَادَا عَوَّضَا ... (576) وَاجْتَنِبِ الرَّمْزَ لَهَا وَالْحَذْفَا مِنْهَا صَلَاةً أَوْ سَلَامًا تُكْفَى [الْحَثُّ عَلَى كِتْبَةِ ثَنَاءَ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ] : (وَاكْتُبْ) أَيُّهَا الْكَاتِبُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ الْمُتَأَكِّدِ (ثَنَاءَ اللَّهِ) تَعَالَى كُلَّمَا مَرَّ لَكَ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: كَعَزَّ وَجَلَّ، أَوْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ نَحْوِهُمَا، «فَفِي حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَسْبَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي (الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ) وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ مَدَحْتُ رَبِّي بِمَحَامِدَ وَمَدْحٍ وَإِيَّاكَ فَقَالَ: (أَمَا إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ) وَفِي لَفْظٍ (الْمَدْحَ) » الْحَدِيثَ. (وَ) كَذَا اكْتُبْ (التَّسْلِيمَا مَعَ الصَّلَاةِ لِلنَّبِيِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا مَرَّ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا لَهُمَا وَإِجْلَالًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِهِ كُلَّمَا ذُكِرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً الطَّحَاوِيُّ، بَلْ وَالْحَلِيمِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَائِينِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، إِنْ أُثْبِتَ فِي الرِّوَايَةِ كُلٌّ مِنَ الثَّنَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، (وَإِنْ يَكُنْ أُسْقِطَ) مِنْهَا (فِي الْأَصْلِ) الْمَسْمُوعِ لِعَدَمِ التَّقَيُّدِ بِهِ فِي حَذْفِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ تُثْنِيهِ لَا كَلَامَ تَرْوِيهِ، وَلَا تَسْأَمْ مِنْ تَكْرِيرِهِ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ، بَلْ وَضُمَّ إِلَيْهَا التَّلَفُّظَ بِهِ لِنَشْرِ تَعَطُّرِهِ، فَأَجْرُهُ عَظِيمٌ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ. قَالَ التُّجِيبِيُّ: وَكَمَا تُصَلِّي عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِكَ كَذَلِكَ تَخُطُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِبَنَانِكَ مَهْمَا كَتَبْتَ اسْمَهُ الشَّرِيفَ فِي كِتَابٍ، فَإِنَّ لَكَ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الثَّوَابِ. ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ الَّذِي بَيَّنْتُهُ فِي (الْقَوْلِ الْبَدِيعِ) الَّذِي تُعْرَفُ بَرَكَتُهُ، وَرَجَوْتُ ثَمَرَتَهُ، وَإِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ قَالَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ لَا مَرْفُوعًا. وَلَفْظُهُ: " مَنْ صَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي كِتَابٍ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ غُدْوَةً وَرَوَاحًا مَا دَامَ اسْمُ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ". وَلِذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ إِلَّا الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ. بَلْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً» ) وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ ابْنُ حِبَّانَ: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَكُونُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ صَلَاةً عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ثُمَّ قَالَ عَقِبَهُ: فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامَةِ يَكُونُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ; إِذْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ أَكْثَرُ صَلَاةً عَلَيْهِ مِنْهُمْ. وَكَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: هَذِهِ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا رُوَاةُ الْآثَارِ وَنَقَلَتُهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِعِصَابَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْرَفُ لَهَا نَسْخًا وَذِكْرًا. وَقَالَ أَبُو الْيَمَنِ بْنُ عَسَاكِرَ: لِيَهْنِ أَهْلَ الْحَدِيثِ - كَثَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - هَذِهِ الْبُشْرَى، وَمَا أَتَمَّ بِهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْكُبْرَى ; فَإِنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِنَبِّيهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْرَبُهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسِيلَةً ; فَإِنُّهُمْ يُخَلِّدُونَ ذِكْرَهُ فِي طُرُوسِهِمْ، وَيُجَدِّدُونَ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ بِمَجَالِسِ مُذَاكَرَتِهِمْ وَتَحْدِيثِهِمْ وَمُعَارَضَتِهِمْ وَدُرُوسِهِمْ، فَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ شِعَارُهُمْ وَدِثَارُهُمْ، وَبِحُسْنِ نَشْرِهِمْ لِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ تَحْسُنُ آثَارُهُمْ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ الَّذِيِ أَوْدَعْتُهُ مَعَ كَلَامِ غَيْرِهِ فِي مَعْنَاهُ، وَمَنَامَاتٍ حَسَنَةٍ صَحِيحَةٍ. مِنْهَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: رَحِمَنِي وَغَفَرَ لِي، وَزُفِفْتُ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، وَنُثِرَ عَلَيَّ كَمَا يُنْثَرُ عَلَى الْعَرُوسِ. وَإِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ " الرِّسَالَةِ " مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ كَتَبَ بِيَدِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» ) فِي الْكِتَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. (وَقَدْ خُولِفَ فِي سُقْطِ الصَّلَاةِ) وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ (أَحْمَدْ) فَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 حَسْبَمَا رَآهُ الْخَطِيبُ بِخَطِّهِ يَكْتُبُ كَثِيرًا اسْمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. قَالُ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَعَلَّهُ) ; أَيْ: لَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ (قَيَّدَ) ; أَيْ: تَقَيَّدَ فِي الْإِسْقَاطِ (بِالرِّوَايَهْ) لِالْتِزَامِهِ اقْتِفَاءَهَا، فَحَيْثُ لَمْ يَجِدْهَا فِي أَصْلِ شَيْخِهِ وَعَزَّ عَلَيْهِ اتِّصَالُهَا فِي جَمِيعِ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الرُّوَاةِ لَا يَكْتُبُهَا تَوَرُّعًا مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي الرِّوَايَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، كَمَذْهَبِهِ فِي مَنْعِ إِبْدَالِ النَّبِيِّ بِالرَّسُولِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمَعْنَى، لَكِنْ (مَعَ نُطْقِهِ) بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ إِذَا قَرَأَ أَوْ كَتَبَ (كَمَا رَوَوْا) ; أَيِ: الْمُحَدِّثُونَ كَالْخَطِيبِ وَمَنْ تَابَعَهُ ذَلِكَ عَنْهُ (حِكَايَةً) غَيْرَ مُتَّصِلَةِ الْإِسْنَادِ، فَإِنَّ الْخَطِيبَ قَالَ: (وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُطْقًا) . وَالتَّقَيُّدُ فِي ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ هُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي (الِاقْتِرَاحِ) : وَالَّذِي نَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْ نَتْبَعَ الْأُصُولَ وَالرِّوَايَاتِ، فَإِنَّ الْعُمْدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْوَاقِعِ، فَإِذَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ هَكَذَا وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ تَكُنِ الرِّوَايَةُ مُطَابِقَةً لِمَا فِي الْوَاقِعِ، وَلِهَذَا أَقُولُ: إِذَا ذَكَرَ الصَّلَاةَ لَفْظًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْحَبَهَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، مِثْلَ كَوْنِهِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِ، وَيَنْوِي بِقَلْبِهِ أَنَّهُ هُوَ الْمُصَلِّي لَا حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَتَبَهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي الرِّوَايَةِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَعَلَيْهِ مَشَى الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيِّ فِي نُسْخَتِهِ بِالصَّحِيحِ الَّتِي جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ حَيْثُ يُشِيرُ بِالرَّمْزِ إِلَيْهَا إِثْبَاتًا وَنَفْيًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونَ تَرْكُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كِتَابَتَهَا لِهَذَا، بَلِ اسْتِعْجَالًا، كَمَا قَيَّدْتُهُ عَنْ شَيْخِنَا، لِكَوْنِهِ فِي الرِّحْلَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ عَزْمِهِ عَلَى كِتَابَتِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ ضَرُورَتِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ، لَا سِيَّمَا (وَ) عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ (الْعَنْبَرِيُّ) نِسْبَةً لِبَنِي الْعَنْبَرِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ. (وَابْنُ الْمَدِينِيُّ) نِسْبَةً لِلْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ لِكَوْنِ أَصْلِهِ مِنْهَا، هُوَ عَلِيٌّ، فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ، كَمَا رَوَاهُ النُّمَيْرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ (بَيَّضَا) فِي كِتَابِهِمَا (لَهَا) أَيْ: لِلصَّلَاةِ أَحْيَانًا (لِإِعْجَالٍ وَعَادَا) بَعْدُ (عَوَّضَا) بِكِتَابَةِ مَا كَانَ تَرَكَهُ لِلضَّرُورَةِ لِمُلَازَمَتِهِمَا فِعْلَهَا فِي كُلِّ حَدِيثٍ سَمِعَاهُ، كَانَ فِي الرِّوَايَةِ أَمْ لَا، وَالْإِمَامُ أَجَلُّ مِنْهُمَا اتِّبَاعًا، مَعَ مَا رَوَى ابْنُ بَشْكُوَالٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرٍ الزَّعْفَرَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِيَ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَلِيٍّ، لَوْ رَأَيْتَ صَلَاتَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ كَيْفَ تُزْهِرُ بَيْنَ أَيْدِينَا! . [كَرَاهَةُ الرَّمْزِ لِلصَّلَاةِ] : (وَاجْتَنِبْ) أَيُّهَا الْكَاتِبُ (الرَّمْزَ لَهَا) أَيْ: لِلصَّلَاةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 عَلَى رُسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَطِّكَ، بِأَنْ تَقْتَصِرَ مِنْهَا عَلَى حَرْفَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَكُونَ مَنْقُوصَةً صُورَةً، كَمَا يَفْعَلُهُ الْكِسَائِيُّ وَالْجَهَلَةُ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَجَمِ غَالِبًا وَعَوَامُّ الطَّلَبَةِ، فَيَكْتُبُونَ بَدَلًا عَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ص، أَوْ صم، أَوْ صلم، أَوْ صلعم، فَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ الْأَجْرِ لِنَقْصِ الْكِتَابَةِ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَتَصْرِيحُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ بِالْكَرَاهَةِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ. وَقَدْ رَوَى النُّمَيْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ نُسْخَةً مِنْ (الْمُوَطَّأِ) وَتَأَنَّقَ فِيهَا لَكِنَّهُ حَذَفَ مِنْهَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ مَا وَقَعَ لَهُ فِيهِ ذِكْرٌ، وَعَوَّضَ عَنْهَا: ص، وَقَصَدَ بِهَا بَعْضَ الرُّؤَسَاءِ مِمَّنْ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الدَّفَاتِرِ، وَقَدْ أَمَّلَ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ فِي ثَمَنِهِ، وَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ فَحَسَّنَ مَوْقِعَهُ، وَأُعْجِبَ بِهِ، وَعَزَمَ عَلَى إِجْزَالِ صِلَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَنَبَّهَ لِفِعْلِهِ ذَلِكَ فِيهِ، فَصَرَفَهُ وَحَرَمَهُ وَأَقْصَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُحَارِفًا مُقَتِّرًا عَلَيْهِ، لَكِنْ وُجِدَ بِخَطِّ الذَّهَبِيِّ وَبَعْضِ الْحُفَّاظِ كِتَابَتُهَا هَكَذَا صَلَّى اللَّهُ عَلَمْ، وَرُبَّمَا اقْتَفَيْتُ أَثَرَهُمْ فِيهِ بِزِيَادَةِ لَامٍ أُخْرَى قَبْلَ الْمِيمِ مَعَ التَّلَفُّظِ بِهِمَا غَالِبًا، وَالْأَوْلَى خِلَافُهُ. [الْكَلَامُ عَلَى إِفْرَادِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ] : (وَ) كَذَا (اجْتَنِبِ الْحَذْفَا) لِوَاحِدٍ (مِنْهَا صَلَاةً أَوْ سَلَامًا) حَتَّى لَا تَكُونَ مَنْقُوصَةً مَعْنًى أَيْضًا (تُكْفَى) بِإِكْمَالِ صَلَاتِكَ عَلَيْهِ مَا أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِ ذَلِكَ أَيْضًا خِلَافَ الْأَوْلَى، لَكِنْ قَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِكَرَاهَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَى: عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 السَّلَامُ فَقَطْ، وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ بَشْكُوالٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَوْتَى. وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْأَذْكَارِ " وَغَيْرِهِ بِكَرَاهَةِ إِفْرَادِهِمَا عَنِ الْآخَرِ مُتَمَسِّكًا بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِمَا مَعًا فِي الْآيَةِ، وَخَصَّ ابْنُ الْجَزَرِيِّ الْكَرَاهَةَ بِمَا وَقَعَ فِي الْكُتُبِ مِمَّا رَوَاهُ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ ; لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِهِ خِلَافُ الرِّوَايَةِ، قَالَ: فَإِنْ ذَكَرَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ. مَثَلًا، فَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ. وَأَمَّا شَيْخُنَا فَقَالَ: إِنْ كَانَ فَاعِلُ أَحَدِهِمَا يَقْتَصِرُ عَلَى الصَّلَاةِ دَائِمًا فَيُكْرَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْلَالِ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُمَا، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي تَارَةً وَيُسَلِّمُ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَمْ أَقِفْ عَلَى دَلِيلٍ يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى ; إِذِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَبٌّ لَا نِزَاعَ فِيهِ. قَالَ: وَلَعَلَّ النَّوَوِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اطَّلَعَ عَلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ، وَإِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا . انْتَهَى. وَيَتَأَيَّدُ مَا خَصَّ شَيْخُنَا الْكَرَاهَةَ بِهِ بِوُقُوعِ الصَّلَاةِ مُفْرَدَةً فِي خُطْبَةِ كُلٍّ مِنَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 " الرِّسَالَةِ " لِإِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ وَ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَ " التَّنْبِيهِ " لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَبِخَطِّ الْخَطِيبِ الْحَافِظِ فِي آخَرِينَ، وَإِلَيْهَا أَوْ إِلَى بَعْضِهَا الْإِشَارَةُ، بِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: (وَإِنْ وُجِدَ فِي خَطِّ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ) . وَلَمَّا حَكَى الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ وَجَدَهُ بِخَطِّ الْخَطِيبِ فِي " الْمُوَضَّحِ " قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ، وَقَدْ قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ: كُنْتُ أَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ عِنْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ: " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ "، وَلَا أَكْتُبُ: وَسَلَّمَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: " مَا لَكَ لَا تُتِمُّ الصَّلَاةَ عَلَيَّ؟ " فَمَا كَتَبْتُ بَعْدُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ. إِلَّا كَتَبْتُ: وَسَلَّمَ. رَوَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالرَّشِيدُ الْعَطَّارُ وَالذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِهِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: (أَمَا تَخْتِمُ الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي كِتَابِكَ؟) كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ: كُنْتُ أَكْتُبُ لَفْظَ الصَّلَاةِ دُونَ التَّسْلِيمِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: (لِمَ تَحْرِمُ نَفْسَكَ أَرْبَعِينَ حَسَنَةً؟ قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا جَاءَ ذِكْرِي تَكْتُبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَكْتُبُ: وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ، كُلُّ حَرْفٍ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ؟ قَالَ: وَعَدَّهُنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ) . رَوَاهُ أَبُو الْيَمَنِ بْنُ عَسَاكِرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 [الصَّلَاةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ] : وَكَذَا يُسْتَحَبُّ كِتَابَةُ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ نَبِيِّنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَالتَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الْأَخْيَارِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَفِي " تَارِيخِ إِرْبِلَ " لِابْنِ الْمُسْتَوْفِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ عَلِيًّا بِ " كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ " فَرَأَى فِي الْمَنَامِ مَنْ قَالَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ. [الْمُقَابَلَةُ] (577) ثُمَّ عَلَيْهِ الْعَرْضُ بِالْأَصْلِ وَلَوْ ... إِجَازَةً أَوْ أَصْلِ أَصْلِ الشَّيْخِ أَوْ (578) فَرْعٍ مُقَابَلٍ وَخَيْرُ الْعَرْضِ مَعْ ... أُسْتَاذِهِ بِنَفْسِهِ إِذْ يَسْمَعْ (579) وَقِيلَ بَلْ مِعْ نَفْسِهِ وَاشْتَرَطَا ... بَعْضُهُمُ هَذَا وُفِّيَهُ غُلِّطَا (580) وَلْيَنْظُرِ السَّامِعُ حِينَ يَطْلُبُ ... فِي نُسْخَةٍ وَقَالَ يَحْيَى يَجِبُ (581) وَجَوَّزَ الْأُسْتَاذُ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ ... غَيْرِ مُقَابَلٍ وَلِلْخَطِيبِ إِنْ (582) بَيَّنَ وَالنَّسْخُ مِنْ أَصْلٍ وَلْيُزَدْ ... صِحَّةُ نَقْلِ نَاسِخٍ فَالشَّيْخُ قَدْ (583) شَرَطَهُ ثُمَّ اعْتَبِرْ مَا ذُكِرَا ... فِي أَصْلِ الْأَصْلِ لَا تَكُنْ مُهَوِّرَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 [مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ] : الْمُقَابَلَةُ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْمُعَارَضَةُ. تَقُولُ: قَابَلْتُ بِالْكِتَابِ قِبَالًا وَمُقَابَلَةً. أَيْ: جَعَلْتُهُ قُبَالَتَهُ، وَصَيَّرْتُ فِي أَحَدِهِمَا كُلَّ مَا فِي الْآخَرِ، وَمِنْهُ مَنَازِلُ الْقَوْمِ تَتَقَابَلُ. أَيْ: يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَارَضْتُ بِالْكِتَابِ الْكِتَابَ. أَيْ: جَعَلْتُ مَا فِي أَحَدِهِمَا مِثْلَ مَا فِي الْآخَرِ. مَأْخُوذٌ مِنْ: عَارَضْتُ بِالثَّوْبِ. إِذَا أَعْطَيْتَهُ وَأَخَذْتَ ثَوْبًا غَيْرَهُ. [أَصْلُ الْمُقَابَلَةِ] : وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الْكَبِيرِ) وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي (رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ) كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ قَالَ: (وَجَدْتُ فِي كِتَابِ خَالِي - يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ - حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنْتُ أَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إِذَا فَرَغْتُ يَقُولُ لِي: (اقْرَأْهُ) . فَأَقْرَأُهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ سَقْطٌ أَقَامَهُ ثُمَّ أَخْرُجُ بِهِ إِلَى النَّاسِ» ) . وَأخَرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا، وَكَذَا الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) ، مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ، فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 [حُكْمُ الْمُقَابَلَةِ] : (ثُمَّ) بَعْدَ تَحْصِيلِ الطَّالِبِ لِلْمَرْوِيِّ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ غَيْرِهِ (عَلَيْهِ الْعَرْضُ) وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ وَقَالَ: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَا غِنَى لِمَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ عَنِ الْعَرْضِ. كَمَا سَيَأْتِي، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) عَنْ هِشَامِ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: أَكَتَبْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: عَارَضْتَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَلَمْ تَكْتُبْ. وَفِي (كِفَايَتِهِ) عَنْ أَفْلَحَ بْنِ بَسَّامٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْقَعْنَبِيِّ فَقَالَ لِي: كَتَبْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: عَارَضْتَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا. وَهَذَا عِنْدَ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي (أَدَبِ الْإِمْلَاءِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا قَالَ: «كَتَبَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: (كَتَبْتَ؟) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (عَرَضْتَ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (لَمْ تَكْتُبْ حَتَّى تَعْرِضَهُ) » . وَفِي (الْكِفَايَةِ) وَ (الْجَامِعِ) مَعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَكْتُبُ وَلَا يُعَارِضُ مَثَلُ الَّذِي يَقْضِي حَاجَتَهُ وَلَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. وَكَذَا جَاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (جَامِعِ الْعِلْمِ ثُمَّ عِيَاضٍ فِي (الْإِلْمَاعِ) . وَعَنِ الشَّافِعِيِّ كَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَفِي صِحَّةِ عَزْوِهِ إِلَيْهِ نَظَرٌ، وَالتَّشْبِيهُ فِي مُطْلَقِ النَّقْصِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ شَرَفِ أَحَدِهِمَا وَخِسَّةِ الْآخَرِ، كَمَا فِي تَشْبِيهِ الْوَحْيِ بِصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ. وَكَذَا لَيْسَ قَوْلُ الْقَائِلِ: ( اكْتُبْ وَلَا تُقَابِلْ ... وَارْمِ عَلَى الْمَزَابِلِ ) عَلَى ظَاهِرِهِ. وَلِذَا كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ( مَنْ كَتَبَ وَلَمْ يُقَابِلْ ... كَمَنْ غَزَا وَلَمْ يُقَاتِلْ ) ، وَقَوْلُ الْخَلَّالِ الْحَنْبَلِيِّ: (مَنْ لَمْ يُعَارِضْ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَضَعُ رِجْلَهُ) . وَفِي (جَامِعِ الْخَطِيبِ) عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: إِذَا نُسِخَ الْكِتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ يُعَارَضْ تَحَوَّلَ بِالْفَارِسِيَّةِ مِنْ كَثْرَةِ سَقْطِهِ. وَفِي (كِفَايَتِهِ) نَحْوُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ قَالَ: (إِذَا نُسِخَ الْكِتَابُ وَلَمْ يُعَارَضْ ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ وَلَمْ يُعَارَضْ - يَعْنِي الْمَنْسُوخَ أَيْضًا - خَرَجَ أَعْجَمِيًّا) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ حَيْثُ لَمْ يَثِقْ بِصِحَّةِ كِتَابَتِهِ أَوْ نُسْخَتِهِ، أَمَّا مَنْ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ نُدُورُ السَّقْطِ وَالتَّحْرِيفِ مِنْهُ فَلَا. لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 (جَامِعِ الْعِلْمِ) عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ عُرِضَ الْكِتَابُ مِائَةَ مَرَّةٍ مَا كَادَ يَسْلَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَقْطٌ. أَوْ قَالَ: خَطَأٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَالَغَ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْغَلَطِ. مُعَارَضٌ بِقَوْلِ غَيْرِهِ: بَلِ الْأَصْلُ عَدَمُ نَقْلِ كُلِّ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ. نَعَمْ لَا يَخْلُو الْكَاتِبُ مِنْ غَلَطٍ وَإِنْ قَلَّ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ الْعُرْفِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا قَرْمَطْنَا نَدِمْنَا، وَمَا انْتَخَبْنَا نَدِمْنَا، وَمَا كَتَبْنَا بِدُونِ مُقَابَلَةٍ نَدِمْنَا. [كَيْفَ تَحْصُلُ الْمُقَابَلَةُ؟] : وَيَحْصُلُ الْعَرْضُ إِمَّا (بِالْأَصْلِ) الَّذِي أَخَذَهُ عَنْ شَيْخِهِ بِسَائِرِ وُجُوهِ الْأَخْذِ الصَّحِيحَةِ، (وَلَوْ) كَانَ الْأَخْذُ (إِجَازَةً) أَوْ بِأَصْلِ (أَصْلِ الشَّيْخِ) الَّذِي أَخَذَ الطَّالِبُ عَنْهُ الْمُقَابَلَ بِهِ أَصْلُهُ (أَوْ) بِ (فَرْعٍ مُقَابَلٍ) بِالْأَصْلِ مُقَابِلَةً مُعْتَبَرَةً مَوْثُوقًا بِهَا، أَوْ بِفَرْعٍ قُوبِلَ كَذَلِكَ عَلَى فَرْعٍ، وَلَوْ كَثُرَ الْعَدَدُ بَيْنَهُمَا إِذِ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الطَّالِبِ مُطَابِقًا لِأَصْلِ مَرْوِيِّهِ وَكِتَابِ شَيْخِهِ، فَسَوَاءٌ حَصَلَ بِوَاسِطَةٍ فَأَكْثَرَ أَوْ بِدُونِهَا، ثُمَّ إِنَّ التَّقْيِيدَ فِي أَصْلِ الْأَصْلِ بِكَوْنِهِ قَدْ قُوبِلَ الْأَصْلُ عَلَيْهِ بُدٌّ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِشَيْخِ شَيْخِهِ عِدَّةُ أُصُولٍ قُوبِلَ أَصْلُ شَيْخِهِ بِأَحَدِهَا، لَا تَكْفِي الْمُقَابَلَةُ بِغَيْرِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ، فَيَكُونَ قَدْ أَتَى بِمَا لَمْ يَرْوِهِ شَيْخُهُ لَهُ، أَوْ حَذَفَ شَيْئًا مِمَّا رَوَاهُ لَهُ شَيْخُهُ. أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَسَيَأْتِي نَحْوُهُ فِي الرِّوَايَاتِ مِنَ الْأَصْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وَكَذَا يَحْصُلُ إِنْ كَانَ الْأَصْلُ بِيَدِ الشَّيْخِ أَوْ ثِقَةٍ يَقِظٍ غَيْرِهِ تَوَلَّاهُ الطَّالِبُ بِنَفْسِهِ، أَوْ ثِقَةٍ يَقِظٍ غَيْرِهِ، وَقَعَ حَالَةَ السَّمَاعِ أَمْ لَا، أَمْسَكَ الْأَصْلَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْ كَانَا مَعًا بِيَدِهِ. [هَلْ خَيْرُ الْعَرْضِ مَعَ شَيْخِهِ أَوْ مَعَ نَفْسِهِ] : (وَ) لَكِنْ (خَيْرُ الْعَرْضِ) مَا كَانَ (مَعْ أُسْتَاذِهِ) أَيْ: شَيْخِهِ عَلَى كِتَابِهِ بِمُبَاشَرَةِ الطَّالِبِ (بِنَفْسِهِ إِذْ) أَيْ: حِينَ (يَسْمَعْ) مِنَ الشَّيْخِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ يَقْرَأُ، لِمَا يَجْمَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِيَاطِ وَالْإِتْقَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. يَعْنِي: إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَهْلًا لِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ نَقَصَ مِنْ مَرْتَبَتِهِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنْهَا. قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَقَيَّدَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (الِاقْتِرَاحِ) الْخَيْرِيَّةَ بِتَمَكُّنِ الطَّالِبِ مَعَ ذَلِكَ مِنَ التَّثَبُّتِ فِي الْقِرَاءَةِ أَوِ السَّمَاعِ، وَإِلَّا فَتَقْدِيمُ الْعَرْضِ حِينَئِذٍ أَوْلَى. قَالَ: بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُ أَوْلَى مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ إِذَا قُوبِلَ أَوَّلًا كَانَ حَالَةَ السَّمَاعِ أَيْسَرَ، وَأَيْضًا فَإِنْ وَقَعَ إِشْكَالٌ كُشِفَ عَنْهُ وَضُبِطَ، فَقُرِئَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَمْ مِنْ جُزْءٍ قُرِئَ بَغْتَةً، فَوَقَعَ فِيهِ أَغَالِيطُ وَتَصْحِيفَاتٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ صَوَابُهَا إِلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَأُصْلِحَتْ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ وَكَانَ كَذِبًا إِنْ قَالَ: قَرَأْتُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. (وَقِيلَ) وَهُوَ قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي الْفَضْلِ الْهَرَوِيِّ الْجَارُودِيِّ: (بَلْ) خَيْرُ الْعَرْضِ مَا كَانَ (مَعْ نَفْسِهِ) بِعَيْنِكَ حَرْفًا حَرْفًا لِكَوْنِهِ حِينَئِذٍ لَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ، وَلَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ شَيْخِهِ وَاسِطَةً، وَهُوَ بِذَلِكَ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ مُطَابَقَتِهِمَا (وَ) لِذَا (اشْتَرَطَا بَعْضُهُمْ) مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ (هَذَا) فَجَزَمَ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْهُ بِعَدَمِ صِحَّةِ مُقَابَلَتِهِ مَعَ أَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ (وَفِيهِ) أَيِ: الِاشْتِرَاطِ (غُلِّطَا) الْقَائِلُ بِهِ. فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (إِنَّهُ مَذْهَبٌ مَتْرُوكٌ، وَهُوَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ التَّشْدِيدِ الْمَرْفُوضَةِ فِي عَصْرِنَا) . وَصَحَّحَ عَدَمَهُ لَا سِيَّمَا وَالْفِكْرُ يَتَشَعَّبُ بِالنَّظَرِ فِي النُّسْخَتَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَرُبَّ مَنْ عَادَتُهُ - يَعْنِي لِمَزِيدِ يَقَظَتِهِ وَحِفْظِهِ - عَدَمُ السَّهْوِ عِنْدَ نَظَرِهِ فِيهِمَا، فَهَذَا مُقَابَلَتُهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى، أَوْ عَادَتُهُ - يَعْنِي لِجُمُودِ حَرَكَتِهِ وَقِلَّةِ حِفْظِهِ - السَّهْوُ. فَهَذَا مُقَابَلَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ أَوْلَى، عَلَى أَنَّ الْخَطِيبَ قَالَ: (إِنَّهُ لَوْ سَمِعَ مِنَ الرَّاوِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نُسْخَةٌ، ثُمَّ نَسَخَ مِنَ الْأَصْلِ، اسْتُحِبَّ لَهُ الْعَرْضُ عَلَى الرَّاوِي أَيْضًا لِلتَّصْحِيحِ وَإِنْ قَابَلَ بِهِ) ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ خَطَأٌ وَنُقْصَانُ حُرُوفٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُهُ الرَّاوِي، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّهُ فِي أَصْلِهِ ; لِأَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ كَذَلِكَ رَوَاهُ فَكَرِهَ تَغْيِيرَ رِوَايَتِهِ - يَعْنِي: وَمَشَى عَلَى الصَّوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ - وَعَوَّلَ فِيهِ عَلَى حِفْظِهِ لَهُ وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ. ثُمَّ حَكَى ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَبِهِ يَتَأَيَّدُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ - يَعْنِي مِنَ الْعَرْضِ مَعَ الشَّيْخِ - أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ الْجَارُودِيِّ، بَلْ وَلَا مَانِعَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِهِ وَيَزُولُ الِاخْتِلَافُ. وَقَدْ قَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا التَّرَدُّدَ فِي مُرَادِ الْجَارُودِيِّ فَقَالَ: إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ مَعَ الشَّيْخِ أَوْ مَعَ مَوْثُوقٍ بِهِ فَهُوَ مُتَّجِهٌ، فَإِنَّ عِنَايَةَ الْمَرْءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 بِتَصْحِيحِ نُسْخَتِهِ أَشَدُّ مِنَ اعْتِنَاءِ غَيْرِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ التَّشْدِيدِ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا إِنْ قَابَلَ الطَّالِبُ بِنَفْسِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَقْرَأُ سَطْرًا مِنَ الْأَصْلِ ثُمَّ يَقْرَأُهُ بِعَيْنِهِ، فَهَذَا لَا يُفِيدُ ; لِأَنَّ الشَّخْصَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ بِنَفْسِهِ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ نُسْخَتَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَقْرَأُ كَلِمَةً أَوْ كَلِمَتَيْنِ فِي كِتَابِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ، فَهَذَا يَصِحُّ، إِلَّا أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ الَّذِي يَضِيعُ بِهِ الْعُمُرُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَلْيَجْعَلْ لِلْعَرْضِ قَلَمًا مُعَدًّا، ثُمَّ سَاقَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ لَاجَّهُ فِي أَمْرِ الْحَدِيثِ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ أَبْغَضُ مِنْ قَلَمِ الْعَرْضِ. فَائِدَةٌ: قَدْ مَضَى فِي الْبَابِ قَبْلَهُ حِكَايَةُ اسْتِحْبَابِ لَفْظِ الدَّارَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ مُقَابَلَةِ كُلِّ حَدِيثٍ لِئَلَّا يَكُونَ بَعْدُ فِي شَكٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ عَقِبَ كُلِّ بَابٍ أَوْ كَرَّاسٍ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْعَرْضُ، وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ، آخِرَ الْكِتَابِ حَتَّى كَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَازْكُلِّيُّ يَكْتُبُ مَا نَصُّهُ: صَحَّ بِالْمُعَارَضَةِ وَسَلِمَ بِالْمُقَابَلَةِ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْبَسْمَلَةِ إِلَى الْحَسْبَلَةِ. [صِحَّةُ السَّمَاعِ بِدُونِ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ] : (وَلْيَنْظُرِ السَّامِعُ) اسْتِحْبَابًا (حِينَ يَطْلُبُ) أَيْ: يَسْمَعُ (فِي نُسْخَةٍ) إِمَّا لَهُ أَوْ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ السَّامِعِينَ أَوِ الشَّيْخِ، فَهُوَ أَضْبَطُ وَأَجْدَرُ أَنْ يَفْهَمَ مَعَهُ مَا يَسْمَعُ، لِوُصُولِ الْمَقْرُوءِ إِلَى قَلْبِهِ مِنْ طَرِيقَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ كَمَا أَنَّ النَّاظِرَ فِي الْكِتَابِ إِذَا تَلَفَّظَ بِهِ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي قَلْبِهِ ; لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 مِنْ طَرِيقَيْنِ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي (الْمُوَفَّقِيَّاتِ) : (دَخَلَ عَلِيَّ أَبِي وَأَنَا أَنْظُرُ فِي دَفْتَرٍ وَأَرْوِي فِيهِ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي وَلَا أَجْهَرُ، فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لَكَ مِنْ رِوَايَتِكَ هَذِهِ مَا أَدَّى بَصَرُكَ إِلَى قَلْبِكَ، فَإِذَا أَرَدْتَ الرِّوَايَةَ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَاجْهَرْ بِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ مِنْهَا مَا أَدَّى بَصَرُكَ إِلَى قَلْبِكَ، وَمَا أَدَّى سَمْعُكَ إِلَى قَلْبِكَ) . وَلِهَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: (حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ) قَالَ: أَتَى جَمَاعَةً مِنَ الطَّلَبَةِ الْحَافِظَ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيَّ الْحَبَّالَ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ جُزْءًا، فَأَخْرَجَ بِهِ عِشْرِينَ نُسْخَةً، وَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ نُسْخَةً يُعَارِضُ بِهَا. وَيَتَأَكَّدُ النَّظَرُ إِذَا أَرَادَ السَّامِعُ النَّقْلَ مِنْهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ، لِكَوْنِهِ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَدْ تَوَلَّى الْعَرْضَ بِنَفْسِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ إِدْخَالِ هَذَا الْفَرْعِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَبِكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا صَرَّحَ الْخَطِيبُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْمَكِّيِّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَيُجْزِئُ أَلَّا أَنْظُرَ فِي النُّسْخَةِ حِينَ السَّمَاعِ وَأَقُولُ: ثَنَا. مِثْلَ الصَّكِّ شَهِدَ بِمَا فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ؟ فَقَالَ لِي: لَوْ نَظَرْتَ فِي الْكِتَابِ كَانَ أَطْيَبَ لِنَفْسِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 (وَقَالَ يَحْيَى) بْنُ مَعِينٍ كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ فِيهِ وِجَادَةٌ، وَأَوْرَدَهُ لِذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ (يَجِبُ) النَّظَرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَم يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ وَالْمُحَدِّثُ يَقْرَأُ: أَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِذَلِكَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا عِنْدِي فَلَا، وَلَكِنَّ عَامَّةَ الشُّيُوخِ هَكَذَا سَمَاعُهُمْ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ يُحَدِّثُ مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ فَيَكْتُبُونَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ نَظَرُوا فِيهِ. وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ مَعِينٍ بِهَذَا، فَقَدْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ أَهْلُ بَلَدٍ يُنْظَرُ إِلَيْكُمْ، يَجِيءُ رَجُلٌ يَسْأَلُنِي فِي أَحَادِيثَ وَأَنْتُمْ لَا تَنْظُرُونَ فِيهَا ثُمَّ تَكْتُبُونَهَا، لَا أُحِلُّ لِمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَنْسَخَ مِنْهَا شَيْئًا. وَنَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا الثَّوْرِيُّ قَالَ: ائْتُونِي بِرَجُلٍ يَكْتُبُ، خَفِيفِ الْكِتَابِ. قَالَ: فَأَتَيْنَا بِهِشَامِ بْنِ يُوسُفَ فَكَانَ هُوَ يَكْتُبُ وَنَحْنُ نَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا فَرَغَ خَتَمْنَا الْكِتَابَ حَتَّى نَنْسَخَهُ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ وَصِحَّةُ السَّمَاعِ وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ أَصْلًا فِي الْكِتَابِ حَالَةَ السَّمَاعِ. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ الِاشْتَرَاطُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ النُّسْخَةِ مَأْمُونًا مَوْثُوقًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 بِضَبْطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ الْعَرْضُ بِأَصْلِ الرَّاوِي، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ، كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْخَطِيبِ، لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ، وَعِبَارَتُهُ: (وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ النُّسْخَةِ مَأْمُونًا فِي نَفْسِهِ، مَوْثُوقًا بِضَبْطِهِ، جَازَ لِمَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ أَنْ يَتْرُكَ النَّظَرَ مَعَهُ اعْتِمَادًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ وَيَجُوزُ تَرْكُ النَّظَرِ حِينَ الْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَ الْعَرْضُ قَدْ سَبَقَ بِالْأَصْلِ) . ثُمَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْخَطِيبِ الْمُقَابَلَةَ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبِهِ صَرَّحَ عِيَاضٌ أَيْضًا فَقَالَ: (لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ التَّقِيِّ الرِّوَايَةُ مِمَّا لَمْ يُقَابِلْ، وَلَا يَنْخَدِعُ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى نَسْخِ الثِّقَةِ الْعَارِفِ، وَلَا عَلَى نَسْخِهِ هُوَ بِيَدِهِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ وَتَصْحِيحٍ ; فَإِنَّ الْفِكْرَ يَذْهَبُ، وَالْقَلْبَ يَسْهُو، وَالْبَصَرَ يَزِيغُ، وَالْقَلَمَ يَطْغَى. بَلْ وَاخْتَارَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ شَيْخِهِ شَيْئًا سَمِعَهُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ لَا يَعْلَمُ هَلْ هُوَ كُلُّ الَّذِي سَمِعَهُ أَوْ بَعْضُهُ؟ وَهَلْ هُوَ عَلَى وَجْهِهِ أَوْ لَا؟) . [الشُّرُوطُ لِجَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنْ كِتَابٍ غَيْرِ مُعَارَضٍ] : (وَجَوَّزَ الْأُسْتَاذُ) أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ (أنْ يَرْوِيَ) الْمُحَدِّثُ (مِنْ) فَرْعٍ (غَيْرِ مُقَابَلٍ) ، بَلْ (وَ) نَسَبَ الْجَوَازَ أَيْضًا (لِلْخَطِيبِ) كَمَا فِي (كِفَايَتِهِ) ، لَكِنْ (إِنْ بَيَّنَ) عِنْدَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْ، (وَ) كَانَ (النَّسْخُ) لِذَلِكَ الْفَرْعِ (مِنْ أَصْلٍ) بِالنَّقْلِ مُعْتَمَدٍ. وَسَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى اشْتِرَاطِ أَوَّلِهِمَا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْ، لِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 عَسَى يَقَعُ مِنْ زَلَّةٍ أَوْ سُقُوطٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ شَيْخُ الْخَطِيبِ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ رَوَى لَنَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً قَالَ فِيهَا: أَنَا فُلَانٌ. وَلَمْ أُعَارِضْ بِالْأَصْلِ. (وَلْيُزَدْ) وَهُوَ شَرْطٌ ثَالِثٌ (صِحَّةُ مَا نَقَلَ نَاسِخٌ) لِذَلِكَ الْفَرْعِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ سَقِيمَ النَّقْلِ كَثِيرَ السَّقْطِ، (فَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ قَدْ (شَرَطَهُ) . كُلُّ ذَلِكَ مَعَ مُلَاحَظَةِ بَرَاعَةِ الْقَارِئِ أَوِ الشَّيْخِ أَوْ بَعْضِ السَّامِعِينَ ; لِأَنَّ بِمَجْمُوعِهِ يَخْرُجُ مِنَ الْعُهْدَةِ، وَلَا يُتَّهَمُ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا رَوَى، لَا سِيَّمَا بَعْدَ اصْطِلَاحِ الِاسْتِجَازَةِ الَّتِي بِهَا يَنْجَبِرُ مَا لَعَلَّهُ يَتَّفِقُ مِنْ خَلَلٍ، وَكَوْنِ الْمَلْحُوظِ أَيْضًا كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ قُبَيْلَ مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ بَقَاءَ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ خَاصَّةً، بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَإِنْ مَنَعَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. (ثُمَّ اعْتَبِرْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (مَا ذُكِرَا) مِنَ الشُّرُوطِ (فِي أَصْلِ الْأَصْلِ) بِالنَّقْلِ، وَ (لَا تَكُنْ) لِقِلَّةِ مُبَالَاتِكَ بِمَا يَتَضَمَّنُ عَدَمَ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ (مُهَوِّرَا) كَمَنْ يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَى سَمَاعِ شَيْخِهِ بِذَاكَ الْكِتَابِ وَيَقْرَؤُهُ مِنْ أَيِ نُسْخَةٍ اتَّفَقَتْ بِدُونِ مُبَالَاةٍ. [تَخْرِيجُ السَّاقِطِ] (584) وَيُكْتَبُ السَّاقِطُ وَهْوَ اللَّحَقُ ... حَاشِيَةً إِلَى الْيَمِينِ يُلْحَقُ (585) مَا لَمْ يَكُنْ آخِرَ سَطْرٍ وَلْيَكُنْ ... لِفَوْقُ وَالسُّطُورُ أَعْلَى فَحَسَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 (586) وَخَرِّجَنْ لِلسَّقْطِ مِنْ حَيْثُ سَقَطْ مُنْعَطِفًا لَهُ وَقِيلَ صِلْ بِخَطْ ... (587) وَبَعْدَهُ اكْتُبْ صَحَّ أَوْ زِدْ رَجَعَا أَوْ كَرِّرِ الْكِلْمَةَ لَمْ تَسْقُطْ مَعَا ... (588) وَفِيهِ لَبْسٌ وَلِغَيْرِ الْأَصْلِ خَرِّجْ بِوَسْطِ كِلْمَةِ الْمَحَلِّ ... (589) وَلِعِيَاضٍ لَا تُخَرِّجْ ضَبِّبِ أَوْ صَحِّحَنْ لِخَوْفِ لَبْسٍ وَأُبِي [تَخْرِيجُ السَّاقِطِ وَأَصْلُهُ] : (تَخْرِيجُ السَّاقِطِ) أَيْ: كَيْفِيَّةُ التَّخْرِيجِ لَهُ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنَ التَّخْرِيجِ لِلْحَوَاشِي وَنَحْوِهَا، وَكَيْفِيَّةُ كِتَابَةِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] بَعْدَ نُزُولِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: (فَأَلْحَقْتُهَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ فِي كَتِفٍ) . [كَيْفِيَّةُ إِلْحَاقِ السَّاقِطِ] : (وَيُكْتَبُ السَّاقِطُ) غَلَطًا مِنْ أَصْلِ الْكِتَابِ (وَهْوَ) أَيِ: الْمَكْتُوبُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْكُتَّابِ (اللَّحَقُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ أَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ: كَأَنَّهُ بَيْنَ أَسْطُرٍ لَحَقٌ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِلْحَاقِ، (حَاشِيَةً) أَيْ: فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ أَوْ بَيْنَ سُطُورِهِ إِنْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً لَكِنَّهُ فِي الْحَاشِيَةِ أَوْلَى لِسَلَامَتِهِ مِنْ تَغْلِيسٍ مَا يَقْرَأُ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتِ السُّطُورُ ضَيِّقَةً مُتَلَاصِقَةً، وَلْيَكُنِ السَّاقِطُ فِي جَمِيعِ السَّطْرِ إِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ (إِلَى) جِهَةٍ (الْيَمِينِ) مِنْ جَانِبَيِ الْوَرَقَةِ لِشَرَفِهِ (يَلْحَقُ مَا لَمْ يَكُنْ) السَّاقِطُ (آخِرَ سَطْرٍ) فَإِنَّهُ يُلْحَقُ إِلَى جِهَةِ الْيَسَارِ لِلْأَمْنِ حِينَئِذٍ مِنْ نَقْصٍ فِيهِ بَعْدَهُ، وَلِيَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْأَصْلِ، وَإِنَ أَلْحَقَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا أَيْضًا لِجِهَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الْيَمِينِ، فَالْيَسَارُ أَوْلَى. فَإِنْ تَكَرَّرَ أُلْحِقَ الثَّانِي لِجِهَةِ الْيَسَارِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمَا لَوْ جُمِعَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ، وَإِنَ أُلْحِقَ الْأَوَّلُ فِي الْيَسَارِ وَالثَّانِي فِي الْيَمِينِ لَقَابَلَ طَرَفَا التَّخْرِيجَتَيْنِ، وَصَارَ يُتَوَهَّمُ بِذَلِكَ الضَّرْبُ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا، لِكَوْنِهِ أَحَدَ طُرُقِ الضَّرْبِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يُبْعِدُ التَّوَهُّمَ رُؤْيَةُ اللَّحَقِ مَكْتُوبًا بِالْجَانِبَيْنِ مُقَابِلَ التَّخْرِيجَتَيْنِ. وَلْيَكُنِ السَّاقِطُ فِي السَّطْرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى سَطْرٍ مُلَاصِقًا لِأَصْلِ الْكِتَابِ صَاعِدًا (لِفَوْقُ) بِضَمِ الْقَافِ، إِلَى أَعَلَى الْوَرَقَةِ لَا نَازِلًا إِلَى أَسْفَلِهَا لِاحْتِمَالِ وُقُوعِ سَقْطٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَجِدُ لَهُ مُقَابِلَهُ مَوْضِعًا، أَوْ كَتَبَ الْأَوَّلَ إِلَى أَسْفَلَ. (وَ) إِنَّ زَادَ عَلَى سَطْرٍ فَلْتَكُنِ (السُّطُورُ أَعْلَى) الطُّرَّةِ الْمُقَابِلُ لِمَحَلِّهِ نَازِلًا بِهَا إِلَى أَسْفَلَ بِحَيْثُ تَنْتَهِي سُطُورُهُ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ إِنْ كَانَ اللَّحَقُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ ابْتَدَأَ سُطُورَهُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ بِحَيْثُ تَنْتَهِي سُطُورُهُ إِلَى جِهَةِ طَرَفِ الْوَرَقَةِ، هَذَا فِيمَا يُكْتَبُ صَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ اللَّحَقُ نَازِلًا حَيْثُ كَانَ فِي السَّقْطِ الثَّانِي أَوْ خَالَفَ فِي الْأَوَّلِ، انْعَكَسَ الْحَالُ، ثُمَّ إِنِ اتَّفَقَ انْتِهَاءُ الْهَامِشِ قَبْلَ فَرَاغِ السَّقْطِ اسْتَعَانَ بِأَعْلَى الْوَرَقَةِ أَوْ بِأَسْفَلِهَا حَسْبَمَا يَكُونُ اللَّحَقُ مِنْ كِلَا الْجِهَتَيْنِ (فَ) هَذَا الِاصْطِلَاحُ قَدْ (حَسُنَ) مِمَّنْ يَفْعَلُهُ، كُلُّ هَذَا إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ بِعَدَمِ لَحَقٍ قَبْلَهُ فِي السَّطْرِ نَفْسِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ. وَكَذَا إِنْ كَانَ الْهَامِشُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ عَرِيضًا كَمَا هُوَ صَنِيعُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَلَمْ يَضِقْ أَحَدُهُمَا مَعَ ذَلِكَ بِالْحَبْكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَحَرَّى فِيمَا يَزُولُ مَعَهُ الْإِلْبَاسُ، وَلَا يُظْلِمُ بِهِ الْقِرْطَاسُ مَعَ الْحِرْصِ عَلَى عَدَمِ إِيصَالِ الْكِتَابَةِ بِطَرَفِ الْوَرَقَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 بَلْ يَدَعُ مَا يَحْتَمِلُ الْحَكَّ مِرَارًا فَقَدْ تَعَطَّلَ بِسَبَبِ إِغْفَالِ ذَلِكَ الْكَثِيرُ. (وَخَرِّجَنْ) بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْخَفِيفَةِ (لِلسَّقْطِ) أَيِ: السَّاقِطِ الَّذِي كَتَبْتَهُ أَوْ سَتَكْتُبُهُ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ مِنْ (حَيْثُ سَقَطْ) خَطًّا صَاعِدًا إِلَى تَحْتِ السَّطْرِ الَّذِي فَوْقَهُ يَكُونُ (مُنْعَطِفًا لَهُ) أَيْ: لِجِهَةِ السَّقْطِ مِنَ الْحَاشِيَةِ يَسِيرًا لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَيْهِ. (وَقِيلَ) : لَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ بِالِانْعِطَافِ بَلْ (صِلْ) بَيْنَ الْخَطِّ وَأَوَّلِ اللَّحَقِ بِخَطٍّ مُمْتَدٍّ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا وَإِنْ قَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ: إِنَّهُ أَجْوَدُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الْبَيَانِ. فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: غَيْرُ مَرَضِيٍّ. بَلْ قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ تَسْخِيمٌ لِلْكِتَابِ وَتَسْوِيدٌ لَهُ، وَإِنْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَثُرَ التَّخْرِيجُ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عِنْدَنَا. وَلِذَا اخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. نَعَمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يُقَابِلُ النَّقْصَ خَالِيًا، وَاضْطُرَّ لِكِتَابَتِهِ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، مَدَّ حِينَئِذٍ الْخَطَّ إِلَى أَوَّلِ اللَّحَقِ كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: جَيِّدٌ حَسَنٌ. وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ يَكْتُبَ قُبَالَهُ إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ: يَتْلُوهُ كَذَا فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ. أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ رَمْزٌ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَزُولُ بِهِ اللَّبْسُ. (وَبَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّاقِطِ وَلَوْ كَلِمَةً (اكْتُبْ) إِشَارَةً إِلَى انْتِهَائِهِ وَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ (صَحَّ) صَغِيرَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا، (أَوْ زِدْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 مَعَهَا كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ (رَجَعَا أَوْ) لَا تَكْتُبْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، بَلِ اكْتُبِ: انْتَهَى اللَّحَقُ. كَمَا حَكَّاهُ عِيَاضٌ أَيْضًا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَفِيهِمَا تَطْوِيلٌ، أَوِ اقْتَصِرْ عَلَى (رَجْعٍ) كَمَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا. أَوْ (كَرِّرِ الْكِلْمَةَ) بِسُكُونِ اللَّامِ، الَّتِي (لَمْ تَسْقُطْ) مِنْ أَصْلِ الْكِتَابِ وَهِيَ تَالِيَةٌ لِلْمُلْحَقِ بِأَنْ تَكْتُبَهَا بِالْهَامِشِ أَيْضًا (مَعَا وَ) هَذَا وَإِنْ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنِ اخْتِيَارِ بَعْضِ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَقَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ: إِنَّهُ أَجْوَدُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِيٍّ. وَقَالَ عِيَاضٌ - وَتَبِعَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ -: (إِنَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ) . (وَفِيهِ لَبْسٌ) فَرُبَّ كَلِمَةٍ تَجِيءُ فِي الْكَلَامِ مَرَّتَيْنِ بَلْ ثَلَاثًا لِمَعْنًى صَحِيحٍ، فَإِذَا كَرَّرْنَا الْكَلِمَةَ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تُوَافِقَ مَا لَا يَمْتَنِعُ تَكْرِيرُهُ ; إِمَّا جَزْمًا فَتَكُونُ زِيَادَةً مُوَجَّهَةً، أَوِ احْتِمَالًا فَتُوجِبُ ارْتِيَابًا وَزِيَادَةَ إِشْكَالٍ. قَالَ: وَالصَّوَابُ التَّصْحِيحُ. لَكِنْ قَدْ نُسِبَ لِشَيْخِنَا: إِنْ صَحَّ أَيْضًا رُبَّمَا انْتَظَمَ الْكَلَامُ بَعْدَهَا بِهَا فَيُظَنُّ أَنَّهَا مِنَ الْكِتَابِ. انْتَهَى. وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِي قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يُبْعِدُهُ فِيهِمَا مَعًا الْإِحَاطَةُ بِسُلُوكِ الْمُقَابِلِ لَهُ دَائِمًا فِيمَا يَحْسُنُ مَعَهُ الْإِثْبَاتُ وَمِمَّا لَا يَحْسُنُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْأَحْسَنُ الرَّمْزُ بِمَا لَا يُقْرَأُ، كَأَنْ لَا تُجَوَّدَ الْحَاءُ مَنْ صَحَّ كَمَا هُوَ صَنِيعُ كَثِيرِينَ، وَكَأَنَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ اسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَصْغِيرَهَا. (وَلِ) مَا يَكُونُ مِنْ (غَيْرِ الْأَصْلِ) مِمَّا يُكْتَبُ فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ مِنْ شَرْحٍ أَوْ فَائِدَةٍ أَوْ تَنْبِيهٍ عَلَى غَلَطٍ أَوِ اخْتِلَافِ رِوَايَةٍ أَوْ نُسْخَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، (خَرِّجْ) لَهُ (بِوَسْطِ) بِإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ (كِلْمَةِ) بِسُكُونِ اللَّامِ (الْمَحَلِّ) الَّتِي تَشْرَحُ، أَوْ يُنَبِّهُ عَلَى مَا فِيهَا لَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ لِيَفْتَرِقَ بِذَلِكَ عَنِ الْأَوَّلِ، (وَ) لَكِنْ (لِعِيَاضٍ لَا تُخَرِّجْ) بَلْ (ضَبِّبِ) عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ (أَوْ صَحِّحَنْ) بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، أَيِ: اكْتُبْ (صَحَّ) عَلَيْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 (لِخَوْفِ) دُخُولِ (لَبْسٍ) فِيهِ حَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الْأَصْلِ لِكَوْنِ ذَاكَ هُوَ الْمُخْتَصَّ بِالتَّخْرِيجِ لَهُ. (وَ) قَدْ (أُبِي) ; أَيْ: مُنِعَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الضَّبَّةِ وَالتَّصْحِيحِ اصْطُلِحَ بِهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، فَخَوْفُ اللَّبْسِ أَيْضًا حَاصِلٌ، بَلْ هُوَ فِيهِ أَقْرَبُ لِافْتِرَاقِ صُورَتَيِ التَّخْرِيجِ فِي الْأَوَّلِ، وَاخْتِصَاصِ السَّاقِطِ بِقَدْرٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْإِشَارَةُ فِي آخِرِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَصْلِ، بَلْ رُبَّمَا أُشِيرَ لِلْحَاشِيَةِ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَمْدُودَةٍ، وَلِلنُّسْخَةِ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ إِنْ لَمْ يُرْمَزْ لَهَا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (إِنَّ التَّخْرِيجَ أَوْلَى وَأَدَلُّ) . قَالَ: (وَفِي نَفْسِ هَذَا التَّخْرِيجِ مَا يَمْنَعُ الْإِلْبَاسَ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا: مَحَلُّ قَوْلِ عِيَاضٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَلَامَةٌ تُمَيِّزُهُ، كَلَوْنِ الْحُمْرَةِ أَوْ دِقَّةِ الْقَلَمِ) . انْتَهَى. وَلْيُلَاحَظْ فِي الْحَوَاشِي وَنَحْوِهَا عَدَمُ الْكِتَابَةِ بَيْنَ السُّطُورِ، وَتَرْكُ مَا يَحْتَمِلُ الْحَكَّ مِنْ جَوَانِبِ الْوَرَقَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ، وَلَا يَضْجَرُ مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالتَّحْقِيقِ لَهُ. وَقَدْ أَنْشَدَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ وَالْحَدِيثَ فَلَا ... يَضْجَرُ مِنْ خَمْسَةٍ يُقَاسِيهَا دَرَاهِمَ لِلْعُلُومِ يَجْمَعُهَا ... وَعِنْدَ نَشْرِ الْحَدِيثِ يُفْنِيهَا يُضْجِرُهُ الضَّرْبُ فِي دَفَاتِرِهِ ... وَكَثْرَةُ اللَّحْقِ فِي حَوَاشِيهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 يَغْسِلُ أَثْوَابَهُ وَبِزَّتَهُ مِنْ أَثَرِ الْحِبْرِ لَيْسَ يُنْقِيهَا وَاللَّحَقُ فِي النَّظْمِ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَكَأَنَّهُ خَفَّفَهَا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: خَيْرُ مَا يَقْتَنِي اللَّبِيبُ كِتَابٌ ... مُحْكَمُ النَّقْلِ مُتْقَنُ التَّقْيِيدِ خَطَّهُ عَارِفٌ نَبِيلٌ وَعَانَاهُ ... فَصَحَّ التَّبْيِيضُ بِالتَّسْوِيدِ لَمْ يَخُنْهُ إِتْقَانُ نَقْطٍ وَشَكْلٍ ... لَا وَلَا عَابَهُ لِحَاقُ الْمَزِيدِ وَكَأَنَّ التَّخْرِيجَ فِي طُرَّتَيْهِ ... طُرَرٌ صَفَّقَتْ بِيضَ الْخُدُودِ فَيُنَاجِيكَ شَخْصُهُ مِنْ قَرِيبٍ ... وَيُنَادِيكَ نَصُّهُ مِنْ بَعِيدٍ فَاصْحَبَنَّهُ تَجِدْهُ خَيْرَ جَلِيسٍ ... وَاخْتَبِرْهُ تَجِدْهُ آنَسَ الْمُرِيدِ وَلَا يَكْتُبُ الْحَوَاشِيَ فِي كِتَابٍ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ، وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ فِيهِ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ بِدُونِهِ فِي الْحَدِيثِ قِياسًا عَلَى الْقُرْآنِ. [التَّصْحِيحُ وَالتَّمْرِيضُ] (590) وَكَتَبُوا صَحَّ عَلَى الْمُعَرَّضِ ... لِلشَّكِّ إِنْ نَقْلًا وَمَعْنًى ارْتُضِيَ (591) وَمَرَّضُوا فَضَبَّبُوا صَادًا تُمَدْ ... فَوْقَ الَّذِي صَحَّ وُرُودًا وَفَسَدْ (592) وَضَبَّبُوا فِي الْقَطْعِ وَالْإِرْسَالِ ... وَبَعْضُهُمْ فِي الْأَعْصُرِ الْخَوَالِي (593) يَكْتُبُ صَادًا عِنْدَ عَطْفِ الِاسْمَا ... تُوهِمُ تَضْبِيبًا كَذَاكَ إِذْ مَا (594) يَخْتَصِرُ التَّصْحِيحَ بَعْضٌ يُوهِمُ ... وَإِنَّمَا يَمِيزُهُ مَنْ يَفْهَمُ [التَّصْحِيحُ] : (التَّصْحِيحُ) وَهُوَ كِتَابَةُ (صَحَّ) (وَالتَّمْرِيضُ) وَهُوَ التَّضْبِيبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 (وَكَتَبُوا) أَيْ: مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَهْلِ التَّقْيِيدِ وَمَنْ تَأَسَّى بِهِمْ: (صَحَّ) تَامَّةً كَبِيرَةً، أَوْ صَغِيرَةً وَهُوَ أَحْسَنُ (عَلَى) أَيْ: فَوْقَ (الْمُعَرَّضِ) مِنْ حَرْفٍ فَأَكْثَرَ (لِلشَّكِّ) أَوِ الْخِلَافِ فِيهِ لِأَجْلِ تَكْرِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ (إِنْ نَقَلَا) أَيْ: رِوَايَةً (وَمَعْنًى ارْتُضِي) الْمُصَحَّحُ عَلَيْهِ إِشَارَةً بِهَا إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْفُلْ عَنْهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضُبِطَ وَصَحَّ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لِئَلَّا يُبَادِرَ الْوَاقِفَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ إِلَى تَخْطِئَتِهِ. وَقَالَ يَاقُوتٌ الرُّومِيُّ ثُمَّ الْحَمَوِيُّ الْكَاتِبُ: بَلْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِيهِ فَبَحَثَ فِيهِ إِلَى أَنْ صَحَّ فَخَشِيَ أَنْ يُعَاوِدَهُ الشَّكُّ فَكَتَبَهَا لِيَزُولَ عَنْهُ الشَّكُّ فِيمَا بَعْدُ. ثُمَّ إِنَّ كَوْنَهَا تُكْتَبُ أَعْلَى الْحَرْفِ هُوَ الْأَشْهَرُ الْأَحْسَنُ، وَإِلَّا فَلَوْ كُتِبَتْ عِنْدَهُ بِالْحَاشِيَةِ مَثَلًا لَا بِجَانِبِهِ لِئَلَّا يُلْتَبَسَ، كَفَى، لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: كِتَابَةُ (صَحٍّ) عَلَى الْكَلَامِ أَوْ عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّ كِتَابَتَهَا عَلَى الْمُكَرَّرِ مِنَ الْمُعَرَّضِ هُوَ الْأَشْهَرُ أَيْضًا. وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ إِذَا تَكَرَّرَتْ كَلِمَاتٌ أَوْ كَلِمَةٌ يَكْتُبُ عَدَدَهَا فِي الْحَاشِيَةِ بِحُرُوفِ الْجُمَلِ. [التَّمْرِيضُ] : (وَ) كَذَا (مَرَّضُوا فَضَبَّبُوا) مَا مَرَّضُوهُ حَيْثُ جَعَلُوا (صَادًا) مُهْمَلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ " صَحَّ "، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْجَمَةً مِنْ (ضَبَّهُ) (تُمَدْ) بِدُونِ تَجْوِيفٍ لِلْمَدِّ بَلْ هَكَذَا " صَـ " (فَوْقَ الَّذِي صَحَّ) مِنْ حَرْفٍ فَأَكْثَرَ، (وُرُودًا) أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ فِي الرِّوَايَةِ، (وَ) لَكِنْ (فَسَدْ) مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَائِزٍ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ شَاذًّا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِهَا، أَوْ مُصَحَّفًا أَوْ نَاقِصًا لِكَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ، أَوْ مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا، أَوْ أَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ لِلْإِشَارَةِ بِالْمُمَرَّضِ ; لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِخَطِّ الضَّرْبِ الْآتِي، لَا سِيَّمَا عِنْدَ صِغَرِ فَتْحَتِهَا إِشَارَةً بِنِصْفِ " صَحَّ " إِلَى أَنَّ الصِّحَّةِ لَمْ تَكْمُلْ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 ذَاكَ الْمَحَلِّ مَعَ صِحَّةِ نَقْلِهِ وَرِوَايَتِهِ كَذَلِكَ، وَتَنْبِيهًا بِهِ لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَثَبِّتٌ فِي نَقْلِهِ غَيْرُ غَافِلٍ، وَإِنَّمَا اخْتُصَّ التَّمْرِيضُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فِيمَا يَظْهَرُ لِعَدَمِ تَحَتُّمِ الْخَطَأِ فِي الْمُعَلَّمِ عَلَيْهِ، بَلْ لَعَلَّ غَيْرَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّنْ يَقِفُ عَلَيْهِ يُخَرِّجُ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا. يَعْنِي: وَيَتَّجِهُ الْمَعْنَى كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَالِكٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِ " الصَّحِيحِ "، أَوْ يَظْهَرُ لَهُ هُوَ بَعْدُ فِي تَوْجِيهِ صِحَّتِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْآنَ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ تَكْمِيلُهَا (صَحَّ) الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الْمُعَرَّضِ لِلشَّكِّ. وَوَجَدْتُ فِي كَلَامِ يَاقُوتٍ مَا يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: الضَّبَّةُ - وَهِيَ بَعْضُ (صَحَّ) - تُكْتَبُ عَلَى شَيْءٍ فِيهِ شَكٌّ ; لِيُبْحَثَ فِيهِ، فَإِذَا تَحَرَّرَ لَهُ أَتَمَّهَا بِالْحَاءِ فَتَصِيرُ (صَحَّ) ، وَلَوْ جَعَلَ لَهَا عَلَامَةً غَيْرَهَا لَتَكَلَّفَ الْكَشْطَ لَهَا، وَكَتَبَ (صَحَّ) مَكَانَهَا. انْتَهَى. وَكَوْنُ الضَّبَّةِ لَيْسَتْ لِلْجَزْمِ بِالْخَطَأِ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ الصَّوَابُ مِنْ سَدِّ بَابِ الْإِصْلَاحِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ تَوْجِيهِ مَا ظُنَّ خَطَؤُهُ، وَقَدْ تَجَاسَرَ بَعْضُهُمْ - وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُحَدِّثِينَ كَمَا أَفَادَهُ عِيَاضٌ - كَأَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَقْشِيِّ أَحَدِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ. فَكَانَ كَمَا قَالَ تِلْمِيذُهُ عِيَاضٌ: إِذَا مَرَّ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ وَجْهُهُ أَصْلَحَهُ بِمَا يَظُنُّ اعْتِمَادًا عَلَى وُثُوقِهِ بِعِلْمِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا كَانَ فِي الْكِتَابِ، وَتَبَيَّنَ وَجْهُهُ، وَأَنَّ مَا غَيَّرَهُ إِلَيْهِ خَطَأٌ فَاسِدٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي إِصْلَاحِ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ. وَإِنْ كَانَ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ خَطَأً مَحْضًا عِنْدَ كُلِّ وَاقِفٍ عَلَيْهِ، كَتَبَ فَوْقَهُ (كَذَا) صَغِيرَةً، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ، وَبَيَّنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 الصَّوَابَ بِالْهَامِشِ كَمَا سَيَأْتِي فِي إِصْلَاحِ اللَّحْنِ. وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الضَّبَّةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ إِمَّا مِنْ ضَبَّةِ الْقَدَحِ الَّتِي تُجْعَلُ لِمَا يَكُونُ بِهِ مِنْ كَسْرٍ أَوْ خَلَلٍ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَا يُخْدَشُ فِيهِ بِأَنَّ ضَبَّةَ الْقَدَحِ لِلْجَبْرِ وَهِيَ هُنَا لَيْسَتْ جَابِرَةً، فَالتَّشْبِيهُ فِي كَوْنِهَا جُعِلَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى مَا فِيهِ خَلَلٌ. وَإِمَّا مِنْ ضَبَّةِ الْبَابِ لِكَوْنِ الْحَرْفِ مُقْفَلًا لَا يَتَّجِهُ لِقِرَاءَةٍ، كَمَا أَنَّ الضَّبَّةَ يُقْفَلُ بِهَا، أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ الْإِفْلِيلِيِّ بِكَسْرَةِ الْهَمْزَةِ وَفَاءٍ، نِسْبَةً إِلَى إِفْلِيلَ قَرْيَةٍ بِرَأْسِ عَيْنٍ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، لِكَوْنِ سَلَفِهِ نَزَلُوا بِهَا، يَرْوِي عَنِ الْأُصَيْلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ أَبُو مَرْوَانَ الطُّبْنِيُّ، مَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ 441 هـ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً. قَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي (مُخْتَصَرِهِ) : وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى صُورَةِ ضَبَّةٍ لِيُوَافِقَ صُورَتُهَا مَعْنَاهَا. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا مَا حَاصِلُهُ: مُقْتَضَى تَسْمِيَتِهَا ضَبَّةً أَنْ تَكُونَ ضَادُهَا مُعْجَمَةً، وَمُقْتَضَى تَتْمِيمِهَا بِحَاءِ (صَحَّ) أَنْ تَكُونَ مُهْمَلَةً. قَالَ: لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ تَكُونَ مُعْجَمَةً، (وَ) لَمْ يَخُصُّوا الضَّبَّةَ بِمَا تَقَدَّمَ، بَلْ (ضَبَّبُوا) أَيْضًا (فِي) مَوْضِعِ (الْقَطْعِ وَالْإِرْسَالِ) لِيَشْتَرِكَ فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ السَّقْطِ الْعَارِفُ وَغَيْرُهُ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ لَا يُدْرِكُهُ الْعَارِفُ إِلَّا بِالنَّظَرِ، فَيُكْفَى بِمَا يَثِقُ بِهِ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ذَلِكَ مُؤْنَةَ التَّعَبِ بِالتَّفْتِيشِ. (وَبَعْضُهُمْ فِي الْأَعْصُرِ الْخَوَالِي) حَسْبَمَا وُجِدَ فِي الْأُصُولِ الْقَدِيمَةِ (يَكْتُبُ) أَيْضًا (صَادًا عِنْدَ عَطْفِ الِاسْمَا) بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَيْثُ يُقَالُ مَثَلًا: حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ. فَ (تُوهِمُ) مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ كَوْنَهَا (تَضْبِيبًا) وَلَيْسَتْ بِضَبَّةٍ، بَلْ كَأَنَّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: عَلَامَةُ وَصْلٍ فِيمَا بَيْنَهُمَا أُثْبِتَتْ تَأْكِيدًا لِلْعَطْفِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَ الْخَبِيرِ مَكَانَ الْوَاوِ عَنْ، (كَذَاكَ إِذْ) أَيْ: حَيْثُ (مَا يَخْتَصِرُ التَّصْحِيحَ بَعْضٌ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الصَّادِ. (يُوهِمُ) أَيْضًا كَوْنَهُ تَضْبِيبًا، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيهَامِ مِمَّا قَبْلَهُ، (وَإِنَّمَا يُمَيِّزُهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ (مَنْ يَفْهَمُ) فَالْفِطْنَةُ وَالْإِتْقَانُ مِنْ خَيْرِ مَا أُوتِيَهُ الْإِنْسَانُ. [الْكَشْطُ وَالْمَحْوُ وَالضَّرْبُ] (595) وَمَا يَزِيدُ فِي الْكِتَابِ يُبْعَدُ ... كَشْطًا وَمَحْوًا وَبِضَرْبٍ أَجْوَدُ (596) وَصِلْهُ بِالْحُرُوفِ خَطًّا أَوْ لَا ... مِعْ عَطْفِهِ أَوْ كَتْبِ لَا ثُمَّ إِلَى (597) أَوْ نِصْفَ دَارَةٍ وَإِلَّا صِفْرَا ... فِي كُلِّ جَانِبٍ وَعَلِّمْ سَطْرَا (598) سَطْرًا إِذَا مَا كَثُرَتْ سُطُورُهْ ... أَوْ لَا وَإِنْ حَرْفٌ أَتَى تَكْرِيرُهْ (599) فَأَبْقِ مَا أَوَّلُ سَطْرٍ ثُمَّ مَا ... آخِرُ سَطْرٍ ثُمَّ مَا تَقَدَّمَا (600) أَوِ اسْتَجِدْ قَوْلَانِ مَا لَمْ يُضَفِ ... أَوْ يُوصَفْ أَوْ نَحْوُهُمَا فَأَلِّفِ (الْكَشْطُ وَالْمَحْوُ وَالضَّرْبُ) وَغَيْرُهَا مِمَّا يُشَارُ بِهِ لِإِبْطَالِ الزَّائِدِ وَنَحْوِهِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِإِلْحَاقِ السَّاقِطِ ظَاهِرَةٌ. (وَمَا يَزِيدُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ: يُكْتَبُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، (يُبْعَدُ) عَنْهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مِمَّا سَلَكَهُ الْأَئِمَّةُ: [مَعْنَى الْكَشْطِ وَالْمَحْوِ] : إِمَّا كَشْطًا ; أَيْ بِالْكَشْطِ - وَهُوَ بِالْكَافِ وَالْقَافِ - سَلْخُ الْقِرْطَاسِ بِالسِّكِّينِ وَنَحْوِهَا، تَقُولُ: كَشَطْتُ الْبَعِيرَ كَشْطًا، نَزَعْتَ جِلْدَهُ، وَكَشَطْتُ الْجُلَّ عَنْ ظَهْرِ الْفَرَسِ، وَالْغِطَاءَ عَنِ الشَّيْءِ، إِذَا كَشَفْتُ عَنْهُ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْكَشْطِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 بِالْبَشْرِ تَارَةً، وَبِالْحَكِّ أُخْرَى، إِشَارَةً إِلَى الرِّفْقِ بِالْقِرْطَاسِ. [طُرُقُ الْمَحْوِ] : (وَ) إِمَّا (مَحْوًا) ; أَيْ: بِالْمَحْوِ، وَهُوَ الْإِزَالَةُ بِدُونِ سَلْخٍ حَيْثُ أَمْكَنَ، بِأَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ فِي لَوْحٍ أَوْ رَقٍّ أَوْ وَرَقٍ صَقِيلٍ جِدًّا فِي حَالِ طَرَاوَةِ الْمَكْتُوبِ، وَأَمْنِ نُفُوذِ الْحِبْرِ بِحَيْثُ يَسْوَدُّ الْقِرْطَاسُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَتَنَوَّعُ طُرُقُ الْمَحْوِ. يَعْنِي: فَتَارَةً يَكُونُ بِالْإِصْبَعِ أَوْ بِخِرْقَةٍ. قَالَ: وَمِنْ أَغْرَبِهَا مَعَ أَنَّهُ أسْلَمُهَا مَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا كَتَبَ الشَّيْءَ ثُمَّ لَعِقَهُ. قَالَ: وَإِلَى هَذَا يُومِئُ مَا رُوِّينَا. يَعْنِي مِمَّا أَسْنَدَهُ عِيَاضٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يُرَى فِي ثَوْبِ الرَّجُلِ وَشَفَتَيْهِ مِدَادٌ. يَعْنِي: لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى اشْتِغَالِهِ بِالتَّحْصِيلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَكَذَا أَخْبَرَنِي أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ أَنَّ ثِيَابَهُ كَأَنَّمَا أُمْطِرَتْ مِدَادٌ. وَلَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي (الْأَدَبِ) أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ رَأَى عَلَى ثَوْبِهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَأَخَذَ مِنْ مِدَادِ الدَّوَاةِ وَطَلَاهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْمِدَادُ بِنَا أَحْسَنُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ. وَأَنْشَدَ: إِنَّمَا الزَّعْفَرَانُ عِطْرُ الْعَذَارَى ... وَمِدَادُ الدُّويِ عِطْرُ الرِّجَالِ وَنَحْوُهُ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ كَانَ يَأْكُلُ طَعَامًا فَوَقَعَ مِنْهُ عَلَى ثَوْبِهِ فَكَسَاهُ حِبْرًا، وَقَالَ: هَذَا أَثَرُ عِلْمٍ، وَذَلِكَ أَثَرُ شَرَهٍ. وَلِلْأَدِيبِ أَبِي الْحَسَنِ الْفَنْجُكِرْدِيِّ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 مِدَادُ الْفَقِيهِ عَلَى ثَوْبِهِ ... أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْغَالِيهْ وَمَنْ طَلَبَ الْفِقْهَ ثُمَّ الْحَدِيثَ ... فَإِنَّ لَهُ هِمًّةً عَالِيَهْ وَلَوْ تَشْتَرِي النَّاسُ هَذِي الْعُلُومَ ... بِأَرْوَاحِهِمْ لَمْ تَكُنْ غَالِيَهْ رُوَاةُ الْأَحَادِيثِ فِي عَصْرِنَا ... نُجُومٌ وَفِي الْعُصُرِ الْخَالِيَهْ وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وُزِنَ حِبْرُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ، فَيَرْجَحُ حِبْرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ. بَلْ يُرْوَى فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ النُّمَيْرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: ( «يَحْشُرُ اللَّهُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَأَهْلَ الْعِلْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحِبْرُهُمْ خَلُوقٌ يَفُوحُ» ) الْحَدِيثَ. [مَعْنَى الضَّرْبِ وَتَجْوِيدِهِ عَلَى الْأَوَّلِينَ] : وَإِمَّا (بِضَرْبٍ) عَلَى الزَّائِدِ وَهُوَ (أَجْوَدُ) مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ الْمُسْتَحَبُّ لِقَوْلِ الرَّامَهُرْمُزِيِّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَكُّ تُهْمَةٌ. يَعْنِي: بِإِسْكَانِ الْهَاءِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تُحَرَّكُ مِنَ الِاتِّهَامِ بِمَعْنَى الظَّنِّ، حَيْثُ يَتَرَدَّدُ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَكَانَ الْكَشْطُ لِكِتَابَةِ شَيْءٍ بَدَلَهُ ثُمَّ لَمْ يَتَيَسَّرْ، أَوْ لَا. وَلَكِنْ قَدْ يَزُولُ الِارْتِيَابُ حِينَئِذٍ بِكِتَابَةِ (صَحَّ) فِي الْبَيَاضِ كَمَا رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُهُ، نَعَمْ رُبَّمَا يَثْبُتُ مَا كُشِطَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ، فَيَشُقُّ عَلَى مَنْ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ عَوْدُ كِتَابَتِهِ ثَانِيًا، فَإِذَا كَانَ قَدْ خَطَّ عَلَيْهِ أَوَّلًا اكْتَفَى بِعَلَامَةِ الرَّاوِي الْآخَرِ عَلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ عِيَاضٌ عَنْ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 الْأَسَدِيِّ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ - قَالَ: أَعْنِي هَذَا الْمُبْهَمَ - وَكَانَ الشُّيُوخُ يَكْرَهُونَ حُضُورَ السِّكِّينِ مَجْلِسَ السَّمَاعِ حَتَّى لَا يُبْشَرَ شَيْءٌ. وَلَكِنْ قَدِ اخْتَارَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ تَفْصِيلًا نَشَأَ لَهُ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ فَقَالَ: إِنْ تَحَقَّقَ كَوْنُهُ غَلَطًا سَبَقَ إِلَيْهِ الْقَلَمُ فَالْكَشْطُ أَوْلَى ; لِئَلَّا يُوهِمَ بِالضَّرْبِ أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَإِلَّا فَلَا. عَلَى أَنَّهُ لَا انْحِصَارَ لِتَعْلِيلِ الْأَجْوَدِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ، فَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ قَالَ: لِمَا فِي الْكَشْطِ مِنْ مَزِيدِ تَعَبٍ يَضِيعُ بِهِ الْوَقْتُ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ الْوَرَقَةَ وَمَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ، بَلْ لَيْسَ يَخْلُو بَعْضُ الْوَرَقِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: حَدْقُكَ فِي الْكَشْطِ دَلِيلٌ عَلَى ... أَنَّكَ فِي الْخَطِّ كَثِيرُ الْغَلَطِ وَالْمَحْوُ غَالِبًا مُسَوِّدٌ لِلْقِرْطَاسِ، وَأَنْكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَبَّالُ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ الْحَكَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُضْعِفُ الْكِتَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُوهِمُ، فَإِذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ يُفْهَمُ الْمَكْتُوبُ، وَيَسْلَمُ صَاحِبُ الْكِتَابِ مِنَ التُّهْمَةِ. ثُمَّ إِنَّ لِكَوْنِ الضَّرْبِ عَلَامَةً بَيِّنَةً فِي إِلْغَاءِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ رُوِّينَا فِي (الْجَامِعِ) لِلْخَطِيبِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ قَرَأَ سَطْرًا ضُرِبَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ فَقَدْ خَانَ ; لِأَنَّ الْخَطَّ يَخْزُنُ مَا تَحْتَهُ) . وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْحَافِظُ الْيَغْمُورِيُّ فَقَالَ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: (قِرَاءَةُ السَّطْرِ الْمَضْرُوبِ خِيَانَةٌ) . [الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ] : (وَصِلْهُ) أَيِ: الضَّرْبَ (بِالْحُرُوفِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَكُونُ مُخْتَلِطًا بِهَا حَالَ كَوْنِهِ (خَطًّا) كَمَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الضَّابِطِينَ. قَالَ: وَيُسَمَّى أَيْضًا - يَعْنِي: عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ - الشَّقَّ. انْتَهَى. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّقِّ، وَهُوَ الصَّدْعُ فِي الْإِنَاءِ، زُجَاجًا أَوْ غَيْرَهُ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصَّدْعِ، لَا سِيَّمَا وَالْحَرْفُ صَارَ بِالْخَطِّ فَوْقَهُ كَأَنَّهُ شَقٌّ، أَوْ مِنْ شَقِّ الْعَصَى وَهُوَ التَّفْرِيقُ، لِكَوْنِهِ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالزَّائَدِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ ابْنِ الصَّلَاحِ: النَّشْقُ. بِزِيَادَةِ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَصْحِيفًا وَتَغْيِيرًا مِنَ النُّسَّاخِ فَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نَشْقِ الظَّبْيِ فِي الْحِبَالَةِ وَهِيَ الَّتِي يُصَادُ بِهَا ; أَيْ: عَلِقَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ إِبْطَالِ حَرَكَةِ الْكَلِمَةِ بِالْخَطِّ وَإِهْمَالِهَا حَيْثُ جُعِلَتْ فِي صُورَةِ وَثَاقٍ يَمْنَعُهَا مِنَ التَّصَرُّفِ. انْتَهَى. وَمِنْهُ: رَجُلٌ نَشَقٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُ فِي أُمُورٍ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا. وَنَحْوُ مَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ قَوْلُ الرَّامَهُرْمُزِيِّ، وَتَبِعَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ: أَجْوَدُ الضَّرْبِ أَلَّا يُطْمَسَ الْحَرْفُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ، بَلْ يُخَطُّ مِنْ فَوْقِهِ خَطًّا جَيِّدًا بَيِّنًا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِهِ، وَلَا يَمْنَعُ قِرَاءَتَهُ. يَعْنِي لِلْأَمْنِ مِنَ الِارْتِيَابِ (أَوْ لَا) تَصِلُ خَطَّ الضَّرْبِ بِالْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ، بَلِ اجْعَلْهُ أَعْلَاهُ كَالْأَوَّلِ أَيْضًا لَكِنْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ (مَعَ عَطْفِهِ) ; أَيِ: الْخَطَّ مِنْ طَرَفَيِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَالنُّونِ الْمُنْقَلِبَةِ. أَشَارَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ وَقَالَ - وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ -: (إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ هَذَا الضَّرْبَ بِقِسْمَيْهِ وَيَرَاهُ تَسْوِيدًا وَتَغْلِيسًا وَيَقْتَصِرُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 سَيَأْتِي) (أَوْ كَتْبِ) ; أَيْ: وَيُبْعِدُ الزَّائِدَ أَيْضًا بِكَتْبِ (لَا) أَوْ (مِنْ) فِي أَوَّلِهِ (ثُمَّ إِلَى) فِي آخِرِهِ، وَذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِيمَا يُجَوِّزُونَ أَنَّ نَفْيَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَلِذَا يُضَافُ إِلَيْهِ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الرَّمْزُ لِمَنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَوْ نُفِيَ عَنْهُ مِنَ الرُّوَاةِ، وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى الرَّمْزِ لَكِنْ حَيْثُ يَكُونُ الزَّائِدُ كَلِمَةً أَوْ نَحْوَهَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: (إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعَلَامَةِ تَحْسُنُ فِيمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ وَسَقَطَ مِنْ أُخْرَى) ، (أَوْ نِصْفَ) ; أَيْ: يُبْعَدُ الزَّائِدُ أَيْضًا بِتَحْوِيقِ نِصْفِ (دَارَةٍ) كَالْهِلَالِ، حَكَاهُمَا عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَاسْتَقْبَحَ غَيْرُهُ ثَانِيَهُمَا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، (وَإِلَّا صِفْرَا) ; أَيْ: يُبْعَدُ بِتَحْوِيقِ صِفْرٍ، وَهُوَ (دَائِرَةٌ) مُنْطَبِقَةٌ صَغِيرَةٌ، حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ الْمُحَسِّنِينَ لِكُتُبِهِمْ. قَالَ: وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِهَا عَنِ الصِّحَّةِ، كَتَسْمِيَةِ الْحِسَابِ لَهَا بِذَلِكَ لِخُلُوِ مَوْضِعِهَا مِنْ عَدَدٍ. ثُمَّ إِذَا أُشِيرَ لِلزَّائِدِ بِوَاحِدٍ مِنَ الصِّفْرِ وَنِصْفِ الدَّائِرَةِ فَلْيَكُنْ فِي كُلِّ جَانِبٍ بِأَصْلِ الْكِتَابِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ وَلَمْ يَلْتَبِسْ بِالدَّارَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فَصْلًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَأَعْلَى الزَّائِدِ كَالْعَلَامَةِ قَبْلَهُمَا. (وَعَلِّمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لِمَا تُبْعِدُهُ بِأَحَدِ مَا تَقَدَّمَ. (سَطْرًا) سَطْرًا إِذَا مَا كَثُرَتْ سُطُورُهُ) ; أَيِ: الزَّائِدُ، بِأَنْ تُكَرِّرَ تِلْكَ الْعَلَامَةَ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَطْرٍ وَآخِرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ. (أَوْ لَا) تُكَرِّرْهَا بَلِ اكْتَفِ بِهَا فِي طَرْفَيِ الزَّائِدِ فَقَطْ. حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ. (وَإِنْ حَرْفٌ) يَعْنِي كَلِمَةً أَوْ غَيْرَهَا (أَتَى تَكْرِيرُهْ) غَلَطًا (فَابْقِ) عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ (مَا) هُوَ (أَوَّلُ سَطْرٍ) سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُكَرَّرِ أَوِ الثَّانِي (ثُمَّ) إِنْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوَّلِهِ، فَأَبْقِ (مَا) هُوَ (آخِرُ سَطْرٍ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ هُوَ الْأَوَّلُ مُرَاعَاةً لِأَوَائِلِ السُّطُورِ ثُمَّ أَوَاخِرِهَا أَنْ تُطْمَسَ وَتُشَوَّهَ، ثُمَّ إِنْ كَانَ التَّكْرَارُ لَهُمَا وَسَطَ السَّطْرِ (فَابْقِ مَا تَقَدَّمَا) مِنْهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ عَلَى الصَّوَابِ، وَالثَّانِي خَطَأٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِبْطَالِ. (أَوِ اسْتَجِدْ) ; أَيْ: أَبْقِ أَجْوَدَهُمَا صُورَةً وَأَدَلَّهُمَا عَلَى قِرَاءَتِهِ. وَهَذَانَ (قَوْلَانِ) أَطْلَقَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ وَغَيْرُهُ حِكَايَتَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِأَوَائِلِ السُّطُورِ، وَمَحَلُّهُمَا عِنْدَ عِيَاضٍ مَا إِذَا كَانَا فِي وَسَطِ السَّطْرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. (وَمَا لَمْ يُضَفِ) الْمُكَرَّرُ (أَوْ يُوصَفَ أَوْ نَحْوُهُمَا) بِالنَّقْلِ كَالْعَطْفِ عَلَيْهِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ (فَأَلِّفِ) بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَبَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، بِأَنْ تَضْرِبَ عَلَى الْحَرْفِ الْمُتَطَرِّفِ مِنَ الْمُتَكَرِّرِ دُونَ الْمُتَوَسِّطِ، وَلَا تَفْصِلْ بِالضَّرْبِ بَيْنَ ذَلِكَ مُرَاعِيًا بِالْفَصْلِ لَا أَوَّلَ وَلَا أَجْوَدَ ; إِذْ مُرَاعَاةُ الْمَعَانِي الْمُقَرَّبَةِ لِلْفَهْمِ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ. وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. [التَّنْبِيهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ] : وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ أُمُورٌ ; أَحَدُهَا: إِذَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ أَوَّلَ الْمُتَقَدِّمِ كِتَابَةً: يُؤَخَّرُ. وَأَوَّلَ الْمُتَأَخِّرِ: يُقَدَّمُ. وَآخِرَهُ (إِلَى) كُلِّ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْكِتَابِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ، أَوْ بِالْهَامِشِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمُزُ لِذَلِكَ بِصُورَةِ (مِيمٍ) ، وَهَذَا حَسَنٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنِ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمِيمَ رَقْمٌ لِكِتَابِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَةٍ لِكَوْنِ شَيْخِنَا كَانَ يَرَى فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الضَّرْبَ عَلَيْهَا وَكِتَابَتَهَا فِي مَحَلِّهَا. ثَانِيهَا: إِذَا أَصْلَحَ شَيْئًا نَشَرَهُ حَتَّى يَجِفَّ لِئَلَّا يُطْبِقَهُ فَيَنْطَمِسَ فَيَفْسُدَ الْمُصْلَحُ وَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 يُقَابِلُهُ، فَإِنْ أَحَبَّ الْإِسْرَاعَ تَرَّبَهُ بِنُحَاتَةِ السَّاجِ، وَيَتَّقِي اسْتِعْمَالَ الرَّمْلِ، إِلَّا أَنْ يُزِيلَ أَثَرَهُ بَعْدَ جَفَافِهِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ: إِنَّهُ سَبَبٌ لِلْأَرَضَةِ. وَكَذَا يَتَّقِي التُّرَابَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (الْجَامِعِ) . وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، وَابْنُ مَعِينٍ بِجَانِبِي، فَكَتَبْتُ صَفْحًا ثُمَّ ذَهَبْتُ لِأُتَرِّبَهُ فَقَالَ لِي: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْأَرَضَةَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «تَرِّبُوا الْكِتَابَ فَإِنَّ التُّرَابَ مُبَارَكٌ، وَهُوَ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ» ) . قَالَ: ذَاكَ إِسْنَادٌ لَا يَسْوَى فِلْسًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ: لَا يُحْفَظُ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. بَلْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ (جَامِعِهِ) مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ النَّصِيبِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: ( «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فَلْيُتَرِّبْهُ، فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ» ) . وَقَالَ عَقِبَهُ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. كَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَدَبِ مِنْ (سُنَنِهِ) مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ بْنَ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْكَلَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: ( «تَرِّبُوا صُحُفَكُمْ أَنْجَحُ لَهَا ; لِأَنَّ التُّرَابَ مُبَارَكٌ» ) بَلْ فِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي (كَامِلِهِ) ، لَفْظُ أَوَّلِهِمَا: ( «تَرِّبُوا الْكِتَابَ وَاسْحُوهُ - أَيِ: اقْشُرُوهُ مِنْ أَسْفَلِهِ - فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ» ) . وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنِ الْحَجَّاجِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: ( «تَرِّبُوا الْكِتَابَ فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لَهُ» ) إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الطُّرُقِ الْوَاهِيَةِ، وَيُمْكِنُ - إِنْ ثَبَتَ - حَمْلُهُ عَلَى الرَّسَائِلِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ غَالِبًا بِالْإِبْقَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِمَّا يَدْفَعُ الْأَرَضَةَ كِتَابَةَ: (فَارِقْ مَارِقِ احْبِسْ حَبْسًا أَوْ كَبَلِّحْ) . فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثَالِثُهَا: إِذَا أَصْلَحَ شَيْئًا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ حَذْفٍ أَوْ تَحْرِيفٍ وَنَحْوِهِ فِي كِتَابٍ قَدِيمٍ بِهِ أَسْمِعَةٌ مُؤَرَّخَةٌ، حَسُنَ، كَمَا رَأَيْتُ شَيْخَنَا، فَعَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ مَعَهُ عَلَى تَارِيخِ وَقْتِ إِصْلَاحِهِ لِيَكُونَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ أَوْ قَرَأَ قَبْلُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وَكَذَا مَنْ نَقَلَ مِنْهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ يُمَيِّزُ مَا يَتَجَدَّدُ لَهُ فِي تَصَانِيفِهِ بِالْحُمْرَةِ لِتُيَسِّرَ إِلْحَاقَهُ لِمَنْ كَتَبَهُ قَبْلُ. رَابِعُهَا: الضَّرْبُ وَالْإِلْحَاقُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى صِحَّةِ الْكِتَابِ، فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الْكِتَابَ فِيهِ إِلْحَاقٌ وَإِصْلَاحٌ فَاشْهَدْ لَهُ بِالصِّحَّةِ. وَعَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ كِتَابَ صَاحِبِ الْحَدِيثِ مُشَجَّجًا - يَعْنِي: كَثِيرَ التَّغْيِيرِ - فَأَقْرِبْ بِهِ مِنَ الصِّحَّةِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ خَلَّادٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتِ يَصِفُ دَفْتَرًا: وَأَرَى رُشُومًا فِي كِتَابِكَ لَمْ تَدَعْ ... شَكًّا لِمُرْتَابٍ وَلَا لِمُفَكِّرِ نُقَطٌ وَأَشْكَالٌ تَلُوحُ كَأَنَّهَا ... نَدَبُ الْخُدُوشِ تَلُوحُ بَيْنَ الْأَسْطُرِ تُنْبِيكَ عَنْ رَفْعِ الْكَلَامِ وَخَفْضِهِ ... وَالنَّصْبِ فِيهِ لِحَالِهِ وَالْمَصْدَرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وَتُرِيكَ مَا تَعِيَا بِهِ فَتُعِيدُهُ كَقَرِينَةٍ وَمُقَدَّمًا كَمُؤَخَّرِ أَمَّا مَا نَرَاهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ غَالِبًا بِدَلِيلٍ لِلصِّحَّةِ، لِكَثْرَةِ الدَّخِيلِ وَالتَّلْبِيسِ الْمُحِيلِ. [الْعَمَلُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ] (601) وَلْيَبْنِ أوَّلًا عَلَى رِوَايَهْ ... كِتَابَهُ وَيُحْسِنِ الْعِنَايَهْ (602) بِغَيْرِهَا بِكَتْبِ رَاوٍ سُمِّيَا ... أَوْ رَمْزٍ أَوْ بِكَتْبِهَا مُعْتَنِيَا (603) بِحُمْرَةٍ وَحَيْثُ زَادَ الْأَصْلُ ... حَوَّقَهُ بِحُمْرَةٍ وَيَجْلُو كَيْفَ (الْعَمَلُ فِي) الْجَمْعِ بَيْنَ (اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ) لَمَّا مَرَّ عَنْ بَعْضِ الطُّرُقِ فِي إِبْعَادِ الزَّائِدِ أَنَّهُ يَحْسُنُ فِيمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ دُونَ بَعْضٍ، نَاسَبَ إِرْدَافَهُ بِكَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ (وَلْيَبْنِ أَوَّلًا) وَقْتَ الْكِتَابَةِ أَوِ الْمُقَابَلَةِ (عَلَى رِوَايَهْ) خَاصَّةً (كِتَابَهُ) وَلَا يَجْعَلْهُ مُلَفَّقًا مِنْ رِوَايَتَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ. (وَ) بَعْدَ هَذَا (يُحْسِنِ الْعِنَايَهْ بِغَيْرِهَا) أَيْ: بِغَيْرِ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَصَّلَ كِتَابَهُ عَلَيْهَا، وَيُبَيِّنْ مَا وَقَعَ التَّخَالُفُ فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ إِبْدَالِ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَوْ حَرَكَةٍ لِإِعْرَابٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَذَلِكَ إِمَّا بِكَتْبِ مَا زَادَ أَوْ أُبْدِلَ أَوِ اخْتَلَفَ إِعْرَابُهُ بَيْنَ السُّطُورِ إِنِ اتَّسَعَتْ، وَإِلَّا فَبِالْحَاشِيَةِ. أَوْ (بِكَتْبِ رَاوٍ) عَرَفَ بِذَلِكَ الزَّائِدَ أَوِ الْمَحْذُوفَ أَوِ الْمُبْدَلَ أَوِ الْإِعْرَابَ، إِنْ كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا، وَإِلَّا فَأَكْثَرَ حَسْبَمَا يَتَّفِقُ، سَوَاءٌ (سَمَّيَا) هَذَا الرَّاوِيَ ; أَيْ: كَتَبَهُ بِاسْمِهِ، وَكَذَا بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ (أَوْ) رَمَزَ لَهُ (رَمْزًا) بِحَرْفٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا مَرَّ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَضَبْطِهِ، مَعَ زِيَادَةِ إِيضَاحٍ مِمَّا كَانَ الْأَنْسَبُ ضَمَّهُمَا بِمَكَانٍ وَاحِدٍ. (أَوْ) بِالنَّقْلِ (بِكَتْبِهَا) ; أَيِ: الزِّيَادَةِ وَنَحْوِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 مِنْ إِبْدَالٍ وَإِعْرَابٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي حَالَ كَوْنِهِ (مُعْتَنِيًا) بِهِ (بِحُمْرَةٍ) كَمَا فَعَلَهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ مِنَ الْمَشَارِقَةِ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الشُّيُوخِ وَالْمُقَيِّدِينَ، غَيْرَ نَاظِرِينَ لِحِكَايَةِ تِلْمِيذِ صَاحِبِ (الْهِدَايَةِ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَرَاهَةَ الْكِتَابَةَ بِهَا ; لِأَنَّهَا شِعَارُ الْمَجُوسِ وَطَرِيقَةُ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، أَوْ بِخُضْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَلْوَانِ الْمُبَايِنَةِ لِلْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ الْأَصْلُ. (وَحَيْثُ زَادَ الْأَصْلُ) الَّذِي أَصَّلَ عَلَيْهِ شَيْئًا (حَوَّقَهُ) بِدَائِرَةٍ كَمَا شُرِحَ قَرِيبًا، أَوْ بِ (لَا) ثُمَّ (إِلَى) ، وَيَكُونُ مَا يَسْلُكُهُ مِنْ هَذَا (بِحُمْرَةٍ) أَوْ خُضْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (وَيَجْلُو) أَيْ: يُوَضِّحُ مُرَادَهُ مِنْ رَمْزٍ أَوْ لَوْنٍ، بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: قَدْ رَمَزْتُ فِي كِتَابِي هَذَا لِفُلَانٍ بِكَذَا، أَوْ أَشَرْتُ لِفُلَانٍ بِالْحُمْرَةِ أَوْ بِالْخُضْرَةِ. أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِأَوَّلِ كُلِّ مُجَلَّدٍ أَوْ آخِرِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَا يَعْتَمِدُ حِفْظَهُ فِي ذَلِكَ وَذِكْرَهُ، فَرُبَّمَا نَسِيَ مَا اصْطَلَحَهُ فِيهِ لِطُولِ الْعَهْدِ، بَلْ وَيَتَعَطَّلُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقَعُ لَهُ كِتَابُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَيْثُ يَصِيرُ فِي حَيْرَةٍ وَعَمًى، وَلَا يَهْتَدِي لِلْمُرَادِ بِتِلْكَ الرُّمُوزِ أَوِ الْأَلْوَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ مَعَ الطُّرُقِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِامْتِيَازِ (شَرْحِ الْبُخَارِيِّ) لِشَيْخِنَا عَلَى سَائِرِ الشُّرُوحِ، وَلَكِنْ فِيهِ مَحْذُورٌ لِلْقَاصِرِينَ حَيْثُ يَضُمُّ حِينَ قِرَاءَتِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ رِوَايَةً مَعَ أُخْرَى فِيمَا لَا يَصِحُّ التَّلْفِيقُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلْيَكُنْ فِيمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الرِّوَايَاتُ قَائِمًا بِضَبْطِ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فِي كِتَابِهِ، جَيِّدَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهَا، كَيْلَا تَخْتَلِطَ وَتَشْتَبِهَ فَيَفْسُدَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا. [الْإِشَارَةُ بِالرَّمْزِ] (604) وَاخْتَصَرُوا فِي كَتْبِهِمْ حَدَّثَنَا ... عَلَى ثَنَا أَوْ نَا وَقِيلَ دَثَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 (605) وَاخْتَصَرُوا أَخْبَرَنَا عَلَى أَنَا أَوْ أَرَنَا وَالْبَيْهَقِيُّ أَبَنَا (الْإِشَارَةُ بِالرَّمْزِ) بِبَعْضِ حُرُوفِ صِيَغٍ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ كَحَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَقَالَ، وَغَيْرِهَا، مَعَ مَسْأَلَتَيِ التَّلَفُّظِ بِـ (قَالَ) وَنَحْوِهَا مِمَّا يُحْذَفُ خَطًّا، وَحَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السَّنَدَيْنِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبِلَهُ ظَاهِرَةٌ. [رُمُوزُ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا] : (وَاخْتَصَرُوا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، (فِي كَتْبِهِمْ) دُونَ نُطْقِهِمْ (حَدَّثَنَا) بِحَيْثُ شَاعَ ذَلِكَ وَظَهَرَ حَتَّى لَا يَكَادُ يَلْتَبِسُ، وَلَا يُحْوِجُ الْوَاقِفَ عَلَيْهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ إِلَى بَيَانٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ مِنْهَا (عَلَى ثَنَا) الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ. (أَوْ) يُلْغِي أَوَّلَ الثَّلَاثَةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى (نَا) الضَّمِيرِ فَقَطْ، (وَقِيلَ) يَقْتَصِرُ عَلَى (دَثَنَا) فَيَتْرُكُ مِنْهَا الْحَاءَ فَقَطْ، كَمَا وَجَدَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي خَطِّ كُلٍّ مِنَ الْحُفَّاظِ: الْحَاكِمِ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَتِلْمِيذِهِمَا الْبَيْهَقِيِّ، (وَ) كَذَا (اخْتَصَرُوا أَخْبَرَنَا) فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ الْخَاءَ وَاللَّذَيْنِ بَعْدَهَا، وَهِيَ أُصُولُ الْكَلِمَةِ وَيَقْتَصِرُ (عَلَى أَنَا) الْأَلِفِ وَالضَّمِيرِ فَقَطْ، (أَوْ) يَضُمُّ إِلَى الضَّمِيرِ الرَّاءَ فَيَقْتَصِرُ عَلَى (أَرَنَا) وَفِي خَطِّ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا عَدَا الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ فَيَكْتُبُ " أَخْ نَا " وَلَكِنَّهُ لَمْ يُشْتَهَرْ، (وَ) كَذَا اقْتَصَرَ (الْبَيْهَقِيُّ) وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى (أَبَنَا) بِتَرْكِ الْخَاءِ وَالرَّاءِ فَقَطْ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ هَذَا بِحَسَنٍ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ فِيمَا يَظْهَرُ لِلْخَوْفِ مِنَ اشْتِبَاهِهَا " بِأَنْبَأَنَا " وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى اخْتِصَارِ " أَنْبَأَنَا " كَمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ كَثِيرِينَ، وَكَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرُوا مِنْ " أَنَا " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 عَلَى الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْفِعْلِ مَعَ الضَّمِيرِ كَمَا فَعَلُوا فِي " ثَنَا " بِحَيْثُ تَصِيرُ " رَنَا " لِلْخَوْفِ مِنْ تَحْرِيفِ الرَّاءِ دَالًا، فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمَاضِيَةِ فِي " حَدَّثَنَا "، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لِئَلَّا يُحَرِّفَ الرَّاءَ زَايًا. وَمِنَ اصْطِلَاحِهِمْ حَسْبَمَا اسْتُقْرِئَ مِنْ صَنِيعِهِمْ غَالِبًا تَحْرِيفُ الْأَلِفِ الْأَخِيرَةِ مِنْهُمُا إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ كَأَنَّهُ لِيَحْصُلَ التَّمْيِيزُ بِذَلِكَ عَمَّا يَقَعُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُشَابِهَةِ لَهُمَا فِي الصُّورَةِ مِنَ الْمَتْنِ وَشَبَهِهِ. وَأَمَّا كِتَابَةُ " حَ " فِي " ثَنَا " وَ " أَخْ " فِي " أَنَا " فَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: (إِنَّهُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْعَجَمِ، وَلَيَسَ مِنَ اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ) . هَذَا كُلُّهُ فِي الْمُذَكَّرِ الْمُضَافِ لِضَمِيرِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الْمُؤَنَّثُ الْمُضَافُ لِلْجَمْعِ أَيْضًا، وَكَذَا " حَدَّثَنِي " وَ " أَخْبَرَنِي " الْمُضَافَانِ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، فَلَا يَخْتَصِرُونَهُ غَالِبًا، لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُمْ رُبَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ مِنْ حَدَّثَنِي أَيْضًا، بَلْ وَعَنْ خَطِّ السِّلَفِيِّ الِاقْتِصَارُ مِنْهَا عَلَى مَا عَدَا الْحَاءِ. [رَمْزُ قَالَ وَحَذْفُهَا] (606) قُلْتُ وَرَمْزُ قَالَ إِسْنَادًا يَرِدْ ... قَافًا وَقَالَ الشَّيْخُ حَذْفُهَا عُهِدْ (607) خَطًّا وَلَا بُدَّ مِنَ النُّطْقِ كَذَا ... قِيلَ لَهُ وَيَنْبَغِي النُّطْقُ بِذَا [رَمْزُ قَالَ وَحَذْفُهَا] (قُلْتُ) : وَأَمَّا غَيْرُ " ثَنَا " وَ " أَنَا " مِمَّا أُشِيرُ إِلَيْهِ فَ (رَمْزُ قَالَ) الْوَاقِعَةِ (إِسْنَادًا) أَيْ: فِي الْإِسْنَادِ بَيْنَ رُوَاتِهِ (يَرِدْ) حَسْبَمَا رَآهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ حَالَ كَوْنِهِ (قَافًا) مُفْرَدَةً فَيَصِيرُ هَكَذَا " قَ ثَنَا "، وَرُبَّمَا خَطَّهُمَا بَعْضُهُمْ كَالدِّمْيَاطِيِّ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ وَكَتَبَ بِخَطِّهِ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) : قَثَنَا. حَتَّى تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ رَآهَا كَذَلِكَ أَنَّهَا الْوَاوُ الْفَاصِلَةُ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالرَّمْزُ لَهَا اصْطِلَاحٌ مَتْرُوكٌ، (وَ) لَكِنْ (قَالَ الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 (حَذْفُهَا) كُلِّهَا أَصْلًا وَرَأْسًا (عُهِدْ) فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ (خَطًّا) ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ الْأُولَى مِنْ مِثْلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنَ النُّطْقِ) بِهَا حَالَ الْقِرَاءَةِ لَفْظًا. يَعْنِي لِأَنَّ الْأَصْلَ الْفَصْلُ بَيْنَ كَلَامَيِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، وَحَيْثُ لَمْ يُفْصَلْ فَهُوَ مُضْمَرٌ، وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ التَّلَفُّظِ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ تَعْبِيرُهُ. نَعَمْ قَدْ صَرَّحَ فِي (فَتَاوَاهُ) بِأَنَّ عَدَمَ النُّطْقِ بِهَا لَا يُبْطِلُ السَّمَاعَ فِي الْأَظْهَرِ وَإِنْ كَانَ خَطَأٌ مِنْ فَاعِلِهِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ حَذْفَ الْقَوْلِ جَائِزٌ اخْتِصَارًا قَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي (تَقْرِيبِهِ) فَقَالَ: تَرْكُهَا خَطَأٌ، وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ السَّمَاعِ، بَلْ جَزَمَ بِهِ فِي مُقَدِّمَةِ (شَرْحِ مُسْلِمٍ) فَإِنَّهُ قَالَ: فَلَوْ تَرَكَ الْقَارِئُ لَفْظَ " قَالَ " فِي هَذَا كُلِّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَالسَّمَاعُ صَحِيحٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْحَذْفِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ الشِّهَابُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ الْمُرَحِّلِ النَّحْوِيُّ بِإِنْكَارِ اشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِهَا، ثُمَّ هَلْ يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى النُّطْقِ بِالرَّمْزِ لَهَا؟ الظَّاهِرُ: نَعَمْ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ فِي " قَالَ " وَكَذَا فِي " ثَنَا " وَ " أَنَا " جَمِيعًا، وَعِبَارَتُهُ: وَيَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَلْفِظَ بِكُلٍّ مِنْ " قَالَ " وَ " ثَنَا " وَ " أَنَا " صَرِيحًا، فَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 مُخْطِئًا، لَكِنَّ السَّمَاعَ صَحِيحٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَلِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى الْمَحْذُوفِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ " خ ". وَيُرِيدُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ. أَوْ يَقُولَ: " ثَنَا خ ". وَمُرَادُهُ: ثَنَا الْبُخَارِيُّ. وَأَنْ يَقُولَ: " ثَنَا م ". وَيُرِيدُ: ثَنَا مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِكَوْنِهِ فِي الصِّيَغِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَوَقَّفَ كَمَا سَلَفَ فِي أَنَّ الْأَوْلَى عَدَمُ الرَّمْزِ عَنِ الرَّاوِي بِالْكِتَابَةِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ شَاعَ وَعُرِفَ الِاصْطِلَاحُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّمْزِ وَغَيْرِهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ الْأَجْرِ لِنَقْصِ الْكِتَابَةِ. وَكَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ بِاصْطِلَاحِ رَمْزِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّيَغِ كِتَابَةً دُونَ رَمْزِهِمَا قِرَاءَةً، وَفِيهِ تَوَقُّفٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْخَفَاءِ بِالنُّطْقِ فِي الرَّاوِي رَمْزًا، ثُمَّ صَرَّحَ شَيْخُنَا بِمُصَادَمَةِ تَصْحِيحٍ الْكِرْمَانِيِّ السَّمَاعَ لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَا بُدَّ. قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي امْتِنَاعُهُ - أَيِ: الْحَذْفُ فِي " ثَنَا " وَ " أَنَا "، وَفِي مِثْلِ " ثَنَا خ "، وَ " ثَنَا م " - وَجَوَازُهُ فِي " قَالَ " يَعْنِي قَبْلَ: " ثَنَا " ; لِأَنَّ " ثَنَا " بِمَعْنَى: قَالَ لَنَا، فَاشْتِرَاطُ إِعَادَةِ " قَالَ " لَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهَى. (وَكَذَا) مِمَّا عُهِدَ حَذْفُهُ أَيْضًا لَفْظُ " أَنَّهُ " فِي مِثْلِ مَا رَوَاهُ التُّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَى رَجُلًا. الْحَدِيثَ. فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: قَالَ: إِنَّهُ رَأَى رَجُلًا. وَقَوْلِ الْبُخَارِيِّ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ. وَ (كَذَا قِيلَ لَهُ) فِي مِثْلِ: قُرِئَ عَلَى فُلَانٍ، قِيلَ لَهُ: أَخْبَرَكَ فُلَانٌ، (وَيَنْبَغِي) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي " قَالَ " لِلْقَارِئِ أَيْضًا (النُّطْقُ بِذَا) ; أَيْ: قِيلَ لَهُ. وَكَذَا أَنَّهُ وَنَحْوُهُمَا. قَالَ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ: قُرِئَ عَلَى فُلَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَانٌ. فَهَذَا يَنْطِقُ فِيهِ بِـ " قَالَ "، يَعْنِي: لَا قِيلَ لَهُ، لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ، وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ: قِيلَ لَهُ. قُلْتُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدْمَةِ (شَرْحِ مُسْلِمٍ) لِمَا امْتَنَعَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 [وَضْعُ " حَ " بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا] (608) وَكَتَبُوا عِنْدَ انْتِقَالٍ مِنْ سَنَدْ ... لِغَيْرِهِ (حَ) وَانْطِقَنْ بِهَا وَقَدْ (609) رَأَى الرُّهَاوِيُّ بِأَنْ لَا تُقْرَا ... وَأَنَّهَا مِنْ حَائِلٍ وَقَدْ رَأَى (610) بَعْضُ أُولِي الْغَرْبِ بِأَنْ يَقُولَا ... مَكَانَهَا الْحَدِيثَ قَطْ وَقِيلَا (611) بَلْ حَاءُ تَحْوِيلٍ وَقَالَ قَدْ كُتِبْ ... مَكَانَهَا صَحَّ فَحًّا مِنْهَا انْتُخِبْ [وَضْعُ " حَ " بَيْنَ الْأَسَانِيدِ وَمَعْنَاهَا] : (وَكَتَبُوا) أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثِ أَوِ الْكِتَابِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَرُومُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ إِسْنَادَيْهِ أَوْ أَسَانِيدِهِ، (عِنْدَ انْتِقَالٍ مِنْ سَنَدْ لِغَيْرِهِ " حَ ") بِالْقَصْرِ مُهْمَلَةً مُفْرَدَةً، وَهِيَ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ، وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَكْثَرُ مِنْهَا فِي (الْبُخَارِيِّ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدْمَةِ (شَرْحِ مُسْلِمٍ) ، وَهُوَ الْمُشَاهَدُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: أَهِيَ مِنَ الْحَائِلِ أَوِ التَّحْوِيلِ أَوْ صَحَّ أَوِ الْحَدِيثِ؟ وَهَلْ يُنْطَقُ بِهَا " حَا " أَوْ يُصَرَّحُ بِبَعْضِ مَا رُمِزَ بِهَا لَهُ عِنْدَ الْمُرُورِ بِهَا فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَانْطِقَنْ بِهَا) كَمَا كُتِبَتْ مُفْرَدَةً، وَمُرَّ فِي قِرَاءَتِكَ. يَعْنِي: حَسْبَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمُ الْخَلَفُ، وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَيْضًا كَمَا سَمِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ إِلَّا أَنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: أَحْوَطُ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلُهَا. (وَقَدْ رَأَى) الْحَافِظُ الرَّحَّالُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (الرُّهَاوِيُّ) نِسْبَةً إِلَى الرُّهَا بِالضَّمِّ لِلْأَكْثَرِ، الْحَنْبَلِيُّ، كَمَا سَمِعَهُ مِنْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ (بِأَنْ) ; أَيْ: أَنْ (لَا تُقْرَا) أَوْ لَا يُلْفَظَ بِشَيْءٍ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا، (وَأَنَّهَا) لَيْسَتْ مِنَ الرِّوَايَةِ بَلْ هِيَ " حَا " (مِنْ حَائِلٍ) الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا حَجَزَ بَيْنَهُمَا، لِكَوْنِهَا حَالَةً بَيْنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 الْإِسْنَادَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ مَشَايِخِهِ، وَفِيهِمْ عَدَدٌ كَانُوا حُفَّاظَ الْحَدِيثِ فِي وَقْتِهِ، غَيْرُهُ، وَنَحْوُهُ فِي كَوْنِهَا مِنْ حَائِلٍ لَكِنْ مَعَ النُّطْقِ بِذَلِكَ قَوْلُ الدِّمْيَاطِيِّ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ، فَصَارَ كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى " حَ " قَالَ: حَاجِزٌ. وَهُوَ فِي النُّطْقِ بِمَعْنَاهَا خَاصَّةً مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ حَيْثُ قَالَ (وَقَدْ رَأَى بَعْضُ) عُلَمَاءِ (أُولِي الْغَرْبِ) حِينَ ذَاكَرْتُهُ فِيهَا، وَحَكَاهُ عَنْ صَنِيعِ الْمَغَارِبَةِ كَافَّةً (بِأَنْ) ; أَيْ: أَنْ (يَقُولَا) مَنْ يَمُرُّ بِهَا (مَكَانَهَا الْحَدِيثَ قَطْ) أَيْ: فَقَطْ. وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الرُّهَاوِيِّ إِنْكَارَ كَوْنِهَا مِنَ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدُ، فَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً بَعْدَ سِيَاقِ السَّنَدِ الْأَوَّلِ وَبَعْضِ الْمَتْنِ كَمَا فِي (الْبُخَارِيِّ) فَإِنَّهُ أَوْرَدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: جِئْتُ أَنَا وَأَبِي حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. ثُمَّ قَالَ: حَ، وَثَنَا. وَسَاقَ سَنَدًا آخَرَ إِلَى الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ «أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» . فَيُمْكِنُ عَدَمُ إِنْكَارِهِ. (وَ) كَذَا (قِيلَا) مِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ مَنْ جَمَعَتْهُ وَإِيَّاهُ الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ مِنَ الْأَصْبَهَانِيِّينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ، (بَلْ) هِيَ (حَاءُ تَحْوِيلٍ) مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ آخَرَ. (وَقَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (قَدْ كُتِبَ) فِيمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْحَافِظَيْنِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ اللَّيْثِيِّ الْبُخَارِيِّ، وَالْفَقِيهِ الْمُحَدِّثِ أَبِي سَعْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيلِ الْخَلِيلِيِّ (مَكَانَهَا) بَدَلًا عَنْهَا (صَحَّ) صَرِيحَةً، يَعْنِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 نَحْوَ مَا يُجْعَلُ بَيْنَ الرُّوَاةِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: فَهَذَا يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحَاءِ رَمْزًا إِلَى صَحَّ، (فَحَا) بِالْقَصْرِ (مِنْهَا انْتُخِبَ) . أَيِ: اخْتِيرَ فِي اخْتِصَارِهَا. قَالَ: وَحَسُنَ إِثْبَاتُ " صَحَّ " هَاهُنَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ حَدِيثَ هَذَا الْإِسْنَادِ سَقَطَ، وَلِئَلَّا يُرَكَّبَ الْإِسْنَادُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُجْعَلَا إِسْنَادًا وَاحِدًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّحَوُّلِ، وَأَنَّ الْقَارِئَ يَلْفِظُ بِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ لَمُ يَخْتَلِفْ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ فِي كَوْنِهَا حَاءً مُهْمَلَةً، بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ. أَيْ: إِسْنَادٌ آخَرُ. وَكَذَا حَكَاهُ الدِّمْيَاطِيُّ أَيْضًا، فَقَالَ: وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَسْتَعْمِلُهَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ يُرِيدُ بِهَا آخِرًا وَأَخِيرًا. زَادَ غَيْرُهُ: أَوْ إِشَارَةً إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ إِسْنَادٍ إِلَى إِسْنَادٍ. وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ ذَلِكَ اجْتِهَادٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي شَأْنِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: وَيُقَالُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ صَنِيعِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَأْتِنَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ بَيَانٌ لِأَمْرِهَا) . [كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ] (612) وَيَكْتُبُ اسْمَ الشَّيْخِ بَعْدَ الْبَسْمَلَهْ ... وَالسَّامِعِينَ قَبْلَهَا مُكَمَّلَهْ (613) مُؤَرَّخًا أَوْ جَنْبَهَا بِالطُّرَّهْ ... أَوْ آخِرَ الْجُزْءِ وَإِلَّا ظَهْرَهْ (614) بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ بِخَطٍّ عُرِفَا ... وَلَوْ بِخَطِّهِ لِنَفْسِهِ كَفَى (615) إِنْ حَضَرَ الْكُلَّ وَإِلَّا اسْتَمْلَى ... مِنْ ثِقَةٍ صَحَّحَ شَيْخٌ أَمْ لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 (616) وَلْيُعِرِ الْمُسْمَى بِهِ إِنْ يُسْتَعَرْ وَإِنْ يَكُنْ بِخَطِّ مَالِكٍ سُطِرْ ... (617) فَقَدْ رَأَى حَفْصٌ وَإِسْمَاعِيلُ كَذَا الزُّبَيْرِيُّ فَرْضَهَا إِذْ سِيلُوا ... (618) إِذْ خَطُّهُ عَلَى الرِّضَا بِهِ دَلْ كَمَا عَلَى الشَّاهِدِ مَا تَحَمَّلْ ... (619) وَلْيَحْذَرِ الْمُعَارُ تَطْوِيلًا وَأَنْ يُثْبِتَ قَبْلَ عَرْضِهِ مَا لَمْ يُبَنْ (كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ) وَكَيْفِيَّتُهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالطَّبَقَةِ، وَمَا أُلْحِقَ بِذَلِكَ مِنْ إِعَارَةِ الْمَسْمُوعِ وَمُنَاسَبَتِهِ لِلْعَمَلِ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ مَحَلِّهِمَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَوْ آخِرِهِ، وَلَكِنَّهُ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْأَوَّلِ. [كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ وَشُرُوطُهُ] : (وَيَكْتُبُ) الطَّالِبُ (اسْمَ الشَّيْخِ) الَّذِي قَرَأَ أَوْ سَمِعَ عَلَيْهِ أَوْ مِنْهُ كِتَابًا أَوْ جُزْءًا أَوْ نَحْوَهُ، وَمَا يَلْتَحِقُ بِالِاسْمِ مِنْ نَسَبٍ وَنِسْبَةٍ وَكُنْيَةٍ وَلَقَبٍ وَمَذْهَبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ، مَعَ سِيَاقِ سَنَدِهِ بِالْمَسْمُوعِ لِمُصَنِّفِهِ فِي ثَبْتِهِ الَّذِي يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، أَوْ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي يَرُومُ تَحْصِيلَهَا مِنَ الْمَسْمُوعِ. (بَعْدَ الْبَسْمَلَهْ) فَيَقُولُ مَثَلًا: أَنَا أَبُو فُلَانٍ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، ثَنَا فُلَانٌ. وَيَسُوقُ السَّنَدَ إِلَى آخِرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ. (وَ) إِنْ سَمِعَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَلْيَكْتُبْ أَسْمَاءَ (السَّامِعِينَ) إِمَّا (قَبْلَهَا) أَوِ الْبَسْمَلَةَ فَوْقَ سَطْرِهَا (مُكَمَّلَهْ) مِنْ غَيْرِ اخْتِصَارٍ لِمَا لَا يَتِمُّ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنَ السَّامِعِينَ بِدُونِهِ، فَضْلًا عَنْ حَذْفٍ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ. وَالْحَذَرَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ إِسْقَاطِ اسْمِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ، وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا حَكَاهُ ابْنُ مُسَدًّى، عَنِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ وَشَيْخِهِ السِّلَفِيِّ، أَنَّهُمَا كَانَا يُصَدِّرَانِ الطِّبَاقَ بِذَوِي السِّنِّ، فَإِذَا أَتَيَا عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 ذِكْرِهِمْ تَرَكَا الشَّبَابَ وَأَدْرَجَاهُمْ فِي طَيِّ لَفْظَةِ " وَآخَرِينَ ". وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّتِهِ عَنْ ثَانِيهِمَا. كُلُّ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِ الْمَكْتُوبِ (مُؤَرَّخًا) بِوَقْتِ السَّمَاعِ، مَذْكُورًا مَحَلُّهُ مِنَ الْبَلَدِ وَقَارِئُهُ، وَكَذَا عَدَدُ مَجَالِسِهِ إِنْ تَعَدَّدَتْ، مُعَيَّنَةً، وَتَمْيِيزُ الْمُكَمِّلِينَ وَالنَّاعِسِينَ وَالْمُتَحَدِّثِينَ وَالْبَاحِثِينَ وَالْكَاتِبِينَ وَالْحَاضِرِينَ مِنَ الْمُفَوِّتِينَ وَالْيَقِظِينَ وَالْمُنْصِتِينَ وَالسَّامِعِينَ. (أَوْ) يَكْتُبُ ذَلِكَ (جَنْبَهَا) أَيِ: الْبَسْمَلَةِ فِي الْوَرَقَةِ الْأُولَى (بِالطُّرَّهْ) يَعْنِي الْحَاشِيَةَ الْمُتَّسِعَةَ لِذَلِكَ، حَسْبَمَا أَشَارَ إِلَى حِكَايَتِهِ الْخَطِيبُ عَنْ فِعْلِ شُيُوخِهِ، وَكَذَا فَعَلَهُ السِّلَفِيُّ، بَلْ رُبَّمَا يَكْتُبُ السِّلَفِيُّ السَّمَاعَ بِالْحَاشِيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ يَكْتُبُ الطَّالِبُ التَّسْمِيعَ (آخِرَ الْجُزْءِ) أَوِ الْكِتَابِ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَكْتُبُهُ (ظَهْرَهُ) أَيْ: فِي ظَهْرِهِ، وَرُبَّمَا فَعَلَ السِّلَفِيُّ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ حَيْثُ يَكْتُبُونَ التَّسْمِيعَ فِيمَا يَكُونُ لِلْمَسْمُوعِ كَالْوِقَايَةِ، أَوْ يَكْتُبُهُ حَيْثُ لَا يَخْفَى مَوْضِعُهُ مِنْهُ مِنْ حَاشِيَةٍ فِي الْأَثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكُلُّ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا بَأْسَ بِهِ. مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الْخَطِيبُ أَحْوَطُ لَهُ وَأَحْرَى بِأَلَّا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْجَزَرِيِّ قَدْ حَكَى عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ الْأَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ عَدَمُ الْكِتَابَةِ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ لِشَرَفِهَا، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ. وَكَذَا يَحْسُنُ تَسْمِيَةُ الْمَسْمُوعِ إِنْ كَتَبَ التَّسْمِيعَ بِمَحَلٍّ غَيْرِ مُسَمًّى فِيهِ خَوْفًا مِنَ انْفِرَادِ الْوَرَقَةِ فَيَصِيرُ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا فِي حَيْرَةٍ، وَأَنْ يُنَبِّهَ حَيْثُ كَانَتِ الْكِتَابَةُ بِالْأَثْنَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا أَوَّلَ الْمَسْمُوعِ، فَقَدْ رَأَيْتُ شَيْخَنَا يَفْعَلُهُ فَيَقُولُ مَثَلًا: فَرَغَهُ سَمَاعًا فُلَانٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وَالطَّبَقَةُ بِالْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ. وَيُعَلِّمُ بِالْهَوَامِشِ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ مَجْلِسٍ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: بَلَغَ السَّمَاعُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى فُلَانٍ، لِأَجْلِ مَنْ يَفُوتُهُ بَعْضَهَا أَوْ يَسْمُعُ بَعْضَهَا. وَيَنْبَغِي كَمَا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ (بِخَطِّ) شَخْصٍ (مَوْثُوقٍ) بِهِ غَيْرِ مَجْهُولِ الْخَطِّ، بَلْ (بِخَطٍّ عُرِفَا) بَيْنَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. (وَلَوْ) كَانَ التَّسْمِيعُ (بِخَطِّهِ لِنَفْسِهِ) مَعَ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ (كَفَى) فَطَالَ مَا فَعَلَ الثِّقَاتُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا. وَعَلَى كَاتِبِ السَّمَاعِ التَّحَرِّي فِي تَفْصِيلِ الْأَفْوَاتِ وَبَيَانِ السَّامِعِ وَالْمُسْمِعِ وَالْمَسْمُوعِ بِعِبَارَةٍ بَيِّنَةٍ، وَكِتَابَةٍ وَاضِحَةٍ، وَإِنْزَالِ كُلٍّ مَنْزِلَتَهُ، وَيَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي السَّامِعِينَ وَتَمْيِيزِ فَوَاتِهِمْ ضَبْطَ نَفْسِهِ. (إِنْ حَضَرَ الْكُلُّ وَإِلَّا اسْتَمْلَى) مَا غَابَ عَنْهُ (مِنْ ثِقَةٍ) ضَابِطٍ مِمَّنْ حَضَرَ، فَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا بَأْسَ بِهِ ; إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، سَوَاءٌ فِي اعْتِمَادِ الثِّقَةِ لِضَبْطِ نَفْسِهِ أَوْ ثِقَةٍ غَيْرِهِ، أَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي خَطِّهِ، (صَحَّحَ) عَلَى التَّسْمِيعِ (شَيْخٌ) ; أَيِ: الشَّيْخُ الْمُسَمِّعُ وَاحِدًا فَأَكْثَرَ حَسْبَمَا اتَّفَقَ (أَمْ لَا) . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بِمَرْوَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي سَعْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنَ الْأَصْبَهَانِيَّةِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ قَرَأَ بِبَغْدَادَ جُزْءًا عَلَى أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَضِيِّ، وَسَأَلَهُ خَطَّهُ لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَحْمَدَ: يَا بُنَيَّ، عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّكَ إِذَا عُرِفْتَ بِهِ لَا يُكَذِّبُكَ أَحَدٌ، وَتَصْدُقُ فِيمَا تَقُولُ وَتَنْقُلُ، وَإِذَا كُنْتَ غَيْرَ ذَلِكَ ; فَلَوْ قِيلَ لَكَ: مَا هَذَا خَطُّ أَبِي أَحْمَدَ، مَاذَا تَقُولُ لَهُمْ؟ . وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ: قَدَّمْتُ لِشَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُحِبِّ طَبَقَةً لِيُصَحِّحَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ الْمُسَمِّعَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مِنِّي، وَقَالَ: لَا تَعُدْ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّصْحِيحِ مَنْ يُشَكُّ فِيهِ. انْتَهَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وَمَا يُوجَدُ مِنْ تَصْحِيحِ الشُّيُوخِ الْمُسَمِّعِينَ إِنَّمَا اعْتِمَادُهُمْ فِيهِ غَالِبًا عَلَى الضَّابِطِينَ، وَرُبَّمَا أَفْصَحَ الْمُتَحَرِّي مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ الشَّيْخُ نَفْسُهُ هُوَ الضَّابِطَ كَمَا كَانَ ابْنُ الْمُنْصِفِ يَفْعَلُهُ غَالِبًا لِقِلَّةِ الْمُتَمَيِّزِينَ فِي ذَلِكَ. نَعَمْ، رُبَّمَا اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ لِمَا يَكْتُبُ الْمُحَدِّثُ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ حَيْثُ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ بِشُهْرَةِ أَحَدِ السَّامِعِينَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَحَيْثُ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلْحَاقِ وَالتَّصْحِيحِ وَشِبْهِهِ، إِذِ الْكِتَابُ لَا يَخْلُو غَالِبًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ لِذَلِكَ، بَلْ وَبِتَحْلِيفِ الرَّاوِي. فَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ دُحَيْمٍ الدِّمَشْقِيِّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ مَعِينٍ عَلَيْنَا الْبَصْرَةَ ; فَكَتَبَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيِّ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ شَيْئًا فَلَا تَغْضَبْ مِنْهُ، قَالَ: هَاتِ، قَالَ: حَدِيثُ هَمَّامٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ، لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَفَّانُ وَحِبَّانُ، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ، إِنَّمَا وَجَدْتُهُ عَلَى ظَهْرِهِ. قَالَ: فَتَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: تَحْلِفُ لِي أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ هَمَّامٍ. فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّكَ كَتَبْتَ عَنِّي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَإِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ فِيهَا صَادِقًا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُكَذِّبَنِي فِي حَدِيثٍ، وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فِي حَدِيثٍ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَدِّقَنِي فِيهَا، وَتَرْمِي بِهَا، بِنْتُ أَبِي عَاصِمٍ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ هَمَّامٍ، وَوَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا. وَسَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ مِنْ رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ حَدِيثًا، فَلَمَّا فَرَغَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قَالَ لَهُ: آللَّهِ يَا أَبَا الْمِقْدَامِ - وَهِيَ كُنْيَتُهُ - لَحَدَّثَكَ فُلَانٌ بِهَذَا، أَوْ سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَالَ: إِي وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَلَعَلَّ سَلَفَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرِي اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ. وَذَكَرَ حَدِيثًا. وَقَدْ يَبْتَدِئُ الشَّيْخُ بِالْحَلِفِ مَعَ اشْتِهَارِ ثِقَتِهِ وَصِدْقِهِ، لَكِنْ لِتَزْدَادَ طُمَأْنِينَةُ السَّامِعِينَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ يَحْلِفُ فِي فَوْتَيْهِ مِنْ (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّهُمَا أُعِيدَا لَهُ، وَفَعَلَهُ مِنَ التَّابِعِينَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ فَقَالَ: ثَنَا - وَاللَّهِ - أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا. [الْإِعَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ] : (وَلْيُعِرِ) مَنْ ثَبَتَ فِي كِتَابِهِ أَوْ جُزْئِهِ أَوْ نَحْوِهِمَا تَسْمِيعٌ بِخَطِّ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا أَثْبَتَ فِيهِ السَّمَاعَ الطَّالِبُ (الْمُسْمَى بِهِ) وَاحِدًا فَأَكْثَرَ (إِنْ يُسْتَعَرْ) لِيُكْتَبَ مِنْهُ أَوْ يُقَابَلَ عَلَيْهِ أَوْ يُنْقَلَ سَمَاعُهُ أَوْ يُحَدَّثَ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْعَارِيَّةُ - فِيمَا إِذَا كَانَ التَّسْمِيعُ بِغَيْرِ خَطِّ الْمَالِكِ - مُسْتَحَبَّةٌ، (وَإِنْ يَكُنْ) التَّسْمِيعُ (بِخَطِّ مَالِكٍ) لِلْمَسْمُوعِ (سَطَرَهُ فَقَدَ رَأَى) الْقَاضِيَانِ (حَفْصٌ) هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ قَاضِيهَا، بَلْ وَقَاضِي بَغْدَادَ أَيْضًا، وَصَاحِبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي جَمَاعَةٍ: أَنْتُمْ مَسَارُّ قَلْبِي وَجَلَاءُ حُزْنِي. وَكَانَ هُوَ يَقُولُ: مَا وَلِيتُ الْقَضَاءَ حَتَّى حَلَّتْ لِي الْمَيِّتَةُ، وَلَأَنْ يُدْخِلَ الرَّجُلُ إِصْبَعَهُ فِي عَيْنَيْهِ فَيَقْلَعَهُمَا فَيَرْمِي بِهِمَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 يَكُونَ قَاضِيًا. وَلَمَّا وَلِيَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِأَصْحَابِهِ: تَعَالَوْا نَكْتُبُ نَوَادِرَ حَفْصٍ، فَلَمَّا وَرَدَتْ قَضَايَاهُ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: أَيْنَ النَّوَادِرُ؟ فَقَالَ: إِنَّ حَفْصًا أَرَادَ اللَّهَ فَوَّفَقَهُ. مَاتَ عَلَى الْأَكْثَرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ (159 هـ) . (وَإِسْمَاعِيلُ) بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ شَيْخُ مَالِكِيَّةِ الْعِرَاقِ وَعَالِمُهُمْ وَمُصَنِّفُ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) وَغَيْرِهَا الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ (282 هـ) . وَكَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْأَسَدِيُّ الزُّبَيْرِيُّ بِالضَّمِّ نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْمَذْكُورِ، الْبَصْرِيُّ الضَّرِيرُ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَاحِبُ (الْكَافِي) وَ (الْمُسْكِتِ) وَغَيْرِهِمَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمَائَةٍ (317 هـ) . (فَرَضَهَا) أَيِ: الْعَارِيَّةَ (إِذْ سِيلُوا) بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً سَاكِنَةً لِلضَّرُورَةِ، حَيْثُ ادُّعِيَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ فِي زَمَنِهِ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ عَارِيَّةِ كِتَابِهِ، وَأَجَابَ بِإِلْزَامِهِ بِإِخْرَاجِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ ; فَمَا يَكُونُ مِنْ سَمَاعِ الْمُدَّعِي مُثْبَتًا بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلْزَمَهُ بِإِعَارَتِهِ، حَسْبَمَا رَوَى ذَلِكَ عَنِ الثَّانِي الْخَطِيبُ، وَعَنِ الْأَوَّلِ الرَّامَهُرْمُزِيُّ، قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ الثَّالِثَ عَنْهُ فَقَالَ: لَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا. (إِذْ خَطُّهُ) ; أَيْ: صَاحِبِ الْمَسْمُوعِ فِيهِ (عَلَى الرِّضَا بِهِ) ; أَيْ: بِالِاسْمِ الْمُثْبَتِ (دَلْ) يَعْنِي: وَثَمَرَةُ رِضَاهُ بِإِثْبَاتِ اسْمِهِ بِخَطِّهِ فِي كِتَابِهِ عَدَمُ مَنْعِ عَارِيَتِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَمْ يَبِنْ لِي وَجْهُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ ذَلِكَ (كَمَا عَلَى الشَّاهِدِ) الْمُتَحَمِّلِ. يَعْنِي: سَوَاءٌ اسْتُدْعِيَ لَهُ أَوِ اتِّفَاقًا (مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 تَحَمَّلَ) أَيْ: أَدَاءُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ وُجُوبًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَذْلُ نَفْسِهِ بِالسَّعْيِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَدَائِهَا. وَوَجَّهَ غَيْرُهُ أَيْضًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا مَعَ وُجُودِ عَلَقَةٍ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي إِلْزَامَهُ بِإِسْعَافِهِ فِي مَقْصِدِهِ. أَصْلُهُ إِعَارَةُ الْجِدَارِ لِوَضْعِ جُذُوعِ الْجَارِ الَّذِي صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ، وَأَوْجَبَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَلْ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا أَلْزَمْنَا الْجَارَ بِالْعَارِيَةِ مَعَ دَوَامِ الْجُذُوعِ فِي الْغَالِبِ، فَلِأَنْ تُلْزِمَ صَاحِبَ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ دَوَامِ الْعَارِيَةِ أَوْلَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلَوْ قُلْنَا كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ: إِنَّ خَطَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَتِهِ بِصِحَّةِ سَمَاعِهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِلْزَامُهُ بِإِبْرَازِهِ لِحُصُولِ ثَمَرَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ فِي إِثْبَاتِ اسْمِهِ وَقْتَ السَّمَاعِ كَمَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ الْأَدَاءُ وَلَوْ لَمْ يُسْتَدْعَ لِلتَّحَمُّلِ. ثُمَّ إِنَّ قِيَاسَ تَعْلِيلِ مَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ بِكَوْنِهِ عَلَامَةً لِلرِّضَا أَنَّهُ لَوْ كَتَبَهُ غَيْرُهُ بِرِضَاهُ ; كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، إِذْ لَا فَرْقَ، وَكَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَرْجِعُ حَاصِلُ أَقْوَالِهِمْ إِلَى أَنَّ سَمَاعَ غَيْرِهِ إِذَا ثَبَتَ فِي كِتَابِهِ بِرِضَاهُ، فَيَلْزَمُهُ إِعَارَتُهُ. وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي " تَقْرِيبِهِ ". بَلْ قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ الْفَقِيهَ يَقُولُ: مَرَرْتُ أَنَا وَأَبُو الْحَسَنِ الصَّبَّاغُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَيَّاطِ، يَعْنِي الْقَاضِيَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيَّ، وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ كَاتِبِهِ، فَادَّعَيْتُ أَنَا أَوْ هُوَ أَنَّ أَحَدَنَا سَمِعَ فِي كِتَابِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ إِعَارَتِهِ لِرَفِيقِهِ، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 بِإِذْنِكَ سَمِعَ فِي كِتَابِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَعِرْهُ سَمَاعَهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي صُورَةِ تَسْمِيعِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ مَعَ إِمْكَانِ اعْتِقَادِ التُّهْمَةِ، فَالْغَيْرُ الْأَجْنَبِيُّ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْوُجُوبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأُيِّدَ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَالِكِ حِينَئِذٍ الرِّوَايَةُ إِذَا كَانَ يَرْوِي مِنْ كِتَابِهِ لِغَيْبَتِهِ عَنْهُ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ضَرِيرًا، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ خِلَافَهُ كَمَا سَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِي (أَدَبِ الطَّالِبِ) عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ فِي جَمَاعَةٍ: (انْسَخْ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا قَدْ قَرَأْتُ) . فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَا يُمَكِّنُونَنِي) . فَقَالَ: (إِذَنْ وَاللَّهِ لَا يُفْلِحُونَ، قَدْ رَأَيْنَا أَقْوَامًا مَنَعُوا هَذَا السَّمَاعَ، فَوَاللَّهِ مَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا) . وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَقِبَهُ: (إِنَّهُ أَيْضًا رَأَى أَقْوَامًا مَنَعُوا فَمَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا) . (وَلْيَحْذَرِ الْمُعَارُ) لَهُ الْمَسْمُوعُ (تَطْوِيلًا) أَيْ: مِنَ التَّطْوِيلِ فِي الْعَارِيَةِ وَالْإِبْطَاءِ بِمَا اسْتَعَارَهُ عَلَى مَالِكِهِ إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَقَدَ رُوِّينَا عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ: إِيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ. قَالَ يُونُسُ: فَقُلْتُ: وَمَا غُلُولُهَا؟ قَالَ: حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا. وَرُوِّينَا عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْوَرَعِ أَنْ يَأْخُذَ سَمَاعَ رَجُلٍ وَكِتَابَهُ فَيَحْبِسَهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وَأَمَّا مَا رُوِّينَاهُ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ الرَّازِيِّ مِنْ (تَارِيخِ نَيْسَابُورَ) أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إِذَا رَدَّ صَاحِبُ الْحَدِيثِ الْكِتَابَ بَعْدَ سَنَةٍ فَقَدْ أَحْسَنَ. فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَبَلَغَنَا عَنِ ابْنِ الْمُنْصِفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا غَابَ الْكِتَابُ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ وَرَقِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ لِكِتَابَةٍ وَلَا قِرَاءَةٍ وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا مُطَالَعَةٍ. أَوْ كَمَا قَالَ. ثُمَّ إِنَّ التَّمَسُّكَ فِي الْمَنْعِ بِبُطُوءٍ وَمَا أَشْبَهَهُ لَا يَكْفِي فِي عَدَمِ الْإِلْزَامِ بِالدَّفْعِ، فَقَدْ سَاقَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ الْأَمِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ مِنْ (ذَيْلِهِ) ، أَنَّ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ الْمَالِكِيَّ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بِمَا تَقَدَّمَ قَالَ لَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ - وَهُوَ صَاحِبُ الْكِتَابِ -: إِنَّهُ يُعَذِّبُنِي فِي كُتُبِي إِذَا دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجْ إِلَيْهِ مَا لَزِمَكَ بِالْحُكْمِ. ثُمَّ قَالَ لِلْمُدَّعِي: إِذَا أَعَارَكَ أَخُوكَ كُتُبَهُ لِتَنْسَخَهَا فَلَا تُعَذِّبْهُ، فَإِنَّكَ تُطْرِقُ عَلَى نَفْسِكَ مَنْعَكَ فِيمَا تَسْتَحِقُّ. فَرَضِيَا بِذَلِكَ وَطَابَا، بَلْ وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْيَزْدِيِّ فِي جُزْءِ عَارِيَةِ الْكُتُبِ لَهُ الْمَسْمُوعِ لَنَا، أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ - وَهُوَ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ - قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: أَعَزَّ اللَّهُ الْقَاضِيَ، هَذَا رَجَلٌ غَرِيبٌ أَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ بِكُتُبِي، فَيُوَثِّقُ لِي حَتَّى أُعْطِيَهُ. فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: فَاكْتَرِ رَجُلًا بِدِرْهَمَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَقْعِدْهُ مَعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ نَسْخِ سَمَاعِهِ. (وَ) كَذَا لِيَحْذَرْ إِذَا نَسَخَ مِنَ الْمَسْمُوعِ الْمُعَارِ لِنَفْسِهِ فَرْعًا (أَنْ يُثْبِتَ) سَمَاعَهُ فِيهِ (قَبْلَ عَرْضِهِ) وَمُقَابَلَتِهِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي إِثْبَاتُ تَسْمِيعٍ عَلَى كِتَابٍ مُطْلَقًا إِلَّا بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ، (مَا لَمْ يُبَنْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، فِي كُلٍّ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّقْلِ أَنَّ النُّسْخَةَ غَيْرُ مُقَابَلَةٍ. [صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ] [جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ] صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ. (620) وَلْيَرْوِ مِنْ كِتَابِهِ وَإِنْ عَرِي ... مِنْ حِفْظِهِ فَجَائِزٌ لِلْأَكْثَرِ (621) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ كَذَا ... عَنْ مَالِكٍ وَالصَّيْدَلَانِيِّ وَإِذَا (622) رَأَى سَمَاعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَعَنْ ... نُعْمَانٍ الْمَنْعُ وَقَالَ ابْنُ الْحَسَنْ (623) مِعْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ الشَّافِعِي ... وَالْأَكْثَرِينَ بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ (624) وَإِنْ يَغِبْ وَغَلَبَتْ سَلَامَتُهْ ... جَازَتْ لَدَى جُمْهُورِهِمْ رِوَايَتُهْ (625) كَذَلِكَ الضَّرِيرُ وَالْأُمِّيُّ ... لَا يَحْفَظَانِ يَضْبِطُ الْمَرْضِيُّ (626) مَا سَمِعَا وَالْخُلْفُ فِي الضَّرِيرِ ... أَقْوَى وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيرِ [جَوَازُ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَصُونَةِ] : (صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ) سِوَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ فُصُولٌ: الْأَوَّلُ فِي جَوَازِ اعْتِمَادِ الْمُحَدِّثِ وَلَوْ كَانَ ضَرِيرًا أَوْ أُمِّيًّا الْكِتَابَ الْمَصُونَ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُ حَتَّى فِي أَصْلِ السَّمَاعِ وِإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ. (وَلْيَرْوِ) الرَّاوِي (مِنْ كِتَابِهِ) الْمُتْقَنِ الْمُقَابَلِ الْمَصُونِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ سَمَاعُ مَا تَضَمَّنَهُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، (وَإِنْ عَرِي) ; أَيْ: خَلَا (مِنْ حِفْظِهِ) بِحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ تَفْصِيلَ أَحَادِيثِهِ حَدِيثًا حَدِيثًا، أَوْ كَانَ يَحْفَظُهُ إِلَّا أَنَّهُ سَيِّئُ الْحِفْظِ، (فَـ) ذَاكَ (جَائِزٌ لِلْأَكْثَرِ) مِنَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ لَا الْقَطْعِ، فَإِذَا حَصَلَ كَفَى، وَلَمْ يَضُرَّهُ - كَمَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ - ذَلِكَ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَقْبَلِ التَّلْقِينَ إِذَا لَمْ يُرْزَقْ مِنَ الْحِفْظِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مَا رُزِقَهُ غَيْرُهُ. قَالَ: لِأَنِّي وَجَدْتُ الشُّهُودَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِحَدِّ الشَّهَادَةِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهَا كَتَفَاضُلِ الْمُحَدِّثِينَ، ثُمَّ لَا أَجِدُ بُدًّا مِنْ إِجَازَةِ شَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا. وَحِينَئِذٍ فَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحِفْظُ هُوَ الْإِتْقَانُ. وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ: (ثَلَاثَةٌ لَا غَنَاءَ لِلْمُحَدِّثِ عَنْهَا ; الْحِفْظُ وَالصِّدْقُ وَصِحَّةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 الْكُتُبِ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ الْحِفْظُ وَكَانَ فِيهِ مَا عَدَاهُ لَمْ يَضُرَّهُ) . وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَتَّزِرَ بِالصِّدْقِ وَيَرْتَدِيَ بِالْكُتُبِ. رَوَاهَا الْخَطِيبُ. وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَدِيثَ أَنْ يُحَدِّثَ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: قَالَ: قَالَ لِي سَيِّدِي أَحْمَدُ: لَا تُحَدِّثْ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ فَقُلْتُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا تُحَدِّثِ الْمُسْنَدَ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحِفْظَ خَوَّانٌ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِرْبَعٍ الْحَافِظُ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَانْقَلَبَتْ لَهُ بَغْدَادُ، وَنُصِبَ لَهُ الْمِنْبَرُ فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِنْ حِفْظِهِ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ. ثُمَّ قَالَ: هِيَ بَغْدَادُ، وَأَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، يَا أَبَا شَيْبَةَ - يَعْنِي ابْنَهُ إِبْرَاهِيَمَ - هَاتِ الْكِتَابَ. وَقَالَ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ: أُقْعِدَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بِسَامَرَّا عَلَى مِنْبَرٍ، فَقَالَ: يَقْبُحُ بِمَنْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابٍ. ثُمَّ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، فَغَلِطَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ. [عَدَمُ جَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْكُتُبِ] : (وَ) رُوِيَ (عَنْ) الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ (الْمَنْعُ) ، وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ إِلَّا فِيمَا رَوَاهُ الرَّاوِي مِنْ حِفْظِهِ وَتَذَكُّرِهِ لِلْمَرْوِيِّ تَفْصِيلًا مِنْ حِينِ سَمِعَهُ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ: كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يُحَدِّثِ الرَّجُلُ إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ وَيَحْفَظُ. وَ (كَذَا) رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ (مَالِكٍ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ كَمَا أَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ وَأَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي (الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ) لَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا: أَيُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَمَّنْ لَا يَحْفَظُهُ - زَادَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ ثِقَةٌ صَحِيحٌ -؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ يُخْرِجُ كِتَابَهُ وَيَقُولُ: هُوَ سَمَاعِي. قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يُكْتَبَ فِي كِتَابِهِ - يَعْنِي مَا لَيْسَ مِنْهُ - زَادَ الْخَطِيبُ: بِاللَّيْلِ - ثُمَّ اتَّفَقَا - وَهُوَ لَا يَدْرِي. (وَ) رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَحَدِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ (الصَّيْدَلَانِيِّ) الْمَرْوَزِيِّ، وَنُسِبَ لِلزَّيْنِ الْكَتَّنَانِيِّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتِيَارُهُ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: أَنَا لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَرْوِيَ إِلَّا حَدِيثَ: ( « أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ » ) لِأَنِّي مِنْ حِينِ سَمِعْتُهُ لِمَ أَنْسَهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ أَنْ أَقُولَهَا، لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقِلَهَا وَحَفِظَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَلَّا يَعِيَهَا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ. وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 (مُسْتَدْرَكِهِ) بِلَفْظِ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: (عَلَيْكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا - فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ) » قَدْ يَشْهَدُ لَهُ. وَلِذَا اسْتَدَلَّ بِهِمَا الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي الرِّوَايَةِ حَالَ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ يَرْوِي مَا لَا يَرْتَابُ فِي حِفْظِهِ، وَيَتَوَقَّفُ عَمَّا عَارَضَهُ الشَّكُّ فِيهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ عَقِبَ الْمَرْفُوعِ: (قَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ لَفْظَتَيْنِ غَرِيبَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: (يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ) . وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ: (فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ) قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يُحَدِّثَ بِمَا لَمْ يَحْفَظْهُ) . انْتَهَى. وَكَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ هُشَيْمٍ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ بِكِتَابٍ كَأَنَّهُ سِجِلُّ مُكَاتَبٍ. وَمِنْ ثَمَّ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - قَلَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ مَنْ قَالَ بِهَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَشَدِّدِينَ الَّذِينَ أَفْرَطُوا وَبَايَنُوا بِصَنِيعِهِمُ الْمُتَسَاهِلِينَ الَّذِينَ فَرَّطُوا، بِحَيْثُ قَالُوا بِالرِّوَايَةِ بِالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْلَامِ وَالْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَاتِ، وَمِنَ النُّسَخِ الَّتِي لَمْ تُقَابَلْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا بُسِطَ فِي مَحَالِّهِ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ كَانَ كِتَابُهُ بِيَدِهِ أَمْ بِيَدِ ثِقَةٍ ضَابِطٍ، وَإِنِ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَوْنَهُ بِيَدِهِ، كَمَا سَلَفَ فِي أَوَّلِ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ كِتَابُهُ عَنْ يَدِهِ أَمْ لَا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَسَوَاءٌ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ ابْتِدَاءً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 أَوْ حَفِظَ مِنْ كِتَابِهِ ثُمَّ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، لَكِنْ قَدْ كَانَ شُعْبَةُ رُبَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ حِفْظَهُ مِنْ كِتَابِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ حَفِظَهُ مِنْ فَمِ شَيْخِهِ ابْتِدَاءً. ثُمَّ إِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَصْوِيبِ ابْنِ الصَّلَاحِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَصَوَّبَ الشَّيْخُ لِقَوْلِ الْأَكْثَرِ ... وَهْوَ الصَّوَابُ لَيْسَ فِيهِ نَمْتَرِي [حُكْمُ مَنْ رَأَى سَمَاعَهُ فِي الْكِتَابِ] : (وَإِذَا رَأَى) الْمُحَدِّثُ (سَمَاعَهُ) فِي كِتَابٍ بِخَطِّهِ، أَوْ بِخَطِّ مَنْ يَثِقُ بِهِ - سَوَاءٌ الشَّيْخُ أَوْ غَيْرُهُ - فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ تَذَكَّرَهُ - وَهُوَ أَرْفَعُ الْأَقْسَامِ - جَازَتْ لَهُ رِوَايَتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لَهُ، وَبِلَا خِلَافٍ إِنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ بَلْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ غَيَّرَ سَمَاعَهُ فَقَدْ تَعَارَضَا، وَالظَّاهِرُ اعْتِمَادُ مَا فِي ذِكْرِهِ، وَقَدْ حَكَى لَنَا شَيْخُنَا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ شَيْخِنَا، بَلْ وَأَخَذَ شَيْخُنَا أَيْضًا عَنْهُ، وَثَنَا عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الطَّبَقَةَ قَبْلَ سَمَاعِهِ قَصْدًا لِلْإِسْرَاعِ، لَكِنْ يُؤَخِّرُ تَعْيِينَ التَّارِيخِ، وَطُعِنَ فِيهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِلْمَانِعِينَ. (وَ) إِنْ (لَمْ يَذْكُرْ) سَمَاعَهُ لَهُ، يَعْنِي: وَلَا عَدَمَهُ (فَعَنْ) أَبِي حَنِيفَةَ (نُعْمَانَ) أَيِ: النُّعْمَانِ أَيْضًا (الْمَنْعُ) مِنْ رِوَايَتِهِ، يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِمَا فِي الْكِتَابِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَعْرِفْهُ، كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كُتُبِي بِخَطِّي عَنْ شُعْبَةَ مَا لَمْ أَعْرِفْهُ فَطَرَحْتُهُ. وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّي فِي كِتَابٍ عِنْدِي، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «لَمْ يَحْتَجِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مَا أَدْرِي كَيْفَ كَتَبْتُهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنِّي سَمِعْتُهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالصَّيْدَلَانِيُّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إِذْ ضَبْطُ أَصْلِ السَّمَاعِ كَضَبْطِ الْمَسْمُوعِ، وَلَعَلَّ الصَّيْدَلَانِيَّ هُوَ الْمَقْرُونُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ بِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُوَيْنِيِّ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ، بَلْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي (فَتَاوَاهُ) : إِنَّهُ كَذِلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ: أَتَيْتُهُ بِجُزْءٍ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ رَوَاجِ الطَّبَقَةِ بِخَطِّهِ، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ. ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ بِخَطِّي لَكِنْ مَا أُحَقِّقُ سَمَاعَهُ وَلَا أَذْكُرُهُ. وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ. (وَقَالَ) صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ (ابْنُ الْحَسَنِ) هُوَ مُحَمَّدٌ (مَعْ) شَيْخِهِ وَرَفِيقِهِ الْقَاضِي (أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ) إِمَامِنَا (الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ) مِنْ أَصْحَابِهِ (بِالْجَوَازِ الْوَاسِعِ) الَّذِي لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ بِمِثْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ، وَالْأَوَّلَانِ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ. عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: كَانَ شَيْخِي يَتَرَدَّدُ فِيمَنْ شَهِدَ شَهَادَةً وَوَضَعَهَا عِنْدَهُ فِي صُنْدُوقٍ بِحَيْثُ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، ثُمَّ دُعِيَ إِلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وَلَكِنَّ الْجَوَازَ قَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي " فَتَاوَاهُ " عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ خِلَافَهُ ; إِمَّا بِالنَّظَرِ لِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيَهِ عَمَلُهُمْ - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - أَوْ لِكَوْنِهِ مَذْهَبَ أَكْثَرِهِمْ كَمَا اقْتَضَاهُ تَقْرِيرُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَالْأُولَى الَّتِي الْأَكْثَرُ فِيهَا عَلَى الْجَوَازِ. وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مَشَى شَيْخُنَا، بَلْ وُجِدَ فِي (صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ) بَلَاغًا بِخَطِّهِ عِنْدَ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِهِ أَثْبَتَ مَا يَدُلُّ لَأَزْيَدَ مِنْهُ، فَحَكَى حِينَ إِيرَادِ سَنَدِهِ صُورَةَ الْحَالِ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلِذَا أَقُولُ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الْإِفْصَاحُ بِالْوَاقِعِ، بَلْ قَالَ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ. ثُمَّ إِنَّهُ لِكَوْنِ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ نِسْيَانَهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ يَجُوزُ لِلْفَرْعِ رِوَايَةُ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ مَعَ تَصْرِيحِ الشَّيْخِ بَعْدَ تَحْدِيثِهِ إِيَّاهُ بِمَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنَا: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا إِذَا نَسِيَ الرَّاوِي سَمَاعَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَلَا يَضُرُّهُ نِسْيَانُ شَيْخِهِ. انْتَهَى. عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ قَدْ حَكَى فِي (الْعُدَّةِ) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِسْقَاطَ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، مَعَ الْإِشَارَةِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّ بِالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، أَوْ يُسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِسَمَاعِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَجِدْ بِذَلِكَ خَطًّا، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي " فَتَاوَاهُ ": إِنَّ مُقْتَضَى الْفِقْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الْجَوَازُ. وَنُقِلَ الْمَنْعُ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ. وَقَالَ الْفَرْغَانِيُّ: الدِّيَانَةُ لَا تُوجِبُ رِوَايَتَهُ، وَالْعَقْلُ لَا يُجِيزُ إِذَاعَتَهُ ; لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ كَذَّابٍ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. قَالَ: وَلِلرَّاوِي أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَعَلِمَ حِفْظَهُ لِمَا فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ سَمَاعَهُ عَلَى كِتَابِهِ لِئَلَّا يُوهِمَ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ. انْتَهَى. وَالْمُعْتَمَدُ الْجَوَازُ. ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - يَعْنِي فِي مَسْأَلَتَيِ اعْتِمَادِ الْكِتَابِ فِي الْمَسْمُوعِ وَأَصْلِ السَّمَاعِ - إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ، وَلَمْ يَتَشَكَّكْ فِيهِ، فَإِنْ تَشَكَّكَ - يَعْنِي فِي تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ وَنَحْوِهِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ، أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَلَا. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمْحًا فِي الْحَدِيثِ - بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ - كَانَ كَذَّابًا) . وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ تَرَكَهُ كُلَّهُ. وَنَحْوُهُ تَقْيِيدُ غَيْرِهِ بِمَا إِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ قَرِينَةُ التَّغْيِيرِ ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ لِاعْتِمَادِ الْكِتَابِ الْمُتْقَنِ مِنْ جِهَةِ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَةِ انْتِشَارًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْحِفْظُ لِكُلِّهِ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ نَعْتَمِدْ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ لَأَبْطَلْنَا جُمْلَةً مِنَ السُّنَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا. وَكَذَا خَصَّ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْكِتَابُ عَنْ يَدِهِ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ احْتِيَاطٌ حَسَنٌ. يَقْرُبُ مِنْهُ صَنِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ جُلِّهِمْ فِي الْمُكَاتَبَةِ حَيْثُ يَخْتِمُونَ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ) . وَمِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ مَا غَابَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ جَدُّ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ ابْنِ مَهْدِيٍّ حَيْثُ جَلَسَ مَعَ مَنْ رَامَ اسْتِعَارَةَ كِتَابِهِ حَتَّى نَسَخَ مِنْهُ، وَقَالَ: خَصْلَتَانِ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِمَا حُسْنُ الظَّنِّ ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 الْحُكْمُ وَالْحَدِيثُ. وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَرَوَاهُ نَازِلًا عَنِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْكِتَابَ مِنْ رُفَقَائِهِ عَنْ ذَاكَ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَا وَغُنْدَرٌ حَدِيثًا مِنْ شُعْبَةَ، فَبَاتَتِ الرُّقْعَةُ عِنْدَ غُنْدَرٍ، فَحَدَّثْتُ بِهِ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ تِلْمِيذِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَا نَسِيَ أَنَّهُ حَدَّثَ التِّلْمِيذَ بِهِ فِي آخَرِينَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ (إِنْ يَغِبْ) الْكِتَابُ عَنْهُ غَيْبَةً طَوِيلَةً فَضْلًا عَنْ يَسِيرَةٍ، بِإِعَارَةٍ أَوْ ضَيَاعٍ أَوْ سَرِقَةٍ، (وَغَلَبَتْ) عَلَى الظَّنِّ (سَلَامَتُهُ) مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ (جَازَتْ لَدَى) ; أَيْ: عِنْدَ (جُمْهُورِهِمْ) كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وِفُضَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَجَنَحَ إِلَيْهِ. (رِوَايَتُهْ) لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِذَا حَصَلَ أَجْزَأَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ مَزِيدٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّجُلِ يَجِدُ سَمَاعَهُ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ) ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا عَرَفَ الْخَطَّ. وَقَيَّدَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنْ يُعْرَفَ الشَّيْخُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَطِيبَ سَأَلَهُ عَمَّنْ وَجَدَ سَمَاعَهُ فِي كِتَابٍ مِنْ شَيْخٍ قَدْ سُمِّيَ وَنُسِبَ فِي الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ ; أَيِ: الشَّيْخَ، فَقَالَ: لَا تَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ ذَلِكَ الْكِتَابِ. [الِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الْأَعْمَى وَالْأُمِّيِّ] : (كَذَلِكَ الضَّرِيرُ) أَيِ: الْأَعْمَى (وَالْأُمِّيُّ) ; أَيِ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ، اللَّذَانِ (لَا يَحْفَظَانِ) حَدِيثَهُمَا مِنْ فَمِ مَنْ حَدَّثَهُمَا، تَصِحُّ رِوَايَتُهُمَا حَيْثُ (يَضْبِطُ الْمَرْضِيُّ) الثِّقَةُ لَهُمَا (مَا سَمِعَا) ثُمَّ يَحْفَظُ كُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابَهُ عَنِ التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَوْ بِثِقَةٍ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، مُسْتَعِينًا حِينَ الْأَدَاءِ أَيْضًا بِثِقَةٍ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَالنَّقْصِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِهَا، مِنْ حِينِ التَّحَمُّلِ إِلَى انْتِهَاءِ الْأَدَاءِ لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ مَزِيدِ الْحِفْظِ مَا يَأْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِ لِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ. مِثْلُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَفْطَنَهُ وَأَذْكَاهُ وَأَفْهَمَهُ. وَالْقَائِلُ هُوَ لِمُسْتَمْلِيهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَ عَلَيَّ فِي حَدِيثِي، فَاجْهَدْ جَهْدَكَ لَا أَرْعَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ رَعَيْتَ، أَحْفَظُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ. فَإِنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ كُفَّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ بُكَائِهِ فِي الْأَسْحَارِ يَأْمُرُ جَارِيَتَهُ فَتُلَقِّنُهُ وَيَحْفَظُ عَنْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ عِيبَ بِذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يُلَقِّنُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اعْتَمَدَ مَنْ عَلِمَ بِإِتْقَانِهِ مِنْهُمْ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأُسْنِدَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ فِي كُتُبِهِ، الْبَلَاءُ فِيهَا مِمَّنْ دُونَهُ، وَلِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مِنْ كُتُبِهِ أَصَحَّ، وَمِمَّنْ فَعَلَهُ فِي الْجُمْلَةِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَكَانَتْ لَهُ خَرِيطَةٌ فِيهَا كُتُبُهُ، فَكَانَ إِذَا جَاءَهُ إِنْسَانٌ دَفَعَ إِلَيْهِ الْخَرِيطَةَ، فَقَالَ: اكْتُبْ مِنْهَا مَا شِئْتَ. ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَابْنِ مَعِينٍ وَأَحْمَدَ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَنَرَى الْعِلَّةَ فِي الْمَنْعِ هِيَ جَوَازُ الْإِدْخَالِ عَلَيْهِمَا مَا لَيْسَ مِنْ سَمَاعِهِمَا. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي مَنَعَ مَالِكٌ لِأَجْلِهَا غَيْرَ الْحَافِظِ مِنَ الرِّوَايَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى كُتُبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ الْمَنْعُ، قَالَ فِي الرَّجُلِ يُلَقَّنُ حَدِيثَهُ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ يَعْرِفُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ بِمَا لَمْ يَحْفَظْهُ عَنْ شَيْخِهِ يَقُولُ: فِي كِتَابِنَا، أَوْ فِي كِتَابِي، وَكَذَا ذَكَرَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ: ثَنَا، وَلَا سَمِعْتُ. إِلَّا فِيمَا حَفِظَهُ مَنْ فِي الْمُحَدِّثِ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا ثَالِثًا. وَالْمَذْهَبَانِ الْأَوَّلَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي (الشَّهَادَاتِ) وَقَالَ: إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَبُولِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَالْخَلَفُ فِي الضَّرِيرِ: أَقْوَى وَأَوْلَى مِنْهُ فِي الْبَصِيرِ) الْأُمِّيِّ، يَعْنِي: لِخِفَّةِ الْمَحْذُورِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ خَاصَّةً، لَا مَعَ انْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْصَافِ، وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: قَدْ تُمْنَعُ الْأَوْلَوِيَّةُ مِنْ جِهَةِ تَقْصِيرِ الْبَصِيرِ، فَيَكُونُ الْأَعْمَى أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ أَتَى بِاسْتِطَاعَتِهِ. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا كُتِبَ لَهُمَا فَهُمَا سَوَاءٌ، إِذِ الْوَاقِفُ عَلَى كِتَابِهِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ مِنَ التَّغْيِيرِ أَوْ عَكْسِهَا. عَلَى أَنَّ الرَّافِعِيَّ قَدْ خَصَّ الْخِلَافَ فِي الضَّرِيرِ بِمَا سَمِعَهُ بَعْدَ الْعَمَى، فَأَمَّا مَا سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَا خِلَافٍ، يَعْنِي بِشَرْطِهِ، وَفِي نَفْيِ الْخِلَافِ تَوَقُّفٌ. إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَتَعْلِيلُ ابْنِ الصَّلَاحِ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ التَّصْحِيحِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِكَوْنِ السَّنَدِ لَا يَخْلُو غَالِبًا عَلَى مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِ ; لَا يَخْدِشُ فِي كَوْنِ الْمُعْتَمَدِ هُنَا اعْتِمَادَ غَيْرِ الْحَافِظِ الْكِتَابَ الْمُتْقِنِ، فَإِنَّ تَحْدِيثَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُتُبِهِمْ مُصَاحَبٌ غَالِبًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الْخَلَلُ، حَتَّى إِنَّ الْحَاكِمَ أَدْرَجَ فِي الْمَجْرُوحِينَ مَنْ تَسَاهَلَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ نُسَخٍ مُشْتَرَاةٍ أَوْ مُسْتَعَارَةٍ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ، لِتَوَهُّمِهِمُ الصِّدْقَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ غَالِبًا عَرِيٌّ عَنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، وَإِنْ نُوقِشَ فِي أَصْلِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ. [الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ] (627) وَلْيَرْوِ مِنْ أَصْلٍ أَوِ الْمُقَابَلِ ... بِهِ وَلَا يَجُوزُ بِالتَّسَاهُلِ (628) مِمَّا بِهِ اسْمُ شَيْخِهِ أَوْ أُخِذَا ... عَنْهُ لَدَى الْجُمْهُورِ وَأَجَازَ ذَا (629) أَيُّوبُ وَالْبُرْسَانُ قَدْ أَجَازَهْ ... وَرَخَّصَ الشَّيْخُ مَعَ الْإِجَازَهْ (630) وَإِنْ يُخَالِفْ حِفْظُهُ كِتَابَهُ ... وَلَيْسَ مِنْهُ فَرَأَوْا صَوَابَهُ (631) الْحِفْظَ مَعْ تَيَقُّنٍ وَالْأَحْسَنُ ... الْجَمْعُ كَالْخِلَافِ مِمَّنْ يُتْقِنُ الْفَصْلُ الثَّانِي (الرِّوَايَةُ مِنَ الْأَصْلِ) أَوِ الْفَرْعِ الْمُقَابَلِ، وَوُجُوبُ ذَلِكَ، وَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِتَابِ عِنْدَ تَخَالُفِهِمَا. (وَلْيَرْوِ) الْمُحَدِّثُ إِذَا رَامَ أَدَاءَ شَيْءٍ مِمَّا تَحَمَّلَهُ بِالسَّمَاعِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا. (مِنْ أَصْلٍ) تَحَمَّلَ مِنْهُ، (أَوْ) مِنَ الْفَرْعِ (الْمُقَابَلِ) الْمُقَابَلَةَ الْمُتْقَنَةَ (بِهِ) أَيْ: بِالْأَصْلِ، وَهُوَ شَرْطٌ (وَلَا يَجُوزُ) الْأَدَاءُ (بِالتَّسَاهُلِ) بِأَنْ يَرْوِيَ (مِمَّا) لَمْ يَكُنْ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلًا (بِهِ اسْمُ شَيْخِهِ) يَعْنِي سَمَاعَهُ (أَوْ) كَانَ فَرْعًا (أَخَذَ عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الشَّيْخِ مِنْ ثِقَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ بِحَيْثُ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ (لَدَى) أَيْ: عِنْدَ (الْجُمْهُورِ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا حَكَّاهُ الْخَطِيبُ، وَقَطَعَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ الْفَقِيهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَقَطْ. حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ بَلَاغًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا زَوَائِدُ لَيْسَتْ فِي نُسْخَةِ سَمَاعِهِ. (وَ) لَكِنْ قَدْ (أَجَازَ ذَا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 أَيِ: الْأَدَاءَ مِنْ كِلَيْهِمَا (أَيُّوبُ) بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ. (وَ) كَذَا أَبُو عُثْمَانَ أَوْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (الْبُرْسَانُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَسِينٌ مُهْمَلَةٌ، مَعَ حَذْفِ يَاءِ النِّسْبَةِ، نِسْبَةً لِقَبِيلَةٍ مِنَ الْأَزْدِ، الْبَصْرِيُّ (قَدْ أَجَازَهُ) أَيْضًا تَرَخُّصًا مِنْهُمَا. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَالَّذِي يُوجِبُهُ النَّظَرُ أَنَّهُ مَتَى عُرِفَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا النُّسْخَةُ هِيَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنَ الشَّيْخِ ; جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهَا إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ لَهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنْ فَرْعٍ كُتِبَ مِنْ أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُقَابَلْ، لَكِنْ بِشَرْطِ الْبَيَانِ لِذَلِكَ حِينَ الرِّوَايَةِ، وَإِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَيُّوبُ وَالْبُرْسَانِيُّ جَنَحَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ) . (وَ) كَذَا (رَخَّصَ) فِيهِ أَيْضًا (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ لَكِنْ (مَعَ) وُقُوعِ (الْإِجَازَهْ) مِنَ الْمُسْمِعِ لَهُ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، أَوْ بِسَائِرِ مَرْوِيَّاتِهِ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا غَنَاءَ فِي كُلِّ سَمَاعٍ عَنْهَا احْتِيَاطًا ; لِيَقَعَ مَا يَسْقُطُ فِي السَّمَاعِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ مَرْوِيًّا بِالْإِجَازَةِ. قَالَ: (وَلَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ مِنْ رِوَايَةِ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ بِالْإِجَازَةِ بِلَفْظِ " أَنَا أَوْ: ثَنَا " مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِلْإِجَازَةِ فِيهَا، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ يَقَعُ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّ التَّسَامُحِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي النُّسْخَةِ سَمَاعُ شَيْخِ شَيْخِهِ، أَوْ هِيَ مَسْمُوعَةٌ عَلَى شَيْخِ شَيْخِهِ، أَوْ مَرْوِيَّةٌ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ فِي رِوَايَتِهِ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 لَهُ إِجَازَةٌ شَامِلَةٌ مِنْ شَيْخِهِ، وَلِشَيْخِهِ إِجَازَةٌ شَامِلَةٌ مِنْ شَيْخِهِ) . قَالَ: (وَهَذَا تَيَسُّرٌ حَسَنٌ - هَدَانَا اللَّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَهُ - وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَاسَّةٌ فِي زَمَانِنَا جِدًّا) . يَعْنِي لِمَزِيدِ التَّوَسُّعِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بَقَاءُ السِّلْسِلَةِ خَاصَّةً، حَتَّى إِنَّهُ صَارَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ: هَذَا الْكِتَابُ أَوِ الْجُزْءُ مِنْ رِوَايَتِكَ. يُمَكِّنُهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا نَظَرٍ فِي النُّسْخَةِ وَلَا تَفَقُّدِ طَبَقَةِ سَمَاعٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبَحْثِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى حُصُولِ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ أَصْلِ السَّمَاعِ فَضْلًا عَنِ الْمَسْمُوعِ. (وَإِنْ يُخَالِفْ حِفْظُهُ كِتَابَهُ) وَقُلْنَا بِالْمُعْتَمَدِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِكِتَابِهِ الْمُتْقَنِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَفِظَ مِنْ كِتَابِهِ، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى، (وَ) إِنْ يَكُنْ (لَيْسَ) حَفِظَ (مِنْهُ) وَإِنَّمَا حَفِظَ مِنْ فَمِ الْمُحَدِّثِ أَوْ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ. (فَقَدْ رَأَوْا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (صَوَابَهُ الْحِفْظَ) ; أَيِ: اعْتِمَادَ الْحِفْظِ إِذَا كَانَ (مَعَ تَيَقُّنٍ) وَتَثَبُّتٍ فِي حِفْظِهِ، أَمَّا مَعَ الشَّكِّ أَوْ سُوءِ الْحِفْظِ فَلَا، (وَالْأَحْسَنُ) مَعَ تَيَقُّنِ (الْجَمْعُ) بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: حِفْظِي كَذَا وَكِتَابِي كَذَا. كَمَا فَعَلَ هَمَّامٌ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى حُلَّةً بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً» . فَقَالَ: هَكَذَا فِي حِفْظِي، وَفِي كِتَابِي ثَوْبَيْنِ. هَذَا مَعَ عَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا، فَالْحُلَّةُ لَا تُسَمَّى كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفَعَلَهُ شُعْبَةُ حَيْثُ رَوَى «حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ: ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَالَ: هَكَذَا فِي حِفْظِي، وَهُوَ سَاقِطٌ فِي كِتَابِي فِي آخَرِينَ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَذَلِكَ (كَالْخِلَافِ مِمَّنْ يُتْقِنُ) مِنَ الْحُفَّاظِ لَهُ فِيمَا حَفِظَهُ حَيْثُ يَحْسُنُ فِيهِ أَيْضًا - كَمَا كَانَ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا يَفْعَلُونَ - بَيَانُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَيَقُولُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 فِي حِفْظِي كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِيهِ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. بَلْ قِيلَ لِشُعْبَةَ حِينَ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ قَالَ: إِنَّهُ فِي حِفْظِهِ كَذَلِكَ، وَفِي زَعْمِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ خِلَافُهُ -: يَا أَبَا بِسْطَامَ، حَدِّثْنَا بِحِفْظِكَ وَدَعْنَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ عُمْرِيَ فِي الدُّنْيَا عُمُرُ نُوحٍ، وَأَنِّي حَدَّثْتُ بِهَذَا وَسَكَتُّ عَنْ هَذَا. وَرُبَّمَا ذَكَرَ مَا قَدْ يَتَرَجَّحُ بِهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ: وَقَالَ فِيهِ فُلَانٌ وَكَانَ أَحْفَظَ مِنِّي وَأَكْثَرَ مُجَالَسَةً لِشَيْخِهِ مِنِّي. [الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى] (632) وَلْيَرْوِ بِالْأَلْفَاظِ مَنْ لَا يَعْلَمُ ... مَدْلُولَهَا وَغَيْرُهُ فَالْمُعْظَمُ (633) أَجَازَ بِالْمَعْنَى وَقِيلَ لَا الْخَبَرْ ... وَالشَّيْخُ فِي التَّصْنِيفِ قَطْعًا قَدْ حَظَرْ (634) وَلْيَقُلِ الرَّاوِي بِمَعْنًى أَوْ كَمَا ... قَالَ وَنَحْوَهُ كَشَكٍّ أُبْهِمَا [الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَالْخِلَافُ فِيهَا] : الْفَصْلُ الثَّالِثُ: (الرِّوِايَةُ بِالْمَعْنَى) وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَالِاسْتِحْبَابُ لِمَنْ رَوَى بِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. (وَلْيَرْوِ بِالْأَلْفَاظِ) الَّتِي سَمِعَ بِهَا مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا بِدُونِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ لِحَرْفٍ فَأَكْثَرَ، وَلَا إِبْدَالِ حَرْفٍ أَوْ أَكْثَرَ بِغَيْرِهِ، وَلَا مُشَدَّدٍ بِمُخَفَّفٍ أَوْ عَكْسِهِ، (مَنْ) تَحَمَّلَ مِنْ غَيْرِ التَّصَانِيفِ مِمَّنْ (لَا يَعْلَمُ مَدْلُولَهَا) أَيِ: الْأَلْفَاظِ فِي اللِّسَانِ، وَمَقَاصِدَهَا، وَمَا يُحِيلُ مَعْنَاهَا، وَالْمُحْتَمَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادِفَ مِنْهَا، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ بِتَغْيِيرِهِ مِنَ الْخَلَلِ. أَلَا تَرَى إِلَى إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ كَيْفَ أَنْكَرَ عَلَى شُعْبَةَ - مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِتْقَانِهِ - رِوَايَتَهُ بِالْمَعْنَى عَنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 لِحَدِيثِ «النَّهْيِ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» بِلَفْظِ: «نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ» . الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ حَيْثُ لَمْ يَفْطِنْ لِمَا فَطِنَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ الَّذِي رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، مِنَ اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِالرِّجَالِ. (وَأَمَّا غَيْرُهُ) مِمَّنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيُحَقِّقُهُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَرْبَابُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ. (فَالْمُعْظَمُ) مِنْهُمْ (أَجَازَ) لَهُ الرِّوَايَةَ (بِالْمَعْنَى) إِذَا كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ أَدَّى مَعْنَى اللَّفْظِ الَّذِي بَلَغَهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَرْفُوعُ أَوْ غَيْرُهُ، كَانَ مُوجِبُهُ الْعِلْمَ أَوِ الْعَمَلَ، وَقَعَ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِمَا، حَفِظَ اللَّفْظَ أَمْ لَا، صَدَرَ فِي الْإِفْتَاءِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ، أَتَى بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ لَهُ أَمْ لَا، كَانَ مَعْنَاهُ غَامِضًا أَوْ ظَاهِرًا، حَيْثُ لَمْ يَحْتَمِلِ اللَّفْظُ غَيْرَ ذَاكَ الْمَعْنَى وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِرَادَةُ الشَّارِعِ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ دُونَ التَّجَوُّزِ فِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ. وَجَاءَ الْجَوَازُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ قَالَ: لَقِيتُ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَاجْتَمَعُوا فِي الْمَعْنَى وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ، فَقُلْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُحِلْ مَعْنَاهُ. حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: إِنَّا قَوْمٌ عَرَبٌ، نُورِدُ الْأَحَادِيثَ فَنُقَدِّمُ وَنُؤَخِّرُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كُنْتُ أَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْ عَشَرَةٍ، الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَمِمَّنْ كَانَ يَرْوِي بِالْمَعْنَى مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، فَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَنْقُلُونَ مَعْنًى وَاحِدًا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ مُعَوَّلَهُمْ كَانَ عَلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. انْتَهَى. وَلِانْتِشَارِهِ أَجَابَ مَالِكٌ مَنْ سَأَلَهُ لِمَ لَمْ تَكْتُبْ عَنِ النَّاسِ وَقَدْ أَدْرَكْتَهُمْ مُتَوَافِرِينَ؟ بِقَوْلِهِ: لَا أَكْتُبُ إِلَّا عَنْ رَجُلٍ يَعْرِفُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ. وَكَذَا تَخْصِيصُهُ تَرْكُ الْأَخْذِ عَمَّنْ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ بِكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُدَوَّنَ الْكُتُبُ وَالْحَدِيثُ فِي الصُّدُورِ ; لِأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَخْلِطَ فِيمَا يُحَدِّثُ بِهِ. فِيهِ إِشَارَةٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ عَلَى الْمَعَانِي، وَإِلَّا فَلَوْ حَفِظَهُ لَفْظًا لَمَا أَنْكَرَهُ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِيمَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِلَفْظِ الْمُحَدِّثِ كَوْنَهُ عَاقِلًا لِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيًا لَهُ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» ) . فَلَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ مَعْنَاهُ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَذْكُرْهُ كَذَلِكَ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ فَيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ لِلْعُلَمَاءِ. ثُمَّ جَعَلَا مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَزَمَا بِالْجَوَازِ فِيهِمَا، وَمَثَّلَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: ( «اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ» ) فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، وَالنَّهْيَ بِقَوْلِهِ: ( «لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» ) فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: نَهَى عَنْ كَذَا وَكَذَا. لِأَنَّ " افْعَلْ " أَمْرٌ، وَ " لَا تَفْعَلْ " نَهْيٌ. وَنَازَعَهُمَا الْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ " افْعَلْ " لِلْوُجُوبِ، وَ " لَا تَفْعَلْ لِلتَّحْرِيمِ "، بِخِلَافِ لَفْظِ الْأَمْرِ وَلَفْظِ النَّهْيِ. وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذِ " افْعَلْ " وَ " لَا تَفْعَلْ " حَقِيقَةً عِبَارَةٌ عَنْهُمَا. وَكَذَا عَلَيْهِ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَقِّي وَالتَّحَرِّي خَوْفًا مِنْ إِحَالَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: لَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا. قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. حَتَّى إِنَّ بَعْضَ مَنْ ذَهَبَ لِهَذَا شَدَّدَ فِيهِ أَكْثَرَ التَّشْدِيدِ، فَلَمْ يُجِزْ تَقْدِيمَ كَلِمَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ، وَحَرْفٍ عَلَى آخَرَ، وَلَا إِبْدَالَ حَرْفٍ بِآخَرَ، وَلَا زِيَادَةَ حَرْفٍ وَلَا حَذْفَهُ، فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ، وَلَا تَخْفِيفَ ثَقِيلٍ، وَلَا تَثْقِيلَ خَفِيفٍ، وَلَا رَفْعَ مَنْصُوبٍ، وَلَا نَصْبَ مَجْرُورٍ أَوْ مَرْفُوعٍ، وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، بَلِ اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّفْظِ وَلَوْ خَالَفَ اللُّغَةَ الْفَصِيحَةَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَحْنًا، كَمَا بَيَّنَ تَفْصِيلَ هَذَا كُلِّهِ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) مِمَّا سَيَأْتِي بَعْضُهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ وَالسَّادِسِ وَالْعَاشِرِ قَرِيبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الدُّخُولِ فِي الْوَعِيدِ حَيْثُ عَزَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا لَمْ يَقُلْهُ، وَلِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لَهُ الْكَلِمُ اخْتِصَارًا. وَغَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِأَقْصَى غَايَةٍ لَيْسَ مِثْلَهُ، بَلْ قَدْ يَظُنُّ تَوْفِيَةَ اللَّفْظِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا عُهِدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وَأَيْضًا فَالِاتِّفَاقُ حَاصِلٌ عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ بِأَشْيَاءَ قَصَدَ فِيهَا الْإِتْيَانَ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، نَحْوَ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِالْحَدِيثِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ» ) . «وَرَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِي عَلَّمَهُ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ أَخْذِ مَضْجَعِهِ إِذْ قَالَ: وَ " رَسُولِكَ " بِقَوْلِهِ: " لَا، وَنَبِيِّكَ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْوَاقِعَ، وَلَكِنْ لَمْ يَتِّفِقْ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَمِمَّنِ اعْتَمَدَهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ فِي (صَحِيحِهِ) يُمَيِّزُ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ حَتَّى فِي حَرْفٍ مِنَ الْمَتْنِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ مَعْنًى، وَرُبَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إِلَّا مَنْ هُوَ فِي الْعِلْمِ بِمَكَانٍ، بِخِلَافِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا سَلَكَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَبَقَهُمَا لِذَلِكَ شَيْخُهُمَا أَحْمَدُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَهُ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَا: أَنَا هِشَامٌ - قَالَ عَبَّادٌ: ابْنُ زِيَادٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: ( «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا) . قَالَ عَبَّادٌ: (وَإِنْ قَدُمَ عَهْدُهَا» ) . وَرُبَّمَا نَشَأَ عَنْ نِسْبَةِ مَا يَزِيدُهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْأَنْسَابِ إِثْبَاتُ رَاوٍ لَا وُجُودَ لَهُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي سَابِعِ الْفُصُولِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي " أَبِي دَاوُدَ " سَاقَ فِي الْأَذَانِ حَدِيثًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى بِلَفْظِ: ( «وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ» ) . فَقَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: (أَنْ يَقُولُوا) . وَبِلَفْظِ: ( «لَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ خَيْرًا» ) فَقَالَ: وَلَمْ يَقُلْ عَمْرٌو: (لَقَدْ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 (وَقِيلَ: لَا) يَجُوزُ (فِي الْخَبَرِ) يَعْنِي حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ مُوجَبُهُ عَمَلًا كَـ ( «تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» ) . وَ ( «خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» ) ، وَإِنْ كَانَ مُوجَبُهُ عِلْمًا جَازَ، بَلْ وَفِي الْعَمَلِ أَيْضًا مَا يَجُوزُ بِالْمَعْنَى، نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ خَاصَّةً، لِظُهُورِ الْخَلَلِ فِي اللِّسَانِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ فَهُمْ أَرْبَابُ اللِّسَانِ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْكَلَامِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ، بَلْ جَزَمَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الصَّحَابِيِّ، وَجَعَلَا الْخِلَافَ فِي الصَّحَابِيِّ دُونَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ. وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُ مُعَاصِرِي الْخَطِيبِ، وَهُوَ حَفِيدُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي (أَدَبِ الرِّوَايَةِ) ، قَالَ: لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا قَيَّدَهُ الْإِسْنَادُ وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ لَفْظُهُ فَيَدْخُلَهُ الْكَذِبُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَحْفَظُ اللَّفْظَ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ الَّتِي رُخِّصَ فِيهِ بِسَبَبِهَا، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى وَعَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَلَزِمَهُ أَدَاءُ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ بِتَرْكِهِ يَكُونُ كَاتِمًا لِلْأَحْكَامِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (الْحَاوِي) وَذَهَبَ إِلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ وَالتَّبْلِيغِ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْإِفْتَاءِ وَالْمُنَاظَرَةِ. قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ (الْإِحْكَامِ) . وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمُرَادِفِ لَهُ بِخِلَافِهِ بِهِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيلَ: إِنَّ النِّزَاعَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَتَفَرَّعُ عَنِ النِّزَاعِ فِيهَا، وَهِيَ: جَوَازُ إِقَامَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُقَامَ الْآخَرِ. عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْنَى الْغَامِضِ دُونَ الظَّاهِرِ. أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ. وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ فِي ضَبْطِ الْأَلْفَاظِ وَالْجُمُودِ عَلَيْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْحَرَجِ وَالنَّصَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا الْمَعْنَى مَا حَدَّثْنَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نُحَدِّثَكُمْ بِالْحَدِيثِ كَمَا سَمِعْنَاهُ مَا حَدَّثْنَاكُمْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ وَكِيعٌ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى وَاسِعًا فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مَعْرِفَةً مِنْهُ بِأَنَّ الْحِفْظَ قَدْ يَزِلُّ، لِتَحِلَّ لَهُمْ قِرَاءَتُهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظُهُمْ فِيهِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِي اخْتِلَافِهِمْ إِحَالَةُ مَعْنًى، كَانَ مَا سِوَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِيهِ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ مَا لَمْ يُحِلْ مَعْنَاهُ. وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ يَحْيَى بْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فَإِنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ أَعْظَمُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَرُخِّصَ أَنْ نَقْرَأَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ: سَأَلْنَا الزُّهْرِيَّ عَنِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ! إِذَا أَصَبْتَ مَعْنَى الْحَدِيثِ ; فَلَمْ تُحِلَّ بِهِ حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمْ بِهِ حَلَالًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ. بَلْ قَالَ مَكْحُولٌ وَأَبُو الْأَزْهَرِ: دَخَلْنَا عَلَى وَاثِلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَ وَهْمٌ وَلَا نِسْيَانٌ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَمَا نَحْنُ لَهُ بِحَافِظَيْنِ جِدًّا، إِنَّا لَنَزِيدُ الْوَاوَ وَالْأَلِفَ وَنَنْقُصُ. قَالَ: فَهَذَا الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَا تَأْلُونَهُ حِفْظًا، وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَزِيدُونَ فِيهِ وَتَنْقُصُونَ مِنْهُ، فَكَيْفَ بِأَحَادِيثَ سَمِعْنَاهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَسَى أَلَّا نَكُونَ سَمِعْنَاهَا مِنْهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، حَسْبُكُمْ إِذَا حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى. وَاحْتَجَّ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] ، وَ {بِقَبَسٍ} [طه: 10] أَوْ {جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} [القصص: 29] ، وَكَذَلِكَ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُمْ لِقَوْمِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ إِلَيْنَا ذَلِكَ بِالْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] ، وَقُلْ لِلَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 كَفَرُوا، وَاللَّهِ الْوَاحِدِ الصَّمَدِ» . فَسَمَّى السُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْمَعْنَى. وَمِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - مَا حَكَى فِيهِ الْخَطِيبُ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ مِنْ جَوَازِ شَرْحِ الشَّرِيعَةِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ لِلْعَارِفِ بِهِ، فَإِذَا جَازَ الْإِبْدَالُ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَجَوَازُهُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاسْتَأْنَسُوا لِلْجَوَازِ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ فَلَا نَقْدِرُ أَنْ نُؤَدِّيَهُ. فَقَالَ: (إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمُوا حَلَالًا، وَأَصَبْتُمُ الْمَعْنَى، فَلَا بَأْسَ) » . وَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ لَا يَصِحُّ، بَلْ ذَكَرَهُ الْجُوزْقَانِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ "، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. وَكَذَا اسْتَأْنَسُوا لَهُ بِمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ) . قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى عُرِفَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالُوا: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ هَذَا وَنَحْنُ نَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ فَنَزِيدُ وَنَنْقُصُ، وَنُقَدِّمُ وَنُؤَخِّرُ) . فَقَالَ: (لَمْ أَعْنِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَنَيْتُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ يُرِيدُ عَيْبِي وَشَيْنَ الْإِسْلَامِ» ) . وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ أَيْضًا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، اتَّفَقُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ، بَلْ قَالَ صَالِحٌ جَزَرَةُ: إِنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ. لَكِنْ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 طَرِيقٌ أُخْرَى، رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَالْخَطِيبُ فِي (كِفَايَتِهِ) ، مَعًا مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَتَمَّ مِنْهُ. وَبِهِ تَعَلَّقَ بَعْضُ الْوَضَّاعِينَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ هُنَاكَ. ثُمَّ إِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِفُ يَدْفَعُهُ الْقَطْعُ بِنَقْلِ أَحَادِيثَ - كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا - فِي وَقَائِعَ مُتَّحِدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، بِحَيْثُ كَانَ إِجْمَاعًا، وَالْقَصْدُ قَطْعًا مَعَ إِيرَادِ اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى، وَهُوَ حَاصِلٌ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الشَّارِعِ أَبْلَغَ وَأَوْجَزَ، وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ مَعْنَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِلْحَاقُ حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ التَّوْقِيفِيَّاتِ لَا دَلِيلَ لَهُ كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ. وَحَدِيثُ (نَضَّرَ اللَّهُ) رُبَّمَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلْجَوَازِ، لِكَوْنِهِ مَعَ مَا قِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ: كَـ (رَحِمَ اللَّهُ) ، وَ (مَنْ سَمِعَ) ، وَ (مَقَالَتِي) ، وَ (بَلَّغَهُ) ، وَ (أَفْقَهُ) ، وَ (لَا فِقْهَ لَهُ) مَكَانَ (نَضَّرَ اللَّهُ) ، وَ (امْرَأً) ، وَ (مِنَّا حَدِيثًا) ، وَ (أَدَّاهُ) ، وَ (أَوْعَى) ، وَ (لَيْسَ بِفَقِيهٍ) . لَا سِيَّمَا وَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِفِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: ( «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوَعَى مِنْ سَامِعٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ) . وَأَمَّا حَدِيثُ: (لَا وَنَبِيِّكَ) فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ تَحَقَّقَ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي اللَّفْظَيْنِ مُتَّحِدٌ ; لِأَنَّ الذَّاتَ الْمُحَدَّثَ عَنْهَا وَاحِدَةٌ، فَالْمُرَادُ يُفْهَمُ بِأَيِ صِفَةٍ وُصِفَ بِهَا الْمَوْصُوفُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَنْعَ لِكَوْنِ أَلْفَاظِ الْأَذْكَارِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ تَوْقِيفِيَّةً، وَلَهَا خَصَائِصُ وَأَسْرَارٌ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، فَتَجِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُورِدَ الْأَحَادِيثَ بِأَلْفَاظِهَا كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ وَأَفْضَلُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ، وَلِذَا كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ - فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - يَتَوَقَّى كَثِيرًا، وَيُحِبُّ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْأَلْفَاظِ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ تَحَمَّلَ مِنْ غَيْرِ التَّصَانِيفِ. وَالشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي (التَّصْنِيفِ) الْمُدَوَّنِ (قَطْعًا قَدْ حَظَرَ) بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: مَنَعَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتَ لَفْظٍ آخَرَ بَدَلَهُ بِمَعْنَاهُ، بِدُونِ إِجْرَاءِ خِلَافٍ مِنْهُ، بَلْ وَلَا عُلِمَ غَيْرُهُ أَجْرَاهُ، لِكَوْنِ الْمَشَقَّةِ فِي ضَبْطِ الْأَلْفَاظِ وَالْجُمُودِ عَلَيْهَا الَّتِي هُوَ مُعَوَّلُ التَّرْخِيصِ مُنْتَفِيَةً فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، يَعْنِي كَمَا هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَحْكِيِّ فِيهِ الْمَنْعُ لِحَافِظِ اللَّفْظِ، وَأَيْضًا فَهُوَ إِنْ مَلَكَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ فَلَيْسَ يَمْلِكُ تَغْيِيرَ تَصْنِيفِ غَيْرِهِ. وَهَذَا قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْمَنْعِ بِمَا إِذَا رَوَيْنَا التَّصْنِيفَ نَفْسَهُ أَوْ نَسَخْنَاهُ، أَمَّا إِذَا نَقَلْنَا مِنْهُ إِلَى تَخَارِيجِنَا وَأَجْزَائِنَا فَلَا، إِذِ التَّصْنِيفُ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ مَالِكٌ لِتَغْيِيرِ اللَّفْظِ. أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَأَقَرَّهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ نَازَعَ الْمُؤَلِّفُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا يَجْرِي عَلَى الِاصْطِلَاحِ، فَإِنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَنْ لَا تُغَيَّرَ الْأَلْفَاظُ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ، سَوَاءٌ رَوَيْنَا فِيهَا أَوْ نَقَلْنَا مِنْهَا. وَوَافَقَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي كَوْنِهِ الِاصْطِلَاحَ، لَكِنَّ مَيْلَ شَيْخِنَا إِلَى الْجَوَازِ إِذَا قُرِنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: " بِنَحْوِهِ ". وَيَشْهَدُ لَهُ تَسْوِيَةُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 رَابِعِ التَّنْبِيهَاتِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. [الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقُولُهَا الرَّاوِي بِالْمَعْنَى] : (وَلْيَقُلِ الرَّاوِي) عَقِبَ إِيرَادِهِ لِلْحَدِيثِ (بِمَعْنَى) أَيْ: بِالْمَعْنَى، (أَوْ كَمَا قَالَ) ، فَقَدْ كَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْبَابِ الْمَعْقُودِ لِمَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى - يَقُولُهَا عَقِبَ الْحَدِيثِ (وَنَحْوَهُ) مِنَ الْأَلْفَاظِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ نَحْوَ هَذَا، أَوْ شِبْهَهُ، أَوْ شَكْلَهُ. فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أُرْعِدَ وَأُرْعِدَتْ ثِيَابُهُ، وَقَالَ: أَوْ شِبْهُ ذَا أَوْ نَحْوُ ذَا. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا، أَوْ نَحْوُ هَذَا، أَوْ شَكْلُهُ. وَرَوَاهَا كُلَّهَا الدَّارِمِيُّ فِي (مُسْنَدِهِ) بِنَحْوِهَا، وَلَفْظُهُ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ، أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ نَحْوُهُ، أَوْ شَبِيهٌ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِغَيْرِهِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ سَمِعَ يَوْمًا ابْنَ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَلَاهُ كَرْبٌ، وَجَعَلَ الْعَرَقُ يَنْحَدِرُ مِنْهُ عَنْ جَبِينِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِمَّا فَوْقَ ذَلِكَ، وَإِمَّا دُونَ ذَلِكَ، وَإِمَّا قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا (كَشَكٍّ) مِنَ الْمُحَدِّثِ أَوِ الْقَارِئِ (أُبْهِمَا) عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: أَوْ كَمَا قَالَ. بَلْ أَوْرَدَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ حَدِيثًا، وَفِي آخِرِهِ: قَالَ الْعَبَّاسُ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَّامٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ إِلَّا أَنْ أُخْطِئَ شَيْئًا لَا أُرِيدُهُ، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ - أَيِ الْقَوْلُ - كَمَا قَالَ فِي الشَّكِّ - الصَّوَابُ فِي مِثْلِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (أَوْ كَمَا قَالَ) يَتَضَمَّنُ إِجَازَةً مِنَ الرَّاوِي وَإِذْنًا فِي رِوَايَةِ الصَّوَابِ عَنْهُ إِذَا بَانَ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ إِفْرَادُ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ، لِمَا قَرَّرْنَاهُ. يَعْنِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالصَّحَابَةُ أَصْحَابُ اللِّسَانِ وَأَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِلَّا تَخَوُّفًا مِنَ الزَّلَلِ. لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ عَلَى الْمَعْنَى مِنَ الْخَطَرِ. انْتَهَى. وَإِدْرَاجُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَهُمْ فِي الْمُجِيزِينَ، إِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِ صَنِيعِهِمْ هَذَا، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَا يَصِحُّ فَهْمُهُ. [الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ] (635) وَحَذْفَ بَعْضِ الْمَتْنِ فَامْنَعْ أَوْ أَجِزْ ... أَوْ إِنْ أُتِمْ أَوْ لِعَالِمٍ وَمِزْ (636) ذَا بِالصَّحِيحِ إِنْ يَكُنْ مَا اخْتَصَرَهْ ... مُنْفَصِلًا عَنِ الَّذِي قَدْ ذَكَرَهْ (637) وَمَا لِذِي تُهْمَةٍ أَنْ يَفْعَلَهْ ... فَإِنْ أَبَى فَجَازَ أَلَّا يُكْمِلَهْ (638) أَمَّا إِذَا قُطِّعَ فِي الْأَبْوَابِ ... فَهْوَ إِلَى الْجَوَازِ ذُو اقْتِرَابِ [عَدَمُ جَوَازِ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ] : الْفَصْلُ الرَّابِعُ: الِاقْتِصَارُ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَرُبَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالِاخْتِصَارِ مَجَازًا، وَتَفْرِيقُ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 عَلَى الْأَبْوَابِ. (وَحَذْفَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (بَعْضِ الْمَتْنِ) أَيِ: الْحَدِيثِ مِمَّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمُثْبَتِ (فَامْنَعْ) إِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَكٍّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ لَهُ تَامًّا أَمْ لَا، كَانَ عَارِفًا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَلَلُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، بِنَاءً - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ - عَلَى مَنْعِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا ; لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ عَلَى النُّقْصَانِ، وَالْحَذْفَ لِبَعْضِ مَتْنِهِ، تَقْطَعُ الْخَبَرَ وَتُغَيِّرُهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَرُبَّمَا حَصَلَ الْخَلَلُ وَالْمُخْتَصِرُ لَا يَشْعُرُ. قَالَ عَنْبَسَةُ: قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: عَلِمْتُ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصِرَ الْحَدِيثَ فَيَقْلِبَ مَعْنَاهُ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَوَ فَطِنْتَ لَهُ؟ وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: إِنَّهُمْ يُخْطِئُونَ فَحُسِمَتِ الْمَادَّةُ لِذَلِكَ. هَذَا الْإِمَامُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ، وَنَاهِيكَ بِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي (صَحِيحِهِ) : " إِيجَابُ دُخُولِ النَّارِ لِمَنْ أَسْمَعَ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا يَكْرَهُونَ "، وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِلَفْظِ: (مَنْ سَمِعَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا دَخَلَ النَّارَ) . وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ، وَكُلُّ هَذَا خَطَأٌ، فَلَفْظُ الْحَدِيثِ: ( «مَنْ سَمِعَ بِي مِنْ أُمَّتِي أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي دَخَلَ النَّارَ» ) . وَكَذَا تَرْجَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي (أَحْكَامِهِ) " الْوَلِيمَةُ عَلَى الْأُخُوَّةِ "، وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسٍ: «قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ» ، لِكَوْنِ الْبُخَارِيِّ أَوْرَدَهُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ مِنْ (صَحِيحِهِ) بِاخْتِصَارِ قِصَّةِ التَّزْوِيجِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 مُقْتَصِرًا عَلَى الْإِخَاءِ وَالْأَمْرِ بِالْوَلِيمَةِ، فَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ لِلْأُخُوَّةِ، وَلَيْسَ كَذِلِكَ، وَالْحَدِيثُ قَدْ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ تَامًّا فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ، وَلَيْسَتِ الْوَلِيمَةُ فِيهِ إِلَّا لِلنِّكَاحِ جَزْمًا. وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ. وَاحْتُجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ) . وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى أَنْ يُخْتَصَرَ الْحَدِيثُ إِذَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَعْنِي دُونَ غَيْرِهِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَشْهَبُ إِذْ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْأَحَادِيثِ يُقَدَّمُ فِيهَا وَيُؤَخَّرُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُزَادَ فِيهَا وَيُنْقَصَ مِنْهَا، وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا. بَلْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُ لَا يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ كَانَ لِشَكٍّ فَهُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَتَبِعَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ - سَائِغٌ، كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُهُ كَثِيرًا تَوَرُّعًا، بَلْ كَانَ يَقْطَعُ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ إِذَا شَكَّ فِي وَصْلِهِ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، نَعَمْ إِنْ تَعَلَّقَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ بِالْمُثْبَتِ كَقَوْلِ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي حَدِيثِ الرُّخْصَةِ فِي الْعَرَايَا: ( «فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةٍ أَوْسُقٍ» ) ، فَلَا. [جَوَازُ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا] : (أَوْ) هُوَ الْقَوَلُ الثَّانِي (أَجِزْ) ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَاجَ إِلَى تَغْيِيرٍ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى أَمْ لَا، تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ لَهُ تَامًّا أَمْ لَا، لِمَا سَيَجِيءُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 قَرِيبًا، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ حَيْثُ قَالَ: انْقُصْ مِنَ الْحَدِيثِ مَا شِئْتَ، وَلَا تَزِدْ فِيهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ: إِذَا خِفْتَ أَنْ تُخْطِئَ فِي الْحَدِيثِ فَانْقُصْ مِنْهُ وَلَا تَزِدْ. وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ لِمُسْلِمٍ، وَالْمَوْجُودُ عَنْهُ مَا سَيَأْتِي. [جَوَازُ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ مَعَ الشُّرُوطِ] : (أَوْ) وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، فَأَجِزْهُ (إِنْ أُتِمَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، إِيرَادُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مَرَّةً بِحَيْثُ أُمِنَ بِذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ حُكْمٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ جَازَتْ عِنْدَ قَائِلِهِ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ - الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى. (أَوْ) وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ: فَأَجِزْهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، إِنْ وَقَعَ (لِعَالِمٍ) عَارِفٍ، وَإِلَّا فَلَا، (وَمِزْ) . أَيْ: مَيِّزْ (ذَا) الْقَوْلَ عَنْ سَائِرِهَا بِوَصْفِهِ (بِالصَّحِيحِ إِنْ يَكُنْ مَا اخَتَصَرَهُ) بِالْحَذْفِ مِنَ الْمَتْنِ (مُنْفَصِلًا عَنِ) الْقَدْرِ (الَّذِي قَدْ ذَكَرَهُ) مِنْهُ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، بِحَيْثُ لَا يَخْتَلُّ الْبَيَانُ وَلَا تَخْتَلِفُ الدَّلَالَةُ فِيمَا نَقَلَهُ بِتَرْكِ مَا حَذَفَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: (لَا يُبَاعُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ) . وَالْغَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ( «لَا يُبَاعُ النَّخْلُ حَتَّى تَزْهَى» ) . وَالشَّرْطِ وَنَحْوِهَا. قَالَ صَاحِبُ (الْمُسْتَصْفَى) : وَمَنْ جَوَّزَهُ شَرَطَ عَدَمَ تَعَلُّقِ الْمَذْكُورِ بِالْمَتْرُوكِ تَعَلُّقًا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ، فَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ، كَشَرْطِ الْعِبَادَةِ أَوْ رُكْنِهَا، فَنَقْلُ الْبَعْضِ تَحْرِيفٌ وَتَلْبِيسٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَرْكًا لِنَقْلِ الْعِبَادَةِ، كَنَقْلِ بَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، أَوْ تَرْكًا لِنَقْلِ فَرْضٍ آخَرَ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ، كَتَرْكِ نَقْلِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ: (وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يَحِلُّ الِاخْتِصَارُ) . انْتَهَى. وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ لِبَعْضِ هَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَنْجِي بِهِمَا فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: (إِنَّهَا رِجْسٌ، ابْغِ لِي ثَالِثًا» ) فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا عَدَا قَوْلَهُ: (ابْغِ لِي ثَالِثًا) . وَإِنْ كَانَ لَا يُخِلُّ بِرَمْيِ الرَّوْثَةِ وَأَنَّهَا رِجْسٌ، لِإِيهَامِهِ الِاكْتِفَاءَ بِحَجَرَيْنِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْإِمَامُ لِمِثْلِ هَذَا بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الرَّاوِي الِاحْتِجَاجَ بِهِ لِمَنْعِ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ، فَيَسُوغُ حِينَئِذٍ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ غَرَضًا خَاصًّا فَلَا. وَفِيهِ تَوَقُّفٌ. ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ لَمْ يُجِزِ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ، وَالَّذِي حَذَفَهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، بِمَنْزِلَةِ خَبَرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ فِي أَمْرَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ فِي مُقَدِّمَةِ (صَحِيحِهِ) : إِنَّهُ لَا يُكَرَّرُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَوْضِعٌ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تِرْدَادِ حَدِيثٍ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى، أَوْ إِسْنَادٌ يَقَعُ إِلَى جَنْبِ إِسْنَادٍ لِعِلَّةٍ تَكُونُ هُنَاكَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الزَّائِدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ حَدِيثٍ تَامٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوْ يَفْصِلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِصَارِهِ إِذَا أَمْكَنَ، وَلَكِنَّ تَفْصِيلَهُ رُبَّمَا عَسَّرَ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَإِعَادَتُهُ بِهَيْئَتِهِ إِذَا ضَاقَ ذَلِكَ أَسْلَمُ. فَأَمَّا مَا وَجَدْنَا بُدًّا مِنْ إِعَادَتِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنَّا إِلَيْهِ فَلَا نَتَوَلَّى فِعْلَهُ. وَالْقَصْدُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: " إِذَا أَمْكَنَ " وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: " وَلَكِنَّ تَفْصِيلَهُ " إِلَى آخِرِهِ. الْإِشَارَةَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهُ لَا يَفْصِلُ إِلَّا مَا لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْبَاقِي، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي الِارْتِبَاطِ أَوْ عَدِمِهِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ وَهَيْئَتِهِ لِيَكُونَ أَسْلَمَ، مَخَافَةً مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَسَوَاءٌ فِي الْجَوَازِ لِلْعَارِفِ بِشَرْطِهِ، رَوَاهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، تَامًّا أَمْ لَا، قَبْلُ أَوْ بَعْدُ، لَكِنَّ مَحَلَّ تَسْوِيغِ رِوَايَتِهِ أَيْضًا نَاقِصًا إِذَا كَانَ رَفِيعَ الْمَنْزِلَةِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالثِّقَةِ بِحَيْثُ لَا يُظَنُّ بِهِ زِيَادَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، أَوْ نِسْيَانُ مَا سَمِعَهُ لِقِلَّةِ ضَبْطِهِ وَكَثْرَةِ غَلَطِهِ، (وَ) إِلَّا فَـ (مَا لِذِي) بِكَسْرِ اللَّامِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، أَيْ: صَاحِبِ خَوْفٍ مِنْ تَطَرُّقِ (تُهْمَةٍ) إِلَيْهِ بِذَلِكَ (أَنْ يَفْعَلَهُ) سَوَاءٌ رَوَاهُ كَذَلِكَ ابْتِدَاءً حَيْثُ عَلِمَ مِنْ رِوَايَتِهِ لَهُ أَيْضًا بَعْدُ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا أَنَّهُ عِنْدَهُ بِأَزْيَدَ، أَوْ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لَهُ تَامًّا، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذِهِ الظِّنَّةَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَكَذَا قَالَ الْغَزَالِي فِي (الْمُسْتَصْفَى) بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْجَوَازِ رِوَايَتَهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ: إِنَّ شَرْطَهُ أَلَّا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُتَّهَمُ بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. وَمِمَّنْ أَشَارَ لِوُجُوبِ التَّحَرُّزِ لِلْخَوْفِ مِنْ إِسَاءَةِ الظَّنِّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَعِبَارَتُهُ: إِنَّ التَّحَرُّزَ مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِبُ الظَّنَّ السُّوءَ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَصٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى إِبْطَالِ الِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِمْ. وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ وَالْخَرَائِطِيِّ مَا يَشْهَدُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. (فَإِنْ) خَالَفَ (وَأَبَى) إِلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ نَاقِصًا لِعَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، (فَجَازَ) لِهَذَا الْعُذْرِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: إِذَا لَمْ يَكُنْ رَوَاهُ قَبْلُ تَامًّا (أَلَّا يُكْمِلَهُ) بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَكْتُمَ الزِّيَادَةَ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ ; لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُرَتَّبَةَ عَلَى الْكَتْمِ وَتَضْيِيعِ الْحُكْمِ أَشَدُّ مِنَ الِاتِّهَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَشَدُّ الْمَفْسَدَتَيْنِ يُتْرَكُ بِارْتِكَابِ الْأَخَفِّ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا خُصُوصًا. وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ، وَأَخَصُّ مِنْهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا مَقْبُولَةٌ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي شَيْءٍ تَحَمَّلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْعُذْرُ عَلَى أَنَّهُ عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِهْمَالِ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَى هَذَا أَيْضًا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ بِاعْتِبَارِ التَّأْخِيرِ عَنْهَا. نَعَمْ قَيَّدَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْمَنْعَ مِنَ الِاخْتِصَارِ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ بِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتَطَرُّقِ الِاتِّهَامِ إِلَيْهِ وَكَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تَمَامِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ ابْتِدَاءً نَاقِصًا ; لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُعَرِّضُ الزَّائِدَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ حَيِّزِ الِاسْتِشْهَادِ بِهِ أَوِ الْمُتَابَعَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ لِمُطْلَقِ الْجَوَازِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ» ، «وَصَلَّى صَلَاةً ابْتَدَأَ فِيهَا بِسُورَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ ذِكْرَ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَخَذَتْهُ سُعْلَةٌ فَرَكَعَ» . وَإِذَا كَانَ سَيِّدُ الْخَلْقِ قَدْ فَعَلَ هَذَا فِي سَيِّدِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَفَصَلَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ ; كَانَ غَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَلَكِنَّا نَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ: الْعِلَّةُ فِي جَوَازِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ حِفْظُهُ فِي الصُّدُورِ، مَوْجُودَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، حَيْثُ أَمِنَّا الْإِلْبَاسَ مِنْ حَذْفٍ الْبَّاقِي. وَنَحْوُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( «قَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ» ) قَالَ: كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. وَكَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ - فِيمَا قِيلَ - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «نَضَّرَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي فَلَمْ يَزِدْ فِيهَا» ) إِذْ لَوْ لَمْ يَجُزِ النَّقْصُ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ الزِّيَادَةَ، وَأَيْضًا فَعُمْدَةُ الرِّوَايَةِ فِي التَّجْوِيزِ هُوَ الصِّدْقُ، وَعُمْدَتُهَا فِي التَّحْرِيمِ هُوَ الْكَذِبُ، وَفِي مِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ الصِّدْقُ حَاصِلٌ، فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ. قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ: فَإِنِ احْتَاجَ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى فَهُوَ خَارِجٌ عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ فِي الرِّوَايَةِ. [تَقْطِيعُ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ فِي الْأَبْوَابِ] : (أمَّا إِذَا قُطِّعَ) الْمَتْنُ الْوَاحِدُ الْمُشْتَمِلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 عَلَى عِدَّةِ أَحْكَامٍ، كَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهِ، (فِي الْأَبْوَابِ) الْمُتَفَرِّقَةِ بِأَنْ يُورِدَ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهُ فِي الْبَابِ الْمَعْقُودِ لَهَا، (فَهُوَ) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَابَعَهُ، يَعْنِي: إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعَوَارِضِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَسْرِهَا، (إِلَى الْجَوَازِ) مِنَ الْخِلَافِ (ذُو اقْتِرَابٍ) ، وَمِنَ الْمَنْعِ ذُو ابْتِعَادٍ. وَصَرَّحَ الرَّشِيدُ الْعَطَّارُ بِالْخِلَافِ فِيهِ، وَأَنَّ الْمَنْعَ ظَاهِرُ صَنِيعِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ مَا قَصَدَهُ الْبُخَارِيُّ مِنَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ يُورِدُ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْطِيعٍ لَهُ وَلَا اخْتِصَارٍ إِذَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ. مِثْلَ حَدِيثِ فُلَانٍ أَوْ نَحْوَهُ. وَلَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ يَبْعُدُ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، بَلْ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَإِنِ اقْتَضَى كَلَامُ الرَّشِيدِ خِلَافَهُ، وَنُسِبَ أَيْضًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ، إِلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالتَّأْلِيفِ. وَكَذَا حَكَى الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَفْعَلَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ كَرَاهَةٍ. يَعْنِي: فَإِنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي أُورِدَ عَلَيْهَا. لَكِنْ قَدْ نَازَعَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: مَا أَظُنُّ غَيْرَهُ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ بَالَغَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ وَكَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَحَبًّا. قُلْتُ: لَا سِيَّمَا إِذْا كَانَ الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ تِلْكَ الْقِطْعَةِ يَدِقُّ، فَإِنَّ إِيرَادَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِتَمَامِهِ يَقْتَضِي مَزِيدَ تَعَبٍ فِي اسْتِخْلَاصِهِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِشْهَادِ، فَفِيهِ تَخْفِيفٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ. وَالتَّحْقِيقُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (شَرْحِ الْإِلْمَامِ) التَّفْصِيلُ، فَإِنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ الْمَحْذُوفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 بِالْبَاقِي فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنْ نَزَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَرَتَّبَتِ الْكَرَاهَةُ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِ فِي ظُهُورِ ارْتِبَاطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَخَفَائِهِ. [التَّسْمِيعُ بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ] (639) وَلْيَحْذَرِ اللَّحَّانَ وَالْمُصَحِّفَا ... عَلَى حَدِيثِهِ بِأَنْ يُحَرَّفَا (640) فَيُدْخِلَا فِي قَوْلِهِ مَنْ كَذَبَا ... فَحَقٌّ النَّحْوُ عَلَى مَنْ طَلَبَا (641) وَالْأَخْذُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ لَا الْكُتُبِ ... أُدْفَعُ لِلتَّصْحِيفِ فَاسْمَعْ وَادْأَبِ [حُكْمُ اجْتِنَابِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ] : الْفَصْلُ الْخَامِسُ (التَّسْمِيعُ) مِنَ الشَّيْخِ (بِقِرَاءَةِ اللَّحَّانِ وَالْمُصَحِّفِ) ، وَالْحَثُّ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ أَفْوَاهِ الشُّيُوخِ: (وَلْيَحْذَرِ) الشَّيْخُ الطَّالِبَ (اللَّحَّانَ) بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيِ: الْكَثِيرَ اللَّحْنِ فِي أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا لِيَحْذَرِ (الْمُصَحِّفَا) فِيهَا وَفِي أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْحِنُ (عَلَى حَدِيثِهِ بِأَنْ يُحَرِّفَا) أَيْ: خَوْفَ التَّحْرِيفِ فِي حَرَكَاتِهِ أَوْ ضَبْطِهِ (مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا) فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ (فَيُدْخِلَا) أَيِ: الشَّيْخُ، وَكَذَا الطَّالِبُ مِنْ بَابِ أَوْلَى (فِي) جُمْلَةِ (قَوْلِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كَذَبَا) أَيْ: (كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: جَاءَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَنِ الْأَصْلِ مُعْرَبَةً، يَتَأَكَّدُ الْوَعِيدُ مَعَ اخْتِلَالِ الْمَعْنَى فِي اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ. وَإِلَى الدُّخُولِ أَشَارَ الْأَصْمَعِيُّ، فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّنْجِيُّ: سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 طَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ النَّحْوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ) . لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ وَلَحَنْتَ فِيهِ فَقَدْ كَذَبْتَ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ هُبَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، فَجَرَى ذِكْرُ الْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا اسْتَوَى رَجُلَانِ دِينُهُمَا وَاحِدٌ وَحَسَبُهُمَا وَاحِدٌ وَمُرُوءَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، أَحَدُهُمَا يَلْحَنُ، وَالْآخَرُ لَا يَلْحَنُ ; لِأَنَّ أَفْضَلَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَلْحِنُ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، هَذَا أَفْضَلُ فِي الدُّنْيَا لِفَضْلِ فَصَاحَتِهِ وَعَرَبِيَّتِهِ، أَرَأَيْتَ الْآخِرَةَ مَا بَالُهُ أَفْضَلُ فِيهَا؟ قَالَ: إِنَّهُ يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَإِنَّ الَّذِي يَلْحِنُ يَحْمِلُهُ لَحْنُهُ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيُخْرِجَ مَا هُوَ فِيهِ. فَقُلْتُ: صَدَقَ الْأَمِيرُ وَبَرَّ. وَعَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ لِإِنْسَانٍ: إِنْ لَحَنْتَ فِي حَدِيثِي فَقَدْ كَذَبْتَ عَلَيَّ. فَإِنِّي لَا أَلْحَنُ. وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مُقَدَّمًا فِي ذَلِكَ، بِحَيْثُ إِنَّ سِيبَوَيْهِ شَكَى إِلَى الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ فِي رَجُلٍ رَعُفَ، - يَعْنِي بِضَمِ الْعَيْنِ عَلَى لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ - فَانْتَهَرَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَخْطَأْتَ، إِنَّمَا هُوَ رَعَفَ - يَعْنِي بِفَتْحِهَا - فَقَالَ لَهُ الْخَلِيلُ: صَدَقَ، أَتَلْقَى بِهَذَا الْكَلَامِ أَبَا أُسَامَةَ؟ وَهُوَ مِمَّا ذُكِرَ فِي سَبَبِ تَعَلُّمِ سِيبَوَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ، وَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ أَيْضًا كَانَتْ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَحَدِ التَّابِعِينَ مِنْ شُيُوخِ حَمَّادٍ هَذَا لَهَا. كَمَا رُوِّينَا فِي (الْعِلْمِ) لِلْمَوْهِبِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَأَلَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا تَقُولُ فِي " رَعُفَ "؟ فَقَالَ: وَمَا " رَعُفَ "؟ أَتَعْجِزُ أَنْ تَقُولَ: رَعَفَ؟ فَاسْتَحَى ثَابِتٌ وَطَلَبَ الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى قِيلَ لَهُ مِنَ انْهِمَاكِهِ فِيهَا: ثَابِتٌ الْعَرَبِيُّ. وَكَذَا كَانَ سَبَبُ اشْتِغَالِ أَبِي زَيْدٍ النَّحْوِيِّ بِهِ لَفْظَةً، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُ: ادْنُهْ. فَقَالَ: أَنَا دَنِيٌّ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تَقُلْ: أَنَا دَنِيٌّ. وَلَكِنْ قُلْ: أَنَا دَانٍ. وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الدُّخُولِ فِي الْوَعِيدِ مَنْ قَرَأَ الْحَدِيثَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ الْبَاعِثِ عَلَى إِشْبَاعِ الْحَرْفِ الْمُكْسِبِ لِلَّفْظِ سَمَاجَةً وَرَكَاكَةً، فَسَيِّدُ الْفُصَحَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِشَخْصٍ كَانَ يُطَرِّبُ فِي أَذَانِهِ: إِنِّي أُبْغِضُكَ فِي اللَّهِ. [وُجُوبُ تَعَلُّمِ عِلْمِ النَّحْوِ] : وَلِلْخَوْفِ مِنَ الْوَعِيدِ (فَحَقٌّ النَّحْوُ) يَعْنِي: الَّذِي حَقِيقَتُهُ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وُضِعَتْ حِينَ اخْتِلَاطِ الْعَجَمِ وَنَحْوِهِمْ بِالْعَرَبِ، وَاضْطِرَابِ الْعَرَبِيَّةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، يُعْرَفُ بِهَا أَحْوَالُ الْكَلِمَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا، وَكَذَا اللُّغَةُ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمَعَانِي لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَيْهَا تَكَلُّمًا، (عَلَى مَنْ طَلَبَا) الْحَدِيثَ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ عَنْ شَيْنِ اللَّحْنِ وَالتَّحْرِيفِ. وَظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ فِي أَوَاخِرِ (الْقَوَاعِدِ) : الْبِدْعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، فَالْوَاجِبَةُ كَالِاشْتِغَالِ بِالنَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِذَلِكَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 فَيَكُونُ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ. وَلِذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: (النَّحْوُ فِي الْعِلْمِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ لَا يَسْتَغْنِي شَيْءٌ عَنْهُ) . ثُمَّ قَالَ الْعِزُّ: وَكَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ شَرْحُ الْغَرِيبِ، وَتَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ. يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْحَدِيثِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُحَرَّمَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ وَالْمُبَاحَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ - يَعْنِي مَا ذَكَرَ فِي الْمُبَاحَةِ - مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى. وَكَذَا صَرَّحَ غَيْرُهُ بِالْوُجُوبِ أَيْضًا. لَكِنْ لَا يَجِبُ التَّوَغُّلُ فِيهِ، بَلْ يَكْفِيهِ تَحْصِيلُ مُقَدِّمَةٍ مُشِيرَةٍ لِمَقَاصِدِهِ بِحَيْثُ يَفْهَمُهَا وَيُمَيِّزُ بِهَا حَرَكَاتِ الْأَلْفَاظِ وَإِعْرَابِهَا، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ فَاعِلٌ بِمَفْعُولٍ، أَوْ خَبَرٌ بِأَمْرٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخَطِيبُ قَالَ فِي (جَامِعِهِ) : (إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّحْنَ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَنْ يَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ دُرْبَةِ النَّحْوِ، وَمُطَالَعَتِهِ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ) . ثُمَّ سَاقَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ يَتَّقِي مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي) . وَمِمَّنْ أَشَارَ لِذَلِكَ شَيْخُنَا فَقَالَ: وَأَقَلُّ مَا يَكْفِي مَنْ يُرِيدُ قِرَاءَةَ الْحَدِيثَ أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ أَلَّا يَلْحِنَ. وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِمَا رُوِّينَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمَرُونَ، أَوْ قَالَ الْقَائِلُ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ السُّنَّةَ، ثُمَّ الْفَرَائِضَ، ثُمَّ الْعَرَبِيَّةَ الْحُرُوفَ الثَّلَاثَةَ. وَفَسَّرَهَا بِالْجَرِّ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوَغُّلَ فِيهِ قَدْ يُعَطِّلُ عَلَيْهِ إِدْرَاكَ هَذَا الْفَنِّ الَّذِي صَرَّحَ أَئِمَّتُهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَقُ إِلَّا بِمَنْ قَصَرَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَضُمَّ غَيْرَهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ فَارِسٍ فِي جُزْءِ " ذَمِّ الْغِيبَةِ ": إِنَّ غَايَةَ عِلْمِ النَّحْوِ وَعِلْمِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ فَلَا يَلْحَنَ، وَيَكْتُبَ فَلَا يَلْحَنَ، فَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ، فَمَشْغَلَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 عَنِ الْعِلْمِ وَعَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَنَاهِيكَ بِهَذَا مِنْ مِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَيْنَاءِ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ: (النَّحْوُ فِي الْعُلُومِ كَالْمِلْحِ فِي الْقِدْرِ، إِذَا أَكْثَرْتَ مِنْهُ صَارَ الْقِدْرُ زُعَاقًا) . وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ لِلدِّينِ، وَعِلْمٌ لِلدُّنْيَا، فَالَّذِي لِلدِّينِ الْفِقْهُ، وَالْآخَرُ الطِّبُّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ فَهُوَ عَنَاءٌ وَتَعَبٌ. رَوِّينَاهُ فِي " جُزْءِ ابْنِ حَكَمَانَ "، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ حَالُ مَنْ وُصِفَ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِاللَّحْنِ، كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَسِيِّ، وَعَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَهُشَيْمٍ، وَوَكِيعٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيِّ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى عَبْدَانُ حَالَ تَحْدِيثِهِ وَابْنُ سُرَيْجٍ يَسْمَعُ: " مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يَجِبْ ". بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَرَأَيْتَ أَنْ تَقُولَ: يُجِبُ. يَعْنِي: بِضَمِّهَا، فَأَبَى أَنْ يَقُولَ، وَعَجِبَ مِنْ صَوَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ، كَمَا عَجِبَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ خَطَئِهِ فِي آخَرِينَ مِمَّنْ لَا أُطِيلُ بِإِيرَادِ أَخْبَارِهِمْ لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَرَعْتُ فِي جُزْءٍ فِي ذَلِكَ، وَإِلَيْهِمْ أَشَارَ 5 السِّلَفِيُّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِأَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَذَّاءِ الْقَيْسِيِّ الصَّقَلِّيِّ بِالثَّغْرِ، وَالْتَمَسَ مِنْهُ السَّمَاعَ وَتَعَلَّلَ بِأُمُورٍ عُمْدَتُهُ فِيهَا التَّحَرُّزُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكَذِبِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ قِرَاءَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ كَانَ فِي الرُّوَاةِ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ قَوْمٌ، وَاحْتُجَّ بِرِوَايَاتِهِمْ فِي الصِّحَاحِ، وَلَا يَجُوزُ تَخْطِئَتُهُمْ وَتَخْطِئَةُ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ) . وَسَبَقَهُ النَّسَائِيُّ فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 مِنْ طَرِيقِهِ: إِنَّهُ لَا يُعَابُ اللَّحْنُ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ، وَقَدْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ يَلْحَنُ وَسُفْيَانُ. وَذَكَرَ ثَالِثًا. ثُمَّ قَالَ: وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ. وَقَالَ السِّلَفِيُّ أَيْضًا فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَادِشٍ الْحَنْبَلِيِّ: إِنَّهُ كَانَ قَارِئَ بَغْدَادَ، وَالْمُسْتَمْلَى بِهَا عَلَى الشُّيُوخِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ثِقَةٌ كَثِيرُ السَّمَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أُنْسٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ يَلْحَنُ لَحْنَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا: أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّدَفِيُّ: أَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرٍ الذُّهْلِيِّ كِتَابَ (الْعِلْمِ) لِيُوسُفَ الْقَاضِي، فَلَمْا فَرَغْتُ قُلْتُ لَهُ: قَرَأْتُهُ عَلَيْكَ كَمَا قَرَأْتَهُ أَنْتَ. قَالَ: نَعَمْ، إِلَّا اللَّحْنَةَ بَعْدَ اللَّحْنَةَ. فَقُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْقَاضِي، أَفَسَمِعْتَهُ أَنْتَ مُعْرَبًا؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: هَذِهِ بِهَذِهِ، وَقُمْتُ مِنْ لَيْلَتِي فَجَلَسْتُ عِنْدَ ابْنِ الْيَتِيمِ النَّحْوِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ الْفَقِيهُ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ حَرْبٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ حَرْبَوَيْهِ جُزْءًا مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، فَلَمْا قَرَأْتُ قُلْتُ: قَرَأْتُ كَمَا قُرِئَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِلَّا الْإِعْرَابَ، فَإِنَّكَ تُعْرِبُ، وَمَا كَانَ يُوسُفَ يُعْرِبُ. وَفِي (اللُّقَطِ) لِلْبَرْقَانِيِّ، وَعَنْهُ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 (الْكِفَايَةِ) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ اللَّحْنِ فِي الْحَدِيثِ - يَعْنِي إِذَا لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى - فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ الذَّمِّ الشَّدِيدِ لِمَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يُبْصِرِ الْعَرَبِيَّةَ، كَقَوْلِ شُعْبَةَ: إِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ وَلَيْسَ لَهُ رَأْسٌ. وَقَوْلِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ لَا شَعِيرَ فِيهَا. الَّذِي نَظَمَهُ جَعْفَرٌ السَّرَّاجُ شَيْخُ السِّلَفِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الطَّالِبِ الْحَدِيثَ وَلَا ... يُحْسِنُ نَحْوًا وَلَا لَهُ آلَاتُ كَحِمَارٍ قَدْ عُلِّقَتْ لَيْسَ فِيهَا ... مِنْ شَعِيرٍ بِرَأْسِهِ مِخْلَاتُ فَذَاكَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ فِيهَا عَمَلٌ أَصْلًا، عَلَى أَنَّ رُبَّ شَخْصٍ يَزْعُمُ مَعْرِفَتَهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ إِنْ قَرَأَ لَحَّنَهُ النُّحَاةُ، وَخَطَّأَهُ لِتَصْحِيفِهِ الرُّوَاةُ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ: هُوَ فِي الْفِقْهِ فَاضِلٌ لَا يُجَارَى ... وَأَدِيبٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأُدَبَاءِ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ إِنْ طَالَبُوهُ ... وَجَدُوهُ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَقَدْ كَانَ لِعَمْرِو بْنِ عَوْنٍ الْوَاسِطِيِّ مُسْتَمْلٍ يَلْحَنُ كَثِيرًا فَقَالَ: أَخِّرُوهُ. وَتَقَدَّمَ إِلَى وَرَّاقٍ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْأَدَبِ وَالشِّعْرِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لِكَوْنِهِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ يُصَحِّفُ فِي الرُّوَاةِ كَثِيرًا، فَقَالَ عَمْرٌو: رُدُّونَا إِلَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَلْحَنُ فَلَيْسَ يَمْسَخُ. وَنَحْوُ هَذَا الصَّنِيعِ تَرْجِيحُ شَيْخِنَا مَنْ عَرَفَ مُشْكِلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 الْأَسْمَاءِ وَالْمُتُونِ دُونَ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ فَقَطْ. [سَبِيلُ السَّلَامَةِ مِنَ اللَّحْنِ] : (وَالْأَخْذُ) لِلْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ (مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) ; أَيِ: الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ الضَّابِطِينَ لَهُ مِمَّنْ أَخَذَهُ أَيْضًا عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنْ شُيُوخِهِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، (لَا) مِنْ بُطُونِ (الْكُتُبِ) أَوِ الصُّحُفِ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيبِ الْمَشَايِخِ. (أَدْفَعُ لِلتَّصْحِيفِ) وَأَسْلَمُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، (فَاسْمَعْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ مَا أَقُولُهُ لَكَ، (وَادْأَبِ) أَيْ: جِدَّ فِي تَلَقِّيهِ عَنِ الْمُتْقِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: لَا تَأْخُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ مُصْحَفِيٍّ، وَلَا الْعِلْمَ مِنْ صُحُفِيٍّ. وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ: لَا يُفْتِي النَّاسَ صُحُفِيٌّ، وَلَا يُقْرِئُهُمْ مُصْحَفِيٌّ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: وَمِنْ بُطُونِ كَرَارِيسَ رِوَايَتُهُمْ ... لَوْ نَاظَرُوا بَاقِلًا يَوْمًا لَمَا غَلَبُوا وَالْعِلْمُ إِنْ فَاتَهُ إِسْنَادُ مُسْنِدِهِ ... كَالْبَيْتِ لَيْسَ لَهُ سَقْفٌ وَلَا طُنُبُ فِي أَهَاجِي كَثِيرَةٍ لِلْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ أَوْرَدَ مِنْهَا الْعَسْكَرِيُّ فِي (التَّصْحِيفِ) نُبْذَةً، وَكَذَا أَوْرَدَ فِيهِ مِمَّا مُدِحَ بِهِ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ: لَا يَهِمُ الْحَاءَ بِالْقِرَاءَةِ بِالْخَاءِ وَلَا يَأْخُذُ إِسْنَادَهُ مِنَ الصُّحُفِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ لَهُ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: (إِنَّ فِي الْحِكْمَةِ كَذَا -: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنِ الصُّحُفِ) . لِذَلِكَ، وَرُوِّينَا فِي (مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ) عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا زَالَ هَذَا الْعِلْمُ عَزِيزًا يَتَلَقَّاهُ الرِّجَالُ حَتَّى وَقَعَ فِي الصُّحُفِ، فَحَمَلَهُ أَوْ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَاللَّحْنُ - كَمَا قَالَ صَاحِبُ (الْمَقَايِيسِ) : - بِسُكُونِ الْحَاءِ، إِمَالَةُ الْكَلَامِ عَنْ جِهَتِهِ الصَّحِيحَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، يُقَالُ: لَحَنَ لَحْنًا. قَالَ: وَهُوَ عِنْدَنَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَلَّدِ ; لِأَنَّ اللَّحْنَ مُحْدَثٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ، وَاللَّحَنُ بِالتَّحْرِيكِ الْفِطْنَةُ، يُقَالُ: لَحَنَ لَحْنًا فَهُوَ لَحِنٌ وَلَاحِنٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: ( «لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» ) . وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ مِثْلَهُ وَقَالَ: يُقَالُ فِي الْفِطْنَةِ: لَحِنَ بِكَسْرِ الْحَاءِ يَلْحَنُ بِفَتْحِهَا، وَفِي (الزَّيْغِ عَنِ الْإِعْرَابِ) : لَحَنَ بِفَتْحِ الْحَاءِ. [إِصْلَاحُ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ] (642) وَإِنْ أَتَى فِي الْأَصْلِ لَحْنٌ أَوْ خَطَا ... فَقِيلَ يُرْوَى كَيْفَ جَاءَ غَلَطَا (643) وَمَذْهَبُ الْمُحَصِّلِينَ يُصْلِحُ ... وَيَقْرَأُ الصَّوَابَ وَهْوَ الْأَرْجَحُ (644) فِي اللَّحْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِهِ ... وَصَوَّبُوا الْإِبْقَاءَ مَعْ تَضْبِيبِهِ (645) وَيَذْكُرُ الصَّوَابَ جَانِبًا كَذَا ... عَنْ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ نَقْلًا أُخِذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 (646) وَالْبَدْءُ بِالصَّوَابِ أَوْلَى وَأَسَدْ وَأَصْلَحُ الْإِصْلَاحِ مِنْ مَتْنٍ وَرَدْ ... (647) وَلْيَأْتِ فِي الْأَصْلِ بِمَا لَا يَكْثُرُ كَابْنٍ وَحَرْفٍ حَيْثُ لَا يُغَيِّرُ ... (648) وَالسَّقْطُ يَدْرِي أَنَّ مَنْ فَوْقَ أَتَى بِهِ يُزَادُ بَعْدَ، يَعْنِي مُثْبِتَا ... (649) وَصَحَّحُوا اسْتِدْرَاكَ مَا دَرَسَ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِهِ إِنْ يَعْرِفِ ... (650) صِحَّتَهُ مِنْ بَعْضِ مَتْنٍ أَوْ سَنَدْ كَمَا إِذَا ثَبَّتَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ ... (651) وَحَسَّنُوا الْبَيَانَ كَالْمُسْتَشْكِلِ كِلْمَةً فِي أَصْلِهِ فَلْيَسْأَلِ الْفَصْلُ السَّادِسُ: (إِصْلَاحُ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ) : الْوَاقِعَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاغْتِفَارُ اللَّحَقِ الْيَسِيرِ الَّذِي عُلِمَ سَهْوُ الْكَاتِبِ فِي حَذْفِهِ، وَكِتَابَةُ مَا دَرَسَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْ نُسْخَةٍ أُخْرَى، وَنَحْوُ ذَلِكَ. [الْخِلَافُ فِي إِصْلَاحِ اللَّحْنِ وَإِبْقَاءَهُ] : (وَإِنْ أَتَى فِي الْأَصْلِ) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، (لَحْنٌ) فِي الْإِعْرَابِ، (أَوْ خَطَا) مِنْ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى الصَّوَابِ وَإِصْلَاحِهِ، (فَقِيلَ) : إِنَّهُ (يُرْوَى كَيْفَ) يَعْنِي: كَمَا (جَاءَ) اللَّفْظُ بِلَحْنِهِ أَوْ خَطَئِهِ، حَالَ كَوْنِهِ (غَلَطَا) ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِإِصْلَاحٍ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، كَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، فَقَدَ رُوِّينَا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حُرُوفٍ، يَعْنِي: يَحْكُونَ أَلْفَاظَ شُيُوخِهِمْ حَتَّى فِي اللَّحْنِ. وَكَذَا كَانَ أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ يَلْحَنُ اقْتِفَاءً لِمَا سَمِعَ، وَأَبَى نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنْ يَلْحَنَ كَمَا سَمِعَ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَعَنْ آخَرِينَ مِثْلَهُ، لَكِنْ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ لَحْنٌ. قَالَ زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَقِبَ رِوَايَتِهِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ بِلَفْظِ (أَتَرْوُنَهَا لِلْمُتَّقِينَ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 لَا، وَلَكِنَّهَا لِلْمُتَلَوِّثِينَ الْخَطَّاءُونَ) : أَمَا إِنَّهَا لَحْنٌ، وَلَكِنْ هَكَذَا حَدَّثَنَا الَّذِي حَدَّثَنَا. رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ (مُسْنَدِ أَحْمَدَ) ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا غُلُوٌّ فِي مَذْهَبِ اتِّبَاعِ اللَّفْظِ وَالْمَنْعِ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُمْ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) - يَرَوْنَ اتِّبَاعَ اللَّفْظِ وَاجِبًا. وَقِيلَ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (الِاقْتِرَاحِ) : إِنَّهُ يَتْرُكُ رِوَايَتَهُ إِيَّاهُ عَنْ ذَاكَ الشَّيْخِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ إِنْ تَبِعَهُ فِيهِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، وَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ فَهْوَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ كَذَلِكَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لَكِنَّهُ أَبْهَمَ قَائِلَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْعِزِّ، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَاسَهُ غَيْرُهُ عَلَى إِذَا مَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ ; فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْفَاسِدَ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَا الصَّحِيحَ ; لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ. [الْمَذْهَبُ الرَّاجِحُ فِي إِصْلَاحِ اللَّحْنِ] : (وَمَذْهَبُ الْمُحَصِّلِينَ) وَالْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) ، وَمِنْهُمْ هَمَّامٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 عُيَيْنَةَ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَفَّانُ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ سَأَحْكِيهِ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ، وَصَوَّبَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ (يُصْلِحُ) فَيُغَيِّرُ (وَيَقْرَأُ الصَّوَابَ) مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَعْرِبُوا الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَرَبًا. وَعَنْهُ أَيْضًا: لَا بَأْسَ بِإِصْلَاحِ اللَّحْنِ فِي الْحَدِيثِ. وَمِمَّنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ الشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، حَيْثُ سُئِلُوا عَنِ الرَّجُلِ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ فَيَلْحَنُ ; أَيَرْوِيهِ السَّامِعُ لَهُ كَذَلِكَ أَمْ يُعْرِبُهُ؟ فَقَالُوا: بَلْ يُعْرِبُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي كِتَابِ (الْإِعْرَابِ) لَهُ. وَعَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَلْحَنْ، فَقَوِّمُوهُ. وَرُوِّينَا فِي " جُزْءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْخِرَقِيِّ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ لَحْنٌ، نُقَوِّمُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْقَوْمُ لَمْ يَكُونُوا يَلْحَنُونَ، اللَّحْنُ مِنَّا. وَعَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ مَعِينٍ: مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُقَوِّمُ لِلرَّجُلِ حَدِيثَهُ، يَعْنِي يَنْزِعُ مِنْهُ اللَّحْنَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ يُقَوِّمُ كُلَّ لَحْنٍ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ اللَّحْنِ جَائِزٌ. وَقَالَ فِي (الْجَامِعِ) : إِنَّ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَلَى الصَّوَابِ، وَتَرْكُ اللَّحْنِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سُمِعَ مَلْحُونًا ; لِأَنَّ مِنَ اللَّحْنِ مَا يُحِيلُ الْأَحْكَامَ، وَيُصَيِّرُ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَالْحَلَالَ حَرَامًا، فَلَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ السَّمَاعِ فِيمَا هَذِهِ سَبِيلُهُ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى وَغَيْرِهِ. (وَهُوَ) أَيِ الْإِصْلَاحُ (الْأَرْجَحُ فِي اللَّحْنِ) الَّذِي (لَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِهِ) وَفِي أَمْثَالِهِ، أَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِهِ فَيُصْلَحُ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ جَزْمًا. وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى: لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ لَهُ اتِّفَاقًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أَحْمَدَ: مَا زَالَ الْقَلَمُ فِي يَدِ أَبِي حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَتَصَرَّفِ الشَّيْءُ فِي مَعْنًى فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْلَحَ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنَيِّرِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ: (نَضَّرَ اللَّهُ) : ( «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ) . يَعْنِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى عَدَمِ تَقْلِيدِ الرَّاوِي فِي كُلِّ مَا يَجِيءُ بِهِ. وَكَذَا احْتَجَّ لَهُ ابْنُ فَارِسٍ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ: (فَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَ) لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِهِ: كَمَا سَمِعَ مِنْ صِحَّةِ الْمَعْنَى وَاسْتِقَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا رُوِّينَا فِي (جَامِعِ الْخَطِيبِ) : إِذَا كَتَبَ لَحَّانٌ، وَعَنِ اللَّحَّانِ آخَرُ مِثْلُهُ. وَعَنِ الثَّانِي ثَالِثٌ مِثْلُهُ صَارَ الْحَدِيثُ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَنَحْوُهُ مَا قِيلَ فِي تَرْكِ الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالْقَوْلُ بِهِ، أَيْ بِالرِّوَايَةِ عَلَى الصَّوَابِ مَعَ الْإِصْلَاحِ، لَازِمٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ فِي تَجْوِيزِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى. فَقَوْلُهُ: لَازِمٌ. يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ التَّغْيِيرُ فِي صَوَابِ اللَّفْظِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِي خَطَئِهِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ مُجَرَّدَ إِلْزَامِهِمُ الْقَوْلَ بِهِ لِكَوْنِهِ هُنَا آكَدُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِالْجَوَازِ فَقَالَ: وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُذْكَرَ الْخَطَأُ الْحَاصِلُ فِي الْكِتَابِ إِذَا كَانَ مُتَيَقَّنًا، بَلْ يُرْوَى عَلَى الصَّوَابِ. بَلْ كَلَامُهُ فِي (الْكِفَايَةِ) قَدْ يُشِيرُ إِلَى الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ اللَّحْنُ يُحِيلُ الْمَعْنَى فَلَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيُزِيلُونَ الْخِطَابَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ أَخَذَ عَمَّنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ أَنْ يَحْكِيَ لَفْظَهُ إِذَا عَرَفَ وَجْهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 الصَّوَابِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَعْرُوفًا، وَلَفْظُ الْعَرَبِ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحَدِّثَ لَوْ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْمُسَافِرَ الْمُقِيمُ. بِنَصْبِ الْمُسَافِرِ وَرَفْعِ الْمُقِيمِ، كَانَ قَدْ أَحَالَ الْمَعْنَى؟ فَلَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ لَفْظِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ: كَانَ إِذَا مَرَّ بِأَبِي لَحْنٌ فَاحِشٌ غَيَّرَهُ، وَإِنْ كَانَ سَهْلًا تَرَكَهُ وَقَالَ: كَذَا قَالَ الشَّيْخُ. وَكَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ، إِمَّا بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ لِلِسَانِ الْعَرَبِ، أَوْ بِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ حَزْمٍ فِي (الْإِحْكَامِ) لَهُ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْوَاقِعَ فِي الرِّوَايَةِ إِنْ كَانَ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْكَلَامِ أَلْبَتَّةَ حَرُمَ عَلَيْهِ تَأْدِيَتُهُ مَلْحُونًا، لِتَيَقُّنِنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَلْحَنْ قَطُّ، وَإِنَّ جَازَ وَلَوْ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ أَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلِ أَبِي عِمْرَانَ الْفَسَوِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَابِسِيُّ: إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ قُرِئَ عَلَى الصَّوَابِ وَأُصْلِحَ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ، فَلَا ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بِلُغَتِهِمْ. يَعْنِي كَقَوْلِهِ عَلَى لُغَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ فِي قَلْبِ اللَّامِ مِيمًا: ( «لَيْسَ مِنَ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ» ) . وَمِنْ ثَمَّ أَشَارَ ابْنُ فَارِسٍ إِلَى التَّرَوِّي فِي الْحُكْمِ عَلَى الرِّوَايَةِ بِالْخَطَأِ، وَالْبَحْثِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ وَاسِعَةٌ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ كَثِيرًا مَا نَرَى مَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَطَأً، وَرُبَّمَا غَيَّرُوهُ، صَوَابًا ذَا وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ خَفِيَ وَاسْتُغْرِبَ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يَعُدُّونَهُ خَطَأً مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ لُغَاتِ الْعَرَبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وَتَشَعُّبِهَا، هَذَا أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقْشِيُّ مَعَ تَقَدُّمِهِ فِي اللُّغَةِ وَكَثْرَةِ مُطَالَعَتِهِ وَافْتِنَانِهِ وَثُقُوبِ فَهْمِهِ وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ، كَانَ يُبَادِرُ إِلَى الْإِصْلَاحِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ الصَّوَابَ فِيمَا كَانَ فِي الرِّوَايَةِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي التَّصْحِيحِ وَالتَّمْرِيضِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لُغَةٌ، وَلِأَهْلِ الْحَدِيثِ لُغَةٌ، وَلُغَةُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَقْيَسُ، وَلَا نَجِدُ بُدًّا مِنَ اتِّبَاعِ لُغَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ السَّمَاعِ. وَرُئِيَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْمَنَامِ وَكَأَنَّهُ قَدْ مَرَّ مِنْ شَفَتِهِ أَوْ لِسَانِهِ شَيْءٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لَفْظَةٌ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّرْتُهَا بِرَأْيِي، فَفُعِلَ بِي هَذَا. [كَيْفِيَّةُ إِصْلَاحِ اللَّحْنِ أَوِ الْخَطَأِ] : وَلِذَا كُلِّهِ (صَوَّبُوا) أَيْ أَكْثَرُ الْأَشْيَاخِ (الْإِبْقَاءَ) لِمَا فِي الْكِتَابِ، وَتَقْرِيرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ حَتَّى إِنَّهُمْ سَلَكُوهُ فِي أَحْرُفٍ مِنَ الْقُرْآنِ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي التِّلَاوَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَمْ يُقْرَأْ بِهَا فِي الشَّوَاذِّ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، كَمَا وَقَعَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَ (الْمُوَطَّأِ) وَغَيْرِهَا. كُلُّ ذَلِكَ (مَعْ تَضْبِيبِهِ) أَيِ اللَّفْظِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ مِنَ الْعَارِفِ مِنْهُمْ بِالْعَلَامَةِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى خَلَلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، (وَيَذْكُرُ) مَعَ ذَلِكَ (الصَّوَابَ) الَّذِي ظَهَرَ (جَانِبًا) ، أَيْ بِجَانِبِ اللَّفْظِ الْمُخْتَلِّ مِنْ هَامِشِ الْكِتَابِ. (كَذَا عَنْ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ) حَالَ كَوْنِهِ (نَقْلًا) لِعِيَاضٍ عَنْهُمْ (أُخِذَا) مِمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ أَيْضًا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانِ رَاوِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَمِعَهُ لَحْنًا، وَيَكْتُبُ عَلَى حَاشِيَةِ كِتَابِهِ: كَذَا قَالَ، يَعْنِي الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ، وَالصَّوَابُ كَذَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 الْبَابِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمَيَّانِشِيِّ: صَوَّبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ هَذَا، وَأَنَا أَسْتَحْسِنُهُ، وَبِهِ آخُذُ. وَأَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى أَنَّهُ أَبْقَى لِلْمَصْلَحَةِ وَأَنْفَى لِلْمَفْسَدَةِ. يَعْنِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَنَفْيِ التَّسْوِيدِ عَنِ الْكِتَابِ أَنْ لَوْ وُجِدَ لَهُ وَجْهٌ، حَيْثُ تُجْعَلُ الضَّبَّةُ تَصْحِيحًا. كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى سَدُّ بَابِ التَّغْيِيرِ وَالْإِصْلَاحِ لِئَلَّا يَجْسُرَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُحْسِنُ، وَهُوَ أَسْلَمُ مَعَ التَّبْيِينِ، فَيَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ السَّمَاعِ كَمَا وَقَعَ، ثُمَّ يَذْكُرُ وَجْهَ صَوَابِهِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ. وَمِمَّنْ فَعَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ حَيْثُ أَدَّى كَمَا سَمِعَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوَابَ كَذَا. وَصَرَّحَ الْخَطِيبُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي (الْكِفَايَةِ) : إِنَّ الْوَاجِبَ الرِّوَايَةُ عَلَى مَا حُمِلَ مِنْ خَطَأٍ وَتَصْحِيفٍ، ثُمَّ بَيَانُ صَوَابِهِ. (وَالْبَدْءُ بِ) قِرَاءَةِ (الصَّوَابِ) أَوَّلًا، ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ، بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: وَقَعَ عِنْدَ شَيْخِنَا، أَوْ فِي رِوَايَتِنَا، أَوْ مِنْ طَرِيقِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، (أَوْلَى) مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ بِالْخَطَأِ تَبَعًا لِلرِّوَايَةِ، (وَأَسَدّ) بِالْمُهْمَلَةِ، أَيْ أَقْوَمُ، كَيْلَا يُتَقَوَّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (وَأَصْلَحُ الْإِصْلَاحِ) أَنْ يَكُونَ مَا يُصْلَحُ بِهِ ذَلِكَ الْفَاسِدُ مَأْخُوذًا (مِنْ مَتْنٍ) آخَرَ (وَرَدْ) مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ فَضْلًا عَنْهَا ; لِأَنَّهُ بِذَلِكَ آمَنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَقَوَّلًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ غَرِيبُ الْحَدِيثِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ. [طَرِيقَةُ إِصْلَاحِ اللَّحْنِ الْيَسِيرِ] : هَذَا كُلُّهُ فِي الْخَطَأِ النَّاشِئِ عَنِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، وَأَمَّا النَّاشِئُ عَنْ سَقْطٍ خَفِيفٍ (فَلْيَأْتِ فِي الْأَصْلِ) وَنَحْوِهِ رِوَايَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وَإِلْحَاقًا، (بِمَا لَا يَكْثُرُ) مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْوَاقِفِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَيْهِ، (كَابْنٍ) مِنْ مِثْلِ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَ " أَبِي " فِي الْكُنْيَةِ وَنَحْوِهِمَا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فَقَطْ لَا مِنْ شَيْخِهِ، (وَ) كَـ (حَرْفٍ حَيْثُ لَا يُغَيِّرُ) إِسْقَاطُهُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا كُلِّهِ لَا بَأْسَ بِرِوَايَتِهِ. (وَ) إِلْحَاقِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْبِيهٍ عَلَى سُقُوطِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ صَاحِبُ السُّنَنِ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي حَجَّاجٌ، عَنْ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ; يَجُوزُ لِي أَنْ أُصْلِحَهُ ابْنَ جُرَيْجٍ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَسَأَلَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَيَسْقُطُ مِنْ كِتَابِهِ الْحَرْفُ مِثْلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَيُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يُصْلِحَهُ. وَنَحْوُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِمَالِكٍ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَادُ فِيهِ الْوَاوُ وَالْأَلِفُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا. وَعَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُنَادِي قَالَ: كَانَ جَدِّي لَا يَرَى بِإِصْلَاحِ الْغَلَطِ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِي غَلَطِهِ بَأْسًا. وَرُبَّمَا نَبَّهَ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَدَّثَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّقِيقِيُّ بِحَدِيثٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، وَقَالَ: كَذَا فِي كِتَابِي، وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي قَزَعَةَ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ شَيْخٍ لَهُ حَدِيثًا قَالَ فِيهِ: عَنْ بُحَيْنَةَ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: إِنَّمَا هُوَ ابْنُ بُحَيْنَةَ، وَلَكِنَّهُ كَذَا قَالَ. (وَالسَّقْطُ) أَيِ: السَّاقِطُ مِمَّا (يَدْرِي أَنَّ مِنْ فَوْقُ) بِضَمِّ آخِرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ (أَتَى بِهِ يُزَادُ) أَيْضًا فِي الْأَصْلِ لَكِنْ (بَعْدَ) لَفْظِ (يَعْنِي) حَالَ كَوْنِهِ لَهَا (مُثْبِتَا) فَقَدْ فَعَلَهُ الْخَطِيبُ، إِذْ رَوَى حَدِيثَ عَائِشَةَ (كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ) . عَنْ أَبِي عُمَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الْمَحَامِلِيِّ، بِسَنَدِهِ إِلَى عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرَةَ، فَقَالَ: يَعْنِي عَنْ عَائِشَةَ. وَنَبَّهَ عَقِبَهُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ شَيْخِهِ مَعَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمَحَامِلِيِّ، وَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْ عَمْرَةَ عَنْهَا، مَعَ اسْتِحَالَةِ كَوْنِ عَمْرَةَ صَحَابِيَّةً، أَلْحَقَهُ، وَلَكِنْ لِكَوْنِ شَيْخِهِ لَمْ يَقُلْهُ لَهُ زَادَ " يَعْنِي " اقْتِدَاءً بِشُيُوخِهِ، فَقَدْ رَأَى غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَعَلَهُ فِي مِثْلِهِ. بَلْ قَالَ وَكِيعٌ: أَنَا أَسْتَعِينُ فِي الْحَدِيثِ بِـ " يَعْنِي ". وَصَنِيعُ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَكَذَا أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّقِيقِيُّ فِي الْبَيَانِ حَسَنٌ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِنْ كَانَ الْإِصْلَاحُ بِالزِّيَادَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مُغَايِرٍ لِمَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ، تَأَكَّدَ فِيهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ يَذْكُرُ مَا فِي الْأَصْلِ مَقْرُونًا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا سَقَطَ لِيَسْلَمَ مِنْ مَعَرَّةِ الْخَطَأِ، وَمِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى شَيْخِهِ مَا لَمْ يَقُلْ. وَهُوَ أَيْضًا مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيمَا إِذَا سَقَطَ مِنْ كِتَابِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَضَبْطِهِ. [كَيْفَ يَسْتَدْرِكُ مَا دَرَسَ فِي الْكِتَابِ؟] : (وَ) كَذَا (صَحَّحُوا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ، (اسْتِدْرَاكَ مَا دَرَسَ فِي كِتَابِهِ) بِتَقْطِيعٍ أَوْ بَلَلٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، (مِنْ) كِتَابٍ آخَرَ (غَيْرِهِ إِنْ يَعْرِفِ) الْمُسْتَدْرِكُ (صِحَّتَهُ) أَيْ ذَاكَ الْكِتَابِ، بِأَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ ثِقَةً مِمَّنْ أَخَذَهُ عَنْ شَيْخِهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، بِحَيْثُ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّاقِطُ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَدْ فَعَلَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَغَيْرُهُ، إِذَا كَانَ السَّاقِطُ (مِنْ بَعْضِ مَتْنٍ أَوْ) بَعْضِ (سَنَدْ) كَمَا قَيَّدَهُ الْخَطِيبُ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَكَذَا وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ حَيْثُ اتَّحَدَ الطَّرِيقُ فِي الْمَرْوِيِّ، وَلَمْ تَتَنَوَّعِ الْمَرْوِيَّاتُ، بِنَاءً عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالرِّوَايَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وَامْتَنَعَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَاسِيٍّ مِنْ مُطْلَقِ الِاسْتِدْرَاكِ، فَإِنَّهُ احْتَرَقَتْ بَعْضُ كُتُبِهِ، وَأَكَلَتِ النَّارُ بَعْضَ حَوَاشِيهَا، وَوَجَدَ نُسَخًا مِنْهَا فَلَمْ يَرَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ الْمُحْتَرِقَ مِنْهَا. قَالَ الْخَطِيبُ: وَاسْتِدْرَاكُ مِثْلِ هَذَا عِنْدِي جَائِزٌ. يَعْنِي بِشَرْطِهِ الْمُتَقَدِّمِ. (كَمَا) يَجُوزُ فِيمَا (إِذَا) شَكَّ الرَّاوِي فِي شَيْءٍ، وَ (ثَبَّتَهُ) فِيهِ (مَنْ يُعْتَمَدْ) عَلَيْهِ ثِقَةً وَضَبْطًا، مِنْ حِفْظِهِ أَوْ كِتَابِهِ، أَوْ أَخَذَهُ هُوَ مِنْ كِتَابِهِ، حَسْبَمَا فَعَلَهُ عَاصِمٌ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُمْ، إِذْ لَا فَرْقَ، (وَحَسَّنُوا) فِيهِمَا (الْبَيَانَ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي الْأَوْلَى، وَحَكَاهُ فِي الثَّانِيَةِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ فَإِنَّهُ قَالَ: أَنَا عَاصِمٌ، وَثَبَّتَنِي فِيهِ شُعْبَةُ. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، وَثَبَّتَنِي فِيهِ مَعْمَرٌ. وَمِمَّنْ فَعَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا فُلَيْحٌ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَاخْتُلِفَ: هَلْ أَحْمَدُ رَفِيقُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ فُلَيْحٍ، وَيَكُونُ الْبُخَارِيُّ حَمَلَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ رَفِيقُ الْبُخَارِيِّ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ؟ وَلَكِنْ لَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِهِ هُنَا. وَفِي بَابِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ قُبَيْلِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ - هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي فَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ، يَعْنِي أَخَاهُ، عَنْ أَبِيهِ - هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 زَيْدٍ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي - هُوَ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي أَبَاهُ -: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ» ؟) ، وَفِي بَابِ قَوْلِهِ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] مِنَ الْأَدَبِ أَوْرَدَ حَدِيثًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَحْمَدُ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، لَكِنَّهُ عَكَسَ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَحْمَدُ: فَهِمْتُ إِسْنَادَهُ مِنَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، فَأَفْهَمَنِي الْحَدِيثَ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ، أَرَاهُ ابْنَ أَخِيهِ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ. قَالَ شَيْخُنَا: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ابْنَ يُونُسَ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَفِي بَابِ (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) مِنَ الِاسْتِئْذَانِ سَاقَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» ) لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَارَ يَرْوِي هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ سَمِعَهَا، لَكِنْ لَمْ يَفْقَهْهَا. وَفِي (الْبُخَارِيِّ) أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ الْأَحْكَامِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا) فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَقَالَ أَبِي: إِنَّهُ قَالَ: (كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» ) . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: ( «لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً» ) قَالَ: فَكَبَّرَ النَّاسُ وَضَجُّوا، فَقَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً، وَفِي لَفْظٍ: كَلَامًا لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَهْ، مَا قَالَ؟ فَذَكَرَهُ. وَأَصْلُهُ عِنْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 مُسْلِمٍ دُونَ قَوْلِهِ: (فَكَبَّرَ النَّاسُ وَضَجُّوا) . وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأُبَيٍّ فِي أُنَاسٍ، فَأَثْبَتُوا لِيَ الْحَدِيثَ. عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ بِدُونِ بَيَانٍ، وَلَكِنَّ هَذَا أَرْجَحُ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ نَحْوَهُ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ فِي الصَّرْفِ بِلَفْظِ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ. أَوْ قَالَ: جَارِيَتِي. ثُمَّ قَالَ: أَنَا شَكَكْتُ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ عَلَى مَالِكٍ صَحِيحًا لَا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ طَالَ عَلَيَّ الزَّمَانُ وَلَمْ أَحْفَظْ حِفْظًا، فَشَكَكْتُ فِي جَارِيَتِي أَوْ خَازِنِي، وَغَيْرِي يَقُولُ عَنْهُ: خَازِنِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي الْفَرْعِ الْخَامِسِ مِنَ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامٍ التَّحَمُّلِ، وَهَذَا الْفَرْعُ مِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهِ الرِّوَايَةُ مَعَ الشَّهَادَةِ، وَإِنِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِأَصْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فَإِنْ بَيَّنَ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ ثَبَّتَهُ فَلَا بَأْسَ، كَمَا فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي (سُنَنِهِ) عَقِبَ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيِّ فَقَالَ: ثَبَّتَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. (وَكَ) مَسْأَلَةِ (الْمُسْتَشْكِلِ كِلْمَةً) مِنْ غَرِيبِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا ; لِكَوْنِهِ وَجَدَهَا (فِي أَصْلِهِ) غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، (فَلْيَسْأَلِ) أَيْ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَسْأَلُ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ بِهَا وَاحِدًا فَأَكْثَرَ، وَلْيَرْوِهَا عَلَى مَا يُخْبَرُ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ أَحْمَدُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَرْفٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهُ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّنِّ. وَسَيَأْتِي فِي الْغَرِيبِ. وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي ذَلِكَ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَكْتُبُ الْحَرْفَ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ هُوَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَتَبَهُ صَحِيحًا ; أَيُرِيهِ إِنْسَانًا فَيُخْبِرَهُ بِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ. وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيِّ النَّحْوِيِّ قَالَ: كَانَ عَفَّانُ يَجِيءُ إِلَى الْأَخْفَشِ وَإِلَى أَصْحَابِ النَّحْوِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثَ يُعْرِبُهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَخْفَشُ: عَلَيْكَ بِهَذَا. يَعْنِي أَبَا حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَكَانَ عَفَّانُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيئُنِي حَتَّى عَرَضَ عَلَيَّ حَدِيثًا كَثِيرًا. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي كُتُبَهُ إِذَا كَانَ فِيهَا لَحْنٌ لِمَنْ يُصَحِّحُهَا. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي الْحَدِيثَ فَاعْرِضُوهُ عَلَى أَصْحَابِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ أَحْكِمُوهُ. وَعَنِ ابْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا شَكَّ فِي الْكَلِمَةِ يَقُولُ: أَهَاهُنَا فُلَانٌ؟ كَيْفَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ. وَسَمِعَ سَعِيدُ بْنُ شَيْبَانَ - وَكَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ - ابْنَ عُيَيْنَةَ وَهُوَ يَقُولُ: " تَعْلَقُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ". بِفَتْحِ اللَّامِ، فَقَالَ لَهُ: " تَعْلُقُ " يَعْنِي بِضَمِّهَا مِنْ " عَلَقَ "، يَعْنِي بِفَتْحِ اللَّامِ، فَرَجَعَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِلَيْهِ. وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ شُعْبَةَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ يَقُولُ: " فَيَسْمَعُونَ جَرَشَ طَيْرِ الْجَنَّةِ " قَالَهُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ،. فَقَالَ لَهُ الْأَصْمَعِيُّ: جَرَسَ. يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ. فَقَالَ شُعْبَةُ: خُذُوهَا عَنْهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنَّا. وَسَمِعَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَافِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ أَبَا الْقَاسِمِ الدَّارَكِيَّ أَحَدَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا يَقُولُ فِي تَدْرِيسِهِ: إِذَا أَزِفَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ. فَسَأَلَ عَنْهَا ابْنَ جِنِّيٍّ النَّحْوِيَّ فَلَمْ يَعْرِفْهَا، فَسَأَلَ الْمُعَافَى بْنَ زَكَرِيَّا فَقَالَ: أُرِفَّتْ، يَعْنِي بِالرَّاءِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَالْأُرَفُ الْمَعَالِمُ، يُرِيدُ إِذَا ثَبَتَتِ الْحُدُودُ وَعُيِّنَتِ الْمَعَالِمُ وَمُيِّزَتْ فَلَا شُفْعَةَ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِثْبَاتَ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ شَيْءٍ عَرَضَ لَهُ فِيهِ شَكٌّ، فَلَا يَذْكُرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 لَهُ الْمَحَلَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِ ابْتِدَاءً خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَشَكَّكَ فِيهِ أَيْضًا، بَلْ يَذْكُرُ لَهُ طَرَفَ ذَاكَ الْحَدِيثِ فَهُوَ غَالِبًا أَقْرَبُ فِي حُصُولِ الْأَرَبِ. [اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ] (652) وَحَيْثُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْخٍ سَمِعْ ... مَتْنًا بِمَعْنًى لَا بِلَفْظٍ فَقَنِعْ (653) بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَسَمَّى الْكُلَّ صَحْ ... عِنْدَ مُجِيزِي النَّقْلِ مَعْنًى وَرَجَحْ (654) بَيَانُهُ مَعْ قَالَ أَوْ مَعْ قَالَا ... وَمَا بِبَعْضٍ ذَا وَذَا وَقَالَا (655) اقْتَرَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ لَمْ يَقُلِ ... صَحَّ لَهُمْ وَالْكُتْبُ إِنْ تُقَابَلِ (656) بِأَصْلِ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِهِ فَهَلْ ... يُسْمِي الْجَمِيعَ مِعْ بَيَانِهِ احْتَمَلْ [كَيْفِيَّةُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ] : الْفَصْلُ السَّابِعُ: (اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ) فِي مَتْنٍ وَكِتَابٍ، أَوِ اقْتِصَارُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِهَا، (وَحَيْثُ) كَانَ الرَّاوِي (مِنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْخٍ) اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ (سَمِعَ مَتْنًا) أَيْ: حَدِيثًا (بِمَعْنًى) وَاحِدٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ (لَا بِلَفْظٍ) وَاحِدٍ، بَلْ هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، (فَقَنِعْ) حِينَ إِيرَادِهِ إِيَّاهُ (بِلَفْظٍ وَاحِدٍ) مِنْهُمْ، (وَسَمَّى) مَعَهُ (الْكُلَّ) حَمْلًا لِلَفْظِهِمْ عَلَى لَفْظِهِ، بِأَنْ يَقُولَ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ اللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَثَلًا: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا فُلَانٌ. (صَحْ) ذَلِكَ (عِنْدَ مُجِيزِي النَّقْلِ مَعْنًى) أَيْ بِالْمَعْنَى، وَهُمُ الْجُمْهُورُ كَمَا سَلَفَ فِي بَابِهِ، سَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ أَوْ لَا، وَمِمَّنْ فَعَلَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ أَلْفَاظَ جَمَاعَةٍ يَسْمَعُ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ عَلَى لَفْظِ أَحَدِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي لَفْظِهِ. (وَ) لَكِنْ (رَجَحْ بَيَانُهُ) عِنْدَهُمْ، أَيْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 هُوَ أَحْسَنُ بِأَنْ يُعَيَّنَ صَاحِبُ اللَّفْظِ الَّذِي اقْتُصِرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ سِيَاقِ الْمَتْنِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ بَعْدَ سِيَاقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَمْيِيزَ لَفْظِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَالرَّاجِحُ بَيَانُهُ أَيْضًا. كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ: ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ - زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ يَحْفَظْ حَدِيثَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ هَذَا، وَلَا حَدِيثَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ هَذَا - قَالَا: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ - يَعْنِي عَائِشَةَ -: ( «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ» ) . وَذَكَرَ حَدِيثًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا: ثَنَا مُسَدَّدٌ وَأَبُو كَامِلٍ، دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ. ثُمَّ هُوَ فِي سُلُوكِهِ الْبَيَانَ حَيْثُ مَيَّزَ، بِالْخِيَارِ بَعْدَ تَعْيِينِ صَاحِبِ اللَّفْظِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ (مَعْ) إِفْرَادِ (قَالَ أَوْ مَعْ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ فِيهِمَا (قَالَا) إِنْ كَانَ أَخَذَهُ عَنِ اثْنَيْنِ، أَوْ قَالُوا، إِنْ كَانُوا أَكْثَرَ. [اعْتِنَاءُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] : وَقَدِ اشْتَدَّتْ عِنَايَةُ مُسْلِمٍ بِبَيَانِ ذَلِكَ حَتَّى فِي الْحَرْفِ مِنَ الْمَتْنِ وَصِفَةِ الرَّاوِي وَنَسَبِهِ، وَرُبَّمَا، كَمَا قَدَّمْتُهُ، فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى كَانَ بَعْضُهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ مَعْنًى، وَرُبَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهِ تَغَيُّرٌ، وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إِلَّا مَنْ هُوَ فِي الْعُلُومِ بِمَكَانٍ. وَاسْتُحْسِنَ لَهُ قَوْلُهُ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. مِنْ أَجْلِ أَنَّ إِعَادَتَهُ ثَانِيًا ذِكْرَ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً يُشْعِرُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَهُ. وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 مَوْضِعٍ آخَرَ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: ثَنَا حَفْصٌ. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» ) . فَإِنَّ لَفْظَ أَبِي بَكْرٍ - كَمَا فِي (مُصَنَّفِهِ) - حَفْصٌ، بِدُونِ صِيغَةٍ، وَسَاقَ سَنَدَهُ قَالَ: كُنْتُ عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَكُنْتُ أَتَصَدَّقُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَوْلَايَ يَنْهَانِي، أَوْ سَأَلَهُ فَقَالَ: (الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا) . وَلَفْظُ زُهَيْرٍ كَمَا عِنْدَ أَبِي يَعْلَى فِي (مُسْنَدِهِ) عَنْهُ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ. وَسَاقَ سَنَدَهُ، قَالَ: «كُنْتُ مَمْلُوكًا، وَكُنْتُ أَتَصَدَّقُ بِلَحْمٍ مِنْ لَحْمِ مَوْلَايَ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (تَصَدَّقْ، وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» ) . وَعَنْ أَبِي يَعْلَى أَوْرَدَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) ، فَانْحَصَرَ كَوْنُ اللَّفْظِ لِمَنْ أَعَادَهُ ثَانِيًا، فِي أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ لَا نُطِيلُ بِهَا، وَرُبَّمَا لَا يُصَرِّحُ بِرِوَايَةِ الْجَمِيعِ عَنْ شَيْخِهِمْ، كَقَوْلِهِ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ: ثَنَا حَسَنُ بْنُ عَيَّاشٍ. وَرُبَّمَا تَكُونُ الْإِعَادَةُ لِأَجْلِ الصِّيغَةِ حَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُمْ بِالْعَنْعَنَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّحْدِيثِ أَوِ الْإِخْبَارِ، وَعَلَيْهِ ; فَتَارَةً يَكُونُ اللَّفْظُ مُتَّفِقًا، وَتَارَةً مُخْتَلِفًا. وَكَثِيرًا مَا يُنَبِّهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَلَى التَّوَافُقِ فِي الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ صَاحِبِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: ثَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسَدَّدٌ، الْمَعْنَى. وَرُبَّمَا قَالَ: الْمَعْنَى وَاحِدٌ. كَقَوْلِهِ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، الْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَهِيَ أَوْضَحُ، فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ كَوْنَهُ الْمَعْنِيَّ، بِكَسْرِ النُّونِ نِسْبَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 لِمَعْنٍ. وَيَتَأَكَّدُ حَيْثُ لَمْ يَقْرِنْ مَعَ الرَّاوِي غَيْرَهُ. وَقَدْ يَكُونُ فِي حَدِيثِ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ أَتْقَنَ، كَقَوْلِ أَبِي دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ وَهُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَنَا لِحَدِيثِهِ أَتْقَنُ. وَمِمَّنْ سَبَقَ مُسْلِمًا لِنَحْوِ صَنِيعِهِ شَيْخُهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى تَمْيِيزِ الْأَلْفَاظِ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. وَقَدْ يَنْشَأُ عَنْ بَعْضِهِ لِمَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ إِثْبَاتُ رَاوٍ لَا وُجُودَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ. وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، قَالَا: أَنَا هِشَامٌ، قَالَ عَبَّادٌ: ابْنُ زِيَادٍ. حَيْثُ ظَنَّ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَنَّ زِيَادًا هُوَ وَالِدُ عَبَّادٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ وَالِدُ هِشَامٍ، اخْتُصَّ عَبَّادٌ بِزِيَادَتِهِ عَنْ رَفِيقِهِ يَزِيدَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَجَّاجٌ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي الْأَبْيَضِ - قَالَ حَجَّاجٌ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ - عَنْ أَنَسٍ. فَذَكَرَ حَدِيثًا. فَلَيْسَ قَوْلُهُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَصْفًا لِحَجَّاجٍ، بَلْ هُوَ مَقُولُهُ وَصَفَ بِهِ أَبَا الْأَبْيَضِ، انْفَرَدَ بِوَصْفِهِ لَهُ بِذَلِكَ عَنْ رَفِيقِهِ، وَحَجَّاجٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ أَحَدُ شَيْخَيْ أَحْمَدَ فِيهِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. [حُكْمُ خَلْطِ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ] : وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا اخْتِصَاصَ لِلصِّحَّةِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ بِمَا يَخُصُّ فِيهِ الرَّاوِي وَاحِدًا بِجَمِيعِ الْمَتْنِ، بَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ (مَا) يَأْتِي فِيهِ (بِبَعْضِ) لَفْظِ (ذَا) أَيْ: أَحَدِ الشَّيْخَيْنِ، (وَ) بَعْضِ لَفْظِ (ذَا) أَيِ: الْآخَرِ مِمَّا اتَّحَدَ عِنْدَهُمَا الْمَعْنَى فِيهِ، مَيَّزَ الرَّاوِي لَفْظَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، أَوْ لَمْ يُمَيِّزْ، (وَقَالَا) أَيْ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 الرَّاوِي لَفْظَ: (اقَتَرَبَا) أَيْ: كُلٌّ مِنَ الشَّيْخَيْنِ (فِي اللَّفْظِ) أَوْ قَالَ: الْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَمَا أَشَبَهَهُمَا، (أَوْ لَمْ يَقُلْ) شَيْئًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَيْضًا قَدْ (صَحَّ لَهُمْ) أَيْ لِمُجِيزِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى، وَالْأَحْسَنُ أَيْضًا الْبَيَانُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عِيبَ بِتَرْكِهِ الْبُخَارِيُّ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِيمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، حَتَّى إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخْرِجْ لَهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ (صَحِيحِهِ) ، بَلْ وَاقْتَصَرَ مُسْلِمٌ فِيهَا كَمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ عَلَى خُصُوصِ رِوَايَتِهِ عَنْ ثَابِتٍ. [الْكَلَامُ عَلَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ] : لَكِنْ قَدْ رُدَّ عَلَى مَا عَابَ الْبُخَارِيَّ بِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ إِسْقَاطًا إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ يَسْتَجِيزُ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى. هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ لَمْ يَتَأَخَّرِ الْبُخَارِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنِ التَّخْرِيجِ لَهُ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِحَمَّادٍ مَعَ كَوْنِهِ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْأَثْبَاتِ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ مِنَ الْأَبْدَالِ ; لِأَنَّهُ قَدْ سَاءَ حِفْظُهُ، وَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ صَنِيعِهِ وَصَنِيعِ ابْنِ وَهْبٍ، بِأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ أَتْقَنُ لِمَا يَرْوِيهِ وَأَحْفَظُ. وَبِهِ يُجَابُ عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَرِّجُ عَلَى الْبَيَانِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ هُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - فِي الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدَ تَعَاطَى الْبَيَانَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ كَقَوْلِهِ فِي تَفْسِيرِ " الْبَقَرَةِ ": ثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، ثَنَا جَرِيرٌ وَأَبُو أُسَامَةَ، وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ. فَذَكَرَ حَدِيثًا. وَفِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ أَيْضًا، ثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ. وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْخِهِ كَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى. وَرُبَّمَا يَسْلُكُ مَسْلَكًا دَقِيقًا يَرْمُزُ فِيهِ لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَجِّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ - هُوَ الزُّهْرِيِّ - عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ» ) . فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ أَنْ يَقْطَعَ السَّنَدَ الْأَوَّلَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ مِنَ الثَّانِي: كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ. لِكَوْنِ اللَّفْظِ لِلثَّانِي فَقَطْ، وَيَتَأَيَّدُ بِجَزْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِأَنَّ سَتْرَ الْكَعْبَةِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ خَاصَّةً دُونَ عُقَيْلٍ، وَحِينَئِذٍ فَرِوَايَةُ عُقَيْلٍ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَابِ الَّذِي أَوْرَدَهَا فِيهِ، وَهُوَ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} [المائدة: 97] الْآيَةَ. وَلِذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنَّ عَادَةَ الْبُخَارِيِّ التَّجَوُّزُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ فِي (سُنَنِهِ) : ثَنَا مُسَدَّدٌ، وَأَبُو تَوْبَةَ، الْمَعْنَى قَالَا: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ. يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِهِمَا مَعًا، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَبِي تَوْبَةَ فَقَطْ، وَيَكُونَ اللَّفْظُ لِلْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنْ بَابِ: وَاللَّفْظُ لِفُلَانٍ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ أَلَّا يَكُونَ رَوَاهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ. لَا انْحِصَارَ لَهُ فِي أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمَعْنَى، وَأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ لَفْظٌ ثَالِثٌ غَيْرُ لَفْظَيْهِمَا. وَالْأَحْوَالُ كُلِّهَا آيِلَةٌ فِي الْغَالِبِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسُوقَ الْحَدِيثَ عَلَى لَفْظٍ مَرْوِيٍّ لَهُ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْبَاقِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 بِمَعْنَاهُ. انْتَهَى. وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةٍ، فَيَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ مُلَفَّقًا مِنْهُمَا، إِذْ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْقِسْمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ مَا إِذَا سَمِعَ مِنْ كُلِّ شَيْخٍ قِطْعَةً مِنْ مَتْنٍ، فَأَوْرَدَهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ بِدُونِ تَمْيِيزٍ. [حُكْمُ السَّمَاعِ مِنْ جَمَاعَةٍ وَالْمُقَابَلَةِ بِأَصْلِ بَعْضِهِمْ] : (وَالْكُتْبُ) بِسُكُونِ التَّاءِ، الْمُصَنَّفَةُ، كَـ (الْمُوَطَّأِ) وَ (الْبُخَارِيِّ) ، الْمَسْمُوعَةُ عِنْدَ الرَّاوِي مِنْ شَيْخَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي (إِنْ تُقَابَلْ بِأَصْلِ شَيْخٍ) خَاصَّةً (مِنْ شُيُوخِهِ) أَوْ شَيْخَيْهِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ. (فَهَلْ يُسْمِي) بِسُكُونِ ثَانِيهِ، عِنْدَ رِوَايَتِهِ لِذَلِكَ الْكِتَابِ الْجَمِيعَ مَعَ بَيَانِهِ أَنَّ اللَّفْظَ لِفُلَانٍ الَّذِي قَابَلَ بِأَصْلِهِ؟ (احْتَمَلْ) الْجَوَازَ كَالْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مَا أَوْرَدَهُ قَدْ سَمِعَهُ بِنَصِّهِ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ بِلَفْظِهِ، وَاحْتَمَلَ عَدَمَهُ ; لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِكَيْفِيَّةِ رِوَايَةِ مَنْ عَدَاهُ حَتَّى يُخْبِرَ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُ اطَّلَعَ فِيهِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمَعْنَى. وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إِطْلَاقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ حِينَ الرِّوَايَةِ الْوَاقِعَ، أَمَّا إِذَا بَيَّنَ كَمَا هُوَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ، فَالْأَصْلُ فِي الْكُتُبِ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ، وَلَوْ فُرِضَ فَهُوَ يَسِيرٌ غَالِبًا تَجْبُرُهُ الْإِجَازَةُ، هَذَا إِذَا لَمْ يُعْلَمُ الِاخْتِلَافُ، فَإِنْ عَلِمَهُ فَقَدْ قَالَ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ فِي أَلْفَاظٍ، أَوْ فِي لُغَاتٍ، أَوِ اخْتِلَافِ ضَبْطٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَادِيثَ مُسْتَقِلَّةٍ فَلَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 [الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الشَّيْخِ] (657) وَالشَّيْخُ إِنْ يَأْتِ بِبَعْضِ نَسَبٍ ... مِنْ فَوْقِهِ فَلَا تَزِدْ وَاجْتَنِبِ (658) إِلَّا بِفَصْلٍ نَحْوَ هُوَ أَوْ يَعْنِي ... أَوْ جِئْ بِأَنَّ وَانْسِبَنَّ الْمَعْنِيَّ (659) أَمَّا إِذَا الشَّيْخُ أَتَمَّ النَّسَبَا ... فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَقَطْ فَذَهَبَا (660) الْأَكْثَرُونَ لِجَوَازِ أَنْ يُتَمْ ... مَا بَعْدَهُ وَالْفَصْلُ أَوْلَى وَأَتَمْ الْفَصْلُ الثَّامِنُ: (الزِّيَادَةُ) عَلَى الرِّوَايَةِ (فِي نَسَبِ الشَّيْخِ) حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ وَقَعَ لَكِنْ بِأَوَّلِ الْمَرْوِيِّ دُونَ بَاقِي أَحَادِيثِهِ. (وَالشَّيْخُ إِنْ يَأْتِ) فِي حَدِيثِهِ لَكَ (بِبَعْضِ نَسَبٍ مِنْ فَوْقِهِ) شَيْخِهِ أَوْ غَيْرِهِ، كَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الِاسْمِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ اسْمِ الْأَبِ، أَوْ عَلَى الْأَبِ فَقَطْ، أَوْ عَلَى الْكُنْيَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَتِمُّ الْمَعْرِفَةُ بِهِ لِكُلٍّ أَوْ تَتِمُّ. (فَلَا تَزِدْ) أَيُّهَا الرَّاوِي عَلَى مَا حَدَّثَكَ بِهِ شَيْخُكَ، (وَاجْتَنِبِ) إِدْرَاجَهُ فِيهِ (إِلَّا بِفَصْلٍ) يَتَمَيَّزُ بِهِ الزَّائِدُ (نَحْوَ هُوَ) ابْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، (أَوْ يَعْنِي) ابْنَ فُلَانٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا رَوَى الْخَطِيبُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ قَالَ: يَعْنِي ابْنَ فُلَانٍ. وَهُوَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَغَيْرِهِمَا كَثِيرٌ، (أَوْ جِئْ بِأَنَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ. (وَانْسِبَنَّ) بِنُونٍ التَّأْكِيدِ الْمُشَدَّدَةِ (الْمَعْنِي) بِالْإِشَارَةِ، كَمَا رَوَى الْبَرْقَانِيُّ فِي (اللُّقْطِ) لَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: إِذَا حَدَّثَكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: ثَنَا فُلَانٌ. وَلَمْ يَنْسِبْهُ، وَأَحْبَبْتَ أَنْ تَنْسِبَهُ فَقُلْ: ثَنَا فُلَانٌ، أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّ حَدَّثَهُ. وَمِمَّنْ لَا يَسْتَجِيزُ إِيرَادَهُ إِلَّا بِـ " هُوَ " أَوْ " يَعْنِي " مُسْلِمٌ ; لِكَوْنِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِخْبَارًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 عَنْ شَيْخِهِ بِمَا لَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُمَا أَوْلَى مِنْ " أَنَّ " ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِشْعَارِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَإِنِ اصْطَلَحَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ وَأَنْسَابِهِمْ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَبِزِيَادَةِ تَعْيِينِ تَارِيخِ السَّمَاعِ، وَالْقَارِئِ، وَالْمُخَرِّجِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْمُصَنِّفِينَ، بَلْ وَرُبَّمَا لَقَّبُوا الرَّاوِيَ بِمَا لَا يَسْمَحُ بِهِ الرَّاوِي عَنْهُ الْمُضَافُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، كَأَنْ يُقَالَ: أَنَا ابْنُ الصَّلَاحِ، أَنَا الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ أَوْحَدُ الزَّمَانِ فُلَانٌ. مَعَ كَوْنِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ هَذَا فِي حَقِّ شَيْخِهِ لَأَبَاهُ، وَهُوَ تَوَسُّعٌ أَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى مَنْعِهِ. (أَمَّا) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي (إِذَا الشَّيْخُ) الَّذِي حَدَّثَكَ (أَتَمَّ النَّسَبَا) لِشَيْخِهِ أَوْ مَنْ فَوْقَهُ (فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ) أَوِ الْكِتَابِ (فَقَطْ) ، وَاقْتَصَرَ فِي بَاقِيهِ عَلَى اسْمِهِ خَاصَّةً، أَوْ نَسَبِهِ، كَمَا يَقَعُ فِي " حَدِيثِ الْمُخَلِّصِ " حَيْثُ يُقَالُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، ابْنُ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ. ثُمَّ يَقْتَصِرُ فِيمَا بَعْدَهُ عَلَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ. (فَذَهَبَا الْأَكْثَرُونَ) مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُمْ (لِجَوَازِ أَنْ يُتِمْ مَا بَعْدَهُ) أَيْ: مَا بَعْدَ الْأَوَّلِ اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ كَذَلِكَ أَوَّلًا، سَوَاءٌ فَصَلَ، يَعْنِي بِمَا تَقَدَّمَ، أَمْ لَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُدْرَجَ أَصْلًا، فَهُوَ إِدْرَاجٌ لِشَيْءٍ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَوَجَبَ الْفَصْلُ فِيهِ، (وَالْفَصْلُ) هُنَا (أَوْلَى) لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِفْصَاحِ بِصُورَةِ الْحَالِ، وَعَدَمِ الْإِدْرَاجِ، (وَأَتَمْ) لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِالْأَوْلَوِيَّةِ بَعْضُهُمْ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَاسْتَحْسَنَهُ، وَخَدَشَ مَا حَكَاهُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 الْأَصْبَهَانِيِّ نَزِيلِ نَيْسَابُورَ، وَأَحَدِ الْحُفَّاظِ الْمُجَوِّدِينَ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالدِّينِ حَيْثُ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ رَوَاهَا لَنَا قَالَ فِيهَا: أَنَا أَبُو عَمْرِو ابْنُ حِمْدَانَ، أَنَّ أَبَا يَعْلَى أَحْمَدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيَّ أَخْبَرَهُمْ، وَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ، أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ نَافِعٍ حَدَّثَهُمْ، وَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مُحَمَّدَ بْنَ سُفْيَانَ الصَّفَّارَ أَخْبَرَهُمْ. فَذَكَرَ لِي أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ سَمَّعَهَا عَلَى شُيُوخِهِ فِي جُمْلَةِ نُسَخٍ نَسَبُوا الَّذِينَ حَدَّثُوهُ بِهَا فِي أَوَّلِهَا، وَاقْتَصَرُوا فِي بَقِيَّتِهَا عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ. بِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الرُّوَاةِ كَانُوا يَقُولُونَ فِيمَا أُجِيزَ، يَعْنِي لِشُيُوخِهِمْ: أَنَا فُلَانٌ، أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُمْ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي: كَيْفَ يَقُولُ مَنْ رَوَى بِالْمُنَاوَلَةِ؟ قُبَيْلَ قِسْمِ الْمُكَاتَبَةِ، مَعَ حِكَايَةِ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الصَّنِيعَ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: فَاسْتَعْمِلْ مَا ذَكَرْتُ، فَإِنَّهُ أَنْفَى لِلظِّنَّةِ. يَعْنِي فِي كَوْنِهِ إِجَازَةً، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدًا، وَحِينَئِذٍ، فَأَوْلَاهَا - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - هُوَ، ثُمَّ " يَعْنِي "، ثُمَّ " إِنَّ "، ثُمَّ إِيرَادُ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا، وَمَنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى لَا يُجِيزُ الْأَخِيرَ. [الرِّوَايَةُ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ] (661) وَالنُّسَخُ الَّتِي بِإِسْنَادٍ قَطُ ... تَجْدِيدُهُ فِي كُلِّ مَتْنٍ أَحْوَطُ (662) وَالْأَغْلَبُ الْبَدْءُ بِهِ وَيُذْكَرُ ... مَا بَعْدَهُ مَعْ وَبِهِ وَالْأَكْثَرُ (663) جَوَّزَ أَنْ يُفْرِدَ بَعْضًا بِالسَّنَدْ ... لِآخِذٍ كَذَا وَالْإِفْصَاحُ أَسَدْ (664) وَمَنْ يُعِيدُ سَنَدَ الْكِتَابِ مَعْ ... آخِرِهِ احْتَاطَ وَخُلْفًا مَا رَفَعْ [تَجْدِيدُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ النُّسَخِ] : الْفَصْلُ التَّاسِعُ: (الرِّوَايَةُ مِنْ) أَثْنَاءِ (النُّسَخِ الَّتِي إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ) . (وَالنُّسَخُ) وَالْأَجْزَاءُ (الَّتِي) مُتُونُهَا (بإِسْنَادٍ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وَاحِدٍ (قَطُ) أَيْ: فَقَطْ، كَنُسْخَةِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ، وَنُسْخَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (تَجْدِيدُهُ) أَيِ: الْإِسْنَادِ (فِي كُلِّ مَتْنٍ) مِنْهَا (أَحْوَطُ) كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْقَدِيمَةِ، بَلْ أَوْجَبَهُ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ. (وَ) لَكِنِ (الْأَغْلَبُ) أَيِ: الْأَكْثَرُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، (الْبَدْءُ بِهِ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ فِي أَوَّلِهَا، أَوْ فِي أَوَّلِ كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْ سَمَاعِهَا، (وَيُذْكَرُ مَا بَعْدَهُ) مِنَ الْأَحَادِيثِ (مَعْ) بِالسُّكُونِ، قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا: (وَبِهِ) أَيْ: وَبِالْإِسْنَادِ السَّابِقِ أَوِ السَّنَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، (وَالْأَكْثَرُ) وَمِنْهُمْ وَكِيعٌ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، (جَوَّزَ أَنْ يُفْرِدَ بَعْضًا) مِنْ أَحَادِيثِهَا مِنْ أَيِ مَكَانٍ شَاءَ (بِالسَّنَدْ) الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ (لِآخِذٍ كَذَا) أَيْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِمَنْ سَمِعَهَا كَذَلِكَ. أَمَّا وَكِيعٌ فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ: الْمُحَدِّثُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ. ثُمَّ يَقُولُ فِيمَا بَعْدَهُ: وَعَنْ مَنْصُورٍ. فَهَلْ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَمَّا ابْنُ مَعِينٍ فَقَالَ: أَحَادِيثُ هَمَّامٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَهَا. وَقَالَ - إِذْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ وَرْقَاءَ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ: عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. يَعْنِي ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ، فَهَلْ تَرَى بَأْسًا أَنْ يُخْرِجَهَا إِنْسَانٌ فَيَكْتُبَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ: وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ؟ -: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَمَّا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا جُعِلَ إِسْنَادٌ وَاحِدٌ لِعِدَّةٍ مِنَ الْمُتُونِ أَنْ يُجَدَّدَ الْإِسْنَادُ لِكُلِّ مَتْنٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وَمَنَعَ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيُّ فِي الْأَسْئِلَةِ الَّتِي سَأَلَهُ عَنْهَا الْحَافِظُ أَبُو سَعْدِ بْنُ عَلِيَّكَ. وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْإِسْنَادُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا لِمَنْ سَمَاعُهُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ. وَكَذَا مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَرَآهُ تَدْلِيسًا، يَعْنِي مِنْ جِهَةِ إِيهَامِهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ سَمِعَ بِتَكْرَارِ السَّنَدِ، وَأَنَّهُ كَانَ مُكَرَّرًا تَحْقِيقًا لَا حُكْمًا وَتَقْدِيرًا، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ التَّحَمُّلِ. وَالْمُعْتَمَدُ الْجَوَازُ ; لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَهُ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ تَقْطِيعِ الْمَتْنِ الْوَاحِدِ فِي أَبْوَابٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْمَتْنِ، وَقَرِيبُ الشَّبَهِ بِالنَّقْلِ مِنْ أَثْنَاءِ الْكُتُبِ الَّتِي يَقَعُ إِيرَادُ السَّنَدِ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَوِ الْمَجْلِسِ، وَكَذَا فِي آخِرِهِ غَالِبًا لِأَجْلِ مَنْ يَتَجَدَّدُ مِنَ السَّامِعِينَ، وَيُكْتَفَى فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: وَبِهِ. حَيْثُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ، بَلْ لَا فَرْقَ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْمَنْعُ عَلَى التَّنْزِيهِ وَمَا يُخَالِفُ الْأَوْلَى، لَا عَلَى التَّحَتُّمِ ; إِذْ لَا وَجْهَ لِلْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: بَابُ الرِّوَايَةِ اتِّبَاعٌ لَا ابْتِدَاعٌ، وَهُوَ لَمْ يُرْوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مُبْتَدَعَاتِهَا لَا مِنَ اتِّبَاعَاتِهَا. [صَنِيعُ الشَّيْخَيْنِ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ صَحِيفَةِ هَمَّامٍ] : (وَالْإِفْصَاحُ) بِصُورَةِ الْحَالِ وَإِنْ جَازَ مَا تَقَدَّمَ (أَسَدْ) بِالْمُهْمَلَةِ، أَيْ أَقْوَمُ وَأَحْسَنُ، كَمَا يَفْعَلُهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيفَةِ هَمَّامٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ سِيَاقِ إِسْنَادِهِ إِلَى هَمَّامٍ: إِنَّهُ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَصُّهُ. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا. وَيَسُوقُ الْمَتْنَ الَّذِي يَرُومُ إِيرَادَهُ، وَلَمْ يَعْدِلْ عَنْ هَذَا فِيمَا يُورِدُهُ مِنَ النُّسْخَةِ الْمَذْكُورَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَرُبَّمَا قَدَّمَ أَوَّلَ حَدِيثٍ مِنَ الصَّحِيفَةِ، وَهُوَ حَدِيثُ (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ) . ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ، وَلِذَا قَلَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَقْصِدِ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى التَّكْلِيفِ بَيْنَ مُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَاسْتَعْمَلَ قُوَاهُ فِي ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ لَمْ يَطَّرِدْ عَمَلُهُ لَهُ فِي جَمِيعِ مَا يُورِدُهُ مِنْ هَذِهِ النُّسْخَةِ، بَلْ أَوْرَدَ مِنْهَا فِي الطَّهَارَةِ، وَفِي الْبُيُوعِ، وَفِي النَّفَقَاتِ، وَالشَّهَادَاتِ، وَالصُّلْحِ، وَقِصَّةِ مُوسَى، وَالتَّفْسِيرِ، وَخَلْقِ آدَمَ، وَالِاسْتِئْذَانِ، وَفِي الْجِهَادِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي الطِّبِّ، وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِهَا، فَلَمْ يُصْدِرْ شَيْئًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِالْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، لَكِنْ قَدْ فَعَلَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الْبُخَارِيُّ أَحْيَانًا فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ أَيْضًا. وَمِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ «لَا تَبُولُوا فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» قَالَ: ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، ثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» ) . وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» ) الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَتَا فِي ابْتِدَائِهِمَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيَتَأَيَّدُ بِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ حَدِيثٌ فِي إِحْدَاهُمَا إِلَّا وَهُوَ فِي الْأُخْرَى، وَسَبَقَهُمَا إِلَى نَحْوِهِ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِي بَابِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ مِنْ (مُوَطَّئِهِ) مُتُونًا بِسَنَدٍ وَاحِدٍ، أَوَّلُهَا: (مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَوْكٍ) ، وَآخِرُهَا: ( «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» ) وَلَيْسَ غَرَضُهُ إِلَّا الْأَخِيرَ، وَلَكِنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمِعَهَا بِهِ، وَكَذَا وَافَقَ عَلَى مُطْلَقِ الْبَيَانِ آخَرُونَ. (وَمَنْ يُعِيدُ سَنَدَ الْكِتَابِ) أَوِ الْجُزْءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، (مَعْ آخِرِهِ) أَيْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ، فَقَدِ (احْتَاطَ) لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ وَتَضَمُّنِ إِجَازَةٍ بَالِغَةٍ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ، وَلَكِنْ (خُلْفًا مَا رَفَعَ) أَيْ: لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ الْخِلَافَ، مِنْ أَجْلِ عَدَمِ اتِّصَالِ السَّنَدِ بِكُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا، بَلِ الْخِلَافُ الْمَاضِي فِي إِفْرَادِ كُلِّ حَدِيثٍ لَمْ يَزُلْ بِذَلِكَ. [تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ] (665) وَسَبْقُ مَتْنٍ لَوْ بِبَعْضِ سَنَدٍ ... لَا يَمْنَعُ الْوَصْلَ وَلَا أَنْ يَبْتَدِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 (666) رَاوٍ كَذَا بِسَنَدٍ فَمُتَّجِهْ وَقَالَ خُلْفُ النَّقْلِ مَعْنًى يَتَّجِهْ ... (667) فِي ذَا كَبَعْضِ الْمَتْنِ قَدَّمْتَ عَلَى بَعْضٍ فَفِيهِ ذَا الْخِلَافُ نُقِلَا [تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ لَا يَمْنَعُ الْوَصْلَ] : الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: (تَقْدِيمُ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ) جَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ. (وَسَبْقُ مَتْنٍ) عَلَى جَمِيعِ سَنَدِهِ كَمَا جَاءَ مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيِّ، بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ. أَخْبَرَنِيهِ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) . الْحَدِيثَ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ. يَعْنِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَكَقَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَاخِرِ الْعِلْمِ مِنْ (صَحِيحِهِ) : وَقَالَ عَلِيٌّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) . حَدَّثَنَا بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ. جَائِزٌ، وَ (لَوْ) كَانَ سَبْقُهُ مُقْتَرِنًا (بِبَعْضِ سَنَدِ) سَوَاءٌ كَانَ الْبَعْضُ السَّابِقُ مِمَّا يَلِي الرَّاوِيَ كَقَوْلِ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: ( «إِذَا كَفَى الْخَادِمُ أَحَدَكُمُ طَعَامَهُ فَلْيُجْلِسْهُ فَلْيَأْكُلْ مَعَهُ» ) الْحَدِيثَ. وَقُرِئَ عَلَيْهِ إِسْنَادُهُ: سَمِعْتُ أَبَا الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. وَقَوْلِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: ( «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَارْمُوهَا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» ) . وَقُرِئَ عَلَيْهِ إِسْنَادُهُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ، عَنْ أُمِّهِ، يَعْنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. وَحَكَى أَحْمَدُ أَنَّ شَرِيكًا لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 يَكُنْ يُحَدِّثُ إِلَّا هَكَذَا، كَانَ يَذْكُرُ الْحَدِيثَ فَيَقُولُ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: عَمَّنْ؟ فَيَقُولُ: عَنْ فُلَانٍ. أَوْ مِمَّا يَلِي الْمَتْنَ كَأَنْ يَقُولَ: رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا. أَنَا بِهِ فُلَانٌ. وَيَسُوقُ سَنَدَهُ إِلَى عَمْرٍو. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ، كَمَا حَكَى مَالِكٌ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ إِلَى الزُّهْرِيِّ فَيَقُولُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ كَذَا. ثُمَّ نَجْلِسُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَقُولُ لَهُ: الَّذِي ذَكَرْتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ; مَنْ أَخْبَرَكَ بِهِ؟ قَالَ: ابْنُهُ سَالِمٌ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِجَوَازِ ذَلِكَ أَحْمَدُ، بَلْ وَفَعَلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَ (لَا يَمْنَعُ) السَّبْقُ فِي ذَلِكَ (الْوَصْلَ) ، بَلْ يُحْكَمُ بِاتِّصَالِهِ كَمَا إِذَا قَدَّمَ السَّنَدَ عَلَى الْمَتْنِ. (وَ) كَذَا (لَا) يَمْنَعُ (أَنْ يَبْتَدِي) رَاوٍ تَحَمَّلَ مِنْ شَيْخِهِ هَـ (كَذَا) الْمَتْنَ (بِسَنَدٍ) وَيُؤَخِّرُ الْمَتْنَ كَالْجَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ (فَـ) هَذَا (مُتَّجِهْ) كَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُشْعِرُ بِهِ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ سَأَلَهُ: هَلْ لِمَنْ سَمِعَ كَذَلِكَ أَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ: الْأَشْبَهُ عِنْدِي جَوَازُهُ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ تَقْدِيمُ اسْمِ شَيْخِهِ عَلَى الصِّيغَةِ، كَأَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَثَلًا: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي. (وَقَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ وَ (خُلْفُ) أَيِ: الْخِلَافُ فِي (النَّقْلِ مَعْنًى) أَيْ: بِالْمَعْنَى (يَتَّجِهْ) مَجِيئُهُ (فِي ذَا) الْفَرْعِ (كَبَعْضِ الْمَتْنِ) إِذَا (قَدَّمْتَ) بِهِ (عَلَى بَعْضٍ فَفِيهِ) أَيْضًا (ذَا الْخِلَافُ) كَمَا عَنِ الْخَطِيبِ قَدْ (نُقِلَا) ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ. وَلَكِنْ قَدْ مَنَعَ الْبُلْقِينِيُّ مَجِيءَ الْخِلَافِ فِي فَرْعِنَا، وَفَرَّقَ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 بَعْضِ الْمَتْنِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى خَلَلٍ فِي الْمَقْصُودِ فِي الْعَطْفِ وَعَوْدِ الضَّمِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْمَتْنِ عَلَى السَّنَدِ. وَسَبَقَهُ إِلَى الْإِشَارَةِ لِذَلِكَ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ فِي (إِرْشَادِهِ) : وَالصَّحِيحُ أَوِ الصَّوَابُ جَوَازُ هَذَا، وَلَيْسَ كَتَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَتْنِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ هَذَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ الْقَطْعُ بِجِوَازِهِ. وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ كَتَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَتْنِ عَلَى بَعْضٍ. عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ إِنَّمَا أَطْلَقَ اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، لَكِنْ قَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِجَوَازِهِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَتْنُ الْمُتَقَدَّمُ مُرْتَبِطًا بِالْمُؤَخَّرِ. ثُمَّ إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنَ الْجَوَازِ مَا يَقَعُ لِابْنِ خُزَيْمَةَ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُهُ إِذَا كَانَ فِي السَّنَدِ مَنْ فِيهِ مَقَالٌ حَيْثُ يَبْتَدِئُ مِنَ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَتْنِ يَذْكُرُ أَوَّلَ السَّنَدِ، وَقَالَ: إِنَّ مَنْ رَوَاهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ فِي حِلٍّ مِنْهُ. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ الْقَائِلَ بِالرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى لَا يُجَوِّزُ مِثْلَ هَذَا. يَعْنِي حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ. وَكَذَا مَيَّزَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَيْنَ مَا يُخْرِجُهُ فِي (مُسْتَخْرَجِهِ) مِنْ طَرِيقِ مَنْ يَعْرِضُ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَبَيْنَ الصَّحِيحِ عَلَى شَرْطِهِ، بِذِكْرِ الْخَبَرِ مِنْ فَوْقُ، ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِيهِ فُلَانٌ، عَنْ فُلَانٍ. كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي (الْمَدْخَلِ) . وَمِمَّنْ مَنَعَ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْمَتْنِ عَلَى بَعْضٍ ابْنُ عُمَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ. ( «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» ) . وَفِيهِ (حَجُّ الْبَيْتِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ) . فَأَعَادَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ بِتَقْدِيمِ الصِّيَامِ، فَقَالَ: لَا، اجْعَلِ الصِّيَامَ آخِرَهُنَّ كَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وَرُبَّمَا شَكَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ فَرَوَاهُ مَعَ التَّرَدُّدِ كَحَدِيثِ: ( «أَهْلُ بَيْتِي وَالْأَنْصَارُ عَيْبَتِي وَكَرِشِي» ) . أَوْ: (كَرِشِي وَعَيْبَتِي) . وَكَحَدِيثِ أَسْلَمَ وَغِفَارَ أَوْ غِفَارَ وَأَسْلَمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِالشَّكِّ كَقَوْلِ عَاصِمٍ فِي حَدِيثِ: ( «فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» ) . أَوْ: ( «إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» ) : لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا بَدَأَ. أَوْرَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْخَطِيبُ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ تَقْدِيمِ كَلِمَةٍ عَلَى أُخْرَى مِنْ (كِفَايَتِهِ) ، وَكَذَا بَوَّبَ لِهَذَا الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، وَحَكَى فِيهِ الْجَوَازَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَعْنَى عَنِ الْحَسَنِ وَسُلَيْمَانَ التَّمِيمِيِّ وَالِدِ الْمُعْتَمِرِ. [إِذَا قَالَ الشَّيْخُ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ] (668) وَقَوْلُهُ مِعْ حَذْفِ مَتْنٍ مِثْلَهُ ... أَوْ نَحْوَهُ يُرِيدُ مَتْنًا قَبْلَهُ (669) فَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ أَنْ يُكَمِّلَهْ ... بِسَنَدِ الثَّانِي وَقِيلَ بَلْ لَهْ (670) إِنْ عُرِفَ الرَّاوِيُ بِالتَّحَفُّظِ ... وَالضَّبْطِ وَالتَّمْيِيزِ لِلتَّلَفُّظِ (671) وَالْمَنْعُ فِي نَحْوٍ فَقَطْ قَدْ حُكِيَا ... وَذَا عَلَى النَّقْلِ بِمَعْنًى بُنِيَا (672) وَاخْتِيرَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَتْنِ ... قَبْلُ وَمَتْنُهُ كَذَا وَيَبْنِي (673) وَقَوْلُهُ إِذْ بَعْضُ مَتْنٍ لَمْ يَسُقْ ... وَ " ذَكَرَ الْحَدِيثَ " فَالْمَنْعُ أَحَقْ (674) وَقِيلَ إِنْ يَعْرِفْ كِلَاهُمَا الْخَبَرْ ... يُرْجَى الْجَوَازُ وَالْبَيَانُ الْمُعْتَبَرْ (675) وَقَالَ إِنْ نُجِزْ فَبِالْإِجَازَهْ ... لِمَا طَوَى وَاغْتَفَرُوا إِفْرَازَهْ [حُكْمُ إِيرَادِ اللَّفْظِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِنَحْوِهِ أَوْ مِثْلِهِ] : الْفَصْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ: (إِذَا قَالَ الشَّيْخُ: مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ) . (وَقَوْلُهُ) أَيِ: الشَّيْخِ الرَّاوِيِ (مَعْ حَذْفِ مَتْنٍ) أَوْرَدَ إِسْنَادَهُ مَا نَصُّهُ، فَذَكَرَ (مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ يُرِيدُ مَتْنًا قَبْلَهُ) فَرَغَ مِنْ سِيَاقِهِ، هَلْ يَسُوغُ إِيرَادُ اللَّفْظِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالسَّنَدِ الثَّانِي الْمَطْوِيِّ مَتْنُهُ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، (فَالْأَظْهَرُ) عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وَمَنْ تَبِعَهُ كَالنَّوَوِيِّ وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ. (الْمَنْعُ) لِمَنْ سَمِعَهُ كَذَلِكَ (مِنْ أَنْ) بِالنَّقْلِ (يُكَمِّلَهْ بِسَنَدِ الثَّانِي) أَيْ: بِالسَّنَدِ الثَّانِي فَقَطْ لِعَدَمِ تَيَقُّنِ تَمَاثُلِهِمَا فِي اللَّفْظِ وَفِي الْقَدْرِ الْمُتَفَاوِتَيْنِ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ الْإِفْكِ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَجَمَاعَةٍ بِطُولِهِ، ثُمَّ مِنْ حَدِيثِ فُلَيْحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: مِثْلَهُ مَعَ تَفَاوُتٍ كَثِيرٍ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ حَسْبَمَا عُلِمَ مِنْ خَارِجٍ. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: فَكَأَنَّ فُلَيْحًا تَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ: مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ (صَحِيحِهِ) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا: ( «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا» ) . ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ شُعْبَةَ، فَوَصَلَهُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، بَلْ قَالَ: مِثْلَهُ. هَذَا مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ لِي مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ إِلَّا بِلَفْظِ (إِثْمًا) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمٌ لَمْ يُشَدِّدْ لِكَوْنِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ، أَوْ وَقَعَ لَهُ بِلَفْظِهِ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَفِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 أَنَّهُ الْأَظْهَرُ نَظَرٌ إِذَا مَشَيْنَا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمَدَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مِثْلَهُ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ لَفْظِهِ، لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَاهُ، بَلْ هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ دَائِرٌ بَيْنَ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى لَا سِيَّمَا إِذَا اقْتَرَنَ بِمِثْلِهِ لَفْظُ سَوَاءٍ، بَلْ هُوَ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى كَوْنِهِ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْمَنْعِ شُعْبَةُ، فَكَانَ لَا يَرَى بِالتَّحْدِيثِ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: قَوْلُ الرَّاوِي: فُلَانٌ، عَنْ فُلَانٍ، مِثْلَهُ. لَا يُجْزِئُ، وَقَوْلُهُ: نَحْوَهُ. شَكٌّ، أَيْ: فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْهُ قَالَ: مِثْلَهُ وَنَحْوَهُ حَدِيثٌ. أَيْ: غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا جَاءَ مِنْ طَرِيقِ قُرَادٍ أَبِي نُوحٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: مِثْلَهُ لَيْسَ بِحَدِيثٍ. ثُمَّ إِنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَذْفِ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ مَعَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتِهِ. وَلِإِثْبَاتِهِ أَحْوَالٌ: فَتَارَةً يَذْكُرُ الْمَتْنَ عَقِبَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَتَارَةً يَذْكُرُهُ عَقِبَ ثَانِيهِمَا، وَتَارَةً يَعْكِسُ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ، فَيُؤَخِّرُ الْإِسْنَادَ الَّذِي لَهُ اللَّفْظُ، وَيُرْدِفُهُ بِقَوْلِهِ: مِثْلَهُ. (وَقِيلَ بَلْ) يَجُوزُ (لَهْ) أَيْ: لِلسَّامِعِ كَذَلِكَ إِكْمَالُهُ (إِنْ عَرَفَ) الْمُحَدِّثُ (الرَّاوِيَ بِالتَّحَفُّظِ وَالضَّبْطِ) . وَعَدِّ الْحُرُوفِ، (وَالتَّمْيِيزِ لِلتَّلَفُّظِ) الْوَاقِعِ مِنَ الرُّوَاةِ، بِحَيْثُ لَا يَحْمِلُ لَفْظَ رَاوٍ عَلَى آخَرَ، مِثْلَ مُسْلِمٍ صَاحِبِ (الصَّحِيحِ) فَإِنَّهُ يَزُولُ الِاحْتِمَالُ حِينَئِذٍ وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهَا الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَأَسْنَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي: قِيلَ لِأَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: يُحَدِّثُ الْمُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ يُحَدِّثُ بِآخَرَ فِي أَثَرِهِ فَيَقُولُ: مِثْلَهُ، يَجُوزُ لِي أَنْ أَقُصَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِي هَذَا الْأَخِيرِ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْمُحَدِّثُ: مِثْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ: مِثْلَهُ. فَكَيْفَ أَقُصُّ أَنَا الْكَلَامَ فِيهِ؟ قَالَ: هَذَا جَائِزٌ إِذَا قَالَ: مِثْلَهُ. فَقَصَصْتَ أَنْتَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِي هَذَا الْأَخِيرِ لَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا كَانَ " مِثْلَهُ " يَعْنِي حَدِيثًا قَدْ تَقَدَّمَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ. فَإِنْ شِئْتَ فَحَدِّثْ بِالْمِثْلِ عَلَى لَفْظِ الْأَوَّلِ. وَقَوَّى الْبُلْقِينِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَاسْتَظْهَرَ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ صَنَعَهُ حَتَّى فِي الْمَوْضِعِ الْمُحْتَمِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ أَخْرَجَ فِي (سُنَنِهِ) مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَ: " تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي ". ثُمَّ خَرَّجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ ; قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. فَهَذَا مَعَ احْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَوْقُوفِ وَأَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَرْفُوعِ، خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِيهِ لَفْظُ الْمَرْفُوعِ، فَرَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِذَا أَعْسَرَ الرَّجُلُ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا» ) . وَلَمْ يَقَعْ فِي كِتَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَلَا فِي كِتَابِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ إِلَّا بِلَفْظَةِ " مِثْلَهُ " الْمُحْتَمِلَةِ. انْتَهَى. وَحَدِيثُ (تَقُولُ الْمَرْأَةُ) فِي " الدَّارَقُطْنِيِّ " مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، ثُمَّ رَوَى أَثَرًا مَقْطُوعًا مِنْ وَجْهَيْنِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الرَّجُلِ يَعْجِزُ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، قَالَ: مِثْلَهُ. وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ زِيَادَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَثَرِ سَعِيدٍ خَطَأٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ الْمَرْفُوعِ، لِكَوْنِهِمَا مُتَّحِدَيْنِ فِي السَّنَدِ وَالرَّفْعِ. [جَوَازُ إِيرَادِ اللَّفْظِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي نَحْوِهِ لَا فِي مِثْلِهِ] : (وَالْمَنْعُ) وَهُوَ قَوْلٌ مُفَصَّلٌ (فِي نَحْوٍ) بِالتَّنْوِينِ، أَيْ: فِي نَحْوِهِ (فَقَطْ) أَيْ: دُونَ " مِثْلِهِ "، قَدْ حُكِيَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 فِيمَا رَوَاهُ عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ حَيْثُ قَالَ: إِذَا كَانَ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ مِثْلَهُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْوِيَهُ إِذَا قَالَ: مِثْلَهُ. إِلَّا أَنْ يَقُولَ: نَحْوَهُ. يَعْنِي عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظَيْنِ إِذْ " مِثْلَهُ " يُعْطِي التَّسَاوِيَ فِي اللَّفْظِ بِخِلَافِ " نَحْوِهِ "، حَتَّى قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَقُولَ: مِثْلَهُ. إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمَا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَيَحِلُّ أَنْ يَقُولَ: نَحْوَهُ. إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ مَعَانِيهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَذَا) أَيْ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ مَعِينٍ (عَلَى) عَدَمِ جَوَازِ (النَّقْلِ بِمَعْنًى) أَيْ: بِالْمَعْنَى (بُنِيَا) فَأَمَّا مَنْ أَجَازَهُ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. قَالَ: (وَاخْتِيرَ) مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ حِينَ رِوَايَةِ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (أَنْ) يُورِدَ الْإِسْنَادَ (وَيَقُولَ) : فَذَكَرَ (مِثْلَ) أَوْ نَحْوَ أَوْ مَعْنَى (مَتْنٍ) ذُكِرَ (قَبْلُ وَمَتْنُهُ كَذَا وَيَبْنِي) اللَّفْظَ الْأَوَّلَ عَلَى السَّنَدِ الثَّانِي بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ. يَعْنِي لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ بِالتَّعْيِينِ وَإِزَالَةِ الْإِيهَامِ وَالِاحْتِمَالِ بِحِكَايَةِ صُورَةِ الْحَالِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) : إِنَّهُ لَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ - انْتَهَى. وَمَا لَعَلَّهُ يُقَالُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الصَّنِيعِ يُوهِمُ سَمَاعَ الْمَتْنِ الثَّانِي، وَأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ لِغَرَضٍ مَا لَيْسَ بِقَادِحٍ، وَقَدْ فَعَلَهُ بِنَحْوِهِ أَحْمَدُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ مِنْ مُسْنَدِهِ. ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ - هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ - ثَنَا عَامِرٌ - هُوَ الشَّعْبِيُّ - حَ، وَثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ - يَعْنِي الطَّنَافِسِيَّ - ثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي الْمَذْكُورَ - عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِطَلْحَةَ. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ، قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِطَلْحَةَ فَرَآهُ مُهْتَمَّا قَالَ: لَعَلَّهُ شَاكٍ إِمَارَةَ ابْنِ عَمِّكَ. وَسَاقَهُ، فَقَوْلُهُ: قَالَ: مَرَّ الثَّانِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 هُوَ لَفْظُ السَّنَدِ الْأَوَّلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِأَنَّ لَفْظَ السَّنَدِ الثَّانِي بِمَعْنَاهُ. وَكَذَا الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ حَيْثُ لَمْ يَسُقْ لِلْمَتْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِـ " نَحْوٍ " طَرِيقًا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِي خَلْقِ آدَمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: نَحْوَهُ. وَقَالَ عَقِبَهُ مَا نَصُّهُ: يَعْنِي: (لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يُخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا) . وَكَأَنَّهُ لِكَوْنِ الرِّوَايَةِ الْمُحَالِ عَلَيْهَا لَمْ يَسْمَعْهَا، أَوْ سَمِعَهَا بِسَنَدٍ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِيرَادُهُ فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: يَعْنِي: ( «إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا» ) . بَلْ هَذَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّهُ رَوَى مَا أَوْرَدَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى. [حُكْمُ سِيَاقِ تَمَامٍ لِلْحَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاقْتِصَارُ] إِذَا عُلِمَ هَذَا فَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ، (وَ) أَمَّا (قَوْلُهُ) أَيِ الرَّاوِي (إِذْ بَعْضُ مَتْنٍ لَمْ يَسُقْ) بَلْ حَذَفَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى طَرَفٍ مِنْهُ مَا نَصُّهُ. (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ) أَوْ: وَذَكَرَهُ، أَوْ نَحْوَهُمَا، كَقَوْلِهِ: الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ أَوْ بِطُولِهِ، أَوْ: إِلَى آخِرِهِ. كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ (فَالْمَنْعُ) مِنْ سِيَاقِ تَمَامِ الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (أَحَقْ) مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَقْتَصِرُ حِينَئِذٍ عَلَى الْقَدْرِ الْمُثْبَتِ مِنْهُ فَقَطْ إِلَّا مَعَ الْبَيَانِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ فِيهَا بِالْمَنْعِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيُّ وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ. (وَقِيلَ إِنْ يَعْرِفْ) الْمُحَدِّثُ وَالطَّالِبُ (كِلَاهُمَا) مَعَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ (الْخَبَرْ) بِتَمَامِهِ (يُرْجَى) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ (الْجَوَازُ) قَالَ: (وَالْبَيَانُ) مَعَ ذَلِكَ لِلْوَاقِعِ بِأَنْ يَقْتَصَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَدِّثُ مِنَ الْحَدِيثِ ثُمَّ يَقُولَ: وَتَمَامُهُ كَذَا وَكَذَا. وَيَسُوقَهُ هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 (الْمُعْتَبَرْ) أَيِ: الْأَوْلَى، وَيَتَأَكَّدُ فِيمَا إِذَا كَانَ سَمَّعَ الطَّالِبُ الْمَتْنَ عَلَى الْمُحَدِّثِ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فَيُقَالَ: إِنْ كَانَ سَمَّعَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الشَّيْخِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ قَدْ سَلَفَ بَيَانُهُ وَتَحَقَّقَ سَمَاعُهُ، وَإِلَّا فَلَا. (وَقَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (إِنْ يَجُزْ) فِي الصُّورَةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ (فَـ) رِوَايَتُهُ (بِالْإِجَازَهْ لِمَا طَوَى) مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ التَّحْقِيقُ. قَالَ: لَكِنَّهَا إِجَازَةٌ أَكِيدَةٌ قَوِيَّةٌ. يَعْنِي لِأَنَّهَا إِجَازَةُ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، وَفِي الْمَسْمُوعِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُجَازِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، فَأُدْرِجَ فِيهِ. (وَاغْتَفَرُوا) أَيْ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ (إِفْرَازَهْ) عَنِ الْمَسْمُوعِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ لَهَا. قُلْتُ: أَوْ لَعَلَّ فَاعِلَهُ مِمَّنْ يَذْهَبُ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ الْمُجَازِ بِـ " أَخْبَرَنَا " وَ " ثَنَا " كَمَا سَلَفَ. [إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ] ( 676 - ) وَإِنْ رَسُولٌ بِنَبِيٍّ أُبْدِلَا ... فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلَا (677) وَقَدْ رَجَا جَوَازَهُ ابْنُ حَنْبَلِ ... وَالنَّوَوِي صَوَّبَهُ وَهْوَ جَلِي. الْفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ: (إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ) . (وَإِنْ رَسُولٌ) وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ بِأَنْ قِيلَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِنَبِيٍّ) أَيْ: بِلَفْظِ النَّبِيِّ (أُبْدِلَا) وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَوِ الْأَدَاءِ أَوِ الْكِتَابَةِ، (فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ) مِنْهُ، وَالتَّقَيُّدُ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ (كَعَكْسٍ فُعِلَا) بِأَنْ يُبْدَلَ مَا الرِّوَايَةُ فِيهِ بِلَفْظِ النَّبِيِّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ جَازَتِ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْمَعْنَى هُنَا مُخْتَلِفٌ. يَعْنِي بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ تَسَاوِي مَفْهُومَيْهِمَا. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 حَنْبَلٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ " رَسُولَ اللَّهِ " ضَرَبَ مِنْ كِتَابِهِ " نَبِيَّ اللَّهِ "، وَكَتَبَ ذَلِكَ بَدَلَهُ، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ، بَلْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي اتِّبَاعِ الْمُحَدِّثِ فِي لَفْظِهِ. (وَقَدْ رَجَا جَوَازَهُ ابْنُ حَنْبَلِ) نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ - إِذْ سَأَلَهُ ابْنُهُ صَالِحٌ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ " رَسُولُ اللَّهِ " فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانُ بَدَلَهُ " النَّبِيَّ " -: أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَكَذَا جَوَّزَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، بَلْ قَالَ لِعَفَّانَ وَبَهْزٍ لَمَّا جَعَلَا يُغَيِّرَانِ " النَّبِيَّ " - يَعْنِي الْوَاقِعَ فِي الْكِتَابِ - بِـ " رَسُولِ اللَّهِ " - يَعْنِي الْوَاقِعَ مِنَ الْمُحَدِّثِ -: أَمَّا أَنْتُمَا فَلَا تَفْقَهَانِ أَبَدًا. وَالْإِمَامُ (النَّوَوِي) بِالسُّكُونِ، أَيْضًا (صَوَّبَهُ) أَيِ الْجَوَازَ (وَهْوَ جَلِي) وَاضِحٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ. وَقَوْلُ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ. لَا يَمْنَعُهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ إِلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَتَيْنِ، وَلَيْسَ الْبَابُ بَابَ تَعَبُّدٍ بِاللَّفْظِ لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَعَنِ الْبَدْرِ بْنِ جَمَاعَةَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِالْجَوَازِ فِي إِبْدَالِ النَّبِيِّ بِالرَّسُولِ خَاصَّةً لَمَا بَعُدَ ; لَأَنَّ فِي الرَّسُولِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، إِذْ كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ مِنَ النَّبَأِ، وَهُوَ الْخَبَرُ، فَالنَّبِيُّ فِي الْعُرْفِ هُوَ الْمُنَبَّأُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَقْتَضِي تَكْلِيفًا، فَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ رَسُولٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّبِيُّ وَالرَّسُولُ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ عَامٍّ وَهُوَ النَّبَأُ، وَافْتَرَقَا فِي الرِّسَالَةِ، فَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ رَسُولٌ. تَضَمَّنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ نَبِيٌّ. لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ. وَلَكِنْ قَدْ نَازَعَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ. حَيْثُ قَالَ: هُوَ كَلَامٌ يُطْلِقُهُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُكْرَمِينَ بِالرِّسَالَةِ رُسُلٌ لَا أَنْبِيَاءُ. قُلْتُ: وَلِذَا قَيَّدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ بِالرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي تَعَلُّمِ مَا يُقَالُ عِنْدَ النَّوْمِ، إِذْ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ إِبْدَالَهُ لَفْظَ " النَّبِيِّ " بِـ " الرَّسُولِ "، فَقَالَ: (لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَغْيِيرِ " النَّبِيِّ " خَاصَّةً، بَلِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمُجَرَّدِ الْمَنْعِ مَمْنُوعٌ بِأَنَّ أَلْفَاظَ الْأَذْكَارِ تَوْقِيفِيَّةٌ، فَلَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، بَلْ تَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، إِذْ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ وَسِرٌّ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَهُوَ إِذَنْ أَكْمَلُ فَائِدَةً، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِقَوْلِهِ: (وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) . وَأَيْضًا فَالْبَلَاغَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِذَلِكَ لِعَدَمِ تَكْرِيرِ اللَّفْظِ لِوَصْفٍ وَاحِدٍ فِيهِ. زَادَ بَعْضُهُمْ: أَوْ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ (بِرَسُولِكَ) يُدْخِلُ جِبْرِيلَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ. [السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ عَنْ رَجُلَيْنِ] (678) ثُمَّ عَلَى السَّامِعِ بِالْمُذَاكَرَهْ ... بَيَانُهُ كَنَوْعِ وَهْنٍ خَامَرَهْ (679) وَالْمَتْنُ عَنْ شَخْصَيْنِ وَاحِدٌ جُرِحْ ... لَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ لَهُ لَكِنْ يَصِحْ (680) وَمُسْلِمٌ عَنْهُ كَنَى فَلَمْ يُوَفْ ... وَالْحَذْفُ حَيْثُ وُثِّقَا فَهْوَ أَخَفْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 ( 681 - ) وَإِنْ يَكُنْ عَنْ كُلِّ رَاوٍ قِطْعَهْ أَجِزْ بِلَا مَيْزٍ بِخَلْطٍ جَمْعَهْ ... (682) مَعَ الْبَيَانِ كَحَدِيثِ الْإِفْكِ وَجَرْحُ بَعْضٍ مُقْتَضٍ لِلتَّرْكِ ... (683) وَحَذْفَ وَاحِدٍ مِنَ الْإِسْنَادِ فِي الصُّورَتَيْنِ امْنَعْ لِلِازْدِيَادِ [بَيَانُ بَعْضِ الْوَهْنِ الْوَاقِعِ فِي السَّمَاعِ] : الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: (السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ) بِإِسْنَادٍ قُرِنَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ (عَنْ رَجُلَيْنِ) فَأَكْثَرَ، (ثُمَّ) بَعْدَ اسْتِحْضَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحَرِّي فِي الْأَدَاءِ (عَلَى السَّامِعِ) مِنْ حِفْظِ الْمُحَدِّثِ (بِالْمُذَاكَرَهْ) أَيْ: فِي الْمُذَاكَرَةِ، (بَيَانُهُ) عَلَى الْوَجْهِ الْوَاقِعِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَنَا فُلَانٌ مُذَاكَرَةً. وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ. وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ الْوُجُوبَ، فَقَدْ فَعَلَهُ بِدُونِ بَيَانٍ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ، بَلْ يُقَالُ مِمَّا الظَّاهِرُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ آخِرَ رَابِعِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ: إِنَّ مَا يُورِدُهُ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) عَنْ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ: قَالَ لِي. أَوْ: قَالَ لَنَا. أَوْ: زَادَنَا. أَوْ: زَادَنِي. أَوْ: ذَكَرَ لَنَا. أَوْ: ذَكَرَ لِي. وَنَحْوِهَا مِمَّا حَمَلَهُ عَنْهُمْ فِي الْمُذَاكَرَةِ. (كَنَوْعِ وَهْنٍ خَامَرَهُ) أَيْ خَالَطَهُ، بِأَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، أَوْ كَانَ هُوَ أَوْ شَيْخُهُ يَتَحَدَّثُ أَوْ يَنْعُسُ أَوْ يَنْسَخُ فِي وَقْتِ الْإِسْمَاعِ، أَوْ كَانَ سَمَاعُهُ أَوْ سَمَاعُ شَيْخِهِ بِقِرَاءَةِ لَحَّانٍ أَوْ مُصَحِّفٍ، أَوْ كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ حَيْثُ لَمْ يَكِنِ الْمَرْءُ ذَاكِرًا لِسَمَاعِ نَفْسِهِ بِخَطِّ مَنْ فِيهِ نَظَرٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو دَاوُدَ فِي (سُنَنِهِ) عَنْ شَيْخِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: لَمْ أَفْهَمْ إِسْنَادَهُ مِنَ ابْنِ الْعَلَاءِ كَمَا أُحِبُّ. وَكَذَا أَوْرَدَ فِيهَا أَيْضًا عَنْ بُنْدَارٍ حَدِيثًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: خَفِيَ عَلَيَّ مِنْهُ بَعْضُهُ. لِمُشَارَكَةِ السَّمَاعِ فِي الْمُذَاكَرَةِ غَالِبًا لِهَذِهِ الصُّوَرِ فِي الْوَهْنِ، إِذِ الْحِفْظُ خَوَّانٌ، وَرُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّسَاهُلُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 بَلْ أَدْرَجَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فِيمَا فِيهِ بَعْضُ الْوَهْنِ. وَلِذَا مَنَعَ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمُ مِنَ التَّحَمُّلِ عَنْهُمْ فِيهَا، وَامْتَنَعَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَا يَحْفَظُونَهُ إِلَّا مِنْ كُتُبِهِمْ. وَفِي إِغْفَالِ الْبَيَانِ إِيهَامٌ وَإِلْبَاسٌ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْلِيسِ، وَكَمَا يُسْتَحَبُّ الْبَيَانُ فِيمَا تَقَدَّمَ، كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ بَيَانُ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَزِيدِ ضَبْطٍ وَإِتْقَانٍ، كَتَكَرُّرِ سَمَاعِهِ لِلْمَرْوِيِّ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَيَقُولُونَ: ثَنَا فُلَانٌ غَيْرَ مَرَّةٍ. [لَا يُحْسِنُ حَذْفَ الْمَجْرُوحِ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْهُ وَعَنْ ثِقَةٍ] : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (وَالْمَتْنُ عَنْ شَخْصَيْنِ) مَقْرُونَيْنِ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ أَوْ مِمَّنْ فَوْقَهُمْ (وَاحِدٌ) مِنْهُمَا (جُرِحْ) ، وَالْآخَرُ وُثِّقَ، كَحَدِيثٍ لِأَنَسٍ يَرْوِيهِ عَنْهُ مَثَلًا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَأَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ (لَا يَحْسُنُ) لِلرَّاوِي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ (الْحَذْفُ لَهُ) أَيْ: لِلْمَجْرُوحِ وَهُوَ أَبَانٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ثَابِتٍ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ أَبَانٍ خَاصَّةً، وَحَمَلَ الْمُحَدِّثُ عَنْهُمَا أَوْ مَنْ دُونَهُ لَفْظَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَهُ الْخَطِيبُ. (لَكِنْ يَصِحْ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ -: اتِّفَاقُ الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ الِاحْتِمَالِ نَادِرٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ مِنَ الْإِدْرَاجِ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُهُ. نَعَمْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مِثْلِهِ فَقَالَ فِيهِ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ حَرْبِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَتُجَوِّزُ أَنْ أُسَمِّيَ ثَابِتًا وَأَتْرُكَ أَبَانًا؟ قَالَ: لَا، لَعَلَّ فِي حَدِيثِ أَبَانٍ شَيْئًا لَيْسَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ. وَقَالَ: إِنْ كَانَ هَكَذَا فَأُحِبُّ أَنْ أُسَمِّيَهُمَا. وَهَذَا مُحْتَمِلٌ. وَيَتَأَيَّدُ الِاسْتِحْبَابُ بِسُلُوكِ مُسْلِمٍ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ لَهُ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِي النِّكَاحِ مِنْ (صَحِيحِهِ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَدِيثَ: ( «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» ) . فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَيْوَةَ، وَذَكَرَ آخَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ شُرَحْبِيلَ بِهِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِيسَى الْبِسْطَامِيِّ، عَنِ الْمُقْرِئِ، عَنْ حَيْوَةَ وَذَكَرَ آخَرَ قَالَا: ثَنَا شُرَحْبِيلُ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ، عَنْ حَيْوَةَ وَابْنِ لَهِيعَةَ قَالَا: ثَنَا شُرَحْبِيلُ. إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ تَشْدِيدِ مُسْلِمٍ حَيْثُ حَذَفَ الْمَجْرُوحَ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الثِّقَةِ إِنْ لَمْ يَتَّحِدْ لَفْظُهُمَا. وَنَحْوُهُ مَا وَقَعَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ (صَحِيحِهِ) حَيْثُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَدِيثَ: ( «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ» ) . وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْمَشْهُورَةِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ تَصْنِيفِ ابْنِ وَهْبٍ فِيمَا أَفَادَهُ ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّ اللَّفْظَ لِابْنِ لَهِيعَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ. وَسَاقَ الْإِسْنَادَ وَالْمَتْنَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ بِذَلِكَ. لَكِنْ أَفَادَ شَيْخُنَا فِي هَذَا الْمَتْنِ بِخُصُوصِهِ أَنَّ حَذْفَ ابْنِ لَهِيعَةَ مِنَ ابْنِ وَهْبٍ لَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ شَيْخَيْهِ تَارَةً، وَيُفْرِدُ ابْنَ شُرَيْحٍ أُخْرَى، بَلْ لِابْنِ وَهْبٍ فِيهِ شَيْخَانِ آخَرَانِ بِسَنَدٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ فِي (بَيَانِ الْعِلْمِ) لَهُ مِنْ طَرِيقِ سَحْنُونٍ: ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: ثَنَا مَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ. (وَمُسْلِمٌ) أَيْضًا (عَنْهُ) أَيْ عَنِ الْمَجْرُوحِ رُبَّمَا (كَنَى) حَيْثُ يُصَرِّحُ بِالثِّقَةِ ثُمَّ يَقُولُ: وَآخَرُ. وَهُوَ مِنْهُ قَلِيلٌ بِخِلَافِهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ وَآخِرِ الطَّلَاقِ وَالْفِتَنِ وَعِدَّةِ أَمَاكِنَ، مِنْ طَرِيقِ حَيْوَةَ وَغَيْرِهِ. وَفِي (الِاعْتِصَامِ) مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ وَغَيْرِهِ. وَالْغَيْرُ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا هُوَ ابْنُ لَهِيعَةَ بِلَا شَكٍّ، وَكَذَا أَوْرَدَ فِي الطِّبِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا هُوَ، لَكِنْ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. وَفِي الْعِتْقِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ فُلَانٍ كِلَاهُمَا، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. وَالْمُبْهَمُ هُنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادَةَ بْنِ سَمْعَانَ. وَكَذَا أَكْثَرَ مِنْهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ (فَلَمْ يُوَفْ) مُسْلِمٌ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْمَجْرُوحِ إِنِ اخْتَصَّ عَنِ الثِّقَةِ بِزِيَادَةٍ، لَكِنَّ الظَّنَّ الْقَوِيَّ بِالشَّيْخَيْنِ أَنَّهُمَا عَلِمَا اتِّفَاقَهُمَا وَلَوْ بِالْمَعْنَى. وَلِهَذَا الصَّنِيعِ حِينَئِذٍ فَائِدَتَانِ، وَهُمَا الْإِشْعَارُ بِضَعْفِ الْمُبْهَمِ وَكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَكَثْرَةُ الطُّرُقِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَإِنْ أَشَارَ الْخَطِيبُ إِلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ مَا اعْتَلَلْنَا بِهِ فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، إِذْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 إِثْبَاتُ ذِكْرِهِ وَإِسْقَاطُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَوَّلَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ هُوَ بِهِ ; فَلِمَاذَا ذَكَرَهُ بِالْكِنَايَةِ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْأَمَانَةِ عِنْدَهُ. قَالَ: وَلَا أَحْسَبُ اسْتِجَازَةَ إِسْقَاطِهِ ذِكْرَهُ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الثِّقَةِ إِلَّا لِأَنَّ الظَّاهِرَ اتِّفَاقُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ. يَعْنِي مِمَّنْ يَحْرِصُ عَلَى الْأَلْفَاظِ، كَمُسْلِمٍ الَّذِي الِاحْتِجَاجُ بِصَنِيعِهِ فِيهِ أَعْلَى أَوْ فِي مَعْنَاهُ، إِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِاللَّفْظِ، وَاحْتَاطَ فِي ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ مَعَ الثِّقَةِ تَوَرُّعًا، وَإِنْ كَانَ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي (مَدْخَلِهِ) إِلَى أَنَّهُ فِي (مُسْتَخْرَجِهِ) تَارَةً يَحْذِفُ الضَّعِيفَ، وَتَارَةً يُنَبِّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَإِذَا كَتَبْتُ الْحَدِيثَ - فِيهِ أَيْ فِي (الْمُسْتَخْرَجِ) - عَنْ رَجُلٍ يَرْوِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَأَحَدُهُمْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ ; فَإِمَّا أَنْ أَتْرُكَ ذِكْرَهُ وَأَكْتَفِيَ بِالثِّقَةِ الَّذِي الضَّعِيفُ مَقْرُونٌ إِلَيْهِ، أَوْ أُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكِتَابِ. انْتَهَى. وَإِذَا تَقَرَّرَتْ صِحَّةُ حَذْفِ الْمَجْرُوحِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ ; لِمَا قَدْ يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ تَضْعِيفِ الْمَتْنِ وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِلْقَاصِرِ أَوِ الْمُسْتَرْوِحِ، وَفِيهِ مِنَ الضِّرَرِ مَا لَا يَخْفَى. [حُكْمُ إِسْقَاطِ أَحَدُ الثِّقَتَيْنِ] : (وَ) أَمَّا (الْحَذْفُ) لِأَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ (حَيْثُ وُثِّقَا) كَمَا وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ كِلَاهُمَا، عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ حَدِيثًا. وَفَسَّرَ الْغَيْرَ بِأَنَّهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا، (فَهْوَ أَخَفْ) مِمَّا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ تَطَرَّقَ مِثْلُ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا إِلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْهُ عَنِ الْمَحْذُوفِ خَاصَّةً فَمَحْذُورُ الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَقَلُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِ الرَّاوِي ثِقَةً كَمَا إِذَا قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 أَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَا ثِقَتَيْنِ فَالْحُجَّةُ بِهِ قَائِمَةٌ ; لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ ثِقَةٍ، وَهُوَ نَحْوُ الصُّورَةِ الْأُولَى، لَا يَكُونُ الْخَبَرُ حُجَّةً، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْمُحْتِرَيْ خِلَافَهُ كَمَا قُرِّرَ. [كَيْفَ يُرْوَى الْحَدِيثُ إِذَا كَانَ مُنْتَهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مُلَفَّقًا] : ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يَكُونُ جَمِيعُ الْمَتْنِ عَنْهُمَا، (وَإِنْ يَكُنْ) مَجْمُوعُهُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الرُّوَاةِ مُلَفَّقًا بِأَنْ كَانَ (عَنْ كُلِّ رَاوٍ) مِنْهُمْ (قِطْعَهْ) مِنْهُ، فَـ (أَجِزْ بِلَا مَيْزٍ) أَيْ: تَمْيِيزٍ لِمَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهُ أَيْضًا (بِخَلْطِ جَمْعَهْ) لَكِنْ (مَعَ الْبَيَانِ) لِذَلِكَ إِجْمَالًا، وَأَنَّ عَنْ كُلِّ رَاوٍ بَعْضَهُ. (كَحَدِيثِ الْإِفْكِ) فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ أَوَعَى مِنْ بَعْضٍ وِأَثْبَتُهُ اقْتِصَاصًا. وَفِي لَفْظٍ: وَبَعْضُ الْقَوْمِ أَحْسَنُ سِيَاقًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِ يُصَدِّقُ بَعْضًا، زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ. وَسَاقَهُ بِطُولِهِ، وَلَفْظُ ابْنِ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ الَّذِي حَدَّثُونِي. وَلَمَّا ضَمَّ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَرْبَعَةِ رِوَايَتَهُ هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ كِلَاهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: وَكُلُّ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدِّثْ صَاحِبُهُ، وَكُلٌّ كَانَ ثِقَةً، فَكُلٌّ حَدَّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ. وَذَكَرَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وَنَحْوُ صَنِيعِ الزُّهْرِيِّ مَا فِي الْوَكَالَةِ مِنَ (الْبُخَارِيِّ) ثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ، يَعْنِي كَأَبِي الزُّبَيْرِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ جَابِرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي (الْمُسْتَخْرَجِ) لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَفَعَلَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عِيَاضٌ، فَقَالَ فِي (الشِّفَاءِ) : وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ، يَعْنِي ابْنَ عَلِيٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ. وَكَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِلُهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ. وَجَازَفَ عَصْرِيٌّ مِمَّنْ كَثُرَتْ مَنَاكِيرُهُ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي أَمْرٍ بَشِيعٍ شَنِيعٍ يَحْرُمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَلَكَهُ إِجْمَاعًا، فَقَالَ: وَفِي (إِنْجِيلِ مَتَّى وَلُوقَا وَمُرْقُصَ) يَزِيدُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ جَمَعْتُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِمْ. وَحَاصِلُ مَا فَعَلَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ أَنَّ جَمِيعِ الْحَدِيثِ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ لَا أَنَّ مَجْمُوعَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْ مُجَرَّدِ السِّيَاقِ الْقَدْرُ الَّذِي رَوَاهُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيْنَ. نَعَمْ رُبَّمَا يُعْرَفُ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ أَوْ كُلِّهِمْ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ ذَاكَ الرَّاوِي، بَلْ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي التَّفْسِيرِ مِنَ (الصَّحِيحِ) أَيْضًا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ. فَفَهِمَ الْبُلْقِينِيُّ وَبَعْضُ أَتْبَاعِهِ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ بِجَمِيعِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِالْبَعْضِ حَتَّى تَلَفَّقَ مَنْ عَدَاهُ، وَصَارَتْ صُورَةً أُخْرَى غَيْرَ الْأُولَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 اللَّفْظَةَ مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، بَلْ تَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ عُرْوَةُ أَوَّلَ شَيْءٍ مِنْهُ، خَاصَّةً مِمَّا زَادَهَا اللَّيْثُ عَنْ سَائِرِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ صَحَّ كَوْنُ الزُّهْرِيِّ اسْتَعْمَلَ التَّلْفِيقَ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ قَالَ عِيَاضٌ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ كَمَا أَسْلَفْتُهُ: إِنَّهُمُ انْتَقَدُوا عَلَيْهِ صَنِيعَهُ لَهُ، وَقَالُوا: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْرِدَ حَدِيثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ. انْتَهَى. وَالْأَمْرُ فِيهِ سَهْلٌ، فَالْكُلُّ ثِقَاتٌ، وَلَا يَخْرُجُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ صَحِيحًا. (وَجَرْحُ بَعْضٍ) مِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ، وَضَعْفُهُ أَنْ لَوِ اتَّفَقَ مَعَ عَدَمِ التَّفْصِيلِ (مُقْتَضٍ لِلتَّرْكِ) لِجَمِيعِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ مَا مِنْ قِطْعَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ عَنْ ذَاكَ الرَّاوِي الْمَجْرُوحِ. (وَ) لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وُجُوبًا (حَذْفَ) بِالنَّصْبِ، مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، (وَاحِدٍ مِنْ) الرُّوَاةِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي (الْإِسْنَادِ) أَوْ بَعْضِ الْحَدِيثِ (فِي) هَاتَيْنِ (الصُّورَتَيْنِ) الثِّقَاتِ كُلِّهِمْ، وَالضَّعِيفِ بَعْضِهِمْ، (امْنَعْ لِلِازْدِيَادِ) أَيْ: لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ عَلَى بَقِيَّةِ الرُّوَاةِ لِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِ مَا اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَنِ الْبَاقِينَ. فَائِدَةٌ: لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِي " بَابِ كَيْفَ كَانَ يَعِيشُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ. بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ جَمِيعَهُ مِنْهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوْ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ غَيْرِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَوْ سَمِعَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ شَيْخٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ مِنَ التَّعَالِيقِ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 الْمُخْتَصِّ بِهَا. [آدَابُ الْمُحَدِّثِ] [وُجُوبُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا عِنْدَ التَّحْدِيثِ] آدَابُ الْمُحَدِّثِ. (684) وَصَحِّحِ النِّيَّةَ فِي التَّحْدِيثِ ... وَاحْرِصْ عَلَى نَشْرِكَ لِلْحَدِيثِ (685) ثُمَّ تَوَضَّأْ وَاغْتَسِلْ وَاسْتَعْمِلِ ... طِيبًا وَتَسْرِيحًا وَزَبْرَ الْمُعْتَلِي (686) صَوْتًا عَلَى الْحَدِيثِ وَاجْلِسْ بِأَدَبْ ... وَهَيْبَةٍ بِصَدْرِ مَجْلِسٍ وَهَبْ (687) لَمْ يُخْلِصِ النِّيَّةَ طَالِبٌ فَعُمْ ... وَلَا تُحَدِّثْ عَجِلًا أَوْ أَنْ تَقُمْ (688) أَوْ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ حَيْثُ احْتِيجَ لَكْ ... فِي شَيْءٍ ارْوِهْ وَابْنُ خَلَّادٍ سَلَكْ (689) بِأَنَّهُ يَحْسُنُ لِلْخَمْسِينَا ... عَامًا وَلَا بَأْسَ لِأَرْبَعِينَا (690) وَرُدَّ وَالشَّيْخُ بِغَيْرِ الْبَارِعِ ... خَصَّصَ لَا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِي (691) وَيَنْبَغِي الْإِمْسَاكُ إِذْ يَخْشَى الْهَرَمْ ... وَبِالثَّمَانِينَ ابْنُ خَلَّادٍ جَزَمْ (692) فَإِنْ يَكُنْ ثَابِتَ عَقْلٍ لَمْ يُبَلْ ... كَأَنَسٍ وَمَالِكٍ وَمَنْ فَعَلْ (693) وَالْبَغَوِيِّ وَالْهُجَيْمِي وَفِئَهْ ... كَالطَّبَرِيِّ حَدَّثُوا بَعْدَ الْمِائَهْ (694) وَيَنْبَغِي إِمْسَاكُ الَاعْمَى إِنْ يَخَفْ ... وَأَنَّ مَنْ سِيلَ بِجُزْءٍ قَدْ عَرَفْ (695) رُجْحَانَ رَاوٍ فِيهِ دَلَّ فَهْوَ حَقْ ... وَتَرْكُ تَحْدِيثٍ بِحَضْرَةِ الْأَحَقْ (696) وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ الْأَخْذَ عَنْهُ ... بِبَلَدٍ وَفِيهِ أَوْلَى مِنْهُ (697) وَلَا تَقُمْ لِأَحَدٍ وَأَقْبِلِ ... عَلَيْهِمِ وَلِلْحَدِيثِ رَتِّلِ (698) وَاحْمَدْ وَصَلِّ مِعْ سَلَامٍ ... وَدُعَا فِي بَدْءِ مَجْلِسٍ وَخَتْمِهِ مَعَا (آدَابُ) الشَّيْخِ (الْمُحَدِّثِ) عِنْدَ إِرَادَةِ الرِّوَايَةِ، وَمَعَ الطَّالِبِ وَفِي الرِّوَايَةِ وَالْإِمْلَاءِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وَمَا يَفْعَلُهُ الْمُسْتَمْلِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ. وَقُدِّمَتْ عَلَى آدَابِ الطَّالِبِ الَّتِي كَانَ الْأَلْيَقُ تَقْدِيمَهَا ; إِمَّا لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ، أَوْ لِمُنَاسَبَتِهَا لِأَكْثَرِ الْفُرُوعِ الَّتِي فِي صِفَةِ الرِّوَايَةِ وَالْأَدَاءِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطِيبُ كِتَابًا حَافِلًا لِآدَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا سَمَّاهُ (الْجَامِعَ لِآدَابِ الرَّاوِي وَأَخْلَاقِ السَّامِعِ) قَرَأْتُهُ، وَكَذَا لِأَبِي سَعْدِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ (أَدَبُ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِمْلَاءِ) . [وُجُوبُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِهَا عِنْدَ التَّحْدِيثِ] : (وَصَحِّحِ) أَيُّهَا الْمُرِيدُ الرِّوَايَةَ (النِّيَّةَ فِي التَّحْدِيثِ) وَقَدِّمْهَا عَلَيْهِ بِحَيْثُ تَكُونُ فِي ذَلِكَ مُخْلِصًا لِلَّهِ لَا يَشُوبُكَ فِيهِ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ، بَلْ طَاهِرَ الْقَلْبِ مِنْ أَعْرَاضِهَا وَأَدْنَاسِهَا، بَعِيدًا عَنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَرُعُونَاتِهَا وَدَسَائِسِهَا، كَالْعُجْبِ وَالطَّيْشِ وَالْحُمْقِ وَالدَّعْوَى بِحَقٍّ، فَضْلًا عَنْ بَاطِلٍ، لَا تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا تُرِيدُ بِهِ مَعْنًى سِوَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَمَا صَنَعْتَ شَيْئًا، وَلَا تَأْمَنُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ قَوْلِكَ: (تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ) -: (كَذَبْتَ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ: قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ) . ثُمَّ يُؤْمَرُ بِمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ فَيُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي النَّارِ، إِذِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ. وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ «سَمَّعَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ) . وَ ( «رُبَّ قَائِمٍ، أَوْ صَائِمٍ، حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ، أَوْ صِيَامِهِ، السَّهَرُ، أَوِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» ) نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وَمِنْ هُنَا وَقَفَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ عَنِ التَّحْدِيثِ إِلَّا بَعْدَ نِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمَّا سَأَلَهُ الثَّوْرِيُّ التَّحْدِيثَ: حَتَّى تَجِيءَ النِّيَّةُ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ لِمَنْ سَأَلَهُ أَيْضًا: لَيْسَتْ لِي نِيَّةٌ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُؤْجَرُ، فَقَالَ: يُمَنُّونَنِي الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَلَيْتَنِي ... نَجَوْتُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا. وَقَالَ كُلْثُومُ بْنُ هَانِئٍ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا سَهْلٍ حَدِّثْنَا -: إِنَّ قَلْبِي لَا خَيْرَ فِيهِ، مَا أَكْثَرَ مَا سَمِعَ وَنَسِيَ. هَذَا وَهُوَ لَوْ شَاءَ فَعَلَ، كَمَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ السَّيْبَانِيُّ، وَلَكِنَّهُ أَشْفَقَ مِنَ الزَّهْوِ وَالْعُجْبِ حِينَ نَصَّبُوهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِنَّ لِذِكْرِ الْإِسْنَادِ فِي الْقَلْبِ خُيَلَاءَ. وَتَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ، إِلَّا أَنَّ عَادَةَ الْعُلَمَاءِ تَقْيِيدُ مَسْأَلَتِنَا بِهِ، لِكَوْنِهِ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ عِلْمٌ شَرِيفٌ يُنَاسِبُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَ الشِّيَمِ، وَيُنَافِرُ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ وَمَشَائِنَ الشِّيَمِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَالنِّيَّةُ تَعِزُّ فِيهِ لِشَرَفِهِ. وَيَسْتَفِزَّ صَاحِبَهُ اللَّعِينُ بِهَدَفِهِ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَنْ رُزِقَهُ بِشَرْطِهِ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا، وَنَالَ أَجْرًا كَبِيرًا، وَهُوَ مِنْ عُلُومِ الْآخِرَةِ لَا مِنْ عُلُومِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِذَاتِهِ لَا صِنَاعَةٌ. وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ: لَيْسَ طَلَبُ الْحَدِيثِ مِنْ عُدَّةِ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ عِلَّةٌ يَتَشَاغَلُ بِهِ الرِّجَالُ. إِذْ طَلَبُ الْحَدِيثِ - كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: شَيْءٌ غَيْرُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَهُوَ اسْمٌ عُرْفِيٌّ لِأُمُورٍ زَائِدَةٍ عَلَى تَحْصِيلِ مَاهِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 الْحَدِيثِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَرَاقٍ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَكْثَرُهَا أُمُورٌ يَشْغَفُ بِهَا الْمُحَدِّثُ، مِنْ تَحْصِيلِ النُّسَخِ الْمَلِيحَةِ، وَتَطَلُّبِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي، وَتَكْثِيرِ الشُّيُوخِ، وَالْفَرَحِ بِالْأَلْقَابِ، وَتَمَنِّي الْعُمُرِ الطَّوِيلِ لِيَرْوِيَ، وَحُبِّ التَّفَرُّدِ، إِلَى أُمُورٍ عَدِيدَةٍ لَازِمَةٍ لِلْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ لَا لِلْأَعْمَالِ الرَّبَّانِيَّةِ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ طَلَبُكَ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ مَحْفُوفًا بِهَذِهِ الْآفَاتِ، فَمَتَى خَلَاصُكَ مِنْهَا إِلَى الْإِخْلَاصِ؟ وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْآثَارِ مَدْخُولًا، فَمَا ظَنُّكَ بِعُلُومِ الْأَوَائِلِ الَّتِي تَنْكُثُ الْأَيْمَانَ وَتُورِثُ الشُّكُوكَ؟ وَلَمْ تَكُنْ - وَاللَّهِ - فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بَلْ كَانَتْ عُلُومُهُمُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ. انْتَهَى. عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ: لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. فَيُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا خَلَصَ مِنْ هَذِهِ الشَّوَائِبِ كَمَا هُوَ صَرِيحُهُ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. [الْحَثُّ عَلَى نَشْرِ الْحَدِيثِ] : (وَاحْرِصْ) مَعَ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ (عَلَى نَشْرِكَ لِلْحَدِيثِ) ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرَ هَمِّكَ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ: ( «بَلِّغُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 عَنِّي وَلَوْ آيَةً» ) . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي تَبْلِيغِ الْعِلْمِ مِنَ الْأُجُورِ، لَا سِيَّمَا وَبِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ يَدْخُلُ الرَّاوِي فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: ( «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» ) . انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ كَمَا يُرْوَى فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ. ( «مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِلْمًا ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ كَمَثَلِ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا فَكَنَزَهُ وَلَمْ يُنْفِقْ مِنْهُ» ) . وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: ( «عِلْمٌ لَا يُقَالُ بِهِ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ» ) . وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الْعُلَمَاءَ يُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يَعْنِي عَنْ تَبْلِيغِهِمْ - كَمَا يُسْأَلُ الْأَنْبِيَاءُ. وَرُئِيَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قِيلَ: بِأَيِ شَيْءٍ؟ قَالَ: بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَشَرْتُهُ فِي النَّاسِ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلِذَا كَانَ عُرْوَةُ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ عَلَى حَدِيثِهِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ الصَّامِتُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْ أَصْحَابِهِمْ يَطُوفُ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَكَاتِبِ فَيُحَدِّثُهُمْ، بَلْ رَحَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى بِلَادٍ أُخْرَى لِذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 عَلِيٍّ حَنْبَلٌ الرُّصَافِيُّ، فَإِنَّهُ سَافَرَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الشَّامِ بِقَصْدِ خِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَةِ أَحَادِيثِهِ فِي بَلَدٍ لَا تُرْوَى فِيهِ، وَحَدَّثَ بِـ (مُسْنَدِ أَحْمَدَ) ، فَاجْتَمَعَ بِمَجْلِسِهِ لِهَذِهِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْخَلَائِقِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي مَجْلِسٍ قَبْلَهُ بِدِمَشْقَ، كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ. وَكَذَا كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ الصَّيْرَفِيُّ - وَهُوَ مِنَ الدِّينِ عَلَى نِهَايَةٍ - يَسْأَلُ مَنْ يَقْصِدُهُ عَنْ مَدِينَةٍ بَعْدَ مَدِينَةٍ: هَلْ بَقِيَ فِيهَا مَنْ يُحَدِّثُ؟ فَإِذَا عَلِمَ خُلُوَ بَلَدٍ عَنْ مُحَدِّثٍ خَرَجَ إِلَيْهَا فِي السِّرِّ لِرَغْبَتِهِ فِي بَذْلِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ. حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُقْصَدُ فِي هَذَا الْعِلْمِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّعَبُّدُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا عِنْدَ اللَّفْظِ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ. وَالثَّانِي: قَصْدُ الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ لِلْغَيْرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - وَقَدِ اسْتُكْثِرَ كَثْرَةُ الْكِتَابَةِ مِنْهُ -: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِيهَا نَجَاتِي لَمْ أَسْمَعْهَا إِلَى الْآنِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى هَذَيْنَ لَمَّا قَلَّ الِاحْتِيَاجُ إِلَى عِلْمِ الْحَدِيثِ، لِتَدْوِينِ الْأَحَادِيثِ فِي الْكُتُبِ وَانْقِطَاعِ الِاجْتِهَادِ غَالِبًا، وَإِلَّا فَالْفَائِدَةُ الْعُظْمَى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهَا. وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِهِ الْآنَ شَيْئًانِ: أَحَدُهُمَا: ضَبْطُ أَلْفَاظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْرَارِ سَمَاعِهَا، إِذْ لَوْ تُرِكَ السَّمَاعُ لَبَعُدَ الْعَهْدُ بِهَا، وَتَطَرَّقَ التَّحْرِيفُ لَهَا، كَمَا جَرَى فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ كِبَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 مُلُوكِهِمْ أَرَادَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ (صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ) فَلَمْ يَجِدْ فِي مَمْلَكَتِهِ مَنْ يُحْسِنُ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْمِصْرِ عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَصَارَ يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا لَا يُحْصَى. ثَانِيهِمَا: حِفْظُ السُّنَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُدْخِلِينَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَقَدِ اقْتَحَمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا، وَنَسَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْبُو السَّمْعُ عَنْهُ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَفِظَ الشَّرِيعَةَ بِنُقَّادِ الْحَدِيثِ لَاضْمَحَلَّ الدِّينُ وَتَهَدَّمَتْ أَرْكَانُهُ، وَلَوْلَا بَقَايَا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ لَوَقَعَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ لِكَلَامِهِ مَا اللَّهُ بِهِ عَالِمٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ، لِقَوْلِ الثَّوْرِيِّ: تَعَلَّمُوا هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِذَا عَلِمْتُمُوهُ فَتَحَفَّظُوهُ، فَإِذَا حَفِظْتُمُوهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، فَإِذَا عَمِلْتُمْ بِهِ فَانْشُرُوهُ. بَلْ يُرْوَى فِي الْمَعْنَى مِمَّا هُوَ مَرْفُوعٌ ( «مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْعِلْمَ فَيَعْمَلَ بِهِ ثُمَّ يُعَلَّمَهُ» ) . [التَّوَضِي وَالْغَسْلُ وَالْآدَابُ الْأُخْرَى عِنْدَ التَّحْدِيثِ] : (ثُمَّ) عِنْدَ إِرَادَتِكَ نَشْرَ الْحَدِيثِ بِالنِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (تَوَضَّأْ) وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، (وَاغْتَسِلْ) اغْتِسَالَكَ مِنَ الْجَنَابَةِ بِحَيْثُ تَكُونُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَتَسَوَّكْ، وَقُصَّ أَظْفَارِكَ، وَخُذْ شَارِبَكَ، (وَاسْتَعْمِلْ) مَعَ ذَلِكَ (طِيبًا) وَبَخُورًا فِي بَدَنِكَ وَثِيَابِكَ، فَقَدْ قَالَ أَنَسٌ: ( «كُنَّا نَعْرِفُ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيحِ الطِّيبِ» ) . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَجْمِرْ بِالْأَلُوَّةِ غَيْرَ الْمُطَرَّاةِ وَكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَهَا» ) . (وَ) كَذَا اسْتَعْمِلْ مَعَهُ (تَسْرِيحًا) لِلِحْيَتِكَ وَتَمْشِيطًا لِشَعْرِكَ إِنْ كَانَ، بِأَنْ تُرْسِلَهُ وَتَحُلَّهُ قَبْلَ الْمَشْطِ ; لِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فِي الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ. وَالْبِسْ أَحْسَنَ ثِيَابِكَ، وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ يُحِبَّانِ الْجَمَالَ. (وَ) كَذَا اسْتَعْمِلْ فِي حَالِ تَحْدِيثِكَ (زَبْرَ) أَيْ: نَهْرَ (الْمُعْتَلِي صَوْتًا) أَيْ: صَوْتَهُ (عَلَى) قِرَاءَةِ (الْحَدِيثِ) ، وَالْإِغْلَاظَ لَهُ، لِشُمُولِ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فَوْقَ صَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَالِكٌ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَاجْلِسْ) حِينَئِذٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُتَمَكِّنًا بِمَقْعَدَتِكَ مِنَ الْأَرْضِ لَا مُقْعِيًا وَنَحْوَهُ، (بِأَدَبْ) وَوَقَارٍ (وَهَيْبَةٍ بِصَدْرِ مَجْلِسٍ) يَكُونُ الْقَوْمُ فِيهِ، بَلْ وَعَلَى فِرَاشٍ مُرْتَفِعٍ يَخُصُّكَ أَوْ مِنْبَرٍ، لِمَا رُوِّينَا عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا أَتَوْا مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ خَرَجَتْ إِلَيْهِمُ الْجَارِيَةُ فَتَقُولُ لَهُمْ: يَقُولُ لَكُمُ الشَّيْخُ: تُرِيدُونَ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسَائِلَ؟ فَإِنْ قَالُوا: الْمَسَائِلَ. خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ قَالُوا: الْحَدِيثَ. دَخَلَ مُغْتَسَلَهُ فَاغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ ثِيَابًا جُدُدًا وَتَعَمَّمَ وَلَبِسَ سَاجَهُ، وَتُلْقَى لَهُ مِنَصَّةٌ فَيَخْرُجُ فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ الْخُشُوعُ، وَلَا يَزَالُ يُبَخَّرُ بِالْعُودِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْلِسُ عَلَى تِلْكَ الْمِنَصَّةِ إِلَّا إِذَا حَدَّثَ. قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: (أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أُحَدِّثُ بِهِ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ مُتَمَكِّنًا) . وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ يَخْرُجُ إِلَى مَجْلِسِ تَحْدِيثِهِ وَهُوَ طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ الثِّيَابِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 فَلَقَّبَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ لِذَلِكَ مُشْكُدَانَةَ، إِذِ الْمُشْكُ، بِضَمِ الْمِيمِ، وَبِالْمُعْجَمَةِ، بِالْفَارِسِيَّةِ الْمِسْكُ، بِالْكَسْرِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ وِعَاءُ الْمِسْكِ تَجَوُّزٌ، وَدَانَةُ الْحَبَّةُ وَمَعْنَاهُ حَبَّةُ مِسْكٍ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ. وَكَرِهَ قَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ التَّحْدِيثَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهَا يَتَيَمَّمُ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَحْكِيَّةَ عَنْ مَالِكٍ لَا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ فِيهَا إِلَّا لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي خُلُوصِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تَعْظِيمًا لِلْحَدِيثِ لَا لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ لِلشَّيْطَانِ دَسَائِسَ فِي مَثَلِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ، فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ نِيَّتَكَ فِيهَا كَنِيَّةٍ مَالِكٍ فَافْعَلْهَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى نِيَّتِكَ غَيْرُ اللَّهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي (الْعَذْبَةِ) : إِنْ فَعَلَهَا بِقَصْدِ السُّنَّةِ أُجِرَ، أَوْ لِلتَّمَشْيُخِ وَالشُّهْرَةِ حُرِمَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ، وَكَذَا مُعَامَلَةُ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ وَتَعْظِيمُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ لَازِمٌ، وَرُبَّمَا تَعْرِضُ لِلْمُحَدِّثِ ضَرُورَةٌ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهَا مِنَ الْجُلُوسِ، فَلَا حَرَجَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الْفُرَاوِيِّ فَمَرِضَ، فَنَهَاهُ الطَّبِيبُ عَنِ الْإِقْرَاءِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ مَرَضِهِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ مُلْقًى عَلَى فِرَاشِهِ إِلَى أَنْ عُوفِيَ. وَكَذَا قَرَأَ السِّلَفِيُّ وَهُوَ مُتَّكِئٌ لَدَمَامِلَ أَوْ نَحْوِهَا كَانَتْ فِي مَقْعَدَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ الْبَطِرِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وَغَضِبَ الشَّيْخُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعُذْرِ. [تَعْمِيمُ التَّحْدِيثِ لِكُلِ طَالِبِ حَدِيث] وَسَوِّ بَيْنَ مَنْ قَصَدَكَ لِلتَّحْدِيثِ، (وَهَبْ لَمْ يُخْلِصِ النِّيَّةَ) بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ (طَالِبٌ فَـ) لَا تَمْنَعْ مِنْ تَحْدِيثِهِ، بَلْ (عُمْ) جَمِيعَ مَنْ سَأَلَكَ أَوْ حَضَرَ مَجْلِسَكَ، اسْتِحْبَابًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) إِذِ التَّأَهُّلُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَدْ قَالَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ: كُنْتُ امْتَنَعْتُ أَنْ أُحَدِّثَ فَأَتَانِي آتٍ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تُحَدِّثُ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا يَطْلُبُونَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى. فَقَالَ: حَدِّثْ أَنْتَ، يُنْفَعْ مَنْ نُفِعَ، وَيُضَرَّ مَنْ ضُرَّ. وَفِي (زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ) مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ صِغَارًا تَنْتَفِعُوا بِهِ كِبَارًا، تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَصِيرُ لِذَاتِ اللَّهِ. وَعِنْدَ الْخَطِيبِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَعِيبُ الْعِلْمَ قَطُّ وَلَا مَنْ يَطْلُبُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّةٌ. فَيَقُولُ: طَلَبُهُمْ لِلْعِلْمِ نِيَّةٌ. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَمَعْمَرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: طَلَبْنَا الْحَدِيثَ وَمَا لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ، ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ النِّيَّةَ بَعْدُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الرَّجُلُ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ. وَجَاءَ قَوْمٌ إِلَى سِمَاكٍ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: مَا يَنْبَغِي لَكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 أَنْ تُحَدِّثَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا رَغْبَةَ لَهُمْ وَلَا نِيَّةَ. فَقَالَ لَهُمْ سِمَاكٌ: (قُولُوا خَيْرًا، فَقَدْ طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ اللَّهَ بِهِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ مِنْهُ حَاجَتِي دَلَّنِي عَلَى مَا يَنْفَعُنِي وَحَجَزَنِي عَمَّا يَضُرُّنِي) . وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ قَالَا: (طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ) . وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: طَلَبْنَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مَاتَ وَالِدِي وَخَلَّفَ لِي وَلِأَخِي شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَمْا فَنِيَ وَتَعَذَّرَ الْقُوتُ عَلَيْنَا صِرْنَا إِلَى بَعْضِ الدُّرُوسِ مُظْهِرِينَ لِطَلَبِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سِوَى تَحْصِيلِ الْقُوتِ، وَكَانَ تَعَلُّمُنَا الْعِلْمَ لِذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ. عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي (الْإِحْيَاءِ) : هَذِهِ الْكَلِمَةُ اغْتَرَّ بِهَا قَوْمٌ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ رُجُوعِهِمْ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَائِلُ هُوَ عِلْمُ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَمَعْرِفَةِ سِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ، فَإِنَّ فِيهِ التَّخْوِيفَ وَالتَّحْذِيرَ، وَهُوَ سَبَبٌ لِإِثَارَةِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ أَثَّرَ فِي الْمَآلِ. فَأَمَّا الْكَلَامُ وَالْفِقْهُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِفَتَاوَى الْمُعَامَلَاتِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتُ الْمَذْهَبُ مِنْهُ وَالْخِلَافُ، فَلَا يَرُدُّ الرَّاغِبَ فِيهِ لِلدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ، بَلْ لَا يَزَالُ مُتَمَادِيًا فِي حِرْصِهِ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ أَبَى وَامْتَنَعَ عَلَيْنَا فَلَمْ يَنْكَشِفْ لَنَا حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَنَا حَدِيثُهُ وَأَلْفَاظُهُ. وَامْتَنَعَ بَعْضُ الْوَرِعِينَ مِنْ ذَلِكَ، فَرَوَى الْخَطِيبُ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَّا تُحَدِّثُنَا تُؤْجَرْ؟ قَالَ: عَلَى أَيِ شَيْءٍ أُؤْجَرُ؟ عَلَى شَيْءٍ تَتَفَكَّهُونَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ. وَنَحْوُهُ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَثَّامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: النَّاسُ لَا يُؤْتَوْنَ مِنْ حِلْمٍ، يَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْأَلُ، فَإِذَا أَخَذَ غَلِطَ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ ثُمَّ يُصَحِّفُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ لِيُمَارِيَ صَاحِبَهُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ لِيُبَاهِيَ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أُعَلِّمَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَجُلٌ يَجِيئُنِي فَيَهْتَمُّ لِأَمْرِ دِينِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَسَعُنِي أَنْ أَمْنَعَهُ. وَقَدْ أَسْلَفْتُ فِي " مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ " شَيْئًا مِنْ تَوَقُّفِ بَعْضِ الْوَرِعِينَ. وَلَكِنْ قَدْ فَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ) لَهُ تَفْصِيلًا حَسَنًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لِلطَّلَبِ دِينِيًّا وَجَبَ عَلَى الشَّيْخِ إِسْعَافُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ; فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ طَلَبُ الْعِلْمِ إِلَى حُبِّ النَّبَاهَةِ وَطَلَبِ الرِّيَاسَةِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ يَعْطِفُهُ عَلَى الدِّينِ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي مَحْظُورًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ طَلَبُ الْعِلْمِ إِلَى شَرٍّ كَامِنٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي شُبَهٍ دِينِيَّةٍ، وَحِيَلٍ فِقْهِيَّةٍ لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 يَجِدُ أَهْلُ السَّلَامَةِ مِنْهَا مَخْلَصًا، وَلَا عَنْهَا مَدْفَعًا، فَيَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ طَلِبَتِهِ، وَيَصْرِفَهُ عَنْ بُغْيَتِهِ، وَلَا يُعِينُهُ عَلَى إِمْضَاءِ مَكْرِهِ وَإِعْمَالِ شَرِّهِ، فَفِي الْحَدِيثِ « (وَاضِعُ الْعِلْمِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ اللُّؤْلُؤَ وَالْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ) » انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: ارْثِ لِرُومِيَّةٍ تَوَسَّطَهَا خِنْزِيرُ ... وَابْكِ لِعِلْمٍ حَوَاهُ شِرِّيرُ وَكَذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَمْتَنِعُ مِنْ إِلْقَاءِ الْعِلْمِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُهُ، فَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ تِلْمِيذًا سَأَلَ عَالِمًا عَنْ عِلْمٍ فَلَمْ يُفِدْهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ مَنَعْتَهُ؟ فَقَالَ: لِكُلِّ تُرْبَةٍ غَرْسٌ، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ إِسٌّ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الطَّبَّاخِ الْحَاذِقِ، يَعْمَلُ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ. وَعَنْ بَعْضِ الْبُلَغَاءِ قَالَ: لِكُلِّ ثَوْبٍ لَابِسُ ... وَلِكُلِّ عِلْمٍ قَابِسُ [لَا يَنْبَغِي التَّحْدِيثُ بِدُونِ قَرَارٍ] : (وَلَا تُحَدِّثْ عَجِلًا) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُسْتَعْجِلًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى السُّرْعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا الْهَذْرَمَةُ غَالِبًا (أَوْ أَنْ تَقُمْ) أَيْ: فِي حَالِ قِيَامِكَ. (أَوْ فِي الطَّرِيقِ) مَاشِيًا كُنْتَ أَوْ جَالِسًا، فَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أَتَفَهَّمَ مَا أُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بَلْ قِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَكْتُبْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ قَالَ: أَتَيْتُهُ وَالنَّاسُ يَكْتُبُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 عَنْهُ قِيَامًا، فَأَجْلَلْتُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَكْتُبَهُ وَأَنَا قَائِمٌ. وَاتَّفَقَ لَهُ مَعَ أَبِي حَازِمٍ أَيْضًا نَحْوَهُ، وَكَذَا صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِالْكَرَاهَةِ فَقَالَ: يُكْرَهُ التَّحْدِيثُ فِي حَالَتَيِ الْمَشْيِ وَالْقِيَامِ حَتَّى يَجْلِسَ الرَّاوِي وَالسَّامِعُ مَعًا وَيَسْتَوْطِنَا، فَذَلِكَ أَحَضَرُ لِلْقَلْبِ، وَأَجْمَعُ لِلْفَهْمِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِلْحَدِيثِ مَوَاضِعُ مَخْصُوصَةٌ شَرِيفَةٌ دُونَ الطُّرُقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الدَّنِيَّةِ. قَالَ: وَهَكَذَا يُكْرَهُ التَّحْدِيثُ مُضْطَجِعًا. وَحَكَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَحِينَ يَكُونُ مَغْمُومًا أَوْ مَشْغُولًا، قَالَ: وَلَوْ حَدَّثَ مُحَدِّثٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمْ يَكُنْ مَأْثُومًا، وَلَا فَعَلَ أَمْرًا مَحْظُورًا، وَأَجَلُّ الْكُتُبِ كِتَابُ اللَّهِ، وَقِرَاءَتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَائِزَةٌ، فَالْحَدِيثُ فِيهَا بِالْجَوَازِ أَوْلَى. قُلْتُ: وَقَدْ فَعَلَهُ فِيهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَبَالَغَ بَعْضُ الْمُتَسَاهِلِينَ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمَاشِي حَالَ كَوْنِهِ رَاكِبًا، وَذَلِكَ قَبِيحٌ مِنْهُمَا. [السِّنُّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّصَدُّرِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ] : (ثُمَّ) بَعْدَ تَحَرِّيكَ فِي تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَاسْتِحْضَارِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّقَيُّدِ فِي الطَّلَبِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْفَهْمُ، فَلَا تَقَيُّدَ فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا بِسِنٍّ، بَلْ (حَيْثُ احْتِيجَ لَكَ فِي شَيْءٍ) وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلَعَلَّكَ تَكُونُ فِي بِلَادٍ مَشْهُورَةٍ كَثِيرَةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إِلَى مَا عِنْدَكَ، وَلَوْ كُنْتَ فِي بِلَادٍ مَهْجُورَةٍ احْتِيجَ إِلَيْكَ فِيهِ ; فَحِينَئِذٍ (ارْوِهْ) وُجُوبًا حَسْبَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) فَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 فَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يَعْلُوَ سِنُّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَدِّثَ وَلَا يَمْتَنِعَ ; لِأَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لَازِمٌ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ عَاصٍ آثِمٌ. وَسَاقَ حَدِيثَ: ( «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ نَافِعٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ) . وَحَدِيثَ: ( «مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِلْمًا ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ» ) . وَقَدْ مَضَى قَرِيبًا، وَقَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] . قَالَ: هَذَا فِي الْعِلْمِ، لَيْسَ لِلدُّنْيَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ ابْتُلِيَ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ، أَوْ يَنْسَاهُ، أَوْ يَتَّبِعَ سُلْطَانًا. وَقَوْلَ رَبِيعَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَهُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: إِنَّمَا حَمَلَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَلَى التَّحْدِيثِ أَنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَفِيهَا كَرَاسِيُّ مَوْضُوعَةٌ، عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْهَا زَائِدَةُ، وَعَلَى آخَرَ فُضَيْلٌ، وَذَكَرَ رِجَالًا، وَكُرْسِيٌّ مِنْهَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: فَأَهَوَيْتُ نَحْوَهُ فَمُنِعْتُ، فَقُلْتُ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابِي أَجْلِسُ إِلَيْهِمْ. فَقِيلَ لِي: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَذَلُوا مَا اسْتُودِعُوا، وَإِنَّكَ مَنَعْتَهُ. فَأَصْبَحَ يُحَدِّثُ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ الَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّهُ مَتَى احْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدِّي لِرِوَايَتِهِ وَنَشْرِهِ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونُ يُخَالِفُ الْخَطِيبَ فِي الْوُجُوبِ، أَوْ يَكُونَ الِاسْتِحْبَابُ فِي التَّصَدِّي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 بِخُصُوصِهِ. عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ ابْنَ الْمُصَنِّفِ قَالَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ إِلَّا عِنْدَهُ، وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحْدِيثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. [قَوْلُ الرَّامَهُرْمُزِيِّ فِي تَحْدِيدِ السِّنِّ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ] : (وَ) عَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَبُو مُحَمَّدِ (ابْنُ خَلَّادٍ) الرَّامَهُرْمُزِيُّ قَدْ (سَلَكْ) فِي كِتِابِهِ (الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ) التَّحْدِيدَ، حَيْثُ صَرَّحَ (بِأَنَّهُ يَحْسُنُ) أَنْ يُحَدِّثَ (لِلْخَمْسِينَا عَامًا) أَيْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا. وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ ; لِأَنَّهَا انْتِهَاءُ الْكُهُولَةِ، وَفِيهَا مُجْتَمَعُ الْأَشُدِّ، قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الرِّيَاحِيُّ: أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةٌ الشُّئُونِ يَعْنِي: أَحَنَكَتْنِي مُعَالَجَةُ الْأُمُورِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) بِهِ (لِأَرْبَعِينَا) عَامًا، أَيْ بَعْدَهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَنْكَرٍ ; لِأَنَّهَا حَدُّ الِاسْتِوَاءِ، وَمُنْتَهَى الْكَمَالِ، نُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ تَتَنَاهَى عَزِيمَةُ الْإِنْسَانِ وَقُوَّتُهُ، وَيَتَوَفَّرُ عَقْلُهُ وَيَجُودُ رَأْيُهُ. انْتَهَى. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] . قَالَ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَاسْتَوَى. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ فِي الْأَشُدِّ غَيْرُ ذَلِكَ، (وَ) قَدْ (رُدَّ) هَذَا عَلَى ابْنِ خَلَّادٍ حَيْثُ لَمْ يَعْكِسْ صَنِيعَهُ، وَيَجْعَلِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي وَصَفَهَا مِمَّا ذُكِرَ حَدًّا لِمَا يُسْتَحْسَنُ، وَالْخَمْسِينَ الَّتِي يَأْخُذُ صَاحِبُهَا غَالِبًا فِي الِانْحِطَاطِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وَضَعْفِ الْقُوَى حَدًّا لِمَا لَا يُسْتَنْكَرُ، أَوْ يَجْعَلَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي لِلْجَوَازِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْدِفَ بِالْخَمْسِينَ الَّتِي لِلِاسْتِحْسَانِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَهْلٌ، بَلْ رُدَّ عَلَيْهِ مُطْلَقُ التَّحْدِيدِ، فَقَالَ عِيَاضٌ فِي (إِلْمَاعِهِ) وَاسْتِحْسَانِهِ: هَذَا لَا يَقُومُ لَهُ حُجَّةٌ بِمَا قَالَ. قَالَ: وَكَمْ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا السِّنِّ وَلَا اسْتَوْفَى فِي هَذَا الْعُمْرِ، وَمَاتَ قَبْلَهُ. وَقَدْ نَشَرَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى، هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُكْمِلِ الْأَرْبَعِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِينَ، وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَهَذَا مَالِكٌ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ ابْنَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ، وَشُيُوخُهُ رَبِيعَةُ وَابْنُ شِهَابٍ وَابْنُ هُرْمُزَ وَنَافِعٌ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَغَيْرُهُمْ أَحْيَاءٌ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ شِهَابٍ حَدِيثَ الْفُرَيْعَةِ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أُخِذَ عَنْهُ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الْحَدَاثَةِ، وَانْتَصَبَ لِذَلِكَ فِي آخَرِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. انْتَهَى. وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ قَالَ: كَتَبَ عَنِّي خَمْسَةُ قُرُونٍ، وَسَأَلُونِي التَّحْدِيثَ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجْتُهُمْ إِلَى الْبُسْتَانِ فَأَطْعَمْتُهُمُ الرُّطَبَ وَحَدَّثْتُهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ قَالَ: كَتَبْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَابِ الْفِرْيَابِيِّ وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ. فَقُلْتُ: ابْنُ كَمْ كَانَ؟ قَالَ: ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ حَدَّثْتُ أَنَا وَلِي عِشْرُونَ سَنَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 حِينَ قَدِمْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ، كَتَبَ عَنِّي شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ أَشْيَاءَ أَدْخَلَهَا فِي تَصَانِيفِهِ، وَسَأَلَنِي فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (412 هـ) . قُلْتُ: وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ اسْتَوْفَى عَشَرَ سِنِينَ مِنْ حِينَ طَلَبَهُ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ الْحَدِيثَ وَلِي إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً ; لِأَنِّي وُلِدْتُ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (392) ، وَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (403) . وَكَذَا حَدَّثَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُظَفَّرٍ وَسِنُّهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي السَّنَةِ الَّتِي ابْتَدَأَ الطَّلَبَ فِيهَا، وَهِيَ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (693 هـ) ، وَحَدَّثَ عَنْهُ فِي (مُعْجَمِهِ) بِحَدِيثٍ مِنَ (الْأَفْرَادِ) لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ عَقِبَهُ: أَمْلَاهُ عَلَيَّ ابْنُ مُظَفَّرٍ وَهُوَ أَمْرَدُ. وَحَدَّثَ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ خَلِيفَةَ الْمَنْبَجِيُّ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، سَمِعَ مِنْهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ أَحَادِيثَ مِنْ (فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَدَّثَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (745) وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، سَمِعَ مِنْهُ الشِّهَابُ أَبُو مَحْمُودٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ، وَكَذَا سَمِعَ مِنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ شَيْخُهُ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخَرِينَ كَالْمُحِبِّ بْنِ الْهَائِمِ، حَيْثُ حَدَّثَ وَدَرَّسَ وَقَرَّظَ لِشَيْخِنَا بَعْضَ تَصَانِيفِهِ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ: الْجَاهِلُ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَالْعَالِمُ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ حَدَثًا. [تَأْوِيلُ كَلَامِ الرَّامَهُرْمُزِيِّ مِنَ ابْنِ الصَّلَاحِ] : (وَ) لَكِنِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ قَدْ حَمَلَ كَلَامَ ابْنِ خَلَّادٍ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ، حَيْثُ (بِغَيْرِ الْبَارِعِ) فِي الْعِلْمِ (خَصَّصَ) تَحْدِيدَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلَّادٍ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ فِيمَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْدِيثِ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ بَرَاعَةٍ فِي الْعِلْمِ تَعَجَّلَتْ لَهُ قَبْلَ السِّنِّ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَهَذَا إِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ السِّنِّ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى مَا عِنْدَهُ، (لَا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِي) وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَهُمْ عِيَاضٌ مِمَّنْ حَدَّثَ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ لِبَرَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ تَقَدَّمَتْ ظَهَرَ لَهُمْ مَعَهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِمْ، فَحَدَّثُوا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا ذَلِكَ، إِمَّا بِصَرِيحِ السُّؤَالِ، وَإِمَّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ. انْتَهَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْخَطِيبِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّى صَاحِبُ الْحَدِيثِ لِلرِّوَايَةِ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ فِي السِّنِّ، وَأَمَّا فِي الْحَدَاثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ. ثُمَّ سَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ أَنَّهُ قَالَ: جَهْلُ الشَّبَابِ مَعْذُورٌ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ خَالِدًا يُحَدِّثُ، فَقَالَ: عَجِلَ خَالِدٌ. [مَتَى يُمْسِكُ الْمُحَدِّثُ عَنِ التَّحْدِيثِ؟] : وَبِالْجُمْلَةِ فَوَقْتُ التَّحْدِيثِ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَاجَةِ أَوْ سِنٍّ مَخْصُوصٍ، وَهَلْ لَهُ أَمَدٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ عِيَاضٌ وَابْنُ الصَّلَاحِ: (وَيَنْبَغِي) لَهُ، أَيِ: اسْتِحْبَابًا (الْإِمْسَاكُ) عَنِ التَّحْدِيثِ، (إِذْ) أَيْ: حَيْثُ (يُخْشَى الْهَرَمْ) النَّاشِئُ عَنْهُ غَالِبًا التَّغَيُّرُ، وَخَوْفُ الْخَرَفِ وَالتَّخْلِيطِ بِحَيْثُ يَرْوِي مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالنَّاسُ فِي السِّنِّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْهَرَمُ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ. يَعْنِي: فَلَا ضَابِطَ حِينَئِذٍ لَهُ. (وَ) لَكِنْ (بِالثَّمَانِينَ) أَبُو مُحَمَّدِ (ابْنُ خَلَّادٍ) الرَّامَهُرْمُزِيُّ أَيْضًا (جَزَمْ) حَيْثُ حَدَّهُ بِهَا، وَعِبَارَتُهُ: فَإِذَا تَنَاهَى الْعُمُرُ بِالْمُحَدِّثِ فَأَعْجَبُ إِلَى أَنْ يُمْسِكَ فِي الثَّمَانِينَ، فَإِنَّهُ حَدُّ الْهَرَمِ. قَالَ: وَالتَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِأَبْنَاءِ الثَّمَانِينَ. قَالَ: (فَإِنْ يَكُنْ ثَابِتَ عَقْلٍ) مُجْتَمِعَ رَأْيٍ، يَعْرِفُ حَدِيثَهُ وَيَقُومُ بِهِ، وَتَحَرَّى أَنْ يُحَدِّثَ احْتِسَابًا، (لَمْ يُبَلْ) أَيْ لَمْ يُبَالَ بِذَلِكَ، بَلْ رَجَوْتُ لَهُ خَيْرًا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا، أَيِ التَّقْيِيدُ بِالسِّنِّ، عِنْدَمَا تَظْهَرُ مِنْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 أَمَارَةُ الِاخْتِلَالِ، وَيُخَافُ مِنْهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ الِامْتِنَاعُ ; لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ النَّاسُ إِلَى رِوَايَتِهِ. يَعْنِي كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (كَأَنَسٍ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، حَيْثُ حَدَّثَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِائَةِ. وَلِجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَمِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَاللَّيْثِ، (وَمَالِكٍ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، (وَمَنْ فَعَلَ) ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الطِّبَاقِ وَبَعْدَهَا، وَمِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ. (وَ) أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (الْبَغَوِيُّ) ، (وَ) أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ (الْهُجَيْمِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً لِهُجَيْمِ بْنِ عَمْرٍو، (وَفِئَهْ) أَيْ جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ (كَـ) الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (الطَّبَرِيِّ) ، وَالْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ كُلُّهُمْ (حَدَّثُوا بَعْدَ الْمِائَهْ) . وَاخْتَصَّ الْهُجَيْمِيُّ عَمَّنْ ذُكِرَ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ بِأَنَّهُ كَانَ آلَى أَلَّا يُحَدِّثَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمِائَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعَمَّمَ وَرَدَّ عَلَى رَأْسِهِ مِائَةً وَثَلَاثَ دَوَرَاتٍ، فَعُبِّرَ لَهُ أَنْ يَعِيشَ سِنِينَ بِعَدَدِهَا فَكَانَ كَذَلِكَ. وَمِمَّنْ قَارَبَ الْمِائَةَ مِنْ شُيُوخِنَا وَهُوَ عَلَى جَلَالَتِهِ فِي قُوَّةِ الْحَافِظَةِ وَالِاسْتِحْضَارِ، الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ بْنُ الدِّيرِيِّ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَلْ سَاعَدَهُمُ التَّوْفِيقُ، وَصَحِبَتْهُمُ السَّلَامَةُ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ مِصْدَاقُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَخْرَفُ الْكَذَّابُونَ. يَعْنِي غَالِبًا، حَتَّى إِنَّ الْقَارِئَ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى الْهُجَيْمِيِّ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَ الْمِائَةَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحُمَّى أَصَابَتْ أَبَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 بَكْرٍ وَبِلَالًا أَوْ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، وَكَانُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ ... إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ ... كَالثَّوْرِ يَحْمِي جِسْمَهُ بِرَوْقِهِ فَقَالَ: كَالْكَلْبِ. بَدَلَ قَوْلِهِ: كَالثَّوْرِ. وَرَامَ اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْهُجَيْمِيُّ: قُلْ: كَالثَّوْرِ. يَا ثَوْرُ، فَإِنَّ الْكَلْبَ لَا رَوْقَ لَهُ، إِذِ الرَّوْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ ثُمَّ السُّكُونِ الْقَرْنُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ وَجَوْدَةِ حِسِّهِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ لِأَصْحَابِ الثَّمَانِينَ التَّحْدِيثَ لِكَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى مَنْ يَبْلُغُ هَذَا السِّنَّ اخْتِلَالَ الْجِسْمِ وَالذِّكْرِ، وَضَعْفَ الْحَالِ وَتَغَيُّرَ الْفَهْمِ وَحُلُولَ الْخَرَفِ، فَخِيفَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلَالُ فَلَا يُفْطَنَ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَازَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ فَقَالَ: مَنْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ ضَعُفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ، وَخِيفَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَالُ وَالْإِخْلَالُ، وَأَلَّا يُفْطَنَ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلِطَ، كَمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ. عَلَى أَنَّ الْعِمَادَ ابْنَ كَثِيرٍ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي حَدِيثِهِ عَلَى حِفْظِهِ وَضَبْطِهِ. فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ، أَوْ لَا، بَلِ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ أَوِ الضَّابِطِ الْمُفِيدِ عَنْهُ، فَهَذَا كُلَّمَا تَقَدَّمَ فِي السِّنِّ كَانَ النَّاسُ أَرْغَبَ فِي السَّمَاعِ، مِنْهُ كَالْحَجَّارِ، فَإِنَّهُ جَازَ الْمِائَةَ بِيَقِينٍ ; لِأَنَّهُ سَمِعَ (الْبُخَارِيَّ) عَلَى ابْنِ الزُّبَيْدِيِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ عَامِّيًّا لَا يَضْبِطُ شَيْئًا، وَلَا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا تَدَاعَى الْأَئِمَّةُ وَالْحُفَّاظُ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ، لِأَجْلِ تَفَرُّدِهِ، بِحَيْثُ سَمِعَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدَ الذَّهَبِيُّ كُرَّاسَةً أَوْرَدَ فِيهَا عَلَى السِّنِينِ مَنْ جَازَ الْمِائَةَ، وَكَذَا جَمَعَ شَيْخُنَا كِتَابًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْحُرُوفِ، وَلَكِنْ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، بَلْ وَمَا أَظُنُّهُ بُيِّضَ. وَيُوجَدُ فِيهِمَا جُمْلَةٌ مِنْ أَمْثِلَةِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ ابْنِ النَّقَّاشِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَوْقَ مِائَةِ سَنَةٍ، مُتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي (الصَّحِيحِ) : ( «مَا عَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةٌ سَنَةٍ» ) حَسْبَمَا سَمِعَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ مِنَ النَّاظِمِ عَنْهُ. (وَ) كَذَا (يَنْبَغِي) اسْتِحْبَابًا (إِمْسَاكُ الَاعْمَى) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، سَوَاءٌ الْقَدِيمُ عَمَاهُ أَوِ الْحَادِثُ، عَنِ الرِّوَايَةِ، (إِنْ يُخَفْ) أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ، بَلْ وَلَوْ كَانَ حَافِظًا، كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ حَسْبَمَا قَدَّمْتُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ مَعَ الْإِمْعَانِ فِيهِ وَفِي الْأُمِّيِّ، مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ. وَيَنْبَغِي اسْتِحْبَابًا أَيْضًا حَيْثُ بَانَ الْحَضُّ عَلَى نَشْرِ الْحَدِيثِ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهَا أَلَّا تَحْمِلَهُ الرَّغْبَةُ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ مُصِيبَةٌ يُبْتَلَى بِهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَهِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى إِخْفَاءِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مِنَ الرُّوَاةِ مِمَّنْ لَا يُوَازِيهِ. [الدَّلَالَةُ عَلَى الْأَحَقِّ وَتَرْكُ التَّحْدِيثِ عِنْدَهُ] : (وَأَنَّ مَنْ سِيلَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ لِلضَّرُورَةِ، أَنْ يُحَدِّثَ (بِجُزْءٍ) أَوْ كِتَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، (قَدْ عَرَفْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 رُجْحَانَ رَاوٍ) مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ بِبَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا، (فِيهِ) إِمَّا لِكَوْنِهِ أَعْلَى أَوْ مُتَّصِلَ السَّمَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ التَّرْجِيحَاتِ، وَلَوْ بِالْعِلْمِ وَالضَّبْطِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْخُهُ فِيهِ حَيًّا، (دَلَّ) السَّائِلَ لَهُ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ عَنْهُ، أَوْ يَسْتَدْعِيَ مِنْهُ الْإِجَازَةَ إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، وَلَمْ تُمْكِّنْهُ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ. (فَهْوَ) أَيِ التَّنْبِيهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ (حَقْ) وَنَصِيحَةٌ فِي الْعِلْمِ، لِكَوْنِ الرَّاجِحِ بِهِ أَحَقَّ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ. قَالَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمَسْحِ، يَعْنِي عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتِ: ائْتِ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: جَلَسْتُ إِلَى ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُحِبُّ الْعِلْمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَعَلَيْكَ بِذَاكَ الشَّيْخِ، يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ. قَالَ: فَلَزِمْتُ سَعِيدًا سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى عُرْوَةَ فَتَفَجَّرْتُ مِنْهُ بَحْرًا. وَقَالَ حَمْدَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ: ذَهَبْنَا إِلَى أَحْمَدَ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُحَدِّثَنَا، فَقَالَ: تَسْمَعُونَ مِنِّي وَمِثْلُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْحَيَاةِ. أَخْرَجَهُمَا الْخَطِيبُ، وَنَحْوُهُ مَا عِنْدَهُ فِي (الرِّحْلَةِ) لَهُ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عَمَّنْ تَرَى أَنْ يُكْتَبَ الْحَدِيثُ؟ فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ فَإِنَّهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ. فِي آخَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فَإِنَّهُ دَلَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَكِّيِّينَ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ الْمَدَنِيِّ حِينَ قَدِمَهَا عَلَيْهِمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 كَمَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِي الْحَجِّ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) هَذَا بَعْدَ لَقْيِ عَمْرٍو لِصَالِحٍ وَأَخْذِهِ عَنْهُ مَعَ كَوْنِ عَمْرٍو أَقْدَمَ مِنْهُ. وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ يُحِيلُ غَالِبًا مَنْ يَسْأَلُ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَلَى الزَّيْنِ الزَّرْكَشِيِّ، وَقَالَ مَرَّةً لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: إِذَا سَمِعْتَ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَعَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَعَلَى فُلَانٍ كَذَا، كُنْتَ مُسَاوِيًا لِي فِيهَا فِي الْعَدَدِ. بَلْ كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا أَخَصَّ مِنْ هَذَا ; حَيْثُ يُحْضِرُ مَنْ يَعْلَمُ انْفِرَادَهُ مِنَ الْمُسْمَعِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَوَالِي مَجْلِسَهُ لِأَجْلِ سَمَاعِ الطَّلَبَةِ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا قَرَأَ لَهُمْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَفَعَلَ الْوَلِيُّ ابْنُ النَّاظِمِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ خَصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِيمَا عَدَا الصِّفَةَ الْمُرَجِّحَةَ، أَمَّا مَعَ التَّفَاوُتِ، بِأَنْ يَكُونَ الْأَعْلَى عَامِّيًّا لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالصَّنْعَةِ، وَالْأَنْزَلُ عَارِفًا ضَابِطًا، فَهَذَا يُتَوَقَّفُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِرْشَادِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا الْعَامِّيِّ مَا يُوجِبُ خَلَلًا. انْتَهَى. فَإِنْ أَحْضَرَهُ الْعَالِمُ إِلَى مَجْلِسِهِ كَمَا فَعَلَ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ، أَوْ أَكْرَمَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْقَارِئُ أَوْ بَعْضُ السَّامِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ، فَلَا نِزَاعَ حِينَئِذٍ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِعْلَامِ. (وَ) كَذَا يَنْبَغِي اسْتِحْبَابًا (تَرْكُ تَحْدِيثٍ بِحَضْرَةِ الْأَحَقْ) وَالْأَوْلَى مِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَانَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الشَّعْبِيِّ لَا يَتَكَلَّمُ إِبْرَاهِيمُ بِشَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَا. (وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ الْأَخْذَ) بِالنَّقْلِ، (عَنْهُ بِبَلَدٍ وَفِيهِ) مَنْ هُوَ لِسِنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ ضَبْطِهِ أَوْ إِسْنَادِهِ، (أَوْلَى مِنْهُ) لِحَدِيثِ سَمُرَةَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 (لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ وَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَاهُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي) . وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: كَانَ زِرٌّ أَكْبَرَ مِنْ أَبِي وَائِلٍ، فَكَانَا إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يُحَدِّثْ أَبُو وَائِلٍ مَعَ زِرٍّ. وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُنَا، فَإِذَا طَلَعَ رَبِيعَةُ قَطَعَ يَحْيَى حَدِيثَهُ إِجْلَالًا لَهُ وَإِعْظَامًا. وَعَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ الْمُكَبَّرُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ فَقَالَ: أَمَا أَبُو عُثْمَانَ - يَعْنِي أَخَاهُ عُبَيْدَ اللَّهِ الْمُصَغَّرَ - حَيٌّ فَلَا. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: مَا لَكَ لَا تُحَدِّثُ؟ فَقَالَ: أَمَّا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّاظِمِ لَمَّا سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِـ (مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ) : أَمَّا وَالشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ التَّنُوخِيُّ حَيٌّ فَلَا. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَيْطِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ بِمَكَّةَ، وَأَتَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي مَا دَامَ هَذَا الشَّيْخُ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - قَاعِدًا. وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَلَّالِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مُعْتَمِرٍ وَهُوَ يُحَدِّثُنَا إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، فَقَطَعَ مُعْتَمِرٌ حَدِيثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا. فَقَالَ: إِنَّا لَا نَتَكَلَّمُ عِنْدَ كُبَرَائِنَا. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحْدِيثِ مِنْهُ أَحْمَقُ، وَأَنَا إِذَا حَدَّثْتُ فِي بَلَدٍ فِيهِ مِثْلُ أَبِي مُسْهِرٍ - يَعْنِي الَّذِي كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ - فَيَجِبُ لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: وَأَنَا إِذَا حَدَّثْتُ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا مِثْلُ أَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ - يَعْنِي الَّذِي كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ - فَيَجِبُ لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ. وَعَنِ السِّلَفِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَدَّثَ فِي بَلْدَةٍ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالرِّوَايَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 مِنْهُ فَهُوَ مُخْتَلٌّ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَوَيَّةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ فِي الْكَرَاهَةِ الْجُلُوسُ لِلْإِفْتَاءِ أَوْ لِإِقْرَاءِ عِلْمٍ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ؟ الظَّاهِرُ لَا ; لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ وَالتَّضْيِيقِ الَّذِي النَّاسُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عَلَى خِلَافِهِ. حَتَّى إِنَّ الْعِزَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَمَاعَةَ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ الْمُحِبِّ نَاظِرِ الْجَيْشِ أَنَّهُ شَاهَدَ بِمِصْرَ قَبْلَ الْفَنَاءِ الْكَبِيرِ مِائَةَ حَلْقَةٍ فِي النَّحْوِ، سِتِّينَ مِنْهَا بِجَامِعِ عَمْرٍو، وَبَاقِيَهَا بِجَامِعِ الْحَاكِمِ. وَقَدْ عَقَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَابًا لِفَتْوَى الصَّغِيرِ بَيْنَ يَدَيِ الْكَبِيرِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّلَبَةَ تَتَفَاوَتُ أَفْهَامُهُمْ، فَالْقَاصِرُ لَا يَفْهَمُ عِبَارَةَ الْأَوْلَى وَيَفْهَمُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ عَالَمٍ رَبَّانِيًّا، وَالسَّمَاعُ إِنَّمَا يُرْغَبُ فِيهِ لِلْأَعْلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وَالْأَوْلَى، فَبُولِغَ فِي الِاعْتِنَاءِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَانِبِ الرِّوَايَةِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ: هَكَذَا قَالُوا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِأَلَّا يُعَارِضَ هَذَا الْأَدَبُ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَيْهِ. يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. [الْقِيَامُ لِأَحَدٍ وَالْآدَابُ الْأُخْرَى فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ] : (وَلَا تَقُمْ) اسْتِحْبَابًا إِذَا كُنْتَ فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّحْدِيثُ بِلَفْظِكَ أَوْ بِقِرَاءَةِ غَيْرِكَ، وَلَا الْقَارِئُ أَيْضًا (لِأَحَدٍ) إِكْرَامًا لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ بِقِيَامٍ. فَقَدْ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو زَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ فِي " جُزْءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْخِرَقِيِّ ": إِذَا قَامَ الْقَارِئُ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. هَذَا إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ لِذَلِكَ مَحَبَّةُ مَنْ يُقَامُ لَهُ لِذَلِكَ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَآكَدُ، بَلْ هُوَ حَرَامٌ لِلتَّرْهِيبِ عَنْهُ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَذَّلِ وَغَيْرُهُ بِدَارِ الْمُتَوَكِّلِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْمُتَوَكِّلُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُ أَحْمَدُ خَاصَّةً، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَزِيرَهُ فَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِسُوءِ بَصَرِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ذَلِكَ. وَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ: إِنَّمَا نَزَّهْتُكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَسَاقَ لَهُ حَدِيثَ: ( «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) . فَجَاءَ الْمُتَوَكِّلُ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وَكَذَا لَا تَخُصَّ أَحَدًا بِمَجْلِسٍ، بَلْ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا تُقِمْ أَحَدًا لِأَجْلِ أَحَدٍ، لِحَدِيثِ: ( «لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَوَسَّعُوا» ) . ( «لَا تُجْلِسْهُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا» ) . وَدَخَلَ الْحَيْصُ بَيْصُ الشَّاعِرُ عَلَى الشَّرِيفِ عَلِيِّ بْنِ طَرَّادٍ الْوَزِيرِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ بْنُ طَرَّادٍ، يَا رَفِيعَ الْعِمَادِ، يَا خَالِدَ الْأَجْوَادِ، انْقَضَى الْمَجْلِسُ فَأَيْنَ أَجْلِسُ؟ فَقَالَ الْوَزِيرُ: مَكَانَكَ. فَقَالَ: أَعَلَى قَدْرِي أَمْ عَلَى قَدْرِكَ؟ فَقَالَ: لَا عَلَى قَدْرِي وَلَا عَلَى قَدْرِكَ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ الْوَقْتِ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ إِكْرَامَهُ الْمَشَايِخَ وَالْعُلَمَاءَ وَذَوِي الْأَنْسَابِ، لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ كُلٍّ مَنْزِلَتَهُ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: كُنَّا نَجْلِسُ إِلَى رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَتَى ذُو السِّنِّ وَالْفَضْلِ قَالُوا لَهُ: هَهُنَا. حَتَّى يَجْلِسَ قَرِيبًا مِنْهُمْ. قَالَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ رُبَّمَا أَتَاهُ الرَّجُلُ لَيْسَ لَهُ ذَاكَ السِّنَّ، فَيَقُولُ لَهُ: هَهُنَا. وَلَا يَرْضَى حَتَّى يُجْلِسَهُ إِلَى جَنْبِهِ، كَأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ لِفَضْلِهِ عِنْدَهُ. وَلَا تُقَدِّمْ أَحَدًا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهِ، بَلْ تَأَسَّ بِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَيْثُ حَضَرَ إِلَيْهِ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَهُوَ ابْنُ الْوَزِيرِ، وَقَدْ سَبَقَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 الطَّبَرِيُّ لِلرَّجُلِ: أَلَا تَقْرَأُ؟ فَأَشَارَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ الْوَزِيرِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبَرِيُّ: إِذَا كَانَتِ النَّوْبَةُ لَكَ، فَلَا تَكْتَرِثْ بِدِجْلَةَ وَلَا الْفُرَاتِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - مِنْ لَطَائِفِ ابْنِ جَرِيرٍ وَبَلَاغَتِهِ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا. (وَ) كَذَا لَا تَخُصَّ وَاحِدًا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، بَلْ (أَقْبِلِ عَلَيْهِمِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، جَمِيعًا إِذَا أَمْكَنَ، فَذَاكَ مُسْتَحَبٌّ ; لِقَوْلِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: كَانُوا يُحِبُّونَ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ أَلَّا يُقْبِلَ عَلَى الْوَاحِدِ فَقَطْ، وَلَكِنْ لِيَعُمَّهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ. وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَلَّا تَخُصَّ أَحَدًا بِالتَّحْدِيثِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَرَفَّعُ عَنِ الْجُلُوسِ مَعَ مَنْ يَرَاهُ دُونَهُ، فَضْلًا عَنْ مَجِيئِكَ إِلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيَّ أَنْ يُحَدِّثَ ابْنَهُ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ مَعَ الْجَمَاعَةِ حَدَّثْنَاهُ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ جِهَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيِّ عَنْهُ: الْعِلْمُ مِنْ شَرْطِهِ لِمَنْ خَدَمَهْ ... أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ خَدَمَهْ وَوَاجِبٌ صَوْنُهُ عَلَيْهِ كَمَا ... يَصُونُ فِي النَّاسِ عِرْضَهُ وَدَمَهْ وَلَا تَجْلِسْ فِي الظِّلِّ وَهُمْ فِي الشَّمْسِ، وَاخْفِضْ صَوْتَكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجْلِسِ سَيِّئُ السَّمْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 [تَبْيِينُ التَّحْدِيثِ وَتَرْتِيلُهُ] : (وَلِلْحَدِيثِ رَتِّلِ) اسْتِحْبَابًا إِنْ لَمْ يُخَفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا تَسْرُدْهُ سَرْدًا، أَيْ لَا تُتَابِعِ الْحَدِيثَ اسْتِعْجَالًا، بَعْضَهُ إِثْرَ بَعْضٍ ; لِئَلَّا يَلْتَبِسَ أَوْ يَمْنَعَ السَّامِعَ مِنْ إِدْرَاكِ بَعْضِهِ ; لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ( «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدَكُمْ» ) . زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: (إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُهُ فَهْمًا تَفْهَمُهُ الْقُلُوبُ) . وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ مِمَّا قَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ: (وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ) . وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْرُدُونَ الْحَدِيثَ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ بَعْضُهُ، بَلِ اعْتُذِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ، بِأَنَّهُ كَانَ لِكَوْنِهِ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ، لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهْلِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيِّ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ، فَإِذَا خَفِيَ الْبَعْضُ فَأَوْلَى أَنْ يُنْكَرَ، وَلِذَا قِيلَ كَمَا سَلَفَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ: (شَرُّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ) . وَقَدْ قَالَ النَّحَّاسُ فِي (صِنَاعَةِ الْكِتَابِ) : قَوْلُهُمْ: سَرَدَ الْكَاتِبُ قِرَاءَتَهُ. مَعْنَاهُ: أَحْكَمَهَا. مُشْتَقٌّ مِنْ سَرَدَ الدِّرْعَ إِذَا أَحْكَمَهَا، وَجَعَلَ حِلَقَهَا وَلَاءً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَحْسَنَ صَنْعَةَ الْمَسَامِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرَّاءَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، بَلْ وَحَكَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، أَيْضًا قَدْ تَسَامَحُوا فِي ذَلِكَ، وَصَارَ الْقَارِئُ يَسْتَعْجِلُ اسْتِعْجَالًا يَمْنَعُ السَّامِعَ مِنْ إِدْرَاكِ حُرُوفٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 كَثِيرَةٍ بَلْ كَلِمَاتٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خَامِسِ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ. وَلَا تُطِلِ الْمَجْلِسَ، بَلِ اجْعَلْهُ مُتَوَسِّطًا، وَاقْتَصِدْ فِيهِ حَذَرًا مِنْ سَآمَةِ السَّامِعِ وَمَلَلِهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى فُتُورِهِ عَنِ الطَّلَبِ وَكَسَلِهِ، إِلَّا إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحَاضِرِينَ لَا يَتَبَرَّمُونَ بِطُولِهِ، فَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِذَا طَالَ الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَنْ أَطَالَ الْحَدِيثَ وَأَكْثَرَ الْقَوْلَ، فَقَدْ عَرَّضَ أَصْحَابَهُ لِلْمَلَالِ وَسُوءِ الِاسْتِمَاعِ، وَلَأَنْ يَدَعَ مِنْ حَدِيثِهِ فَضْلَةً يُعَادُ إِلَيْهَا، أَصْلَحُ مِنْ أَنْ يَفْضُلَ عَنْهُ مَا يَلْزَمُ الطَّالِبَ اسْتِمَاعُهُ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ فِيهِ وَلَا نَشَاطٍ لَهُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: قَلِيلُ الْمَوْعَظَةِ مَعَ نَشَاطِ الْمُوعَظِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ وَافَقَ مِنَ الْأَسْمَاعِ نَبْوَةً، وَمِنَ الْقَلْبِ مَلَالَةً. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ كَلَامٍ كَثُرَ عَلَى السَّمْعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ، ازْدَادَ بِهِ الْقَلْبُ عَمًى، وَإِنَّمَا يَقَعُ السَّمْعُ فِي الْآذَانِ إِذَا قَوِيَ فَهْمُ الْقَلْبِ فِي الْأَبْدَانِ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مَزِيدٍ الْبَيْرُوتِيُّ: الْمُسْتَمِعُ أَسْرَعُ مَلَالَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، وَصَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمَهُ وَإِنُ قَلَّ» ) . [بَدْءُ الْمَجْلِسِ وَخَتْمُهُ بِالثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ] : (وَاحْمَدْ) اللَّهَ تَعَالَى (وَصَلِّ) عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَعْ سَلَامٍ) عَلَيْهِ أَيْضًا ; لِلْخُرُوجِ مِنَ الْكَرَاهَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِهَا النَّوَوِيُّ فِي إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا، حَسْبَمَا قَدَّمْتُهُ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فِي مُهِمَّاتٍ تُسْتَحْضَرُ هُنَا. (وَ) كَذَا مَعَ (دُعَا) يَلِيقُ بِالْحَالِ (فِي بَدْءِ) كُلِّ (مَجْلِسٍ وَ) فِي (خَتْمِهِ مَعَا) سِرًّا وَجَهْرًا، فَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، إِذْ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ. زَادَ بَعْضُهُمْ: وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. وَمِنْ أَبْلَغِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، كُلَّمَا ذَكَرَكَ الذَّاكِرُونَ، وَكُلَّمَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ الْغَافِلُونَ، وَصَلِّ عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلَيْنَ، وَآلِ كُلٍّ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ، نِهَايَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلُونَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ. وَخُصَّ الْخَتْمَ بِقَوْلِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا. اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتِنَا، وَاجْعَلْ ذَلِكَ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ. قَدْ نُوزِعَ فِيهِ، فَاقْتَصِرْ عَلَى هَذَا. [اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ] (699) وَاعْقِدْ لِلِامْلَا مَجْلِسًا فَذَاكَ مِنْ ... أَرْفَعِ الِاسْمَاعِ وَالْأَخْذِ ثُمَّ إِنْ (700) تَكْثُرْ جُمُوعٌ فَاتَّخِذْ مُسْتَمْلِيَا ... مُحَصِّلًا ذَا يَقْظَةٍ مُسْتَوِيَا (701) بِعَالٍ أَوْ فَقَائِمًا يَتْبَعُ مَا ... يَسْمَعُهُ مُبَلِّغًا أَوْ مُفْهِمَا (702) وَاسْتَحْسَنُوا الْبَدْءَ بِقَارِئٍ تَلَا ... وَبَعْدَهُ اسْتَنْصَتَ ثُمَّ بَسْمَلَا (703) فَالْحَمْدُ فَالصَّلَاةُ ثُمَّ أَقْبَلْ ... يَقُولُ مَنْ أَوْ مَا ذَكَرْتَ وَابْتَهَلْ (704) لَهُ وَصَلَّى وَتَرَضَّى رَافِعَا ... وَالشَّيْخُ تَرْجَمَ الشُّيُوخَ وَدَعَا (705) وَذِكْرُ مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ لَقَبْ ... كَغُنْدَرٍ أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ أَوْ نَسَبْ (706) لِأُمِّهِ فَجَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنْ ... يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةٍ فَصُنْ (707) وَارْوِ فِي الْإِمْلَا عَنْ شُيُوخٍ قَدِّمِ ... أَوْلَاهُمُ وَانْتَقِهِ وَأَفْهِمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 (708) مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلَا تَزِدْ ... عَنْ كُلِّ شَيْخٍ فَوْقَ مَتْنٍ وَاعْتَمِدْ (709) عَالِيَ إِسْنَادٍ قَصِيرَ مَتْنِ ... وَاجْتَنِبِ الْمُشْكِلَ خَوْفَ الْفَتْنِ (710) وَاسْتُحْسِنَ الْإِنْشَادُ فِي الْأَوَاخِرِ ... بَعْدَ الْحِكَايَاتِ مَعَ النَّوَادِرِ (711) وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ مُتْقِنُ ... مَجَالِسَ الْإِمْلَاءِ فَهْوَ حَسَنُ (712) وَلَيْسَ بِالْإِمْلَاءِ حِينَ يَكْمُلُ ... غِنًى عَنِ الْعَرْضِ لِزَيْغٍ يَحْصُلُ [اسْتِحْبَابُ عَقْدِ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ] : (وَاعْقِدْ) إِنْ كُنْتَ مُحَدِّثًا عَارِفًا (لِلِامْلَا) بِالنَّقْلِ وَبِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، فِي الْحَدِيثِ (مَجْلِسًا) مِنْ كِتَابِكَ أَوْ حِفْظِكَ، وَالْحِفْظُ أَشْرَفُ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّحْدِيثِ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. (فَذَاكَ) أَيِ: الْإِمْلَاءُ (مِنْ أَرْفَعِ) وُجُوهِ (الِاسْمَاعِ) بِالنَّقْلِ أَيْضًا، مِنَ الْمُحَدِّثِ، (وَالْأَخْذِ) أَيِ: التَّحَمُّلِ لِلطَّالِبِ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا بَيَّنْتُهُ مَعَ تَعْلِيلِهِ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ السِّلَفِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: وَاظِبْ عَلَى كَتْبِ الْأَمَالِيَ جَاهِدًا ... مِنْ أَلْسُنِ الْحُفَّاظِ وَالْفُضَلَاءِ فَأَجَلُّ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ بِأَسْرِهَا ... مَا يَكْتُبُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) : إِنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الرَّاوِينَ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَذَاهِبِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الدِّينِ وَالِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ. انْتَهَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ اعْتِنَاءُ الرَّاوِي بِطُرُقِ الْحَدِيثِ وَشَوَاهِدِهِ وَمُتَابِعِهِ وَعَاضِدِهِ بِحَيْثُ بِهَا يَتَقَوَّى، وَيُثْبِتُ لِأَجْلِهَا حُكْمَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يَتَرَوَّى، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهَا إِظْهَارَ الْخَفِيِّ مِنَ الْعِلَلِ، وَيُهَذِّبُ اللَّفْظَ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ. وَيَتَّضِحُ مَا لَعَلَّهُ يَكُونُ غَامِضًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَيُفْصِحُ بِتَعْيِينٍ مَا أُبْهِمَ أَوْ أُهْمِلَ أَوْ أُدْرِجَ، فَيَصِيرُ مِنَ الْجَلَيِّاتِ، وَحِرْصُهُ عَلَى ضَبْطِ غَرِيبِ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ، وَفَحْصُهُ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 فِيهَا نَشَاطُ النَّفْسِ بِأَتَمَّ مُسْتَنَدٍ، وَبَعُدَ السَّمَاعُ فِيهَا عَنِ الْخَطَأِ وَالتَّصْحِيفِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يَعْرَى عَنْهُ لَبِيبٌ أَوْ حَصِيفٌ. وَزِيَادَةُ التَّفَهُّمِ وَالتَّفْهِيمِ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَجْلِ تَكَرُّرِ الْمُرَاجَعَةِ فِي تَضَاعِيفِ الْإِمْلَاءِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمُقَابَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ، وَحَوْزُ فَضِيلَتَيِ التَّبْلِيغِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْفَوْزُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَطَابَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ الرَّافِعِيُّ وَبَيَّنَهُ وَنَشَرَهُ وَعَيَّنَهُ. يُقَالُ: أَمْلَيْتُ الْكِتَابَ إِمْلَاءً وَأَمْلَلْتُ إِمْلَالًا. جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا جَمِيعًا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] فَهَذَا مِنْ " أَمَلَّ "، وَقَالَ تَعَالَى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] فَهَذَا مِنْ " أَمْلَى ". فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللُّغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ " أَمْلَيْتُ " أَمْلَلْتُ، فَاسْتُثْقِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَرْفَيْنِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَأَبْدَلُوا مِنْ أَحَدِهِمَا يَاءً كَمَا قَالُوا: تَظَنَّنْتُ. يَعْنِي: حَيْثُ أَبْدَلُوا مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاءً فَقَالُوا: التَّظَنِّي. وَهُوَ إِعْمَالُ الظَّنِّ، وَكَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى اللَّهُ لَهُ. أَيْ أَطَالَ عُمْرَهُ. فَمَعْنَى: أَمْلَيْتُ الْكِتَابَ عَلَى فُلَانٍ: أَطَلْتُ قِرَاءَتِي عَلَيْهِ. قَالَهُ النَّحَّاسُ فِي (صِنَاعَةِ الْكِتَابِ) وَهُوَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ. وَقَدْ أَمْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتُبَ إِلَى الْمُلُوكِ وَفِي الْمُصَالَحَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمْلَى وَاثِلَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا رَوَاهُ مَعْرُوفٌ الْخَيَّاطُ - الْأَحَادِيثَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 النَّاسِ وَهُمْ يَكْتُبُونَهَا عَنْهُ، وَمِمَّنْ أَمْلَى ; شُعْبَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهَمَّامٌ، وَوَكِيعٌ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْهُجَيْمِيُّ، فِي خَلْقٍ يَطُولُ سَرْدُهُمْ، وَيَتَعَسَّرُ عَدُّهُمْ، مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ بِشْرَانَ، وَالْخَطِيبِ، وَالسِّلَفِيِّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ، وَالرَّافِعِيِّ، وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَالْمِزِّيِّ، وَالنَّاظِمِ. وَكَانَ الْإِمْلَاءُ انْقَطَعَ قَبْلَهُ دَهْرًا، وَحَاوَلَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، ثُمَّ وَلَدُهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، عَلَى إِحْيَائِهِ، فَكَانَ يَتَعَلَّلُ بِرَغْبَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَعَدَمِ مَوْقِعِهِ مِنْهُمْ، وَقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، إِلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَاتَّفَقَ شُرُوعُهُ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ عَقَدَهُ بِالْقَاهِرَةِ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ. وَكَذَا أَمْلَى يَسِيرًا فِي زَمَنِهِ السِّرِاجُ بْنُ الْمُلَقِّنِ، وَلَمْ يَرْتَضِ شَيْخُنَا صَنِيعَهُ فِيهِ، وَبَعْدَهُمَا الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِالْحَرَمَيْنِ وَعِدَّةِ مَدَارِسَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَشَيْخُنَا بِالشَّامِ وَحَلَبَ وَمِصْرَ وَبِالْقَاهِرَةِ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ، وَاقْتَدَيْتُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ مُحَقِّقِي شُيُوخِي، فَأَمْلَيْتُ بِمَكَّةَ وَبِعِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَبَلَغَ عِدَّةُ مَا أَمْلَيْتُهُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَى الْآنِ نَحْوَ السِّتِّمِائَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَاخْتَلَفَ صَنِيعُهُمْ فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي تَعَدُّدِ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وَعَيَّنَ شَيْخُنَا لِذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَاصَّةً، وَقَبْلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ صَلَاتِهَا، وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ ; لِشَرَفِهِمَا، فَقَدْ قَالَ كَعْبٌ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ الْأَيْامَ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الْجُمُعَةَ، وَالْبِقَاعَ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الْمَسَاجِدَ) . وَقَالَ عَلِيٌّ: (الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) . وَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ: (الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْكِرَامِ) . وَيُرْوَى فِي الْمَرْفُوعِ: ( «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» ) . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَمْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِنَشْرِهِ فِي الْمَسَاجِدِ فَإِنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ قَدْ أُمِيتَتْ. وَاجْلِسْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَعْمِلًا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي نَفْسِكَ وَمَعَ أَصْحَابِكَ، وَعِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَفِي خِفَّةِ الْمَجْلِسِ، فَلَا فَرْقَ. [اتِّخَاذُ الْمُسْتَمْلِي وَأَوْصَافُهُ وَآدَابُهُ] : (ثُمَّ إِنْ تَكْثُرْ جُمُوعٌ) مِنَ الْحَاضِرِينَ (فَاتَّخِذْ) وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، (مُسْتَمْلِيًا) يَتَلَقَّنُ مِنْكَ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَقِلْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 فَلَا ; لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ غَالِبًا، ثِقَةً (مُحَصِّلًا ذَا يَقْظَةٍ) وَفَهْمٍ وَبَرَاعَةٍ فِي الْفَنِّ، يُبَلِّغُ عَنْكَ الْإِمْلَاءَ إِلَى مَنْ بَعُدَ فِي الْحَلْقَةِ اقْتِدَاءً بِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ كَمَالِكٍ وَشُعْبَةَ وَوَكِيعٍ. بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ( «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى، عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ» ) . وَالْحَذَرَ أَنْ يَكُونَ مُغَفَّلًا بَلِيدًا، كَالْمُسْتَمْلِي الَّذِي قَالَ لِمُمْلِيهِ - وَقَدْ قَالَ لَهُ: ثَنَا عِدَّةٌ. مَا نَصُّهُ -: عِدَّةُ ابْنُ مَنْ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُمْلِي: عِدَّةُ ابْنُ فَقَدْتُكَ. وَكَالْآخَرِ الَّذِي قَالَ لِمُمْلِيهِ - وَقَدْ قَالَ لَهُ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولٌ، كَذَا فِي كِتَابِي، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مَا نَصُّهُ -: قَالَ رَسُولٌ، وَشَكَّ أَبُو عُثْمَانَ - وَهِيَ كُنْيَةُ الْمُمْلِي - فِي اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْمُمْلِي: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي اللَّهِ قَطُّ. وَكَالْآخَرِ الَّذِي كَانَ مُمْلِيهِ يَقُولُ لَهُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ. فَيَكْتُبُهُ: حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَيَسْتَمْلِيهِ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ فَلَا يُحْسِنُ قِرَاءَتَهُ أَصْلًا فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ فَيَضْرِبُهَا، فَتَسْتَغِيثُ الْمَرْأَةُ بِالْمُمْلِي. فِي حِكَايَاتٍ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مُضْحِكَةٍ، تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ قَبْلَهُ. وَقَدْ قِيلَ فِي كَاتِبٍ: أَقُولُ لَهُ بَكْرًا فَيَسْمَعُ خَالِدًا ... وَيَكْتُبُهُ زَيْدًا وَيَقْرَؤُهُ عَمْرَا وَأَيْضًا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 يَعِي غَيْرَ مَا قُلْنَا وَيَكْتُبُ غَيْرَ مَا ... وَعَاهُ وَيَقْرَأُ غَيْرَ مَا هُوَ كَاتِبُ. فَإِنْ تَكَاثَرَ الْجَمْعُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي وَاحِدٌ، فَزِدْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، فَقَدْ كَانَ لِعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي حُزِرَ مَجْلِسُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، مُسْتَمْلِيَانِ. وَلِأَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ الَّذِي حُزِرَ بِنَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ سِوَى النَّظَّارَةِ، سَبْعَةٌ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمْلِي جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، فَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِالطَّبَّالِ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ مُقَيِّدًا لَهُ بِمَا إِذَا كَثُرَ الْعَدَدُ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ وَجْهَهُ، (مُسْتَوِيَا) أَيْ: جَالِسًا، (بِـ) مَكَانٍ (عَالٍ) ، مِنْ كُرْسِيٍّ وَنَحْوِهِ، (أَوْ فَقَائِمًا) عَلَى رِجْلَيْهِ كَابْنِ عُلَيَّةَ بِمَجْلِسِ مَالِكٍ، وَآدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ بِمَجْلِسِ شُعْبَةَ، بَلْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقْرَأُ عَلَى شَيْخِنَا وَهُوَ قَائِمٌ، وَفَعَلْتُهُ مَعَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجُلُوسَ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ أَوْ قَائِمًا أَبْلَغُ لِلسَّامِعِينَ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِلْحَدِيثِ وَإِجْلَالٌ لَهُ. (يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْمُسْتَمْلِي (مَا يَسْمَعُهُ) مِنْكَ وَيُؤَدِّيهِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى الْوُجُوبِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وَعِبَارَتُهُمَا مَعًا: وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يُخَالِفَ لَفْظَ الْمُمْلِي فِي التَّبْلِيغِ عَنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ خَاصَّةً إِذَا كَانَ الرَّاوِي مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَحْكَامِ الرِّوَايَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا يُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ. إِلَى آخِرِهِ. (مُبَلِّغًا) بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لَفْظُ الْمُمْلِي، (أَوْ مُفْهِمَا) بِهِ مَنْ بَلَغَهُ عَلَى بُعْدٍ وَلَمْ يَتَفَهَّمْهُ، فَيَتَوَصَّلُ بِصَوْتِ الْمُسْتَمْلِي إِلَى تَفَهُّمِهِ وَتَحَقُّقِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا مِنَ الْمُسْتَمْلِي، دُونَ الْمُمْلِي فِي الْفَرْعِ الْخَامِسِ مِنَ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. [آدَابُ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِمْلَاءِ] : (وَاسْتَحْسَنُوا) أَيْ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِلْإِمْلَاءِ (الْبَدْءَ) فِي مَجَالِسِهِمْ (بِ) قِرَاءَةِ (قَارِئٍ) هُوَ الْمُسْتَمْلِي كَمَا لِلْخَطِيبِ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، أَوِ الْمُمْلِي، كَمَا لِلرَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِمَا، (تَلَا) شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّعْيِينِ لَا يُنَافِي اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ. وَعَيَّنَ الرَّافِعِيُّ وَالْخَطِيبُ أَنْ يَكُونَ الْمَتْلُوُّ سُورَةً، زَادَ الرَّافِعِيُّ: خَفِيفَةً. قَالَ: وَيُخْفِيهَا فِي نَفْسِهِ. كَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِخْلَاصِ. وَاخْتَارَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِشَيْخِهِ سُورَةَ " الْأَعْلَى " لِذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ فِيهَا: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] وَقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ. وَقَوْلِهِ: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] . وَالْأَصْلُ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: (كَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا تَذَاكَرُوا الْعِلْمَ، وَقَرَءُوا سُورَةً) . بَلْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْفِقْهِ يَأْمُرُونَ أَنْ يَقْرَأَ رَجُلٌ سُورَةً) . (وَبَعْدَهُ) أَيِ: الْمَتْلُوِّ، (اسْتَنْصَتَ) الْمُمْلِي - كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، أَوِ الْمُسْتَمْلِي كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ - أَهْلَ الْمَجْلِسِ حَيْثُ احْتِيجَ لِذَلِكَ، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَرِيرٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ( «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (ثُمَّ) بَعْدَ إِنْصَاتِهِمْ (بَسْمَلَا) الْمُسْتَمْلِي أَيْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ يَقُولُهُ، (فَـ) يَلِيهِ (الْحَمْدُ) لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، (فَـ) يَلِيهِ (الصَّلَاةُ) مَعَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ» ) وَفِي رِوَايَةٍ (بِحَمْدِ اللَّهِ) . وَفِي رِوَايَةٍ: (وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ) - (فَهُوَ أَقْطَعُ) . فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الرِّوَايَاتِ وَحَازَ الْأَكْمَلَ فِي فَضِيلَتِهَا. (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمُمْلِي (يَقُولُ) لَهُ: (مَنْ) ذَكَرْتَ مِنَ الشُّيُوخِ (أَوْ مَا ذَكَرْتَ) مِنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَا يَقُولُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ أَوْ مَنْ سَمِعْتَ؟ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِ لَفْظَةٍ يَبْتَدِئُ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (الِاقْتِرَاحِ) : الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ أَوْ مَنْ أَخْبَرَكَ؟ إِنْ لَمْ يُقَدِّمِ الشَّيْخُ ذِكْرَ أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَادَةً لِلسَّلَفِ مُسْتَمِرَّةً فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى. وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَقُولُ: مَنْ ذَكَرْتَ؟ أَوْ مَنْ حَدَّثَكَ؟ . (وَابْتَهَلْ) أَيْ: وَدَعَا الْمُسْتَمْلِي (لَهُ) أَيْ: لِلْمُمْلِي مَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَافِعًا لِصَوْتِهِ: رَحِمَكَ اللَّهُ، أَوْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، أَوْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَيَقُولُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الشَّيْخِ وَعَنْ وَالِدَيْهِ وَعَنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَبَوَيْهِ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 يَمْنَعُ ذَلِكَ، كَمَا اتَّفَقَ لِشَيْخِنَا حَيْثُ قَالَ لِشَيْخِهِ الْبُرْهَانِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ الْآمِدِيِّ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَنْ وَالِدَيْكُمْ. فَقَالَ لَهُ الْبُرْهَانُ: لَا تَقُلْ هَكَذَا. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَلَوْ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ سَيِّدِنَا. جَازَ إِذَا عَرَفَ الْمُمْلِي قَدَرَ نَفْسِهِ. يَعْنِي لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» ) . قَالَ: وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ. يَعْنِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْرَاءِ. قَالَ: وَقَدْ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيِّ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، فَقُلْتُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ فُلَانٍ. فَنَهَانِي عَنْهُ وَقَالَ: قُلْ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْكَ. وَحَرَّمَ شَيْبَتَكَ عَلَى النَّارِ. فَقُلْتُهَا وَهُوَ يَبْكِي. وَجَرَى ذَلِكَ لَآخَرَ فَقَالَ: لَا تُعَظِّمْنِي عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّي. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: نِلْتُ الْقَضَا وَقَضَا الْقُضَاةِ وَالْوَزَارَةِ وَكَذَا وَكَذَا، فَمَا سُرِرْتُ بِشَيْءٍ مِثْلَ قَوْلِ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمَأْمُونِ: مَا أَشْتَهِي مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عِنْدِي، وَيَجِيءَ الْمُسْتَمْلِي فَيَقُولَ: مَنْ ذَكَرْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ قَالَ: قِيلَ لِلْمَنْصُورِ: هَلْ بَقِيَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ لَمْ تَنَلْهُ؟ قَالَ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ ; أَنْ أَقْعُدَ فِي مَصْطَبَةٍ وَحَوْلِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَيَقُولَ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ النُّدَمَاءُ وَأَبْنَاءُ الْوُزَرَاءِ بِالْمَحَابِرِ وَالدَّفَاتِرِ فَقَالَ: لَسْتُمْ هُمْ، إِنَّمَا هُمُ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُتَشَقِّقَةُ أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ. يَرِدُ الْآفَاقَ وَنَقَلَةَ الْحَدِيثِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 قَالَ الْخَطِيبُ: (وَ) إِذَا انْتَهَى. أَيِ الْمُسْتَمْلِي تَبَعًا لِلْمُمْلِي إِلَى ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِسْنَادِ (صَلَّى) يَعْنِي وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مَرَّ فِيهِ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْبَابًا. (وَ) كَذَا إِذَا انْتَهَى إِلَى ذِكْرِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (تَرَضَّى) عَنْهُ بِقَوْلِهِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، حَالَ كَوْنِهِ (رَافِعَا) صَوْتَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ. زَادَ غَيْرُهُ: فَإِنْ كَانَ ذَاكَ الصَّحَابِيُّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابِيَّيْنِ. وَذَكَرَهُمَا كَعَائِشَةَ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَبِقَوْلِهِ: (وَذَكَرَهُمَا) . يَتَأَيَّدُ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَارِئِ مِنْ أَئِمَّةِ شُيُوخِنَا إِذَا مَرَّ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَيْثُ يَقُولُ: وَعَنْ أَبِيهَا وَجَدِّهَا وَأَخِيهَا. لِمَا فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ، لَا سِيَّمَا إِنْ أَوْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي الْمَجْلِسِ بَعْضَ الرَّافِضَةِ مِمَّا الْوَاقِعُ خِلَافُهُ. وَكَذَا يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْقَدِيمَةِ حَتَّى فِي " أَحْمَدَ " وَ " أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. تَارِكًا لِذَلِكَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، بَلْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ أَيْضًا، وَعِنْدِي تَوَقُّفٌ فِي الْمُقْتَضِي لِلتَّخْصِيصِ بِذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ مِمَّنْ بَعْدَ الْمُصَنِّفِينَ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ - يَعْنِي التَّرَضِّيَ - حَدِيثُ جَابِرٍ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، أَعْطَاكَ اللَّهُ الرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ) » . وَحَدِيثُ أَنَسٍ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ غُلَامٌ فَأَخَذَ نَعْلَهُ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرَدْتَ رِضَا رَبِّكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ) قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 فَاسْتُشْهِدَ» . وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، فَقَدْ قَالَ الْقَارِئُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَوْمًا: حَدَّثَكُمُ الشَّافِعِيُّ؟ وَلَمْ يَقُلْ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقَالَ الرَّبِيعُ: وَلَا حَرْفَ حَتَّى يُقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالصَّلَاةُ وَالرِّضْوَانُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّا نَسْتَحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِلصَّحَابِيِّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلِلنَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا. [حُكْمُ ذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِ الشُّيُوخِ] : (وَالشَّيْخُ) الْمُمْلِي (تَرْجَمَ الشُّيُوخَ) الَّذِي رَوَى أَوْ أَفَادَ عَنْهُمْ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِمُ الْجَمِيلَةِ، (وَدَعَا) أَيْضًا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِذْ هُمْ آبَاؤُهُمْ فِي الدِّينِ، وَوُصْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَبِرِّهِمْ وَذِكْرِ مَآثِرِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَشُكْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ: قَلَّ لَيْلَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَدْعُو فِيهَا لِمَنْ كَتَبَ عَنَّا، وَلِمَنْ كَتَبْنَا عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: (سَمِعْتُ خَلِيلِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (وَحَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: (ثَنَا الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ) . وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: (حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ - أَمَّا هُوَ إِلَيَّ فَحَبِيبٌ وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ - عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) . وَقَالَ مَسْرُوقٌ: (حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ ابْنَةُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ عَائِشَةُ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: (حَدَّثَنِي الْبَحْرُ. يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ) . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَكَانَ مِنْ مَعَادِنَ الصِّدْقِ) . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: (ثَنَا أَوْثَقُ النَّاسِ أَيُّوبُ) . وَقَالَ شُعْبَةُ: (حَدَّثَنِي سَيِّدُ الْفُقَهَاءِ أَيُّوبُ) . وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: (حَدَّثَنِي أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) . وَقَالَ وَكِيعٌ: (ثَنَا سُفْيَانُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ: (ثَنَا الثِّقَةُ الصَّدُوقُ الْمَأْمُونُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ) . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ: (ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ شَيْخُنَا وَسَيِّدُنَا) . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: (ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، وَمَا لَقِيتُ أَنْصَحَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْهُ) . وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: (ثَنَا مَنْ لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ) . وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: (ثَنَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ أَجَلُّ شَيْخٍ لَقِيتُهُ. فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ) . وَلْيَحْذَرْ مِنَ التَّجَاوُزِ إِلَى مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّيْخُ، كَأَنَّ يَصِفَهُ بِالْحِفْظِ وَهُوَ غَيْرُ حَافِظٍ ; لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الضِّرَرِ. وَكَذَا يُتَرْجِمُ شُيُوخَهُ بِذِكْرِ أَنْسَابِهِمْ، فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِذَا فَعَلَ الْمُسْتَمْلِي مَا ذَكَرْتُهُ، يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ ذَكَرْتُ. إِلَى آخِرِهِ، قَالَ الرَّاوِي: ثَنَا فُلَانٌ، ثُمَّ نَسَبَ شَيْخَهُ الَّذِي سَمَّاهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِنَسَبِهِ مُنْتَهَاهُ، كَقَوْلِ شَاذَانَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ ثَوْرُ بَنِي تَمِيمٍ، وَثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَرِيكِ بْنِ الْحَارِثِ النَّخَعِيُّ، وَثَنًا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الْهَمْدَانِيُّ ثُمَّ الثَّوْرِيُّ ثَوْرُ هَمْدَانَ، وَثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَبُو بَسْطَامَ مَوْلَى الْأَزْدِ، وَثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْخُرَاسَانِيُّ. قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الشَّيْخِ وَكُنْيَتِهِ أَبْلَغُ فِي إِعْظَامِهِ، وَأَحْسَنُ فِي تَكْرِمَتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 قَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: قَلَّمَا سَمَعِتُ أَحْمَدَ يُسَمِّي ابْنَ مَعِينٍ بِاسْمِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ لِلْعَالِمِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: تَخُصُّهُ بِالتَّحِيَّةِ، وَتَعُمُّهُ بِالسَّلَامِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَلَا تَقُلْ: ثَنَا فُلَانٌ. بَلْ قُلْ: ثَنَا أَبُو فُلَانٍ. وَإِذَا قَرَأَ فَمَلَّ لَا يَضْجَرْ. وَلِلْبُخَارِيِّ فِي (الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ( «لَا تُسَمِّ أَبَاكَ بِاسْمِهِ، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ» ) . وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: الصَّلَاةَ يَا أَبَا عَبْدٍ الرَّحْمَنِ) . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ يَقْضِي. قَالَ الْخَطِيبُ: وَجَمَاعَةٌ يَقْتَصِرُونَ عَلَى اسْمِ الرَّاوِي دُونَ نَسَبِهِ إِذَا كَانَ أَمْرُهُ لَا يُشْكِلُ، وَمَنْزِلَتُهُ مِنَ الْعِلْمِ لَا تُجْهَلُ، كَعَامَّةِ أَصْحَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ حَيْثُ يَرْوُونَ عَنْهُ بِاسْمِهِ فَقَطْ لَا يَنْسُبُونَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ اسْمُهُ مُفْرَدًا عَنْ أَهْلِ طَبَقَتِهِ لِحُصُولِ الْأَمَانِ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ فِي تَسْمِيَتِهِ ; كَقَتَادَةَ وَمِسْعَرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى شُهْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ وَلَا يُسَمِّيهِ، كَابْنِ لَهِيعَةَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. [حُكْمُ ذِكْرِ أَلْقَابِ الرَّاوِي] : (وَ) أَمَّا (ذِكْرُ) رَاوٍ (مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ لَقَبْ) بِحَيْثُ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ (كَغُنْدَرٍ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا نُونٌ، لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَيَأْتِي مَعَ جُمْلَةِ أَلْقَابٍ فِي بَابِهَا، أَوْ مَعْرُوفٍ بِوَصْفٍ لَيْسَ نَقْصًا فِي خِلْقَتِهِ كَالْحُمْرَةِ وَالزُّرْقَةِ وَالشُّقْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالطُّولِ. (أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ) كَالْإِقْعَادِ لِأَبِي مَعْمَرٍ، وَالْحَوَلِ لِعَاصِمٍ، وَالشَّلَلِ لِمَنْصُورٍ، وَالْعَرَجِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، وَالْعَمَى لِأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَالْعَمَشِ لَسُلَيْمَانَ، وَالْعَوَرِ لِهَارُونَ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 مُوسَى، وَالْقِصَرِ لَعِمْرَانَ. (أَوْ نَسَبْ لِأُمِّهِ) كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَابْنِ بُحَيْنَةَ، وَالْحَارِثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ، وَيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ، وَإِسْمَاعِيلِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِيمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. (فَجَائِزٌ) فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ، (مَا لَمْ يَكُنْ) فِي اللَّقَبِ إِطْرَاءٌ مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْصُوفُ بِهِ (يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ، وَعُلَيٍّ - بِالتَّصْغِيرِ - بْنِ رَبَاحٍ، وَابْنِهِ مُوسَى، وَمَسْلَمَةَ بْنِ عُلَيٍّ، وَابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَخَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ القَطَوَانِيِّ، فَالْقَطَوَانِيِّ لَقَبُهُ، وَكَانَ أَيْضًا يَغْضَبُ مِنْهَا، وَزِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ الْبَغْدَادِيِّ دَلَّوَيْهِ، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ سَمَّانِي دَلَّوَيَهِ لَا أَجْعَلُهُ فِي حِلٍّ. وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: الْأَصَمُّ. وَجُوزِيٍّ، وَهُوَ لَقَبٌ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْأصْبَهَانِيِّ صَاحِبِ (التَّرْغِيبِ) ، وَكَانَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يَكْرَهُهُ، وَغَيْرِهِمْ (فَصُنْ) حِينَئِذٍ نَفْسَكَ عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ وَالرَّاوِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 عَنْ وَصْفِهِ بِذَلِكَ، إِذْ هُوَ حَرَامٌ حَسْبَمَا اسْتَثْنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مُتَمَسِّكًا بِنَهْيِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لابْنَ مَعِينٍ أَنْ يَقُولَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ. وَقَالَ لَهُ: قُلْ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أُمِّهِ. وَلَمْ يُخَالِفْهُ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ، بَلْ قَالَ: قَبِلْنَاهُ مِنْكَ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ. وَقَدْ أَقَرَّ النَّاظِمَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَلْقَابِ، وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا اللُّزُومِ. انْتَهَى. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: فَهُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ. قُلْتُ: فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ تَوَاضُعًا لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّزْكِيَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَسْتُ أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ لَقَّبَنِي مُحْيِيَ الدِّينِ. فَالْأُولَى تَجَنُّبُهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ: ( «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ» ؟) . وَلِذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) بِقَوْلِهِ: مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ، أَيْ بِأَوْصَافِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِمُ: الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَمَا لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» ) . فَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْصِيلِ كَالْجُمْهُورِ. وَشَذَّ قَوْمٌ فَشَدَّدُوا، حَتَّى نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا: حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ. غِيبَةً. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّحَ بِذَلِكَ حَيْثُ ذَكَرَ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ لِلْبَيَانِ وَالتَّمْيِيزِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّنْقِيصِ لَمْ يَجُزْ. قَالَ: وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا أَنَّهَا قَصِيرَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اغْتَبْتِيهَا) . وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 تَفْعَلْ ذَلِكَ بَيَانًا، وَإِنَّمَا قَصَدَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ صِفَتِهَا فَكَانَ كَالِاغْتِيَابِ. وَمِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] . وَكَانَ نُزُولُهَا حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَلِلرَّجُلِ مِنْهُمُ اللَّقَبُ وَاللَّقَبَانِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ التَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرِهِ فَذَاكَ فِيمَنْ عُرِفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا حَيْثُ لَمْ يُعْرَفْ بِغَيْرِهِ فَلَا. وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِهِ. ثُمَّ قَالَ: الْأَعْمَشُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا. فَسَهَّلَ فِي مِثْلِ هَذَا إِذَا شُهِرَ بِهِ. وَمَا أَحْسَنَ صَنِيعَ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ كَانَ يَقُولُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ عُلَيَّةَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ إِسْحَاقَ الصِّبْغِيُّ إِذَا رَوَى عَنْ شَيْخِهِ الْأَصَمِّ يَقُولُ فِيهِ: الْمَعْقِلِيُّ نِسْبَةً لِجَدِّهِ مَعْقِلٍ. وَلَا يَقُولُ: الْأَصَمُّ. لِكَرَاهَتِهِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ إِنْ وَجَدَ طَرِيقًا إِلَى الْعُدُولِ عَنِ الْوَصْفِ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ فَهُوَ أَوْلَى. [الْأَخْذُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتَقْدِيمُ أَوْلَاهُمْ] : (وَارْوِ فِي الْإِمْلَا) بِالنَّقْلِ وَالْقَصْرِ، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ (عَنْ شُيُوخٍ) مِمَّنْ أَخَذْتَ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، كَمَا هِيَ عِبَارَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الْخَطِيبِ، وَلَا تَقْتَصِرْ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ، إِذِ التَّعَدُّدُ أَكْثَرُ فَائِدَةً. وَأَسْنَدَ الْخَطِيبُ عَنْ مَطَرٍ قَالَ: الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَرْوِي عَنْ عَالِمٍ وَاحِدٍ كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَاضَتْ بَقِيَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي لَهُ شَيْخٌ وَاحِدٌ رُبَّمَا احْتَاجَ مِنَ الْحَدِيثِ لِمَا لَا يَجِدُهُ عِنْدَ شَيْخِهِ فَيَصِيرُ حَائِرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ يَتَّفِقُ تَوَقَانُهُ إِلَى النِّكَاحِ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَيَصِيرُ حَائِرًا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى أَوْ أَمَةٌ، حَصَلَ الْغَرَضُ. وَفِي (مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِينَ) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (وَجَدْتُ صَاحِبَ الْوَاحِدَةِ إِنْ زَارَتْ زَارَ، وَإِنْ حَاضَتْ حَاضَ، وَإِنْ نَفِسَتْ نَفِسَ، وَكُلَّمَا اعْتَلَّتِ اعْتَلَّ مَعَهَا بِانْتِظَارِهِ لَهَا (. ثُمَّ ذَكَرَ صَاحِبَ الثِّنْتَيْنِ وَصَاحِبَ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَ (قَدِّمِ) مِنَ الشُّيُوخِ (أَوْلَاهُمْ) فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، يَعْنِي عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي مُطْلَقِ الْعُلُوِّ. زَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ: أَوْ فِي غَيْرِهِ، يَعْنِي إِنِ اتَّحَدَ الْعُلُوُّ كَالْأَحْفَظِ وَالْأَسَنِّ وَالنَّسِيبِ، وَلَا تَرْوِ عَنْ كَذَّابٍ وَلَا مُتَظَاهِرٍ بِبِدْعَةٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِفِسْقٍ، بَلِ انْتَقِ لِلرِّوَايَةِ ثِقَاتِ شُيُوخِكَ مِمَّنْ حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَعَلَا سَنَدُهُ. كَمَا سَيَأْتِي. [انْتِقَاءُ الْمَرْوِيِّ وَفَهْمُ الْفَائِدَةِ فِيهِ] : (وَانْتَقِهِ) أَيِ الْمَرْوِيَّ أَيْضًا بِحَيْثُ يَكُونُ أَبْلَغَ نَفْعًا، وَأَعَمَّ فَائِدَةً، وَأَنْفَعَهُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - الْأَحَادِيثُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي تُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; كَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ، فَفِي حَدِيثٍ: ( «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ» ) . قَالَ الْخَطِيبُ: وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا إِمْلَاءُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُصُولِ الْمَعَارِفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وَالدِّيَانَاتِ، وَأَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَمَا يَحُثُّ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ. زَادَ غَيْرُهُ: وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، بَلِ الْأَنْسَبُ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِجُمْهُورِ النَّاسِ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ وَنَحْوَهَا، وَلِلْمُتَفَقِّهَةِ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ. (وَأَفْهِمِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، السَّامِعِينَ (مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ) فِي مَتْنِهِ أَوْ سَنَدِهِ ; مِنْ بَيَانٍ لِمُجْمَلٍ أَوْ غَرَابَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَأَظْهِرْ غَامِضَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرَ الْغَرِيبِ، وَتَحَرِّ إِيضَاحَ ذَلِكَ وَبَيَانَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَكَتَبْتُ بِجَنْبِ كُلِّ حَدِيثٍ تَفْسِيرَهُ. وَعَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سَمَاعِهِ. وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ: ( «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» ) مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ. وَسَأَلَ رَجُلٌ مَطَرًا عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، إِنَّمَا أَنَا زَامِلَةٌ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: جَزَاكَ اللَّهُ مِنْ زَامِلَةٍ خَيْرًا، فَإِنَّ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ حُلْوٍ وَحَامِضٍ. وَسُئِلَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثٍ، فَقَالَ: لَيْتَنَا نَقْدِرُ أَنْ نُحَدِّثَ كَمَا سَمِعْنَا، فَكَيْفَ نُفَسِّرُ؟ ! قَالَ الْخَطِيبُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى فَضْلِ مَا يَرْوِيهِ، وَيُبَيِّنَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْحُفَّاظُ مِنْ أَمْثَالِهِ وَذَوِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ كَتَبَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ الْمُبَرَّزِينَ، أَوْ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، نَبَّهَ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عَالِيًا عُلُوًّا مُتَفَاوِتًا أَرْشَدَ بِوَصْفِهِ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَصْفَ بِالْعُلُوِّ الْمُتَفَاوِتِ ; لِأَنَّ الْمَفْهُومَ عِنْدَ إِطْلَاقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 الْعُلُوِّ شُمُولُ أَقَلِّ دَرَجَاتِهِ، وَبِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ تَمْيِيزُ الْمُتَنَاهِي. قَالَ: وَكَذَا إِذَا كَانَ رَاوِيهِ غَايَةً فِي الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا، أَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مِنْ عُيُونِ السُّنَنِ وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَصَفَهُ بِذَلِكَ، وَيُعَيِّنُ تَارِيخَ السَّمَاعِ الْقَدِيمِ، وَتَفَرُّدَهُ بِذَاكَ الْحَدِيثِ، وَكَوْنَهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا عِنْدَهُ، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ مَعْلُولًا بَيَّنَ عِلَّتَهُ، أَوْ فِي إِسْنَادِهِ اسْمٌ يُشَاكِلُ غَيْرَهُ فِي الصُّورَةِ، ضَبَطَهُ بِالْحُرُوفِ لِيَزُولَ الْإِلْبَاسُ. (وَلَا تَزِدْ عَنْ كُلِّ شَيْخٍ) مِنْ شُيُوخِكَ (فَوْقَ مَتْنٍ) وَاحِدٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ لِلْفَائِدَةِ وَأَكْثَرُ لِلْمَنْفَعَةِ. [اعْتِمَادُ عَالِي الْإِسْنَادِ وَاجْتِنَابُ الْمُشْكِلُ] : (وَاعْتَمِدْ) فِيمَا تَرْوِيهِ (عَالِيَ إِسْنَادٍ) لِمَا فِي الْعُلُوِّ مِنَ الْفَضْلِ، وَكَذَا اعْتَمِدْ (قَصِيرَ مَتْنٍ) لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، يَعْنِي بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَحْكَامِ وَنَحْوِهَا، حَتَّى قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: الْأَحَادِيثُ الْقِصَارُ هِيَ اللُّؤْلُؤُ. بِخِلَافِ الطَّوِيلِ غَالِبًا. وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ: ( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوِ السِّقَاءِ، وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ» ) . إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيُنْزِلَ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مَنْزِلَةَ حَدِيثٍ وَاحِدٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: وَظِيفَتُنَا مِائَةٌ لِلْغَرِيبِ ... فِي كُلِّ يَوْمٍ سِوَى مَا يُعَادُ شَرِيكِيَّةٌ أَوْ هُشَيْمِيَّةٌ ... أَحَادِيثُ فِقْهٍ قِصَارٌ جِيَادُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِ انْفَرَدَ بِشَرِيكٍ وَهُشَيْمٍ. (وَاجْتَنِبِ) فِي إِمْلَاءِكَ (الْمُشْكِلَ) مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الْعَوَامِّ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ وَإِثْبَاتَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ لِلْأَزَلِيِّ الْقَدِيمِ (1) ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ فِي نَفْسِهَا صِحَاحًا، وَلَهَا فِي التَّأْوِيلِ طُرُقٌ وَوُجُوهٌ، إِلَّا أَنَّ مِنْ حَقِّهَا أَلَّا تُرْوَى إِلَّا لِأَهْلِهَا. (خَوْفَ الْفَتْنِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ مَصْدَرُ: فَتَنَ، أَيِ ; الِافْتِتَانِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّهُ لِجَهْلِ مَعَانِيهَا يَحْمِلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَوْ يَسْتَنْكِرُهَا فَيَرُدُّهَا وَيُكَذِّبُ رُوَاتِهَا وَنَقَلَتَهَا. وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ) . وَقَوْلُ عَلِيٍّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟) . وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَبْلُغُ عَقْلُهُ فَهْمَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِتْنَةً) . وَقَوْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: (لَا تُحَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ فَتَضُرُّوهُمْ) . وَقَوْلُ مَالِكٍ: (شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفُ الْمُسْتَقِيمُ) . وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: (إِنَّ مِمَّا رَأَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ الصُّدُوفَ عَنْ رِوَايَتِهِ لِلْعَوَامِّ أَوْلَى أَحَادِيثِ الرُّخَصِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا دُونَ الْأُصُولِ، كَحَدِيثِ الرُّخْصَةِ فِي النَّبِيذِ) . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِطْرَاحَ أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاجِبٌ، وَالصُّدُوفَ عَنْهُ لَازِمٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وَأَمَّا مَا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ، فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَجُوزُ، وَنَقْلَهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ: ( «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» ) أَيْ لَا بَأْسَ أَنْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ بِمَا سَمِعْتُمْ، وَإِنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ ثِيَابَهُمْ تَطُولُ، وَالنَّارُ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُ الْقُرْبَانَ. انْتَهَى. لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: (وَلَا حَرَجَ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيْ: حَدِّثُوا عَنْهُمْ حَالَ كَوْنِهِ لَا حَرَجَ فِي التَّحْدِيثِ عَنْهُمْ بِمَا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: وَعَنْ صَحَابَتِهِ وَالْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ ; فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَجُوزُ، انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِي (الْأَصْلِ الْأصَيْلِ فِي تَحْرِيمِ النَّقْلِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) . وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: وَلْيَجْتَنِبْ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيُمْسِكْ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَ فِيهِمْ ; لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ فِي (الْقَوْلِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ) ، رَفَعَهُ: (إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا) . وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ. وَقَدْ قَالَ زَيْدٌ الْعَمِّيُّ: أَدْرَكْتُ أَرْبَعِينَ شَيْخًا مِنَ التَّابِعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُونَا عَنِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ أَحَبَّ جَمِيعَ أَصْحَابِي وَتَوَلَّاهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 جَعَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ» ) . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيُحْدِثُونَ مَا أَحْدَثُوا. وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَا أَدْرَكْتُ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضِهِمُ: اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِتَأْتَلِفَ عَلَيْهَا الْقُلُوبُ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ لِلْمُمْلِي مَا تَقَرَّرَ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا ; حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِكِتَابٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ، كَمَا فَعَلَ النَّاظِمُ فِي تَخْرِيجِ (الْمُسْتَدْرَكِ) وَ (أَمَالِي الرَّافِعِيِّ) ، وَشَيْخُنَا فِي تَخْرِيجِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَ (الْأَذْكَارِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - تَابِعٌ لِأَصْلِهِ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْهَضُ لَهُ إِلَّا مَنْ قَوِيَتْ فِي الْعِلْمِ بَرَاعَتُهُ، وَاتَّسَعَتْ رِوَايَتُهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [خَتْمُ مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ بِالْحِكَايَاتِ وَالنَّوَادِرِ] : (وَاسْتُحْسِنَ) لِلْمُمْلِي (الْإِنْشَادُ) الْمُبَاحُ الْمُرَقَّقُ (فِي الْأَوَاخِرِ) مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ (بَعْدَ الْحِكَايَاتِ) اللَّطِيفَةِ (مَعَ النَّوَادِرِ) الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِمَا أَمْلَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَحْسَنُ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ، فَعَادَةُ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يُنْشِدُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ نَظْمِهِ، وَكَذَا النَّاظِمُ، وَرُبَّمَا فَعَلَهُ شَيْخُنَا. وَقَدْ بَوَّبَ لَهُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ، وَسَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قُرِئَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنٌ، وَأُنْشِدَ شِعْرٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُرْآنٌ وَشِعْرٌ فِي مَجْلِسِكَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) » . وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ يُنْشِدُهُ الشِّعْرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْقُرْآنُ أَوِ الشِّعْرُ؟ ! فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرَةَ، هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً) » . وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: (رَوِّحُوا الْقُلُوبَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 وَابْتَغُوا لَهَا طَرَفَ الْحِكْمَةِ) . وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: هَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكِمْ، هَاتُوا مِنْ حَدِيثِكُمْ ; فَإِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَةٌ، وَالْقَلْبُ حَمْضٌ. وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قَالَ: آخِرُ مَجْلِسٍ جَالَسْنَا فِيهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَنَاشَدْنَا فِيهِ الشِّعْرَ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ حَدَّثَ بِأحَادِيثَ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: خُذُوا فِي أَبْزَارِ الْجَنَّةِ، فَحَدَّثَنَا بِالْحِكَايَاتِ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: الْحِكَايَاتُ تُحَفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَسَاقَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْقُلُوبُ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ، فَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَفَاضَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ قَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: أَحْمِضُوا بِنَا، أَيْ: خُوضُوا فِي الشِّعْرِ وَالْأَخْبَارِ. [اسْتِعَانَةُ الْقَاصِرِ بِبَعْضِ الْحُفَّاظِ وَالْآدَابِ الْأُخْرَى] : ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِفِ غَيْرِ الْعَاجِزِ، (وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ) الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَاخْتِلَافِ وُجُوهِهِ وَطُرُقِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِهِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ التَّخْرِيجِ وَالتَّفْتِيشِ ; إِمَّا لِكِبَرِ سِنٍّ وَضَعْفِ بَدَنٍ كَمَا اتَّفَقَ لِلنَّاظِمِ فِي إِمْلَاءِهِ بِآخِرِهِ لِذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا خَرَّجَهُ لَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِمَّا لِطُرُوِّ عَمًى وَنَحْوِهِ، (مُتْقِنُ) مِنْ حُفَّاظِ وَقْتِهِمْ (مَجَالِسَ الْإِمْلَاءِ) الَّتِي يُرِيدُونَ إِمْلَاءَهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَلْحَقُ بِهَا. إِمَّا بِسُؤَالٍ مِنْهُمْ لَهُ أَوِ ابْتِدَاءً، (فَهْوَ حَسَنُ) ، بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاصِرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِبَعْضِ حُفَّاظِ وَقْتِهِ، فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِنَا كَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ بِشْرَانَ، وَالْقَاضِي أَبِي عُمَرَ الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ السَّرَّاجِ وَغَيْرِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 يَسْتَعِينُونَ بِمَنْ يُخَرِّجُ لَهُمْ. (وَلَيْسَ بِالْإِمْلَاءِ حِينَ يَكْمُلُ غِنًى عَنِ الْعَرْضِ) وَالْمُقَابَلَةِ (لِـ) إِصْلَاحِ (زَيْغٍ) ، أَوْ طُغْيَانِ قَلَمٍ (يَحْصُلُ) ; يَعْنِي: فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَاجِبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهَا حِكَايَةً عَنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ ; إِذْ لَا فَرْقَ، وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي الْقَوْلُ بِجَوَازِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْفَرْعِ غَيْرِ الْمُقَابَلِ لِلشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمَةِ، بَلْ كَانَ شَيْخُنَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ الْإِمْلَاءَ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ هَمَّ أَنْ يَجْعَلَ بِكُلِّ جَانِبٍ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ بِالْفَنِّ إِلْمَامٌ فِي الْجُمْلَةِ ; لِيَخْتَبِرَ كِتَابَتَهُمْ وَيُرَاجِعُونَهُ، فَمَا تَيَسَّرَ. وَالتَّبْكِيرُ بِالْمَجْلِسِ أَوْلَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الشِّتَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَصْبِرَ سَاعَةً حَتَّى يَرْتَفِعَ النَّهَارُ. وَاسْتُحِبَّ لِلطَّالِبِ السَّبْقُ بِالْمَجِيءِ ; لِئَلَّا يَفُوتَهُ شَيْءٌ، فَتَشُقُّ إِعَادَتُهُ، فَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - بِكَرَاهَةِ تَكْرِيرِ مَاضِيهِ، وَاسْتِثْقَالِ الْإِعَادَةِ لِفَائِتِهِ وَمُنْقَضِيهِ، حَتَّى قَالَ الثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُمَا: مَنْ غَابَ خَابَ، وَأَكَلَ نَصِيبَهُ الْأَصْحَابُ، وَلَمْ نُعِدْ لَهُ حَدِيثًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: نَقْلُ الصَّخْرِ أَهْوَنُ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ يُخَاطِبُ ثَقِيلًا مِنْ أَبْيَاتٍ: خَلٍ عَنَّا فَإِنَّمَا أَنْتَ فِينَا ... وَاوُ عَمْرٍو وَكَالْحَدِيثِ الْمُعَادِ وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشَّيْخِ وَقْتَ الِانْصِرَافِ، فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ: وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً ... إِذَا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَلٍ وَلِذَا كَانَ خَلْقٌ يَبِيتُونَ لَيْلَةَ الْإِمْلَاءِ عَلَى ابْنِ الْمَدِينِيِّ بِمَحَلِّ جُلُوسِهِ ; حِرْصًا عَلَى السَّمَاعِ، وَتَخَوُّفًا مِنَ الْفَوَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 [آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ] [تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ] (713) وَأَخْلِصِ النِّيَّةَ فِي طَلَبِكَا ... وَجِدَّ وَابْدَأْ بِعَوَالِي مِصْرِكَا (714) وَمَا يُهِمُّ ثُمَّ شُدَّ الرَّحْلَا ... لِغَيْرِهِ وَلَا تَسَاهَلْ حَمْلًا (715) وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ ... وَالشَّيْخَ بَجِّلْهُ وَلَا تَثَاقَلِ (716) عَلَيْهِ تَطْوِيلًا بِحَيْثُ يَضْجَرُ ... وَلَا تَكُنْ يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ (717) أَوِ الْحَيَا عَنْ طَلَبٍ وَاجْتَنِبِ ... كَتْمَ السَّمَاعِ فَهْوَ لُؤْمٌ وَاكْتُبِ (718) مَا تَسْتَفِيدُ عَالِيًا وَنَازِلًا ... لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ صِيتًا عَاطِلًا (719) وَمَنْ يَقُلْ إِذَا كَتَبْتَ قَمِّشْ ... ثُمَّ إِذَا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشْ (720) فَلَيْسَ مِنْ ذَا وَالْكِتَابَ تَمِّمِ ... سَمَاعَهُ لَا تَنْتَخِبْهُ تَنْدَمِ (721) وَإِنْ يَضِقْ حَالٌ عَنِ اسْتِيعَابِهِ ... لِعَارِفٍ أَجَادَ فِي انْتِخَابِهِ (722) أَوْ قَصُرَ اسْتَعَانَ ذَا حِفْظٍ فَقَدْ ... كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ لَهُ يُعِدْ (723) وَعَلَّمُوا فِي الْأَصْلِ إِمَّا خَطَّا ... أَوْ هَمْزَتَيْنِ أَوْ بِصَادٍ أَوْ طَا (724) وَلَا تَكُنْ مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا ... وَكَتْبَهُ مِنْ دُونِ فَهْمٍ نَفَعَا [تَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَتَحْقِيقُ الْإِخْلَاصِ] : (آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ) سِوَى مَا تَقَدَّمَ: (وَأَخْلِصِ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (النِّيَّةَ) لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (فِي طَلَبِكَا) لِلْحَدِيثِ، فَالنَّفْعُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِخْلَاصِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالضَّرْبِ صَفْحًا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ ; لِتَسْلَمَ مِنْ غَوَائِلَ الْأَمْرَاضِ، وَدَسَائِسَ الْأَعْوَاضِ كَمَا سَلَفَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مَعَ كَثِيرٍ مِمَّا سَيَأْتِي هُنَا. وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ تَزْدَادُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 عِلْمًا وَشَرَفًا فِي الدَّارَيْنِ، وَاتَّقِ الْمُفَاخَرَةَ فِيهِ، وَالْمُبَاهَاةَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُكَ مِنْ طَلَبِكَ نَيْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْوَظَائِفِ، وَاتِّخَاذَ الْأَتْبَاعِ، وَعَقْدَ الْمَجَالِسِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: مَنْ طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِلَّهِ شَرُفَ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لِلَّهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ - أَيْ: رِيحَهَا - يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنَ الْغَوْغَاءُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ يَتَأَكَّلُونَ بِهِ النَّاسَ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَكَرَ بِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عَاصِمٍ: مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْحَدِيثِ اسْتَخَفَّ بِهِ الْحَدِيثُ. وَفَسَّرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ بِطَلَبِهِ لِلْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، لَا لِلْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْشَى أَنَّ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِهِ. وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: إِنَّمَا يَحْسُنُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَطْلُبُ الْمُخْبِرَ بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهُ لِيُزَيِّنَ بِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْخَلْقِ ; فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ بُعْدًا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَسَأَلَ أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ أَبَا عَمْرٍو بْنَ حَمْدَانَ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ: بِأَيِ نِيَّةٍ أَكْتُبُ الْحَدِيثَ؟ قَالَ: أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ؟ . قَالَ: نَعَمْ،. قَالَ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ الصَّالِحِينَ. فَإِذَا حَضَرَتْكَ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَعَزَمْتَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ، وَلَا تَحْدِيدَ لِذَلِكَ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، بَلِ الْمُعْتَمَدُ الْفَهْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي (مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ؟) فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ الْمَسْأَلَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَكَ فِيهِ، وَيُعِينَكَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ، ثُمَّ بَادِرْ إِلَى السَّمَاعِ، (وَجِدَّ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، فِي الطَّلَبِ، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، فَمَنْ جَدَّ وَجَدَ، وَالْعِلْمُ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: لَا يُسْتَطَاعُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ» ) ، وَقَالَ أَيْضًا: ( «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وَمِنْ أَبْلَغِ مَا يُحْكَى عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ سَلَمَةَ بْنَ شَبِيبٍ: كُنَّا عِنْدَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ صَبِيٌّ تَحْتَ أَقْدَامِ الرِّجَالِ، فَقَالَ يَزِيدُ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَانْظُرُوا مَا حَالُ الصَّبِيِّ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَتْ حَدَقَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَبَا خَالِدٍ، زِدْنَا، فَقَالَ يَزِيدُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَدْ نَزَلَ بِهَذَا الْغُلَامِ مَا نَزَلَ وَهُوَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ. وَامْتَهِنْ نَفْسَكَ بِالتَّقَنُّعِ وَخُشُونَةِ الْعَيْشِ وَالتَّوَاضُعِ ; فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ بِالتَّمَلُّكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيُفْلِحَ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ وَالتَّوَاضُعِ أَفْلَحَ. [اخْتِيَارُ الشُّيُوخِ وَالرِّحْلَةِ لِلْحَدِيثِ] : (وَابْدَأْ بِـ) أَخْذِ (عَوَالِي) شُيُوخِ (مِصْرِكَا) ، وَلَا تَنْفَكَّ عَنْ مُلَازَمَتِهِمْ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهَا، (وَ) ابْدَأْ مِنْهَا بِـ (مَا يُهِمُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ ; كَالْمَرْوِيِّ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ - كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ - بِغَيْرِ الْمُهِمِّ أَضَرَّ بِالْمُهِمِّ. وَإِنِ اسْتَوَى جَمَاعَةٌ فِي السَّنَدِ وَأَرَدْتَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالْأَوْلَى أَنْ تَتَخَيَّرَ الْمَشْهُورَ مِنْهُمْ بِالطَّلَبِ، وَالْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْإِتْقَانِ فِيهِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَتَخَيَّرَ الْأَشْرَافَ وَذَوِي الْأَنْسَابِ مِنْهُمْ ; لِحَدِيثِ: ( «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 تَقَدَّمُوهَا» ) ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي ذَلِكَ فَالْأَسَنُّ ; لِحَدِيثِ: ( «كَبِّرْ كَبِّرْ» ) . (ثُمَّ) بَعْدَ اسْتِيفَائِكَ أَخْذَ مَا بِبَلَدِكَ مِنَ الْمَرْوِيِّ، وَتَمَهُّرِكَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَاسْتِيعَابِكَ بِاقِيَ الشُّيُوخِ مِمَّنْ قَنِعْتَ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَرْوِيِّ بِغَيْرِهِمْ بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ لِمَا قَلَّ، بِحَيْثُ لَا يَفُوتُكَ مِنْ كُلٍّ مِنْ مَرْوِيِّهَا وَشُيُوخِهَا أَحَدٌ، وَأَخْذِ الْفَنِّ عَنِ الْحَافِظِ الْعَارِفِ بِهِ مِنْهُمْ، (شُدَّ الرَّحْلَا) ، أَوِ ارْكَبِ الْبَحْرَ حَيْثُ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ فِيهِ، أَوِ امْشِ حَيْثُ اسْتَطَعْتَ بِلَا مَزِيدِ مَشَقَّةٍ، (لِغَيْرِهِ) ; أَيْ: لِغَيْرِ مِصْرِكَ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى ; لِتَجْمَعَ بَيْنَ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْنَادَيْنِ، وَعِلْمِ الطَّائِفَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَكُلُّ صَاحِبِ عِلْمٍ غَرْثَانُ» ) . وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: مَنْ قَنِعَ بِمَا عِنْدَهُ لَمْ يَعْرِفْ سَعَةَ الْعِلْمِ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا تُؤْنِسُ مِنْهُمْ رُشْدًا، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلٌ يَكْتُبُ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَرْحَلُ. وَسَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَبَاهُ: هَلْ تَرَى لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَلْزَمَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ فَيَكْتُبَ عَنْهُ، أَوْ يَرْحَلَ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعِلْمُ فَيَسْمَعَ فِيهَا؟ قَالَ: يَرْحَلُ فَيَكْتُبُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، يُشَامُّ النَّاسَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ أَيْضًا: أَيَرْحَلُ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ شَدِيدًا، لَقَدْ كَانَ عَلْقَمَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وَالْأَسْوَدُ يَبْلُغُهُمَا الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ فَلَا يُقْنِعُهُمَا حَتَّى يَخْرُجَا إِلَيْهِ فَيَسْمَعَانِهِ مِنْهُ. وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ مُتَأَكَّدٌ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ ثَمَّ مِنَ الْمَرْوِيِّ مَا لَيْسَ بِبَلَدِكَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ. بَلْ قَدْ يَجِبُ إِذَا كَانَ فِي وَاجِبِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتِمِّ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهِ، فَالْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْمَقَاصِدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ذَلِكَ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ هَذَا الشَّأْنِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ ; فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ) . وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اتَّخِذْ نَعْلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ، وَعَصًى مِنْ حَدِيدٍ، وَاطْلُبِ الْعِلْمَ حَتَّى تَنْكَسِرَ الْعَصَى وَتَنْخَرِقَ النَّعْلَانِ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: وَاللَّهِ لَوْ رَحَلْتُمْ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ لَكَانَ قَلِيلًا. وَقِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي لِقَاءِ الْخَضِرِ، بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 مِنْ شَوَاهِدِهِ. وَكَفَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» ) تَرْغِيبًا فِي ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: السَّائِحُونَ، قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْبَلَاءَ بِرِحْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ: رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِرِحْلَتِي فِي الْحَدِيثِ. إِلَى غَيْرِ هَذَا بِمَا أَوْدَعَهُ الْخَطِيبُ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي ذَلِكَ قَدْ قَرَأْتُهُ. وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا رَحَلَ غَيْرُهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، مَا لِي حَاجَةٌ إِلَّا رَجُلٌ عِنْدَهُ حَدِيثٌ يَقْدَمُ فَأَسْمَعُهُ مِنْهُ. وَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 الشَّعْبِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ: كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُنَّا نَسْمَعُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ. وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَعْتَنُونَ بِالرِّحْلَةِ. وَالْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي (الْفَاصِلِ) عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ فِي عَدَمِ جَوَازِهَا شَاذٌّ مَهْجُورٌ. وَقَدِ اقْتَفَيْتُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ كَالْوَاجِبَةِ، وَهُوَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَدْرَكْتُ فِي الرِّحْلَةِ بَقَايَا مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ، وَمَا بَقِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ سِنِينَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ بِيَقِينٍ. وَحَيْثُ وُجِدَ وَرَحَلْتَ فَبَادِرْ فِيهَا لِلِقَاءِ مَنْ يُخْشَى فَوْتُهُ، وَلَا تَتَوَانَ فَتَنْدَمَ كَمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي مَوْتِ بَعْضِ مَنْ قَصَدُوهُ بِالرِّحْلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى بَلَدِهِ، وَاقْتَدِ بِالْحَافِظِ السِّلَفِيِّ الْأَصْفَهَانِيِّ ; فَإِنَّهُ سَاعَةَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُضِيَّ لِأَبِي الْخَطَّابِ ابْنِ الْبَطِرِ، هَذَا مَعَ عِلَّتِهِ بِدَمَامِيلَ كَانَتْ فِي مَقْعَدَتِهِ مِنَ الرُّكُوبِ، بِحَيْثُ صَارَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ ; لِلْخَوْفِ مِنْ فَقْدِهِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ الْمَرْحُولَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ فِي الْإِسْنَادِ. وَلَمَّا رَحَلَ شَيْخُنَا إِلَى الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ قَصَدَ الِابْتِدَاءَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ; لِيَأْخُذَ عَنِ ابْنِ الْحَافِظِ الْعَلَائِيِّ سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ ; لِكَوْنِهِ سَمِعَهُ عَلَى الْحَجَّارِ، فَبَلَغَهُ - وَهُوَ بِالرَّمْلَةِ - مَوْتُهُ، فَعَرَجَ عَنْهُ إِلَى دِمِشْقَ ; لِكَوْنِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 بَعْدَ فَوَاتِهِ أَهَمَّ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ حَدِيثًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَبْدٌ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَوَّلَ مَا جَلَسَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ثَنَا بِهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مِنْ كِتَابِكَ، فَقُمْتُ لِأُخْرِجَ كِتَابِي، فَقَبَضَ عَلَى ثَوْبِي ثُمَّ قَالَ: أَمْلِهِ عَلَيَّ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَلْقَاكَ، قَالَ: فَأَمْلَيْتُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْرَجْتُ كِتَابِي فَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ. وَاحْذَرْ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُبَادَرَةِ بِحَيْثُ تَرْتَكِبُ مَا لَا يَجُوزُ، فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَافَى الْبَصْرَةَ لِيَسْمَعَ مِنْ شُعْبَةَ وَيُكْثِرَ عَنْهُ، فَصَادَفَ الْمَجْلِسَ قَدِ انْقَضَى، وَانْصَرَفَ شُعْبَةُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَادَرَ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهِ فَوَجَدَ الْبَابَ مَفْتُوحًا، فَحَمَلَهُ الشَّرَهُ عَلَى أَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرَآهُ جَالِسًا عَلَى الْبَالُوعَةِ يَبُولُ، فَقَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، رَجُلٌ غَرِيبٌ قَدِمْتُ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ تُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَعْظَمَ شُعْبَةُ هَذَا، وَقَالَ: يَا هَذَا دَخَلْتَ مَنْزِلِي بِغَيْرِ إِذْنِي، وَتُكَلِّمُنِي وَأَنَا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، تَأَخَّرْ عَنِّي حَتَّى أُصْلِحَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَفْعَلْ وَاسْتَمَرَّ فِي الْإِلْحَاحِ، وَشُعْبَةُ مُمْسِكٌ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ لِيَسْتَبْرِئَ، فَلَمْا أَكْثَرَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ: ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» ) ، ثُمَّ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِغَيْرِهِ، وَلَا حَدَّثْتُ قَوْمًا تَكُونُ فِيهِمْ، انْتَهَى. وَاسْلُكْ مَا سَلَكْتَهُ فِي بَلَدِكَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَلَا تَكُنْ كَمَنْ رَحَلَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ فَقَرَأَ بِهَا عَلَى مُسْنِدِ الْوَقْتِ الْعِزِّ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي انْفَرَدَ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ غَيْرُهُ (الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ) لِلْبُخَارِيِّ بِإِجَازَتِهِ مِنَ الْعِزِّ بْنِ جُمَاعَةَ لِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِيهِ الْبَدْرِ، مَعَ كَوْنِ فِي مُسْنَدَيِ الْقَاهِرَةِ مَنْ سَمِعَهُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ عَلَى الْبَدْرِ، بَلْ وَكَذَا فِي بَلَدِهِ الَّتِي رَحَلَ مِنْهَا. وَلَا يَتَشَاغَلْ فِي الْغُرْبَةِ إِلَّا بِمَا تَحِقُّ الرِّحْلَةُ لِأَجْلِهِ، فَشَهْوَةُ السَّمَاعِ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - لَا تَنْتَهِي، وَالنَّهْمَةُ مِنَ الطَّلَبِ لَا تَنْقَضِي، وَالْعِلْمُ كَالْبِحَارِ الْمُتَعَذَّرِ كَيْلُهَا، وَالْمَعَادِنِ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَيْلُهَا. كُلُّ ذَلِكَ مَعَ مُصَاحَبَتِكَ التَّحَرِّيَ فِي الضَّبْطِ، فَلَا تُقَلِّدْ إِلَّا الثِّقَاتِ، (وَلَا تَسَاهَلْ حَمْلًا) ; أَيْ: وَلَا تَتَسَاهَلْ فِي الْحَمْلِ وَالسَّمَاعِ بِحَيْثُ تُخِلُّ بِمَا عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَالْمُتَسَاهِلُ مَرْدُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ. [الْعَمَلُ بِالْأَحَادِيثِ وَتَوْقِيرُ الشِّيوْخِ] (وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ) بِبَلَدِكَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا (فِي الْفَضَائِلِ) وَالتَّرْغِيبَاتِ ; لِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَنْفِي عَنِّي حُجَّةَ الْعِلْمِ؟ قَالَ: (الْعَمَلُ) » . وَلِقَوْلِ مَالِكِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 بْنَ مِغْوَلٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] ، قَالَ: تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ. وَلِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا فِي آدَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ وَحِفْظِهِ وَنُمُوِّهِ وَالِاحْتِيَاجِ فِيهِ إِلَيْهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَوَكِيعٌ: كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ، زَادَ وَكِيعٌ: وَكُنَّا نَسْتَعِينُ فِي طَلَبِهِ بِالصَّوْمِ، حَكَاهُمَا أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (جَامِعِ الْعِلْمِ) . وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهُ خَاصَّةً الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ. وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا ارْتَحَلَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ) . وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ عَمِلَ بِعُشْرِ مَا يَعْلَمُ عَلَّمَهُ اللَّهُ مَا يَجْهَلُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَمِلَ أَحَدٌ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِلَّا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى مَا عِنْدَهُ. وَرُوِّينَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (الْأَذْكَارِ) : يَنْبَغِي لِمَنْ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً ; لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَتْرُكَهُ مُطْلَقًا، بَلْ يَأْتِي بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ) . قُلْتُ: وَيُرْوَى فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، لَفْظُهُ: ( «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَأَخَذَ بِهِ إِيمَانًا بِهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ» ) . وَلَهُ شَوَاهِدُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ: (مَا سَمِعْتُ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَاسْتَعْمَلْتُهُ، حَتَّى الصَّلَاةَ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَهِيَ صَعْبَةٌ) . وَقَالَ الْإِمَامُ: مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا إِلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا» ، فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْتُ. وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِي طَيْبَةَ دِينَارٌ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَا يَصِحُّ. وَعَنْ أَبِي عِصْمَةَ عَاصِمِ بْنِ عِصَامٍ الْبَيْهَقِيِّ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَحْمَدَ، فَجَاءَ بِالْمَاءِ فَوَضَعَهُ، فَلَمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 أَصْبَحَ نَظَرَ إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا هُوَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي قِصَّةٍ: صَاحِبُ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَحُكْ رَأْسَكَ إِلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ، وَصَلَّى رَجُلٌ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ بِجَنْبِ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، فَلَمْا سَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَكْتُبْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيَكَ فِي تَرْكِكَ لِهَذَا وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ؟ . وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ، فَلَمْا حَضَرَتِ الظُّهْرُ وَأَذَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: أَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ، (1) كَانَ ظَنِّي بِكَ غَيْرَ هَذَا، يَدْخُلُ عَلَيْكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ لَيْلَةً بِمَسْجِدِهِ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَةُ، أَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ يَسْمَعُ مِنِّي الْمُسْتَخْرَجَ الَّذِي خَرَّجْتُهُ، فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ سُنَّةٌ لَمْ يَكُنِ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا مَضَى أَحَبَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَإِنَّهُ سَمِعَ فِي جُمْلَةِ مَا قُرِئَ عَلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذِهِ السُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 يُصْبِحَ. وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، أَتُؤَدُّونَ زَكَاةَ الْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ، وَلِلْحَدِيثِ زَكَاةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ تَسْبِيحٍ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ نُؤَدِّي زَكَاتَهُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ بِخَمْسَةِ أَحَادِيثَ. وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا تَكُنْ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ. وَأَنْشَدَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ النَّاظِمِ أَنَّهُ أَنْشَدَهُمْ لِنَفْسِهِ: اعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى ... بَادِرْ إِلَيْهِ لَا تَكُنْ مُقَصِّرًا إِنْ لَمْ تُطِقْ كُلًّا فَبِالْبَعْضِ اعْمَلَنْ وَلَوْ بِرُبْعِ الْعُشْرِ لَا مُحْتَقِرًا ... وَذَاكَ فِي فَضَائِلٍ فَوَاجِبٌ لَا تَتْرُكَنَّهُ تَلْقَ حَظًّا أَخْسَرًا وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي تَخَشُّعِهِ وَهَدْيِهِ وَلِسَانِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ. وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هُوَ الْمَشْهُورُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 لَكِنْ قَدْ رَوَى أَبُو الْفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ فِي كِتَابِ (الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْخُوَارَزْمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ قُلْتُ: إِنَّمَا نَطْلُبُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَسْنَا نَعْمَلُ بِهِ، قَالَ: وَأَيُ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ. وَكَذَا رُوِيَ نَحْوُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: إِلَى مَتَى تَكْتُبُ الْحَدِيثَ، أَفَلَا تَعْمَلُ؟ فَقَالَ: وَالْكِتَابَةُ مِنَ الْعَمَلِ. (وَالشَّيْخَ) بِالنَّصْبِ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ (بَجِّلْهُ) ; أَيْ: عَظِّمْهُ وَاحْتَرِمْهُ وَوَقِّرْهُ ; لِقَوْلِ طَاوُوسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ، بَلْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» ) ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ وَأَعْظَمُ. وَإِجْلَالُهُ مِنْ إِجْلَالِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ بِشُيُوخِهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ الشُّيُوخُ فَمَعَ مَنَ الْعَيْشُ؟ وَقَدْ مَكَثَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ يَهَابُ سُؤَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قُلْتُ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي أَهَابُكَ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ثَلَاثَ سِنِينَ فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ: مَا كَانَ إِنْسَانٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 يَجْتَرِئُ أَنْ يَسْأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ. وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ: كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَأَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ وَيُسَوِّدُونَهُ وَيُشَرِّفُونَهُ مِثْلَ الْأَمِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَمَرَّ بِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي مَوْكِبِهِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ يُدْعَى إِمَامًا بَعْدَ قَتْلِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، فَمَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَلْتَفِتَ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ هَيْبَةً لِابْنِ عَوْنٍ. وَيُحْكَى أَنَّ الْبِسَاطِيِّ الْعَلَّامَةَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْمَجِيءِ لِشَيْخِهِ فِي يَوْمِ اجْتِيَازِ السُّلْطَانِ دُونَ رُفَقَائِهِ ; فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا الدَّرْسَ لِأَجْلِ التَّفَرُّجِ عَلَيْهِ، فَأَبْعَدَهُمُ الشَّيْخُ تَأْدِيبًا وَقَرَّبَهُ. وَكَذَا كَانَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْعَجَمِ مِمَّنْ لَقِيتُهُ يُؤَدِّبُ الطَّالِبَ إِذَا انْقَطَعَ عَنِ الْحُضُورِ فِي يَوْمِهِ الْمُعْتَادِ بِتَرْكِ إِقْرَائِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ الشَّهِيدِيُّ: كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالشَّاذَكُونِيِّ وَالْفَلَّاسُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَسْأَلُونَ عَنِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ: اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا. وَعَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 الْبُخَارِيِّ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوْقَرَ لِلْمُحَدِّثِينَ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ. وَمِمَّا قِيلَ فِي مَالِكٍ: يَدَعُ الْجَوَابَ فَلَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً ... وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى ... فَهْوَ الْمَهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: مَا كَتَبْتُ عَنْ أَحَدٍ حَدِيثًا إِلَّا وَكُنْتُ لَهُ عَبْدًا مَا حَيِيَ، وَفِي لَفْظٍ: مَا سَمِعْتُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَاخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ مَا سَمِعْتُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: مَا كُنَّا نُسَمِّي رَاوِيَ الْحَدِيثِ وَالْحِكْمَةِ إِلَّا الْعَالِمَ. وَاسْتَشِرْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا، وَكَيْفِيَّةِ مَا تَعْتَمِدُهُ مِنَ اشْتِغَالِكَ وَمَا تَشْتَغِلُ فِيهِ إِذَا كَانَ عَارِفًا بِذَلِكَ، وَاحْذَرْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ، وَمَا يَدْعُو إِلَى الرِّفْعَةِ عَلَيْهِ، وَرَدِّ قَوْلِهِ، فَمَا انْتَفَعَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَاعْتَقِدْ كَمَالَهُ ; فَذَلِكَ أَعْظَمُ سَبَبٍ لِانْتِفَاعِكَ بِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اخْفِ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي. وَسَيِّدْهُ وَقُمْ لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ، وَاقْضِ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا جَلِيلَهَا وَحَقِيرَهَا، وَخُذْ بِرِكَابِهِ، وَقَبِّلْ يَدَهُ، وَوَقِّرْ مَجْلِسَهُ، وَاحْتَمِلْ غَضَبَهُ، وَاصْبِرْ عَلَى جَفَائِهِ، وَارْفُقْ بِهِ. (وَلَا تَثَاقَلْ عَلَيْهِ تَطْوِيلًا) ; أَيْ: وَلَا تَتَثَاقَلْ بِالتَّطْوِيلِ، (بِحَيْثُ يَضْجَرُ) ; أَيْ: يَقْلَقُ مِنْهُ، وَيَمَلُّ مِنَ الْجُلُوسِ، بَلْ تَحَرَّ مَا يُرْضِيهِ، فَالْإِضْجَارُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 يُغَيِّرُ الْأَفْهَامَ، وَيُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ، وَيُحِيلُ الطِّبَاعَ. ثُمَّ سَاقَ عَنْ هُشَيْمٍ قَالَ: كَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى سَاءَ خُلُقُهُ. وَأَوْرَدَ قَبْلَ ذَلِكَ أَلْفَاظًا صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي حَقِّ مَنْ أَضْجَرَهُمْ مِنَ الطُّلَّابِ ; كَقَوْلِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ يُخَاطِبُهُمْ: مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْكُمْ، تَأْتُونَ بِدُونِ دَعْوَةٍ، وَتَزُورُونَ مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ، وَتُمِلُّونَ بِالْمُجَالَسَةِ، وَتُبْرِمُونَ بِطُولِ الْمُسَاءَلَةِ. وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ عَنْ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتِنِي مَا لَمْ أُطِقْ سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقٍ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى ابْنِ بِنْتِ السُّدِّيِّ: دَخَلْنَا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى مَالِكٍ، فَحَدَّثَنَا سَبْعَةَ أَحَادِيثَ، فَاسْتَزَدْنَاهُ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ دِينٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانْصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ حَيَاءٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانَصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَانْصَرَفُوا إِلَّا جَمَاعَةً أَنَا مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: يَا غِلْمَانُ، أَقْفَاءَهُمْ ; فَإِنَّهُ لَا بُقْيَا عَلَى قَوْمٍ لَا دِينَ لَهُمْ وَلَا حَيَاءَ وَلَا مُرُوءَةَ. وَيُخْشَى كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُحْرَمَ الِانْتِفَاعَ كَمَا وَقَعَ لِلشَّرِيفِ زَيْرَكَ أَحَدِ أَصْحَابِ النَّاظِمِ حِينَ قَرَأَ (الْعُمْدَةَ) عَلَى الشِّهَابِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرْدَاوِيِّ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْإِسْمَاعِ إِلَّا الْيَسِيرَ بِالْمُلَاطَفَةِ، وَأَطَالَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ أَضْجَرَهُ فَدَعَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا أَحْيَاكَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 أَنْ تَرْوِيَهَا عَنِّي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ، وَمَاتَ الشَّرِيفُ عَنْ قُرْبٍ، لَا سِيَّمَا وَالْمَجْلِسُ إِذَا طَالَ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ كَمَا قَدَّمْتُهُ مَعَ شَيْءٍ مِمَّا يُلَائِمُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلشَّيْخِ عَلَامَةٌ يَتَنَبَّهُ بِهَا الطَّالِبُ لِلْفَرَاغِ، كَمَا جَاءَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْحَدِيثَ مَسَّ أَنْفَهُ، فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الشُّكْرُ. وَلَا تَسْتَعْمِلْ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: اغْثِثِ الشَّيْخَ بِالسُّؤَالِ تَجِدْهُ ... سَلِسًا يَلْتَقِيكَ بِالرَّاحَتَيْنِ وَإِذَا لَمْ تَصِحْ صِيَاحَ الثَّكَالَى ... رُحْتَ عَنْهُ وَأَنْتَ صِفْرُ الْيَدَيْنِ [الْكِبْرُ وَالْحَيَاءُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ] : (وَلَا تَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (يَمْنَعُكَ التَّكَبُّرُ أَوِ الْحَيَا) بِالْقَصْرِ (عَنْ طَلَبٍ) لِمَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ ; فَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ - بِإِسْكَانِ الْحَاءِ - وَلَا مُتَكَبِّرٍ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَحْرِيضَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى تَرْكِ الْعَجْزِ وَالتَّكَبُّرِ ; لِمَا يُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ النَّقْصِ فِي التَّعَلُّمِ. وَرُوِّينَا فِي (الْمُجَالَسَةِ) لِلدَّيْنَوَرِيِّ عَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اسْتَتَرَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاءِ لَبِسَ الْجَهْلَ سِرْبَالًا، فَقَطِّعُوا سَرَابِيلَ الْحَيَاءِ ; فَإِنَّهُ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ لِلْأَكَابِرِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَالَّذِي هُنَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ مَذْمُومٌ. وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ. وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ عِنْدَ السُّؤَالِ رَقَّ عِلْمُهُ عِنْدَ الرِّجَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ: قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذُلَّ التَّعْلِيمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا. أَسْنَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِيمَنِ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَيْلِهِ عَلَى (تَارِيخِ بَغْدَادَ) ، وَنَظَمَهُ شَيْخُنَا فَقَالَ: عَنِ الْأَصْمَعِيِّ جَاءَتْ إِلَيْنَا مَقَالَهْ ... تُجَدِّدُ بِالْإِحْسَانِ فِي النَّاسِ ذِكْرَهْ مَتَى يَحْتَمِلُ ذُلَّ التَّعْلِيمِ سَاعَهْ ... وَإِلَّا فَفِي ذُلِّ الْجَهَالَةِ دَهْرَهْ [الِاجْتِنَابُ عَنْ كَتْمِ الْمَسْمُوعَاتِ] : (وَاجْتَنِبِ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (كَتْمَ السَّمَاعِ) الَّذِي ظَفِرْتَ بِهِ لِشَيْخٍ مَعْلُومٍ، أَوْ كَتْمَ شَيْخٍ اخْتُصِصْتَ بِمَعْرِفَتِهِ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِخْوَانِكَ الطَّلَبَةِ ; رَجَاءَ الِانْفِرَادِ بِهِ عَنْ أَضَرَابِكَ، (فَهْوَ) ; أَيِ: الْكَتْمُ، (لُؤْمٌ) مِنْ فَاعِلِهِ يَقَعُ مِنْ جَهَلَةِ الطَّلَبَةِ الْوُضَعَاءِ كَثِيرًا، وَيُخَافُ عَلَى مُرْتَكِبِهِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ ; إِذْ بَرَكَةُ الْحَدِيثِ إِفَادَتُهُ، وَبِنَشْرِهِ يَنْمَى وَيَعُمُّ نَفْعُهُ. قَالَ مَالِكٌ: بَرَكَةُ الْحَدِيثِ إِفَادَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَوَّلُ مَنْفَعَةِ الْحَدِيثِ أَنْ يُفِيدَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، تَعَجَّلُوا بَرَكَةَ هَذَا الْعِلْمِ ; فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ لَا تَبْلُغُونَ مَا تَأْمَلُونَ مِنْهُ، لِيُفِدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ. بَلْ يُرْوَى كَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي جَامِعِهِ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي (رِيَاضَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ( «يَا إِخْوَانِي تَنَاصَحُوا فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَكْتُمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ; فَإِنَّ خِيَانَةَ الرَّجُلِ فِي عِلْمِهِ كَخِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ، وَاللَّهُ سَائِلُكُمْ عَنْهُ» ) . وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) بِلَفْظِ: ( «فَإِنَّ خِيَانَةً فِي الْعِلْمِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَةٍ فِي الْمَالِ» ) . وَلِهَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي نَسْتَحِبُّهُ إِفَادَةُ الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشُّيُوخِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى رِوَايَاتِهِمْ ; فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ النُّصْحُ لِلطَّالِبِ، وَالْحِفْظُ لِلْمَطْلُوبِ مَعَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ مِنْ جَزِيلِ الْأَجْرِ، وَجَمِيلِ الذِّكْرِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ مُسَدًّى فَحَكَى عَنِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ سَمَاعَ الْعَالِي لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ أَبَا الرَّبِيعِ بْنِ سَالِمٍ كَتَبَ إِلَى السِّلَفِيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَجِيزَ لَهُ بَقَايَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ أَصْحَابِ الْخَطِيبِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِانْقِرَاضِهِمْ قَبِلَ السِّتِّمِائَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَآخِرُهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشَرَةٍ وَسِتِّمِائَةٍ، قَالَ: وَهَكَذَا رَأَيْتُ نُبَلَاءَ أَصْحَابِهِ بِمِصْرَ وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ يَغَارُونَ عَلَى هَذَا أَشَدَّ الْغَيْرَةِ مَا خَلَا الْأَسْعَدَ بْنَ مُقَرَّبٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ مُفِيدًا، وَعِنْدِي فِي هَذَا تَوَقُّفٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ أَشَرْتُ لِرَدِّ مَا نَسَبَهُ ابْنُ مَسْدَى إِلَيْهِمَا أَيْضًا مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا فِي كِتَابَةِ التَّسْمِيعِ. وَكَذَا اجْتَنِبْ مَنْعَ عَارِيَةِ الْجُزْءِ أَوِ الْكِتَابِ الْمَسْمُوعِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ أَوِ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا حَيْثُ لَمْ تَتَعَدَّدْ نُسَخُهُ ; فَإِنَّهَا تَتَأَكَّدُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ) ، فَهُوَ شَامِلٌ لِهَذَا، وَهَذِهِ الْعَارِيَةُ غَيْرُ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابَةِ التَّسْمِيعِ فَتِلْكَ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مَعَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُلٍّ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَأَيْنَا أَقْوَامَنَا مَنَعُوا هَذَا السَّمَاعَ، فَوَاللَّهِ مَا أَفْلَحُوا وَلَا أَنْجَحُوا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ أَيْضًا: وَلَقَدْ شَاهَدْنَا جَمَاعَةً كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالسَّمَاعِ، وَيُخْفُونَ الشُّيُوخَ، وَيَمْنَعُونَ الْأَجْزَاءَ وَالْكُتُبَ عَنِ الطَّلَبَةِ، فَحَرَمَهُمُ اللَّهُ قَصْدَهُمْ، وَذَهَبُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ. وَكَذَا أَقُولُ: وَكَيْفَ لَا؟ وَقَدْ قَالَ وَكِيعٌ: أَوَّلُ بَرَكَةِ الْحَدِيثِ إِعَارَةُ الْكُتُبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكْتُمَ عَمَّنْ لَمْ يَرَهُ أَهْلًا، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الصَّوَابَ إِذَا أُرْشِدَ إِلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ. وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: مَنْ أَدَّاهُ - لِجَهْلِهِ - فَرْطُ التِّيهِ وَالْإِعْجَابِ إِلَى الْمُحَامَاتِ عَنِ الْخَطَأِ، وَالْمُمَارَاةِ فِي الصَّوَابِ، فَهُوَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ مَذْمُومٌ مَأْثُومٌ، وَمُحْتَجِرُ الْفَائِدَةِ عَنْهُ غَيْرُ مُؤَنَّبٍ وَلَا مَلُومٍ. وَسَاقَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى: لَا تَرُدَّنَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 مُعْجَبٍ خَطَا فَيَسْتَفِيدَ مِنْكَ عِلْمًا، وَيَتَّخِذَكَ بِهِ عَدُوًّا. وَقَدْ قِيلَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا» ) ، هُوَ عَرْضُكَ كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ. وَإِذَا أَفَادَكَ أَحَدٌ مِنْ رُفَقَائِكَ وَنَحْوِهِمْ شَيْئًا فَاعْزُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا تُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي (الْمَدْخَلِ) لِلْبَيْهَقِيِّ وَ (الْجَامِعِ) لِلْخَطِيبِ: إِنَّ مِنْ شُكْرِ الْعِلْمِ أَنْ تَجْلِسَ مَعَ الرَّجُلِ فَتُذَاكِرَهُ بِشَيْءٍ لَا تَعْرِفُهُ فَيَذْكُرُهُ لَكَ، ثُمَّ تَرْوِيهِ وَتَقُولُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عِنْدِي فِي هَذَا شَيْءٌ حَتَّى سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، فَتَعَلَّمْتُهُ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ شَكَرْتَ الْعِلْمَ. وَسَأَلَ إِنْسَانٌ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا» ) ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَقَّ، إِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ صَاحِبَ ذَا، سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِهِ: يُقَالُ، وَذَكَرَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ رَغْبَةُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُجَرَّدِ الْإِرْشَادِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِعَزْوِهِ إِلَيْهِمْ ; كَالشَّافِعِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 حَيْثُ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ. [الْأَخْذُ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَدُونَهُ وَمِثْلُهُ] : (وَاكْتُبِ) حَيْثُ لَزِمْتَ تَرْكَ التَّكَبُّرِ بِالسَّنَدِ عَمَّنْ لَقِيتَهُ (مَا تَسْتَفِيدُهُ) ; أَيِ: الَّذِي تَحْصُلُ لَكَ بِهِ فَائِدَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، (عَالِيًا) كَانَ سَنَدُهُ (أَوْ نَازِلًا) عَنْ شَيْخِكَ أَوْ رَفِيقِكَ أَوْ مَنْ دُونَكَ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ الدِّرَايَةِ أَوِ السِّنِّ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَالْفَائِدَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا الْتَقَطَهَا، بَلْ قَالَ وَكِيعٌ وَسُفْيَانُ: إِنَّهُ لَا يَنْبُلُ الْمُحَدِّثُ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَمِثْلَهُ وَدُونَهُ. وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَكْتُبُ عَمَّنْ دُونَهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِيهَا نَجَاتِي لَمْ تَقَعْ لِي. وَهَكَذَا كَانَتْ سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَكَمْ مِنْ كَبِيرٍ رَوَى عَنْ صَغِيرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَأَوْرَدْتُ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِنَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ جَمْعٍ مِنْ رُفَقَائِهِ، بَلْ وَتَلَامِذَتِهِ، جُمْلَةً. وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ; مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. وَكَذَا كَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقْرَأُ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقِيلَ لَهُ: أَتُقْرَأُ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ الْخَزْرَجِيِّ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَنَا التَّكَبُّرُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قِرَاءَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا قَرَأَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسْتَذْكِرْ مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَرْضِ شَيْئًا ; لِيَتَوَاضَعَ النَّاسُ، وَلَا يَسْتَنْكِفَ الْكَبِيرُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِلْمَ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الصَّغِيرِ فِي الِازْدِيَادِ إِذَا رَأَى الْكَبِيرَ يَأْخُذُ عَنْهُ، كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَ صَبِيًّا فِي مَجْلِسِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ شَيْئًا، فَطَلَبَ الْقَلَمَ وَكَتَبَهُ عَنْهُ، فَلَمْا فَارَقَهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُذِيقَهُ حَلَاوَةَ رِيَاسَةِ الْعِلْمِ ; لِيَبْعَثَهُ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ. وَوَقَفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ عَلَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْفَضْلِ الْخُزَاعِيِّ فِيهِ حِكَايَاتٌ مَلِيحَةٌ مِمَّا قَرَأَهُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ أَحَدُ تَلَامِذَتِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى الشَّرِيفِ عُمَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَسَنِيِّ بِإِجَازَتِهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَوِيِّ، فَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِسْمَاعِهِ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا يَا سَيِّدِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِالسَّمَاعِ مِنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ: ذَاكَ بِحَالَةٍ. قَالَ أَبُو سَعْدٍ: فَقَرَأْتُهُ وَسَمِعَهُ الْقَاضِي مِنِّي مَعَ جَمَاعَةٍ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فَفَعَلُوا، وَكَتَبَ هُوَ بِخَطِّهِ أَوَّلَ الْجُزْءِ: ثَنَا أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ. وَلَا تَأْنَفْ مِنْ تَحْدِيثِكَ عَمَّنْ دُونَكَ، فَقَدَ رُوِّينَا فِي (الْوَصِيَّةِ) لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنَ مُصْعَبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ حَدِيثَ مَنْ هُوَ دُونَهُ فَلَمْ يَرْوِهِ فَهُوَ مُرَاءٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ وَالْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْأَقْرَانِ لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وَتَوَسَّطَ جَمَاعَةٌ فَرَوَوْا عَمَّنْ دُونَهُمْ مَعَ تَغْطِيَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ التَّدْلِيسِ، بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُهُمْ إِلَّا الْحَاذِقُ. [غَرَضُ الأخْذِ الْفَائِدَةُ لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ] وَلْتَكُنَ الْفَائِدَةُ قَصْدَكَ (لَا كَثْرَةَ الشُّيُوخِ) حَالَ كَوْنِهَا (صِيتًا عَاطِلًا) مِنَ الْفَائِدَةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ كَمَنْ حَكَى عَنْهُ الْخَطِيبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ضَيِّعْ وَرَقَةً، وَلَا تُضَيِّعَنَّ شَيْخًا. وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا جُلُّ أَصْحَابِنَا مِنْ طَلَبَةِ شَيْخِنَا فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ ; فَإِنَّهُمُ اعْتَنَوْا بِالتَّكْثِيرِ مِنَ الشُّيُوخِ بِحَيْثُ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: أَخَذْتُ عَنْ سِتِّمِائَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، دُونَ التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَسْمُوعِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، هَذَا مَعَ تَصْرِيحِ شَيْخِنَا بِأَنَّ عَكْسَهُ أَوْلَى. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: كَتَبْتُ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ سِتَّةَ آلَافِ حَدِيثٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ دِينَارٍ. وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ بِمُوَفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ فِي الِاسْتِكْثَارِ لِمُجَرَّدِ الْكَثْرَةِ وَصِيتِهَا، عَلَى احْتِمَالِ كَلَامِهِ أَيْضًا غَيْرَ هَذَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْمُحَدِّثِ تَكْثِيرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَجَمْعَ أَطْرَافِهِ، فَيَكْثُرُ شُيُوخُهُ لِذَلِكَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ هُنَا وُصِفَ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الشُّيُوخِ خَلْقٌ مِنَ الْحُفَّاظِ ; كَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 الْمُؤَدِّبِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ الْكُدَيْمِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَكَالْقَاسِمِ بْنِ دَاوُدَ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ عَنْ سِتَّةِ آلَافِ شَيْخٍ. وَمِمَّنْ زَادَتْ شُيُوخُهُ عَلَى أَلْفٍ سِوَى هَؤُلَاءِ: أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ، وَأَبُو الْفِتْيَانِ، وَأَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ، وَأَبُو سَعْدٍ السَّمَّانُ، كَانَ لَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ شَيْخٍ وَسِتُّمِائَةٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ النَّجَّارِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالدِّمْيَاطِيُّ، وَالْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ، وَالْبِرْزَالِيُّ، فَشُيُوخُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَيْخٍ مِنْهَا أَلْفٌ بِالْإِجَازَةِ، وَعَتِيقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الْمِصْرِيُّ، ذَكَرَ أَنَّ شُيُوخَهُ نَيَّفُوا عَنِ الْأَلْفِ، وَالْفَخْرُ، وَعُثْمَانُ التَّوْزَرِيُّ بَلَغَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 شُيُوخُهُ نَحْوَ الْأَلْفِ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ رَافِعٍ، وَالْعِزُّ أَبُو عُمَرَ ابْنُ جُمَاعَةَ، وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. وَكَمْ فِي جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مِنْ فَائِدَةٍ أَشَرْتُ لِجُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَوْ لَمْ نَكْتُبِ الْحَدِيثَ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ مِثْلُهُ، لَكِنْ بِلَفْظِ: ثَلَاثِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْبَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَا يُوقَفُ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا عَلَى سَقَمِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ (الْعُمْدَةِ) مِنْ شَرْحِهَا: إِذَا اجْتَمَعَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ يُسْتَدَلُّ بِبَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ، وَيَظْهَرُ بِهِ الْمُرَادُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَسْلَفْتُ شَيْئًا مِنْهُ فِي أَوَاخِرَ الْمُعَلَّلِ. [التقميش ثم التفتيش] (وَمَنْ يَقُلْ) كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَكَذَا ابْنُ مَعِينٍ، فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِ السِّلَفِيِّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي شَرْطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشُّيُوخِ: (إِذَا كَتَبْتَ قَمِّشْ) ; أَيِ: اجْمَعْ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: قَمَّاشٌ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْقُمَاشَ، وَهُوَ الْكُنَاسَةَ ; أَيْ: يَرْوِي عَمَّنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ. (ثُمَّ إِذَا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشِ فَلَيْسَ) هُوَ (مِنْ ذَا) ; أَيْ: مِنَ الِاسْتِكْثَارِ الْعَاطِلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمُرَادُ بِهِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا رَوَاهُ السِّلَفِيُّ فِي جُزْءِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أُورَمَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 اكْتُبْ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِذَا حَدَّثْتَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حَمَلْتُ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَرَوَيْتُ عَنِ أَلْفٍ. وَصَرَّحَ شَيْخُنَا فِي بَعْضِ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهُ مِنْ شُيُوخِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْأَدَاءَ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ: اكْتُبِ الْفَائِدَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَهَا، وَلَا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ فِيمَنْ حَدَّثَكَ أَهْوَ أَهْلٌ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ أَمْ لَا، فَرُبَّمَا فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الشَّيْخِ أَوْ سَفَرِهِ أَوْ سَفَرِكَ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ فَفَتِّشْ حِينَئِذٍ. قَالَ: وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ: (بَابُ مَنْ قَالَ: يَكْتُبُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْكِتَابِ الْمَسْمُوعِ وَتَرْكَ انْتِخَابِهِ، أَوِ اسْتِيعَابَ مَا عِنْدَ الشَّيْخِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الرِّوَايَةِ أَوِ الْعَمَلِ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ مَهْدِيٍّ مَا يُشِيرُ إِلَى الِاحْتِمَالَيْنِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَكُونُ إِمَامًا مَنْ حَدَّثَ عَنْ كُلِّ مَنْ رَأَى وَلَا بِكُلِّ مَا سَمِعَ. [الِانْتِخَابِ عِنْدَ الضَّرُورَةَ] وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي النَّهْيُ عَنِ الِانْتِخَابِ ; لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: (وَالْكِتَابَ) ، أَوِ الْجُزْءَ، بِالنَّصْبِ (تَمِّمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (سَمَاعَهُ) وَكِتَابَتَهُ، وَ (لَا تَنْتَخِبْهُ تَنْدَمِ) ; فَإِنَّكَ قَدْ تَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى رِوَايَةِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا تَجِدُهُ فِيمَا انْتَخَبْتَهُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا انْتَخَبْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ إِلَّا نَدِمْتُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: مَا جَاءَ مِنْ مُنْتَقٍ خَيْرٌ قَطُّ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: سَيَنْدَمُ الْمُنْتَخِبُ فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: صَاحِبُ الِانْتِخَابِ يَنْدَمُ، وَصَاحِبُ النَّسْخِ لَا يَنْدَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وَقَالَ الْمَجْدُ الصُّرْجَكِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا قَرْمَطْنَا نَدِمْنَا، وَمَا انَتَخَبْنَا نَدِمْنَا، وَمَا لَمْ نُقَابِلْ نَدِمْنَا. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كُنَّا نَكْتُبُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ. وَلَمْ يَقْنَعِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِانْتِخَابِ كُتُبِ غُنْدَرٍ كَمَا فَعَلَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا نَسَخَ كُتُبَهُ غَيْرَنَا. (وَ) لَكِنْ (إِنْ يَضِقْ حَالٌ) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ (عَنِ اسْتِيعَابِهِ) ; أَيِ: الْكِتَابِ أَوِ الْجُزْءِ ; لِعُسْرِ الشَّيْخِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَوِ الطَّالِبِ وَارِدًا غَيْرَ مُقِيمٍ، فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لَهُ، أَوْ لِضَيِّقِ يَدِ الطَّالِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَا إِنِ اتَّسَعَ مَسْمُوعُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ كِتَابَةُ الْكُتُبِ أَوِ الْأَجْزَاءِ كَامِلَةً كَالتِّكْرَارِ، وَاتَّفَقَ شَيْءٌ مِنْهَا (لِعَارِفٍ) ; أَيْ: بِجَوْدَةِ الِانْتِخَابِ، اجْتَهَدَ (وَأَجَادَ فِي انْتِخَابِهِ) بِنَفْسِهِ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. (أَوْ) اتَّفَقَ ذَلِكَ لِمَنْ (قَصُرَ) عَنْ مَعْرِفَةِ الِانْتِخَابِ (اسْتَعَانَ) فِي انْتِخَابِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ (ذَا) ; أَيْ: صَاحِبَ، (حِفْظٍ) وَمَعْرِفَةٍ ; (فَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ لَهُ) ; أَيْ: لِلِانْتِخَابِ لِرِفَاقِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ فَضْلًا عَنِ الْقَاصِرِينَ، (يُعِدْ) ; أَيْ: يُهَيِّئُ بِحَيْثُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ وَيَتَصَدَّى لِفِعْلِهِ ; كَأَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أُورَمَةَ وَعُبَيْدٍ الْعِجْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وَالْجِعَابِيِّ وَعُمَرَ بْنِ الْحَاجِبِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ الْمُظَفَّرِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ وَاللَّالِكَائِيِّ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَخِبُونَ عَلَى الشُّيُوخِ، وَالطَّلَبَةُ تَسْمَعُ وَتَكْتُبُ بِانْتِخَابِهِمْ. وَاقْتَفَى مَنْ بَعْدَهُمْ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى النَّاظِمِ وَتَلَامِذَتِهِ ; كَوَلَدِهِ وَالصَّلَاحِ الْأَقْفَهْسِيِّ وَشَيْخِنَا، ثُمَّ طَلَبَتِهِ ; كَالْجَمَّالِ بْنِ مُوسَى وَمُسْتَمْلِيهِ وَصَاحِبِنَا النَّجْمِ الْهَاشِمِيِّ. وَتَوَسَّعَا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدٍّ لَمْ أَرْتَضِهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كُنْتُ سَلَكْتُهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ عَارِفًا وَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَخَلَّ، كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَعِينٍ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ مِمَّا حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ سِتَّمِائَةِ حَدِيثٍ، فَانْتَقَيْتُ شِرَارَهَا لِكَوْنِي لَمْ يَكُنْ لِي بِهَا حِينَئِذٍ مَعْرِفَةٌ. وَقَدْ رَأَيْتَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الِانْتِخَابِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يَنْتَخِبُ لَهُمْ، فَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عُقْدَةَ قَالَ: كُنَّا نَحْضُرُ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِعُبَيْدٍ، وَيُلَقَّبُ أَيْضًا (الْعِجْلَ) ، عِنْدَ الشُّيُوخِ وَهُوَ شَابٌّ، فَيَنْتَخِبُ لَنَا، فَكَانَ إِذَا أَخَذَ الْكِتَابَ كَلَّمْنَاهُ فَلَا يُجِيبُنَا حَتَّى يَفْرَغَ، فَسَأَلْنَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا مَرَّ حَدِيثُ الصَّحَابِيِّ أَحْتَاجُ أَتَفَكَّرُ فِي مُسْنَدِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، هَلِ الْحَدِيثُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَلَوْ أَجَبْتُكُمْ خَشِيتُ أَنْ أَزِلَ، فَتَقُولُونَ لِي: لِمَ انْتَخَبْتَ هَذَا وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ فُلَانٌ. (وَعَلَّمُوا) ; أَيْ: مَنِ انْتَخَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، (فِي الْأَصْلِ) الْمُنْتَخَبِ مِنْهُ مَا انْتَخَبُوهُ ; لِأَجْلِ تَيَسُّرِ مُعَارَضَةِ مَا كَتَبُوهُ بِهِ، أَوْ لِإِمْسَاكِ الشَّيْخِ أَصْلَهُ بِيَدِهِ، أَوْ لِلتَّحْدِيثِ مِنْهُ، أَوْ لِكِتَابَةِ فَرْعٍ آخَرَ مِنْهُ ; حَيْثُ فُقِدَ الْأَوَّلُ، وَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ لَا حَجْرَ فِيهِ، فَعَلَّمُوا (إِمَّا خَطَّا) بِالْحُمْرَةِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَرِيضًا فِي الْحَاشِيَةِ الْيُسْرَى كَالدَّارَقُطْنِيِّ، أَوْ صَغِيرًا فِي أَوَّلِ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ كَاللَّالَكَائِيِّ. (أَوْ) عَلَّمُوا بِصُورَةِ (هَمْزَتَيْنِ) بِحِبْرٍ فِي الْحَاشِيَةِ الْيُمْنَى ; كَأَبِي الْفَضْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْفَلَكِيِّ، (أَوْ بِصَادٍ) مَمْدُودَةٍ بِحِبْرٍ فِي الْحَاشِيَةِ أَيْضًا ; كَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ النُّعَيْمِيِّ، (أَوْ بِطَا) مُهْمَلَةٍ مَمْدُودَةٍ كَذَلِكَ ; كَأَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالِ، أَوْ بِحَائَيْنِ إِحْدَاهُمَا إِلَى جَنْبِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ ; كَمُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيِّ، أَوْ بِجِيمٍ فِي الْحَاشِيَةِ الْيُمْنَى كَالْجَمَاعَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. [الِاقْتِصَارُ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ دُونَ فَهْمِهِ] : (وَلَا تَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا) الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ، (وَكَتْبَهُ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ ; أَيْ: لَا تَقْتَصِرْ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ (مِنْ دُونِ فَهْمٍ) لِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ (نَفَعَا) ; أَيْ: نَافِعٍ، فَتَكُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قَدْ أَتْعَبْتَ نَفْسَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَظْفَرَ بِطَائِلٍ، وَلَا تَحْصُلَ بِذَلِكَ فِي عِدَادِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْأَمَاثِلِ، بَلْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أَنْ صِرْتَ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ الْمَنْقُوصِينَ الْمُتَحَلِّينَ بِمَا هُمْ مِنْهُ عَاطِلُونَ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الَّذِي يَرْوِي وَلَكِنَّهُ ... يَجْهَلُ مَا يَرْوِي وَمَا يَكْتُبُ كَصَخْرَةٍ تَنْبُعُ أَمْوَاهُهَا ... تَسْقِي الْأَرَاضِيَ وَهْيَ لَا تَشْرَبُ وَقَدْ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: الرِّيَاسَةُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا دِرَايَةٍ رِيَاسَةُ نَزْلَةٍ. قَالَ: الْخَطِيبُ: هِيَ اجْتِمَاعُ الطَّلَبَةِ عَلَى الرَّاوِي لِلسَّمَاعِ عِنْدَ عُلُوِّ سِنِّهِ، يَعْنِي فَإِنَّ سَنَدَهُ لَا يَعْلُو وَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ غَالِبًا إِلَّا حِينَ تَقَدُّمِهِ فِي السِّنِّ، قَالَ: فَإِذَا تَمَيَّزَ الطَّالِبُ بِفَهْمِ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَتِهِ تَعَجَّلَ بَرَكَةَ ذَلِكَ فِي شَبِيبِهِ. قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَتَخْلِيدِهِ الصُّحُفَ دُونَ التَّمْيِيزِ بِمَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ مِنْ فَاسِدِهِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَنْوَاعِ عُلُومِهِ إِلَّا تَلْقِيبَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ مَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ بِالْحَشْوِيَّةِ - يَعْنِي بِإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا، فَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ حَشْوِ الطَّلَبَةِ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَشُّونَ فِي حَاشِيَةِ حَلْقَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - لَوَجَبَ عَلَى الطَّالِبِ الْأَنَفَةُ لِنَفْسِهِ، وَدَفْعُ ذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 عَنْهُ وَعَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ. انْتَهَى. وَيُرْوَى كَمَا لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي (تَارِيخِ أَصْبَهَانَ) مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ آبَائِهِ مَرْفُوعًا: ( «كُونُوا دُرَاةً وَلَا تَكُونُوا رُوَاةً، حَدِيثٌ تَعْرِفُونَ فِقْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ تَرْوُونَهُ» ) . وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: ( «كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً» ) . وَكَذَا أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْأَدِيبِ الْفَاضِلِ فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ الَّذِي ... ذَهَبَتْ بِمُدَّتِهِ الرِّوَايَهْ كُنْ فِي الرِّوَايَةِ ذَا الْعِنَايَهْ ... بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَهْ وَارْوِ الْقَلِيلَ وَرَاعِهِ ... فَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَهْ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: وَاظِبْ عَلَى جَمْعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ ... وَاجْهَدْ عَلَى تَصْحِيحِهِ فِي كُتْبِهْ وَاسْمَعْهُ مِنْ أَرْبَابِهِ نَقْلًا كَمَا ... سَمِعُوهُ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ تَسْعَدْ بِهِ وَاعْرِفْ ثِقَاتَ رُوَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ ... كَيْمَا تُمَيِّزَ صِدْقَهُ مِنْ كِذْبِهِ فَهُوَ الْمُفَسِّرُ لِلْكِتَابِ وَإِنَّمَا ... نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَتَفَهَّمِ الْأَخْبَارَ تَعْرِفْ حِلَّهُ ... مِنْ حُرْمِهِ مَعَ فَرْضِهِ مِنْ نَدْبِهِ وَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِلْعِبَادِ بِشَرْحِهِ ... سِيَرَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مَعَ صَحْبِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وَتَتَبَّعِ الْعَالِيَ الصَّحِيحَ فَإِنَّهُ ... قُرَبٌ إِلَى الرَّحْمَنِ تَحْظَ بِقُرْبِهِ. وَتَجَنَّبِ التَّصْحِيفَ فِيهِ فَرُبَّمَا ... أَدَّى إِلَى تَحْرِيفِهِ بَلْ قَلْبِهِ وَاتْرُكْ مَقَالَةَ مَنْ لَحَاكَ بِجَهْلِهِ ... عَنْ كَتْبِهِ أَوْ بِدْعَةٍ فِي قَلْبِهِ فَكَفَى الْمُحَدِّثَ رِفْعَةً أَنْ يُرْتَضَى ... وَيُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَحِزْبِهِ [الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ] (725) وَاقْرَأْ كِتَابًا فِي عُلُومِ الْأَثَرِ ... كَابْنِ الصَّلَاحِ أَوْ كَذَا الْمُخْتَصَرِ (726) وَبِالصَّحِيحَيْنِ ابْدَأَنْ ثُمَّ السُّنَنْ ... وَالْبَيْهَقِي ضَبْطًا وَفَهْمًا ثُمَّ ثَنْ (727) بِمَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ مُسْنَدِ ... أَحْمَدَ وَالْمُوَطَّأِ الْمُمَهَّدِ (728) وَعِلَلٍ وَخَيْرُهَا لَأَحْمَدَا ... وَالدَّارَقُطْنِي وَالتَّوَارِيخُ غَدَا (729) مِنْ خَيْرِهَا الْكَبِيرُ لِلْجُعْفِيِّ ... وَالْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لِلْرَازِيِّ (730) وَكُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ الْمَشْهُورِ ... وَالْأَكْمَلُ الْإِكْمَالُ لِلْأَمِيرِ (731) وَاحْفَظْهُ بِالتَّدْرِيجِ ثُمَّ ذَاكِرِ ... بِهِ وَالِاتْقَانَ اصْحَبَنْ وَبَادِرِ (732) إِذَا تَأَهَّلْتَ إِلَى التَّأْلِيفِ ... تَمْهَرْ وَتُذْكَرْ وَهْوَ فِي التَّصْنِيفِ (733) طَرِيقَتَانِ جَمْعُهُ أَبْوَابَا ... أَوْ مُسْنَدًا تُفْرِدُهُ صِحَابَا (734) وَجَمْعُهُ مُعَلَّلَا كَمَا فَعَلْ ... يَعْقُوبُ أَعْلَى رُتْبَةً وَمَا كَمُلْ (735) وَجَمَعُوا أَبْوَابًا اوْ شُيُوخًا اوْ ... تَرَاجِمًا أَوْ طُرُقًا وَقَدْ رَأَوْا (736) كَرَاهَةَ الْجَمْعِ لِذِي تَقْصِيرِ ... كَذَاكَ الْإِخْرَاجُ بِلَا تَحْرِيرِ [الِاعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ] : (وَاقْرَأْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ عِنْدَ شُرُوعِكَ فِي الطَّلَبِ لِهَذَا الشَّأْنِ (كِتَابًا فِي) مَعْرِفَةِ (عُلُومِ الْأَثَرِ) تَعْرِفُ بِهِ أَدَبَ التَّحَمُّلِ، وَكَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَالطَّلَبِ، وَمَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ، وَسَائِرَ مُصْطَلَحِ أَهْلِهِ، (كَـ) كِتَابِ عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبِي عَمْرٍو (ابْنِ الصَّلَاحِ) ، الَّذِي قَالَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ: إِنَّهُ مَدْخَلٌ إِلَى هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 الشَّأْنِ مُفْصِحٌ عَنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، شَارِحٌ لِمُصَنَّفَاتِ أَهْلِهِ وَمَقَاصِدِهِمْ وَمُهِمَّاتِهِمُ الَّتِي يَنْقُصُ الْمُحَدِّثُ بِالْجَهْلِ بِهَا نَقْصًا فَاحِشًا، قَالَ: فَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ تُقَدِّمَ الْعِنَايَةُ بِهِ، وَعَلَيْهِ مُعَوَّلُ كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ. (أَوْ كَذَا) النَّظْمِ (الْمُخْتَصَرِ) مِنْهُ، الْمُلَخَّصِ فِيهِ مَقَاصِدُهُ مَعَ زِيَادَةِ مَا يُسْتَعْذَبُ كَمَا سَلَفَ فِي الْخُطْبَةِ. وَعَوِّلْ عَلَى شَرْحِهِ هَذَا وَاعْتَمِدْهُ، فَلَا تَرَى نَظِيرَهُ فِي الْإِتْقَانِ وَالْجَمْعِ مَعَ التَّلْخِيصِ وَالتَّحْقِيقِ، نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَصَرَفَ عَنْهُ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَلْحَظْ مَغْزَاهُ مِنْ صَالِحٍ وَطَالِحٍ، وَحَاسِدٍ وَنَاصِحٍ، وَصَبِيٍّ جَهُولٍ وَغَبِيٍّ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، مُتَفَهِّمًا لِمَا يَلِيقُ بِخَاطِرِكَ مِنْهَا مِمَّنْ يَكُونُ مُمَارِسًا لِلْفَنِّ مَطْبُوعًا فِيهِ عَامِلًا بِهِ، وَأَلَّا تَكُنْ كَخَابِطِ عَشْوَاءَ رَكِبَ مَتْنَ عَمْيَاءَ. وَذَلِكَ وَاجِبٌ ; لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ. وَإِذَا عَلِمْتَ كَيْفِيَّةَ الطَّلَبِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ مَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَعِمَلَهُ شِدَّةُ الْحِرْصِ عَلَى السَّمَاعِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُلَازَمَةِ لِلشُّيُوخِ، وَتَبْتَدِئُ بِسَمَاعِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالْأُصُولِ الْجَامِعَةِ لِلسُّنَنِ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ. وَهِيَ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْمَسَانِيدِ وَالْمُبَوَّبَةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، أَنْفَعُهَا بِالنَّظَرِ ; لِسُرْعَةِ اسْتِخْرَاجِ الْفَائِدَةِ مِنْهَا، فَقَدِّمْهَا، (وَبِالصَّحِيحَيْنِ) لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْهَا (ابْدَأَنْ) ، وَقَدِّمْ أَوَّلَهُمَا لِشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ الْقَصْدُ الْأَعْظَمُ، مَعَ تَقَدِّمِهِ وَرُجْحَانِهِ كَمَا سَبَقَ فِي مَحَلِّهِ. إِلَّا إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لِ (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) انْفَرَدَ بِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وَيُخْشَى فَوْتُهُ، وَرُوَاةُ (الْبُخَارِيِّ) فِيهِمْ كَثْرَةٌ، كَمَا اتَّفَقَ فِي عَصْرِنَا لِلزَّيْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزَّرْكَشِيِّ الْحَنْبَلِيِّ آخِرِ مَنْ سَمِعَ (صَحِيحَ مُسْلِمٍ) عَلَى الْبَيَانِيِّ ; فَإِنَّهُ لَوْ حَصَلَ التَّشَاغُلُ عَنْهُ بِـ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) الَّذِي اسْتَمَرَّ بَعْدَهُ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِي حَيَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرُبَّمَا فَاتَ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ. (ثُمَّ) أَرْدِفْهُمَا بِكُتُبِ (السُّنَنْ) الْمُرَاعِي مُصَنِّفُوهَا فِيهَا الِاتِّصَالَ غَالِبًا، وَالْمُقَدَّمُ مِنْهَا كِتَابُ أَبِي دَاوُدَ ; لِكَثْرَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ كِتَابُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ ; لِيَتَمَرَّنَ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَشْيِ فِي الْعِلَلِ، ثُمَّ كِتَابُ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ ; لِاعْتِنَائِهِ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِي الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَبَيَانِهِ لِحُكْمِ مَا يُورِدُهُ مِنْ صِحَّةٍ وَحُسْنٍ وَغَيْرِهِمَا. (وَ) يَلِيهَا كِتَابُ (السُّنَنِ) لِلْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ (الْبَيْهَقِي) ، فَلَا تَحِدْ عَنْهُ ; لِاسْتِيعَابِهِ لِأَكْثَرِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، بَلْ لَا نَعْلَمُ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - فِي بَابِهِ مِثْلَهُ. وَلِذَا كَانَ حَقُّهُ التَّقْدِيمَ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ السُّنَنِ، وَلَكِنْ قَدَّمْتُ تِلْكَ لِتَقَدُّمِ مُصَنِّفِيهَا فِي الْوَفَاةِ وَمَزِيدِ جَلَالَتِهِمْ، (ضَبْطًا وَفَهْمًا) ; أَيْ: بِالضَّبْطِ فِي سَمَاعِكَ لِمُشْكِلِهَا، وَالْفَهْمِ لِخَفِيِ مَعَانِيهَا، بِحَيْثُ إِنَّكَ كُلَّمَا مَرَّ بِكَ اسْمٌ مُشْكِلٌ أَوْ كَلِمَةٌ مِنْ حَدِيثٍ مُشْكِلَةٍ تَبْحَثُ عَنْهَا، وَتُودِعُهَا قَلْبَكَ، فَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ لَكَ عِلْمٌ كَثِيرٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وَكَذَا اعْتَنِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُبَوَّبَةِ بِسَمَاعِ الصِّحَاحِ لِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ تَامَّا، وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَبِسَمَاعِ الْجَامِعِ الْمَشْهُورِ بِـ (الْمُسْنَدِ) لِلدَّارِمِيِّ (وَالسُّنَنِ) لِإِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ مَعَ مُسْنَدِهِ، وَهُوَ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَ (السُّنَنِ الْكُبْرَى) لِلنَّسَائِيِّ ; لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الزِّيَادَاتِ عَلَى تِلْكَ، وَ (السُّنَنِ) لِابْنِ مَاجَهْ وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَبِـ (شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ) لِلطَّحَاوِيِّ. (ثُمَّ ثَنْ بِـ) سَمَاعِ (مَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ) كُتُبِ الْمَسَانِيدِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا ; كَـ (مُسْنَدِ) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ) وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَالْعَدَنِيِّ وَمُسَدَّدٍ وَأَبِي يَعْلَى وَالْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا أَعْلَى مِنْهَا فِي الَّتِي قَبِلَهَا غَالِبًا. وَكَذَا بِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ عَلَى الْأَبْوَابِ أَيْضًا، لَكِنْ كَثُرَ فِيهَا الْإِيرَادُ لِغَيْرِ الْمُسْنَدِ، كَالْمُرْسَلِ وَشِبْهِهِ، مَعَ كَوْنِهَا سَابِقَةً لِتِلْكَ فِي الْوَضْعِ ; (كَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ) وَ (السُّنَنِ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ) وَ (الْمُوَطَّأِ الْمُمَهَّدِ) لِمُقْتَفِي السُّنَّةِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ الَّذِي قَالَ أَبُو خُلَيْدٍ عُتْبَةُ بْنُ حَمَّادٍ: إِنَّهُ لَمَّا عَرَضَهُ عَلَى مُؤَلِّفِهِ فِي أَرْبَعَةِ أَيْامٍ قَالَ لَهُ: عِلْمٌ جَمَعْتُهُ فِي سِتِّينَ سَنَةً أَخَذْتُمُوهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيْامٍ، وَاللَّهِ لَا يَنْفَعُكُمُ اللَّهُ بِهِ أَبَدًا، وَفِي لَفْظٍ: لَا فَقِهْتُمْ أَبَدًا. رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) . وَكَكُتُبِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَهُشَيْمٍ وَابْنِ وَهْبٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَوَكِيعٍ، وَ (الْمُوَطَّأُ) قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ مَا قَدَّمْنَا فِي أَصَحِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ: إِنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي هَذَا النَّوْعِ، فَيَجِبُ الِابْتِدَاءُ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 قُلْتُ: وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرَضَهُ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ تَابِعِيًّا، فَكُلُّهُمْ وَاطَأَهُ عَلَى صِحَّتِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الطَّحَّانِ فِي (تَارِيخِ الْمِصْرِيِّينَ) لَهُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّا جُرِّبَ أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا أَمْسَكَتْهُ بِيَدِهَا تَضَعُ فِي الْحَالِ. ثُمَّ بِالْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنَ التَّصَانِيفِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَبْوَابٍ مَخْصُوصَةٍ ; كَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَالْأَدَبِ وَالْفَضَائِلِ وَالسِّيَرِ، وَذَلِكَ لَا يَنْحَصِرُ كَثْرَةً، وَكَذَا مِنَ الْمَعَاجِمِ الَّتِي عَلَى الصَّحَابَةِ وَالَّتِي عَلَى الشُّيُوخِ، وَالْفَوَائِدِ النَّثْرِيَّةِ، وَالْأَجْزَاءِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَالْأَرْبَعِينِيَّاتِ، وَقَدِّمْ مِنْهُ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، وَذَلِكَ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا النُّبَهَاءُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالزَّوَائِدِ، وَكُلُّ مَا سَمَّيْتُهُ فَأَكْثَرُهُ بِحَمْدِ اللَّهِ لِي مَسْمُوعٌ، وَمَا لَمْ أُسَمِّهِ فَعِنْدِي بِالسَّمَاعِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُ مَا يَفُوقُ الْوَصْفَ. [كُتُبُ الْعِلَلَ وَأَهَمَّهَا] : (وَ) اعْتَنِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْحَاجَةُ مِنْ كُتُبِ (عِلَلٍ) ; كَـ (الْعِلَلِ) عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةَ ابْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ، وَلِأَحْمَدَ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَشَرَحَهَا ابْنُ رَجَبٍ، وَ (عِلَلِ الْخَلَّالِ) وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، مَعَ ضَمِّهِ لِذَلِكَ مَعْرِفَةَ الرِّجَالِ، وَأَبِي بِشْرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، وَ (التَّمْيِيزِ) لِمُسْلِمٍ، (وَخَيْرُهَا لِأَحْمَدَا) وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَكِتَابُهُ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ مُرَتَّبٍ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَقَدْ شَرَعَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي شَرْحِهِ، فَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ مِنْهُ مُجَلَّدًا عَلَى يَسِيرٍ مِنْهُ. (وَ) لِأَبِي الْحَسَنِ (الدَّارَقُطْنِي) ، وَهُوَ عَلَى الْمَسَانِيدِ مَعَ أَنَّهُ أَجْمَعُهَا، وَلَيْسَ مِنْ جَمْعِهِ، بَلِ الْجَامِعُ لَهُ تِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ عِلَلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 الْأَحَادِيثِ، فَيُجِيبُهُ عَنْهَا بِمَا يُقَيِّدُهُ عَنْهُ بِالْكِتَابَةِ، فَلَمَّا مَاتَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَدَ الْبَرْقَانِيُّ قِمَطْرَهُ امْتَلَأَ مِنْ صُكُوكٍ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ، فَاسْتَخْرَجَهَا وَجَمَعَهَا فِي تَأْلِيفٍ نَسَبَهُ لِشَيْخِهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ خِيَرَةَ فِي تَرْجَمَةِ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ بِرْنَامِجِ شُيُوخِهِ، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ فِي (الْبَارِعِ) فِي اللُّغَةِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيِّ ; فَإِنَّهُ جَمَعَهُ بِخَطِّهِ مِنْ صُكُوكٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُهُ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ. عَلَى أَنَّ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ بْنِ طَاهِرٍ قَالَ فِي (فَوَائِدِ الرِّحْلَةِ) لَهُ: سَمِعْتُ الْإِمَامَ أَبِي (2) الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ يَقُولُ: إِنَّ كِتَابَ (الْعِلَلَ) الَّذِي خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ إِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ كِتَابِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، يَعْنِي الْآتِي ذِكْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِعَدَمِ وُجُودِ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِمَا. لَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا بِقَوْلِهِ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُثْبِتُ الْمُدَّعَى، وَمَنْ تَأَمَّلَ (الْعِلَلَ) عَرَفَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ نَظَرَ فِي عِلَلِ يَعْقُوبَ أَصْلًا، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُهُ أَنَّهُ يَذْكُرُ كَثِيرًا مِنَ الِاخْتِلَافِ إِلَى شُيُوخِهِ أَوْ شُيُوخِ شُيُوخِهِ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 لَمْ يُدْرِكْهُمْ يَعْقُوبُ، وَيَسُوقُ كَثِيرًا بِأَسَانِيدِهِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ أَيْضًا. وَقَدْ أَفْرَدَ شَيْخُنَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مَا لَهُ لَقَبٌ خَاصٌّ ; كَالْمَقْلُوبِ وَالْمُدْرَجِ وَالْمَوْقُوفِ، فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهَا فِي تَصْنِيفٍ مُفْرَدٍ، وَجَعَلَ الْعِلَلَ الْمُجَرَّدَةَ فِي تَصْنِيفٍ مُسْتَقِلٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَشَرَعْتُ فِي تَلْخِيصِ جَمِيعِ الْكِتَابِ مَعَ زِيَادَاتٍ وَعَزْوٍ، فَانْتَهَى مِنْهُ الرُّبْعُ، يَسَّرَ اللَّهُ إِكْمَالَهُ. هَذَا كُلُّهُ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ هُوَ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعِلَلِ لِي بِالسَّمَاعِ، بَلْ وَلَا لِشَيْخِي مِنْ قَبْلِي، بَلَى أَرْوِي كِتَابَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدٍ عَالٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلِيلِيِّ عَنِ الصَّدْرِ الْمَيْدُومِيِّ عَنْ أَبِي عِيسَى بْنِ عَلَّاقٍ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ سَعْدِ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَتْ: أَنَا بِهِ أَبِي وَأَنَا فِي الْخَامِسَةِ، أَنَا بِهِ أَبُو غَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنِ الْبَرْقَانِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ ; لِسَمَاعِهِمَا مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ. [ذِكْرُ أَفْضَلِ كُتُبِ التَّارِيخِ] : (وَ) كَذَا اعْتَنِ بِمَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ كُتُبِ (التَّوَارِيخُ) لِلْمُحَدِّثِينَ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ كَابْنِ مَعِينٍ رِوَايَةَ كُلٍّ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 الْحُسَيْنِ بْنِ حِبَّانَ وَعَبَاسٍ الدُّورِيِّ وَالْمُفَضَّلِ بْنِ غَسَّانَ الْغَلَّابِيِّ عَنْهُ، وَكَأَبِي خَلِيفَةَ وَأَبِي حَسَّانَ الزِّيَادِيِّ وَيَعْقُوبَ الْفَسَوِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَأَبِي زُرْعَةَ الدِّمِشْقِيِّ وَحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالسَّرَّاجِ، الَّتِي (غَدَا مِنْ خَيْرِهَا) التَّارِيخُ (الْكَبِيرُ) بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوْسَطَ وَصَغِيرٍ (لِلْجُعْفِيِّ) بِضَمِ الْجِيمِ ; نِسْبَةً لِجَدِّ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ مَوْلًى لِيَمَانٍ الْجُعْفِيِّ، وَإِلَى بُخَارَى هُوَ إِمَامُ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيُّ ; فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ: يُرْبِي عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ كُلِّهَا. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُقْدَةَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ لَمَا اسْتَغْنَى عَنْ (تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ) ، وَكَـ (تَارِيخِ مِصْرَ) لِابْنِ يُونُسَ، وَالذَّيْلِ عَلَيْهِ، وَبَغْدَادَ لِلْخَطِيبِ وَالذُّيُولِ عَلَيْهِ، وَدِمَشْقَ لِابْنِ عَسَاكِرَ، وَنَيْسَابُورَ لِلْحَاكِمِ، وَالذَّيْلِ عَلَيْهِ، وَأَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَهِيَ مِنْ مُهِمَّاتِ التَّوَارِيخِ ; لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالنَّوَادِرِ. (وَ) مِنْ خَيْرِهَا أَيْضًا (الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لِلرَّازِيِّ) ، هُوَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الَّذِي اقْتَفَى فِيهِ أَثَرَ الْبُخَارِيِّ، كَمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ مِنْ (تَارِيخِ نَيْسَابُورَ) ، أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ قَالَ: كُنْتُ بِالرَّيِّ وَهُمْ يَقرَؤُونَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، يَعْنِي كِتَابَهُ هَذَا، فَقُلْتُ لِابْنِ عَبْدَوَيْهِ الْوَرَّاقِ: هَذِهِ ضَحْكَةٌ، أَرَاكُمْ تَقْرَؤُونَ عَلَى شَيْخِكُمْ كِتَابَ (التَّارِيخِ لِلْبُخَارِيِّ) عَلَى الْوَجْهِ، وَقَدْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ، اعْلَمْ أَنَّ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ لَمَّا حُمِلَ إِلَيْهِمَا (تَارِيخُ الْبُخَارِيِّ) قَالَا: هَذَا عِلْمٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَا يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَذْكُرَهُ عَنْ غَيْرِنَا، فَأَقْعَدَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ، فَصَارَ يَسْأَلُهُمَا عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 رَجُلٍ بَعْدَ رَجُلٍ، وَهُمَا يُجِيبَانِهِ، وَزَادَا فِيهِ وَنَقَصَا، انْتَهَى، وَالْبَلَاءُ قَدِيمٌ. [ذِكْرُ أَجْوَدَ كُتُبِ ضَبْطِ الْمُشَكَّلِ] : (وَ) كَذَا اعْتَنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَاجَةُ مِنْ (كُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ) وَالْمُخْتَلِفِ النَّوْعِ (الْمَشْهُورِ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْآتِي فِي مَحَلِّهِ مَعَ بَيَانِ التَّصَانِيفِ الَّتِي فِيهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، (وَالْأَكْمَلُ) مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ (الْإِكْمَالُ لِلْأَمِيرِ) الْمُلَقَّبِ بِذَلِكَ، وَبِالْوَزِيرِ سَعْدِ الْمُلْكِ ; لِكَوْنِ أَبِيهِ كَانَ وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ، وَوَلِيَ عَمُّهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَتَوَجَّهَ هُوَ رَسُولًا عَنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى مَلِكِهَا، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو نَصْرِ بْنِ مَاكُولَا، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: عَلَى إِعْوَازٍ فِيهِ. كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الضَّبْطِ وَالْفَهْمِ كَمَا تَقَدَّمَ. [حِفْظُ الْكُتُبِ وَالْمُذَاكَرَةِ بَعْدَهُ] : (وَاحْفَظْهُ) ; أَيِ: الْحَدِيثَ، (بِالتَّدْرِيجِ) قَلِيلًا قَلِيلًا مَعَ الْأَيْامِ وَاللَّيَالِي، فَذَلِكَ أَحْرَى بِأَنْ تُمَتَّعَ بِمَحْفُوظِكَ، أَوْ أَدْعَى لِعَدَمِ نِسْيَانِهِ، وَلَا تَنْشُرْهُ فِي كَثْرَةِ كَمِّيَّةِ الْمَحْفُوظِ مَعَ قِلَّةِ مَرَّاتِ الدَّرْسِ وَقِلَّةِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ الْمَحْفُوظِ. وَكَذَا لَا تَأْخُذْ نَفْسَكَ بِمَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، بَلِ اقْتَصِرْ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي تَضْبِطُهُ وَتُحْكِمُ حِفْظَهُ وَإِتْقَانَهُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ» ) . وَلِذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ: كُنْتُ آتِي الْأَعْمَشَ وَمَنْصُورًا فَأَسْمَعُ أَرْبَعَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 أَحَادِيثَ خَمْسَةً، ثُمَّ أَنْصَرِفُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَكْثُرَ وَتُفْلِتَ. رُوِّينَاهُ فِي (الْجَامِعِ) لِلْخَطِيبِ. وَعِنْدَهُ عَنْ شُعْبَةَ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَمَعْمَرٍ نَحْوُهُ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ جُمْلَةً فَاتَهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الْعِلْمُ حَدِيثٌ وَحَدِيثَانِ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِنْ أَخَذْتَهُ بِالْمُكَاثَرَةِ لَهُ غَلَبَكَ، وَلَكِنْ خُذْهُ مَعَ الْأَيْامِ وَاللَّيَالِي أَخْذًا رَفِيقًا تَظْفَرْ بِهِ. (ثُمَّ) بَعْدَ حِفْظِكَ لَهُ (ذَاكِرْ بِهِ) الطَّلَبَةَ وَنَحْوَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ تُذَاكِرُهُ فَذَاكِرْ مَعَ نَفْسِكَ، وَكَرِّرْهُ عَلَى قَلْبِكَ، فَالْمُذَاكَرَةُ تُعِينُكَ عَلَى ثُبُوتِ الْمَحْفُوظِ، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا مُعَارَضَةُ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، وَيُرْوَى عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ( «كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْمَعُ مِنْهُ الْحَدِيثَ، فَإِذَا قُمْنَا تَذَاكَرْنَاهُ فِيمَا بَيْنَنَا حَتَّى نَحْفَظَهُ» ) . وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: ( «أَنَّ الْمُؤْمِنَ نَسَّاءٌ إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ» ) . وَقَالَ عَلِيٌّ: (تَذَاكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ، إِنْ لَا تَفْعَلُوا يَدْرُسْ) ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ ; فَإِنَّ حَيَاتَهُ مُذَاكَرَتُهُ) ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: ذَاكِرْ بِعِلْمِكَ تَذْكُرُ مَا عِنْدَكَ، وَتَسْتَفِيدُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: مَنْ أَكْثَرَ مُذَاكَرَةَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَنْسَ مَا عَلِمَ، وَاسْتَفَادَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَدِيثَ فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَلَوْ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ مَنْ لَا يَشْتَهِيهِ. وَقَدْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَجَاءٍ يَجْمَعُ صِبْيَانَ الْكِتَابِ، وَيُحَدِّثُهُمْ كَيْ لَا يَنْسَى حَدِيثَهُ. وَنَحْوُهُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ ابْنُ الْمَجْدِيِّ عَنِ الْقَايَاتِيِّ فِي إِقْرَائِهِ مُشْكِلَ الْكُتُبِ لِلْمُبْتَدِئِينَ، أَنَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَنْفَكَّ إِدْمَانُهُ فِي تَقْرِيرِهَا. وَقِيلَ: حُبُّ التَّذَاكُرِ أَنْفَعُ مِنْ حُبِ الْبَلَاذِرِ. وَقِيلَ أَيْضًا: حِفْظُ سَطْرَيْنِ خَيْرٌ مِنْ كِتَابَةِ وِقْرَيْنِ، وَخَيْرٌ مِنْهُمَا مُذَاكَرَةُ اثْنَيْنِ. وَلِبَعْضِهِمْ: مَنْ حَازَ الْعِلْمَ وَذَاكَرَهُ ... صَلَحَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتُهْ فَأَدِمْ لِلْعِلْمِ مُذَاكَرَةً ... فَحَيَاةُ الْعِلْمِ مُذَاكَرَتُهْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 (وَ) لَا تَتَسَاهَلَنَّ فِي الْمُذَاكَرَةِ، بَلْ (الِاتْقَانَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، فِيهَا وَفِي شَأْنِكَ كُلِّهِ (اصْحَبَنْ) بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، فَالْحِفْظُ - كَمَا قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ - الْإِتْقَانُ. [مَعْنَى التَّأْلِيفِ وَفَوَائِدِهِ] : (وَبَادِرْ إِذَا تَأَهَّلْتَ) وَاسْتَعْدَدْتَ (إِلَى التَّألِيفِ) الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّخْرِيجِ وَالتَّصْنِيفِ وَالِانْتِقَاءِ ; إِذِ التَّأْلِيفُ مُطْلَقُ الضَّمِّ، وَالتَّخْرِيجُ إِخْرَاجُ الْمُحَدِّثِ الْأَحَادِيثَ مِنْ بُطُونِ الْأَجْزَاءِ وَالْمَشْيَخَاتِ وَالْكُتُبِ وَنَحْوِهَا، وَسِيَاقُهَا مِنْ مَرْوِيَّاتِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَوْ أَقْرَانِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا وَعَزْوُهَا لِمَنْ رَوَاهَا مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ وَالدَّوَاوِينِ مَعَ بَيَانِ الْبَدَلِ وَالْمُوَافَقَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا سَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ، وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخْرَاجِ وَالْعَزْوِ. وَالتَّصْنِيفُ جَعْلُ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ، وَالِانْتِقَاءُ الْتِقَاطُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَالْمَسَانِيدِ وَنَحْوِهَا مَعَ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهَا عُرْفًا مَكَانَ الْآخَرِ، فَبِاشْتِغَالِكَ بِالتَّأْلِيفِ (تَمْهَرْ) - بِالْجَزْمِ مَعَ مَا بَعْدَهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْمَنْوِيِّ فِي الْأَمْرِ - فِي الصِّنَاعَةِ، وَتَقِفْ عَلَى غَوَامِضِهَا، وَتَسْتَبِنْ لَكَ الْخَفِيَّ مِنْ فَوَائِدِهَا، (وَتُذْكَرْ) بِذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَصِّلِينَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَيُرْجَى لَكَ بِالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ الرُّقِيُّ إِلَى أَوْجِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّةِ الْجَسِيمَةِ. وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ، كَمَا رُوِّينَاهُ فِي جَامِعِهِ: قَلَّمَا يَتَمَهَّرُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَيَقِفُ عَلَى غَوَامِضِهِ، وَيَسْتَبِينُ الْخَفِيَّ مِنْ فَوَائِدِهِ إِلَّا مَنْ جَمَعَ مُتَفَرِّقَهُ، وَأَلَّفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 مُشَتَّتَهُ، وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَاشْتَغَلَ بِتَصْنِيفِ أَبْوَابِهِ وَتَرْتِيبِ أَصْنَافِهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِمَّا يُقَوِّي النَّفْسَ، وَيُثَبِّتُ الْحِفْظَ، وَيُذَكِّي الْقَلْبَ، وَيُشْحِذُ الطَّبْعَ، وَيَبْسُطُ اللِّسَانَ، وَيُجِيدُ الْبَنَانَ، وَيَكْشِفُ الْمُشْتَبِهَ، وَيُوَضِّحُ الْمُلْتَبِسَ، وَيُكْسِبُ أَيْضًا جَمِيلَ الذِّكْرِ، وَتَخْلِيدَهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيِي الْعِلْمُ ذِكْرَهُمُ ... وَالْجَهْلُ يُلْحِقُ أَحْيَاءً بِأَمْوَاتِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَصْرِيِّ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ شَيْءٍ أَنْتَ كَاسِبُهُ ... فَكُنْ لَهُ طَالِبًا مَا عِشْتَ مُكْتَسِبَا وَالْجَاهِلُ الْحَيُّ مَيْتٌ حِينَ تَنْسُبُهُ وَالْعَالِمُ الْمَيِّتُ حَيٌّ كُلَّمَا نُسِبَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ التَّاجِ السُّبْكِيِّ: الْعَالِمُ وَإِنِ امْتَدَّ بَاعُهُ، وَاشْتَدَّ فِي مَيَادِينِ الْجِدَالِ دِفَاعُهُ، وَاسْتَدَّ سَاعِدُهُ حَتَّى خَرَقَ بِهِ كُلَّ سَدٍّ سَدَّ بَابَهُ، وَأَحْكَمَ امْتِنَاعَهُ، فَنَفْعُهُ قَاصِرٌ عَلَى مُدَّةِ حَيَاتِهِ، مَا لَمْ يُصَنِّفْ كِتَابًا يَخْلُدُ بَعْدَهُ، أَوْ يُورِقْ عِلْمًا يَنْقُلُهُ عَنْهُ تِلْمِيذٌ إِذَا وَجَدَ النَّاسُ فَقْدَهُ، أَوْ تَهْتَدِي بِهِ فِئَةٌ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ أَلْبَسَهَا بِهِ الرَّشَادَ بُرْدُهُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ التَّصْنِيفَ لَأَرْفَعُهَا مَكَانًا ; لِأَنَّهُ أَطْوَلُهَا زَمَانًا، وَأَدْوَمُهَا إِذَا مَاتَ أَحْيَانًا. وَلِذَلِكَ لَا يَخْلُو لَنَا وَقْتٌ يَمُرُّ بِنَا خَالِيًا عَنِ التَّصْنِيفِ، وَلَا يَخْلُو لَنَا زَمَنٌ إِلَّا وَقَدْ تَقَلَّدَ عُقَدُهُ جَوَاهِرَ التَّأْلِيفِ، وَلَا يَجْلُو عَلَيْنَا الدَّهْرُ سَاعَةَ فَرَاغٍ إِلَّا وَنُعْمِلُ فِيهَا الْقَلَمَ بِالتَّرْتِيبِ وَالتَّرْصِيفِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّغَ الْمُصَنِّفُ لِلتَّصْنِيفِ قَلْبَهُ، وَيَجْمَعَ لَهُ هَمَّهُ، وَيَصْرِفَ إِلَيْهِ شُغْلَهُ، وَيَقْطَعَ بِهِ وَقْتَهُ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ الْفَائِدَةَ فَلْيَكْسِرْ قَلَمَ النَّسْخِ، وَلْيَأْخُذْ قَلَمَ التَّخْرِيجِ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 الصُّورِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظَ فِي الْمَنَامِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، خَرِّجْ وَصَنِّفْ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، هَذَا أَنَا تَرَانِي قَدْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ. وَسَاقَ قَبْلَ يَسِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الْإِنْسَانِ وَلَدُهُ الْمُخَلَّدُ. وَعَنْ أَبِي الْفَتْحِ الْبَسْتِيِّ الشَّاعِرِ أَنَّهُ أَنْشَدَ مِنْ نَظْمِهِ: يَقُولُونَ: ذِكْرُ الْمَرْءِ يَبْقَى بِنَسْلِهِ ... وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ فَقُلْتُ لَهُمْ: نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي فَمَنْ سَرَّهُ نَسْلٌ فَإِنَّا بِذَا نَسَلُوا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ) . [التَّصْنِيفُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْمَسَانِيدِ] : (وَهْوَ) التَّأْلِيفُ الْأَعَمُّ (فِي التَّصْنِيفِ) فِي الْحَدِيثِ (طَرِيقَتَانِ) مَأْلُوفَتَانِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: الْأُولَى: (جَمْعُهُ) ; أَيِ: التَّصْنِيفِ بِالسَّنَدِ، (أَبْوَابَا) ; أَيْ: عَلَى الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَتَنْوِيعُهُ أَنْوَاعًا، وَجَمْعُ مَا وَرَدَ فِي كُلِّ حُكْمٍ وَكُلِّ نَوْعٍ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا فِي بَابٍ فَبَابٍ، بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ مَا يَدْخُلُ فِي الْجِهَادِ مَثَلًا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيَامِ. وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَقَيَّدُ بِالصَّحِيحِ ; كَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِذَلِكَ ; كَبَاقِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ قَرِيبًا، وَمَا لَا يَنْحَصِرُ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 وَرُبَّمَا لَمْ يُذْكَرِ الْإِسْنَادُ وَاقْتُصِرَ عَلَى الْمَتْنِ فَقَطْ ; كَـ (الْمَصَابِيحِ) لِلْبَغَوِيِّ، ثُمَّ (الْمِشْكَاةِ) ، وَزَادَ عَلَى الْأَوَّلِ عَزْوَ الْمَتْنِ، وَهُمَا نَافِعَانِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُقَصِّرِ أَهْلُهَا، ثُمَّ مِنَ الْمُبَوِّبِينَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَابٍ وَاحِدٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْكُمُ عَلَى الْحَدِيثِ صَرِيحًا ; كَالتِّرْمِذِيِّ أَوْ إِجْمَالًا كَأَبِي دَاوُدَ. (أَوْ) جَمْعُهُ (مُسْنَدًا) ; أَيْ: عَلَى الْمَسَانِيدِ، (تُفْرِدُهُ صِحَابَا) ; أَيْ: لِلصَّحَابَةِ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ أَنْوَاعُ أَحَادِيثِهِ، وَذَلِكَ كَـ (مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ) وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ قَرِيبًا، وَكَذَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ ; كَـ (مُسْنَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ) ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ شَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ (مُسْنَدِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ) ، وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ - كَمَا سَيَأْتِي - الْقَلِيلُ، وَ (مُسْنَدِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي) ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَوْجُودٍ الْآنَ، وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: (إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ مُسْنَدًا وَتَتَبَّعَهُ، وَأَسَدِ بْنِ مُوسَى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ نُعَيْمٍ سِنًّا، وَأَقْدَمَ سَمَاعًا، فَيُحْتَمَلُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - أَنْ يَكُونَ تَصْنِيفُ نُعَيْمٍ لَهُ فِي حَدَاثَتِهِ، وَتَصْنِيفُ أَسَدٍ بَعْدَهُ فِي كِبَرِهِ) . انْتَهَى. وَلَوْلَا أَنَّ الْجَامِعَ لِـ (مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ) غَيْرُهُ بِحَسَبِ مَا وَقَعَ لَهُ بِخُصُوصِهِ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ لِجَمِيعِ مَا رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ ; فَإِنَّهُ مُكْثِرٌ جِدًّا، لَكَانَ أَوَّلَ مُسْنَدٍ ; فَإِنَّ الطَّيَالِسِيَّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ، وَالْقَصْدُ مِنْهَا - كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ - تَدْوِينُ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا ; لِيُحْفَظَ لَفْظُهُ وَيُسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْحُكْمُ، يَعْنِي فِي الْجُمْلَةِ. وَأَهْلُهَا مِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ أَسْمَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بِأَنْ يَجْعَلَ أُبَيَّ بْنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 كَعْبٍ وَأُسَامَةَ فِي الْهَمْزَةِ ; كَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، ثُمَّ الضِّيَاءِ فِي مُخْتَارَاتِهِ الَّتِي لَمْ تَكْمُلْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ عَلَى الْقَبَائِلِ، فَيُقَدِّمُ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّسَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ عَلَى السَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُقَدِّمُ الْعَشَرَةَ، ثُمَّ أَهْلَ بَدْرٍ، ثُمَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ مَنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، ثُمَّ مَنْ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ الْأَصَاغِرَ الْأَسْنَانِ كَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبِي الطُّفَيْلِ، ثُمَّ بِالنِّسَاءِ، وَيَبْدَأُ مِنْهُنَّ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَهِيَ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهَا أَحْسَنُ، يَعْنِي لِتَقْدِيمِ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وَاللَّتَانِ قَبْلَهَا أَسْهَلُ تَنَاوُلًا مِنْهَا، وَأَسْهَلُهُمَا أَوْلَاهُمَا) . ثُمَّ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ يَجْمَعُ فِي تَرْجَمَةِ كُلِّ صَحَابِيٍّ مَا عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِصِحَّةٍ وَغَيْرِهَا، وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الصَّالِحِ لِلْحُجَّةِ ; كَالضِّيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ ; كَمُسْنَدٍ أَبِي بَكْرٍ مَثَلًا، أَوْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى طَرَفِ الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى بَقِيَّتِهِ، وَيَجْمَعُ أَسَانِيدَهُ إِمَّا مُسْتَوْعِبًا، وَإِمَّا مُقَيِّدًا بِكُتُبٍ مَخْصُوصَةٍ شِبْهَ مَا فَعَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الطَّرَقِيُّ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَقَافٍ - فِي (أَطْرَافِ الْخَمْسَةِ) ، وَالْمِزِّيُّ فِي (أَطْرَافِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ) ، وَشَيْخُنَا فِي (أَطْرَافِ الْكُتُبِ الْعَشَرَةِ) . وَطَرِيقَةُ الْمِزِّيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّحَابِيُّ مِنَ الْمُكْثِرِينَ رَتَّبَ حَدِيثَهُ عَلَى الْحُرُوفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 أَيْضًا فِي الرُّوَاةِ عَنْهُ، وَكَذَا يَفْعَلُ فِي التَّابِعِينَ حَيْثُ يَكُونُ مِنَ الْمُكْثِرِينَ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، وَهَكَذَا. وَقَدْ طَرَّفَ ابْنُ طَاهِرٍ أَحَادِيثَ الْأَفْرَادِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَسَلَكَ ابْنُ حِبَّانَ طَرِيقَةً ثَالِثَةً، فَرَتَّبَ صَحِيحَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ: الْأَوَامِرُ، وَالنَّوَاهِي، وَالْإِخْبَارُ عَمَّا احْتِيجَ لِمَعْرِفَتِهِ ; كَبَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْإِسْرَاءِ، وَمَا فُضِّلَ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْإِبَاحَاتِ، وَأَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي انْفَرَدَ بِفِعْلِهَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ وَشَبَهُهُ، وَنَوَّعَ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهَا أَنْوَاعًا، وَلَعَمْرِي إِنَّهُ وَعْرُ الْمَسْلَكِ، صَعْبُ الْمُرْتَقَى، بِحَيْثُ سَمِعْتُ شَيْخَنَا يَقُولُ: إِنَّهُ رَامَ تَقْرِيبَهُ فَبَعَّدَهُ. [تَصْنِيفُ الْحَدِيثِ مُعَلِّلًا] : (وَجَمْعُهُ) ; أَيِ: الْحَدِيثِ فِي الطَّرِيقَيْنِ أَوِ الطُّرُقِ، (مُعَلَّلَا) يَعْنِي عَلَى الْعِلَلِ بِأَنْ يَجْمَعَ فِي كُلِّ مَتْنٍ طُرُقَهُ، وَاخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَتَّضِحُ إِرْسَالُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا، أَوْ وَقْفُ مَا يَكُونُ مَرْفُوعًا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا قُرِّرَ فِي بَابِهِ. فَفِي الْأَبْوَابِ كَمَا فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهِ، وَفِي الْمَسَانِيدِ (كَمَا فَعَلْ) الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَبُو يُوسُفَ (يَعْقُوبُ) بْنُ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ عُصْفُورٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ، وَتِلْمِيذُ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ مَعِينٍ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ (262) ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَاسَرْجِسِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، فَلَهُ مُسْنَدٌ مُعَلَّلٌ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وَالدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقَةً ثَانِيَةً فِي الطَّرِيقَتَيْنِ. وَهِيَ (أَعْلَى رُتْبَةً) مِنْهُ فِيهِمَا، أَوْ فِيهَا بِدُونِهَا ; فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْعِلَلِ أَجَلُّ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: لَأَنْ أَعْرِفَ عِلَّةَ حَدِيثٍ هُوَ عِنْدِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْتُبَ عِشْرِينَ حَدِيثًا لَيْسَ عِنْدِي. (وَ) لَكِنْ مُسْنَدُ يَعْقُوبَ حَسْبَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ (مَا كَمُلْ) ، بَلِ الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ - مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ، وَالْعَبَّاسِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَبَعْضِ الْمَوَالِي، وَعَمَّارٍ، وَاتَّصَلَ الْأَوَّلُ مِنْ عَمَّارٍ، خَاصَّةً لِلذَّهَبِيِّ وَشَيْخِنَا وَمُؤَلِّفِهِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَجْزَاءِ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: (وَبَلَغَنِي أَنَّ مُسْنَدَ عَلِيٍّ مِنْهُ فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَقِيلَ لِي: إِنَّ نُسْخَةً لِمُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْهُ شُوهِدَتْ بِمِصْرَ، فَكَانَتْ مِائَتَيْ جُزْءٍ، قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ أَرْبَعُونَ لِحَافًا أَعَدَّهَا لِمَنْ كَانَ يَبِيتُ عِنْدَهُ مِنَ الْوَرَّاقِينَ الَّذِينَ يُبَيِّضُونَ الْمُسْنَدَ، وَلَزِمَهُ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، يَعْنِي لِمَنْ يُبَيِّضُهُ) . وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَوْ تَمَّ لَكَانَ فِي مِائَتَيْ مُجَلَّدٍ، وَلِنَفَاسَتِهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَوْ كَانَ مَسْطُورًا عَلَى حَمَامٍ لَوَجَبَ أَنْ يُكْتَبَ، يَعْنِي: لَا يَحْتَاجُ إِلَى سَمَاعٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ الشُّيُوخَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمْ يَتْمُمْ مُسْنَدٌ مُعَلَّلٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 وَلَهُمْ طَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي جَمْعِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ جَمْعُهُ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَيَجْعَلُ حَدِيثَ: ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) فِي الْهَمْزَةِ، كَأَبِي مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيِّ فِي (مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ) ، كَذَا عَمِلَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي أَحَادِيثِ (الْكَامِلِ) لِابْنِ عَدِيٍّ، وَسَلَكْتُ ذَلِكَ فِي مَا اشْتَهَرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَتِّبُ عَلَى الْكَلِمَاتِ، لَكِنْ غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ، مُقْتَصِرًا عَلَى أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ فَقَطْ، (كَالشِّهَابِ) وَ (الْمَشَارِقِ) لِلصَّغَانِيِّ، وَهُوَ أَحْسَنُهُمَا وَأَجْمَعُهُمَا مَعَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الصَّحِيحِ خَاصَّةً. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُلِمُّ بِغَرِيبِ الْحَدِيثِ وَإِعْرَابِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ. [جَمْعُ الْأَبْوَابِ وَالشُّيُوخِ] : (وَجَمَعُوا) أَيْضًا (أَبْوَابًا) مِنْ أَبْوَابِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْجَامِعَةِ لِلْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، فَأَفْرَدُوهَا بِالتَّأْلِيفِ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَاكَ الْكِتَابُ كِتَابًا مُفْرَدًا ; كَكِتَابٍ (التَّصْدِيقِ بِالنَّظَرِ لِلَّهِ تَعَالَى) لِلْآجُرِّيِّ، وَ (الْإِخْلَاصِ) لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَ (الطَّهُورِ) لِأَبِي عُبَيْدٍ وَلِابْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَ (الصَّلَاةِ) لِأَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ. وَ (الْآذَانِ وَالْمَوَاقِيتِ) فِي تَصْنِيفَيْنِ لِأَبِي الشَّيْخِ، وَ (الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ) فِي تَصْنِيفَيْنِ لِلْبُخَارِيِّ، وَ (الْبَسْمَلَةِ) لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ، وَ (الْقُنُوتِ) لِابْنِ مَنْدَهْ، وَ (سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ) لِلْحَرْبِيِّ، وَ (التَّهَجُّدِ) لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَ (الْعِيدَيْنِ) لَهُ، وَ (الْجَنَائِزِ) لِعُمَرَ بْنِ شَاهِينَ، وَ (ذِكْرِ الْمَوْتِ) لِلْمَرَنْدِيِّ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَ (الْعَزَاءِ) لَهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وَ (الْمُحْتَضَرِينَ) لَهُ. وَ (الزَّكَاةِ) لِيُوسُفَ الْقَاضِي، وَ (الْأَمْوَالِ) لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَ (الصِّيَامِ) لِجَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ وَلِيُوسُفَ الْقَاضِي، وَ (الْمَنَاسِكِ) لِلْحَرْبِيِّ وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَمَا يَفُوقُ الْوَصْفَ كَ (الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ) لِلدَّارَقُطْنِيِّ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ كِتَابِنَا هَذَا قَدْ أَفْرَدُوا أَحَادِيثَهُ بِالْجَمْعِ وَالتَّصْنِيفِ. (اوْ) جَمَعُوا (شُيُوخًا) مَخْصُوصِينَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ ; كَالْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، وَالنَّسَائِيِّ فِي الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: يُقَالُ: (مَنْ لَمْ يَجْمَعْ حَدِيثَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ فَهُوَ مُفْلِسٌ فِي الْحَدِيثِ: الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُمْ أُصُولُ الدِّينِ) . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَجْمَعُونَ حَدِيثَ خَلْقٍ كَثِيرٍ سِوَاهُمْ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ) . قُلْتُ: قَدْ سَرَدَ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ جُمْلَةً، وَهَذَا غَيْرُ جَمْعِ الرَّاوِي شُيُوخَ نَفْسِهِ ; كَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ الْمُرَتَّبِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي شُيُوخِهِ، وَكَذَا لَهُ الْمُعْجَمُ الصَّغِيرُ، لَكِنَّهُ يَقْتَصِرُ غَالِبًا عَلَى حَدِيثٍ فِي كُلِّ شَيْخٍ. [جَمْعُ التَّرَاجِمِ وَالطَّرْقِ] : (اوْ) جَمَعُوا (تَرَاجِمًا) مَخْصُوصَةً كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 (أَوْ) جَمَعُوا (طُرُقًا) لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ ; كَطُرُقِ حَدِيثِ قَبْضِ الْعِلْمِ لِلطُّوسِيِّ وَنَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَطُرُقِ حَدِيثِ ( «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ» ) لِبَعْضِهِمْ، وَطُرُقِ حَدِيثِ ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ» ) لِلطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فِي مَقَاصِدَ لَهُمْ فِي التَّصْنِيفِ يَطُولُ شَرْحُهَا. وَإِذَا جَمَعْتَ عَلَى الْمَسَانِيدِ فَمَيِّزِ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْمَوْقُوفِ، وَتَحَرَّزْ مِنْ إِدْخَالِ الْمَرَاسِيلِ لِظَنِّكَ صُحْبَةَ الْمُرْسَلِ، أَوْ عَلَى الْأَبْوَابِ الَّذِي هُوَ أَسْهَلُ مُطْلَقًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْخَطِيبُ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَابْنُ الْأَثِيرِ وَقَالَ: لِكَوْنِ الْمَرْءِ غَالِبًا قَدْ يَعْرِفُ الْمَعْنَى الَّذِي يَطْلُبُ الْحَدِيثَ لِأَجْلِهِ دُونَ رَاوِيهِ، وَلِكِفَايَتِهِ الْمَؤُونَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ ذَاكَ الْحُكْمِ الْمُتَرْجَمِ بِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ فِيهِ. وَمَدَحَهُ وَكِيعٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْتَ الْآخِرَةَ فَصَنِّفِ الْأَبْوَابَ. وَقَالَ فِيهِ الشَّعْبِيُّ: بَابٌ مِنَ الطَّلَاقِ جَسِيمٌ. وَكَانَ الثَّوْرِيُّ صَاحِبَ أَبْوَابٍ، فَقَدَّمَ مِنْهَا - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - الْأَحَادِيثَ الْمُسْنَدَاتِ، ثُمَّ الْمَرَاسِيلَ وَالْمَوْقُوفَاتِ وَمَذَاهِبَ الْقُدَمَاءِ مِنْ مَشْهُورِي الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: الْأَبْوَابُ تُبْنَى عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ ; فَطَبَقَةِ الْمُسْنَدِ، وَطَبَقَةِ الصَّحَابَةِ، وَطَبَقَةِ التَّابِعِينَ، وَيُقَدِّمُ قَوْمٌ الْكِبَارَ مِنْهُمْ ; مِثْلَ شُرَيْحٍ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَكْحُولٍ وَالْحَسَنِ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ، وَبَعْدَ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعَ التَّابِعِينَ ; مِثْلَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَابْنِ هُرْمُزٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَلَا تُورِدْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ رِجَالِهِ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 رُوَاتِهِ، يَعْنِي فَإِنَّكَ بِصَدَدِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمَطْلُوبِ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ بِخِلَافِ الْمَسَانِيدِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ أَعْلَى رُتْبَةً كَمَا سَبَقَ قُبَيْلِ الضَّعِيفِ) . قَالَ الْخَطِيبُ: (فَإِنْ لَمْ يَصِحْ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ فَاقْتَصِرْ عَلَى إِيرَادِ الْمَوْقُوفِ وَالْمُرْسَلِ، قَالَ: وَهَذَانَ النَّوْعَانِ أَكْثَرُ مَا فِي كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ ; إِذْ كَانُوا لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمُسْنَدَاتِ مُسْتَنْكِرِينَ) . وَقَدْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ: (سَلْنِي وَلَا تَسْأَلْنِي عَنِ الطَّوِيلِ وَلَا الْمُسْنَدِ، أَمَّا الطَّوِيلُ فَكُنَّا لَا نَحْفَظُ، وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا وَالَى بَيْنَ حَدِيثَيْنِ مُسْنَدَيْنِ رَفَعْنَا إِلَيْهِ رُؤُوسَنَا اسْتِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ) . انْتَهَى. وَالِاقْتِصَارُ فِي الْأَبْوَابِ عَلَى مَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ هُوَ الْأَوْلَى، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ شَيْخُنَا، فَقَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ، فَإِنْ جَمَعَ الْجَمِيعَ فَلْيُبَيِّنْ عِلَّةَ الضَّعِيفِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلْتَكُنْ عِنَايَتُهُ بِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ أَهَمَّهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ صَحِيحِ الْحَدِيثِ، قَالَ: وَمِنَ الْخَطَأِ الِاشْتِغَالُ بِالتَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِيلَاتِ مَعَ تَضْيِيعِ الْمُهِمَّاتِ. وَلْيَتَحَرَّ الْعِبَارَاتِ الْوَاضِحَةَ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةَ، وَلَا يَقْصِدْ بِشَيْءٍ مِنْهُ الْمُكَاثَرَةَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، وَالْحَذَرُ مِنْ قَصْدِ الْمُكَاثَرَةِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ أَنَّهُ خَرَّجَ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ طَرِيقٍ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، فَرَأَى يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فِي مَنَامِهِ، فَذَكَرَ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا تَحْتَ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] . [كَرَاهَةُ التَّأْلِيفِ لِلْقَاصِرِ] (وَقَدْ رَأَوْا) ; أَيِ: الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، (كَرَاهَةَ الْجَمْعِ) وَالتَّأْلِيفِ (لِذِي تَقْصِيرِ) عَنْ بُلُوغِ مَرْتَبَتِهِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَتَشَاغَلَ بِمَا سَبَقَ بِهِ، أَوْ بِمَا غَيْرُهُ أَوْلَى، أَوْ بِمَا لَمْ يَتَأَهَّلْ بَعْدُ لِاجْتِنَاءِ ثَمَرَتِهِ، وَاقْتِنَاصِ فَائِدَةِ جَمْعِهِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: إِذَا رَأَيْتَ الْحَدَثَ، أَوَّلَ مَا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، يَجْمَعُ حَدِيثَ الْغُسْلِ وَحَدِيثَ ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ» ) فَاكْتُبْ عَلَى قَفَاهُ: (لَا يُفْلِحُ) . وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: إِذَا رَأَيْتَ الْمُحَدِّثَ يَفْرَحُ بِعَوَالِي أَبِي هُدْبَةَ، وَيَعْلَى بْنَ الْأَشْدَقِ - وَسَمَّى غَيْرَهُمَا - فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامِّيٌّ بَعْدُ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِحَصِيفٍ يَتَصَدَّى إِلَى تَصْنِيفٍ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ غَرَضَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَخْتَرِعَ مَعْنًى، أَوْ يُبْدِعَ وَضْعًا وَمَبْنًى، وَمَا سِوَى هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ تَسْوِيدُ الْوَرَقِ، وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ السَّرَقِ. [كَرَاهَةُ الْإِخْرَاجِ بِدُونِ التَّحْرِيرِ] : وَ (كَذَاكَ) رَأَى الْأَئِمَّةُ كَرَاهَةً (الْإِخْرَاجِ) مِمَّنْ يُصَنِّفُ لِشَيْءٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ إِلَى النَّاسِ (بِلَا تَحْرِيرِ) وَتَهْذِيبٍ وَتَكْرِيرٍ لِنَظَرٍ فِيهِ وَتَنْقِيبٍ. قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: لَحْظَةُ الْقَلْبِ أَسْرَعُ خُطْوَةً مِنْ لَحْظَةِ الْعَيْنِ، وَأَبْعَدُ غَايَةً، وَأَوْسَعُ مَجَالًا، وَهِيَ الْغَائِصَةُ فِي أَعْمَاقِ أَوْدِيَةِ الْفِكْرِ، وَالْمُتَأَمِّلَةُ لِوُجُوهِ الْعَوَاقِبِ، وَالْجَامِعَةِ بَيْنَ مَا غَابَ وَحَضَرَ، وَالْمِيزَانُ الشَّاهِدُ عَلَى مَا نَفَعَ وَضَرَّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وَالْقَلْبُ كَالْمُمْلِي لِلْكَلَامِ عَلَى اللِّسَانِ إِذَا نَطَقَ، وَالْيَدِ إِذَا كَتَبَتْ، فَالْعَاقِلُ يَكْسُو الْمَعَانِيَ وَشْيَ الْكَلَامِ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ يُبْدِيهَا بِأَلْفَاظٍ كَوَاشٍ فِي أَحْسَنِ زِينَةٍ، وَالْجَاهِلُ يَسْتَعْجِلُ بِإِظْهَارِ الْمَعَانِي قَبْلَ الْعِنَايَةِ بِتَزْيِينِ مَعَارِضِهَا، وَاسْتِكْمَالِ مَحَاسِنِهَا. وَلْيَعْلَمْ كَمَا قَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ: إِنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِتَصْنِيفِهِ، أَوْ شِعْرِهِ، أَوْ رِسَالَتِهِ. وَكَمَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي سَلَامَةٍ مِنْ أَفْوَاهِ النَّاسِ مَا لَمْ يَضَعْ كِتَابًا أَوْ يَقُلْ شِعْرًا) . وَكَمَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ: (إِنَّ مَنْ صَنَّفَ فَقَدِ اسْتَشْرَفَ الْمَدِيحَ وَالذَّمَّ، فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ لِلْحَسَدِ وَالْغِيبَةِ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّتْمِ، وَاسْتَقْذَفَ بِكُلِّ لِسَانٍ) . وَنَحْوُهُ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُقَفَّعِ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ صَنَّفَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ، فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدِ اسْتَعْطَفَ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدَ اسْتَقْذَفَ) . [الْعَالِي وَالنَّازِلُ] [الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ] الْعَالِي وَالنَّازِلُ. (737) وَطَلَبُ الْعُلُوِّ سُنَّةٌ وَقَدْ ... فَضَّلَ بَعْضٌ النُّزُولَ وَهْوَ رَدْ (738) وَقَسَّمُوهُ خَمْسَةً، فَالْأَوَّلُ ... قُرْبٌ مِنَ الرَّسُولِ وَهْوَ الْأَفْضَلُ (739) إِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ وَقِسْمُ الْقُرْبِ ... إِلَى إِمَامٍ وَعُلُوٍّ نِسْبِي (740) بِنِسْبَةٍ لِلْكُتُبِ السِّتَّةِ إِذْ ... يَنْزِلُ مَتْنٌ مِنْ طَرِيقِهَا أُخِذْ [الْإِسْنَادُ خَصِّيصَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ] أَقْسَامُ (الْعَالِي) مِنَ السَّنَدِ (وَالنَّازِلُ) ، وَبَيَانُ أَفْضَلِهِمَا، وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مِنْ بَيَان ِ الْمُوَافَقَةِ وَالْبَدَلِ وَالْمُصَافَحَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. أَصْلُ الْإِسْنَادِ أوَّلًا خِصِّيصَةٌ فَاضِلَةٌ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَسُنَّةٌ بَالِغَةٌ مِنَ السُّنَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 الْمُؤَكَّدَةِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ قُبَيْلَ مَرَاتِبَ التَّعْدِيلِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَاتِمِ بْنِ الْمُظَفَّرِ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَشَرَّفَهَا وَفَضَّلَهَا بِالْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ كُلِّهَا قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا إِسْنَادٌ، إِنَّمَا هُوَ صُحُفٌ فِي أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ خَلَطُوا بِكُتُبِهِمْ أَخْبَارَهُمْ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ تَمْيِيزٌ بَيْنَ مَا نَزَلَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَبَيْنَ مَا أَلْحَقُوهُ بِكُتُبِهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَخَذُوهَا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ. وَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا تَنُصُّ الْحَدِيثَ عَنِ الثِّقَةِ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَانِهِ الْمَشْهُورِ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ عَنْ مِثْلِهِ، حَتَّى تَتَنَاهَى أَخْبَارُهُمْ، ثُمَّ يَبْحَثُونَ أَشَدَّ الْبَحْثِ حَتَّى يَعْرِفُوا الْأَحْفَظَ فَالْأَحْفَظَ، وَالْأَضْبَطَ فَالْأَضْبَطَ، وَالْأَطْوَلَ مُجَالَسَةً لِمَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ كَانَ أَقَلَّ مُجَالَسَةً، ثُمَّ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يُهَذِّبُوهُ مِنَ الْغَلَطِ وَالزَّلَلِ، وَيَضْبِطُوا حُرُوفَهُ، وَيَعُدُّوهُ عَدًّا، فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَنَسْتَوْزِعُ اللَّهَ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أُمَنَاءَ يَحْفَظُونَ آثَارَ الرَّسُولِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ خَصَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يُعْطِهَا مَنْ قَبْلَهَا: الْإِسْنَادِ وَالْأَنْسَابِ وَالْإِعْرَابِ. وَعِنْدَ الْحَاكِمِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مِنْ تَارِيخِهِ بِسَنَدِهِ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ إِذَا سَأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ فَذَكَرْتُهُ لَهُ بِلَا إِسْنَادٍ سَأَلَنِي عَنْ إِسْنَادِهِ، وَيَقُولُ: رِوَايَةُ الْحَدِيثِ بِلَا إِسْنَادٍ مِنْ عَمَلِ الزَّمْنَى ; فَإِنَّ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: (الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، لَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ) . وَفِي رِوَايَةٍ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ أَمْرَ دِينِهِ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ الَّذِي يَرْتَقِي السَّطْحَ بِلَا سُلَّمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: (بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ) يَعْنِي الْإِسْنَادَ. وَقَالَ أَيْضًا لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَيْضًا: ( «إِنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاوِزَ تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ» ) . وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: (مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْحَدِيثَ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ) . وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: (الْإِسْنَادُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ فَبِأَيِ شَيْءٍ يُقَاتِلُ؟) . وَقَالَ بَقِيَّةُ: (ذَاكَرْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ بِأَحَادِيثَ، فَقَالَ: مَا أَجْوَدَهَا لَوْ كَانَ لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ يَعْنِي الْأَسَانِيدَ) . وَقَالَ مَطَرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] ، قَالَ: (إِسْنَادُ الْحَدِيثِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 [طَلَبُ الْعُلُوِّ فِي الْحَدِيثِ سُنَّةٌ] : (وَطَلَبُ الْعُلُوِّ) الَّذِي هُوَ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فِي السَّنَدِ أَوْ قِدَمُ سَمَاعِ الرَّاوِي أَوْ وَفَاتِهِ (سُنَّةٌ) عَمَّنْ سَلَفَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بَلْ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، مُتَمَسِّكًا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي مَجِيءِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْمَعَ مِنْهُ مُشَافَهَةً مَا سَلَفَ سَمَاعُهُ لَهُ مِنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْعُلُوُّ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ، وَتَرْكَ اقْتِصَارِهِ عَلَى خَبَرِهِ لَهُ. وَلَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ قَوْلَ ضِمَامٍ: (آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) إِخْبَارٌ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ عِيَاضٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ حَضَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مُسْتَثْبِتًا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: (فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ) ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: ( «أَتَتْنَا كُتُبُكَ، وَأَتَتْنَا رُسُلُكَ» ) . أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: (آمَنْتُ) إِنْشَاءٌ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي بَابٍ مَا جَاءَ فِي الْمُشْرِكِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ مُتَمَسِّكًا فِيهِ بِقَوْلِهِ: (زَعَمَ) ; فَإِنَّ الزَّعْمَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، فَلَا ; فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَكُونُ مَجِيئُهُ وَهُوَ شَاكٌّ لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَدِّقْهُ، وَأَرْسَلَهُ قَوْمُهُ لِيَسْأَلَ لَهُمْ. قَالَ شَيْخُنَا: (وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَالزَّعْمُ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ كَمَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ فَصِيحِ شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهَ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلَوْ كَانَ إِنْشَاءً لَكَانَ طَلَبَ مُعْجِزَةً تُوجِبُ لَهُ التَّصْدِيقَ، عَلَى أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 لَمْ تَظْهَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ) ، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَطَرَقَهُ الِاحْتِمَالُ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ ضِمَامٌ قَصَدَ الْعُلُوَّ، وَكَذَا نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ قَصَدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي بَاقِي الْخَبَرِ: ( «وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي» ) . وَعَلَى تَقْدِيرِ تَحَتُّمِ قَصْدِ الْعُلُوِّ فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ جَائِزًا، وَلَكِنْ قَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ لَمَّا رَآهُ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ فِي الْجَسَّاسَةِ: ( «يَا تَمِيمُ، حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي» ) . وَبِقَوْلِهِ أَيْضًا: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ) الْحَدِيثَ ; فَإِنَّ الْعُلُوَّ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ أَدْرَكَ إِسْنَادًا عَالِيًا فِي الصِّغَرِ رَجَا عِنْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَالْكِبَرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَرْنٍ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالَّذِي بَعْدَهُ وَيَلِيهِ. وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ: قُرْبُ الْإِسْنَادِ قُرَبٌ، أَوْ قَالَ: قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; فَإِنَّ الْقُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ بِلَا شَكٍّ قُرْبٌ إِلَى اللَّهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ فِي جُزْءِ (مَا قَرُبَ سَنَدُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ تَخْرِيجِهِ: نَرْجُو بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنْ نَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) . ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا. قُلْتُ: وَهَذَا أَقْصَى مَا قِيلَ فِي تَحْدِيدِهِ، وَلَكِنَّ أَشْهَرَهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 الْقَرْنَ مِائَةٌ. وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ لِلْعُلُوِّ أَيْضًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَنَامِ الْأَذَانَ، وَأَعْلَمَهُ بِأَلْفَاظِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، قَالَ لَهُ: (أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ) ، وَلَمْ يُلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ سَمِعَ عَنْ عَائِشَةَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ: (لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَدَخَلْتُ حَتَّى تُشَافِهَنِي بِهِ) . وَكَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ لَهُ اسْتِحْبَابُ الرِّحْلَةِ ; إِذْ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّازِلِ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - إِبْطَالٌ لَهَا وَتَرْكُهَا، وَقَدْ رَحَلَ خَلْقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلَى الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ كَمَا قَدَّمْنَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: (وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَرْحَلُونَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ عُمَرَ وَيَسْمَعُونَهُ مِنْهُ) . وَهَذَا كُلُّهُ شَاهِدٌ لِتَفْضِيلِ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، بَلْ لَمْ يَحْكِ الْحَاكِمُ خِلَافَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُكْتَفَى بِسَمَاعِ النَّازِلِ مَعَ وُجُودِ الْعَالِي، وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي الِاكْتِفَاءِ وَعَدَمِهِ مَذْهَبَيْنِ، وَذَكَرَ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَوَّلِ قَوْلَ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَتْ لَنَا ضِيَاعٌ وَأَشْغَالٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَكْذِبُونَ يَوْمَئِذٍ، فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) . وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: كُنَّا نَكُونُ فِي مَجْلِسِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ فَنَسْمَعُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 أَيُّوبَ فَنَكْتُبُهُ مِنْهُ، وَلَا نَسْأَلُ مَنْ أَيُّوبُ. وَمَيَّلَ أَحْمَدُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ ; حَيْثُ فَوَّتَ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعُلُوِّ مَنْ يَسْتَرْشِدُ بِهِ لِلِاسْتِنْبَاطِ وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَعِينٍ: إِنْ فَاتَكَ حَدِيثٌ بِعُلُوٍّ وَجَدْتَهُ بِنُزُولٍ، وَإِنْ فَاتَكَ عَقْلُ هَذَا الْفَتَى - وَعَنَى إِمَامَنَا الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَوْشَكَ أَنْ لَا تَرَاهُ. [تَفْضِيلُ النُّزُولِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ] : (وَقَدْ فَضَّلَ بَعْضٌ) مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ خَلَّادٍ وَالْخَطِيبُ غَيْرَ مُعَيِّنَيْنِ لَهُ (النُّزُولَ) ; فَإِنَّ الْعُلُوَّ - كَمَا قَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ - مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ كَلَامٌ وَاقِعٌ، فَالْغَالِبُ عَلَى الطَّالِبِينَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَوْلُهُمُ: الْعُلُوُّ قُرْبٌ مِنَ اللَّهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ وَبَحْثٍ، وَكَأَنَّهُ لِمَا لَعَلَّهُ يَتَضَمَّنُ مِنْ إِثْبَاتِ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ جَرْحِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ وَتَعْدِيلِهِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي أَحْوَالِ رُوَاةِ النَّازِلِ أَكْثَرُ، فَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ. قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَبَرَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، يَعْنِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبَحْثَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الْخَبَرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، أَوْ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّازِلِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى كَثْرَةِ الْوَسَائِطِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَكْثِيرِ الْخَبَرِ يَتَضَمَّنُ تَرْجِيحَ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ. وَيُسَاعِدُ هَذَا الْقَوْلَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ مَهْدِيٍّ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يَطْلُبِ الْإِسْنَادَ، يَعْنِي: التَّغَالِيَ فِيهِ. وَاسْتِعْمَالُ (بَعْضٍ) بِلَا إِضَافَةٍ قَلِيلٌ كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي (غَيْرٍ) مِنْ مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ. (وَهْوَ) ; أَيِ: الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ النُّزُولِ، (رَدْ) ; أَيْ: مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ ; لِضَعْفِهِ وَضَعْفِ حُجَّتِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ ; لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَشَقَّةِ - فِيمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - لَيْسَتْ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا. قَالَ: وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ الرِّوَايَةِ - وَهُوَ الصِّحَّةُ - أَوْلَى، وَأَيَّدَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقْصِدُ الْمَسْجِدَ لِلْجَمَاعَةِ فَيَسْلُكُ الطَّرِيقَ الْبَعِيدَةَ لِتَكْثِيرِ الْخُطَا رَغْبَةً فِي تَكْثِيرِ الْأَجْرِ، وَإِنْ أَدَّاهُ سُلُوكُهَا إِلَى فَوْتِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِيثِ التَّوَصُّلُ إِلَى صِحَّتِهِ، وَبُعْدُ الْوَهْمِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ رِجَالُ الْإِسْنَادِ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ، وَكُلَّمَا قَصُرَ السَّنَدُ كَانَ أَسْلَمَ. وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ: وَمِنْهُمْ، أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، مَنْ يَرَى أَنَّ سَمَاعَ الْعَالِي أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَاطِرٌ، وَسُقُوطُ بَعْضِ الْإِسْنَادِ مُسْقِطٌ لِبَعْضِ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَامَةِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْعُلُوُّ يُبْعِدُ الْإِسْنَادَ مِنَ الْخَلَلِ ; لِأَنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ رِجَالِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا، فَفِي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ، وَفِي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ، قَالَ: وَهَذَا جَلِيٌّ وَاضِحٌ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا أَعْلَمُ وَجْهًا جَيِّدًا لِتَرْجِيحِ الْعُلُوِّ إِلَّا أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ وَقِلَّةِ الْخَطَأِ ; فَإِنَّ الطَّالِبِينَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِتْقَانِ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْإِتْقَانِ، فَإِذَا كَثُرَتِ الْوَسَائِطُ، وَوَقَعَ مِنْ كُلِّ وَاسِطَةٍ تَسَاهُلٌ مَا، كَثُرَ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، وَإِذَا قَلَّتِ الْوَسَائِطُ قَلَّ. انْتَهَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَرْجِيحِ مَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ عَلَى مَا كَثُرَتْ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ، ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ تَفْضِيلَ النُّزُولِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ رَاوِيَ الْعَالِي أَحْفَظَ أَوْ أَوْثَقَ أَوْ أَضَبَطَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ جَزْمًا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا انْضَمَّ إِلَى النُّزُولِ الْإِتْقَانُ، وَكَانَ الْعُلُوُّ بِضِدِّهِ لَا تَرَدُّدَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - فِي أَنَّ النُّزُولَ أَقْوَى، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَسَأَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ آخِرَ الْبَابِ. وَحِينَئِذٍ فَمَحَلُّ الِاخْتِلَافِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ مَا عَدَا العُّلُوَّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعُلُوُّ أَفْضَلُ، وَطَلَبُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ - مِنْ عُلُوِ هِمَّةِ الْمُحَدِّثِ، وَنُبْلِ قَدْرِهِ، وَجَزَالَةِ رَأْيِهِ. وَلِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ النَّقْلِ عَلَى طَلَبِهِمْ لَهُ، وَمَدْحِهِمْ إِيَّاهُ، حَتَّى إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُورِدْ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ ; لِكَوْنِهِ لَا يَصِلُ لِمَالِكٍ مِنْ طَرِيقِهِ إِلَّا بِوَاسِطَتَيْنِ، وَهُوَ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِإِدْرَاكِهِ أَصْحَابَهُ كَالْقَعْنَبِيِّ، فَلَمْ يَرَ النُّزُولَ مَعَ إِمْكَانِ الْعُلُوِّ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَلَى شُعَيْبٍ ; إِذْ كَانَ مِنْ أَحْسَنِ مَا أَدْرَكَهُ مِنَ الْإِسْنَادِ، وَأَقَلَّ مِنَ الرِّوَايَةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَقَعَ لَهُ بِنُزُولٍ، عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ تِلْمِيذُهُ مُسْلِمٌ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ; كَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَدَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، وَسُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَبَّادِ بْنِ مُوسَى الْخُتُلِّيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ. مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ رَوَى عَنْهُ بِدُونِهَا ; إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ إِلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 مِنْهُمْ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْتُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَقِيلَ لِابْنِ مَعِينٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: بَيْتٌ خَالٍ، وَإِسْنَادٌ عَالٍ. (وَ) قَدْ (قَسَّمُوهُ) ; أَيْ: قَسَّمَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَابَعَهُمَا الْعُلُوَّ (خَمْسَةً) مِنَ الْأَقْسَامِ، مَعَ اخْتِلَافِ كَلَامَيِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي مَاهِيَّةِ بَعْضِهَا، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى عُلُوِّ مَسَافَةٍ، وَهُوَ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ، وَإِلَى عُلُوِّ صِفَةٍ. [أَجْلُّ الْعُلُوِّ الْقُرْبُ مِنَ الرَّسُولِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ] : (فَالْأَوَّلُ) مِنَ الْأَقْسَامِ مِمَّا هُوَ عُلُوُّ مَسَافَةٍ عُلُوٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا فِيهِ (قُرْبٌ) مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ (مِنَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ بِالنَّظَرِ لِسَائِرِ الْأَسَانِيدِ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَنَدٍ آخَرَ فَأَكْثَرَ يَرِدُ بِهِ ذَلِكَ الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ، عَدَدُهُ أَكْثَرُ. (وَ) هَذَا الْقِسْمُ (هُوَ الْأَفْضَلُ) الْأَجَلُّ مِنْ بَاقِي أَقْسَامِهِ، وَأَعْلَى مِنْ سَائِرِ الْعَوَالِي، وَلَكِنْ مَحَلُّهُ (إِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ) بِالنَّقْلِ ; لِأَنَّ الْقُرْبَ مَعَ ضَعْفِهِ بِسَبَبِ بَعْضِ رُوَاتِهِ لَا اعْتِدَادَ بِهِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، خُصُوصًا إِنِ اشْتَدَّ الضَّعْفُ حَيْثُ كَانَ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا السَّمَاعَ مِنَ الصَّحَابَةِ ; كَأَبِي هُدْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هُدْبَةَ، وَخِرَاشٍ، وَدِينَارٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَغْرِبِيِّ أَبِي الدُّنْيَا الْأَشَجِّ، وَكَثِيرِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَمُوسَى الطَّوِيلِ، وَنَافِعٍ أَبِي هُرْمُزٍ، وَنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ، وَيُسْرٍ مَوْلَى أَنَسٍ، وَيَعْلَى بْنَ الْأَشْدَقِ، وَيَغْنَمَ بْنِ سَالِمٍ، وَأَبِي خَالِدٍ السَّقَّاءِ. أَوِ ادَّعَى فِيهِمُ الصُّحْبَةَ ; كَجُبَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ مَحْمُودٍ الْمَارِدِينِيِّ، وَرَتَنٍ وَسَرِبَاتِكَ الْهِنْدِيَّيْنِ، وَمَعْمَرٍ، وَنَسْطُورَ أَوِ ابْنِ نَسْطُورَ الرُّومِيِّ، وَيُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحَابَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وَقَدْ أَنْشَدَ الْحَافِظُ السِّلَفِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ قَوْلَهُ: حَدِيثُ ابْنِ نَسْطُورٍ وَيُسْرٍ وَيَغْنَمَ ... وَقَوْلُ أَشَجَّ الْغَرْبِ ثُمَّ خِرَاشِ وَنُسْخَةُ دِينَارٍ وَأَخْبَارُ تِرْبِهِ أَبِي هُدْبَةَ الْبَصْرِيِّ شِبْهُ فَرَاشِ. وَعَزَّزَهُمَا مُحَمُّدُ بْنُ جَابِرِ الْوَادِي آشِي بِثَالِثٍ: رَتَنٌ ثَامِنٌ وَالْمَارِدِينِيُّ تَاسِعٌ ... رَبِيعُ بْنُ مَحْمُودٍ وَذَلِكَ فَاشِ وَلَوْ قَالَ: كَذَا رَتَنٌ، لَكَانَ أَصْلَحَ. وَقَدْ نَظَمَ غَالِبَ الصِّنْفَيْنِ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ مَرْفُوعًا حَدِيثٌ لِسِتَّةٍ ... فَعُدْ وَلَا تَقْبَلْ فَذَاكَ تَخَرُّصُ رَتَنٍ وَابْنِ نَسْطُورٍ وَيُسْرٍ مَعْمَرٍ وَسَرِبَاتِكَ ثُمَّ الرَّبِيعِ الْمُقَلِّصُ وَلَا تَقْبَلُوا عَنْ صَاحِبٍ قَوْلَ نَجْدَةً ... أَبِي خَالِدٍ السَّقَّا وَيَغْنَمَ فَاحْرِصُوا وَيُسْرٍ وَدِينَارٍ خِرَاشٍ أَشَجَّ مَعَ فَتَى بَكْرٍ دَارَ ابْنٌ لِهُدْبَةَ يَرْقُصُ وَتَمْيِيزُ صَحِيحِ الْعَالِي مِنْ سَقِيمِهِ يَعْسُرُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ، وَيَسْهُلُ عَلَى الْعَارِفِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ: مَتَى رَأَيْتَ الْمُحَدِّثَ يَفْرَحُ بِعَوَالِي أَبِي هُدْبَةَ - وَسَمَّى غَيْرَهُ مِمَّنْ سَمَّيْنَاهُمْ وَأَضْرَابِهِمْ - فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامِّيٌّ بَعْدُ. وَسَبَقَهُ صَاحِبُ (شَرَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ) فَقَالَ تَبَعًا لِلْحَاكِمِ وَالْخَلِيلِيِّ: لَيْسَ الْعَالِي مِنَ الْإِسْنَادِ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 يَتَوَهَّمُهُ عَوَامُّ النَّاسِ، يَعُدُّونَ الْأَسَانِيدَ فَمَا وَجَدُوا مِنْهَا أَقْرَبَ عَدَدًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَهَّمُونَهُ أَعْلَى، كَنُسْخَةِ الْخَضِرِ بْنِ أَبَانَ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَبِي هُدْبَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَنُسْخَةِ خِرَاشٍ، وَسَمَّى بَعْضَ مَا ذُكِرَ، وَهَذِهِ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي مَسَانِيدَ الْعُلَمَاءِ مِنْهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ. قَالُوا: وَأَقْرَبُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْأَسَانِيدِ بِعَدَدِ الرِّجَالِ نُسْخَةُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ كُلٍّ مِنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَحُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ. انْتَهَى. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ شَيْخَ شُيُوخِنَا السَّرَّاجَ بْنَ الْمُلَقِّنِ مَعَ جَلَالَتِهِ عَقَدَ مَجْلِسَ الْإِمْلَاءِ، فَأَمْلَى - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - الْمُسَلْسَلَ بِالْأَوَّلِيَّةِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى أَحَادِيثِ خِرَاشٍ وَأَضْرَابِهِ مِنَ الْكَذَّابِينَ فَرِحًا بِعُلُوِّهَا. قَالَ شَيْخُنَا: (وَهَذَا مِمَّا يَعِيبُهُ أَهْلُ النَّقْدِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ النُّزُولَ حِينَئِذٍ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ كَالْعَدَمِ) . انْتَهَى. وَأَعْلَى مَا يَقَعُ لَنَا مِنْ بَيْنِ الْقُدَمَاءِ مِنْ شُيُوخِنَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَشَرَةَ أَنْفُسٍ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَيْلَانِيَّاتِ، وَجُزْءِ الْأَنْصَارِيِّ، وَجُزْءِ ابْنِ عَرَفَةَ، وَجُزْءِ الْغِطْرِيفِ، وَغَيْرِهَا، بَلْ وَتَقَعُ لِي الْعُشَارِيَّاتُ بِالسَّنَدِ الْمُتَمَاسِكِ مِنْ (الْمُعْجَمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 الصَّغِيرِ) لِلطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْآنَ فِي الدُّنْيَا أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ. وَكَذَا وَقَعَتِ الْعُشَارِيَّاتُ لِشَيْخِي بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَمَاسِكَةِ، وَلِشُيُوخِهِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمْلَى مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا، وَخَرَّجَ مِنْهَا مِنْ مَرْوِيَّاتِ شَيْخِهِ التَّنُوخِيِّ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، وَمِنْ مَرْوِيَّاتِ شَيْخِهِ الْمُصَنِّفِ سِتِّينَ كَمَّلَ بِهَا الْأَرْبَعِينَ الَّتِي كَانَ الشَّيْخُ خَرَّجَهَا لِنَفْسِهِ. وَأُفْرِدَتِ التُّسَاعِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِ شُيُوخِنَا ; كَالْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ جُمَاعَةَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَيَانِيِّ. وَكَذَا لِأَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اللَّخْمِيِّ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي حَيَّانَ التُّسَاعِيَّاتُ. وَأُفْرِدَتِ الثَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَاسِطَتَانِ ; كَالنَّجِيبِ الْحَرَّانِيِّ وَمُؤْنِسَةَ خَاتُونَ، وَكَذَا لِلرَّشِيدِ الْعَطَّارِ وَالضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ. وَالسُّبَاعِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ثَلَاثَةُ وَسَائِطَ ; كَأَبِي جَعْفَرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ. وَالسُّدَاسِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ خَمْسَةٌ ; كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ وَزَاهِرِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 طَاهِرٍ. وَالْخُمَاسِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ خَمْسَةٌ أَيْضًا ; كَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ النَّقُّورِ وَزَاهِرٍ أَيْضًا. وَأُفْرِدَتْ مِنْ (سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ) وَالرُّبَاعِيَّاتِ لِمَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سَبْعَةٌ ; كَأَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ أَعْلَى مَا فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَ (أَبِي عَوَانَةَ) وَ (السُّنَنِ) لِلنَّسَائِيِّ. وَأَمَّا الثُّلَاثِيَّاتُ، فَفِي مُسْنَدِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْهَا جُمْلَةٌ، وَكَذَا الْكَثِيرُ فِي (مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ) ، وَمَا يَنِيفُ عَنْ عِشْرِينَ حَدِيثًا فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) ، وَلَيْسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْهَا مَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَحَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي كُلٍّ مِنْ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ فِي ابْنِ مَاجَهْ، لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ. وَفِي مَعَاجِمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْهَا الْيَسِيرُ. وَالثُّنَائِيَّاتُ فِي (مُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ) ، وَلِلْوُحْدَانِ فِي حَدِيثِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ بِسَنَدٍ غَيْرِ مَقْبُولٍ ; إِذِ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. [الْعُلُوُّ بِالْقُرْبِ إِلَى إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ] : (وَ) الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ: عُلُوٌّ نِسْبِيٌّ، وَهُوَ (قِسْمُ الْقُرْبِ إِلَى إِمَامٍ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ مِنْ حِفْظٍ وَفِقْهٍ وَضَبْطٍ ; كَالْأَعْمَشِ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمٍ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ كَمَا سَلَفَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَقَلُّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ بِالسَّنَدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 الْجَيِّدِ تِسْعَةُ وَسَائِطَ، إِلَّا هُشَيْمًا فَثَمَانِيَةٌ، وَحَدِيثُهُ فِي جُزْءِ ابْنِ عَرَفَةَ. ثُمَّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَدَدُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ ذَاكَ الْإِمَامِ إِلَى مُنْتَهَاهُ عَالِيًا ; كَابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ كُلٍّ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَحُمَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسٍ، أَوْ نَازِلًا كَابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَكِنَّهُ فِي الْعَالِي الْغَايَةُ الْقُصْوَى. وَقَدْ أَدْرَجَ شَيْخُنَا فِي هَذَا الْقِسْمِ الْعُلُوَّ إِلَى صَاحِبِ تَصْنِيفٍ ; كَالصَّحِيحَيْنِ، وَالْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةُ وَسَائِطَ، بَلْ وَفِي بَعْضِهَا أَقَلُّ، وَأَفْرَدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي قِسْمٍ مُسْتَقِلٍّ. وَكَذَا ابْنُ طَاهِرٍ فِي تَصْنِيفِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ، لَكِنَّهُ جَعَلَهُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعُلُوُّ إِلَى صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي زُرْعَةَ، وَثَانِيهُمَا إِلَى ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَالْخَطَّابِيِّ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ يَقَعُ لَنَا بِعُلُوٍّ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَالِيًا عِنْدَهُمْ أَيْضًا. [الْعُلُوُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُتُبِ السِّتَّةِ] : (وَ) الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَلَمْ يَفْصِلْهُ شَيْخُنَا عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَّا ضِمْنًا: (عُلُوٌّ نِسْبِي) ، لَكِنْ مُقَيَّدٌ أَيْضًا (بِنِسْبَةٍ لِلْكُتُبِ السِّتَّةِ) الَّتِي هِيَ: الصَّحِيحَانِ وَالسُّنَنُ الْأَرْبَعَةُ خَاصَّةً، لَا مُطْلَقُ الْكُتُبِ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ، وَلِذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ قَيَّدَهُ بِالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْجَمَّالُ بْنُ الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ; حَيْثُ اسْتَعْمَلُوهُ بِالنِّسْبَةِ لِـ (مُسْنَدِ أَحْمَدَ) وَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ. (إِذْ يَنْزِلُ مَتْنٌ مِنْ طَرِيقِهَا أُخِذْ) ; أَيْ: نُقِلَ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقَعَ لَنَا حَدِيثٌ فِي (فَوَائِدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الْخِلَعِيِّ) مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَهَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ تِسْعَةٌ، فَهُوَ أَعْلَى مِمَّا لَوْ رُوِّينَاهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ; لِأَنَّ مِنَّا إِلَى كُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ مَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ ثَمَانِيَةً، وَهُوَ وَشَيْخُهُ الَّذِي هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ اثْنَانِ، فَصَارَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَشْرَةٌ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا يَكُونُ عَالِيًا مُطْلَقًا أَيْضًا ; كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ( «يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٍ» ) ; فَإِنَّا لَوْ رَوَيْنَا مِنْ جُزْءِ ابْنِ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا نَرْوِيهِ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ عَنْ خَلَفٍ مَعَ كَوْنِهِ عُلُوًّا مُطْلَقًا ; إِذْ لَا يَقَعُ هَذَا الْحَدِيثُ الْيَوْمَ لِأَحَدٍ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِنَا لَهُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الْمُوَافَقَاتُ وَسَائِرُ مَا أَسْلَفْتُهُ فِي أَصْلِ التَّرْجَمَةِ. [الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ] (741) فَإِنْ يَكُنْ فِي شَيْخِهِ قَدْ وَافَقَهْ ... مَعَ عُلُوٍّ فَهُوَ الْمُوَافَقَهْ (742) أَوْ شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَاكَ فَالْبَدَلْ ... وَإِنْ يَكُنْ سَاوَاهُ عَدًّا قَدْ حَصَلْ (743) فَهْوَ الْمُسَاوَاةُ وَحَيْثُ رَاجَحَهْ ... الْأَصْلُ بِالْوَاحِدِ فَالْمُصَافَحَهْ [الْمُوَافَقَةُ وَالْبَدَلُ] : (فَإِنْ يَكُنْ) الْمُخَرِّجُ (فِي شَيْخِهِ) ; أَيْ: شَيْخِ أَحَدِ السِّتَّةِ، (قَدْ وَافَقَهْ) ، كَأَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ مَثَلًا أَوْرَدَ حَدِيثًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، فَنُخْرِجُهُ نَحْنُ مِنْ جُزْءِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَشْهُورِ، وَذَلِكَ (مَعَ عُلُوٍّ) بِدَرَجَةٍ كَمَا هُنَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وَقَدْ يَكُونُ بِأكْثَرَ عَمَّا لَوْ رَوَيْنَاهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ، (فَهُوَ الْمُوَافَقَهْ) ; إِذْ قَدِ اتَّفَقَا فِي الْأَنْصَارِيِّ. أَوْ إِنْ يَكُنِ الْمُخَرِّجُ وَافَقَ أَحَدَ أَصْحَابِ السِّتَّةِ فِي (شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَاكَ) ; أَيْ: مَعَ عُلُوٍّ بِدَرَجَةٍ فَأَكْثَرَ ; كَحَدِيثٍ يُورِدُهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَنُخْرِجُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَدَنِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَهُوَ أَيْضًا الْمُوَافَقَةُ، لَكِنْ مُقَيَّدَةٌ، فَيُقَالُ: مُوَافَقَةٌ فِي شَيْخِ شَيْخِ فُلَانٍ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (فَـ) هُوَ (الْبَدَلْ) ; لِوُقُوعِهِ مِنْ طَرِيقِ رَاوٍ بَدَلَ الرَّاوِي الَّذِي أَوْرَدَهُ أَحَدُ أَصْحَابِ السِّتَّةِ مِنْ جِهَتِهِ. وَمِنْ لَطِيفِ الْمُوَافَقَةِ وَعَزِيزِهَا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَاهُ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِ شَيْخِ الْآخَرِ فِيهِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الطَّلْحِيُّ، ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، ثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: ( «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ» ) ; فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيَّ رَوَاهُ عَنِ الْقَطَوَانِيِّ، فَوَقَعَ لَنَا مُوَافَقَةٌ لَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ شَيْخَيْهِمَا. وَأَمَّا مَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ فِي شَيْخٍ يَرْوِيَانِ عَنْهُ، فَكَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَثِيرٌ، يَعْنِي لِاتِّفَاقِهِمَا، بَلْ وَكَذَا بَقِيَّةُ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ كَثِيرِينَ، وَقَدْ نَظَمَهُمُ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: بُنْدَارٌ ابْنُ الْمُثَنَّى الْجَهْضَمِيُّ أَبُو ... سَعِيدٍ عَمْرٌو وَقَيْسِيُّ وَحَسَّانِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 يَعْقُوبُ وَالْعَنْبَرِيُّ الْجَوْهَرِيُّ هُمُ مَشَايِخُ السِّتَّةِ أَعْرِفُهُمْ بِإِحْسَانِ فَبُنْدَارٌ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ الْمُثَنَّى هُوَ أَبُو مُوسَى مُحَمَّدٌ، وَالْجَهْضَمِيُّ هُوَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو سَعِيدٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، وَالْقَيْسِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، وَالْحَسَّانِيُّ هُوَ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَالْجَوْهَرِيُّ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، وَلَكِنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَالْجَوْهَرِيُّ لَمْ تَقَعْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَسَاكِرَ وَمَنْ تَبِعَهُ فِيمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ، وَقَدْ ذَيَّلَ الْبَدْرُ بْنُ سَلَامَةَ الْحَنَفِيُّ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: وَأَبُو كُرَيْبٍ رَوَوْا عَنْهُ بِأَجْمَعِهِمْ ... وَالْفِيرَيَابِيُّ قَلَّ شَيْخٌ لَهُمْ ثَانِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُخَرِّجِينَ لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْبَدَلِ إِلَّا مَعَ الْعُلُوِّ، وَحَيْثُ فُقِدَ فَلَا يَلْتَفِتُونَ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَكِنْ قَدْ أَطْلَقَهُ فِيهِمَا مَعَ التَّسَاوِي فِي الطَّرِيقَيْنِ ابْنُ الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنْ عَلَا قِيلَ: مُوَافَقَةً عَالِيَةً أَوْ بَدَلًا عَالِيًا، وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: وَأَكْثَرُ مَا يَعْتَبِرُونَ الْمُوَافَقَةَ وَالْبَدَلَ إِذَا قَارَنَّا الْعُلُوَّ، وَإِلَّا فَاسْمُ الْمُوَافَقَةِ وَالْبَدَلِ وَاقِعٌ بِدُونِهِ. انْتَهَى. بَلْ فِي كَلَامِ ابْنِ الظَّاهِرِيِّ وَالذَّهَبِيِّ اسْتِعْمَالُ الْمُوَافَقَةِ فِي النُّزُولِ، لَكِنْ مُقَيَّدًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 كَمَا قُيِّدَتْ فِي الْعُلُوِّ، فَيُقَالُ: مُوَافَقَةٌ نَازِلَةٌ. [الْمُسَاوَاةُ وَالْمُصَافَحَةُ] : (وَإِنْ يَكُنْ) الْمُخَرِّجُ (سَاوَاهُ) ; أَيْ: سَاوَى أَحَدَ أَصْحَابِ السِّتَّةِ (عَدًّا قَدْ حَصَلْ) ; أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْعَدِّ، بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُخَرِّجِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرْفُوعِ، أَوِ الصَّحَابِيِّ فِي الْمَوْقُوفِ، أَوِ التَّابِعِيِّ فِي الْمَقْطُوعِ، أَوْ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ، كَمَا بَيْنَ أَحَدِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ أَحَدِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْعَدَدِ، سَوَاءٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُلَاحَظَةِ ذَاكَ الْإِسْنَادِ الْخَاصِّ. (فَهُوَ الْمُسَاوَاةُ) لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْعَدَدِ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ وَمَا قَارَبَهَا بِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ. نَعَمْ، يَقَعُ لَنَا ذَلِكَ مَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ ; كَالْبَيْهَقِيِّ وَالْبَغَوِيِّ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) وَنَحْوِهِمَا، بَلْ وَقَدْ وَقَعَتْ لِي الْمُسَاوَاةُ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِ السِّتَّةِ فِي مُطْلَقِ الْعَدَدِ، لَا فِي مَتْنٍ مُتَّحِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّنِي - كَمَا قَدَّمْتُ - بَيْنِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَشَرَةُ رُوَاةٍ. وَكَذَا وَقَعَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السِّتَّةِ حَدِيثٌ عُشَارِيٌّ، فَقَالَا: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَقُتَيْبَةُ، قَالَا: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ زَائِدَةَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ وَيُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ امْرَأَةٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُلُثٌ الْقُرْآنِ» ) . وَقَالَ النَّسَائِيُّ عَقِبَهُ: لَا أَعْرِفُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِسْنَادًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا. قُلْتُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ عِنْدِ النَّسَائِيِّ أَيْضًا مِثَالٌ لِهَذَا. (وَ) أَمَّا (حَيْثُ رَاجَحَهُ الْأَصْلُ) ; أَيْ: زَادَ أَحَدُ أَصْحَابِ السِّتَّةِ عَلَى الْمُخَرِّجِ بِالْوَاحِدِ فِي حَدِيثٍ، كَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَحَدِ أَصْحَابِ السِّتَّةِ وَصَاحِبِ الْخَبَرِ عَشْرَةٌ مَثَلًا، وَبَيْنَ الْمُخَرِّجِ وَبَيْنَهُ أَحَدَ عَشَرَ، بِحَيْثُ يَسْتَوِي مَعَ تِلْمِيذِهِ، وَيَكُونُ شَيْخُ الْمُخَرِّجِ مُسَاوِيًا لِأَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ، فَهُوَ الْمُسَاوَاةُ لِلشَّيْخِ. وَ (الْمُصَافَحَهْ) لِلْمُخَرِّجِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الْغَالِبِ بِالْمُصَافَحَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ، وَالْمُخَرِّجُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَأَنَّهُ لَاقَى أَحَدَ أَصْحَابِ السِّتَّةِ، فَكَأَنَّهُ صَافَحَهُ. فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ لِشَيْخِ شَيْخِهِ كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِهِ أَوْ لِشَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ، فَالْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِ شَيْخِهِ، وَالْمُخَرِّجُونَ غَالِبًا يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِيهِ وَتَنْشِيطًا لِطَالِبِيهِ، فَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: فَكَأَنِّي سَمِعْتُ فُلَانًا - وَيُسَمِّي ذَلِكَ الْمُصَنِّفَ الَّذِي وَقَعَ التَّصَافُحُ مَعَهُ - وَصَافَحْتُهُ. وَحِينَئِذٍ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ إِذَا ذَكَرْتَهُ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِكَ أَوْ شَيْخِ شَيْخِكَ، بَيْنَ أَنْ تُعَيِّنَهُ بِأَنْ تَقُولَ: وَكَأَنَّ شَيْخِي أَوْ شَيْخَ شَيْخِي، أَوْ تَقُولَ: فَكَأَنَّ فُلَانًا، فَقَطْ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ فِي الْمُسَاوَاةِ وَالْمُصَافَحَةِ الْوَاقِعَتَيْنِ لَكَ لَا يَلْتَقِي إِسْنَادُكَ وَإِسْنَادُ الْمُصَنِّفِ إِلَّا بَعِيدًا عَنْ شَيْخِهِ، فَيَلْتَقِيَانِ فِي الصَّحَابِيِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ الَّتِي تَذْكُرُهَا لَيْسَتْ لَكَ بَلْ لِمَنْ فَوْقَكَ مِنْ رِجَالِ إِسْنَادِكَ أَمْكَنَ الْتِقَاءُ الْإِسْنَادَيْنِ فِيهَا فِي شَيْخِ الْمُصَنِّفِ، وَدَاخَلَتِ الْمُصَافَحَةُ حِينَئِذٍ الْمُوَافَقَةَ ; فَإِنَّ مَعْنَى الْمُوَافَقَةِ رَاجِعٌ إِلَى مُسَاوَاةٍ وَمُصَافَحَةٍ مَخْصُوصَةٍ ; إِذْ حَاصِلُهَا أَنَّ بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُوَاةِ إِسْنَادِكَ الْعَالِي سَاوَى أَوْ صَافَحَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 ذَاكَ الْمُصَنِّفَ ; لِكَوْنِهِ سَمِعَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِمَا مَعَ تَأَخُّرِ طَبَقَتِهِ عَنْ طَبَقَتِهِمَا. قَالَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعُلُوِّ عُلُوٌّ تَابِعٌ لِنُزُولٍ ; إِذْ لَوْلَا نُزُولُ ذَلِكَ الْإِمَامِ فِي إِسْنَادِهِ لَمْ تَعْلُ أَنْتَ فِي إِسْنَادِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ بِمَرْوَ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ الْأَرْبَعِينَ لِأَبِي الْبَرَكَاتِ الْفُرَاوِيِّ، وَمَرَّ فِيهَا فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ هُوَ أَوْ شَيْخُهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ. قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِعَالٍ، وَلَكِنَّهُ لِلْبُخَارِيِّ نَازِلٌ) . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَهَذَا حَسَنٌ لَطِيفٌ يَخْدِشُ وَجْهَ هَذَا الْنَوْعِ مِنَ الْعُلُوِّ) . لَكِنْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ مَعَ عُلُوِّهِ النِّسْبِيِّ عَالِيًا لِذَاكَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: (إِنْ يَتَأَخَّرْ رَفِيقُ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ فِي سَمَاعِهِ عَنْهُ فِي الْوَفَاةِ، ثُمَّ يَسْمَعُ مِنْهُ مَنْ تَتَأَخَّرُ وَفَاتُهُ، فَيَحْصُلُ لِلْمُخَرِّجِ الْمُوَافَقَةُ الْعَالِيَةُ مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ لِذَاكَ الْمُصَنِّفِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مِنَ الْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ) . وَقَدْ أَفْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُفَّاظِ كَثِيرًا مِنَ الْمُوَافَقَاتِ وَالْأَبْدَالِ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا كِتَابُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَهُوَ ضَخْمٌ أَنْبَأَ عَنْ تَبَحُّرِهِ فِي هَذَا الْفَنِّ، وَكَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 خَرَّجَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُسَاوَاةَ وَالْمُصَافَحَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِمَّا وَقَعَ لَهُ فِيهَا الْمُصَافَحَةُ، بَلْ وَذَكَرَ فِيهَا شَبِيهًا بِالْمُوَافَقَةِ الْمَاضِيَةِ ; فَإِنَّهُ قَرَّرَ أَنَّ كُتُبَ الْخَطَّابِيِّ وَشِبْهِهِ عِنْدَهُ بِوَاسِطَتَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَنِّفِهَا، وَأَجَلُّ شَيْخٍ لِلْخَطَّابِيِّ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُصَافَحَةَ مَفْقُودَةٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَدْ وَقَعَتْ لِقُدَمَاءِ شُيُوخِنَا، فَأَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُحَمَّدِ ابْنَةُ عُمَرَ بْنِ جُمَاعَةَ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو حَفْصٍ الْمِزِّيُّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّعْدِيُّ مُشَافَهَةً عَنْ عَفِيفَةَ ابْنَةِ أَحْمَدَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ اللَّخْمِيُّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ وَيُوسُفُ الْقَاضِي، قَالَ الْأَوَّلُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَقَالَ الثَّانِي: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَا، وَاللَّفْظُ لِأَوَّلِهِمَا: ثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ سَبْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: ( «أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُتْعَةِ» ) . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: (ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَمَتَّعُ بِهِنَّ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا» ) . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مَعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ، فَوَقَعَ لَنَا بَدَلًا لَهُمَا عَالِيًا، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ جِهَةِ مَالِكٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي جَمْعَةٍ لِحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى خَيَّاطِ السُّنَّةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَبْثَرَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ. فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَدَدِ، كَأَنَّ شَيْخَتَنَا لَقِيَتِ النَّسَائِيَّ وَصَافَحَتْهُ، وَرَوَتْ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَكِنْ قَدْ نَازَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي التَّمْثِيلِ بِمَا الصَّحَابِيُّ فِيهِ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّرِيقَيْنِ كَمَا وَقَعَ هُنَا، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ رُشَيْدٍ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ، وَقَالَ: بَلِ التَّنْزِيلُ إِلَى التَّابِعِ وَالصَّاحِبِ سَوَاءٌ ; إِذِ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْغَايَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا التَّنْزِيلِ، يَعْنِي كَذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي مُعْجَمِ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ، وَعَمِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ عِنْدَ الْمَشَارِقَةِ مَعْرُوفَةٌ، مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ مَنْ أَنْكَرَهَا. انْتَهَى. وَسَمَّاهُ تَنْزِيلًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْزِيلِ رَاوٍ مَكَانَ آخَرَ، وَكَذَا سَمَّاهُ عَصْرِيُّهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهِ، وَجَعَلَهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًا، فَقَالَ: وَعُلُوُّ التَّنْزِيلِ وَهُوَ الَّذِي يُولَعُونَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةَ أَنْفُسٍ، وَيَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْمُصَنِّفِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةٌ مَثَلًا، فَيَنْزِلُ هَذَا الْمُصَنِّفِ مَنْزِلَةَ شَيْخِ شَيْخِنَا. [عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى] (744) ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ الْوَفَاةِ ... أَمَّا الْعُلُوُّ لَا مَعَ الْتِفَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 (745) لِآخَرٍ فَقِيلَ لِلْخَمْسِينَا أَوِ الثَّلَاثِينَ مَضَتْ سِنِينَا. [عُلُوُّ الصِّفَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى] : (ثُمَّ) حَيْثُ انْقَضَتِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ عُلُوُّ الْمَسَافَةِ، فَلْنَشْرَعْ فِي عُلُوِّ الصِّفَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَغَارِبَةِ: بَابٌ مُتَّسِعٌ، وَمَدَارُهُ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الشَّأْنِ فِي أَنْ يُصَحِّحَ بَعْضُهُمْ مَا لَا يُصَحِّحُ الْآخَرُ ; إِذْ قُطْبُ دَائِرَتِهِ الظَّنُّ، وَأَهَمُّهُ مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الرَّاوِي، كَأَنْ يَكُونَ أَفْقَهَ، أَوْ أَحْفَظَ، أَوْ أَتْقَنَ، أَوْ أَضَبَطَ، أَوْ أَكْثَرَ مُجَالَسَةً لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ أَقْدَمَ سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ وَفَاةً، قَالَ: وَعُلُوُّ الصِّفَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِالْأَنْدَلُسِ أَرْجَحُ مِنْ عُلُوِّ الْمَسَافَةِ خِلَافًا لِلْمَشَارِقَةِ، يَعْنِي الْمُتَأَخِّرِينَ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ نَوْعٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ لِبَاقِي الْفُنُونِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: وَقَدْ عَظُمَتْ رَغْبَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ، حَتَّى غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ أَهْمَلُوا الِاشْتِغَالَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ. وَسَبَقَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: وَقَدْ عَظُمَتْ رَغْبَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي طَلَبِ الْعُلُوِّ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخَلَلٍ كَثِيرٍ فِي الصَّنْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِعْرَاضُ عَمَّنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ بِتَمْيِيزِهِ إِلَى مَنْ أَجْلَسَ صَغِيرًا لَا تَمْيِيزَ لَهُ، وَلَا ضَبْطَ، وَلَا فَهْمَ ; طَلَبًا لِلْعُلُوِّ وَتَقَدُّمِ السَّمَاعِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُوَافَقَاتِ وَمَا مَعَهَا: وَقَدْ كَثُرَ اعْتِنَاءُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهَذَا النَّوْعِ، يَعْنِي مُفَرَّقًا وَمَجْمُوعًا عَلَى حِدَةٍ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَسَاكِرَ، قَالَ: وَمِمَّنْ وَجَدْتُهُ فِي كَلَامِهِ الْخَطِيبُ وَبَعْضُ شُيُوخِهِ وَابْنُ مَاكُولَا وَالْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ، وَمِمَّنْ جَاءَ بُعْدَهُمْ. [عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ الْوَفَاةِ] : فَأَوَّلُ أَقْسَامِ عُلُوِّ الصِّفَةِ، وَهُوَ الرَّابِعُ: (عُلُوُّ) الْإِسْنَادِ بِسَبَبِ (قِدَمِ الْوَفَاةِ) فِي أَحَدِ رُوَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِرَاوٍ آخَرَ مُتَأَخِّرِ الْوَفَاةِ عَنْهُ اشْتَرَكَ مَعَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ بِعَيْنِهِ، فَسَمَاعُنَا مَثَلًا لِلْبُخَارِيِّ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنِ الْبَهَاءِ أَبِي الْبَقَاءِ السُّبْكِيِّ وَالتَّقِيِّ ابْنِ حَاتِمٍ أَوِ النَّجْمِ بْنِ رَزِينٍ أَوِ الصَّلَاحِ الزِّفْتَاوِيِّ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِمْ أَعْلَى مِنْهُ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنْ عَائِشَةَ ابْنَةِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَهُ عَنِ الْحَجَّارِ ; لِتَأَخُّرِ وَفَاةِ عَائِشَةَ عَنِ الْجَمِيعِ. وَكَذَا سَمَاعُنَا لِمُسْلِمٍ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنِ التَّقِيِّ ابْنِ حَاتِمٍ أَوِ النَّجْمِ الْبَالِسِيِّ أَوِ التَّقِيِّ الدُّجْوِيِّ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِمْ أَعْلَى مِنْهُ مِمَّنْ رَوَاهُ لَنَا عَنِ الشَّرَفِ ابْنِ الْكُوَيْكِ، وَإِنِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَهُ عَنِ الزَّيْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي ; لِتَأَخُّرِ وَفَاةِ ابْنِ الْكُوَيْكِ عَنِ الْجَمِيعِ. وَمَثَّلَ لَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ شَيْخٍ عَنْ آخَرَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ الْحَاكِمِ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْخٍ عَنْ آخَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَفٍ عَنِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ تَسَاوَى الْإِسْنَادَانِ فِي الْعَدَدِ ; لِتَقَدُّمِ وَفَاةِ الْبَيْهَقِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 عَلَى ابْنِ خَلَفٍ، فَالْبَيْهَقِيُّ مَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (458 هـ) ، وَالْآخَرُ مَاتَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (487 هـ) . وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْقِسْمِ فِي الْعُلُوِّ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ فِي (الْإِرْشَادِ) ، فَقَالَ: قَدْ يَكُونُ الْإِسْنَادُ يَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ بِتَقَدُّمِ مَوْتِ رَاوِيهِ، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعَدَدِ. وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ طَاهِرٍ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ ; لِحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى جَنْبِ خَشَبَةٍ» ; فَإِنَّهَا أَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْهُ ; لِأَنَّ وَفَاةَ الْحَسَنِ كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، وَوَفَاةَ حُمَيْدٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. قَالَ: فَلَا يَكُونُ الْإِسْنَادُ إِلَى الْحَسَنِ مِثْلَ الْإِسْنَادِ إِلَى حُمَيْدٍ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الرُّتْبَةِ، بَلِ الطَّرِيقُ إِلَى الْحَسَنِ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الرَّاوِيَ لِهَذَا عَنِ الْحَسَنِ هُوَ الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ حُمَيْدٍ هُوَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ: وَقَدْ يَقَعُ فِي طَبَقَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا ; فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ حَدَّثَ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُنَادِي، وَاسْمُهُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - مُحَمَّدٌ لَا أَحْمَدُ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ بِحَدِيثٍ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيٍّ: ( «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ» ) ، وَحَدَّثَ بِهِ بِعَيْنِهِ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُنَادِي، وَبَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً. فَالْبُخَارِيُّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَأَخَّرَ شَيْخُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ أَرْبَعَةَ عَشْرَةِ سَنَةً حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ ابْنِ السَّمَّاكِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. فَهُمَا - وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْمَنْزِلَةِ - فَقَدِ افْتَرَقَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 فِي الْجَلَالَةِ وَقِدَمِ السَّمَاعِ، فَلَا يَكُونُ الطَّرِيقُ إِلَى الْبُخَارِيِّ كَالطَّرِيقِ إِلَى ابْنِ السَّمَّاكِ. وَمُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ الْوَفَاةِ يَكُونُ حَدِيثُهُ أَعْلَى، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ سَمَاعُهُ أَوِ اقْتَرَنَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمُتَأَخِّرِ يَنْدُرُ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الَّذِي بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ الْوَفَاةِ يَعِزُّ وُجُودُ الرُّوَاةِ عَنْهُ بِالنَّظَرِ لِمُتَأَخِّرِهَا، فَيُرْغَبُ فِي تَحْصِيلِ مَرْوِيِّهِ لِذَلِكَ. عَلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي الدَّمِ قَدْ نَازَعَ فِي أَصْلِ هَذَا الْقِسْمِ، وَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا رَوَى صَحَابِيَّانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ، وَاتَّصَلَتْ سِلْسِلَةُ كُلِّ جَمَاعَةٍ بِمَنْ رَوَى عَنْهُ، وَتَسَاوَى الصَّحَابِيَّانِ مَعَ الْعَدَالَةِ فِي بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَتَسَاوَى الْإِسْنَادُ فِي الْعَدَدِ وَصِفَاتِ الرُّوَاةِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَ الصَّحَابِيَّيْنِ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْآخَرِ، أَنَّ إِسْنَادَ مَنْ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ أَعْلَى مِنْ إِسْنَادِ مَنْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ. قَالَ: وَهَذَا لَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا كَذَلِكَ، وَهُوَ لَازِمٌ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا لَمْ يَرْتَضِهِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي (الِاقْتِرَاحِ) ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ شَيْخُنَا فِي (تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ) ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي الْعُلُوِّ الْمُبْتَنَى عَلَى تَقَدُّمِ الْوَفَاةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ نِسْبَةِ شَيْخٍ إِلَى شَيْخٍ، وَقِيَاسِ رَاوٍ بِرَاوٍ. [الِاخْتِلَافُ فِي حَدِّ تَقَدُّمِ الْوَفَاةِ فِي الْعُلُوِّ] : وَ (أَمَّا الْعُلُوُّ) الْمُسْتَفَادُ مِنْ مُجَرَّدِ تَقَدُّمِ وَفَاةِ شَيْخِكَ (لَا مَعَ الْتِفَاتِ) نَظَرٍ (لِـ) شَيْخٍ (آخَرٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ ; فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ، (فَقِيلَ) يَكُونُ (لِلْخَمْسِينَا) مِنَ السِّنِينِ مَضَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَوْصَاءَ الدِّمِشْقِيِّ شَيْخِ الشَّامِ، وَكَانَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ قَالَ: إِسْنَادُ خَمْسِينَ سَنَةٍ مِنْ مَوْتِ الشَّيْخِ إِسْنَادُ عُلُوٍّ. (أَوِ الثَّلَاثِينَ مَضَتْ سِنِينَا) ; أَيْ: مِنَ السِّنِينِ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ: إِنَّهُ إِذَا مَرَّ عَلَى الْإِسْنَادِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَهُوَ عَالٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَهَذَا أَوْسَعُ مِنَ الْأَوَّلِ، يَعْنِي: سَوَاءٌ أَرَادَ قَائِلُهُ مُضِيَّهَا مِنْ مَوْتِهِ، أَوْ مِنْ حِينِ السَّمَاعِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ فِي ثَانِيهِمَا - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - بَعِيدٌ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْخُهُ إِلَى الْآنِ حَيًّا) . قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ إِذَا مَضَى عَلَى إِسْنَادِ كِتَابٍ أَوْ حَدِيثٍ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَقَعُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كَكِتَابِ الْبُخَارِيِّ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ مَثَلًا عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْدِيِّ ; فَإِنَّهُ قَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ مَنْ كَانَ آخِرَ مَنْ يَرْوِيهِ عَالِيًا، وَهُوَ الْحَجَّارُ، وَكَهُوَ أَيْضًا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَلَى مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ أَصْحَابِ الْحَجَّارِ وَطَبَقَتِهِ ; فَإِنَّهُ قَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ بِمِصْرِنَا نَحْوَ ثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَبِغَيْرِهِ أَكْثَرُ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ ; لِأَنَّ آخِرَ مَنْ كَانَ يَرْوِيهِ بِالسَّمَاعِ عَائِشَةُ ابْنَةُ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتَ عَشَرَةٍ وَثَمَانِمِائَةٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ مِمَّا هُوَ أَوْسَعُ: الَّذِي أَخْتَارُهُ - وَهُوَ الْأَحْسَنُ - أَنَّ مَنْ مَاتَ شَيْخُ شَيْخِهِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ فَسَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ عَالٍ. [عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ السَّمَاعِ] (746) ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ السَّمَاعِ ... وَضِدُّهُ النُّزُولُ كَالْأَنْوَاعِ. (747) وَحَيْثُ ذُمَّ فَهْوَ مَا لَمْ يُجْبَرِ وَالصِّحَّةُ الْعُلُوُّ عِنْدَ النَّظَرِ. [عُلُوُّ الْإِسْنَادِ بِقِدَمِ السَّمَاعِ] : (ثُمَّ) يَلِيهِ أَقْسَامُ الصِّفَةِ، وَهُوَ خَامِسُ الْأَقْسَامِ، (عُلُوُّ) الْإِسْنَادِ بِسَبَبِ (قِدَمِ السَّمَاعِ) لِأَحَدِ رُوَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِرَاوٍ آخَرَ اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي السَّمَاعِ مِنْ شَيْخِهِ، أَوْ لِرَاوٍ سَمِعَ مِنْ رَفِيقٍ لِشَيْخِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ سَمَاعُ أَحَدِهِمَا مِنْ سِتِّينَ مَثَلًا، وَالْآخَرِ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَيَتَسَاوَى الْعَدَدُ إِلَيْهِمَا، فَالْأَوَّلُ أَعْلَى، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ عَنِ الْآخَرِ أَمْ لَا. وَكَذَا - كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ - يَقَعُ التَّدَاخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الَّذِي قَبِلَهُ، بِحَيْثُ جَعَلَهُمَا ابْنُ طَاهِرٍ ثُمَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَاحِدًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وَلَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي صُورَةٍ يَنْدُرُ وُقُوعُهَا كَمَا أَسْلَفْتُهُ قَرِيبًا، وَهِيَ مَا إِذَا تَأَخَّرَتْ وَفَاةُ الْمُتَقَدِّمِ السَّمَاعِ. وَلِأَجْلِهَا فِيمَا يَظْهَرُ غَايَرَ بَيْنَهُمَا ابْنُ الصَّلَاحِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَازَعُ فِي تَرْجِيحِ الْمُتَقَدْمِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الشَّيْخُ اخْتَلَطَ أَوْ خَرِفَ لِهِرَمٍ أَوْ مَرَضٍ بِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ حِينَ تَحْدِيثِهِ لَهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ. كَمَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ يَكُونُ الْمُتَقَدِّمُ السَّمَاعِ مُتَيَقِّظًا ضَابِطًا، وَالْمُتَأَخِّرُ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَيَّدُ بِمَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ الْقِدَمِ. وَمِنْ صُوَرِ عُلُوِّ الصِّفَةِ أَيْضًا - وَأَفْرَدَهُ الْخَلِيلِيُّ بِقِسْمٍ - تَسَاوِي السَّنَدَيْنِ، وَامْتِيَازُ أَحَدِهِمَا بِكَوْنِ رُوَاتِهِ حُفَّاظًا عُلَمَاءَ، فَهَذَا أَعْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَنَحْوُهُ تَفْسِيرُ شَيْخِنَا الْعُلُوَّ الْمَعْنَوِيَّ بِإِسْنَادِ جَمِيعٌ رِجَالِهِ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ أَوْ فُقَهَاءُ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِثْلِ أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ صَحِيحًا كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ. وَكَذَا مِنْ أَقْسَامِ الْعُلُوِّ مِمَّا لَمْ يَلْتَحِقْ بِصِفَةٍ وَلَا مَسَافَةٍ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا بُدَّ لِلْمُحَدِّثِ مِنْ إِيرَادِهِ فِي تَصْنِيفٍ أَوِ احْتِجَاجٍ بِهِ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِ وُجُودُهُ مِنْ طَرِيقِ مَنْ حَدِيثُهُ عِنْدَهُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنْهَا، فَهُوَ مَعَ نُزُولِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عِنْدَهُ عَالٍ لِعِزَّتِهِ. أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ طَاهِرٍ، ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ مَعَ كَوْنِهِ رَوَى عَنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَعَنْ أَمَاثِلَ أَصْحَابِ مَالِكٍ، رَوَى حَدِيثًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ عَنْ مَالِكٍ الَّذِي يَرْوِي عَنِ التَّابِعِينَ لِمَعْنًى فِيهِ، وَهُوَ تَصْرِيحُ مَالِكٍ بِالتَّحْدِيثِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ. فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْعُلُوِّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ وَالْإِيضَاحِ الشَّافِي. [النُّزُولُ أَيْضًا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ] : (وَضِدُّهُ) ; أَيْ: وَضِدُّ الْعُلُوِّ (النُّزُولُ) ، بِحَيْثُ يَتَنَوَّعُ أَقْسَامُهُ (كَالْأَنْوَاعِ) السَّابِقَةِ لِلْعُلُوِّ، فَمَا مِنْ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِهِ الْخَمْسَةِ إِلَّا وَضِدُّهُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ النُّزُولِ، فَهُوَ إِذًا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، وَتَفْصِيلُهَا يُدْرَكُ مِنْ تَفْصِيلِ أَقْسَامِ الْعُلُوِّ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 وَأَنْزَلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ثَمَانِيَةٌ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، كَحَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبٍ فِي تَفْسِيرِ (بَرَاءَةَ) . وَحَدِيثِ بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَجِّ فِي (بَرَاءَةَ) أَيْضًا. وَحَدِيثِ: ( «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً» ) فِي الْكَفَّارَةِ تِلْوَ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ فِي (بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . وَحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ فِي (الْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ مِنَ التَّوْحِيدِ) ، وَأَرْبَعَتُهَا فِي (الْبُخَارِيِّ) . وَحَدِيثِ النُّعْمَانِ: ( «الْحَلَالُ بَيِّنٌ» ) . وَحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: ( «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» ) ، وَهُمَا فِي (مُسْلِمٍ) ، بَلْ وَقَفْتُ لِلنَّسَائِيِّ عَلَى عَشَارِيَّيْنِ، شَارَكَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَحَدِهِمَا سَلَفًا فِي الْمُصَافَحَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. [النُّزُولُ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ] : (وَحَيْثُ ذُمَّ) النُّزُولُ ; كَقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي كَمَا فِي (الْجَامِعِ) لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ: إِنَّهُ شُؤْمٌ، وَقَوْلِ ابْنِ مَعِينٍ كَمَا فِي (الْجَامِعِ) أَيْضًا: إِنَّهُ قُرْحَةٌ فِي الْوَجْهِ. (فَهْوَ مَا لَمْ) تَدَعُ ضَرُورَةٌ لِسَمَاعِهِ، كَقَصْدِ التَّبَحُّرِ فِي جَمْعِ الطُّرُقِ، أَوْ غَرَابَةِ اسْمِ رَاوِيهِ عِنْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 مَنْ يَقْصِدُ جَمْعَ شُيُوخِهِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، أَوْ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ فِي بَلَدٍ عَظِيمٍ لِمَنْ قَصَدَ الِاعْتِنَاءَ بِالْأَحَادِيثِ الْبُلْدَانِيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْحَافِظِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ كَتَبَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ عَنْ شَابٍّ اسْمُهُ وَفِيٌّ، رَوَى عَنْ بَعْضِ تَلَامِذَتِهِ مِمَّنْ كَانَ إِذْ ذَاكَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ لِغَرَابَةِ اسْمِهِ. وَاقْتَفَيْتُ أَثَرَهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ سَمِعْتُ عَلَى امْرَأَةٍ اسْمُهَا لَمْيَاءُ، مَعَ نُزُولِ إِسْنَادِهَا، أَوْ مَا لَمْ (يُجْبَرِ) النُّزُولُ بِصِفَةٍ مُرَجِّحَةٍ كَزِيَادَةِ الثِّقَةِ فِي رِجَالِهِ عَلَى الْعَالِي، أَوْ كَوْنِهِ أَحْفَظَ أَوْ أَضَبَطَ أَوْ أَفْقَهَ، أَوْ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِالسَّمَاعِ، وَفِي الْعَالِي حُضُورٌ أَوْ إِجَازَةٌ أَوْ مُنَاوَلَةٌ أَوْ تَسَاهُلٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ فِي الْحَمْلِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْعُدُولَ حِينَئِذٍ إِلَى النُّزُولِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَلَا مَفْضُولٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَمَا جَاءَ فِي ذَمِّ النُّزُولِ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ النُّزُولِ ; فَإِنَّ النُّزُولَ إِذَا تَعَيَّنَ دُونَ الْعُلُوِّ طَرِيقًا إِلَى فَائِدَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى فَائِدَةِ الْعُلُوِّ كَانَ مُخْتَارًا غَيْرَ مَرْذُولٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - لَا يُسَمَّى نَازِلًا مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ الطُّوسِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ أَنَّهُمَا قَالَا: كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ فَقَالَ لَنَا: أَيُّ الْإِسْنَادَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ، الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَقُلْنَا: الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، الْأَعْمَشُ شَيْخٌ وَأَبُو وَائِلٍ شَيْخٌ، وَسُفْيَانُ فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ، وَحَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الْفُقَهَاءِ خَيْرٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 مِنْ أَنْ يَتَدَاوَلَهُ الشُّيُوخُ. وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُنَا تَفْصِيلًا حَسَنًا، وَهُوَ: إِنَّ النَّظَرَ إِنْ كَانَ لِلسَّنَدِ فَشُيُوخٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَتْنِ فَالْفُقَهَاءُ، وَإِذَا رَجَّحَ وَكِيعٌ الْإِسْنَادَ الثَّانِيَ مَعَ نُزُولِهِ بِدَرَجَتَيْنِ لِمَا امْتَازَ بِهِ رُوَاتُهُ مِنَ الْفِقْهِ الْمُنْضَمِّ لِمَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ مَعَ كَوْنِهِ صَحِيحًا، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ؟ ! . (وَالصِّحَّةُ) بِلَا شَكٍّ مَعَ النُّزُولِ وَهِيَ (الْعُلُوُّ) الْمَعْنَوِيُّ (عِنْدَ النَّظَرِ) وَالتَّحْقِيقِ، وَالْعَالِي عِنْدَ فَقْدِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ عُلُوٌّ صُورِيٌّ، فَكَيْفَ عِنْدَ فَقْدِ التَّوْثِيقِ؟ ! وَإِلَيْهِ أَشَارَ السِّلَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْأَصْلُ الْأَخْذُ عَنِ الْعُلَمَاءِ، فَنُزُولُهُمْ أَوْلَى مِنْ عُلُوِّ الْجَهَلَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النَّقَلَةِ. وَالنَّازِلُ حِينَئِذٍ هُوَ الْعَالِي فِي الْمَعْنَى عِنْدَ النَّظَرِ وَالتَّحْقِيقِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ: قُلْتُ لِابْنِ مَعِينٍ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَكْتُبُ جَامِعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ، يَعْنِي عَنْهُ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ، يَعْنِي عَنْهُ؟ فَقَالَ: عَنْ رَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً عَنِ الْمُعَافَى أَحَبُّ إِلَيَّ. وَرَوَى السِّلَفِيُّ، وَكَذَا الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَعِينٍ، قَالَ: الْحَدِيثُ بِنُزُولٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 عَنْ ثَبْتٍ خَيْرٌ مِنْ عُلُوٍّ غَيْرِ ثَبْتٍ. قَالَ السِّلَفِيُّ: وَأَنْشَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُفَرَ فِي مَعْنَاهُ: عِلْمُ النُّزُولِ اكْتُبُوهُ فَهْوَ يَنْفَعُكُمْ ... وَتَرْكُكُمْ ذَاكُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْعَنَتِ إِنَّ النُّزُولَ إِذَا مَا كَانَ عَنْ ثَبْتٍ ... أَعْلَى لَكُمْ مِنْ عُلُوٍّ غَيْرِ ذِي ثَبْتِ وَأَسْنَدَهُمَا الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَهُمَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَا أَسْنَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ الْأَدِيبِ مِنْ قَوْلِهِ: لَكِتَابِي عَنْ رِجَالٍ أَرْتَضِيهِمْ بِنُزُولْ ... هُوَ خَيْرٌ مِنْ كِتَابِي بِعُلُوٍّ عَنْ طُبُولْ وَلِلْحَافِظِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيِّ: إِنَّ الرِّوَايَةَ بِالنُّزُولِ عَنِ الثِّقَاتِ الْأَعْدَلِينَا ... خَيْرٌ مِنَ الْعَالِي عَنِ الْجُهَّالِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَا. وَلِلْخَطِيبِ مِنْ جِهَةِ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَذُكِرَ لَهُ قُرْبُ الْإِسْنَادِ، فَقَالَ: حَدِيثٌ بَعِيدُ الْإِسْنَادِ صَحِيحٌ خَيْرٌ مِنْ حَدِيثٍ قَرِيبِ الْإِسْنَادِ سَقِيمٍ، أَوْ قَالَ: ضَعِيفٍ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: لَيْسَ جَوْدَةُ الْحَدِيثِ قُرْبَ الْإِسْنَادِ، جَوْدَةُ الْحَدِيثِ صِحَّةُ الرِّجَالِ. وَنَحْوُهُمْ مَا حَكَاهُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَخِيهِ الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَذْهَبِي فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، إِنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْعَالِيَ مَا قَلَّ رُوَاتُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ الْعَالِيَ مَا صَحَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ بَلَغَتْ رُوَاتُهُ مِائَةً. وَكَذَا قَالَ ابْنُ بُرْهَانَ الْأُصُولِيُّ فِي كِتَابٍ (الْأَوْسَطِ) : عُلُوُّ الْإِسْنَادِ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَيُشَدِّدُونَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ. قَالَ: وَعُلُوُّ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَلِهَذَا يَنْزِلُونَ أَحْيَانًا طَلَبًا لِلصِّحَّةِ، فَإِذَا وَجَدُوا حَدِيثًا لَهُ طَرِيقَانِ ; أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةِ وَسَائِطَ مَثَلًا، وَالْأُخْرَى بِسَبْعَةٍ، يُرَجِّحُونَ النَّازِلَ عَلَى الْعَالِي طَلَبًا لِلصِّحَّةِ. وَقَدْ نَظَمَ هَذَا الْمَعْنَى السِّلَفِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ حُسْنُ الْحَدِيثِ قُرْبَ رِجَالٍ ... عِنْدَ أَرْبَابِ عِلْمِهِ النُّقَّادِ بَلْ عُلُوُّ الْحَدِيثِ بَيْنَ أُولِي الْحِفْـ ـظِ وَالْإِتْقَانِ صِحَّةُ الْإِسْنَادِ وَإِذَا مَا تَجَمَّعَا فِي حَدِيثٍ ... فَاغْتَنِمْهُ فَذَاكَ أَقْصَى الْمُرَادِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعُلُوِّ الْمُتَعَارَفِ إِطْلَاقُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ عُلُوٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَحَسْبُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ كَثِيرٍ عَقِبَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَالِيَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَإِنْ كَثُرَتْ رِجَالُهُ: هَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ، وَمَاذَا يَقُولُ قَائِلُهُ إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادَانِ، لَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ رِجَالًا؟ ! . قُلْتُ: يَقُولُ: إِنَّهُ بِالْوَصْفِ بِالْعُلُوِّ أَوْلَى ; إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُخْرِجُهُ. تَتِمَّةٌ: لَوْ جُمِعَ بَيْنَ سَنَدَيْنِ أَحَدِهِمَا أَعْلَى فَبِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ؟ فَجُمْهُورُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَبْدَأُ بِالْأَنْزَلِ ; لِيَكُونَ لِإِيرَادِ الْأَعْلَى بَعْدَهُ فَرْحَةٌ، وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْأَعْلَى لِشَرَفِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي (الْبُخَارِيِّ) قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَ، وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَ، وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَفِي (مُسْلِمٍ) : حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ وَالْأَشَجُّ، كِلَاهُمَا عَنْ وَكِيعٍ، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَلَا يَسْلُكَانِ خِلَافَهُ إِلَّا لِنُكْتَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ نَحْوَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 [الْغَرِيبُ وَالْعَزِيزُ وَالْمَشْهُورُ] [تَعْرِيفُ الْغَرِيبِ وَأَنْوَاعُهُ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْغَرِيبُ وَالْعَزِيزُ وَالْمَشْهُورُ) 748 - وَمَا بِهِ مُطْلَقًا الرَّاوِي انْفَرَدْ ... فَهْوَ الْغَرِيبُ وَابْنُ مَنْدَهٍ فَحَدْ 749 - بِالِانْفِرَادِ عَنْ إِمَامٍ يُجْمَعُ ... حَدِيثُهُ فَإِنْ عَلَيْهِ يُتْبَعُ 750 - مِنْ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ فَالْعَزِيزُ أَوْ ... فَوْقُ فَمَشْهُورٌ وَكُلٌّ قَدْ رَأَوْا 751 - مِنْهُ الصَّحِيحَ وَالضَّعِيفَ ثُمَّ قَدْ ... يُغْرِبُ مُطْلَقًا أَوِ اسْنَادًا فَقَدْ 752 - كَذَلِكَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا قَسَّمُوا ... لِشُهْرَةٍ مُطْلَقَةٍ كَـ " الْمُسْلِمُ 753 - مَنْ سَلِمَ " الْحَدِيثَ وَالْمَقْصُورِ ... عَلَى الْمُحَدِّثِينَ مِنْ مَشْهُورِ 754 - قُنُوتُهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرَا ... وَمِنْهُ ذُو تَوَاتُرٍ مُسْتَقْرَا 755 - فِي طَبَقَاتِهِ كَمَتْنِ مَنْ كَذَبْ ... فَفَوْقَ سِتِّينَ رَوَوْهُ وَالْعَجَبْ 756 - بِأَنَّ مِنْ رُوَاتِهِ لَلْعَشَرَهْ ... وَخُصَّ بِالْأَمْرَيْنِ فِيمَا ذَكَرَهْ 757 - الشَّيْخُ عَنْ بَعْضِهِمُ قُلْتُ: بَلَى ... مَسْحُ الْخِفَافِ وَابْنُ مَنْدَهٍ إِلَى 758 - عَشْرَتِهِمْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ نَسَبَا ... وَنَيَّفُوا عَنْ مِائَةٍ مَنْ كَذَبَا (الْغَرِيبُ وَالْعَزِيزُ وَالْمَشْهُورُ) وَرُتِّبَتْ بِالتَّرَقِّي مَعَ تَقْدِيمِ ابْنِ الصَّلَاحِ لِآخِرِهَا فِي نَوْعٍ مُسْتَقِلٍّ، ثُمَّ إِرْدَافِهِ بِالْآخَرَيْنِ فِي آخَرَ. وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمَهَا إِلَى الْأَنْوَاعِ السَّابِقَةِ، وَضَمَّ الْغَرِيبِ إِلَى الْأَفْرَادِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ أَمْلَى كِتَابَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يَحْصُلْ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْوَضْعِ الْمُتَنَاسِبِ. وَتَبِعَهُ فِي تَرْتِيبِهِ غَالِبُ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ. [تَعْرِيفُ الْغَرِيبِ وَأَنْوَاعُهُ] : (وَمَا بِهِ) ; أَيْ: بِالْمَرْوِيِّ الَّذِي بِهِ، (مُطْلَقًا) ; أَيْ: عَنْ إِمَامٍ يُجْمَعُ حَدِيثُهُ أَوْ لَا، (الرَّاوِي) الَّذِي رَوَاهُ، (انْفَرَدْ) عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ. إِمَّا بِجَمِيعِ الْمَتْنِ ; كَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ: ( «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ» ) ; فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. لَكِنَّ الْغَرَابَةَ فِيهِ مُنْتَقِضَةٌ بِرِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي صَالِحٍ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ. بَلْ وَبِطَرِيقِ عِصَامِ بْنِ رَوَّادٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، أَوْ بِبَعْضِهِ. وَذَلِكَ إِمَّا فِي الْمَتْنِ أَوْ فِي السَّنَدِ، فَالْأَوَّلُ بِأَنْ يَأْتِيَ فِي مَتْنٍ رَوَاهُ غَيْرُهُ بِزِيَادَةٍ ; كَحَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، حَيْثُ قِيلَ مِمَّا هُوَ مُنْتَقَدٌ أَيْضًا: إِنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ عَنْ سَائِرِ مَنْ رَوَاهُ مِنَ الْحُفَّاظِ بِقَوْلِهِ: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) . أَوْ كَحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ ; حَيْثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الْكَبِيرِ) مِنْ رِوَايَةٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فَجَعَلَاهُ مَرْفُوعًا كُلَّهُ، وَإِنَّمَا الْمَرْفُوعُ مِنْهُ: ( «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ» ) . وَالثَّانِي: كَحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ أَيْضًا فَالْمَحْفُوظُ فِيهِ رِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَسَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي حُسَامٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَعَبَّادٍ كَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 أَشَرْنَا إِلَيْهِ عَنْ هِشَامٍ، بِدُونِ وَاسِطَةِ أَخِيهِ. (فَهْوَ) أَيْ: مَا حَصَلَ التَّفَرُّدُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، (الْغَرِيبُ) ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ، وَخَصَّهُ الثَّوْرِيُّ بِالثِّقَةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَرْوِيِّ إِذْ ذَاكَ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ. (وَ) أَمَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ابْنُ مَنْدَهٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، (فَحَدْ) هُ (بِالِانْفِرَادِ) ، يَعْنِي: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ أَوَّلًا، لَكِنْ (عَنْ إِمَامٍ) مِنَ الْأَئِمَّةِ ; كَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ (يُجْمَعُ حَدِيثُهُ) . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَرِيبَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُطْلَقٌ، وَنِسْبِيٌّ ; كَمَا سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ وَالْأَفْرَادُ كَمَا سَلَفَ فِي بَابِهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَلِمَ حَصَلَتِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا؟ . وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْأَحْسَنَ فِي تَعْرِيفِهِ مَا قَالَهُ الْمَيَّانِشِيُّ: وَإِنَّهُ مَا شَذَّ طَرِيقُهُ وَلَمْ يُعْرَفْ رَاوِيهِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَاكَ ; لِعَدَمِ التَّقْيِيدِ فِي رَاوِيهِ بِمَا ذُكِرَ. وَعَرَّفَهُ الشِّهَابُ الْخُوَيُّ بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مَتْنُهُ أَوْ بَعْضُهُ فَرْدًا عَنْ جَمِيعِ رُوَاتِهِ، فَيَنْفَرِدُ بِهِ الصَّحَابِيُّ، ثُمَّ التَّابِعِيُّ، ثُمَّ تَابِعُ التَّابِعِيِّ، وَهَلُمَّ جَرًّا. أَوْ مَا يَكُونُ مَرْوِيًّا بِطُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ تَابِعِيٌّ أَوْ بَعْضُ رُوَاتِهِ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَرِيبُ عِنْدَهُ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ. وَيَكُونَ افْتِرَاقُ أَوَّلِهِمَا عَنِ الْفَرْدِ بِالنَّظَرِ لِوُقُوعِ التَّفَرُّدِ فِي سَائِرِ طِبَاقِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ التَّرَدُّدُ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ، لَكِنْ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا شَيْخُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ لُغَةً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وَاصْطِلَاحًا، بِأَنَّ أَهْلَ الِاصْطِلَاحِ غَايَرُوا بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَقِلَّتُهُ، فَالْفَرْدُ أَكْثَرُ مَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْفَرْدِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الطُّرُقُ إِلَيْهِ، وَالْغَرِيبُ أَكْثَرُ مَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْفَرْدِ النِّسْبِيِّ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُهُمُ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ فَلَا يُفَرِّقُونَ، فَيَقُولُونَ فِي النِّسْبِيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ فُلَانٌ، أَوْ أَغْرَبَ بِهِ فُلَانٌ. انْتَهَى. عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ أَشَارَ إِلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَقَالَ: وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْرَادِ مَعْدُودًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرِيبِ ; كَمَا فِي الْأَفْرَادِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْبِلَادِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: انْفَرَدَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَثَلًا وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهَا، فَهُوَ الْغَرِيبُ، وَرُبَّمَا يُسَمَّى كُلٌّ مِنْ قِسْمَيِ الْغَرِيبِ ضَيِّقَ الْمَخْرَجِ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ وَاصِلٍ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى أَنَسٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ: (لَا أَعْرِفُ شَيْئًا فِيمَا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ) : هُوَ أَضْيَقُ حَدِيثٍ فِي الْبُخَارِيِّ، سَأَلَنِي عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي ذُهْلٍ - يَعْنِي أَحَدَ مَشَايِخِهِ - فَأَخْرَجْتُهُ لَهُ، فَسَمِعَهُ - يَعْنِي: سَمِعَهُ شَيْخُهُ مِنْهُ - عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَمْشَاذَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، وَكَأَنَّ ضِيقَهُ مَخْصُوصٌ بِرِوَايَةِ الْحَدَّادِ عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَإِلَّا فَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَقِبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 تَخْرِيجِهِ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْبُرْسَانِيِّ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ فِي جَمْعِهِ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْمُسْتَخْرَجِ) . إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْغَرِيبُ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى وِزَانِ الْغَرِيبِ مِنَ النَّاسِ، فَكَمَا أَنَّ غُرْبَةَ الْإِنْسَانِ فِي الْبَلَدِ تَكُونُ حَقِيقَةً بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ فِيهَا أَحَدٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَكُونُ إِضَافِيَّةً بِأَنْ يَعْرِفَهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، ثُمَّ قَدْ يَتَفَاوَتُ مَعْرِفَةُ الْأَقَلِّ مِنْهُمْ تَارَةً وَالْأَكْثَرِ أُخْرَى، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ، وَكَذَا الْحَدِيثُ. [تَعْرِيفُ الْعَزِيزِ] [يس: 145] ; أَيْ: قَوَّيْنَا وَشَدَدْنَا. وَجَمْعُ الْعَزِيزِ عِزَازٌ، مِثْلُ: كَرِيمٍ وَكِرَامٍ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بِيضُ الْوُجُوهِ أَلِبَّةٌ وَمَعَاقِلُ ... فِي كُلِّ نَائِبَةٍ عِزَازُ الْأَنْفُسِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ثُمَّ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِوُجُودِ ذَلِكَ فِي طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهَا مِنْ طِبَاقِهِ غَرِيبًا، بِأَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ رَاوٍ آخَرُ عَنْ شَيْخِهِ، بَلْ وَلَا يَكُونُ مَشْهُورًا لِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ عَلَى رِوَايَتِهِ فِي بَعْضِ طِبَاقِهِ أَيْضًا. وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا ; حَيْثُ وَصَفَ حَدِيثَ شُعْبَةَ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» ) ، بِأَنَّهُ غَرِيبٌ ; لِتَفَرُّدِ شُعْبَةَ بِهِ عَنْ وَاقِدٍ، ثُمَّ لِتَفَرُّدِ أَبِي غَسَّانَ الْمِسْمَعِيِّ بِهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الصَّبَّاحِ رَاوِيهِ، عَنْ شُعْبَةَ. وَعَزِيزٌ ; لِتَفَرُّدِ حَرَمِيِّ بْنِ عُمَارَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الصَّبَّاحِ بِهِ عَنْ شُعْبَةَ، ثُمَّ لِتَفَرُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ بِهِ عَنْ حَرَمِيٍّ. وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ ; حَيْثُ مَثَّلَ لِلْمَشْهُورِ بِحَدِيثِ: ( «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) ، مَعَ كَوْنِ أَوَّلِ سَنَدِهِ فَرْدًا، وَالشُّهْرَةُ إِنَّمَا طَرَأَتْ لَهُ مِنْ عِنْدِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. بَلْ قَالَ فِي الْغَرِيبِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ مَشْهُورٌ، وَذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ وَاعْتِبَارَيْنِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: ( «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ» ) : إِنَّهُ مَشْهُورٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَقِيلٍ. فَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَقِيلٍ. فَهَذِهِ الشُّهْرَةُ النِّسْبِيَّةُ نَظِيرُ الْغَرَابَةِ النِّسْبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ: غَرِيبٌ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ فَرْدٌ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ مِنْ رِوَايَةِ هَذَا بِخُصُوصِهِ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ قَدْ يَكُونُ تُوبِعَ عَلَيْهِ عَنْ شَيْخِهِ. وَعَلَى هَذَا فَيَخْرُجُ الْحُكْمُ عَلَى حَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهُ فَرْدٌ فِي أَوَّلِهِ، مَشْهُورٌ فِي آخِرِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ اشْتُهِرَ عَمَّنِ انْفَرَدَ بِهِ، فَهِيَ شُهْرَةٌ نِسْبِيَّةٌ لَا مُطْلَقَةٌ. وَعَلَى هَذَا مَشَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَخَذْتُ عَنْهُ، فَعَرَّفَ الْعَزِيزَ اصْطِلَاحًا: بِأَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طِبَاقِهِ رَاوِيَانِ فَقَطْ. وَلَكِنْ لَمْ يَمْشِ شَيْخُنَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ عَلَى هَذَا ; فَإِنَّهُ وَإِنْ خَصَّهُ بِوُرُودِهِ مِنْ طَرِيقِ رَاوِيَيْنِ فَقَطْ، عَنَى بِهِ كَوْنَهُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ طِبَاقِهِ، وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ مُرَادَهُ أَنْ لَا يَرِدَ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا، فَإِنْ وَرَدَ بِأَكْثَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ السَّنَدِ الْوَاحِدِ لَا يَضُرُّ ; إِذِ الْأَقَلُّ فِي هَذَا يَقْضِي عَلَى الْأَكْثَرِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا كَانَتِ الْعِزَّةُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِرَاوٍ وَاحِدٍ انْفَرَدَ رَاوِيَانِ عَنْهُ يُقَيَّدُ فَيُقَالُ: عَزِيزٌ مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ. وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيَنْصَرِفُ لِمَا أَكْثَرُ طِبَاقِهِ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ وُجُودَ سَنَدٍ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ بِرِوَايَةِ اثْنَيْنِ قَدِ ادَّعَى فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ عَدَمَ وُجُودِهِ، وَكَادَ شَيْخُنَا أَنْ يُوَافِقَهُ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ بِخِلَافِهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا، وَهِيَ أَنْ لَا يَرْوِيَهُ أَقَلُّ مِنِ اثْنَيْنِ عَنْ أَقَلَّ مِنِ اثْنَيْنِ، يَعْنِي كَمَا حَرَّرَهُ هُوَ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ. مِثَالُهُ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَالْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» ) الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَتَادَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ. وَرَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ شُعْبَةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَعِيدٌ عَلَى مَا يُحَرَّرُ ; فَإِنِّي قَلَّدْتُ شَيْخَنَا فِيهِ مَعَ وُقُوفِي عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَحْصِ. وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ عَنْ كُلٍّ جَمَاعَةٌ. [تَعْرِيفُ الْمَشْهُورِ وَالْمُسْتَفِيضِ] [تَعْرِيفُ الْمَشْهُورِ وَالْمُسْتَفِيضِ] (أَوْ) أَنْ يُتْبَعَ رَاوِيهِ عَنْ ذَاكَ الْإِمَامِ مِنْ (فَوْقُ) بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ - أَيْ: فَوْقَ ذَلِكَ - كَثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ، مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، (فَمَشْهُورٌ) ; أَيْ: النَّوْعُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْمَشْهُورُ. وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي تَعْرِيفِهِ تَبَعًا لِابْنِ مَنْدَهْ: فَإِذَا رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْهُمْ - أَيْ: عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُجْمَعُ حَدِيثُهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 حَدِيثًا سُمِّيَ مَشْهُورًا. وَبِمُقْتَضَى مَا عَرَّفَا بِهِ الْعَزِيزَ أَيْضًا يَجْتَمِعَانِ فِيمَا إِذَا رَوَاهُ ثَلَاثَةٌ، وَيَخْتَصُّ الْعَزِيزُ بِاثْنَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ لِمَا عَرَّفَهُ بِهِ شَيْخُنَا فَلَا يَجْتَمِعَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا انْحِصَارَ لَهُمَا أَيْضًا فِي كَوْنِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُ مِمَّنْ يُجْمَعُ حَدِيثُهُ، بَلْ يَشْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا لَا يَكُونُ رَاوِيهِ كَذَلِكَ، وَكَذَا مَا يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّاوِيَانِ فِي الْعَزِيزِ عَنْ رَاوِيَيْنِ، وَالرُّوَاةُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ عَنِ اثْنَيْنِ، وَمَا تَكُونُ الشُّهْرَةُ فِي غَالِبِ طِبَاقِهِ، بِحَيْثُ يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُمَا حِينَئِذٍ دُونَهَا فِي بَعْضِ طِبَاقِهِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي الْعَزِيزِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَاعْلَمْهُ. وَسُمِّيَ مَشْهُورًا ; لِوُضُوحِ أَمْرِهِ، يُقَالُ: شَهَرْتُ الْأَمْرَ أَشْهَرُهُ شَهْرًا وَشُهْرَةً فَاشْتَهَرَ. وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْتِشَارِهِ وَشِيَاعِهِ فِي النَّاسِ، مِنْ فَاضَ الْمَاءُ يَفِيضُ فَيْضًا وَفَيْضُوضَةً ; إِذَا كَثُرَ حَتَّى سَالَ عَلَى ضَفَّةِ الْوَادِي. قَالَ شَيْخُنَا: وَمِنْهُمْ مَنْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ يَكُونُ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، يَعْنِي وَفِيمَا بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، وَالْمَشْهُورُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَشْمَلُ مَا كَانَ أَوَّلُهُ مَنْقُولًا عَنِ الْوَاحِدِ ; كَحَدِيثِ الْأَعْمَالِ، وَإِنِ انْتُقِدَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ بِهِ، وَلَا انْتِقَادَ بِالنَّظَرِ لِمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي تَعْرِيفِهِ ; إِذِ الشُّهْرَةُ فِيهِ نِسْبِيَّةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ الْمُلَقَّبِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ كَتَبَهُ عَنْ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَاعْتَنَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ بِجَمْعِهِمْ وَتَرْتِيبِهِمْ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 بِحَيْثُ جَمَعَ نَحْوَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ غَايَرَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى، يَعْنِي بِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ دُونَ اعْتِبَارِ عَدَدٍ. وَلِذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ: إِنَّهُ هُوَ وَالْمُتَوَاتِرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي الْمُسْتَفِيضِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْفَنِّ. يَعْنِي كَمَا فِي الْمُتَوَاتِرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، بِخِلَافِ الْمَشْهُورِ ; فَإِنَّهُ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهِ هَذَا الْعَدَدُ الْمَخْصُوصُ، سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَمْ لَا. (وَ) لَكِنْ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِشُمُولِهِ الصَّحِيحَ وَغَيْرَهُ، بَلْ (كُلٌّ) مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْرُوحَةِ، (قَدْ رَأَوْا) ; أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ، (مِنْهُ الصَّحِيحَ) ; يَعْنِي الْمُحْتَّجَ بِهِ الشَّامِلَ الْحَسَنَ، (وَالضَّعِيفَ) . وَلَا يُنَافِي وَاحِدٌ مِنْهَا وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِذَلِكَ فِي الْعَزِيزِ، وَلَكِنَّ الضَّعْفَ فِي الْغَرِيبِ أَكْثَرُ ; وَلِذَا كَرِهَ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ تَتَبُّعَ الْغَرَائِبِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تَكْتُبُوهَا ; فَإِنَّهَا مَنَاكِيرُ، وَعَامَّتُهَا عَنِ الضُّعَفَاءِ. وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ» ) ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ زَعَمَ أَنَّهُ غَرِيبٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ: صَدَقَ، إِذَا كَانَ خَطَأً فَهُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ طَلَبَهَا كَذَبَ. وَقَالَ مَالِكٌ: شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ، وَخَيْرُهُ الظَّاهِرُ الَّذِي قَدْ رَوَاهُ النَّاسُ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّ الْغَرِيبَ خَيْرٌ، فَإِذَا هُوَ شَرٌّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 [أَنْوَاعُ الْغَرِيبِ] [أَنْوَاعُ الْغَرِيبِ] : (ثُمَّ) إِنَّهُ (قَدْ يُغْرِبُ مُطْلَقًا) ; يَعْنِي فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ مَعًا ; كَالْحَدِيثِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ مَتْنِهِ رَاوٍ وَاحِدٌ ; كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا. (أَوْ) يُغْرِبُ مُقَيَّدًا ; حَيْثُ يُغْرِبُ (إِسْنَادًا) بِالنَّقْلِ. (فَقَدْ) ; أَيْ: حَسْبُ. كَأَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِرِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَيَنْفَرِدُ بِهِ رَاوٍ مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فَهُوَ مِنْ جِهَتِهِ غَرِيبٌ، مَعَ أَنَّ مَتْنَهُ غَيْرُ غَرِيبٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: ( «الْكَافِرُ يَأْكُلُّ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ) ; فَإِنَّهُ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنْ ذَلِكَ غَرَائِبُ الشُّيُوخِ فِي أَسَانِيدِ الْمُتُونِ الصَّحِيحَةِ، يَعْنِي كَأَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِخُصُوصِهِ غُنْدَرٌ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: وَلَا أَرَى - يَعْنِي الْقِسْمَ الثَّانِيَ - يَنْعَكِسُ، فَلَا يُوجَدُ إِذًا، يَعْنِي فِيمَا يَصِحُّ مَا هُوَ غَرِيبٌ مَتْنًا لَا سَنَدًا، إِلَّا إِذَا اشْتَهَرَ الْحَدِيثُ الْفَرْدُ عَمَّنْ تَفَرَّدَ بِهِ، فَرَوَاهُ عَنْهُ عَدَدٌ كَثِيرُونَ ; فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَرِيبًا مَشْهُورًا، وَغَرِيبًا مَتْنًا، وَغَيْرَ غَرِيبٍ إِسْنَادًا، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّ إِسْنَادَهُ مُتَّصِفٌ بِالْغَرَابَةِ فِي طَرَفِهِ الْأَوَّلِ، وَمُتَّصِفٌ بِالشُّهْرَةِ فِي طَرَفِهِ الْآخَرِ ; كَحَدِيثِ: ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) ، وَكَسَائِرِ الْغَرَائِبِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِيمَا شَرَحَهُ مِنَ التِّرْمِذِيِّ تَبَعًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 لِابْنِ طَاهِرٍ، فِيمَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا، وَلَمْ يُقَيِّدْ ثَالِثَهَا بِآخِرِ السَّنَدِ ; كَابْنِ الصَّلَاحِ، بَلْ أَطْلَقَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مِثَالًا ; لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ، وَإِنَّمَا الْقِسْمَةُ اقْتَضَتْ لَهُ ذِكْرَهُ. وَذَكَرَ رَابِعًا، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي بَعْضِ السَّنَدِ ; كَالطَّرِيقِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا لِحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ بِإِسْقَاطِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَبِيهِ، وَقَالَ: فَهَذِهِ غَرَابَةٌ تَخُصُّ مَوْضِعًا مِنَ السَّنَدِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَخَامِسًا وَهُوَ غَرِيبٌ فِي بَعْضِ الْمَتْنِ ; كَرَفْعِ جَمِيعِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. [أَقْسَامُ الْمَشْهُورِ] [أَقْسَامُ الْمَشْهُورِ] : (كَذَلِكَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا) يَقَعُ عَلَى مَا يُرْوَى بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْ فِي جَمِيعِ طِبَاقِهِ أَوْ مُعْظَمِهَا، أَوْ عَلَى مَا اشْتَهَرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَيَشْمَلُ مَا لَهُ إِسْنَادٌ وَاحِدٌ فَصَاعِدًا، بَلْ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ إِسْنَادٌ أَصْلًا ; كَـ: ( «عُلَمَاءُ أُمَّتِي أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ» ) ، وَ: ( «وُلِدْتُ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ كِسْرَى» ) ، وَتَسْلِيمِ الْغَزَالَةِ ; فَقَدِ اشْتَهَرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَفِي الْمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آخِرِ الْجِهَادِ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 مَوْضُوعَاتِهِ: أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تَدُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَسْوَاقِ، لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، وَذَكَرَ مِنْهَا: ( «مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذَارَ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ» ) ، وَ: ( «نَحْرُكُمْ يَوْمُ صَوْمِكُمْ» ) . وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ الْمَطْوِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ فِي مُسْنَدِهِ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ مَعَ مَجِيئِهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، وَثَانِيهِمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَيْضًا، هَذَا مَعَ نَظْمِ الْعَلَّامَّةِ أَبِي شَامَةَ الدِّمَشْقِيِّ الْمَقْدِسِيِّ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: أَرْبَعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ شَاعَتْ وَلَا ... أَصْلَ لَهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْوَاصِلِ خُرُوجُ آذَارَ وَيَوْمُ صَوْمِكُمْ ... ثُمَّ أَذَى الذِّمِّيِّ وَرَدُّ السَّائِلِ وَقَدْ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَحَادِيثُ هِيَ مَوْضُوعَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا. وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ عَرَفَ الْكَثِيرَ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ وَ (قَسَّمُوا) ; أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ، الْمَشْهُورَ أَيْضًا (لِشُهْرَةٍ مُطْلَقَةٍ) بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ ; (كَـ) حَدِيثِ: ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ) ، (الْحَدِيثَ وَ) لِلْمُشْتَهِرِ، (الْمَقْصُورِ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ) مَعْرِفَتُهُ، (مِنْ) نَحْوِ (مَشْهُورِ قُنُوتُهُ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرَا) ; فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ وَعَاصِمٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مِجْلَزٍ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثُمَّ عَنِ التَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَرَوَاهُ عَنِ التَّيْمِيِّ جَمَاعَةٌ، بِحَيْثُ اشْتَهَرَ، لَكِنْ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ يَسْتَغْرِبُونَهُ ; لِكَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى رِوَايَةِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ كَوْنُهَا بِلَا وَاسِطَةٍ. وَإِلَى مَشْهُورٍ مَقْصُورٍ عَلَى غَيْرِ الْمُحَدِّثِينَ ; كَالْأَمْثِلَةِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا، وَلَكِنْ لَا اعْتِبَارَ إِلَّا بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ بِالنَّظَرِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَقْسَامِهِ كِتَابًا. وَكَذَا يَنْقَسِمُ أَيْضًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، فَيَكُونُ مِنْهُ مَا لَمْ يَرْتَقِ إِلَى التَّوَاتُرِ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِيهِ. [تَعْرِيفُ التَّوَاتُرِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] [تَعْرِيفُ التَّوَاتُرِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] (وَمِنْهُ ذُو تَوَاتُرٍ) ، بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ كُلَّ مُتَوَاتِرٍ مَشْهُورٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يَرْتَقِي لِلتَّوَاتُرِ إِلَّا بَعْدَ الشُّهْرَةِ، فَهُوَ لُغَةً: تَرَادُفُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] ; أَيْ: رَسُولًا بَعْدَ رَسُولٍ، بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ. وَاصْطِلَاحًا: هُوَ مَا يَكُونُ (مُسْتَقْرَا فِي) جَمِيعِ (طَبَقَاتِهِ) ، أَنَّهُ مِنَ الِابْتِدَاءِ إِلَى الِانْتِهَاءِ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ مَحْصُورِينَ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، بَلْ بِحَيْثُ يَرْتَقُونَ إِلَى حَدٍّ تُحِيلُ الْعَادَةُ مَعَهُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، أَوْ وُقُوعَ الْغَلَطِ مِنْهُمُ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَبِالنَّظَرِ لِهَذَا خَاصَّةً يَكُونُ الْعَدَدُ فِي طَبَقَةٍ كَثِيرًا، وَفِي أُخْرَى قَلِيلًا ; إِذِ الصِّفَاتُ الْعَلِيَّةُ فِي الرُّوَاةِ تَقُومُ مَقَامَ الْعَدَدِ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ. هَذَا كُلُّهُ مَعَ كَوْنِ مُسْتَنَدِ انْتِهَائِهِ الْحِسَّ ; مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ ; لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يُحْتَمَلُ دُخُولُ الْغَلَطِ فِيهِ، وَنَحْوُهُ كَمَا اتَّفَقَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ مَوْلَى أَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 عَوَانَةَ بِمِنًى، فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا وَلَّى لَحِقَهُ أَبُو عُوَانَةَ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: وَاللَّهِ لَأَنْفَعَنَّكَ بِهَا يَا أَبَا عَوَانَةَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَأَرَادُوا الدَّفْعَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَقَفَ ذَلِكَ السَّائِلُ عَلَى طَرِيقِ النَّاسِ وَجَعَلَ يُنَادِي إِذَا رَأَى رُفْقَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اشْكُرُوا يَزِيدَ بْنَ عَطَاءٍ اللَّيْثِيَّ، يَعْنِي مَوْلَى أَبِي عَوَانَةَ ; فَإِنَّهُ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْيَوْمَ بِأَبِي عَوَانَةَ فَأَعْتَقَهَ. فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ فَوْجًا فَوْجًا إِلَى يَزِيدَ، يَشْكُرُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، فَلَمَّا كَثُرَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمْ قَالَ: وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ؟ ! اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ. وَأَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ مَا ثَبَتَ بِقَضِيَّةِ الْعَقْلِ الصِّرْفِ ; كَـ: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَالْأُمُورِ النَّظَرِيَّاتِ ; إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ نَظَرِهِ، وَكُلُّهُ مَقْبُولٌ ; لِإِفَادَتِهِ الْقَطْعَ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَمَا سَلَفَ، وَلَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْفَنِّ ; فَإِنَّهُ لَا يُبْحَثُ عَنْ رِجَالِهِ ; لِكَوْنِهِ لَا دَخْلَ لِصِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ إِلَّا الْقَلِيلُ ; كَالْحَاكِمِ، وَالْخَطِيبِ فِي أَوَائِلِ (الْكِفَايَةِ) ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنِ حَزْمٍ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ. وَإِنْ كَانَ الْخَطِيبُ قَدْ ذَكَرَهُ، فَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَا يَشْمَلُهُ صِنَاعَتُهُمْ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي رِوَايَاتِهِمْ. [أَمْثِلَةُ التَّوَاتُرِ] [أَمْثِلَةُ التَّوَاتُرِ] وَلَهُ أَمْثِلَةٌ ; (كَمَتْنِ) ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) ، الَّذِي اعْتَنَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ ; مِنْهُمُ الطَّبَرَانِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ بِجَمْعِ طُرُقِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وَبَلَغَتْ عِدَّةُ مَنْ رَوَاهُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَتَبِعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ عِشْرِينَ، بَلِ ارْتَقَتْ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْبَزَّارِ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ لِأَرْبَعِينَ، وَزَادَ عَلَيْهِمَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ عَدَدًا قَلِيلًا. وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ شَارِحِ (الرِّسَالَةِ) لِسِتِّينَ. (فَـ) ـارْتَقَتْ (فَوْقَ سِتِّينَ) صَحَابِيًّا بِاثْنَيْنِ (رَوَوْهُ) كَمَا عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ مَوْضُوعَاتِهِ، وَلِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ طَرِيقٍ، بِحَيْثُ زَادَتِ الطُّرُقُ عِنْدَهُ عَلَى التِّسْعِينَ. وَجَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ دِحْيَةَ. وَقَدْ سَبَقَ ابْنَ الْجَوْزِيِّ لِزِيَادَةِ عَدِّ الصَّحَابَةِ عَلَى السِّتِّينَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ. (وَالْعَجَبْ بِأَنَّ مِنْ رُوَاتِهِ لَلْعَشَرَهْ) الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ. (وَ) أَنَّهُ (خُصَّ بِالْأَمْرَيْنِ) الْمَذْكُورَيْنِ ; وَهُمَا اجْتِمَاعُ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ صَحَابِيًّا عَلَى رِوَايَتِهِ، وَكَوْنُ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ، (فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ حِكَايَةً (عَنْ بَعْضِهِمُ) مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مُقَدِّمَةِ إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، الْأَوَّلُ مِنْ كَلَامِهِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي نَقْلًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْإِسْفَرَائِينِيِّ. وَكَذَا قَالَهُ الْحَاكِمُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْبَيْهَقِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ. بَلْ أَشَعَرَ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ بِاخْتِصَاصِهِ بِكَوْنِهِ مِثَالًا لِلْمُتَوَاتِرِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ سُئِلَ عَنْ إِبْرَازِ مِثَالٍ لِذَلِكَ فِيمَا يُرْوَى مِنَ الْحَدِيثِ، أَعْيَاهُ تَطَلُّبُهُ. قَالَ: وَحَدِيثُ: ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ بِسَبِيلٍ، وَإِنْ نَقَلَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ وَزِيَادَةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 طَرَأَ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ إِسْنَادِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي أَوَائِلِهِ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. نَعَمْ، حَدِيثُ: ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ» ) نَرَاهُ مِثَالًا لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ نَقَلَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ الْعَدَدُ الْجَمُّ، وَوَافَقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى إِطْلَاقِ التَّوَاتُرِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ نَازَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي اجْتِمَاعِ الْعَشَرَةِ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَبَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا فِي كَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا ; لِأَنَّ شَرْطَهُ كَمَا قَدَّمْنَا اسْتِوَاءُ طَرَفَيْهِ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي الْكَثْرَةِ، وَلَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِ بِمُفْرَدِهَا. وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الطُّرُقَ عَنِ الْعَشَرَةِ مَوْجُودَةٌ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَوْضُوعَاتِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ عَوْفٍ فِي النُّسْخَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، وَكَذَا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ مَنْ بَعْدَهُ، وَالثَّابِتُ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي مِنَ الصِّحَاحِ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ، وَمِنَ الْحِسَانِ طَلْحَةُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنَ الضَّعِيفِ الْمُتَمَاسِكِ طَرِيقُ عُثْمَانَ، وَبَقِيَّتُهَا ضَعِيفٌ أَوْ سَاقِطٌ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْجُمْلَةِ. وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِطْلَاقِ كَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا رِوَايَةُ الْمَجْمُوعِ عَنِ الْمَجْمُوعِ مِنَ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَهَذَا كَافٍ فِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَطَرِيقُ أَنَسٍ وَحْدَهَا قَدْ رَوَاهَا عَنْهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَتَوَاتَرَتْ عَنْهُمْ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَوَاهُ عَنْهُ سِتَّةٌ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَثِقَاتِهِمْ. وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. فَلَوْ قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: إِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ صَاحِبَيْهِ، لَكَانَ صَحِيحًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي بَعْضِ مَا جُمِعَ مِنْ طُرُقِهِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ. (قُلْتُ: بَلَى) ، لَمْ يُخَصَّ هَذَا الْمَتْنُ بِالْأَمْرَيْنِ، بَلْ (مَسْحُ الْخِفَافِ) قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا - فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِهِ: (الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ كُتُبِ النَّاسِ لِلْفَائِدَةِ) - أَكْثَرُ مِنْ سِتِّينَ صَحَابِيًّا، وَمِنْهُمُ الْعَشَرَةُ. بَلْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَلَكِنْ فِي هَذَا مَقَالٌ. نَعَمْ، جَمَعَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ رُوَاتَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ. وَصَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرٌ. وَعِبَارَةُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْهُمْ: رَوَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ أَرْبَعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاسْتَفَاضَ وَتَوَاتَرَ. وَسَبَقَهُ أَحْمَدُ فَقَالَ: لَيْسَ فِي قَلْبِي مِنَ الْمَسْحِ شَيْءٌ، فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَفَعُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا وَقَفُوا. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ فِي الْمَسْحِ، فَقَالَ: حَدِيثُ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ. . .، وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَوْقِيتٌ لِلْمُقِيمِ. وَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، قِيلَ: إِنَّ رُوَاتَهُ زَادَتْ عَلَى سِتِّينَ، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَعَدَمُهُ. وَأَيْضًا فَأَبُو الْقَاسِمِ (ابْنُ مَنْدَهٍ) الْمَذْكُورُ بِالصَّرْفِ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، (إِلَى عَشْرَتِهِمْ) بِإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: الصَّحَابَةِ، (رَفْعَ) بِالنَّصْبِ (الْيَدَيْنِ نَسَبَا) ، بَلْ خَصَّهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فِيمَا سَمِعَهُ صَاحِبُهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ سُنَّةً اتَّفَقَ عَلَى رِوَايَتِهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ الْعَشَرَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَكَابِرَ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ فِي الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ غَيْرَ هَذِهِ السُّنَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أُسْتَاذُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ; فَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَنِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (التَّمْهِيدِ) : إِنَّهُ رَوَاهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَعَزَاهُ لِسَبْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا، وَكَذَا السَّلَفِيُّ. وَعِدَّتُهُمْ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ اثْنَانِ وَعِشْرُونُ. وَتَتَبَّعَ الْمُصَنِّفُ مَنْ رَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فَبَلَغَ بِهِمْ نَحْوَ الْخَمْسِينَ. وَوَصَفَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِالتَّوَاتُرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَكْثَرُهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وُرُودًا ; وَلِذَا لَمَّا حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ كَوْنَهُ يُرْوَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ قَالَ: وَقَدْ بَلَغَ بِهِمْ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عَدَدُ رُوَاتِهِ فِي ازْدِيَادٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا عَلَى التَّوَالِي وَالِاسْتِمْرَارِ. قُلْتُ: قَدِ ارْتَقَتْ عِدَّتُهُمْ لَأَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ نَفْسًا فِيمَا قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ مَنْدَهْ أَيْضًا، وَخَرَّجَهَا بَعْضُ النَّيْسَابُورِيِّينَ بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَبَلَغَ بِهِمِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَمَا فِي النُّسْخَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، وَهِيَ بِخَطِّ وَلَدِهِ عَلِيٍّ نَقْلًا عَنْ خَطِّ أَبِيهِ، ثَمَانِيَةً وَتِسْعِينَ. وَأَمَّا أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُمْ نَحْوُ الْمِائَةِ. بَلْ (وَنَيَّفُوا) ; أَيْ: زَادُوا، (عَنْ مِائَةٍ) مِنَ الصَّحَابَةِ بِاثْنَيْنِ (مَنْ كَذَبَا) ، وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِمَجْمُوعِ مَا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِمُ عَزَا الْعِدَّةَ الْمَذْكُورَةَ لِمُصَنَّفِ الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَهُوَ فِي جُزْأَيْنِ ; فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ شَيْخِنَا خِلَافُهُ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْحَافِظَيْنِ ; يُوسُفَ بْنَ خَلِيلٍ، وَأَبَا عَلِيٍّ الْبَكْرِيَّ - وَهُمَا مُتَعَاصِرَانِ - وَقَعَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَصْنِيفِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، بِحَيْثُ تُكُمِّلَتِ الْمِائَةُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا عِنْدَهُمْ. وَأَعْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: إِنَّهُ جَاءَ عَنْ مِائَتَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي ازْدِيَادٍ. وَاسْتَبْعَدَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ، وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهَا فِي مُطْلَقِ الْكَذِبِ ; كَحَدِيثِ: ( «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ» ) وَنَحْوِهِ. وَلَكِنْ لَعَلَّهُ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - سَبْقُ قَلَمٍ مِنْ مِائَةٍ، وَفِيهَا الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا أَنَّهُ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ مِنْهَا عَلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا بِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ. وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ مِنْهَا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَصَحَّ أَيْضًا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي قَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَوَرَدَ بِأَسَانِيدَ حِسَانٍ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَطَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَخَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي قِرْصَافَةَ وَأَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ وَعَائِشَةَ. فَهَؤُلَاءِ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَوَرَدَ عَنْ نَحْوِ خَمْسِينَ غَيْرِهِمْ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ مُتَمَاسِكَةٍ ; مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَعَنْ نَحْوِ عِشْرِينَ آخَرِينَ بِأَسَانِيدَ سَاقِطَةٍ. عَلَى أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ نَازَعَ ابْنَ الصَّلَاحِ فِيمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُهُ مِنْ عِزَّةِ وُجُودِ مِثَالٍ لِلْمُتَوَاتِرِ، فَضْلًا عَنْ دَعْوَى غَيْرِهِ الْعَدَمَ، يَعْنِي كَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَازِمِيِّ. وَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ اطِّلَاعٍ عَلَى كَثْرَةِ الطُّرُقِ وَأَحْوَالِ الرِّجَالِ وَصِفَاتِهِمِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِبْعَادِ الْعَادَةِ أَنْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى كَذِبٍ أَوْ يَحْصُلَ مِنْهُمُ اتِّفَاقًا. قَالَ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُقَرَّرُ بِهِ كَوْنُ الْمُتَوَاتِرِ مَوْجُودًا وُجُودَ كَثْرَةٍ فِي الْأَحَادِيثِ، أَنَّ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بِأَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ شَرْقًا وَغَرْبًا، الْمَقْطُوعَ عِنْدَهُمْ بِصِحَّةِ نِسْبَتِهَا إِلَى مُصَنِّفِيهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى إِخْرَاجِ حَدِيثٍ، وَتَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ تَعَدُّدًا تُحِيلُ الْعَادَةُ تَوَاطُؤَهُمْ مَعَهُ عَلَى الْكَذِبِ إِلَى آخِرِ الشُّرُوطِ، أَفَادَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِصِحَّتِهِ إِلَى قَائِلِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ كَثِيرٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْآخِذِينَ عَنْهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَوَّلِ مَقَالَتِهِ هَذِهِ، مَعَ مَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ لَا دَخْلَ لِصِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ فِي الْمُتَوَاتِرِ. وَهُوَ وَاضِحُ الِالْتِيَامِ، فَمَا هُنَا بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ مَثَلًا تُبْعِدُ الْعَادَةُ - لِجَلَالَتِهِمْ - تَوَاطُؤَ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ عَلَى كَذِبٍ أَوْ غَلَطٍ، وَكَوْنِ غَيْرِهَا لِانْحِطَاطِ أَهْلِهَا عَنْ هَؤُلَاءِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِعَشَرَةٍ مَثَلًا، وَغَيْرِهَا لِعَدَمِ اتِّصَافِ أَهْلِهَا بِالْعَدَالَةِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْفِسْقِ وَنَحْوِهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَزِيدِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَدَدِ. نَعَمْ، يُمْكِنُ بِالنَّظَرِ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ مَبَاحِثِنَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ] [الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ] وَذَكَرَ شَيْخُنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وُصِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ، وَأَنَّ عَدَدَ رُوَاتِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ زَادَ عَلَى أَرْبَعِينَ. وَمِمَّنْ وَصَفَهُمَا بِذَلِكَ عِيَاضٌ فِي (الشِّفَا) . وَحَدِيثَ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا» ) ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَ: ( «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ) . وَكَذَا ذَكَرَ عِيَاضٌ فِي (الشِّفَا) حَدِيثَ حَنِينِ الْجِذْعِ. وَابْنُ حَزْمٍ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَعَنِ اتِّخَاذِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَالْقَوْلِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ. وَالْآبُرِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ حَدِيثَ الْمَهْدِيِّ. وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَدِيثَ: ( «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ» ) . وَالْحَاكِمُ حَدِيثَ خُطْبَةِ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، وَالْإِسْرَاءِ، وَأَنَّ إِدْرِيسَ فِي الرَّابِعَةِ. وَغَيْرُهُ حَدِيثَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَالنُّزُولِ. وَابْنُ بَطَّالٍ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ. وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: لَا يُقَالُ: إِنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَهَا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ. وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُ فِي التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ ; كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَجُودِ حَاتِمٍ، وَأَخْبَارِ الدَّجَّالِ. وَشَيْخُنَا حَدِيثَ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ) . وَقَدْ أُفْرِدَ مَا وُصِفَ بِذَلِكَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 تَأْلِيفٍ ; إِمَّا لِلزَّرْكَشِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [غَرِيبُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ] [تَعْرِيفُ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَأَمْثِلَتِهِ] (غَرِيبُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ) 759 - وَالنَّضْرُ أَوْ مَعْمَرُ خُلْفٌ أَوَّلُ ... مَنْ صَنَّفَ الْغَرِيبَ فِيمَا نَقَلُوا 760 - ثُمَّ تَلَى أَبُو عُبَيْدٍ وَاقْتَفَى ... الْقُتَبِيُّ ثُمَّ حَمْدٌ صَنَّفَا 761 - فَاعْنَ بِهِ وَلَا تَخُضْ بِالظَّنِّ ... وَلَا تُقَلِّدْ غَيْرَ أَهْلِ الْفَنِّ 762 - وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ ... كَالدُّخِّ بِالدُّخَّانِ لِابْنِ صَائِدِ 763 - كَذَاكَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمُ ... فَسَّرَهُ الْجِمَاعَ وَهْوَ وَاهِمُ [تَعْرِيفُ غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَأَمْثِلَتِهِ] (غَرِيبُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ) النَّبَوِيِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْغَرِيبِ الْمَاضِي قَرِيبًا، فَذَاكَ يَرْجِعُ إِلَى الِانْفِرَادِ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا هُنَا فَهُوَ مَا يَخْفَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُتُونِ ; لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهِ وَدَوَرَانِهِ، بِحَيْثُ يَبْعُدُ فَهْمُهُ وَلَا يَظْهَرُ إِلَّا بِالتَّنْقِيرِ عَنْهُ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ، وَهُوَ مِنْ مَهَمَّاتِ الْفَنِّ ; لِتَوَقُّفِ التَّلَفُّظِ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَضْلًا عَنْ فَهْمِهَا عَلَيْهِ. وَتَتَأَكَّدُ الْعِنَايَةُ بِهِ لِمَنْ يَرْوِي بِالْمَعْنَى. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ بَيَانُ التَّصَانِيفِ فِيهِ، وَلَوْ أُضِيفَ لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْوَاعِ، بَلْ كَمَا فَعَلَهُ الْبَرْشَنْسِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ فِي هَذَا نَفْسِهِ ; حَيْثُ ذَكَرَ جَانِبًا مِنْهُ. بَلْ وَابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي هِدَايَتِهِ الَّتِي شَرَحْتُهَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ كَالْأَسْمَاءِ، مِنْهُ مَا هُوَ فَرْدٌ كَالْجَعْظَرِيِّ: الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَمِنْهُ مَا هُوَ كَالْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، كَأَنْ تَأْتِيَ كَلِمَةٌ لِمَعْنًى وَيُصَحِّفَهَا لِمَعْنًى آخَرَ، فَيَأْتَلِفَا فِي الْخَطِّ وَيَخْتَلِفَا فِي النُّطْقِ ; كَقَدَحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 الرَّاكِبِ بِفَتْحَتَيْنِ: الْآنِيَةُ الْمَعْرُوفَةُ مَعَ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ، كَالْقِدْحِ بِالْكَسْرِ ثُمَّ سُكُونٍ: السَّهْمُ. وَكَالْمَنْصَفِ، فَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَبِكَسْرِهَا: الْخَادِمُ. وَكَحَذَفٍ بِتَحْرِيكِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي قَوْلِهِ: كَبَنَاتِ حَذَفٍ، وَهِيَ الْغَنَمُ الصِّغَارُ الْحِجَازِيَّةُ، وَبِإِسْكَانِهَا فِي قَوْلِهِ: (حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ) ، وَهُوَ تَخْفِيفُهُ وَعَدَمُ إِطَالَتِهِ. وَكَالشَّعَفَةِ وَهِيَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: (وَرَجُلٌ فِي شَعَفَةٍ مِنَ الشِّعَافِ) ، يُرِيدُ بِهِ رَأْسَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ، مَعَ السَّعْفَةِ وَهِيَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ رَأَى جَارِيَةً بِهَا سَعْفَةٌ) ; أَيْ: قُرُوحٌ تَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ. وَالسَّعَفَةُ مِثْلُهُ، لَكِنْ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ: أَغْصَانُ النَّخِيلِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ كَالْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ، بِأَنْ تَأْتِيَ كَلِمَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ، كَالطَّبَقِ فِي قَوْلِهِ: (فَجَاءَ طَبَقٌ مِنْ جَرَادٍ) : الْقَطِيعُ، وَفِي قَوْلِهِ: (بَدَأَ طَبَقُ الْقَرْنِ) . وَمِنْهُ مَا فِيهِ الْإِعْجَامُ وَالْإِهْمَالُ ; كَالتَّشْمِيتِ، وَ: (مَصْمِصُوا مِنَ اللَّبَنِ) - لَكَانَ أَفْيَدَ. وَنَحْوُهُ تَقْدِيمُ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ وَتَأْخِيرُهَا ; كَالطَّبِيخِ وَالْبِطِّيخِ، وَجَذَبَ فِي جَبَذَ، وَأَنْعَمَ فِي أَمْعَنَ. وَمِمَّا رَأَيْتُهُ مُفَرَّقًا وَهُوَ نَافِعٌ مَعَ مُشَاحَحَةٍ فِي بَعْضِهِ: لَا تُحَرِّكُ الْإِبْطَ فَيَفُوحَ، وَلَا تَفْتَحِ الْجِرَابَ، وَلَا تَكْسِرِ الْقَصْعَةَ، وَلَا تَمُدَّ الْقَفَا، وَإِذَا دَخَلْتَ كُوًى فَافْتَحْ، وَإِذَا خَرَجْتَ فَضُمَّ، وَالْجَنَازَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، فَالْأَعْلَى لِلْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ لِلْأَسْفَلِ. وَمَلِكٌ بِكَسْرِ اللَّامِ فِي الْأَرْضِ، وَبِفَتْحِهَا فِي السَّمَاءِ. [أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ] [أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ] (وَالنَّضْرُ) بْنُ شُمَيْلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَازِنِيُّ، (أَوْ) أَبُو عُبَيْدَةَ (مَعْمَرُ) بْنُ الْمُثَنَّى، (خُلْفٌ أَوَّلُ) ; أَيْ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ (مَنْ صَنَّفَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 مِنْهُمَا فِي الْإِسْلَامِ (الْغَرِيبَ) الْمُشَارَ إِلَيْهِ، (فِيمَا نَقَلُوا) . فَجَزَمَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ بِأَوَّلِهِمَا. وَهُوَ الظَّاهِرُ ; فَإِنَّهُ مَاتَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَمَشَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي خُطْبَةِ النِّهَايَةِ ثُمَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي (تَقْرِيبِ الْمَرَامِ) لَهُ عَلَى الثَّانِي، لَكِنْ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ مِنْهُمَا، مَعَ أَنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْأَوَّلِ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، وَكِتَابَاهُمَا مَعَ جَلَالَتِهِمَا صَغِيرَانِ ; لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ فِي الْمُبْتَدِئِ بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، لَا سِيَّمَا وَالْعِلْمُ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرُ فُشُوًّا مِنْ نَقِيضِهِ، وَأَكْبَرُهُمَا كِتَابُ أَوَّلِهِمَا. وَلَقَدْ بَالَغَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِمَّا أَوْرَدَهُ ثَانِيهِمَا فِي غَرِيبِهِ سِوَى أَرْبَعِينَ حَدِيثًا. [ذِكْرُ أُمَّهَاتَ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْفَنِّ] [ذِكْرُ أُمَّهَاتَ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْفَنِّ] وَمِمَّنْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ الْيَسِيرَ أَيْضًا الْحُسَيْنُ بْنُ عَيَّاشٍ أَبُو بَكْرٍ السُّلَمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَنِيرِ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِقُطْرُبٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُمَا قَبْلَ مَعْمَرٍ، الْأَوَّلُ بِسِتِّ سِنِينَ، وَالثَّانِي بِأَرْبَعٍ. ثُمَّ جَمَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُرَيْبٍ الْأَصْمَعِيُّ عَصْرِيُّ مَعْمَرٍ، بَلِ الْمُتَوَفَّى بَعْدَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، كِتَابًا، فَزَادَ وَأَحْسَنَ. فِي آخَرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ جَمَعُوا أَحَادِيثَ تَكَلَّمُوا عَلَى لُغَتِهَا وَمَعْنَاهَا فِي أَوْرَاقٍ ذَوَاتِ عَدَدٍ. وَلَمْ يَكَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ بِكَبِيرِ أَمْرٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَكَذَا صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَزِيدِيُّ فِي ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 (ثُمَّ تَلَى) الْجَمِيعَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْآنَ (أَبُو عُبَيْدٍ) الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ (224هـ) ، فَجَمَعَ كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالْآثَارِ، تَعِبَ فِيهِ جِدًّا ; فَإِنَّهُ أَقَامَ فِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً بِحَيْثُ اسْتَقْصَى وَأَجَادَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُ، وَوَقَعَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَوْقِعٍ جَلِيلٍ، وَصَارَ قُدْوَةً فِي هَذَا الشَّأْنِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، حَتَّى إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ: إِنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ وُضِعَ فِيهِ، يَعْنِي قَبْلَهُ. وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَتَّبٍ، فَرَتَّبَهُ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ عَلَى الْحُرُوفِ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِكِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَعَمِلَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ كِتَابًا فِي التَّعَقُّبِ عَلَيْهِ. وَكَذَا مِمَّنْ جَمَعَ الْغَرِيبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ الْبَغْدَادِيُّ تِلْمِيذُ مَعْمَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو شِمْرُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (256هـ) . وَكِتَابُهُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْرُ كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ مِرَارًا. (وَاقْتَفَى) أَثَرَ أَبِي عُبَيْدٍ وَحَذَا حَذْوَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ (الْقُتَبِيُّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ نِسْبَةً لِجَدِّهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَصَنَّفَ كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ وَجَعَلَهُ ذَيْلًا عَلَى كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ، فَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 أَكْبَرَ حَجْمًا مِنْ أَصْلِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهِ التَّنْبِيهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَوْهَامِهِ، بَلْ وَأَفْرَدَ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ كِتَابًا سَمَّاهُ إِصْلَاحَ الْغَلَطِ. وَقَدِ انْتَصَرَ لِأَبِي عُبَيْدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ رَدَّ فِيهِ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ، لَكِنْ قَالَ لَنَا شَيْخُنَا عَنْ شَيْخِهِ الْمُصَنِّفِ: إِنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ. وَكَذَا صَنَّفَ فِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ أَحَدُ مُعَاصِرِي ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالْمُتَوَفَّى بَعْدَهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، كِتَابًا حَافِلًا، أَطَالَهُ بِالْأَسَانِيدِ وَسِيَاقِ الْمُتُونِ بِتَمَامِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَتْنِ مِنَ الْغَرِيبِ إِلَّا كَلِمَةٌ، فَهُجِرَ لِذَلِكَ كِتَابُهُ مَعَ جَلَالَةِ مُصَنِّفِهِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِ كِتَابِهِ. ثُمَّ صَنَّفَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ أَيْضًا ; كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَثَعْلَبٍ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَأَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشِّيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَمِنَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ ; كَأَبِي مُحَمَّدٍ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ حَزْمٍ السَّرَقُسْطِيِّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. وَكِتَابُهُ، وَاسْمُهُ (الدَّلَائِلُ) ، ذَيْلٌ عَلَى كِتَابِ الْقُتَيْبِيِّ، وَكَانَ قَاسِمٌ قَدِ ابْتَدَأَهُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَهُ، فَأَكْمَلَهُ أَبُوهُ ; لِتَأَخُّرِ وَفَاتِهِ عَنْهُ مُدَّةً ; فَإِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَكَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ غُلَامِ ثَعْلَبٍ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ. وَغَرِيبُهُ صَنَّفَهُ عَلَى مُسْنَدِ أَحْمَدَ خَاصَّةً، وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا فِيمَا قِيلَ. (ثُمَّ) بَعْدَهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ (حَمْدٌ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (388هـ) ، (صَنَّفَا) كِتَابَهُ الْمَعْرُوفَ، وَهُوَ أَيْضًا ذَيْلٌ عَلَى الْقُتَيْبِيِّ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَغَالِيطِهِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ - أَعْنِي كُتُبَ الْخَطَّابِيِّ وَالْقُتَيْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ - أُمَّهَاتُ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِلَيْهَا الْمَرْجِعُ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ. وَوَرَاءَهَا - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - مَجَامِيعُ تَشْتَمِلُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَوَائِدَ وَفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ، بِحَيْثُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: لَمْ يَخْلُ زَمَنٌ مِنْ مُصَنِّفٍ فِيهِ. وَمِنْهَا فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيِّ صَاحِبِ أَبِي مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيِّ اللُّغَوِيِّ وَعَصْرِيِّ الْخَطَّابِيِّ، بَلْ وَالْمُتَأَخِّرِ بَعْدَهُ ; فَإِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ (401هـ) ، جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ كِتَابَيْ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ، مَعَ زِيَادَاتٍ جَمَّةٍ، وَإِضَافَتِهِ لِذَلِكَ غَرِيبَ الْقُرْآنِ، مُرَتِّبًا لِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَكَانَ أَجْمَعَ مُصَنَّفٍ فِي ذَلِكَ قَبْلَهُ. وَاخْتَصَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ (47هـ) ، وَسَمَّاهُ (تَقْرِيبَ الْغَرِيبَيْنِ) . وَكَذَا اخْتَصَرَهُ مَعَ زِيَادَاتٍ يَسِيرَةٍ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ الْمُتَوَفَّى فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ. بَلْ وَجَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْبَغْدَادِيُّ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ (550هـ) - أَوْهَامَهُ فِي تَصْنِيفٍ مُسْتَقِلٍّ. وَذَيَّلَ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي الْغَرِيبَيْنِ وَالتَّرْتِيبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ ذَيْلًا حَسَنًا، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا - أَعْنِي كِتَابَ الْهَرَوِيِّ وَالذَّيْلَ عَلَيْهِ لِأَبِي مُوسَى مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَدِيثِ خَاصَّةً - الْمَجْدُ أَبُو السَّعَادَاتِ الْمُبَارَكُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَثِيرِ الْجَزْرِيُّ مَعَ زِيَادَاتٍ جَمَّةٍ، فَكَانَ كِتَابُهُ النِّهَايَةَ كَاسْمِهِ، وَعَوَّلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ بَعْدَهُ ; لِجَمْعِهِ وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ مِنْهُ، مَعَ إِعْوَازٍ قَلِيلٍ فِيهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الصَّفِيَّ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدٍ الْأُرْمَوِيَّ ذَيَّلَ عَلَيْهِ أَوْ كَتَبَ عَلَى نُسْخَتِهِ مِنْهُ حَوَاشِيَ، فَأَفْرَدَهَا غَيْرُهُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُصَنِّفِ عَلَى نُسْخَتِهِ مِنْهُ أَيْضًا حَوَاشِيَ كَثِيرَةً، كَانَ عَزْمُهُ تَجْرِيدَهَا فِي ذَيْلٍ كَبِيرٍ، وَمَا أَظُنُّهُ تَيَسَّرَ، وَقَدِ اخْتَصَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ. وَكَذَا لِابْنِ الْأَثِيرِ كِتَابٌ آخَرُ سَمَّاهُ (مَنَالَ الطَّالِبِ فِي شَرْحِ طِوَالِ الْغَرَائِبِ) فِي مُجَلَّدٍ. بَلْ وَلَهُ شَرْحُ غَرِيبِ كِتَابِهِ (جَامِعِ الْأُصُولِ) فِي مُجَلَّدٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ (606هـ) . وَمِنْهَا كِتَابُ (الْفَائِقِ) لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنْ أَنْفَسِ الْكُتُبِ ; لِجَمْعِهِ الْمُتَفَرِّقَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مَعَ حُسْنِ الِاخْتِصَارِ وَصِحَّةِ النَّقْلِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ اسْتِيفَاءَ مَا فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنْ غَرِيبٍ فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ بَعْضِ كَلِمَاتِهِ، فَعَسُرَ لِذَلِكَ الْكَشْفُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِكِتَابٍ الْهَرَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ أَسْهَلُ تَنَاوُلًا مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ قَبْلَهُ. وَكَانَتْ وَفَاةُ مُؤَلِّفِهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ (538هـ) . وَمِنْهَا (مَجْمَعُ الْغَرَائِبِ) لِلْحَافِظِ أَبِي الْحُسَيْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيِّ ثُمَّ النَّيْسَابُورِيِّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ (529هـ) . وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ الزَّرْكَشِيِّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النِّهَايَةَ مَا نَصُّهُ: وَزَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 عَلَيْهِ الْكَاشْغَرِيُّ فِي مَجْمَعِ الْغَرَائِبِ، فَيُنْظَرُ. وَمِنْهَا كِتَابُ (الْمَشَارِقِ) لِلْقَاضِي عِيَاضٍ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ (544هـ) . وَهُوَ أَجَلُّ كِتَابٍ، جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ ضَبْطِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ وَبَيَانِ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ مَعَ مَا أَضَافَ إِلَيْهِ مِنْ مُشْتَبَهِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ. وَيُنْسَبُ لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ قُرْقُولٍ تِلْمِيذِ الْقَاضِي عِيَاضٍ الْمُتَوَفَّى بَعْدَهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ كِتَابُ (الْمَطَالِعِ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُنْتَزَعٌ مِنَ (الْمَشَارِقِ) لِشَيْخِهِ، مَعَ التَّوَقُّفِ فِي كَوْنِهِ نَسَبَهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَظَمَهُ الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْمَوْصِلِيِّ فَأَحْسَنَ مَا شَاءَ. وَكَذَا فِي الْغَرِيبِ (الْمُجَرَّدُ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْبَغْدَادِيِّ، وَ (قَنْعَةُ الْأَرِيبِ فِي تَفْسِيرِ الْغَرِيبِ) لِبَعْضِهِمْ، وَغَيْرُهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ النَّحْوِيِّ، وَمَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَغَرِيبُ الْبُخَارِيِّ خَاصَّةً لِأَبِي الْوَلِيدِ بْنِ الصَّابُونِيِّ، وَغَرِيبُ الْمُوَطَّأِ لِبَعْضِهِمْ. وَكَذَا جَرَّدَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ شُرُوحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 مُسْلِمٍ غَرِيبَهُ، فَهَذَا مَا عَلِمْتُهُ الْآنَ مِنْ كُتُبِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَجَلُّ كِتَابٍ يُوجَدُ فِيهِ مَجَامِعُ ذَلِكَ كِتَابُ (الصِّحَاحِ) لِلْجَوْهَرِيِّ. قُلْتُ: وَ (الْقَامُوسُ) لِلْمَجْدِ الشِّيرَازِيِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا. وَهُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - يَقْبُحُ جَهْلُهُ بِأَهْلِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، ثُمَّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ عَامَّةً. [الِاعْتِنَاءُ بِهَذَا الْفَنِّ وَأَهْلِهِ] [الِاعْتِنَاءُ بِهَذَا الْفَنِّ وَأَهْلِهِ] (فَاعْنَ) أَيُّهَا الْمُقْبِلُ عَلَى هَذَا الشَّأْنِ، (بِهِ) ; أَيْ: بِعِلْمِ الْغَرِيبِ تَحَفُّظًا وَتَدَبُّرًا، وَالْزَمِ النِّهَايَةَ مِنْ كُتُبِهِ، (وَلَا تَخُضْ) فِيهِ رَجْمًا (بِالظَّنِّ) ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ، وَالْخَائِضُ فِيهِ حَقِيقٌ بِالتَّحَرِّي، جَدِيرٌ بِالتَّوَقِّي. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، وَنَاهِيكَ بِهِ حَيْثُ سُئِلَ عَنْ حَرْفٍ مِنْهُ: (سَلُوا أَصْحَابَ الْغَرِيبِ ; فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالظَّنِّ، فَأُخْطِئَ) . وَقَالَ شُعْبَةُ فِي لَفْظِهِ: (خُذُوهَا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ ; فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنَّا) . كَمَا قَدَّمْتُهُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. (وَلَا تُقَلِّدْ غَيْرَ أَهْلِ الْفَنِّ) وَأَجِلَّائِهِ إِنْ كَانُوا، وَإِلَّا فَكُتُبُهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ أَخْطَأَ فِي تَصَرُّفِهِ. وَإِذَا كَانَ مِثْلُ الْأَصْمَعِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ عَلِمْتَ جَلَالَتَهُ يَقُولُ: أَنَا لَا أُفَسِّرُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تَزْعُمُ أَنَّ السَّقْبَ اللَّزِيقُ. فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ بِالْفَنِّ؟ ! أَمْ كَيْفَ بِمَا يُرَى مِنْ ذَلِكَ بِهَوَامِشِ الْكُتُبِ مِمَّا يُجْهَلُ كَاتِبُهُ؟ ! بَلْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ فِيمَنْ يُقَلِّدُ اطِّلَاعَهُ عَلَى أَكْثَرِ اسْتِعْمَالَاتِ أَلْفَاظِ الشَّارِعِ حِقِيقَةً وَمَجَازًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى مَا وُجِدَ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَتَبُّعِ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الشَّارِعِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَّا مَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ قَرَائِنُ بِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَانٍ اخْتَرَعَهَا هُوَ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا لَا يُنَافِي مَا سَلَفَ فِي إِصْلَاحِ اللَّحْنِ وَالْخَطَأِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ كَلِمَةً مِنْ غَرِيبِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ وَأُشْكِلَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ بِهَا - أَيْ: بِالْعَرَبِيَّةِ - وَيَرْوِيَهَا عَلَى مَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ، كَمَا رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا. [تَفْسِيرُ الْغَرِيبِ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ] [تَفْسِيرُ الْغَرِيبِ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ] (وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ) ; أَيْ: الْغَرِيبَ، (بِـ) الْمَعْنَى (الْوَارِدِ) فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مُفَسِّرًا لِذَلِكَ اللَّفْظِ ; (كَالدُّخِّ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَحَكَى ابْنُ السَّيِّدِ فِيهَا الْفَتْحَ أَيْضًا، بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ; فَإِنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا يَقْتَضِي تَفْسِيرَهُ (بِالدُّخَّانِ) مَعَ كَوْنِهِ لُغَةً حَكَاهَا ابْنُ الدُّرَيْدِ وَابْنُ السَّيِّدِ وَالْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ، قَالَ الشَّاعِرُ: عِنْدَ رِوَاقِ الْبَيْتِ يَغْشَى الدُّخَّا فِي الْقِصَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، (لِابْنِ صَائِدِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ: أَبِي عِمَارَةَ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ صَيَّادٍ أَيْضًا، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ الدَّجَّالُ. فَالْبُخَارِيُّ أَخْرَجَهَا مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ لَهُ: (خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا) . قَالَ ابْنُ صَائِدٍ: هُوَ الدُّخُّ. (كَذَاكَ) ; أَيْ: كَوْنُهُ الدُّخَانَ، ثَبَتَ (عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ) فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ. وَكَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ أَيْضًا. وَاتَّفَقَ الثَّلَاثَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: وَخَبَّأَ لَهُ، يَعْنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . بَلْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فَأَرَادَ ابْنُ صَيَّادٍ أَنْ يَقُولَ: الدُّخَانُ. فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: الدُّخُّ الدُّخُّ. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى عَادَةِ الْكُهَّانِ فِي اخْتِطَافِ بَعْضِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى تَمَامِ الْبَيَانِ ; وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ; أَيْ: فَلَا مَزِيدَ لَكَ عَلَى قَدْرِ إِدْرَاكِ الْكُهَّانِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْبَزَّارِ أَيْضًا، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ) :. وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ السُّورَةَ وَأَرَادَ بَعْضَهَا. وَحَكَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ أَنَّ السِّرَّ فِي امْتِحَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ بِحَبْلِ الدُّخَانِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، فَأَرَادَ التَّعْرِيضَ لِابْنِ صَائِدٍ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 الدَّجَّالُ. عَلَى أَنَّ الْخَطَّابِيَّ اسْتَبْعَدَ تَفْسِيرَ الدُّخِّ بِالدُّخَانِ، وَصَوَّبَ أَنَّهُ خَبَّأَ لَهُ الدُّخَّ، وَهُوَ نَبْتٌ يَكُونُ مِنَ الْبَسَاتِينِ. وَسَبَبُ اسْتِبْعَادِهِ أَنَّ الدُّخَانَ لَا يُحَطُّ فِي الْيَدِ وَلَا الْكُمِّ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَّأَ لَهُ اسْمَ الدُّخَانِ فِي ضَمِيرِهِ. (وَالْحَاكِمُ) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (فَسَّرَهُ) أَيْضًا فِي عُلُومِهِ (الْجِمَاعَ) ; أَيْ: بِالْجِمَاعِ، (وَهْوَ) كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ (وَاهِمُ) فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ يَغِيظُ الْعَالِمَ وَالْمُؤْمِنَ. وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: سَأَلْتُ الْأُدَبَاءَ عَنْ تَفْسِيرِ الدُّخِّ، فَقَالَ: كَذَا يَدُخُّهَا وَيَزُخُّهَا - يَعْنِي بِالزَّاءِ بَدَلَ الدَّالِ - بِمَعْنًى وَاحِدٍ، الدُّخُّ وَالزَّخُّ. قَالَ: وَالْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ صَائِدٍ - خَذَلَهُ اللَّهُ فِيهِ - مَفْهُومٌ، ثُمَّ أَنْشَدَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مَزَخَّهْ يَزُخُّهَا ثُمَّ يَنَامُ الْفَخَّهْ فَالْمَزَخَّةُ بِالْفَتْحِ: هِيَ الْمَرْأَةُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَمَعْنَى يَزُخُّهَا: يُجَامِعُهَا. وَالْفَخَّةُ: أَنْ يَنَامَ فَيَنْفُخَ فِي نَوْمِهِ. وَيُؤَيِّدُ وَهْمَ الْحَاكِمِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ الْمَاضِيَةُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَرَادَ ابْنُ صَائِدٍ أَنْ يَقُولَ: الدُّخَانُ. فَلَمْ يَسْتَطِعْ. بَلْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ فِي كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الدُّخَّ بِالدَّالِ هُوَ الْجِمَاعُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِالزَّاءِ فَقَطْ. وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْحَاكِمِ وَالْخَطَّابِيِّ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَنِّ صَدَرَ مِنْهُ خِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فَكَيْفَ مِمَّنْ دُونَهُمَا عَلَى أَنَّ مِنَ الْغَرِيبِ مَا لَا يُعْرَفُ تَفْسِيرُهُ إِلَّا مِنَ الْحَدِيثِ؟ ! . وَقَدْ جَمَعَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ، فَقَالَ فِي (هَرَدَ) : قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْقَوْلُ عِنْدَنَا فِي الْحَدِيثِ: (بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ) يُرْوَى بِالدَّالِ وَالذَّالِ ; أَيْ: بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ نَسْمَعْهُ إِلَّا فِيهِ. وَكَذَلِكَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا فِي الْحَدِيثِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ مِنْهَا حَدِيثَ: ( «مَنِ اطَّلَعَ فِي صِيرِ بَابٍ فَفَقَيْتَ عَيْنَهُ فَهِيَ هَدَرٌ» ) ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ وَمَعَهُ صِيرٌ فَذَاقَ مِنْهُ) . فَالْأَوَّلُ: الشَّقُّ، وَالثَّانِي: الصَّحْنَاةُ. وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الْمَفْقُودَ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: الْجَدَفُ. يَعْنِي بِالْجِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ الْمُحَرَّكَتَيْنِ بَعْدَهُمَا فَاءٌ، وَهُوَ نَبَاتٌ بِالْيَمَنِ لَا يَحْتَاجُ آكِلُهُ شُرْبَ مَاءٍ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَنَازَعَ ابْنَ الْأَنْبَارِيِّ صَاحِبُهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ النَّهْرَوَانِيُّ فِي جَعْلِهِ الصِّيرَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي الْحَدِيثِ، بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَكَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ فِي الْغَرِيبِ تَفْسِيرُ الرَّاوِي، وَلَا يُتَخَرَّجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ بِأَحَدِ مُحْتَمِلَيْهِ ; لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مَدْلُولِ اللُّغَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَخِطَابُ الشَّارِعِ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَةِ مَا أَمْكَنَ مُوَافَقَتُهُ لَهَا. وَوَرَاءَ الْإِحَاطَةِ بِمَا تَقَدَّمَ الِاشْتِغَالُ بِفِقْهِ الْحَدِيثِ وَالتَّنْقِيبِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ، وَلَمْ يُطِلْ فِي ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ، وَذَكَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 شُرُوطَهُ لِمَنْ بَلَغَ أَهْلِيَّتَهُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُجْتَهِدِينَ الْأَعْلَامِ ; كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْحَمَّادَيْنِ وَالسُّفْيَانَيْنِ وَابْنِ رَاهَوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَخَلْقٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ ; (كَالتَّمْهِيدِ) وَ (الِاسْتِذْكَارِ) ، كِلَاهُمَا لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَ (مَعَالِمِ السُّنَنِ) وَ (إِعْلَامِ الْحَدِيثِ عَلَى الْبُخَارِيِّ) ، كِلَاهُمَا لِلْخَطَّابِيِّ. وَ (شَرْحِ السُّنَّةِ) لِلْبَغَوِيِّ مُفِيدٍ فِي بَابِهِ. وَ (الْمُحَلَّى) لِابْنِ حَزْمٍ، كِتَابٍ جَلِيلٍ، لَوْلَا مَا فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَانْفِرَادِهِ بِظَوَاهِرَ خَالَفَ فِيهَا جَمَاهِيرَ الْأُمَّةِ. وَ (شَرْحِ الْإِلْمَامِ) وَ (الْعُمْدَةِ) ، كِلَاهُمَا لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى مَا وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَنِعْمَ الْكِتَابُ (شَرْحُ مُسْلِمٍ) لِأَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ، وَكَذَا أَصْلُهُ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَ (شَرْحُ الْبُخَارِيِّ) لِشَيْخِنَا، وَ (الْأَحْوَذِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ) لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَالْقِطْعَةُ الَّتِي لِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ عَلَيْهِ أَيْضًا، ثُمَّ الذَّيْلُ عَلَيْهَا لِلْمُصَنِّفِ، وَانْتَهَى فِيهِ إِلَى النِّصْفِ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي إِكْمَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ إِيرَادُهُ مِنَ الشُّرُوحِ الَّتِي عَلَى الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَكُلُّهَا مَشْرُوحَةٌ. وَمِنْ غَرِيبِهَا (شَرْحُ النَّسَائِيِّ) لِلْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ النَّغْمَةِ، سَمَّاهُ (الْإِمْعَانَ فِي شَرْحِ مُصَنَّفِ النَّسَائِيِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) . وَمِنْ مُتَأَخِّرِهَا شَرْحُ ابْنِ مَاجَهْ لِلدَّمِيرِيِّ. وَلِأَبِي زُرْعَةَ ابْنِ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ قِطْعَةٌ حَافِلَةٌ، بَلْ وَشَرَحَهُ بِتَمَامِهِ الشِّهَابُ ابْنُ رَسْلَانَ. وَكَذَا عَلَى ابْنِ مَاجَهْ لِمُغَلْطَايْ قِطْعَةٌ. وَعَلَى (الْمُوَطَّأِ) وَ (مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ) وَ (الْمَصَابِيحِ) وَ (الْمَشَارِقِ) وَ (الْمِشْكَاةِ) وَ (الشِّهَابِ) وَ (الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ) وَ (تَقْرِيبِ الْأَحْكَامِ) لِخَلْقٍ، وَمَا لَا يَنْحَصِرُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَأْرِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ قَالَ: تَفَكَّرْتُ لَيْلَةً فِي رِجَالٍ، فَأُرِيتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ رَجُلًا يُنَادِي يَا أَبَا زُرْعَةَ: فَهْمُ مَتْنِ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْمَوْتَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 تَتِمَّةٌ: مِمَّا قَدْ يَتَّضِحُ بِهِ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ مَعْرِفَةُ سَبَبِهِ ; وَلِذَا اعْتَنَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ، ثُمَّ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، عُرِفَ بِكُوتَاهْ، بِإِفْرَادِهِ بِالتَّصْنِيفِ. وَقَالَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي ثَانِيهِمَا: إِنَّهُ حَسَنٌ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْعُكْبَرِيُّ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ التَّاسِعِ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ: ( «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) مِنْ (شَرْحِ الْعُمْدَةِ) : شَرَحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي تَصْنِيفِهِ، كَمَا صَنَّفَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَوَقَفْتُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مُشْعِرٍ بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِنَوْعٍ شَيْخُنَا تَبَعًا لِشَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ، وَعِنْدَهُ فِي مَحَاسِنِهِ مِنْ أَمْثِلَتِهِ الْكَثِيرُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: ( «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ) . فَالْجُمْهُورُ رَوَوْهُ كَذَلِكَ فَقَطْ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ سَبَبُهُ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ عَبْدًا، فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَخَاصَمَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدِ اسْتَغَلَّ غُلَامِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ) . وَأَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالتَّقَيُّدُ بِالسَّبَبِ هُنَا أَوْلَى، وَإِنْ أَخَذَ بِعُمُومِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ. [الْمُسَلْسَلُ] [مَعْنَى الْمُسَلْسَلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَأَمْثِلَتِهِ] (الْمُسَلْسَلُ) 764 - مُسَلْسَلُ الْحَدِيثِ مَا تَوَارَدَا ... فِيهِ الرُّوَاةُ وَاحِدًا فَوَاحِدَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 765 - حَالًا لَهُمْ أَوْ وَصْفًا اوْ وَصْفَ سَنَدْ كَقَوْلِ كُلِّهِمْ سَمِعْتُ فَاتَّحَدْ ... 766 - وَقَسْمُهُ إِلَى ثَمَانٍ مُثُلُ وَقَلَّمَا يَسْلَمُ ضَعْفًا يَحْصُلُ ... 767 - وَمِنْهُ ذُو نَقْصٍ بِقَطْعِ السِّلْسِلَهْ كَأَوَّلِيَّةٍ وَبَعْضٌ وَصَلَهْ [مَعْنَى الْمُسَلْسَلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَأَمْثِلَتِهِ] (الْمُسَلْسَلُ) وَهُوَ لُغَةً: اتِّصَالُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَمِنْهُ سِلْسِلَةُ الْحَدِيدِ. وَ (مُسَلْسَلُ الْحَدِيثِ) ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْإِسْنَادِ، (مَا تَوَارَدَا فِيهِ الرُّوَاةُ) لَهُ كُلُّهُمْ (وَاحِدًا فَوَاحِدَا حَالًا) ; أَيْ: عَلَى حَالٍ (لَهُمْ) ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلِيًّا لَهُمْ ; كَحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( «إِنِّي أُحِبُّكَ، فَقُلْ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ» ) الْحَدِيثَ. فَقَدْ تَسَلْسَلَ لَنَا بِقَوْلِ كُلٍّ مِنْ رُوَاتِهِ: (أَنَا أُحِبُّكَ فَقُلْ) . وَنَحْوُهُ الْمُسَلْسَلُ بِقَوْلِ: (رَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا، كَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا؟ !) . وَبِقَوْلِ: (قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ فُلَانٍ) . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِعْلِيًّا ; كَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ) الْحَدِيثَ» . فَقَدْ تَسَلْسَلَ لَنَا بِتَشْبِيكِ كُلٍّ مِنْ رُوَاتِهِ بِيَدِ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ. وَنَحْوُهُ الْمُسَلْسَلُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ، وَبِالْأَخْذِ بِيَدِ الطَّالِبِ، وَبِالْعَدِّ فِي يَدِهِ لِلْخَمْسَةِ ; الَّتِي مِنْهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّرَحُّمُ، وَالدُّعَاءُ، وَبِالْمُصَافَحَةِ، وَبِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَبِالِاتِّكَاءِ وَبِالْإِطْعَامِ وَالسَّقْيِ وَبِالضِّيَافَةِ بِالْأَسْوَدَيْنِ ; التَّمْرِ وَالْمَاءِ. وَقَدْ يَجِيئَانِ مَعًا، أَعْنِي الْقَوْلِيَّ وَالْفِعْلِيَّ، فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ ; كَحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 ( «لَا يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ» ) . قَالَ: «وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ: (آمَنْتُ بِالْقَدَرِ) » . فَقَدْ تَسَلْسَلَ لَنَا بِقَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاتِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ مَعَ قَوْلِهِ: آمَنْتُ. . . . . إِلَى آخِرِهِ. (أَوْ وَصْفًا) ; أَيْ: أَوْ كَانَ التَّوَارُدُ مِنَ الرُّوَاةِ عَلَى وَصْفٍ لَهُمْ، وَهُوَ أَيْضًا فِعْلِيٌّ ; كَالْمُسَلْسَلِ بِالْقُرَّاءِ وَبِالْحُفَّاظِ وَبِالْفُقَهَاءِ وَبِالنُّحَاةِ وَبِالصُّوفِيَّةِ وَبِالدِّمَشْقِيِّينَ وَبِالْمِصْرِيِّينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; كَالْمُسَلْسَلِ بِالْمُحَمَّدِينَ، أَوْ بِمَنْ أَوَّلُ اسْمِهِ عَيْنٌ، أَوْ بِمَنْ فِي اسْمِهِ أَوِ اسْمِ أَبِيهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُضَافُ إِلَيْهِ نُونٌ، أَوْ بِرِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ، أَوْ بِالْمُعَمَّرِينَ، أَوْ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ. وَقَوْلِيٌّ ; كَالْمُسَلْسَلِ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الصَّفِّ وَنَحْوِهِ، لَكِنَّهُ فِي الْوَصْفِيِّ غَالِبًا مُقَارِبٌ، بَلْ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي الْحَالِيِّ. (اوْ وَصْفَ سَنَدْ) ; أَيْ: أَوْ كَانَ التَّوَارُدُ مِنَ الرُّوَاةِ عَلَى وَصْفِ سَنَدٍ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّحَمُّلِ ; وَذَلِكَ إِمَّا فِي صِيَغِ الْأَدَاءِ، (كَقَوْلِ كُلِّهِمْ) ; أَيْ: الرُّوَاةِ، (سَمِعْتُ) فُلَانًا، أَوْ ثَنَا، أَوْ أَنَا، أَوْ شَهِدْتُ عَلَى فُلَانٍ. (فَاتَّحَدْ) مَا وَقَعَ مِنْهَا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ، فَصَارَ بِذَلِكَ مُسَلْسَلًا. بَلْ جَعَلَ الْحَاكِمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُ الْأَدَاءِ مِنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ دَالَّةً عَلَى الِاتِّصَالِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ثَنَا. وَلَكِنِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالتَّوَارُدِ فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَنَحْوُهُ الْحَلِفُ ; كَقَوْلِهِ: (أَنَا وَاللَّهِ فُلَانٌ) ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوْ مَا يَلْتَحِقُ بِهِ ; كَقَوْلِهِ: (صُمَّتْ أُذُنَايَ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ) . وَإِمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَنِ الرِّوَايَةِ أَوْ بِمَكَانِهِ أَوْ بِتَارِيخِهَا، فَالْأَوَّلُ: كَالْمُسَلْسَلِ بِالتَّحَمُّلِ يَوْمَ الْعِيدِ، أَوْ بِقَصِّ الْأَظْفَارِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ. وَالثَّانِي: كَالْمُسَلْسَلِ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِي الْمُلْتَزَمِ. وَالثَّالِثُ: كَكَوْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 الرَّاوِي آخِرَ مَنْ يَرْوِي عَنْ شَيْخِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعٍ لِلتَّسَلْسُلِ كَثِيرَةٍ لَا تَنْحَصِرُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ. [تَقْسِيمُ الْمُسَلْسَلِ وَفَائِدَتُهُ] [تَقْسِيمُ الْمُسَلْسَلِ وَفَائِدَتُهُ] (وَقَسْمُهُ) ; أَيْ: تَقْسِيمُهُ، (إِلَى ثَمَانٍ) كَمَا فَعَلَ الْحَاكِمُ، إِنَّمَا هِيَ (مُثُلُ) لَهُ، وَلَمْ يَرِدِ الْحَصْرُ فِيهَا كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِعَدَمِ حَصْرِهِ فِيهَا ; إِذْ لَيْسَ فِي عِبَارَةِ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ ; لِقَوْلِ الْحَاكِمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا: فَهَذِهِ أَنْوَاعُ التَّسَلْسُلِ مِنَ الْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا تَدْلِيسٌ، وَآثَارُ السَّمَاعِ فِيهَا بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ ظَاهِرٌ. وَهَذَا - كَمَا تَرَى - مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَهُوَ غَايَةُ الْمَقْصِدِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ; إِذْ فَائِدَتُهُ الْبُعْدُ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالِانْقِطَاعِ. وَخَيْرُهَا - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ فَضِيلَةِ التَّسَلْسُلِ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا وَنَحْوَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَاشْتِمَالُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - عَلَى مَزِيدِ الضَّبْطِ مِنَ الرُّوَاةِ. (وَ) لَكِنْ قَدِ انْعَكَسَ الْأَمْرُ فَـ (قَلَّمَا يَسْلَمُ) التَّسَلْسُلُ (ضَعْفًا) ; أَيْ: مِنْ ضَعْفٍ، (يَحْصُلُ) فِي وَصْفِ التَّسَلْسُلِ، لَا فِي أَصْلِ الْمَتْنِ ; كَمُسَلْسَلِ الْمُشَابَكَةِ، فَمَتْنُهُ صَحِيحٌ، وَالطَّرِيقُ بِالتَّسَلْسُلِ فِيهَا مَقَالٌ، وَأَصَحُّهَا مُطْلَقًا الْمُسَلْسَلُ بِسُورَةِ الصَّفِّ، ثُمَّ بِالْأَوَّلِيَّةِ. [كُتُبُ الْمُسَلْسَلَاتِ] [كُتُبُ الْمُسَلْسَلَاتِ] وَقَدْ أَفْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْمُسَلْسَلَاتِ. وَوَقَعَ لِي مِنْ ذَلِكَ بِالسَّمَاعِ جُمْلَةٌ ; الْمُسَلْسَلَاتِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ شَاذَانَ، وَلِأَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 مُحَمَّدٍ الْإِبْرَاهِيمِيِّ، وَلِأَبِي مُحَمَّدٍ الدِّيبَاجِيِّ، وَلِأَبِي سَعْدٍ السَّمَّانِ، وَلِأَبِي سَعْدِ بْنِ أَبِي عَصْرُونٍ، وَلِأَبِي الْقَاسِمِ التَّيْمِيِّ، وَلِلْغَرَّافِيِّ، وَلِأَبِي الْمَكَارِمِ ابْنِ مُسْدِي، وَلِأَبِي سَعِيدٍ الْعَلَائِيِّ، وَلِابْنِ الْمُفَضَّلِ فِي الْأَرْبَعِينَ لَهُ. وَبِالْإِجَازَةِ جُمْلَةٌ أَيْضًا ; كَأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ اللَّبَّانِ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ. وَاعْتَنَى كُلٌّ مِنْ حَافِظِ دِمَشْقَ الشَّمْسِ ابْنِ نَاصِرِ الدِّينِ، وَحَافِظِ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِإِفْرَادِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْهَا فِي تَخْرِيجٍ. وَكَذَا أَفْرَدْتُ مِائَةً مِنْهَا بِالتَّصْنِيفِ مُبَيِّنًا شَأْنَهَا، وَرَوَيْتُ ذَلِكَ إِمْلَاءً وَتَحْدِيثًا بِالْقَاهِرَةِ وَمَكَّةَ. [ذِكْرُ الْمُسَلْسَلَاتِ النَّاقِصَةَ] [ذِكْرُ الْمُسَلْسَلَاتِ النَّاقِصَةَ] ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ التَّسَلْسُلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ إِلَى الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. ( وَمِنْهُ ذُو نَقْصٍ بِقَطْعِ السِّلْسِلَهْ ) ; إِمَّا فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ. وَلَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 أَمْثِلَةٌ (كَـ) حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: ( «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» ) الْمُسَلْسَلِ بِـ (أَوَّلِيَّةٍ) وَقَعَتْ لِجُلِّ رُوَاتِهِ ; حَيْثُ كَانَ أَوَّلَ حَدِيثٍ سَمِعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ شَيْخِهِ ; فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ التَّسَلْسُلُ فِيهِ إِلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ خَاصَّةً، وَانْقَطَعَ فِيمَنْ فَوْقَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. (وَبَعْضٌ) مِنَ الرُّوَاةِ قَدْ (وَصَلَهْ) إِلَى آخِرِهِ ; إِمَّا غَلَطًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ ; حَيْثُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي بَعْضٍ تَخَارِيجِهِ مُتَّصِلَ السِّلْسِلَةِ، وَقَالَ عَقِبَهُ: إِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ. وَأَبُو طَاهِرٍ، يَعْنِي: ابْنُ مَحْمِشٍ، رَاوِيهِ فَمَنْ فَوْقَهُ لَا مَطْعَنَ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَحْسَبُ أَوْ أَبُتُّ أَنَّ هَذَا سَهْوٌ أَوْ خَطَأٌ صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَنْ قِلَّةِ مَعْرِفَةٍ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، فَلَيْسَ يَصِحُّ تَسَلْسُلُهُ بِكَمَالِهِ مِنْ وَجْهٍ مَا. وَإِمَّا كَذِبًا ; كَأَبِي الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ الشَّيْبَانِيِّ ; حَيْثُ وَصَلَهُ، وَتَوَاقَحَ فَأَرَّخَ سَمَاعَ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَهُ مِنْ عَمْرٍو فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. وَافْتَضَحَ ; فَإِنَّ عَمْرًا مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، وَأَرَّخَ سَمَاعَ عَمْرٍو أَيْضًا لَهُ مِنْ أَبِي قَابُوسَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا عَلَى أَشْيَاءَ انْفَرَدَ بِهَا فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ، بِحَيْثُ جَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ بِاتِّهَامِهِ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 شَيْخِهِ فِيهِ بِدُونِ مَا أَتَى بِهِ، بَلْ كَالنَّاسِ. وَقَدْ سَلْسَلَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الصَّحَابِيِّ فَقَطْ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّابِعِيِّ فَقَطْ. وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَقَعَ عَمْدًا مِنْ رَاوِيهِ أَوْ سَهْوًا، كَمَا بَيَّنْتُهُ وَاضِحًا فِي أَوَّلِ الْمُتَبَائِنَاتِ الَّتِي أَفْرَدْتُهَا مِنْ حَدِيثِي. وَقَدْ جَمَعَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي جُزْءٍ سَمِعْنَاهُ، سَمَّاهُ (الْعَذْبَ السَّلْسَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَلْسَلِ) ، وَكَذَا التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ، وَمِنْ قَبْلِهِمَا ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْصُورُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فَآخَرُونَ. وَمِنَ الْمُسَلْسَلَاتِ النَّاقِصَةِ مَا اجْتَمَعَ فِي رِوَايَتِهِ ثَمَانِيَةٌ فِي نَسَقٍ اسْمُهُمْ زَيْدٌ، أَوْ سَبْعَةٌ أَوْ سِتَّةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، أَوْ سِتُّ فَوَاطِمَ، أَوْ خَمْسَةٌ كُنْيَتُهُمْ أَبُو الْقَاسِمِ، أَوْ أَبُو بَكْرٍ، أَوِ اسْمُهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَوْ أَحْمَدُ أَوْ خَلَفٌ، أَوْ صَحَابَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ اسْمُهُمْ إِبْرَاهِيمُ أَوْ إِسْمَاعِيلُ أَوْ عَلِيٌّ أَوْ سُلَيْمَانُ، أَوْ صَحَابِيَّاتٌ، أَوْ إِخْوَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، أَوْ حَنَفِيُّونَ، أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، أَوِ اسْمُهُمْ أَبَانٌ أَوْ أُسَامَةُ أَوْ إِسْحَاقُ أَوْ خَالِدٌ أَوْ عِمْرَانُ أَوْ خَوْلَانُ، أَوِ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، أَوِ اسْمُهُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَوْ عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ، كَأَنْ يَتَوَالَى فِي رُوَاتِهِ بَصْرِيُّونَ أَوْ مَدَنِيُّونَ أَوْ مَغْرِبِيُّونَ أَوْ مَالِكِيُّونَ أَوْ حَنْبَلِيُّونَ أَوْ ظَاهِرِيُّونَ أَوْ عِدَّةُ نِسْوَةٍ ; كَمَا وَقَعَ فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ غَيْطَةَ ابْنَةِ عَمْرٍو أُمِّ عَمْرٍو الْمَجَاشِيَّةِ، عَنْ عَمَّتِهَا أُمِّ الْحَسَنِ، عَنْ جَدَّتِهَا، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدَ ابْنَةَ عُتْبَةَ قَالَتْ: ( «يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَايِعْنِي» ) الْحَدِيثَ. أَوِ الْمَزْكُومُ، عَنِ الزَّمِنِ، عَنِ الْمَفْلُوجِ، عَنِ الْأَثْرَمِ، عَنِ الْأَحْدَبِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الضَّرِيرِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 عَنِ الْأَعْوَرِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ الْأَعْمَى ; كَمَا أَوْرَدَهُ بِخُصُوصِهِ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ وَالْكَتَّانِيُّ. وَفِي نُزْهَةِ الْحُفَّاظِ لِأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ وَأَشْبَاهِهِ الْكَثِيرُ، وَلَكِنَّ جُلَّ الْغَرَضِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَسَلْسَلَ مِنَ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ. وَقَدِ اعْتَنَى التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ لَهُ بِإِيرَادِ مَا لَعَلَّهُ يَقَعُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُتَرْجِمِينَ بِأَسَانِيدِهِ، وَرُبَّمَا يَتَوَالَى عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةُ فُقَهَاءَ. وَكَذَا الصَّلَاحُ الْأَقْفَهْسِيُّ فِي مُطْلَقِ الْفُقَهَاءِ، وَأَتَى مِنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مُؤْذِنٌ بِكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ وَسَعَةِ رِوَايَتِهِ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَهْذِيبِهِ وَتَبْيِيضِهِ. بَلْ أَفْرَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُسَلْسَلَاتِ النَّاقِصَةِ مَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالِ سَنَدِهِ فِي فِقْهٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ أَوْ غَيْرِهَا بِنَوْعٍ سِوَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ تَوَالِي عِدَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ مِمَّا أَفْرَدَهُ أَيْضًا بِنَوْعَيْنِ، كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي الْأَقْرَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَأَنَّ مِنْ فَائِدَتِهِ مَعْرِفَةَ مُخْرَجِ الْحَدِيثِ، وَتَعْيِينَ مَا لَعَلَّهُ يَقَعُ مِنَ الرُّوَاةِ مُهْمَلًا، وَفِي الْفُقَهَاءِ بِخُصُوصِهِمِ التَّرْجِيحُ لَهُ عَلَى مَا عَارَضَهُ مَنْ لَيْسَ سَنَدُهُ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ. وَشَيْخُنَا مِنْهُ مَا تَوَالَى فِيهِ رَاوِيَانِ فَأَكْثَرُ، اشْتَرَكُوا فِي التَّسْمِيَةِ، وَمَثَّلَ لَهُ بِعِمْرَانَ ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: الْقَصِيرُ، وَالثَّانِي: أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَالثَّالِثُ: ابْنُ حُصَيْنٍ الصَّحَابِيُّ. وَبِسُلَيْمَانَ ثَلَاثَةً أَيْضًا: الْأَوَّلُ: ابْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالثَّانِي: ابْنُ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ، وَالثَّالِثُ: ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ. وَفَائِدَتُهُ: دَفْعُ تَوَهُّمِ الْغَلَطِ حَيْثُ وَقَعَ إِهْمَالُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ مُتَّفِقَيِ الِاسْمِ وَاسِطَةٌ ; كَالْبُخَارِيِّ وَعَبْدٍ، رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ مُسْلِمٍ، وَعَنْ كُلٍّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 مِنْهُمَا مُسْلِمٌ، فَشَيْخُهُمَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَرَاهِيدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَالرَّاوِي عَنْهُمَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ صَاحِبُ (الصَّحِيحِ) . وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ رَوَى عَنْ هِشَامٍ، وَعَنْهُ هِشَامٌ، فَالْأَوَّلُ ابْنُ عُرْوَةَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَالتِّلْمِيذُ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ. وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامٍ، وَعَنْهُ هِشَامٌ، فَالْأَعْلَى ابْنُ عُرْوَةَ، وَالْأَدْنَى ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ. وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَالْأَعْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَالْأَدْنَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ فِي أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ. وَفَائِدَتُهُ رَفْعُ اللَّبْسِ عَمَّنْ يُظَنُّ أَنَّ فِيهِ تَكْرَارًا أَوِ انْقِلَابًا. وَلِذَا أَفْرَدَهُ شَيْخُنَا، بَلْ أَفْرَدَ مَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ ; كَالْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: وَقَدْ يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ فُرُوعِ الْمُسَلْسَلِ. قَالَ: وَقَدْ يَتَّفِقُ الِاسْمُ وَاسْمُ الْأَبِ فَصَاعِدًا مَعَ الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ ; كَأَبِي الْيُمْنِ الْكِنْدِيِّ، هُوَ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ. قَالَ: وَيَتَأَكَّدُ الِاشْتِبَاهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْحَفِيدِ وَالْجَدِّ لَهُ رِوَايَةٌ ; كَنَصْرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ صَهْبَانَ الْجَهْضَمِيِّ شَيْخِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ، فَجَدُّهُ أَيْضًا مِمَّنْ أَخْرَجَ لَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَيُقَالُ لِلْحَفِيدِ: الْجَهْضَمِيُّ الصَّغِيرُ، وَلَهُ هُوَ: الْجَهْضَمِيُّ الْكَبِيرُ. وَمِنْهُ عَثَّامُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَثَّامِ بْنِ عَلِيٍّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُؤْتَلِفِ. قَالَ: وَقَدْ يَقَعُ - أَيْ: الِاتِّفَاقُ - بَيْنَ الرَّاوِي وَشَيْخِهِ فِي الِاسْمِ أَوِ اسْمِ الْأَبِ، يَعْنِي وَكَذَا الْجَدُّ وَجَدُّ الْأَبِ ; كَأَبِي الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيِّ الْعَطَّارِ، مَشْهُورٍ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ الْحَدَّادِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، فَاتَّفَقَا فِي ذَلِكَ، وَافْتَرَقَا فِي الْكُنْيَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَلَدِ وَالصِّنَاعَةِ. فَاجْتَمَعَ مِمَّا أَوْرَدْتُهُ عِدَّةُ أَنْوَاعٍ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَا أَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 [النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ] [ تعريفه ] ُ 768 - وَالنَّسْخُ رَفْعُ الشَّارِعِ السَّابِقَ مِنْ ... أَحْكَامِهِ بِلَاحِقٍ وَهْوَ قَمِنْ 769 - أَنْ يُعْتَنَى بِهِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ ... ذَا عِلْمِهِ ثُمَّ بِنَصِّ الشَّارِعِ 770 - أَوْ صَاحِبٍ أَوْ عُرِفَ التَّارِيخُ أَوْ ... أُجْمِعَ تَرْكًا بَانَ نَسْخُ وَرَأَوْا 771 - دِلَالَةَ الْإِجْمَاعِ لَا النَّسْخَ بِهِ ... كَالْقَتْلِ فِي رَابِعَةٍ بِشُرْبِهِ [مَعْنَى النَّسْخِ لُغَةً] (النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ) مِنَ الْحَدِيثِ. (وَالنَّسْخُ) لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى الْإِزَالَةِ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ ; إِذَا أَزَالَتْهُ وَخَلَّفَتْهُ. وَعَلَى النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، يُقَالُ: نَسَخْتُ مَا فِي الْخَلِيَّةِ مِنَ الْعَسَلِ وَالنَّحْلِ إِلَى أُخْرَى. وَمِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ، وَالْمُنَاسَخَاتُ فِي الْمَوَارِيثِ، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمَالِ مِنْ وَارِثٍ إِلَى آخَرَ. وَلَا يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْمَحْوُ وَالِانْعِدَامُ، فَلَيْسَ نَسْخُ الْكِتَابِ إِعْدَامًا لِلْمَنْسُوخِ مِنْهُ. وَبِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَسَّمَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ لِخَمْسَةِ مَعَانٍ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ: أَزَالَتْهُ وَخَلَّفَتْهُ، وَالرِّيحُ الْأَثَرَ: أَذْهَبَتْهُ، وَالْفَرِيضَةُ الْفَرِيضَةَ: نَقَلَتْ حُكْمَهَا إِلَيْهَا، وَاللَّيْلُ النَّهَارَ: بَيَّنَ انْتِهَاءَهُ وَعَقَبَهُ، وَنَسَخْتُ الْكِتَابَ: صَوَّرْتُ مِثْلَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَنْسَبُ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْإِزَالَةِ وَالتَّحْوِيلِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ، مَجَازٌ فِي الثَّانِي. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ شَارِحُ الْمُخْتَصَرِ: وَالْأَخِيرَانِ الْأَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، فَالْمَجَازُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ. عَلَى أَنَّ الْعَضُدَ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ عِلْمِيٌّ. [تَعْرِيفُ النَّسْخِ اصْطِلَاحًا وَمُحْتَرَزَاتِهِ] وَاصْطِلَاحًا: هُوَ (رَفْعُ الشَّارِعِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 (السَّابِقَ مِنْ أَحْكَامِهِ بِـ) حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ (لَاحِقٍ) . هَكَذَا عَرَّفَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَدٌّ وَقَعَ لَنَا سَالِمٌ مِنَ اعْتِرَاضَاتٍ وَرَدَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ قَطْعُ تَعَلُّقِهِ بِالْمُكَلَّفِينَ ; إِذِ الْحُكْمُ قَدِيمٌ لَا يَرْتَفِعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ يُقَالُ: تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ. وَإِذَا جُنَّ يُقَالُ: ارْتَفَعَ عَنْهُ الْحُكْمُ ; أَيْ: تَعَلَّقَهُ. وَلِذَا صَرَّحَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: رَفْعُ تَعَلُّقِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ. ثُمَّ لِكَوْنِ الرَّفْعِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ، خَرَجَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحُكْمِ، مُبَيِّنٌ لِغَايَتِهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ التَّقْيِيدِ بِالسَّابِقِ. وَاحْتَرَزَ بِالشَّارِعِ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: خَبَرُ كَذَا نَاسِخٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا وَإِنْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِالْخَبَرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِخْبَارِهِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَبْلُ. وَبِالْحُكْمِ السَّابِقِ مِنْ أَحْكَامِهِ عَنْ رَفْعِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى نَسْخًا. وَلِلِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْحُكْمَ بِالشَّرْعِيِّ، وَقَالَ: لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي مُسْتَنَدُهَا الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِنَّمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 ارْتَفَعَتْ بِإِيجَابِ الْعِبَادَاتِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَيْدَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَبِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ عَنِ الرَّفْعِ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَالْجُنُونِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّائِمَ وَمَا بَعْدَهُ رُفِعَ الْحُكْمُ عَنْهُمْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «رُفِعَ الْقَلَمُ» ) ; فَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا كَمَا أَفَادَهُ الْأَصْبَهَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ عَنْهُمْ ; لِلْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ التَّعَقُّلُ، وَقَدِ اشْتَرَكُوا فِي عَدَمِهِ. وَالْحَدِيثُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّافِعَ هُوَ النَّوْمُ وَمَا مَعَهُ، لَا لَفْظُ الْخَبَرِ. وَبِلَاحِقٍ عَنِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّكُمْ لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» ) . فَالصَّوْمُ مَثَلًا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ بِنَسْخٍ مُتَأَخِّرٍ، وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ بِهِ مُؤَقَّتٌ، وَقَدِ انْقَضَى وَقْتُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ الْمَأْمُورِ بِإِفْطَارِهِ. وَوَرَاءَ هَذَا أَنَّ الْبُلْقِينِيَّ زَادَ فِي الْحَدِّ كَوْنَ الْحُكْمِ الَّذِي رُفِعَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ; لِيُخْرِجَ بِهِ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى خَمْسٍ ; فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى نَسْخًا ; لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ، أَيْ: تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا ; لِعَدَمِ إِبْلَاغِهِ لَهُمْ. فَأَمَّا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمُحْتَمَلٌ، إِلَّا أَنْ يُلْمَحَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بَعْدَ الْبَيَانِ، وَهِيَ غَيْرُ مَسْأَلَةِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ ; لِوُجُودِ التَّعَلُّقِ بِخِلَافِ الْبَيَانِ. وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ قَبْلَ مَا حَمَلْتَهُ عَلَيْهِ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: الْحُكْمُ ; إِذِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ تَعَلُّقًا مَعْنَوِيًّا قَبْلَ وُجُودِهِ تَنْجِيزِيًّا بَعْدُ، حَسْبَمَا أُخِذَ فِي حَدِّ الْحُكْمِ ; حَيْثُ قِيلَ فِيهِ: خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّنْجِيزِ. فَحِينَئِذٍ لَفْظُ الْحُكْمِ يُغْنِي عَنْهُ. عَلَى أَنَّ فِي تَعْرِيفِ شَيْخِنَا السَّابِقِ مَا يُخْرِجُهُ. وَاخْتَارَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي تَعْرِيفِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 أَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَقْرَبُ الْحُدُودِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكَوْنُهُ رَافِعًا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَيَانٌ لِانْتِهَاءِ أَمَدِ الْحُكْمِ، وَالنَّاسِخُ مَا دَلَّ عَلَى الرَّفْعِ الْمَذْكُورِ، وَتَسْمِيَتُهُ نَاسِخًا مَجَازٌ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي هَذَا النَّوْعِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْعِلْمِ، بَلْ هُوَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ أَشْبَهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ: مَعْرِفَةُ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا، بَلْ هِيَ مِنْ وَظِيفَةِ الْفَقِيهِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَنْبِطُ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَوَظِيفَتُهُ أَنْ يَنْقُلَ وَيَرْوِيَ مَا سَمِعَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنْ تَصَدَّى لِمَا رَوَاهُ فَزِيَادَةٌ فِي الْفَضْلِ، وَكَمَالٌ فِي الِاخْتِيَارِ. انْتَهَى. [ فضله ] [يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَذَا الْفَنِّ] (وَهْوَ) ; أَيْ: هَذَا النَّوْعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، (قَمِنْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ ; أَيْ: حَقِيقٌ، (أَنْ يُعْتَنَى بِهِ) ; لِأَنَّهُ عِلْمٌ جَلِيلٌ ذُو غَوْرٍ وَغُمُوضٍ، دَارَتْ فِيهِ الرُّءُوسُ، وَتَاهَتْ فِي الْكَشْفِ عَنْ مَكْمُونِهِ النُّفُوسُ، بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهُ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ مَدَارُ حَدِيثِ الْحِجَازِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِيهِ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ فِي الْفُتْيَا. وَقَالَ: إِنَّهُ أَعْيَا الْفُقَهَاءَ وَأَعْجَزَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا نَاسِخَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَنْسُوخِهِ. (وَكَانَ) إِمَامُنَا (الشَّافِعِيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ذَا) ; أَيْ: صَاحِبَ، (عِلْمِهِ) ، لَهُ فِيهِ الْيَدُ الطُّولَى وَالسَّابِقَةُ الْأُولَى، فَخَاضَ تَيَّارَهُ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُ، وَاسْتَنْبَطَ مَعِينَهُ وَاسْتَخْرَجَ دَفِينَهُ، وَاسْتَفْتَحَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بَابَهُ وَرَتَّبَ أَبْوَابَهُ ; وَلِذَا نَسَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ابْنَ وَارَةَ ; حَيْثُ قَدِمَ مِصْرَ وَلَمْ يَكْتُبْ كُتُبَهُ، إِلَى التَّفْرِيطِ، وَقَالَ: مَا عَرَفْنَا الْمُجْمَلَ مِنَ الْمُفَسَّرِ، وَلَا نَاسِخَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَنْسُوخِهِ ; حَتَّى جَالَسْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ نَرَ لَهُ فِيهِ تَصْنِيفًا مُسْتَقِلًّا، إِنَّمَا يُوجَدُ فِي غُضُونِ الْأَبْوَابِ مِنْ كُتُبِهِ مُفَرَّقًا، وَكَذَا فِي الرِّسَالَةِ لَهُ مِنْهُ أَحَادِيثُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ كَانَ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُتَفَرِّقًا فِي كُتُبِ شُرُوحِ السُّنَّةِ، إِلَى أَنْ جَرَّدَ لَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مُصَنَّفَاتٍ ; كَأَبِي دَاوُدَ (صَاحِبِ السُّنَنِ) ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ، وَكَابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي مُصَنَّفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الرَّدِّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ دَعْوَى النَّسْخِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ. ثَانِيهِمَا: فِي تَجْرِيدِ الْأَحَادِيثِ الْمَنْسُوخَةِ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ جِدًّا. وَكَالْحَازِمِيِّ فِي مُصَنَّفٍ حَافِلٍ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مَعَ ثَانِي تَصْنِيفَيِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِعُلُوٍّ. وَكَالْبُرْهَانِ الْجَعْبَرِيِّ. وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ; لِتَوَقُّفِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ. وَقَدْ مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْهُ، بِقَاصٍّ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. وَنَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ خَلَّطَ. وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَحْظَ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 مَعْرِفَةِ الْآثَارِ إِلَّا بِآثَارٍ، وَلَمْ يُحَصِّلْ مِنْ طَرِيقِ الْأَخْبَارِ إِلَّا بِالْإِخْبَارِ أَنَّ الْخَطْبَ فِيهِ جَلَلٌ يَسِيرٌ، وَالْمَحْصُولَ مِنْهُ قَلِيلٌ غَيْرُ كَثِيرٍ، فَعَانَاهُ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِهِ فِي صِنَاعَتِهِ وَضَبْطِهِ، فَأَدْخَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; لِخَفَاءِ مَعْنَى الْمَنْسُوخِ وَشَرْطِهِ. [دَلَائِلُ النَّسْخِ] [دَلَائِلُ النَّسْخِ] (ثُمَّ بِنَصِّ الشَّارِعِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِبْطَالِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَتَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ: هَذَا نَاسِخٌ، أَوْ فِي مَا مَعْنَاهُ ; كَقَوْلِهِ: ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ; فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» ) . وَكَرَجْمِ مَاعِزٍ دُونَ جَلْدِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ( «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» ) . كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ. (أَوْ) بِنَصِّ (صَاحِبٍ) مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَرِيحًا ; كَقَوْلِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( «كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» ) . أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا شُرِعَ بِمَكَّةَ، وَالْآخَرَ بِالْمَدِينَةِ. (أَوْ) بِغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ كَأَنْ (عُرِفَ التَّارِيخُ) لِلْخَبَرَيْنِ الْمُتَعَذَّرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَتَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. (أَوْ أُجْمِعَ تَرْكًا) ; أَيْ: عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَضْمُونِ الْحَدِيثِ. (بَانَ) ; أَيْ: ظَهَرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ نَصُّ الشَّارِعِ أَوِ الصَّحَابِيِّ أَوِ الْعِلْمُ بِالتَّارِيخِ أَوِ الْإِجْمَاعُ، (نَسْخٌ) لِلْحُكْمِ الْآخَرِ، وَأَصْرَحُهَا أَوَّلُهَا. وَأَمَّا ثَالِثُهَا فَمَحَلُّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 فِي غَيْرِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ. أَمَّا إِذَا فِي أَحَدِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ فَفِيهِ خِلَافٌ لِلْأُصُولِيِّينَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُهُمْ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَحُجَّةُ الطَّرَفِ الْآخَرِ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُعِينٌ لِلنَّاسِخِ، لَا نَاسِخَ ; لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ، وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ بِدُونِهِ. وَكَذَا مَحَلُّ ثَانِيهِمَا فِيمَا إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ النَّقْلَ، أَوْ قَالَ: الْقَوْلُ بِكَذَا مَنْسُوخٌ، أَوْ: هَذَا هُوَ النَّاسِخُ. وَكَذَا إِنْ قَالَ: هَذَا نَاسِخٌ، وَذَكَرَ دَلِيلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا نَاسِخٌ، أَوْ: هَذَا نَسْخٌ لِهَذَا، لَمْ يُرْجَعْ إِلَيْهِ عِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَالَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ نَشَأَ عَنْ ظَنِّ مَا لَيْسَ بِنَسْخٍ نَسْخًا، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَسْبَابِ النَّسْخِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَلَكِنْ قَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِأَهْلِ الْحَدِيثِ الْقَوْلَ بِمَعْرِفَةِ النَّسْخِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، بَلْ وَأَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا ; حَيْثُ ذَكَرَ الْأَدِلَّةَ الْأَرْبَعَةَ، فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الْمَدْخَلِ) مِنْ طَرِيقِهِ: وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ بِوَقْتٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، أَوْ بِقَوْلِ مَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ الْعَامَّةِ، يَعْنِي الْإِجْمَاعَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَوْضَحُ وَأَشْهَرُ ; إِذِ النَّسْخُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَالصَّحَابَةُ أَوْرَعُ مِنْ أَنْ يَحْكُمَ أَحَدُهُمْ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِنَسْخٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ تَأَخُّرَ النَّاسِخِ عَنْهُ. لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ الْمُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ مُعَارِضًا لِمُتَقَدِّمٍ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ; لِتَجْوِيزِ سَمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ بَعْدَ الْمُتَأَخِّرِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ أَقْدَمَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ الْمَذْكُورِ أَوْ مِثْلِهِ فَأَرْسَلَهُ، لَكِنْ إِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وَفِيهِ نَظَرٌ لِلتَّجْوِيزِ السَّابِقِ قَرِيبًا. وَحِينَئِذٍ فَطُرُقُ كَوْنِ حَدِيثِ شَدَّادٍ الْمَرْفُوعِ: ( «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ) مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ) ; لِكَوْنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا صَحِبَهُ مُحْرِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَشَدَّادٌ قُيِّدَ حَدِيثُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ; إِمَّا بِزَمَنِ الْفَتْحِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَكَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَإِمَّا بِرَمَضَانَ كَمَا فِي أُخْرَى، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَحَجَّةُ الْوَدَاعِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَضَانُ. احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَحَمَّلَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِسْنَادُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا مُشْتَبِهٌ. قَالَ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْثَلُهُمَا إِسْنَادًا. (وَ) أَمَّا رَابِعُهَا فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا. بَلِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُحَدِّثِيِنَ وَالْأُصُولِيِّينَ إِنَّمَا (رَأَوْا دِلَالَةَ الْإِجْمَاعِ) عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ غَيْرِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُودِ خَبَرٍ مَعَهُ يَقَعُ بِهِ النَّسْخُ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَسَائِرِ الْمُطْلِقِينَ، (لَا) أَنَّهُمْ رَأَوْا (النَّسْخَ بِهِ) ; لِأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ بِمُجَرَّدِهِ ; إِذْ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ، وَبَعْدَهُ ارْتَفَعَ النَّسْخُ، وَكَذَا لَا يُنْسَخُ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ; كَنَسْخِ رَمَضَانَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ، وَ (كَـ) حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَجَابِرٍ، وَجَرِيرٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ أَوْسٍ، وَالشَّرِيدِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَغُطَيْفٍ، وَأَبِي الرَّمْدَاءِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَرْفُوعًا فِي (الْقَتْلِ) لِشَارِبِ الْخَمْرِ (فِي) مَرَّةٍ (رَابِعَةٍ) صَدَرَتْ مِنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 بَعْدَ شُرْبِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ قَبْلَهَا، أَوْ فِي مَرَّةٍ خَامِسَةٍ، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (بِـ) سَبَبِ (شُرْبِهِ) ; حَيْثُ حَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ جَامِعِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ: قَتْلُ الشَّارِبِ فِي الْخَامِسَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يُخْدَشُ الْإِجْمَاعُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: (ايتُونِي بِرَجُلٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، يَعْنِي ثَلَاثًا، ثُمَّ سَكِرَ فَإِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ فَأَنَا كَذَّابٌ) . وَلَا بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ رَأَيْتُ أَحَدًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَاسْتَطَعْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ لَقَتَلْتُهُ) . وَلَا بِحِكَايَةِ الْقَتْلِ فِي الرَّابِعَةِ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِ أَهْلِ الظَّاهِرِ ; مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، قَالُوا بِهِ ; لِانْقِطَاعِ أَوَّلِهِمَا ; فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَمْرٍو كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ، وَلِلِينِ سَنَدِ ثَانِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِمَا حُجَّةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيمَا عَدَاهُمَا ; لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ. وَأَمَّا خِلَافُ الظَّاهِرِيَّةِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ. وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ رَدَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْقَتْلِ مُتَمَسَّكٌ، حَتَّى وَلَوْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ لَكَانَ الْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَعُدَّ ذَلِكَ مِنْ نُدْرَةِ الْخِلَافِ. وَلِوُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْجُمْلَةِ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَرْكِ الْقَتْلِ فِي الرَّابِعَةِ، وَاسْتَثْنَى شَاذًّا مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ، بَلْ وُقُوعُ الْخِلَافِ قَدِيمًا لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَلَفَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي (فَتْحِ الْبَارِي) عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 مَنْ بَعْدُ ; لِنَقْلِ غَيْرِهِ الْقَوْلَ بِهِ، وَأَشَارَ لِمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ أَيْضًا النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: الْقَوْلُ بِالْقَتْلِ قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ مَنْسُوخٌ ; إِمَّا بِحَدِيثِ: ( «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» ) . وَإِمَّا بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ. انْتَهَى. هَذَا كُلُّهُ مَعَ وُرُودِ نَاسِخٍ مِنْ حَدِيثَيْ جَابِرٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، بِحَيْثُ عَمِلَ بِمَضْمُونِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ الْإِطَالَةِ بِهَا. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَمِنْ مِثْلِ مَعْرِفَةِ النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِوَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ وَرَجُلٍ آخَرَ: ( «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ لَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ أَنْ تَحِلُّوا مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ إِلَّا النِّسَاءَ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا الْبَيْتَ صِرْتُمْ حُرُمًا كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ» ) . وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، لَكِنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ. فَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الصَّيْرَفِيَّ شَارِحَ (الرِّسَالَةِ) لَمْ يَجْعَلِ الْإِجْمَاعَ دَلِيلًا عَلَى تَعَيُّنِ الْمَصِيرِ لِلنَّسْخِ، بَلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّسْخِ وَالْغَلَطِ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ (الدَّلَائِلِ) : فَإِنْ أُجْمِعَ عَلَى إِبْطَالِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ - يَعْنِي مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ - وَالْآخَرُ ثَابِتٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ. [التَّصْحِيفُ] [الْكُتُبُ الْمُهِمَّةُ فِي هَذَا الْفَنِّ] التَّصْحِيفُ 772 - وَالْعَسْكَرِي وَالدَّارَقُطْنِي صَنَّفَا ... فِيمَا لَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ صَحَّفَا 773 - فِي الْمَتْنِ كَالصُّولِيِّ سِتًّا غَيَّرْ ... شَيْئًا أَوِ الْإِسْنَادِ كَابْنِ النُّدَّرْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 774 - صَحَّفَ فِيهِ الطَّبَرِيُّ قَالَا بَذَّرَ بِالْبَاءِ وَنَقْطٍ ذَالَا ... 775 - وَأَطْلَقُوا التَّصْحِيفَ فِيمَا ظَهَرَا كَقَوْلِهِ: احْتَجَمْ مَكَانَ احْتَجَرَا ... 776 - وَوَاصِلٌ بِعَاصِمٍ وَالْأَحْدَبُ بِأَحْوَلٍ تَصْحِيفَ سَمْعٍ لَقَّبُوا ... 777 - وَصَحَّفَ الْمَعْنَى إِمَامُ عَنَزَهْ ظَنَّ الْقَبِيلَ بِحَدِيثِ الْعَنَزَهْ ... 778 - وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ سُكُونَ نُونِهِ فَقَالَ: شَاةٌ خَابَ فِي ظُنُونِهْ (التَّصْحِيفُ) الْوَاقِعُ فِي الْمُشْتَبِهِ مِنَ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. وَلَوْ جُعِلَ بَعْدَ الْغَرِيبِ أَوْ بَعْدَ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ لَكَانَ حَسَنًا، وَهُوَ لِكَوْنِهِ تَحْوِيلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ إِلَى غَيْرِهَا فَنٌّ جَلِيلٌ مُهِمٌّ، إِنَّمَا يَنْهَضُ بِأَعْبَائِهِ مِنَ الْحُفَّاظِ الْحُذَّاقُ. [الْكُتُبُ الْمُهِمَّةُ فِي هَذَا الْفَنِّ] (وَ) الْحَافِظَانِ أَبُو أَحْمَدَ (الْعَسْكَرِي) وَأَبُو الْحَسَنِ (الدَّارَقُطْنِي صَنَّفَا فِيمَا لَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ صَحَّفَا ) . وَعَلَى ثَانِيهِمَا اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُفِيدٌ. وَأَمَّا أَوَّلُهُمَا فَلَهُ فِي التَّصْحِيفِ عِدَّةُ كُتُبٍ، أَكْبُرُهَا لِسَائِرِ مَا يَقَعُ فِيهِ التَّصْحِيفُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى الْحَدِيثِ. ثُمَّ أَفْرَدَ مِنْهُ كِتَابًا يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ الْأَدَبِ، وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ التَّصْحِيفُ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَأَسْمَاءِ الشُّعَرَاءِ وَالْفُرْسَانِ، وَأَخْبَارِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهَا وَوَقَائِعِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَنْسَابِهَا. ثُمَّ آخَرَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَدِّثِينَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِمَا وَقَعَ فِيهِ التَّصْحِيفُ فَقَطْ، بَلْ ذَكَرَ فِيهِ مَا هُوَ مُعَرَّضٌ لِذَلِكَ. وَفِي بَعْضِ الْمَحْكِيِّ مِمَّا وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مَا يَكَادُ اللَّبِيبُ يَضْحَكُ مِنْهُ. [غَرَضُ تَصْنِيفِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْإِفْصَاحُ] وَكَذَا صَنَّفَ فِيهِ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، لَا لِمُجَرَّدِ الطَّعْنِ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي وَاحِدٍ مِمَّنْ صَحَّفَ، وَلَا لِلْوَضْعِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْثِرُ مَلُومًا، وَالْمُشْتَهِرُ بِهِ بَيْنَ النُّقَّادِ مَذْمُومًا، بَلْ إِيثَارًا لِبَيَانِ الصَّوَابِ، وَإِشْهَارًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 لَهُ بَيْنَ الطُّلَّابِ ; وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ عَيَّبَ جَمَاعَةً مِنَ الطَّلَبَةِ بْتَصْحِيفِهِمْ فِي الْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ، وَدَوَّنَ عَنْهُمْ مَا صَحَّفُوهُ، قَالَ: وَأَنَا أَذْكُرُ بَعْضَ ذَلِكَ ; لِيَكُونَ دَاعِيًا لِمَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ إِلَى التَّحَفُّظِ مِنْ مِثْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا سِيَّمَا وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا يَقْرَؤُهُ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْهُ. وَقَوْلُ الْعَسْكَرِيِّ: إِنَّهُ قَدْ عُيِّبَ بِالتَّصْحِيفِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفُضِحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ، وَسُمُّوا الصُّحُفِيَّةَ، وَنَهْيُ الْعُلَمَاءِ عَنِ الْحَمْلِ عَنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَكَرِّرِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَمَا يَسْلَمُ مِنْ زَلَّةٍ وَخَطَأٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ غَلَطَاتُهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَمَنْ يَعْرَى عَنِ الْخَطَأِ وَالتَّصْحِيفِ؟ ! وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ غَالِبًا لِلْآخِذِ مِنْ بُطُونِ الدَّفَاتِرِ وَالصُّحُفِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ يُوقِفُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ حَضَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَجَنُّبِ الْأَخْذِ كَذَلِكَ كَمَا سَلَفَ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. وَيُعْلَمُ أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الصَّحِيفَةِ ; لِأَنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَذَلِكَ وَيُغَيِّرُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ صَحَّفَ ; أَيْ: قَدْ رَوَى عَنِ الصُّحُفِ، فَهُوَ مُصَحِّفٌ، وَمَصْدَرُهُ التَّصْحِيفُ. [أَمْثِلَةُ التَّصْحِيفِ فِي الْمَتْنِ] [أَمْثِلَةُ التَّصْحِيفِ فِي الْمَتْنِ] ثُمَّ إِنَّهُ يَقَعُ تَارَةً إِمَّا (فِي الْمَتْنِ كَـ) ـمَا اتَّفَقَ لِأَبِي بَكْرٍ (الصُّوِلِيِّ) ; حَيْثُ أَمْلَى فِي (الْجَامِعِ) حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا» ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ (غَيَّرْ) ذَلِكَ (شَيْئًا) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ. وَلِوَكِيعٍ فِي حَدِيثِ: ( «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ يُشَقِّقُونَ الْخُطَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 تَشْقِيقَ الشِّعْرِ» ) ; حَيْثُ غَيَّرَهُ بِالْحَطَبِ بِالْمُهْمَلَةِ، وَالشَّعَرِ بِفَتْحَتَيْنِ. وَيُحْكَى أَنَّ ابْنَ شَاهِينَ صَحَّفَهُ كَذَلِكَ أَيْضًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ بَعْضُ الْمَلَّاحِينَ: يَا قَوْمُ، كَيْفَ نَعْمَلُ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ؟ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حِرْفَتِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ. وَالْحَدِيثُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَ (الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ) لِلطَّبَرَانِيِّ وَ (الْجَامِعِ) لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْقُرَشِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِهِ. وَلِمُشْكَدَانَةَ حَيْثُ جَعَلَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ قَصْعِ الرُّطَبَةِ بِالطَّاءِ بَدَلَ الصَّادِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ أَرْبَابُ الضِّيَاعِ وَالنَّاسِ يَضِجُّونَ، فَفَتَّشَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى صِحَّتِهِ. وَلِأَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيِّ الَّذِي اتَّفَقَ السِّتَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَيُلَقَّبُ الزَّمَنَ ; حَيْثُ جَعَلَ (أَوْ شَاةٌ تَنْعَرُ) بِالنُّونِ بَدَلَ الْيَاءِ. وَلِأَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، حَيْثُ جَعَلَ قَرَّ الدَّجَاجَةِ بِالزَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ الْمَضْمُومَةِ بَدَلَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ. وَلِغُنْدَرٍ حَيْثُ جَعَلَ أُبَيًّا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: (رُمِيَ أُبَيٌّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ) أَبِي بِالْإِضَافَةِ. وَأَبُو جَابِرٍ كَانَ اسْتُشْهِدَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أُحُدٍ. وَلِشُعْبَةَ حَيْثُ جَعَلَ ذَرَّةً بِالْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ دُرَةً بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وَالتَّخْفِيفِ. وَلِمُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ السُّلَمِيِّ الْمُلَقَّبِ مَحْمِشًا حَيْثُ جَعَلَ: ( «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ) الْمُصَغَّرَيْنِ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمِيرٍ، مَا فَعَلَ الْبَعِيرُ؟ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، فَصَحَّفَ فِيهِمَا مَعًا. حَتَّى إِنَّا رُوِّينَا فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَاكِمِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَفِظَ اللَّهُ أَخَانَا صَالِحَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحَافِظَ الْمُلَقَّبَ جَزَرَةَ ; فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُبْسِطُنَا غَائِبًا وَحَاضِرًا، كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الذُّهْلِيُّ - يَعْنِي بِنَيْسَابُورَ - أَجْلَسُوا شَيْخًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: مَحْمِشٌ. فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ أَمْلَى أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ) ، فَقَالَهَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ وَبِسُكُونِ الرَّاءِ. عَلَى أَنَّ جَزَرَةَ إِنَّمَا لُقِّبَ بِهَا ; لِكَوْنِهِ صَحَّفَ حَدِيثَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ كَانَ يَرْقِي وَلَدَهُ بِخَرَزَةٍ ; بِمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ مَفْتُوحَةٌ، بِجَزَرَةٍ، بِجِيمٍ ثُمَّ بِمُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَلْقَابِ. وَاتَّفَقَ لِبَعْضِ مُدَرِّسِي النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ أَوَّلَ يَوْمِ إِجْلَاسِهِ أَوْرَدَ حَدِيثَ: ( «صَلَاةٌ فِي أَثَرِ صَلَاةٍ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» ) ، فَقَالَ: كَنَارٍ فِي غَلَسٍ. فَلَمْ يَفْهَمِ الْحَاضِرُونَ مَا يَقُولُ، حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ تَصَحَّفَ عَلَى الْمُدَرِّسِ. وَلِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ ; حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ لَهُ: بَابُ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ، وَسَاقَ حَدِيثَ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: (السِّبَاعُ حَرَامٌ) فَصَحَّفَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الشِّيَاعُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، وَهُوَ الصَّوْتُ عِنْدَ الْجِمَاعِ. وَلِعَبْدِ الْقُدُّوسِ ; حَيْثُ جَعَلَ نَهْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا، بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنَ الرُّوحِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ مِنْ غَرَضًا. فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ قَالَ: يَعْنِي كُوَّةً فِي حَائِطٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الرَّوْحُ. وَلِرَجُلٍ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُضَحَّى بِالصَّبِيِّ؟ فَقَالَ لَهُ: (وَمَا عَلَيْكَ لَوْ قُلْتَ: بِالظَّبْيِ؟ قَالَ: إِنَّهَا لُغَةٌ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ، فَانْقَطَعَ الْعِتَابُ) . وَلِغُلَامٍ حَيْثُ سَأَلَ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَكَ عَمْرٌو عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْخُبْزِ. فَتَبَسَّمَ حَمَّادٌ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِذَا نَهَى عَنِ الْخُبْزِ فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَعِيشُ النَّاسِ؟ ! وَإِنَّمَا هُوَ الْخَبَرُ. وَلِبَعْضِ الْمُغَفَّلِينَ كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ ; حَيْثُ صَحَّفَ قَوْلَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَ عَنْ رَجُلٍ. [أَمْثِلَةُ التَّصْحِيفِ فِي الْإِسْنَادِ] [أَمْثِلَةُ التَّصْحِيفِ فِي الْإِسْنَادِ] (أَوْ) فِي (الْإِسْنَادِ كَابْنِ النُّدَّرْ) بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَاسْمُهُ عُتْبَةُ ; حَيْثُ (صَحَّفَ فِيهِ) الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ (الطَّبَرِيُّ) ، وَ (قَالَا: بَذَّرَ بِالْبَاءِ) الْمُوَحَّدَةِ (وَنَقْطٍ) لِلْمُهْمَلَةِ (ذَالًا) . وَكَالزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ رَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ، قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: خَرِيتٌ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زُهَيْرٍ التُّسْتَرِيُّ: لَا خَرِيتَ وَلَا دَرَيْتَ. وَكَجَوَّابٍ التَّيْمِيِّ بِالْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، قَرَأَهُ حَبِيبٌ كَاتِبُ مَالِكٍ: جِرَابٌ ; بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَكَابْنِ سِيرِينَ بِالْمُهْمَلَةِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ. وَكَأَبِي حُرَّةٍ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ بِالْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ. وَكَالْعَوَّامِ بْنِ مُرَاجِمٍ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ بِالزَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ. فِي أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ لِكُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي التَّصَانِيفِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَكَذَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 جَامِعِ الْخَطِيبِ مِنْهَا نُبْذَةٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْمُلْحَقَةِ بِالْإِسْنَادِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي غَسَّانَ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيِّ، قَالَ السَّعْدِيُّ: كَانَ حَسَنِيًّا - يَعْنِي: الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ - عَلَى عِبَادَتِهِ وَسُوءِ مَذْهَبِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَأَبُو غَسَّانَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ لَكِنْ لَمْ يُرِدِ السَّعْدِيُّ نَسَبَهُ إِلَى الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّهُ خَشَبِيٌّ بِمُعْجَمَتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ، يُرِيدُ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ. قَالَ: وَشَرْحُ ذَلِكَ يَطُولُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْأَنْسَابِ فِي تَرْجَمَةِ الْجَرِيرِيِّ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، نِسْبَةً إِلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ. قَالَ: وَكَانَ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيُّ. ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ جَرِيرِيُّ الْمَذْهَبِ وَلَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يَنْسُبْهُ ابْنُ حِبَّانَ لِمَذْهَبِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ لِمَذْهَبِ حَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ رَاءٍ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إِلَّا مُخَالَفَةُ التَّارِيخِ ; فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَ فِي طَبَقَةِ شُيُوخِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ مَوْلِدِ ابْنِ جَرِيرٍ بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ هُوَ فِي عِدَادِ شُيُوخِهِ؟ ! وَيَنْقَسِمُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى تَصْحِيفِ بَصَرٍ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَسَمْعٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ. وَكَذَا إِلَى تَصْحِيفِ لَفْظٍ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَمَعْنًى، وَهُوَ قَلِيلٌ. [أَسْبَابُ التَّصْحِيفِ فِي الْحَدِيثِ] [أَسْبَابُ التَّصْحِيفِ فِي الْحَدِيثِ] (وَ) كَذَا (أَطْلَقُوا) ; أَيْ: مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْفَنِّ، (التَّصْحِيفَ فِيمَا ظَهَرَا) تَحْقِيقُ حُرُوفِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِبَاهٍ فِي الْكِتَابَةِ بِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ فِيهِ خَلَلٌ مِنَ النَّاسِخِ أَوِ الرَّاوِي بِنَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ إِبْدَالِ حَرْفٍ بِآخَرَ. فَالْأَوَّلُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 كَحَدِيثِ جَابِرٍ: «دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَقَالَ: (صَلَّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟) » الْحَدِيثَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: (قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟) ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنَ النَّاسِخِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ. وَكَمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ الْمُفَسِّرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] ، قَالَ: مِصْرَ. فَقَدِ اسْتَعْظَمَ هَذَا أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَاسْتَقْبَحَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي تَفْسِيرِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: مَصِيرَهُمْ. وَالثَّانِي: كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ يَوْمَ الْعِيدِ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَقِفُ عَلَى رِجْلَيْهِ، فَيَسْتَقْبِلُ النَّاسَ وَهُمْ جُلُوسٌ» ) الْحَدِيثَ. رَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: عَلَى رَاحِلَتِهِ بَدَلَ رِجْلَيْهِ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، فَلَا رَيْبَ فِي ( «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى» ) . وَالثَّالِثُ: (كَقَوْلِهِ) فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: (احْتَجَمَ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ ; حَيْثُ جَعَلَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي التَّمْيِيزِ لَهُ (مَكَانَ احْتَجَرَا) بِالْمِيمِ بَدَلَ الرَّاءِ ; لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ مِنْ كِتَابٍ بِغَيْرِ سَمَاعٍ، وَأَخْطَأَ فَبَقِيَّتُهُ: (بِخُصٍّ أَوْ حَصِيرِ حُجْرَةً يُصَلِّي فِيهَا) . وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ هَذَا مِثَالًا لِتَصْحِيفِ السَّمْعِ فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. (وَ) كَذَا (وَاصِلٌ) أَبْدَلَ اسْمَهُ (بِعَاصِمٍ) . بَلْ (وَ) أَبْدَلَا (الْأَحْدَبُ) لَقَبُهُ أَيْضًا (بِأَحْوَلٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، لَقَبِ عَاصِمٍ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟) . وَكَذَا خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ ; حَيْثُ أَبْدَلَهُ شُعْبَةُ بِمَالِكِ بْنِ عُرْفُطَةَ. كُلٌّ مِنْهُمَا (تَصْحِيفَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (سَمْعٍ) ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 يَعْنِي فِي الْإِسْنَادِ، (لَقَّبُوا) . فَمِنِ الْمُلَقِّبِينَ بِذَلِكَ لِلْمِثَالِ الْأَوَّلِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَلِلثَّانِي أَحْمَدُ، وَلَيْسَ تَلْقِيبُهُمْ بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ تَلْقِيبِ احْتَجَمَ بِهِ، بَلْ ذَاكَ أَوْلَى ; لِمُشَارَكَتِهِمَا مَعَ الْوَزْنِ فِي الْحُرُوفِ إِلَّا وَاحِدًا، بِخِلَافِهِ فِيهِمَا، فَلَيْسَ إِلَّا الْوَزْنُ ; إِذْ أَكْثَرُ الْحُرُوفِ مُخْتَلِفَةٌ. ثُمَّ إِنَّ جُلَّ التَّصْحِيفِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي اللَّفْظِ، (وَ) قَدْ (صَحَّفَ الْمَعْنَى) فَقَطْ بَعْضُ شُيُوخِ الْخَطَّابِيِّ فِي الْحَدِيثِ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَمَّا رَوَى حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ التَّحْلِيقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا حَلَقْتُ رَأْسِي قَبْلَ الصَّلَاةِ. فُهِمَ مِنْهُ حَلْقُ الرُّءُوسِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْلِيقُ النَّاسِ حِلَقًا. وَبَعْضُهُمْ حَيْثُ سَمِعَ خَطِيبًا يَرْوِي حَدِيثَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ) ، فَبَكَى وَقَالَ: (مَا الَّذِي أَصْنَعُ، وَلَيْسَتْ لِي حِرْفَةٌ سِوَى بَيْعِ الْقَتِّ) ; يَعْنِي الَّذِي يَعْلِفُ الدَّوَابَّ. وَأَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الزَّمَنُ (إِمَامُ عَنَزَهْ) حَيْثُ ( ظَنَّ الْقَبِيلَ بِحَدِيثِ الْعَنَزَهْ ) الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِلَيْهَا، فَقَالَ يَوْمًا: (نَحْنُ قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ، نَحْنُ مِنْ عَنَزَةَ، قَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْنَا) ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. (وَبَعْضُهُمْ) ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَعْرَابِيٌّ صَحَّفَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ مَعًا، (ظَنَّ سُكُونَ نُونِهِ) أَيْ: لَفْظِ الْعَنَزَةِ، وَرَوَاهُ مَعَ هَذَا الظَّنِّ بِالْمَعْنَى (فَقَالَ: شَاةٌ) ، فَأَخْطَأَ وَ (خَابَ فِي ظُنُونِهِ) مِنْ وَجْهَيْنِ ; إِذِ الصَّوَابُ عَنَزَةٌ بِفَتْحِ النُّونِ ; وَهِيَ الْحَرْبَةُ تُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَلِذَلِكَ حِكَايَةٌ حَكَاهَا الْحَاكِمُ عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: كُنْتُ بِعَدَنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 أَبْيَنَ يَوْمَ عِيدٍ، فَشُدَّتْ عَنْزَةٌ - يَعْنِي: شَاةٌ - بِقُرْبِ الْمِحْرَابِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ سَأَلْتُهُمْ بَعْدَ فَرَاغِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ: مَا هِيَ الْعَنْزَةُ الْمَشْدُودَةُ فِي الْمِحْرَابِ؟ قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي يَوْمَ الْعِيدِ إِلَى عَنْزَةٍ، فَقُلْتُ: (يَا هَؤُلَاءِ، صَحَّفْتُمْ، مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ هَذَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْعَنَزَةِ: الْحَرْبَةِ) . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْمِزِّيُّ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ، وَمِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ أَدَاءً لِلْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِيمَا يُعْلَمُ مِثْلُهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَيْضًا، وَكَانَ يَقُولُ إِذَا تَغَرَّبَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِرِوَايَةٍ مِمَّا يَذْكُرُهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُ: هَذَا مِنَ التَّصْحِيفِ الَّذِي لَمْ يَقِفْ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الصُّحُفِ وَالْأَخْذِ مِنْهَا. [مَعْنَى التَّصْحِيفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيفِ] [مَعْنَى التَّصْحِيفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيفِ] وَفِي بَعْضِ مَا أُدْرِجَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْأَمْثِلَةِ تَجَوُّزٌ بِالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِهِ ; فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: وَإِنْ كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ بِتَغْيِيرِ حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْخَطِّ فِي السِّيَاقِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّقْطِ فَالْمُصَحَّفُ، أَوْ إِلَى الشَّكْلِ فَالْمُحَرَّفُ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَتَسْمِيَةُ بَعْضِ ذَلِكَ - يَعْنِي الْمَذْكُورَ - تَصْحِيفًا مَجَازٌ. قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنَ التَّصْحِيفِ الْمَنْقُولِ عَنِ الْأَكَابِرِ لَهُمْ فِيهِ أَعْذَارٌ لَمْ يَنْقُلْهَا نَاقِلُوهَا. قَالَ غَيْرُهُ: وَمِنَ الْغَرِيبِ وُقُوعُ التَّصْحِيفِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَكَابِرِ، لَا سِيَّمَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ; فَإِنَّهُ يُنْقَلُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءُ عَجِيبَةٌ مَعَ تَصْنِيفِهِ تَفْسِيرًا، وَأُودِعَ فِي الْكُتُبِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جُمْلَةٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ. فَائِدَةٌ: كَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى ابْنِ حَزْمٍ عَامِلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ أَنْ أَحْصِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُخَنَّثِينَ. فَصَحَّفَ الْكَاتِبُ، فَخَصَاهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَكَفَّ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَضَبْطِهِ. وَضِدُّ هَذَا أَنَّ الْفَرَزْدَقَ كَانَ مَنِ اسْتَجَارَ بِقَبْرِ أَبِيهِ قَامَ فِي مُسَاعَدَتِهِ حَدَّ الْقِيَامِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ تَمِيمَ بْنَ زَيْدٍ الْقَيْنِيَّ خَرَجَ فِي جَيْشٍ مِنْ قِبَلِ الْحَجَّاجِ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى فَرَزْدَقٍ فَقَالَتْ: إِنِّي اسْتَجَرْتُ بِقَبْرِ غَالِبٍ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى تَمِيمٍ فِي ابْنِي خُنَيْسٍ أَنْ يَقْتُلَهُ. فَكَتَبَ الْفَرَزْدَقُ أَبْيَاتًا إِلَى تَمِيمٍ يَسْأَلُهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْرِ تَمِيمٌ أَهْوَ حُبَيْسٌ أَوْ خُنَيْسٌ، فَأَطْلَقَ كُلَّ مَنْ فِي عَسْكَرِهِ مِمَّنْ تَسَمَّى بِهِمَا. [مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ] [ المصنفات فيه ] مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ 779 - وَالْمَتْنُ إِنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرُ ... وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا تَنَافُرُ 780 - كَمَتْنِ " لَا يُورِدْ " مَعْ " لَا عَدْوَى " فَالنَّفْيُ لِلطَّبْعِ وَفِرَّ عَدْوَا ... 781 - أَوْ لَا فَإِنْ نَسْخٌ بَدَا فَاعْمَلْ بِهِ أَوْ لَا فَرَجِّحْ وَاعْمَلَنْ بِالْأَشْبَهِ [مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ وَالْمُصَنَّفَاتُ فِيهِ] (مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ) ; أَيْ: اخْتِلَافُ مَدْلُولِهِ ظَاهِرًا، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأَنْوَاعِ، تُضْطَرُّ إِلَيْهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ لِلْقِيَامِ بِهِ مَنْ كَانَ إِمَامًا جَامِعًا لِصِنَاعَتَيِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، غَائِصًا عَلَى الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ ; وَلِذَا كَانَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فِيهِ كَلَامًا، لَكِنَّهُ تَوَسَّعَ حَيْثُ قَالَ: (لَا أَعْرِفُ حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَأْتِنِي بِهِ لِأُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا) . وَانْتُقِدَ عَلَيْهِ بَعْضُ صَنِيعِهِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 تَوَسُّعِهِ، فَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ لَوْ فَتَحْنَا بَابَ التَّأْوِيلَاتِ لَانْدَفَعَتْ أَكْثَرُ الْعِلَلِ. وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ، وَلَهُ فِيهِ مُجَلَّدٌ جَلِيلٌ مِنْ جُمْلَةِ كُتُبِ (الْأُمِّ) ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ اسْتِيعَابَهُ، بَلْ هُوَ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ لِهَذَا النَّوْعِ، يَتَنَبَّهُ بِهِ الْعَارِفُ عَلَى طَرِيقِهِ. وَكَذَا صَنَّفَ فِيهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَتَى فِيهِ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ، وَقَصُرَ بَاعُهُ فِي أَشْيَاءَ قَصَّرَ فِيهَا، وَقَدْ قَرَأْتُهُمَا. وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ (مُشْكِلِ الْآثَارِ) ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ، وَلَكِنَّهُ قَابِلٌ لِلِاخْتِصَارِ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّرْتِيبِ وَالتَّهْذِيبِ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، هَذَا مَعَ قَوْلِ الْبَيْهَقِيِّ: إِنَّهُ بَيَّنَ فِي كَلَامِهِ أَنَّ عِلْمَ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُنْ مِنْ صِنَاعَتِهِ، إِنَّمَا أَخَذَ الْكَلِمَةَ بَعْدَ الْكَلِمَةِ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يُحْكِمْهَا. وَمِمَّنْ صَنَّفَ فِيهِ أَيْضًا أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافِ وَرَقَةٍ. وَكَانَ الْأَنْسَبُ عَدَمَ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَكُلُّ نَاسِخٍ مَنْسُوخٍ مُخْتَلِفٌ، وَلَا عَكْسَ. [أَمْثِلَتُهُ] [مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ وَأَمْثِلَتُهُ] (وَ) جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّا نَقُولُ: (الْمَتْنُ) الصَّالِحُ لِلْحُجَّةِ (إِنْ نَافَاهُ) بِحَسَبِ الظَّاهِرِ (مَتْنٌ آخَرُ) مِثْلُهُ، (وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ) بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 صَحِيحٍ زَالَ بِهِ التَّعَارُضُ، (فَلَا تَنَافُرُ) بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ، بَلْ يُصَارُ إِلَيْهِمَا وَيُعْمَلُ بِهِمَا مَعًا. وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ، (كَمَتْنِ لَا يُورِدْ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، (مُمْرِضٌ) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَمْرَضَ الرَّجُلُ: إِذَا أَصَابَ مَاشِيَتَهُ مَرَضٌ، (عَلَى مُصِحٍّ) اسْمُ فَاعِلٍ أَيْضًا مِنْ أَصَحَّ: إِذَا أَصَابَتْ مَاشِيَتَهُ عَاهَةٌ ثُمَّ ذَهَبَتْ عَنْهَا وَصَحَّتْ. الْمُوَازِي لِمَعْنَى مَتْنِ: ( «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» ) ، (مَعْ) بِالسُّكُونِ مَتْنِ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ) ، وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ، فَظَاهِرُهَا التَّنَافُرُ، وَمُنَافَاةُ الْأَخِيرِ لِلْأَوَّلَيْنِ، حَتَّى بَالَغَ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ وَغَيْرُهُ، وَزَعَمُوا النَّسْخَ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ. (فَالنَّفْيُ) فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا عَدْوَى) (لِلطَّبْعِ) ; أَيْ: لِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْضُ الْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ تُعْدِي بِالطَّبْعِ ; وَلِهَذَا قَالَ: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) ; أَيْ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ بِسَبَبٍ وَغَيْرِ سَبَبٍ. (وَ) الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ فِي قَوْلِهِ: (فِرَّ) ، وَالنَّهْيُ فِي: (لَا يُورِدْ) ; لِخَوْفٍ مِنْ وُجُودِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُمَاسَّةِ الَّذِي قَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ - لَا بِهِ - الدَّاءَ فِي الصَّحِيحِ غَالِبًا، وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَلَّفُ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْمُخَالِطِينَ، بَلْ نُشَاهِدُ مَنْ يَجْتَهِدُ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُمَاسَّةِ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ الْمَرَضِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَالِكِ الَّتِي سَلَكَهَا الْأَئِمَّةُ فِي الْجَمْعِ، أَحَدِهَا - وَعَلَيْهِ نَقْتَصِرُ - مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 وَجَمَاعَةٌ ; كَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالطَّحَاوِيِّ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا فَقَالَ فِي (تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ) : وَالْأَوْلَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَفْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَدْوَى عَلَى عُمُومِهِ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا» ) ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ عَارَضَهُ بِأَنَّ الْبَعِيرَ الْأَجْرَبَ يَكُونُ فِي الْإِبِلِ الصَّحِيحَةِ فَيُخَالِطُهَا فَتَجْرَبُ، حَيْثُ رَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ( «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟» ) ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابْتَدَأَ ذَلِكَ فِي الثَّانِي كَمَا ابْتَدَأَهُ فِي الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ فَمِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ ; لِئَلَّا يَتَّفِقَ لِلشَّخْصِ الَّذِي يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، لَا بِالْعَدْوَى الْمَنْفِيَّةِ، فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ، فَيَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَدْوَى، فَيَقَعُ فِي الْحَرَجِ، فَأَمَرَ بِتَجَنُّبِهِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ. وَعِبَارَةُ أَبِي عُبَيْدٍ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: ( «لَا يُورِدْ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» ) إِثْبَاتُ الْعَدْوَى ; بَلْ لِأَنَّ الصِّحَاحَ لَوْ مَرِضَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى رُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ صَاحِبِهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَدْوَى فَيَفْتَتِنُ وَيَتَشَكَّكُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ. قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاجْتِنَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَخَافَةِ عَلَى الصَّحِيحَةِ مِنْ ذَوَاتِ الْعَاهَةِ. قَالَ: وَهَذَا شَرُّ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ; لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِعُ، وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ عِنْدِي مَا ذَكَرْتُهُ. (أَوْ لَا) ; أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَتْنَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَاسْتَمَرَّ التَّنَافِي عَلَى ظَاهِرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ، (فَإِنْ نَسْخٌ بَدَا) ; أَيْ: ظَهَرَ طَرِيقٌ مِنَ الطُّرُقِ الْمَشْرُوحَةِ فِي بَابِهِ، (فَاعْمَلْ بِهِ) ; أَيْ: بِمُقْتَضَاهُ فِي الِاحْتِجَاجِ وَغَيْرِهِ. (أَوْ لَا) ; أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَبْدُ نَسْخٌ، (فَرَجِّحْ) أَحَدَ الْمَتْنَيْنِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَتْنِ أَوْ بِالْإِسْنَادِ ; كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ أَوْ بِصِفَاتِهِمْ. وَقَدْ سَرَدَ مِنْهَا الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِهِ (النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) خَمْسِينَ مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 إِشَارَتِهِ إِلَى زِيَادَتِهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ كَذَلِكَ ; فَقَدْ زَادَهَا الْأُصُولِيُّونَ فِي بَابٍ مَعْقُودٍ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَيْضًا، أَوْرَدَ جَمِيعَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي النُّكَتِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ، فَلَا نُطِيلُ بِإِيرَادِهَا. (وَاعْمَلَنْ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْمُرَجِّحَاتِ (بِالْأَشْبَهِ) ; أَيْ: بِالْأَرْجَحِ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُجْتَهِدُ مُرَجِّحًا تَوَقَّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِ الْمَتْنَيْنِ حَتَّى يَظْهَرَ. وَقِيلَ: يَهْجُمُ فَيُفْتِي بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يُفْتِي بِهَذَا فِي وَقْتٍ، وَبِهَذَا فِي آخَرَ، كَمَا يَفْعَلُ أَحْمَدُ، وَذَلِكَ غَالِبًا سَبَبُ اخْتِلَافِ رِوَايَاتِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. قَالَ شَيْخُنَا: فَصَارَ مَا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ: الْجَمْعِ إِنْ أَمْكَنَ، فَاعْتِبَارِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَالتَّرْجِيحِ إِنْ تَعَيَّنَ، ثُمَّ التَّوَقُّفِ عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالتَّوَقُّفِ أَوْلَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِالتَّسَاقُطِ ; لِأَنَّ خَفَاءَ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَبَرِ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ لِغَيْرِهِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَتْنِ مَا يُنَافِيهِ، بَلْ سَلِمَ مِنْ مَجِيءِ خَبَرٍ يُضَادُّهُ فَهُوَ الْمُحْكَمُ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. [خَفِيُّ الْإِرْسَالِ وَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ] [الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ] (خَفِيُّ الْإِرْسَالِ وَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ) 782 - وَعَدَمُ السَّمَاعِ وَاللِّقَاءِ ... يَبْدُو بِهِ الْإِرْسَالُ ذُو الْخَفَاءِ 783 - كَذَا زِيَادَةُ اسْمِ رَاوٍ فِي السَّنَدْ ... إِنْ كَانَ حَذْفُهُ بِعَنْ فِيهِ وَرَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 784 - وَإِنْ بِتَحْدِيثٍ أَتَى فَالْحُكْمُ لَهْ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ قَدْ حَمَلَهْ ... 785 - عَنْ كُلِّ إِلَّا حَيْثُ مَا زِيدَ وَقَعْ وَهْمَا وَفِي ذَيْنِ الْخَطِيبُ قَدْ جَمَعْ (خَفِيُّ الْإِرْسَالِ وَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ) : هَذَانِ نَوْعَانِ مُهِمَّانِ عَظِيمَا الْفَائِدَةِ، عَمِيقَا الْمَسْلَكِ، لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِمَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلَّا نُقَّادُ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتُهُ، وَهُمَا مُتَجَاذِبَانِ ; فَلِذَلِكَ قَرَنَ بَيْنَهُمَا، وَفَصَلَ أَوَّلَهُمَا عَنِ الْمُرْسَلِ الظَّاهِرِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِمَانِعٍ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هُنَاكَ. ثُمَّ لِأَجْلِ مَا أَبْدَيْتُهُ مِنَ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَهُمَا لَوْ قَرَنَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ وَالنَّاسِخِ الْمَاضِي شَرْحُهُمَا أَيْضًا لَكَانَ حَسَنًا. [الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ] فَأَمَّا أَوَّلُهُمَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلَ التَّابِعِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمُرْسَلِ الظَّاهِرِ، وَلَا الِانْقِطَاعَ بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ; كَرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. بَلْ هُوَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي تَعْرِيفِهِ حَسْبَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا: الِانْقِطَاعُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ السَّنَدِ بَيْنَ رَاوِيَيْنِ مُتَعَاصِرَيْنِ لَمْ يَلْتَقِيَا، وَكَذَا لَوِ الْتَقَيَا وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا سَمَاعٌ فَهُوَ انْقِطَاعٌ مَخْصُوصٌ، يَنْدَرِجُ فِي تَعْرِيفِهِ مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ فِي الْمُرْسَلِ بِسَقْطٍ خَاصٍّ. وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ الْبُلْقِينِيِّ: إِنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالْإِرْسَالِ هُوَ عَلَى طَرِيقَةٍ سَبَقَتْ فِي نَوْعِ الْمُرْسَلِ. وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ يُبَايِنُ التَّدْلِيسَ ; إِذْ هُوَ كَمَا حُقِّقَ أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ: رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. فَأَمَّا مَنْ عَرَّفَ مَا نَحْنُ فِيهِ: بِرِوَايَةِ الرَّاوِي عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ لَقِيَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا حَقَّقْنَاهُ أَوَّلًا. (وَ) حِينَئِذٍ فَـ (عَدَمُ السَّمَاعِ) مُطْلَقًا لِلرَّاوِي مِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَلَوْ تَلَاقَيَا، (وَ) كَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 عَدَمُ (اللِّقَاءِ) بَيْنَهُمَا ; حَيْثُ عُلِمَ أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ; مِنْ إِخْبَارِ الرَّاوِي عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ ; كَقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ تَذْكُرُ مِنْ أَبِيكَ شَيْئًا: (لَا) . وَنَحْوُهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ، وَقَدْ سَأَلَهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ الرَّاوِي عَنْهُ: أَسَمِعْتَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ أَدْرَكْتُ زَمَنَهُ. أَوْ جَزَمَ إِمَامٌ مُطَّلِعٌ بِكَوْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْ وَجْهٍ يُحْتَجُّ بِهِ أَنَّهُمَا تَلَاقَيَا ; مِثْلُ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا. وَمِثْلُ الْمِزِّيِّ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ، وَكَانَ فِي هَذَا عَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَلْقَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ. (يَبْدُو بِهِ) ; أَيْ: يَظْهَرُ بِكُلٍّ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ وَاللِّقَاءِ (الْإِرْسَالُ ذُو الْخَفَاءِ) ; بِحَيْثُ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ بِذَلِكَ ; كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوقِظِ امْرَأَتَهُ» ) . رَوَاهُ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ. وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبَزَّارُ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. بَلْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ كَوْنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا، فَيَكُونُ مَوْلِدُهُ عَلَى هَذَا قَبْلَ سِتِّينَ بِيَسِيرٍ، وَوَفَاةُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَتْ أَيْضًا قَبْلَ السِّتِّينَ بِيَسِيرٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعٌ وَالْعَدَنِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي لَمْ تُسَمَّ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيْنَ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ، فَظَهَرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مِنَ الْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ، هَذَا مَعَ تَخْرِيجِ أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ لِحَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَا وَاسِطَةٍ، بَلْ وَخَرَّجَ غَيْرُهُ أَحَادِيثَ كَذَلِكَ. وَ (كَذَا زِيَادَةُ اسْمِ رَاوٍ) يَتَوَسَّطُ (فِي السَّنَدْ) بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَ يُظَنُّ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا مَظْهَرَةً لِلْإِرْسَالِ الْخَفِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا (إِنْ كَانَ حَذْفُهُ) ; أَيْ: ذَاكَ الِاسْمِ الزَّائِدِ وَقَعَ (بِـ) صِيغَةِ (عَنْ) . وَقَالَ: وَنَحْوُهُمَا مِمَّا لَيْسَ صَرِيحًا فِي الِاتِّصَالِ (فِيهِ) ; أَيْ: فِي السَّنَدِ الَّذِي بِدُونِهِ (وَرَدْ) ; فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الرِّوَايَةُ النَّاقِصَةُ مُعَلَّةٌ بِالْإِسْنَادِ الْآتِي بِالزِّيَادَةِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّحْدِيثِ أَوْ نَحْوِهِ ; إِذِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَعَبَّرَ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ: تَرَجَّحَتِ الزِّيَادَةُ. مِثَالُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: ( «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ» ) . رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، وَكِلَاهُمَا عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ عَنْهُ بِالْعَنْعَنَةِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ: سَمِعْتُ رِبْعِيًّا يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ. بَلْ وَتُوبِعَ شُعْبَةُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. وَكَذَا رَوَاهُ شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ، لَكِنَّهُ قَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. بَلْ رَوَاهُ الْأَشْجَعِيُّ وَأَبُو عَامِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِثْبَاتِ زَيْدٍ. وَكَذَا رَوَاهُ مُؤَمَّلٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ، لَكِنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ، قَالَ: عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ. فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مُرْسَلَةٌ وَإِنْ كَانَ رِبْعِيٌّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ ; فَقَدْ جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي ذَرٍّ. وَحَكَاهُ الْمِزِّيُّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، هَذَا مَعَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ أَثْبَتَ سَمَاعَهُ مِنْ عُمَرَ الْمُتَوَفَّى قَبْلَ أَبِي ذَرٍّ بِتِسْعِ سِنِينَ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أَدْرَكَ أَبَا ذَرٍّ جَزْمًا ; وَلِذَا تَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي الْجَزْمِ بِعَدَمِ سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَلَكِنَّ اقْتِصَارَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَالضِّيَاءِ فِي (الْمُخْتَارَةِ) عَلَى إِيرَادِهِ فِي صِحَاحِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ قَدْ يَشْهَدُ لِلْأَوَّلَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 [الْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ] [الْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ] (وَإِنْ) كَانَ حَذْفُ الزَّائِدِ بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ فِي السَّنَدِ النَّاقِصِ (بِتَحْدِيثٍ) أَوْ إِخْبَارٍ أَوْ سَمَاعٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَقْتَضِي الِاتِّصَالَ (أَتَى) ، وَرَاوِي السَّنَدِ النَّاقِصِ كَمَا قَيَّدَ بِهِ شَيْخُنَا أَتْقَنُ مِمَّنْ زَادَ، (فَالْحُكْمُ لَهْ) ; أَيْ: لِلْإِسْنَادِ الْخَالِي عَنِ الِاسْمِ الزَّائِدِ ; لِأَنَّ مَعَ رَاوِيهِ كَذَلِكَ زِيَادَةً، وَهِيَ إِثْبَاتُ سَمَاعِهِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْمُسَمَّى بِالْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، الْمَحْكُومِ فِيهِ بِكَوْنِ الزِّيَادَةِ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهَا أَوْ سَهْوًا، وَبِاتِّصَالِ السَّنَدِ النَّاقِصِ بِدُونِهَا ; كَقِصَّةِ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ ; فَإِنَّهُ رَوَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ مَوْلَى عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَصَوَابُهُ لَهُ رِوَايَةُ شُعَيْبٍ وَالْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ نَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَكَحَدِيثِ: ( «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» ) ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْغَضَايِرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. فَقَوْلُهُ: عَنْ مِسْعَرٍ، زِيَادَةٌ، قَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ وَالْحُفَّاظُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِدُونِهَا، وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَأَدْخَلَ بَيْنَ أَبِي عَتِيقٍ وَعَائِشَةَ الْقَاسِمَ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنْ رَوَاهُ مُؤَمَّلٌ عَنْ شُعْبَةَ وَالثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهَا. وَكَذَا قَالَ مُصْعَبُ بْنُ مَاهَانَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. فَذِكْرُ الْقَاسِمِ فِيهِ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِالْغَلَطِ أَوِ السَّهْوِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ ; إِذِ الْمَدَارُ فِي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَمَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ النَّاقِدِ أَنَّهُ الرَّاجِحُ حَكَمَ بِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وَالْعَكْسُ. هَذَا كُلُّهُ (مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ) ; أَيْ: الرَّاوِي، (قَدْ حَمَلَهْ عَنْ كُلِّ) مِنَ الرَّاوِيَيْنِ ; إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ شَخْصٍ عَنْ آخَرَ، ثُمَّ يَسْمَعَ مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الرِّوَايَاتِ وَالرُّوَاةِ بِكَثْرَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ: قُلْتُ لِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ حَدَّثَنِي عَنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِيكَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ بِحَدِيثِ كَذَا. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَرَجَوْتُ أَنْ يُسْقِطَ عَنِّي سُهَيْلٌ رَجُلًا، وَهُوَ الْقَعْقَاعُ، وَيُحَدِّثَنِي بِهِ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: بَلْ سَمِعْتُهُ مِنَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ أَبِي. ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَطَاءٍ. وَيَتَأَكَّدُ الِاحْتِمَالُ بِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ فِي الطَّرِيقَيْنِ بِالتَّحْدِيثِ وَنَحْوِهِ، اللَّهُمَّ (إِلَّا) أَنْ تُوجَدَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ لِكَوْنِهِ (حَيْثُ مَا زِيدَ) هَذَا الرَّاوِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (وَقَعْ وَهْمَا) مِمَّنْ زَادَهُ، فَيَزُولُ بِذَلِكَ الِاحْتِمَالُ. وَالْجُمْلَةُ، فَلَا يَطَّرِدُ الْحُكْمُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ. وَ (فِي ذَيْنِ) ; أَيْ: النَّوْعَيْنِ، (الْخَطِيبُ) الْحَافِظُ (قَدْ جَمَعْ) تَصْنِيفَيْنِ مُفْرَدَيْنِ، سَمَّى الْأَوَّلَ: (التَّفْصِيلَ لِمُبْهَمِ الْمَرَاسِيلِ) ، وَالثَّانِيَ: (تَمْيِيزَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ) . [مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ] [ذِكْرُ الْكُتُبِ الْمُهِمَّةِ فِي هَذَا الْفَنِّ] مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ 786 - رَائِي النَّبِيِّ مُسْلِمًا ذُو صُحْبَةِ ... وَقِيلَ: إِنْ طَالَتْ وَلَمْ يُثَبَّتِ 787 - وَقِيلَ: مَنْ أَقَامَ عَامًا وَغَزَا ... مَعَهْ وَذَا لِابْنِ الْمُسَيَّبِ عَزَا 788 - وَتُعْرَفُ الصُّحْبَةُ بِاشْتِهَارٍ اوْ ... تَوَاتُرٍ أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ وَلَوْ 789 - قَدِ ادَّعَاهَا وَهْوَ عَدْلٌ قُبِلَا ... وَهُمْ عُدُولٌ قِيلَ: لَا مَنْ دَخَلَا 790 - فِي فِتْنَةٍ وَالْمُكْثِرُونَ سِتَّةُ ... أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ الصِّدِّيقَةُ 891 - الْبَحْرُ جَابِرٌ أَبُو هُرَيْرَةِ ... أَكْثَرُهُمْ وَالْبَحْرُ فِي الْحَقِيقَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 792 - أَكْثَرُ فَتْوَى وَهْوَ وَابْنُ عُمَرَا وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍو قَدْ جَرَى ... 793 - عَلَيْهِمُ بِالشُّهْرَةِ الْعَبَادِلَهْ لَيْسَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَلَا مَنْ شَاكَلَهْ ... 794 - وَهْوَ وَزَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِي الْفِقْهِ أَتْبَاعٌ يَرَوْنَ قَوْلَهُمْ ... 795 - وَقَالَ مَسْرُوقُ: انْتَهَى الْعِلْمُ إِلَى سِتَّةِ أَصْحَابٍ كِبَارٍ نُبَلَا ... 796 - زَيْدٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَعْ أُبَيِّ عُمَرَ عَبْدِ اللَّهِ مَعْ عَلِيِّ ... 797 - ثُمَّ انْتَهَى لِذَيْنِ وَالْبَعْضُ جَعَلْ الْأَشْعَرِيَّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَا بَدَلْ. [ذِكْرُ الْكُتُبِ الْمُهِمَّةِ فِي هَذَا الْفَنِّ] (مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ) : هَذَا حِينُ الشُّرُوعِ فِي الرِّجَالِ وَطَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. وَمَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ فَنٌّ جَلِيلٌ، وَفَائِدَتُهُ التَّمْيِيزُ لِلْمُرْسَلِ، وَالْحُكْمُ لَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلِأَئِمَّتِنَا فِيهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ ; كَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِهِ (مَعْرِفَةِ مَنْ نَزَلَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَائِرَ الْبُلْدَانِ) ، وَهُوَ فِي خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ، يَعْنِي لَطِيفَةً. وَكَالْبُخَارِيِّ، وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِيهَا فِيمَا عُلِمَ. وَكَالتِّرْمِذِيِّ وَمُطَيَّنٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَعَبْدَانَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ فِي (الْحُرُوفِ) ، وَأَبِي حَفْصِ ابْنِ شَاهِينَ، وَأَبِي مَنْصُورٍ الْبَاوَرْدِيِّ، وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَالذَّيْلِ عَلَيْهِ لِأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، وَكَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَحْسَنِهَا وَأَكْثَرِهَا فَوَائِدَ، لَوْلَا مَا شَانَهُ بِذِكْرِ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَخْبَارِيِّينَ. وَالذَّيْلِ عَلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ ; كَأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ الْأَمِينِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فَتْحُونٍ، وَهُمَا مُتَعَاصِرَانِ، وَثَانِيهِمَا أَحْسَنُهُمَا. وَاخْتَصَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلِيلِيُّ الِاسْتِيعَابِ، وَسَمَّاهُ (إِعْلَامَ الْإِصَابَةِ بِأَعْلَامِ الصَّحَابَةِ) . فِي آخَرِينَ يَعْسُرُ حَصْرُهُمْ ; كَأَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبَوَيِ الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَالْعُثْمَانِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ قَانِعٍ فِي مَعَاجِيمِهِمْ. وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ خَاصَّةً. وَكَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَأْسِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْعِزُّ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَزَرِيُّ ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 الْأَثِيرِ أَخُو أَبِي السَّعَادَاتِ صَاحِبِ (النِّهَايَةِ فِي الْغَرِيبِ) فِي كِتَابٍ حَافِلٍ سَمَّاهُ (أُسْدَ الْغَابَةِ) جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ عِدَّةٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ضَبْطِهِ وَتَحْقِيقِهِ لَأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ لَمْ يَسْتَوْعِبْ وَلَمْ يُهَذِّبْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، حَتَّى إِنَّ كُلًّا مِنَ النَّوَوِيِّ وَالْكَاشْغَرِيِّ اخْتَصَرَهُ، وَاقْتَصَرَ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَجْرِيدِهِ، وَزَادَ عَلَيْهِ النَّاظِمُ عِدَّةَ أَسْمَاءٍ. وَلِأَبِي أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيِّ فِيهَا كِتَابٌ رَتَّبَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ. وَلِأَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ سَعِيدٍ الْحِمْصِيِّ الَّذِي نَزَلَ مِنْهُمْ حِمْصَ خَاصَّةً، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْجِيزِيِّ الَّذِي نَزَلَ مِصْرَ، وَلِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْجَارُودِ الْآحَادُ مِنْهُمْ. وَلِلْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيِّ (الْإِصَابَةُ لِأَوْهَامٍ حَصَلَتْ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ) فِي جُزْءٍ كَبِيرٍ. وَلِخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، وَيَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَغَيْرِهِمْ، فِي كُتُبٍ لَمْ يَخُصُّوهَا بِهِمْ، بَلْ يُضَمُّ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَيْهِمْ. وَقَدِ انْتَدَبَ شَيْخُنَا لِجَمْعِ مَا تَفَرَّقَ مِنْ ذَلِكَ، وَانْتَصَبَ لِدَفْعِ الْمُغْلَقِ مِنْهُ عَلَى السَّالِكِ، مَعَ تَحْقِيقٍ لِغَوَامِضَ، وَتَوْفِيقٍ بَيْنَ مَا هُوَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَالْمُتَنَاقِضِ، وَزِيَادَاتٍ جَمَّةٍ وَتَتِمَّاتٍ مُهِمَّةٍ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ (الْإِصَابَةَ) ، جَعَلَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ غَالِبًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: فِيمَنْ وَرَدَتْ رِوَايَتُهُ أَوْ ذِكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ أَوْ ضَعِيفَةٍ أَوْ مُنْقَطِعَةٍ. الثَّانِي: مَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ فَقَطْ. الثَّالِثُ: مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي خَبَرٍ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الرَّابِعُ: مَنْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ مُصَنِّفِي الصَّحَابَةِ أَوْ مُخَرِّجِي الْمَسَانِيدِ غَلَطًا، مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ مِمَّا لَمْ يُسْبَقْ إِلَى غَالِبِهِ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّنْبِيهُ فِيهِ عَلَى عَجَائِبَ يُسْتَغْرَبُ وُقُوعُ مِثْلِهَا، وَمَاتَ قَبْلَ عَمَلِ الْمُبْهَمَاتِ، وَأَرْجُو عَمَلَهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 [تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] [تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَفِي هَذَا الْبَابِ عَشَرَةُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ. وَفِيهِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُشَيْدٍ: (إِيضَاحُ الْمَذَاهِبِ فِيمَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّاحِبِ) . وَهُوَ لُغَةً: يَقَعُ عَلَى مَنْ صَحِبَ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ صُحْبَةٍ، فَضْلًا عَمَّنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: (رَائِي النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ رَأَى، حَالَ كَوْنِهِ (مُسْلِمًا) عَاقِلًا (ذُو صُحْبَةِ) عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، اكْتِفَاءً بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ لَحْظَةً، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَهَا مُجَالَسَةٌ وَلَا مُمَاشَاةٌ وَلَا مُكَالَمَةٌ ; لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ إِذَا رَآهُ مُسْلِمٌ أَوْ رَأَى مُسْلِمًا لَحْظَةً طُبِعَ قَلْبُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهِ مُتَهَيِّئٌ لِلْقَبُولِ، فَإِذَا قَابَلَ ذَلِكَ النُّورَ الْعَظِيمَ أَشَرَفَ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَا أَحْمَدُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ صَحِبَهُ سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً، أَوْ رَآهُ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رَآهُ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتَبِعَهُمَا تِلْمِيذُهُمَا الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. قِيلَ: وَيَرِدُ عَلَى ذَلِكَ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَدُورُ ; لِأَنَّ (صَحِبَ) يَتَوَقَّفُ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَالْعَكْسُ. لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُمْ بِصَحِبَ: الصُّحْبَةُ اللُّغَوِيَّةُ، وَبِالصَّحَابِيِّ: الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ. عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيَّ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّحْبَةِ جَارٍ عَلَى كُلِّ مَنْ صَحِبَ غَيْرَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، يُقَالُ: صَحِبَهُ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. قَالَ: وَهَذَا يُوجِبُ فِي حُكْمِ اللُّغَةِ إِجْرَاءَ هَذَا عَلَى مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ سَاعَةً، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 تَقَرَّرَ لِلْأُمَّةِ عُرْفٌ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ إِلَّا فِيمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ، وَذَكَرَ الْمَذْهَبَ الثَّانِيَ. وَكَذَا قَالَ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصُّحْبَةَ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا الصَّحَابِيُّ لَا تُحَدُّ بِزَمَنٍ، بَلْ يَقُولُ: صَحِبْتُهُ سَنَةً، وَصَحِبْتُهُ سَاعَةً. وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ (شَرْحِ مُسْلِمٍ) عَقِبَ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ: وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَرْجِيحِ مَذْهَبِ الْمُحَدِّثِينَ ; فَإِنَّ هَذَا الْإِمَامَ قَدْ نَقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ صُحْبَةَ سَاعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ قَدْ نَقَلُوا الِاسْتِعْمَالَ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِي اللُّغَةِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الصُّحْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ رَأَوْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الصُّحْبَةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ مُطْلَقُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي التَّعْرِيفِ، وَتَأْكِيدُهَا بِحَيْثُ يَشْتَهِرُ بِهِ، وَهِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ صَاحِبُ فُلَانٍ، لَمْ يَنْصَرِفْ - يَعْنِي: عُرْفًا - إِلَّا لِلْمُؤَكَّدَةِ ; كَخَادِمِ فُلَانٍ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْأَشْبَهُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ رَآهُ. وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الصُّحْبَةَ تَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَصْحَبَهُ حَنِثَ بِلَحْظَةٍ. وَيَشْمَلُ الصَّحَابِيُّ الْأَحْرَارَ وَالْمَوَالِيَ، الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ. ثُمَّ إِنَّ التَّعْبِيرَ فِي التَّعْرِيفِ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ فِي الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالضَّرِيرُ الَّذِي حَضَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَغَيْرِهِ، مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ بِلَا تَرَدُّدٍ. وَلِذَا عَبَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِاللِّقَاءِ بَدَلَ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ مِنَ الرَّائِي بِنَفْسِهِ وَكَذَا بِغَيْرِهِ، لَكَانَ مَجَازًا، وَكَأَنَّهُ لَحَظَ شُمُولَهَا بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَأَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ حَنَّكَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا لَهُ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِثَلَاثَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ نِسْبَةُ الرُّؤْيَةِ إِلَيْهِ، صَدَقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ، وَيَكُونُ صَحَابِيًّا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ خَاصَّةً. وَعَلَيْهِ مَشَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ ; خِلَافًا لِلسَّفَاقُسِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ مَا نَصُّهُ: إِنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا عَقَلَ ذَلِكَ أَوْ عَقَلَ عَنْهُ كَلِمَةً كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِلَّا كَانَتْ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَهُوَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْعَلَائِيُّ ; حَيْثُ قَالَ فِي بَعْضِهِمْ: لَا صُحْبَةَ لَهُ، بَلْ وَلَا رُؤْيَةَ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ. وَهُوَ إِنْ سَلِمَ الْحُكْمُ لِحَدِيثِهِمْ بِالْإِرْسَالِ ; فَإِنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ أَتْبَاعٌ، فَهُوَ فِيمَا نَفَاهُ مُخَالِفٌ لِلْجُمْهُورِ. وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا فِي (الْفَتْحِ) : إِنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الضَّرْبِ مَرَاسِيلُ. قَالَ: وَالْخِلَافُ الْجَارِي بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى رَدِّ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا، حَتَّى مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، لَا يَجْرِي فِي أَحَادِيثِ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّ أَحَادِيثَهُمْ مِنْ قَبِيلِ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا مِنْ قَبِيلِ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يُلْغَزُ بِهِ فَيُقَالُ: صَحَابِيٌّ حَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، لَا يَقْبَلُهُ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ. انْتَهَى. وَلِأَجْلِ اخْتِيَارِ عَدِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِينَ فِي الصَّحَابَةِ كَانَتْ فِي بَيْتِ الصِّدِّيقِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ، وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ; كَمَا سَيَأْتِي مَعَ مَا يُلَائِمُهُ فِي رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ رَآهُ وَآمَنَ بِهِ مِنَ الْجِنِّ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ إِلَيْهِمْ قَطْعًا، وَهُمْ مُكَلَّفُونَ، فِيهِمُ الْعُصَاةُ وَالطَّائِعُونَ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَقْضِيَةِ مِنَ (الْمُحَلَّى) : الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 قَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ آمَنُوا وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُمْ صَحَابَةٌ فُضَلَاءُ. وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ ذِكْرُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِإِنْكَارِ ابْنِ الْأَثِيرِ عَلَى أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ تَخْرِيجَهُ فِي الصَّحَابَةِ لِبَعْضِ مَنْ عَرَفَهُ مِنْهُمْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ فِيهِ إِلَى حُجَّةٍ. وَهَلْ يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ؟ كَمَا وَقَعَ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ الشَّاعِرِ إِنْ صَحَّ. قَالَ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ: لَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ. وَالرَّاجِحُ عَدَمُ الدُّخُولِ، وَإِلَّا لَعُدَّ مَنِ اتَّفَقَ أَنْ يَرَى جَسَدَهُ الْمُكَرَّمَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ الْمُعَظَّمِ وَلَوْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَرَآهُ كَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَامَةِ ; إِذْ حُجَّةُ مَنْ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ رَآهُ قَبْلَ دَفْنِهِ أَنَّهُ مُسْتَمِرُّ الْحَيَاةِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ لَيْسَتْ دُنْيَوِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ أُخْرَوِيَّةٌ، لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى. انْتَهَى. وَسَبَقَهُ شَيْخُهُ الْمُؤَلِّفُ فَمَالَ أَيْضًا إِلَى الْمَنْعِ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي التَّقْيِيدِ الظَّاهِرِ اشْتِرَاطَ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ حَيٌّ، لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ; حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ بِوَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِذَا لَمَّا أَشَارَ ابْنُ جَمَاعَةَ إِلَى حِكَايَتِهِ مَعَ إِبْهَامِ قَائِلِهِ تَوَقَّفَ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّهُ مَحَلُّ بَحْثٍ وَتَأَمُّلٍ. بَلْ أَضْرَبَ الْمُؤَلِّفُ نَفْسُهُ فِي شَرْحِهِ عَنِ التَّعْلِيلِ بِهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ، وَكَأَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْهُ عَنْهُ. وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: إِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْطَى حُكْمَ الصُّحْبَةِ ; لِشَرَفِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ دَفْنِهِ وَصَلَاتِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ عَدِّ الْمُعَاصِرِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَصْلًا فِيهِمْ، أَوِ الصَّغِيرِ الَّذِي وُلِدَ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ نَعَمْ ; لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، يَعْنِي فَيَكُونُ مَنْ رَآهُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْلَى. وَجَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ يُعَدُّ صَحَابِيًّا ; لِحُصُولِ شَرَفِ الرُّؤْيَةِ لَهُ، وَإِنْ فَاتَهُ السَّمَاعُ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ الذَّهَبِيُّ فِي التَّجْرِيدِ. وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا مِنْ تَرْجِيحِ عَدَمِ دُخُولِهِ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ، فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَيُزَادُ فِي التَّعْرِيفِ: قَبْلَ انْتِقَالِهِ مِنَ الدُّنْيَا. وَكَذَا لَا يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ ; كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ ثُمَّ شَيْخُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ، فَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، لَا الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. بَلْ جَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِعَدَمِ دُخُولِ مَنْ رَآهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، يَعْنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمِ السَّلَامُ مِمَّنْ لَمْ يَبْرُزْ إِلَى عَالَمِ الدُّنْيَا. وَبِهَذَا الْقَيْدِ دَخَلَ فِيهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; وَلِذَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَجْرِيدِهِ، وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا وَوَجَّهَهُ بِاخْتِصَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَوْنِهِ رُفِعَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ حَيًّا، وَبِكَوْنِهِ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبِهَذِهِ الثَّلَاثِ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابَةِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهُ هَلْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ أَمْ لَا؟ وَعَلَى الثَّانِي مَشَى الْحَلِيمِيُّ وَأَقَرَّهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. بَلْ نَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي (أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ) الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ وَالْبُرْهَانُ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا، وَنُوزِعَا فِي ذَلِكَ. وَرَجَّحَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ مُقَابِلَهُ ; مُحْتَجًّا بِمَا يَطُولُ شَرْحُهُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَفِي صِحَّةِ بِنَاءِ دُخُولِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ، لَكِنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْفَتْحِ ; حَيْثُ مَشَى عَلَى الْبِنَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وَهَلْ يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الشَّرِيفَةِ ; كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ» ) ؟ الظَّاهِرُ: لَا. وَبِهِ جَزَمَ شَيْخُنَا فِي (مُقَدِّمَةِ الْإِصَابَةِ) ، وَزَادَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَاضِي: بِهِ ; لِيُخْرِجَهُ ; فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ. عَلَى أَنَّ لِقَائِلِ ادِّعَاءَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِهِ بِإِطْلَاقِ وَصْفِ النُّبُوَّةِ ; إِذِ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْكَامِلِ. هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي إِصَابَتِهِ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ وَابْنِ مَنْدَهْ وَغَيْرِهِمَا، وَتَرْجَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ لِلْقَاسِمِ ابْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ وَلِلطَّاهِرِ وَعَبْدِ اللَّهِ أَخَوَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْإِصَابَةِ. وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ رُؤْيَةٌ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَخَاهُمُ الطَّيِّبَ فِي الثَّالِثِ مِنْهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ، خُصُوصًا وَقَدْ جَزَمَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَالطَّاهِرَ وَالطَّيِّبَ وَاحِدٌ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالطَّاهِرُ وَالطَّيِّبُ لَقَبَانِ. ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ مُؤْمِنًا بِهِ أَنْ تَقَعَ رُؤْيَتُهُ لَهُ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فَيُؤْمِنُ بِهِ حِينَ يَرَاهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ أَوْ يَكْفِي كَوْنُهُ مُؤْمِنًا بِهِ أَنَّهُ سَيُبْعَثُ كَمَا فِي بَحِيرَا الرَّاهِبِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْإِسْلَامِ؟ . قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ مَحَلُّ احْتِمَالٍ. وَذَكَرَ بَحِيرَا فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِصَابَةِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا وَرَقَةُ فَذَكَرَهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ بَعْدَهَا قَبْلَ الدَّعْوَةِ، مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَجْزِمْ بِصُحْبَتِهِ، بَلْ قَالَ: وَفِي إِثْبَاتِهَا لَهُ نَظَرٌ. عَلَى أَنَّ شَرْحَ النُّخْبَةِ ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ التَّوَقُّفِ بِمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْبَعْثَةَ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَوْلُهُ: (بِهِ) ، هَلْ يُخْرِجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ وَلَمْ يُدْرِكِ الْبَعْثَةَ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: مُسْلِمًا، مَنْ رَآهُ بَعْدَهَا لَكِنْ حَالَ كَوْنِهِ كَافِرًا، سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَمْ بَعْدَهَا إِذَا لَمْ يَرَهُ بَعْدُ، وَعُدُّوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَمَرَاسِيلُهُمْ يَطْرُقُهَا احْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مَسْمُوعَةً لَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رُؤْيَتِهِمْ لَهُ. عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ خَرَّجَ فِي مُسْنَدِهِ حَدِيثَ رَسُولِ قَيْصَرَ، مَعَ كَوْنِهِ إِنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ كُفْرِهِ. وَكَذَا تَرْجَمَ ابْنُ فَتْحُونٍ فِي ذَيْلِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الدَّجَّالَ، وَقَالَ: إِنَّ الطَّبَرِيَّ وَغَيْرَهُ تَرْجَمَ لَهُ هَكَذَا، وَهُوَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نَعَمْ، قَالَ شَيْخُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ زَمَنَ الْإِسْرَاءِ، إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُشِفَ لَهُ فِي لَيْلَتِهِ عَنْ جَمِيعِ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 فِي الْأَرْضِ فَرَآهُ، فِي الصَّحَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ ; لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ مِنْ جَانِبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَرِدُ عَلَى التَّعْرِيفِ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ اتِّفَاقًا ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ وَابْنِ خَطَلٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُزَادُ فِيهِ: وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمُ انْتَزَعَ مِنْ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْخَاتِمَةِ، صِحَّةَ إِخْرَاجِهِ ; فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَرَهُ مُؤْمِنًا. لَكِنَّ فِي هَذَا الِانْتِزَاعِ نَظَرٌ، وَإِنْ تَضَمَّنَ مُخَالَفَةَ شَيْخِنَا الْمَحَلِّيِّ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّقْيِيدِ بِمَوْتِهِ مُؤْمِنًا مُوَافَقَةَ الِانْتِزَاعِ ; لِأَنَّهُ حِينَ رُؤْيَاهُ كَانَ مُؤْمِنًا فِي الظَّاهِرِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيُسَمَّى صَحَابِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ. وَمَا وَقَعَ لِأَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ ذِكْرِهِ حَدِيثَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ أَسْلَمَ فِي الْفَتْحِ وَشَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ لَحِقَهُ الْخِذْلَانُ فَلَحِقَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بِالرُّومِ وَتَنَصَّرَ بِسَبَبِ شَيْءٍ أَغْضَبَهُ، يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّةِ ارْتِدَادِهِ. وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا مَا نَصُّهُ: وَإِخْرَاجُ حَدِيثٍ مِثْلِ هَذَا - يَعْنِي مُطْلَقًا - فِي الْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّ مَنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى قِصَّةِ ارْتِدَادِهِ، فَلَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَكِنْ لَمْ يَرَهُ ثَانِيًا بَعْدَ عَوْدِهِ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ ; لِإِطْبَاقِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدِّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَنَحْوِهِ ; كَقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَإِخْرَاجِ أَحَادِيثِهِمْ فِي الْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا، وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أُخْتَهُ لِلْأَشْعَثِ. وَقِيلَ: لَا ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصُّحْبَةَ وَفَضْلَهَا، فَالرِّدَّةُ تُحْبِطُ الْعَمَلَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ; كَأَبِي حَنِيفَةَ. بَلْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) ، وَإِنْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْهُ تَقْيِيدَهُ بِاتِّصَالِهَا بِالْمَوْتِ. وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ حِينَ الرُّؤْيَةِ بَالِغًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 عَاقِلًا، حَكَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: كُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَدْرَكَ الْحُلُمَ فَأَسْلَمَ وَعَقَلَ أَمْرَ الدِّينِ وَرَضِيَهُ فَهُوَ عِنْدَنَا مِمَّنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْبُلُوغِ - كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ - شَاذٌّ، وَهُوَ يُخْرِجُ نَحْوَ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي عَقَلَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجَّةً، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، مَعَ عَدِّهِمْ إِيَّاهُ فِي الصَّحَابَةِ. وَلَمْ يُتَعَقَّبْ تَقْيِيدُهُ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَجْنُونِ الْمُطْبَقِ، سَوَاءٌ الْبَالِغُ السَّابِقُ إِسْلَامُهُ دُونَ رُؤْيَتِهِ، أَوِ الصَّغِيرُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ ; وَلِذَا زِدْتُهُ، وَكَانَ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ لِفَقْدِهِ. نَعَمْ، الْمُتَقَطِّعُ لَا مَانِعَ مِنَ اتِّصَافِهِ بِهَا إِذَا رَآهُ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ ; لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَوَصْفِهِ بِالْعَدَالَةِ إِذَا لَمْ يُؤَثِّرِ الْخَلَلُ فِي إِفَاقَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ كَوْنُهُ مُمَيِّزًا كَمَا تَقَدَّمَ. (وَقِيلَ) : إِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِهِ صَحَابِيًّا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، بَلْ لَا يَكُونُ صَحَابِيًّا إِلَّا (إِنْ طَالَتْ) صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ وَالْأَخْذِ عَنْهُ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي (الْعُدَّةِ) فَقَالَ: الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقَامَ مَعَهُ وَاتَّبَعَهُ دُونَ مَنْ وَفَدَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ مُصَاحَبَةٍ وَلَا مُتَابَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي (الْمُعْتَمَدِ) : هُوَ مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ وَالْأَخْذِ عَنْهُ، أَمَّا مَنْ طَالَتْ بِدُونِ قَصْدِ الِاتِّبَاعِ أَوْ لَمْ تَطُلْ كَالْوَافِدِينَ فَلَا. وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: هُوَ مَنْ ظَهَرَتْ صُحْبَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صُحْبَةُ الْقَرِينِ قَرِينَهُ حَتَّى يُعَدَّ مِنْ أَحْزَابِهِ وَخَدَمِهِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ. قَالَ صَاحِبُ (الْوَاضِحِ) : وَهَذَا قَوْلُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: هُوَ مَنْ أَكْثَرَ مُجَالَسَتَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْوَافِدُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِي آخَرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ حَكَاهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ عَنْهُمْ، وَادَّعَى أَنَّ اسْمَ الصَّحَابِيِّ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ تَوَسَّعُوا فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الصُّحْبَةِ عَلَى مَنْ رَآهُ رُؤْيَةً ; لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَيْثُ أَعْطَوْا لِكُلِّ مَنْ رَآهُ حُكْمَ الصُّحْبَةِ ; وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ: الْمُجَالَسِ. وَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 حَكَاهُ عَنِ الْأُصُولِيِّينَ إِنَّمَا هُوَ طَرِيقَةٌ لِبَعْضِهِمْ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْأَوَّلِ. وَكَذَا دَعْوَاهُ ذَلِكَ لُغَةً يَرُدُّهُ حِكَايَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ عَنْهُمْ بِدُونِ اخْتِلَافٍ، لَكِنَّهُ قَالَ: وَمَعَ هَذَا - يَعْنِي إِيجَابَ حُكْمِ اللُّغَةِ - إِجْرَاءُ الصُّحْبَةِ عَلَى مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ سَاعَةً، فَقَدْ تَقَرَّرَ لِلْأَئِمَّةِ عُرْفٌ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ إِلَّا فِيمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ وَاتَّصَلَ لِقَاؤُهُ، وَلَا يُجْرُونَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَقِيَ الْمَرْءَ سَاعَةً، وَمَشَى مَعَهُ خُطًا، وَسَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ لَا يَجْرِيَ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إِلَّا عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ. انْتَهَى. وَصَنِيعُ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ يُشْعِرُ بِالْمَشْيِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ; فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ. وَكَذَا قَالَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ. بَلْ قَالَ مُوسَى السَّيَلَانِيُّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَأَنْتَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ بِنَاءً عَلَى مَا فِي ظَنِّهِ: (قَدْ بَقِيَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَأَنَا آخِرُهُمْ) . لَكِنْ قَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِثْبَاتَ صُحْبَةٍ خَاصَّةٍ لَيْسَتْ لِتِلْكَ الْأَعْرَابِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَسْأَلَةِ. وَكَذَا إِنَّمَا نَفَى أَبُو زُرْعَةَ وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ صُحْبَةً خَاصَّةً دُونَ الْعَامَّةِ، وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي حَقِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: ( «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» ) ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ نَهْيَ الصَّحَابِيِّ عَنْ سَبِّ آخَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنِ السَّبِّ غَيْرَ صَحَابِيٍّ، فَالْمَعْنَى: لَا يَسُبَّ غَيْرُ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، وَلَا يَسُبَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. (وَ) عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا الْقَوْلُ (لَمْ يُثَبَّتِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ ; أَيْ: لَيْسَ هُوَ الثَّبْتَ ; إِذِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالثَّانِي لَمْ يَضْبُطْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الطُّولَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ ; كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ حَكَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَحْدِيدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. (وَقِيلَ) : إِنَّمَا يَكُونُ صَحَابِيًّا (مَنْ أَقَامَ) مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَامًا) أَوْ عَامَيْنِ، (وَغَزَا مَعْهُ) غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ، (وَذَا لِـ) سَعِيدِ (ابْنِ الْمُسَيَّبِ) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَأَنَّهُ لِمَا حُكِيَ عَنْ سَعِيدٍ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِلْفَتْحِ. (عَزَا) ; أَيْ: ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَسْنَدَهُ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو مُوسَى فِي آخِرِ الذَّيْلِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَحْكِيِّ عَنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ فِي عِبَارَتِهِ ضِيقٌ يُوجِبُ أَنْ لَا يُعَدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ وَمَنْ شَارَكَهُ فِي فَقْدِ ظَاهِرِ مَا اشْتَرَطَهُ فِيهِمْ مِمَّنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدِّهِ مِنَ الصَّحَابَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَوَقُّفِهِ فِي صِحَّتِهِ عَنْ سَعِيدٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ: (أَوْ غَزَا مَعَهُ غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ) ، بِـ (أَوْ) ، وَهُوَ أَشْبَهُ فِي تَرْجِيعِهِ إِلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي. وَحَكَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَذْكُرُونَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْلَامَهُ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِهَا. انْتَهَى. وَإِسْلَامُ جَرِيرٍ مُخْتَلَفٌ فِي وَقْتِهِ، فَفِي (الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ) لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: (بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِثْرِ الْعُرَنِيِّينَ) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، لَكِنَّ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 الرَّبَذِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفِي (الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ) لَهُ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا قَالَ: ( «لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي: (يَا جَرِيرُ، لِأَيِّ شَيْءٍ جِئْتَنَا؟) قُلْتُ: لِأُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَلْقَى إِلَيَّ كِسَاءَهُ.» الْحَدِيثَ. وَفِي سَنَدِهِ حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ الْأَحْمَسِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ ; أَيْ: لَمَّا بَلَغَنَا خَبَرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ عَلَى الْحَذْفِ ; أَيْ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ دَعَا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ حَارَبَ قُرَيْشًا وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ، ثُمَّ وَفَدَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ. فَقَدْ رَوَى أَيْضًا فِي (الْكَبِيرِ) بِلَفْظِ: (فَدَعَانِي إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ) ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ شَرِيكٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ» ) الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَخْدِشُ فِي جَزْمِ الْوَاقِدِيِّ بِأَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ ; لِأَنَّ وَفَاةَ النَّجَاشِيِّ كَانَتْ قَبْلَ سَنَةِ عَشْرٍ. وَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ) . وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا ; لِأَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ الْأَخْذَ، حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْجَاحِظُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ ثَعْلَبٌ: إِنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ. وَتَسْمِيَتُهُ لِأَبِيهِ بِيَحْيَى تَصْحِيفٌ مِنْ بَحْرٍ، وَعِبَارَتُهُ: ذَهَبَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى إِلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ. وَحَكَاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا قَوْلًا غَيْرَ مَعْزُوٍّ لِأَحَدٍ، لَكِنْ بِإِبْدَالِ الْأَخْذِ بِالرِّوَايَةِ. وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ هَذَا الْقَوْلَ لِغَيْرِ عَمْرٍو. وَكَأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: هُوَ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الصَّاحِبِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْهُ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: هُوَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَعَ الصُّحْبَةِ الِاتِّصَافُ بِالْعَدَالَةِ، فَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَمِمَّنْ دُفِنَ ; أَيْ: بِمِصْرَ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ: أَبُو تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيُّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ. وَكَذَا ذَكَرَهُ الدَّوْلَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمَا لَهُ فِي الصَّحَابَةِ لِإِدْرَاكِهِ ; لِكَوْنِ أَمْرِهِ عِنْدَهُمَا عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَطَّلِعَا عَلَى تَأَخُّرِ قُدُومِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصْرِيحِ أَوَّلِهِمَا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّهُ رَآهُ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ الْقَرَافِيُّ فِي (شَرْحِ التَّنْقِيحِ) . وَعَلَيْهِ عَمَلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) وَابْنِ مَنْدَهْ فِي (الصَّحَابَةِ) ; حَيْثُ ذَكَرَ الصَّغِيرَ الْمَحْكُومَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقِفَا لَهُ عَلَى رُؤْيَةٍ، وَكَأَنَّ حُجَّتَهُمَا تَوَفُّرُ هِمَمِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى إِحْضَارِ مَنْ يُولَدُ لَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَدْعُوَ لَهُ ; كَمَا سَيَأْتِي نَقْلُهُ بَعْدُ. بَلْ صَرَّحَ أَوَّلُهُمَا بِأَنَّهُ رَامَ بِذَلِكَ اسْتِكْمَالَ الْقَرْنِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ) . وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ عَنِ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ، أَوْ إِدْخَالُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فِيهِمْ ; كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ التَّابِعِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 [بِمَ تُعْرَفُ الصُّحْبَةُ] [التَّوْبَةِ: 40] ، وَسَائِرِ الْعَشَرَةِ فِي خَلْقٍ، (أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ) آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ ; إِمَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهَا، كَأَنْ يَجِيءَ عَنْهُ أَنَّ فُلَانًا لَهُ صُحْبَةٌ مَثَلًا أَوْ نَحْوَهُ ; كَقَوْلِهِ: كُنْتُ أَنَا وَفُلَانٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ دَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِشَرْطِ أَنْ يُعْرَفَ إِسْلَامُ الْمَذْكُورِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَكَذَا تُعْرَفُ بِقَوْلِ آحَادِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ عَلَى الرَّاجِحِ كَمَا سَيَأْتِي. وَإِلَى مَا عَدَا الْأَخِيرَ أَشَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ تَمْرِيضِ ثَالِثِهَا، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَحَدٍ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ ; إِمَّا اضْطِرَارًا، يَعْنِي النَّاشِئَ عَنِ التَّوَاتُرِ، أَوِ اكْتِسَابًا، يَعْنِي النَّظَرِيَّ النَّاشِئَ عَنِ الشُّهْرَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ: وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّحَابِيُّ، يَعْنِي كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ. (وَلَوْ قَدِ ادَّعَاهَا) ; أَيْ: الصُّحْبَةَ بِنَفْسِهِ، (وَهْوَ) قَبْلَ دَعْوَاهُ إِيَّاهَا (عَدْلٌ قُبِلَا) قَوْلُهُ ; يَعْنِي: عَلَى الْمُعْتَمَدِ، سَوَاءٌ التَّصْرِيحُ: كَأَنَا صَحَابِيٌّ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ: كَسَمِعْتُ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدْلِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ. هَكَذَا أَطْلَقَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ ; كَالنَّوَوِيِّ، وَهُوَ مُتَابِعٌ لِلْخَطِيبِ فِي (الْكِفَايَةِ) ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَدْ يُحْكَمُ فِي الظَّاهِرِ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ بِقَوْلِهِ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَثُرَ لِقَائِي لَهُ، إِذَا كَانَ ثِقَةً أَمِينًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ لِمَوْضِعِ عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ خَبَرِهِ، كَمَا يُعْمَلُ بِرِوَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ ; يَعْنِي فِي الصُّورَتَيْنِ. وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ قَبْلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ: أَنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 صَحَابِيٌّ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ، يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ إِثْبَاتُ عَدَالَتِهِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا عَدْلٌ، وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ. وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيِّ تَقْيِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا إِذَا لَمْ يَرِدْ عَنِ الصَّحَابَةِ رُدَّ قَوْلُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذِ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَلَوْ فُرِضَ كَوْنُ النَّفْيِ لِمَحْصُورٍ فَرُبَّمَا كَانَ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ. وَكَذَا قَيَّدَهُ هُوَ وَالْآمِدِيُّ بِثُبُوتِ مُعَاصَرَتِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعِبَارَةُ الْآمِدِيِّ: فَلَوْ قَالَ مَنْ عَاصَرَهُ: أَنَا صَحَابِيٌّ، مَعَ إِسْلَامِهِ وَعَدَالَتِهِ فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ: إِذَا عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ قُبِلَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَآهُ مَعَ إِمْكَانٍ ذَلِكَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ دَعْوَى لَا أَمَارَةَ مَعَهَا. وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ مَا أُطْلِقَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ ادِّعَاؤُهُ لِذَلِكَ يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، أَمَّا لَوِ ادَّعَاهُ بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ حِينِ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ ; فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ» ) ، يُرِيدُ انْخِرَامَ ذَلِكَ الْقَرْنِ. قَالَ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، قَالَ: وَهُوَ وَاضِحٌ جَلِيٌّ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعَاصَرَةُ، فَيُعْتَبَرُ بِمُضِيِّ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ عُمْرِهِ لِأَصْحَابِهِ: ( «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ ; فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَيْهَا أَحَدٌ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَهْرٍ، وَلَفْظُهُ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: ( «أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ» ) . قَالَ: وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُصَدِّقِ الْأَئِمَّةُ أَحَدًا ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدِ ادَّعَاهَا جَمَاعَةٌ فَكَذَبُوا، وَكَانَ آخِرَهُمْ رَتَنٌ الْهِنْدِيُّ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ. انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ دَعْوَى مَا لَا يُمْكِنُ تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، فَاشْتِرَاطُهَا يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَحَلَّهُ مَعَ الْعَدَالَةِ إِذَا تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ وَحَفَّتْهُ قَرَائِنُ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى رَدِّهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ صُحْبَتُهُ بِقَوْلِهِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَعْوَاهُ رُتْبَةً يُثْبِتُهَا لِنَفْسِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبَى الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى نَعْلَمَ صُحْبَتَهُ، فَإِذَا عَلِمْنَاهَا فَمَا رَوَاهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ حَتَّى نَعْلَمَ غَيْرَهُ. وَاقْتِصَارُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: تُعْلَمُ الصُّحْبَةُ إِمَّا بِطْرِيقٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ، أَوْ ظَنِّيٍّ، وَهُوَ خَبَرُ الثِّقَةِ، قَدْ يُشْعِرُ بِهِ. وَقَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ: فَإِنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ: أَنَا عَدْلٌ، لَمْ يُقْبَلْ ; لِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةً، فَكَيْفَ إِذَا ادَّعَى الصُّحْبَةَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَدَالَةِ؟ ! وَأَبْدَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ احْتِمَالًا ; حَيْثُ قَالَ: لَوْ قَالَ الْمُعَاصِرُ الْعَدْلُ: أَنَا صَحَابِيٌّ، احْتَمَلَ الْخِلَافَ، يَعْنِي قَبُولًا وَمَنْعًا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى النَّقْلِ فِي الطَّرَفَيْنِ. ثَانِيهِمَا: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مُدَّعِي الصُّحْبَةِ الْيَسِيرَةِ فَيُقْبَلُ ; لِأَنَّهَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ إِثْبَاتُهَا بِالنَّقْلِ ; إِذْ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُهُ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رُؤْيَتِهِ لَهُ أَحَدٌ. أَوِ الطَّوِيلَةِ وَكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ فِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ، فَلَا ; لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُشَاهَدُ وَيُنْقَلُ وَيَشْتَهِرُ فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَدْ جَزَمَ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَتُهُ مِنَ الْجَرْحِ. وَقَوِيَ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي تَخْرِيجِهِمْ أَحَادِيثَ هَذَا الضَّرْبِ فِي مَسَانِيدِهِمْ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَا رَيْبَ فِي انْحِطَاطِ رُتْبَةِ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ عَمَّنْ مَضَى. قَالَ: وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الضَّرْبِ أَنْ يَقُولَ التَّابِعِيُّ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ مَثَلًا أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ، سَوَاءٌ سَمَّاهُ أَمْ لَا ; كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ صَحِيحِهِ: أَخْبَرَنِي سُنَيْنٌ أَبُو جَمِيلَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ. أَمَّا إِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مَثَلًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، يَعْنِي بِالْعَنْعَنَةِ، فَثُبُوتُ الصُّحْبَةِ بِذَلِكَ بَعِيدٌ ; لِاحْتِمَالِ الْإِرْسَالِ. وَيَحْتَمِلُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، فَيَتَرَجَّحُ الْقَبُولُ، أَوْ صِغَارِهِمْ فَيَتَرَجَّحُ الرَّدُّ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ إِخْرَاجِ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ فِي كُتُبِهِمْ. نَعَمْ، لَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ عَدْلٌ مِنَ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِيهِمْ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ (اللُّمَعِ) : لَا أَعْرِفُ فِيهِ نَقْلًا، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقْبَلُ مَرَاسِيلُهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ لَمْ يَحْضُرْهَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَالرَّاجِحُ قَبُولُهُ ; بِنَاءً عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ قَبُولِ التَّزْكِيَةِ مِنْ وَاحِدٍ. وَكَذَا مَالَ إِلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: وَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ; إِمَّا اضْطِرَارًا أَوِ اكْتِسَابًا. وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَدْ أَفَادَ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْإِصَابَةِ لَهُ ضَابِطًا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ يُكْتَفَى فِيهِمْ بِوَصْفٍ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ صَحَابَةٌ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آثَارٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤَمِّرُونَ فِي الْمَغَازِي إِلَّا الصَّحَابَةَ، فَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي الرِّدَّةِ وَالْفُتُوحِ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرَ. ثَانِيهَا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: ( «كَانَ لَا يُوَلَدُ لِأَحَدٍ مَوْلُودٌ إِلَّا أَتَى بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا لَهُ» ) . وَهَذَا أَيْضًا يُوجَدُ مِنْهُ الْكَثِيرُ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ وَلَا بِمَكَّةَ وَلَا الطَّائِفِ وَلَا مَنْ بَيْنَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ. فَمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَوْجُودًا انْدَرَجَ فِيهِمْ ; لِحُصُولِ رُؤْيَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ هُوَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَيَانُ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ] [آلِ عِمْرَانَ: 110] ، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143] ، وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الْفَتْحِ: 18] ، وَقَوْلُهُ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التَّوْبَةِ: 100] ، وَقَوْلُهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْفَالِ: 64] ، وَقَوْلُهُ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الْحَشْرِ: 8] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الْحَشْرِ: 10] . فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَأَحَادِيثَ شَهِيرَةٍ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا. وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِتَعْدِيلِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ تَعْدِيلِ اللَّهِ لَهُ إِلَى تَعْدِيلِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لَأَوْجَبَتِ الْحَالُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَبَذْلِ الْمُهَجِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ، وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، الْقَطْعَ عَلَى تَعْدِيلِهِمْ، وَالِاعْتِقَادَ لِنَزَاهَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْخَالِفِينَ بَعْدَهُمْ، وَالْمُعَدَّلِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ. هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ. ثُمَّ أُسْنِدَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ ; وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ الصَّحَابَةُ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنَا ; لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى، وَهُمْ زَنَادِقَةُ. انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا فَصْلٌ حَسَنٌ. فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى، فَالَّذِي رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عُمُومُهَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَصَّهَا آخَرُونَ بِالصَّحَابَةِ. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِيهِمْ، وَحِينَئِذٍ فَالِاسْتِدْلَالُ مِنْهَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَهِيَ خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ، وَلَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ إِلْحَاقُ غَيْرِهِمْ بِهِمْ مِمَّنْ شَارَكَهُمْ فِي الْوَصْفِ. وَكَذَا مِنَ الْآيَاتِ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4] ، وَمِنْ غَيْرِهَا: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» ) ، مَعَ مَا تَحَقَّقَ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الْجِدِّ فِي الِامْتِثَالِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَفْضِيلِ الصَّحَابَةِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ أَدَلِّهَا عَلَى الْمَقْصُودِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» ) . وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: ( «وَلَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ إِنْ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . وَذَكَرَهُ، بِحَيْثُ خَصَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ وَقَاتَلَ مَعَهُ وَأَنْفَقَ وَهَاجَرَ، فَالْعِبْرَةُ إِنَّمَا هِيَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُنَا. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ صَحَابِيًّا ; لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِرَادَةِ حِفْظِ الصُّحْبَةِ عَنْ ذَلِكَ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْوَصْفَ لَهُمْ بِغَيْرِ الْعَدَالَةِ سَبٌّ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ مَنْ أَدْرَكَهُ وَصَحِبَهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ ; لِشُهُودِ الْمَوَاقِفِ الْفَاضِلَةِ، فَيَكُونُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِهِمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَحَدِيثُ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ) الْمُتَوَاتِرُ مِمَّا هُوَ أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَتَمَسَّكَ بِهِ لِعَدَالَةِ التَّابِعِينَ أَيْضًا، وَأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ حَتَّى يَقُومَ الْجَرْحُ ; لِقَوْلِهِ فِيهِ: ( «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) . وَهُوَ فِيهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ. وَالْمُرَادُ بِقَرْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الصَّحَابَةُ، وَإِنْ أُطْلِقَ الْقَرْنُ عَلَى مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ فِي تَحْدِيدِهَا أَقْوَالٌ، أَدْنَاهَا عَشَرَةُ أَعْوَامٍ، وَأَعْلَاهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ الْوَاقِعُ فِي كَوْنِ آخِرِ الصَّحَابَةِ مَوْتًا أَبُو الطُّفَيْلِ، إِنِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ مِنَ الْبَعْثَةِ ; إِذِ الْمُدَّةُ مِنْهَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ بِقَلِيلٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي وَفَاةِ أَبِي الطُّفَيْلِ، أَمَّا إِنْ مَشَيْنَا عَلَى أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةٌ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، بَلْ وَقَعَ مَا يَدُلُّ لَهُ فِي حَدِيثٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ مِنْ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا مَا جَاءَ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الثَّقَلَيْنِ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» ) . أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ الطُّوسِيِّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النَّمْلِ: 59] ، قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ إِيرَادُهُ. وَمِمَّنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَالَتِهِمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، قَالَ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ فِي رِوَايَتِهِمْ لَانْحَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ: الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الْحَدِيدِ: 10] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 101] . قَالَ: فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمُ النَّارَ ; لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّقْيِيدُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْقِتَالِ يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْإِحْسَانِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] ، يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْيِيدَاتِ الْمَذْكُورَةَ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ: مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِنْفَاقِ وَالْقِتَالِ بِالْفِعْلِ أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 الْقُوَّةِ. وَلَكِنْ قَدْ أَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ كَافَّةَ أَصْحَابِنَا. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ. وَحَكَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا أَنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي لُزُومِ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ، قَوْلٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: فَوَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَالْوَلِيدُ شَرِبَ الْخَمْرَ. قُلْنَا: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافُ الْعَدَالَةِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ، وَالْوَلِيدُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، إِنَّمَا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى طَرِيقَتِهِ. وَهَذَا عَجِيبٌ، فَالْكُلُّ أَصْحَابُهُ بِاتِّفَاقٍ، وَقَتْلُ وَحْشِيٍّ لِحَمْزَةٍ كَانَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَأَمَّا الْوَلِيدُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذُكِرَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ كَفَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لَعْنِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ: ( «لَا تَلْعَنْهُ ; فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) . كَمَا كَفَّ عُمَرَ عَنْ حَاطِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَائِلًا لَهُ: ( «إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ) . لَا سِيَّمَا وَهُمْ مُخْلِصُونَ فِي التَّوْبَةِ فِيمَا لَعَلَّهُ صَدَرَ مِنْهُمْ، وَالْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ. بَلْ قِيلَ فِي الْوَلِيدِ بِخُصُوصِهِ: إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكُوفَةِ تَعَصَّبُوا عَلَيْهِ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَتَرْكُ الْخَوْضِ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ مُتَعَيِّنٌ، وَقَدْ أَسْلَفْتُ فِي أَوَاخِرِ آدَابِ الْمُحَدِّثِ شَيْئًا مِمَّا يُرَغِّبُ فِي الْحَثِّ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ. وَقَوْلًا آخَرَ: إِنَّهُمْ عُدُولٌ إِلَى وَقْتِ وُقُوعِ الْفِتَنِ، فَأَمَّا بَعْدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَمَّنْ لَيْسَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى رَدِّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا. وَقِيلَ بِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ. وَ (قِيلَ: لَا) يُحْكَمُ بِعَدَالَةٍ (مَنْ دَخَلَا) مِنْهُمْ (فِي فِتْنَةٍ) مِنَ الْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ مِنْ حِينِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; كَالْجَمَلِ وَصِفِّينَ، مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا. وَعَنْ بَعْضِهِمْ رَدُّهُمْ، كَأَنَّهُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: يُقْبَلُ الدَّاخِلُ فِيهَا إِذَا انْفَرَدَ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَالَةُ، وَشَكَكْنَا فِي ضِدِّهَا، وَلَا تُقْبَلُ مَعَ مُخَالِفِهِ ; لِتَحَقُّقِ إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْعَدَالَةِ يُخَصُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ مِنْهُمْ، وَمَنْ عَدَاهُمْ كَسَائِرِ النَّاسِ فِيهِمُ الْعُدُولُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْمَازَرِيُّ فِي (شَرْحِ الْبُرْهَانِ) : لَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا: الصَّحَابَةُ عُدُولٌ، كُلَّ مَنْ رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا مَا، أَوْ زَارَهُ أَوِ اجْتَمَعَ بِهِ لِغَرَضٍ وَانْصَرَفَ عَنْ قَرِيبٍ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، فَأُولَئِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] . وَلَمْ يُوَافَقِ الْمَازَرِيُّ عَلَى ذَلِكَ ; وَلِذَا اعْتَرَضَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: إِنَّهُ قَوْلٌ غَرِيبٌ يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ ; كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُقِمْ عِنْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَانْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، أَوْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ إِقَامَتِهِ مِنْ أَعْرَابِ الْقَبَائِلِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ كَانَ تَعْظِيمُ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلِيلًا، مُقَرَّرًا عِنْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ مُتَّكِئًا فَذَكَرَ مَنْ عِنْدَهُ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَنَاوَلَ رَجُلٌ مُعَاوِيَةَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: (كُنَّا نَنْزِلُ رِفَاقًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكُنَّا فِي رُفْقَةٍ فِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 أَبُو بَكْرٍ، فَنَزَلْنَا عَلَى أَهْلِ أَبْيَاتٍ، وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ حُبْلَى، وَمَعَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ الْحَامِلِ: أَيَسُرُّكِ أَنْ تَلِدِي غُلَامًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي شَاةً وَلَدْتِ غُلَامًا. فَأَعْطَتْهُ، فَسَجَعَ لَهَا أَسْجَاعًا ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الشَّاةِ فَذَبَحَهَا وَطَبَخَهَا، وَجَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا وَمَعَنَا أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا عَلِمَ بِالْقِصَّةِ قَامَ فَتَقَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ أَكَلَ. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْبَدَوِيَّ قَدْ أَتَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَدْ هَجَا الْأَنْصَارَ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: لَوْلَا أَنَّ لَهُ صُحْبَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَدْرِي مَا نَالَ فِيهَا لَكَفَيْتُكُمُوهُ، وَلَكِنَّ لَهُ صُحْبَةً. قَالَ: فَتَوَقَّفَ عُمَرُ عَنْ مُعَاتَبَتِهِ، فَضْلًا عَنْ مُعَاقَبَتِهِ ; لِكَوْنِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي ذَلِكَ أَبْيَنُ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَأْنَ الصُّحْبَةِ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَاضِي. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَشَرَةِ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: ثُمَّ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ، كُلُّ مَنْ صَحِبَهُ سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً أَوْ رَآهُ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَهُ مِنَ الصُّحْبَةِ عَلَى قَدْرِ مَا صَحِبَهُ، وَكَانَتْ سَابِقَتُهُ مَعَهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظْرَةً. فَأَدْنَاهُمْ صُحْبَةً هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهُ، وَلَوْ لَقُوا اللَّهَ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَوْهُ وَسَمِعُوا مِنْهُ وَآمَنُوا بِهِ وَلَوْ سَاعَةً أَفْضَلَ بِصُحْبَتِهِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَوْ عَمِلُوا كُلَّ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَا قَالَهُ الْمَازَرِيُّ مُنْتَقَدٌ، بَلْ كُلٌّ مَا عَدَا الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ الْقَائِلَ بِالتَّعْمِيمِ بَاطِلٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ الْمُعْتَبَرُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ ; يَعْنِي مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. زَادَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) إِجْمَاعَ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَيْهِ، سَوَاءٌ مَنْ لَمْ يُلَابِسِ الْفِتَنَ مِنْهُمْ أَوْ لَابَسَهَا ; إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَحَمْلًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنَاهَا عَلَيْهِ، وَكُلُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ، بَلْ مَأْجُورٌ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَعْدَ التُّهَمِ ثُبُوتَ الْعِصْمَةِ لَهُمْ، وَاسْتِحَالَةَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَبُولُ رِوَايَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ بِبَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ، إِلَّا إِنْ ثَبَتَ ارْتِكَابُ قَادِحٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ ; فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا صَحَّ فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا، فَلَا تُخَضِّبْ بِهَا أَلْسِنَتَنَا. وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَاتِ سَيِّدِنَا أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ; فَقَدْ عَمِلُوا بِرَأْيِهِ فِي الْغَسْلِ ثَلَاثًا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْوِلَايَاتِ الْجَسِيمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُ كَمَا فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: (أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ; فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ) . فَأَفْتَى، وَوَافَقَهُ عَلَى فُتْيَاهُ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ النَّجَّارِ فِي ذَيْلِهِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا فِي حَلْقَةٍ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَجَاءَ شَابٌّ خُرَاسَانِيٌّ حَنَفِيٌّ فَطَالَبَ بِالدَّلِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ، فَأَوْرَدَهُ الْمُدَرِّسُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْقَاضِي: فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَقَطَتْ عَلَيْهِ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سَقْفِ الْجَامِعِ، فَهَرَبَ مِنْهَا فَتَبِعَتْهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ: تُبْ، فَقَالَ: تُبْتُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 فَغَابَتِ الْحَيَّةُ وَلَمْ يُرَ لَهَا بَعْدُ أَثَرٌ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ فِي الْإِسْنَادِ: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَانَ حُجَّةً، وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِتَعْيِينِهِ ; لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَخَالَفَ ابْنُ مَنْدَهْ فَقَالَ: مِنْ حُكْمِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إِذَا رَوَى عَنْهُ تَابِعِيٌّ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا ; كَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، نُسِبَ إِلَى الْجَهَالَةِ. فَإِذَا رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ صَارَ مَشْهُورًا وَاحْتُجَّ بِهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ صَحِيحَيْهِمَا إِلَّا أَحْرُفًا تَبَيَّنَ أَمْرُهَا. وَيُسَمِّي الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ مُرْسَلًا، وَهُوَ مَرْدُودٌ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الْمَجْهُولُ مِنَ الصَّحَابَةِ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إِنْ عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ مَعَ انْتِشَارِهِ بَيْنَهُمْ. فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ، وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ دُونَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ خَبَرَ الْمَشْهُورِ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُخَالِفِ الْقِيَاسَ، وَخَبَرَ الْمَجْهُولِ مَرْدُودٌ مَا لَمْ يُؤَيِّدْهُ الْقِيَاسُ ; لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَمَنْ لَمْ تَظْهَرْ. [الْمُكْثِرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ] [الْمُكْثِرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ] الرَّابِعَةُ: فِي الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِوَايَةً وَإِفْتَاءً. (وَالْمُكْثِرُونَ) مِنْهُمْ رِوَايَةً كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، الَّذِينَ زَادَ حَدِيثُهُمْ عَلَى أَلْفٍ (سِتَّةُ) ، وَهُمْ: (أَنَسٌ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ، وَ (ابْنُ عُمَرَ) عَبْدُ اللَّهِ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ (الصِّدِّيقَةُ) ابْنَةُ الصِّدِّيقِ، وَ (الْبَحْرُ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. وَسُمِّيَ بَحْرًا ; لِسَعَةِ عِلْمِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَمِمَّنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ، فَقَالَ فِي شَيْءٍ: وَأَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ، يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَ (جَابِرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَ (أَبُو هُرَيْرَةِ) ، وَهُوَ بِإِجْمَاعٍ حَسْبَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ (أَكْثَرُهُمْ) كَمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ وَابْنُ حَنْبَلٍ، وَتَبِعَهُمَا ابْنُ الصَّلَاحِ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِتَرْتِيبِ مَنْ عَدَاهُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 الْأَكْثَرِيَّةِ. وَالَّذِي يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا نُسِبَ لِبَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ مِمَّا أَوْدَعَهُ فِي مُسْنَدِهِ خَاصَّةً كَمَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا لَا مُطْلَقًا ; فَإِنَّهُ رَوَى لِأَبِي هُرَيْرَةَ خَمْسَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ، وَلِابْنِ عُمَرَ أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَلِأَنَسٍ أَلْفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ، وَلَعَائِشَةَ أَلْفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، وَلِابْنِ عَبَّاسٍ ألْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَسِتِّينَ، وَلِجَابِرٍ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَلَهُمْ سَابِعٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِابْنِ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَرَوَى لَهُ بَقِيٌّ أَلْفًا وَمِائَةً وَسَبْعِينَ، وَقَدْ نَظَمَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ فَقَالَ: أَبُو سَعِيدٍ نِسْبَةً لِخُدْرَةِ سَابِعُهُمْ أُهْمِلَ فِي الْقَصِيدَةِ. وَكَذَا أَدْرَجَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْمُكْثِرِينَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ يَبْلُغْ حَدِيثُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ بَقِيٍّ أَلْفًا ; إِذْ حَدِيثُ أَوَّلِهِمَا عِنْدَهُ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَثَانِيهِمَا سَبْعُمِائَةٍ. وَاسْتِثْنَاءُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ لَا يَخْدِشُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، فَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِغَالِهِ بِالتَّعْلِيمِ، فَقَلَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ أَكْثَرَ مُقَامِهِ بَعْدَ فُتُوحِ الْأَمْصَارِ كَانَ بِمِصْرَ أَوْ بِالطَّائِفِ، وَلَمْ تَكُنِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِمَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ كَالرِّحْلَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مُتَصَدِّيًا فِيهَا لِلْفَتْوَى وَالتَّحْدِيثِ حَتَّى مَاتَ ; أَوْ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اخْتُصَّ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ لَا يَنْسَى مَا يُحَدِّثُهُ بِهِ، فَانْتَشَرَتْ رِوَايَتُهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وَالْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ إِفْتَاءً سَبْعَةٌ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةُ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فُتْيَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُجَلَّدٌ ضَخْمٌ. (وَالْبَحْرُ) ابْنُ عَبَّاسٍ (فِي الْحَقِيقَةِ أَكْثَرُ) الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ (فَتْوَى) فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِحَيْثُ كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ يُحِيلُونَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ» ) ، وَفِي لَفْظٍ: ( «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ) ، وَفِي آخَرَ: ( «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ» ) ، وَفِي آخَرَ: ( «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ» ) ؟ ! وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: قَدِمَ عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ وَمَا فِي الْعَرَبِ مِثْلُهُ حَشَمًا وَعِلْمًا وَبَيَانًا وَجَمَالًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَوْ أَدْرَكَ أَسْنَانَنَا مَا عَاشَرُهُ مِنَّا أَحَدٌ) . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحَجِّ) . ثُمَّ إِنَّ وَصْفَهُ بِالْبَحْرِ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا وَصْفُهُ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ. وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ الْبَحْرُ، وَفَعَلَ الْبَحْرُ، يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ. بَلْ سَمَّاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: حَبْرَ الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهُمْ: حَبْرَ الْعَرَبِ، وَتُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ، وَرَبَّانِيَّ الْأُمَّةِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَيَلِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ فِي الْفَتْوَى عِشْرُونَ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو مُوسَى، وَمُعَاذٌ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَلْمَانُ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأُمُّ سَلَمَةَ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فُتْيَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ صَغِيرٌ. قَالَ: وَفِي الصَّحَابَةِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ نَفْسًا مُقِلُّونَ فِي الْفُتْيَا جِدًّا، لَا تُرْوَى عَنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ وَالْمَسْأَلَتَانِ وَالثَّلَاثُ ; كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي طَلْحَةَ وَالْمِقْدَادِ. وَسَرَدَ الْبَاقِينَ مِمَّا فِي بَعْضِهِ نَظَرٌ، وَقَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فُتْيَا جَمِيعِهِمْ بَعْدَ الْبَحْثِ جُزْءٌ صَغِيرٌ. [ذِكْرُ الْعَبَادِلَةِ وَالْآخِذُونَ عَنْهُمْ] [ذِكْرُ الْعَبَادِلَةِ وَالْآخِذُونَ عَنْهُمْ] وَالْخَامِسَةُ: فِي بَيَانِ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعَبَادِلَةُ مِنْهُمْ دُونَ سَائِرِ مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. (وَهْوَ) ; أَيْ: الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، (وَابْنُ عُمَرَا) عَبْدُ اللَّهِ، (وَابْنُ الزُّبَيْرِ) عَبْدُ اللَّهِ، (وَابْنُ عَمْرٍو) بْنِ الْعَاصِ ; عَبْدُ اللَّهِ، (قَدْ جَرَى عَلَيْهُمُ بِالشُّهْرَةِ) الْمُسْتَفِيضَةِ (الْعَبَادِلَهْ) فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ: (لَيْسَ) مَنْ جَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ (ابْنَ مَسْعُودٍ) عَبْدَ اللَّهِ، وَإِنْ جَعَلَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِ: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] مِنْ تَفْسِيرِهِ خَامِسًا لَهُمْ. وَكَذَا هُوَ فِي (شَرْحِ الْكَافِيَةِ) لِابْنِ الْحَاجِبِ ; لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ، وَالْآخَرُونَ عَاشُوا حَتَّى احْتِيجَ إِلَى عِلْمِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ الْعَبَادِلَةِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَلَا مَنْ شَاكَلَهْ) أَيْضًا ; أَيْ: ابْنَ مَسْعُودٍ فِي التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ اللَّهِ، وَهُمْ نَحْوُ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ نَفْسًا، أَوْ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةٍ فِيمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، بَلْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. وَلَوْ تَرَتَّبَ عَلَى الْحَصْرِ فَائِدَةٌ لَحَقَّقْتُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وَوَقَعَ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي عَبْدٍ مِنَ (الصِّحَاحِ) لِلْجَوْهَرِيِّ ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدَلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَكَرَ فِي الْأَلِفِ اللَّيِّنَةِ فِي هَاءٍ مِنْهُ أَيْضًا ابْنَ الزُّبَيْرِ مَعَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِمْ. وَكَذَا عَدَّهُمُ الرَّافِعِيُّ فِي الدِّيَاتِ مِنَ (الشَّرْحِ الْكَبِيرِ) ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي (الْمُفَصَّلِ) ، وَالْعَلَاءُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا ثَلَاثَةً، لَكِنْ عَيَّنُوهُمْ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. زَادَ الْأَخِيرُ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحْقِيقِ، قَالَ: وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ: ابْنُ الزُّبَيْرِ بَدَلَ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمِمَّنْ عَدَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْقُرَشِيُّ، حَكَاهُ الْقَاسِمُ التُّجِيبِيُّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ. وَمِنِ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ هِشَامٍ فِي (التَّوْضِيحِ) وَفِي الْحَجِّ مِنَ الْهِدَايَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ: (قَالَ الْعَبَادِلَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: أَشْهُرُ الْحَجِّ ; شَوَّالٌ. . .) . فَعَطَفَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَيْهِمْ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ. السَّادِسَةُ: وَلَوْ قُدِّمَتْ مَعَ الَّتِي تَلِيهَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لَكَانَ أَنْسَبَ فِي الْمَتْبُوعِينَ مِنْهُمْ. (وَهْوَ) ; أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ، (وَزَيْدٌ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، (وَابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (فِي الْفِقْهِ أَتْبَاعٌ) وَأَصْحَابٌ (يَرَوْنَ) فِي عَمَلِهِمْ وَفُتْيَاهُمْ (قَوْلَهُمْ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ حَاصِرًا لِذَلِكَ فِيهِمْ، وَعِبَارَتُهُ: انْتَهَى عِلْمُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِمَّنْ أُخِذَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ، وَذَكَرَهُمْ. فَهُمْ كَالْمُقَلَّدِينَ، وَأَتْبَاعُهُمْ كَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 (وَ) السَّابِعَةُ: (قَالَ مَسْرُوقُ) ابْنُ الْأَجْدَعِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ أَحَدُ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ: (انْتَهَى الْعِلْمُ) الَّذِي كَانَ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَى سِتَّةِ) أَنْفُسٍ (أَصْحَابٍ) أَيْضًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كِبَارٍ نُبَلَا زَيْدٍ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، وَ (أَبِي الدَّرْدَاءِ) عُوَيْمِرٍ، (مَعْ أُبَيِّ) بْنِ كَعْبٍ، وَ (عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ، وَ (عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ مَسْعُودٍ (مَعْ عَلِيِّ) بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (ثُمَّ انْتَهَى) ; أَيْ: وَصَلَ مَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ مِنْ عِلْمٍ (لِذَيْنِ) ; أَيْ: لِلْأَخِيرَيْنِ مِنْهُمْ، وَهُمَا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ. هَكَذَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَسْرُوقٍ. وَلَكِنَّ (الْبَعْضُ) مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا، هُوَ الشَّعْبِيُّ، (جَعَلْ) أَبَا مُوسَى (الْأَشْعَرِيَّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَا) بِالْقَصْرِ (بَدَلْ) بِالْوَقْفِ عَلَى لُغَةِ رَبِيعَةَ. بَلْ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَفْسِهِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: كَانَ الْعِلْمُ يُؤْخَذُ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ يُشْبِهُ عِلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَكَانَ يَقْتَبِسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَالْأَشْعَرِيُّ وَأُبَيٌّ يُشْبِهُ عِلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَكَانَ يَقْتَبِسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَلَا يَخْدِشُ فِيمَا تَقَدَّمَ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ زَيْدٍ وَأَبِي مُوسَى تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ ; لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ انْتِهَاءِ عِلْمِ شَخْصٍ إِلَى آخَرَ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ: إِنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا مَعَ مَسْرُوقٍ بِالْكُوفَةِ، فَانْتِهَاءُ الْعِلْمِ إِلَيْهِمَا بِمَعْنَى أَنَّ عُمْدَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِينَ عَلَيْهِمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 [عَدَدُ الصَّحَابَةِ] 798 - وَالْعَدُّ لَا يَحْصُرُهُمْ فَقَدْ ظَهَرْ ... سَبْعُونَ أَلْفًا بِتَبُوكَ وَحَضَرْ 799 - الْحَجَّ أَرْبَعُونَ أَلْفًا وَقُبِضْ ... عَنْ ذَيْنِ مَعْ أَرْبَعِ آلَافٍ تَنِضْ 800 - وَهُمْ طِبَاقٌ إِنْ يُرَدْ تَعْدِيدُ ... قِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ أَوْ تَزِيدُ 801 - وَالْأَفْضَلُ الصِّدِّيقُ ثُمَّ عُمَرُ ... وَبَعْدَهُ الْعُثْمَانُ وَهْوَ الْأَكْثَرُ 802 - أَوْ فَعَلِيٌّ قَبْلَهُ خُلْفٌ حُكِي ... قُلْتُ: وَقَوْلُ الْوَقْفِ جَا عَنْ مَالِكِ 803 - فَالسِّتَّةُ الْبَاقُونَ فَالْبَدْرِيَّهْ ... فَأُحُدٌ فَالْبَيْعَةُ الْمَرْضِيَّهْ 804 - قَالَ: وَفَضْلُ السَّابِقِينَ قَدْ وَرَدْ ... فَقِيلَ: هُمْ، وَقِيلَ: بَدْرِيٌّ وَقَدْ 805 - قِيلَ: بَلَ اهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ وَاخْتُلِفْ ... أَيَّهُمُ أَسْلَمَ قَبْلُ مِنْ سَلَفْ 806 - قِيلَ: أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: بَلْ عَلِي ... وَمُدَّعِي إِجْمَاعِهِ لَمْ يُقْبَلِ 807 - وَقِيلَ: زَيْدٌ، وَادَّعَى وِفَاقَا ... بَعْضٌ عَلَى خَدِيجَةَ اتِّفَاقَا [عَدَدُ الصَّحَابَةِ] وَالثَّامِنَةُ: فِي إِحْصَائِهِمْ. (وَالْعَدُّ) عَلَى الْمُعْتَمَدِ (لَا يَحْصُرُهُمْ) إِجْمَالًا، فَضْلًا عَنْ تَفْصِيلِهِمْ ; لِتَفَرُّقِهِمْ فِي الْبُلْدَانِ وَالنَّوَاحِي، (فَقَدْ) ثَبَتَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ بِخُصُوصِهَا: وَالْمُسْلِمُونَ كَثِيرٌ، لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانُ حَافِظِ. وَ (ظَهَرْ) يَعْنِي شَهِدَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ (سَبْعُونَ أَلْفًا بِتَبُوكَ) الْمَذْكُورَةِ. قَالَ: (وَحَضَرْ) مَعَهُ (الْحَجَّ) ; يَعْنِي الَّذِي لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهُ، وَوَدَّعَ فِيهِ النَّاسَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا، وَأَكَّدَ التَّوْدِيعَ بِإِشْهَادِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِهِ ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ حَجَّ الْوَدَاعِ، (أَرْبَعُونَ أَلْفًا) . وَلِكَثْرَتِهِمْ قَالَ جَابِرٌ فِي حِكَايَتِهِ صِفَتَهَا: نَظَرْتُ إِلَى مَدٍّ بَصَرِيٍّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ. (وَقُبِضْ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنْ ذَيْنِ) ; أَيْ: الْفَرِيقَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 الْمَذْكُورَيْنِ فِي تَبُوكَ وَحَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ مِائَةُ أَلْفٍ وَعَشَرَةُ آلَافٍ، (مَعْ) زِيَادَةِ (أَرْبَعِ آلَافٍ) عَلَى ذَلِكَ، (تَنِضْ) بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: يَتَيَسَّرُ حَصْرُهَا تَشْبِيهًا بِنَضِّ الدَّرَاهِمِ، وَهُوَ تَيَسُّرُهَا، مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ أَوْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ ذَلِكَ رَدًّا لِمَنْ قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ يُقَالُ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ ذَا قَالَ ذَا؟ قَلْقَلَ اللَّهُ أَنْيَابَهُ، هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، وَمَنْ يُحْصِي حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَهُ. فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ أَيْنَ كَانُوا وَأَيْنَ سَمِعُوا مِنْهُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَمَنْ شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، كُلٌّ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ بِعَرَفَةَ. قَالَ ابْنُ فَتْحُونٍ فِي ذَيْلِ (الِاسْتِيعَابِ) بَعْدَ إِيرَادِهِ لِهَذَا: أَجَابَ بِهِ أَبُو زُرْعَةَ سُؤَالَ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الرُّوَاةِ خَاصَّةً، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟ انْتَهَى. وَكَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَنْ مَاتَ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغَزَوَاتِ وَغَيْرِهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَوْرَدَهَا أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي الذَّيْلِ، قَالَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَكُلٌّ قَدْ رَوَى عَنْهُ سَمَاعًا أَوْ رُؤْيَةً، فَعِلْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ. وَلَكِنَّهَا لَا تُنَافِي الْأُولَى ; لِقَوْلِهِ فِيهَا: زِيَادَةٌ. مَعَ أَنَّهَا أَقْرَبُ لِعَدَمِ التَّوَرُّطِ فِيهَا بِعُهْدَةِ الْحَصْرِ. نَعَمْ، رَوَى الْحَاكِمُ فِي (الْإِكْلِيلِ) مِنْ «حَدِيثِ مُعَاذٍ قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا) » . وَبِهَذِهِ الْعِدَّةِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَأَوْرَدَهُ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ مَوْصُولٍ، وَزَادَ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِمْ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: خَرَجْنَا. وَتَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَوَقَعَ لِشَيْخِنَا فِي الْفَتْحِ هُنَا سَهْوٌ، حَيْثُ عَيَّنَ قَوْلَ أَبِي زُرْعَةَ فِي تَبُوكَ بِأَرْبَعِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 أَلْفًا، وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مُعَاذٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا بِاحْتِمَالِ جَبْرِ الْكَسْرِ، وَجَاءَ ضَبْطُ مَنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ بِأَنَّهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ عِنَانٍ، قَالَهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو مُوسَى فِي الذَّيْلِ. بَلْ عِنْدَهُ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (وَافَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ النَّاسِ، وَوَافَى حُنَيْنًا بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ: (لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ) » . ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيمَنْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي مَنَاقِبِهِ لِلْآبُرِيِّ وَالسَّاجِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ، قَالَ: (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ سِتُّونَ أَلْفًا: ثَلَاثُونَ أَلْفًا بِالْمَدِينَةِ، وَثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا) . وَعَنْ أَحْمَدَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ عَنْهُ، قَالَ: (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صَلَّى خَلْفَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ) . وَكَأَنَّهُ عَنَى بِالْمَدِينَةِ ; لِيَلْتَئِمَ مَعَ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ فِي أَعْمَالِ الْبَاطِنِ فِي التِّلَاوَةِ مِنْ رُبْعِ الْعِبَادَاتِ مِنَ (الْإِحْيَاءِ) : مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَعَلَّهُ عَنَى بِالْمَدِينَةِ. وَثَبَتَ عَنِ الثَّوْرِيِّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. وَوَجَّهَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاثْنَيْ عَشَرَ عَامًا بَعْدَ أَنْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي الرِّدَّةِ وَالْفُتُوحِ الْكَثِيرُ مِمَّنْ لَمْ تُضْبَطْ أَسْمَاؤُهُمْ، ثُمَّ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ وَفِي الطَّاعُونِ الْعَامِّ وَعَمْوَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. وَسَبَبُ خَفَاءِ أَسْمَائِهِمْ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ أَعْرَابٌ، وَأَكْثَرَهُمْ حَضَرُوا حَجَّةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 الْوَدَاعِ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ فِي (الْمَدَارِكِ) عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافِ نَفْسٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: بِالشَّامِ عَشَرَةُ آلَافِ عَيْنٍ رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَ الْكُوفَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَلْفٌ وَخَمْسُونَ ; مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ بَدْرِيُّونَ. قَالَ: وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَدِمَ حِمْصَ مِنَ الصَّحَابَةِ خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ. وَعَنْ بَقِيَّةَ: نَزَلَهَا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَرْبَعُمِائَةٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: الرُّوَاةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَلْفَيْنِ، بَلْ هُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَأَنَّ كِتَابَهُ (التَّجْرِيدَ) لَعَلَّ جَمِيعَ مَنْ فِيهِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ نَفْسٍ، إِنْ لَمْ يَزِيدُوا لَمْ يَنْقُصُوا، مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُعْرَفُ. انْتَهَى. وَكَذَا مَعَ كَثْرَةِ التَّكْرِيرِ وَإِيرَادِ مَنْ لَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ وَهْمًا، أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ إِدْرَاكٍ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ لِقَاءٌ. وَوُجِدَ بِخَطِّهِ أَيْضًا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي أُسْدِ الْغَابَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ نَفْسًا. وَحَصَرَ ابْنُ فَتْحُونٍ عَدَدَ مَنْ بِـ (الِاسْتِيعَابِ) فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، يَعْنِي مِمَّنْ ذُكِرَ فِيهِ بِاسْمٍ أَوْ كُنْيَةٍ، أَوْ حَصَلَ الْوَهْمُ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ عَلَى شُرُوطِهِ قَرِيبًا مِمَّنْ ذَكَرَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا أَسَنَدَهُ أَبُو مُوسَى فِي آخِرِ الذَّيْلِ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: الصَّحَابَةُ خَمْسُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا. وَبِالْجُمْلَةِ، فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا جَمِيعًا - أَيْ: كُلُّ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ - الْوُقُوفُ عَلَى الْعُشْرِ مِنْ أَسَامِيهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى عَنْ أَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 زُرْعَةَ. قُلْتُ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا - يَعْنِي: قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ - فَكُلٌّ حَكَى عَلَى قَدْرِ مَا تَتَبَّعَهُ وَمَبْلَغِ عِلْمِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ خَاصٍّ وَحَالٍ، فَإِذَنْ لَا تَضَادَّ بَيْنَ كَلَامِهِمْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ] [تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ] وَالتَّاسِعَةُ: فِي تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضِيلَةِ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سِوَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُمْ إِلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: (وَهُمْ) بِاعْتِبَارِ سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَوْ شُهُودِ الْمَشَاهِدِ الْفَاضِلَةِ (طِبَاقٌ إِنْ يُرَدْ تَعْدِيدُ) ; أَيْ: عَدُّهَا. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِهِ، فَـ (قِيلَ) كَمَا لِلْحَاكِمِ فِي (عُلُومِ الْحَدِيثِ) : هِيَ (اثْنَتَا عَشْرَةَ) طَبَقَةً. فَالْأُولَى: مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ بِمَكَّةَ ; كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. الثَّانِيَةُ: أَصْحَابُ دَارِ النَّدْوَةِ الَّتِي خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِسْلَامَهُ، فَبَايَعُوهُ حِينَئِذٍ فِيهَا. الثَّالِثَةُ: الْمُهَاجِرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ. الرَّابِعَةُ: مُبَايِعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى. الْخَامِسَةُ: أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. السَّادِسَةُ: الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبَاءٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ وَيَبْنِيَ الْمَسْجِدَ. السَّابِعَةُ: أَهْلُ بَدْرٍ. الثَّامِنَةُ: الْمُهَاجِرَةُ بَيْنَ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ. التَّاسِعَةُ: أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. الْعَاشِرَةُ: الْمُهَاجِرَةُ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ. الْحَادِيَةُ عَشَرَ: مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ. الثَّانِيَةُ عَشَرَ: صِبْيَانٌ وَأَطْفَالٌ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِمَا، يَعْنِي مَنْ عَقَلَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وَقِيلَ كَمَا لِابْنِ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) لَهُ: خَمْسٌ. فَالْأُولَى: الْبَدْرِيُّونَ. الثَّانِيَةُ: مَنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا مِمَّنْ هَاجَرَ عَامَّتُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدُوا أُحُدًا فَمَا بَعْدَهَا. الثَّالِثَةُ: مَنْ شَهِدَ الْخَنْدَقَ فَمَا بَعْدَهَا. وَالرَّابِعَةُ: مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ فَمَا بَعْدَهَا. الْخَامِسَةُ: الصِّبْيَانُ وَالْأَطْفَالُ مِمَّنْ لَمْ يَغْزُ، سَوَاءٌ حَفِظَ عَنْهُ - وَهُمُ الْأَكْثَرُ - أَمْ لَا. (أَوْ تَزِيدُ) عَلَى الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَضْلًا عَمَّا دُونَهَا. وَمِنَ الثَّانِي: (وَالْأَفْضَلُ) مِنْهُمْ مُطْلَقًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبُو بَكْرٍ (الصِّدِّيقُ) خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَدِلَّةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، مِنْهَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي الدَّرْدَاءِ وَقَدْ رَآهُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ: (يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ) » . وَقِيلَ لَهُ: الصِّدِّيقُ ; لِمُبَادَرَتِهِ إِلَى تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِمُقْتَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ يُلْغَزُ فَيُقَالُ لَنَا: صَحَابِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَهُوَ عِيسَى الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ بِقَوْلِهِ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي فِي أَوَاخِرِ الْقَوَاعِدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 مَنْ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ ... خَيْرِ الصِّحَابِ أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ عُمَرْ وَمِنْ عَلِيٍّ وَمِنْ عُثْمَانَ وَهْوَ فَتًى ... مِنْ أُمَّةِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرْ (ثُمَّ) يَلِي أَبَا بَكْرٍ (عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَيْضًا. وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ، فَقَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَا الْخَلَفِ، قَالَ: وَلَا مُبَالَاةَ بِأَقْوَالِ أَهْلِ التَّشَيُّعِ وَلَا أَهْلِ الْبِدَعِ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ لَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَيْضًا قَالَ: مَا اخْتَلَفَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ. وَكَذَا جَاءَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَفَضْلِهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا سَيَأْتِي: أَوَفِي ذَلِكَ شَكٌّ؟ ! (وَبَعْدَهُ) ; أَيْ: بَعْدَ عُمَرَ، إِمَّا (عُثْمَانُ) بْنُ عَفَّانَ، (وَهْوَ الْأَكْثَرُ) ; أَيْ: قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، كَمَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ تَرْتِيبَهُمْ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ. (أَوْ فَعَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (قَبْلَهُ) ; أَيْ: قَبْلَ عُثْمَانَ وَبَعْدَ عُمَرَ، (خُلْفٌ) ; أَيْ: خِلَافٌ (حُكِي) . وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ عَلِيٍّ ذَهَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَجَمْعٌ، كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَطَائِفَةٌ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، كَمَا نَقَلَهُ شَيْخُنَا. وَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ الثَّوْرِيِّ حِكَايَتَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقِيلَ لِلثَّوْرِيِّ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ كُوفِيٌّ. ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ. زَادَ غَيْرُهُ: وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ وَكِيعٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ - أَيْ: هَذَا الْمَذْهَبُ - ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَإِنْ نَصَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ كَمَا حَكَيْتُهُ فِي الثَّامِنَةِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 إِحْصَائِهِمْ. وَصَدَقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ ; فَإِنَّ عُمَرَ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَاجْتَهَدَ فِيهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، حَتَّى سَأَلَ النِّسَاءَ فِي خُدُورِهِنَّ وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، فَلَمْ يَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا، فَقَدَّمَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْأَمْرَ قَبْلَهُ. «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كُنَّا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ) » . وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ غَرِيبٌ: « (كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ) » . وَفِي آخَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَصْرَحُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ اطِّلَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « (كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ: أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَيَسْمَعُ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ) » . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ وَذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْهُمْ، الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَرَّكَهُ أَمْرٌ شَاوَرَهُمْ فِيهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَثَ السِّنِّ. وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ عُمَرَ الْإِزْرَاءَ بِعَلِيٍّ وَلَا تَأَخُّرَهُ وَدَفْعَهُ عَنِ الْفَضِيلَةِ بَعْدَ عُثْمَانَ، فَفَضْلُهُ مَشْهُورٌ لَا يُنْكِرُهُ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عُثْمَانَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي اعْتِقَادِهِ عَنْهُمَا، وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَكَافَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 عِيَاضٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَلَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي التَّفْضِيلِ، أَهُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ فَالَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ مَالِكٍ الْآتِي نَقْلُهُ مِنَ (الْمُدَوَّنَةِ) . وَالَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي (الْإِرْشَادِ) الثَّانِي، وَعِبَارَتُهُ: لَمْ يَقُمْ عِنْدَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ عَلَى بَعْضٍ ; إِذِ الْعَقْلُ لَا يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِهِمْ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَقِّي التَّفْضِيلِ مِنْ مَنْعِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ عُمَرُ أَفْضَلُهُمْ بَعْدَهُ، وَتَتَعَارَضُ الظُّنُونُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَبِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا جَزَمَ صَاحِبُ (الْمُفْهِمِ) . (قُلْتُ: وَقَوْلُ الْوَقْفِ) عَنْ تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ (جَا) بِالْقَصْرِ (عَنْ مَالِكِ) حَسْبَمَا عَزَاهُ الْمَازَرِيُّ لِنَصِّ (الْمُدَوَّنَةِ) ، يَعْنِي فِي آخِرِ الدِّيَاتِ مِنْهَا، وَأَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. زَادَ عِيَاضٌ فِيمَا عَزَاهُ إِلَيْهَا: ثُمَّ عُمَرُ. ثُمَّ قَالَ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ: أَوَفِي ذَلِكَ شَكٌّ؟ قِيلَ لَهُ: فَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ؟ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِمَّنْ أَقْتَدِي بِهِ يُفَضِّلُ أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَنَرَى الْكَفَّ عَنْ ذَلِكَ. وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَمِنِ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ حَزْمٍ. وَقَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْمَاضِي: وَتَتَعَارَضُ الظُّنُونُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، يَمِيلُ أَيْضًا إِلَى التَّوَقُّفِ. لَكِنْ قَدْ حَكَى عِيَاضٌ أَيْضًا قَوْلًا عَنْ مَالِكٍ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْوَقْفِ إِلَى تَفْضِيلِ عُثْمَانَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عِيَاضٌ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَفُّهُ وَكَفُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ لِمَا كَانَ شَجَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَصُّبِ. بَلْ حَكَى الْمَازَرِيُّ قَوْلًا بِالْإِمْسَاكِ عَنِ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا، وَعَزَاهُ الْخَطَّابِيُّ لِقَوْمٍ، وَحَكَى هُوَ قَوْلًا آخَرَ بِتَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، وَعَلِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ، قَالَ: وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ خَيْرٌ، وَعَلِيٌّ أَفْضَلُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا تَهَافُتٌ فِي الْقَوْلِ. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى الْعِلْمِ، فَلَا تَهَافُتَ، خُصُوصًا وَقَدْ مَشَى عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ، لَكِنْ فِي التَّابِعِينَ كَمَا سَيَأْتِي، حَيْثُ وَجَّهَ قَوْلَ أَحْمَدَ بِتَفْضِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مَعَ النَّصِّ فِي أُوَيْسٍ بِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْعِلْمِ، لَا الْخَيْرِيَّةِ، كَمَا سَلَكَهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْخَطَّابِيِّ. انْتَهَى. وَبَقِيَّةُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ: وَبَابُ الْخَيْرِيَّةِ غَيْرُ بَابِ الْفَضِيلَةِ، قَالَ: وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إِنَّ الْحُرَّ الْهَاشِمِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الْعَبْدِ الرُّومِيِّ أَوِ الْحَبَشِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ الْحَبَشِيُّ خَيْرًا مِنْ هَاشِمِيٍّ فِي مَعْنَى الطَّاعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ، فَبَابُ الْخَيْرِيَّةِ مُتَعَدٍّ، وَبَابُ الْفَضِيلَةِ لَازِمٌ، وَنَحْوُهُ مَنْ كَانَ يُقَدِّمُ عَلِيًّا لِفَضِيلَتِهِ وَفَضْلِ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِفَضْلِ الشَّيْخَيْنِ ; كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَتَانِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ لَبَدَأْتُ بِحَاجَةِ عَلِيٍّ قَبْلَهُمَا ; لِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقَدِّمَهُ عَلَيْهِمَا. وَكَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَتِ الْخَوَارِجُ يَرْمُونَهُ بِاتِّصَالِهِ بِعَلِيٍّ وَقَوْلِهِ بِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ كَانَ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ عَلِيًّا. وَقَدْ قَالَ السِّرَّاجُ: ثَنَا خُشَيْشٌ الصُّوفِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: كَانَ رَأْيُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَأْيَ أَصْحَابِهِ الْكُوفِيِّينَ، يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ رَجَعَ وَهُوَ يُفَضِّلُ عُمَرَ عَلَى عَلِيٍّ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى عُثْمَانَ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ الثَّوْرِيِّ مِنَ (الْحِلْيَةِ) . وَكَذَا حَكَى الْمَازَرِيُّ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الشِّيعَةِ تَفْضِيلَهُ، وَعَنِ الْخَطَّابِيَّةِ تَفْضِيلَ عُمَرَ، وَعَنِ الرَّاوِنْدِيَّةِ تَفْضِيلَ الْعَبَّاسِ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَطَائِفَةً ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِمَّنْ بَقِيَ بَعْدَهُ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِهِمْ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ) ، وَعَيَّنَ بَعْضَهُمْ ; مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَكُلُّ هَذَا مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ عُثْمَانَ ثُمَّ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَشَاهِدِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ. وَلِبَعْضِهِمْ: أَبُو بَكْرٍ عَلَى السُّنَّهْ ... وَفَارُوقٌ فَتَى الْجَنَّهْ وَعُثْمَانُ بِهِ الْمِنَّهْ ... عَلِيٌّ حُبُّهُ جُنَّهْ. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا عَقِبَ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عُمَرَ تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ فِي الْمَنَامِ الَّذِي فِيهِ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ مَا نَصُّهُ: وَهُوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ. وَعَقِبَ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لَيْسَ قَائِلُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، بَلْ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ عَقِبَ آخِرِهَا: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مَقْبُولٍ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، يَعْنِي بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: وَاللَّهِ وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ، أَمَّا لَيْلَتُهُ فَذَكَرَ قِصَّةَ الْغَارِ، وَأَمَّا يَوْمُهُ فَذَكَرَ الرِّدَّةَ. وَثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ رَجُلٌ آخَرُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: ثُمَّ أَنْتَ يَا أَبَتِ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ أَبُو الْأَزْهَرِ: سَمِعْتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُولُ: أُفَضِّلُ الشَّيْخَيْنِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ إِيَّاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفَضِّلْهُمَا مَا فَضَّلْتُهُمَا، كَفَى بِي إِزْرَاءً أَنْ أُحِبَّ عَلِيًّا ثُمَّ أُخَالِفَ قَوْلَهُ. وَلَا يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيٌّ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» ) . وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ( «عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ» ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا» ) . فَمَا انْفَرَدَ بِهِ الصِّدِّيقُ أَعْلَى وَأَغْلَى وَأَشْمَلُ وَأَكْمَلُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ حَسْبَمَا أَوْرَدَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي (نَوَادِرَ الْأُصُولِ) لَهُ عَنْهُ، بَلْ أَوْرَدَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْعِلْمِ مِنَ (الْإِحْيَاءِ) مَرْفُوعًا: ( «مَا فَضَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا بِكَثْرَةِ صِيَامٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَفْرَدَ مَنَاقِبَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَمَنَاقِبَ أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ مِنْ تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ. وَلِأَبِي بَكْرٍ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 الْفِرْيَابِيِّ جُزْءٌ فِيهِ سَوَابِقُ الصِّدِّيقِ وَفَضَائِلُهُ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَمَرَ وَحْدَهُ أَبُو عُمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ ذِي زَيْلٍ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَمَنَاقِبَ عُثْمَانَ ابْنُ حَبِيبٍ. وَمَنَاقِبَ عَلِيٍّ النَّسَائِيُّ فِي (الْخَصَائِصِ) . وَمَنَاقِبَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ابْنُ زَنْجُوَيَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ، فِي الْآخَرِينَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ. وَفَضَائِلَ الْعَشَرَةِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَفَضَائِلَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَبَكْرٌ الْقَاضِي، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَبُو الْمُطَرِّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ فُطَيْسٍ قَاضِي قُرْطُبَةَ، وَهُوَ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ جُزْءًا حَدِيثِيَّةً. وَهَذَا بَابٌ لَا انْتِهَاءَ لَهُ. (فَـ) يَلِي الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ (السِّتَّةُ الْبَاقُونَ) مِنَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَهُمْ: طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ نَظَمَهُمْ شَيْخُنَا مَعَ الْأَرْبَعَةِ فِي بَيْتٍ مُفْرَدٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، فَقَالَ فِيمَا أَنْشَدَنِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ: لَقَدْ بَشَّرَ الْهَادِي مِنَ الصَّحْبِ زُمْرَةً ... بِجَنَّاتِ عَدْنٍ كُلُّهُمْ فَضْلُهُ اشْتَهَرْ سَعِيدٌ، زُبَيْرٌ، سَعْدٌ، طَلْحَةٌ، عَامِرٌ ... أَبُو بَكْرٍ، عُثْمَانُ، ابْنُ عَوْفٍ، عَلِيٌّ، عُمَرْ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ: خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ ... هُمُ الْعَشْرُ طُرًّا بُشِّرُوا بِجِنَانِ زُبَيْرٌ، وَطَلْحٌ، وَابْنُ عَوْفٍ، وَعَامِرٌ ... وَسَعْدَانِ وَالصِّهْرَانِ وَالْخَتَنَانِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ التَّمِيمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ: أَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقُونَ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ. (فَـ) يَلِيهِمِ الطَّائِفَةُ (الْبَدْرِيَّهْ) أَيْ: الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، فَالْمُهَاجِرُونَ نَيِّفٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 عَلَى سِتِّينَ، وَالْأَنْصَارُ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ وَمِائَتَانِ ; فَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ فِي بَعْضِ مَنْ شَهِدَهَا: (أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) ، فَدَمَعَتْ عَيْنُ عُمَرَ» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالتَّرَجِّي فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْوُقُوعِ. وَيَتَأَيَّدُ بِوُقُوعِهِ بِالْجَزْمِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ. . . . . وَذَكَرَهُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ( «لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا» ) . (فَـ) يَلِيهِمْ (أُحُدٌ) ; أَيْ: أَهْلُ أُحُدٍ الَّذِينَ شَهِدُوهَا. وَكَانُوا فِيمَا قَالَهُ عُرْوَةٌ حِينَ خُرُوجِهِمْ أَلْفًا، فَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثَلَاثِمِائَةٍ، وَبَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعُمِائَةٍ، اسْتُشْهِدَ مِنْهُمُ الْكَثِيرُ. (فَـ) يَلِيهِمْ (الْبَيْعَةُ الْمَرْضِيَّهْ) ; أَيْ: أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الْآيَةَ [الْفَتْحِ: 18] . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَاخِرِ خُطْبَةِ الِاسْتِيعَابِ: وَلَيْسَ فِي غَزَوَاتِهِ مَا يَعْدِلُ بِهَا - يَعْنِي بَدْرًا - فِي الْفَضْلِ وَيَقْرُبُ مِنْهَا إِلَّا غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ كَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ» ) . (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَفَضْلُ السَّابِقِينَ) الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ (قَدْ وَرَدْ) فِي الْقُرْآنِ إِيمَاءً لَا نَصًّا. نَعَمْ، النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي تَفْضِيلِ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّابِقِينَ (فَقِيلَ) كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: (هُمْ) ; أَيْ: الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، رَوَاهُ سُنَيْدٌ وَعَبْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ. (وَقِيلَ) كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: (بَدْرِيٌّ) ; أَيْ: أَهْلُ بَدْرٍ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُنَيْدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ إِلَيْهِمَا. (وَقَدْ قِيلَ: بَلَ اهْلُ) بِالنَّقْلِ (الْقِبْلَتَيْنِ) الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَيْهِمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَرَوَاهُ سُنَيْدٌ وَعَبْدٌ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ. وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ عَبْدٌ عَنْ قَتَادَةَ وَحْدَهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. بَلْ عَنِ الْحَسَنِ كَمَا رَوَاهُ سُنَيْدٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانَ إِسْلَامُهُمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَصَحَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا قَبْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الْفَتْحِ: 1] ; وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بِلَالٌ وَأَمْثَالُهُ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَبَّاسِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ التَّابِعِينَ لَهُ بِإِحْسَانٍ ; لِأَنَّهُ قَيَّدَ التَّابِعِينَ بِشَرْطِ الْإِحْسَانِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي زَمَانِهِ بِأَمْرِهِ، أَوْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِهِ، لَا يَعْدِلُهُ فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ بَعْدَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَلَكِنْ لَمْ يُوَافَقِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ بِلَالٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ: كَانَ الْعَبَّاسُ أَعْظَمَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالصَّحَابَةُ يَعْتَرِفُونَ لِلْعَبَّاسِ بِفَضْلِهِ، وَيُشَاوِرُونَهُ وَيَأْخُذُونَ بِرَأْيِهِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَاقِبِ الْمُفْرَدَةِ فِي عِدَّةِ تَآلِيفَ ; كَاسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، وَكَمْ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَآثِرَ حَسَنَةٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: (مَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 {وَالسَّابِقُونَ} [التوبة: 100] الْآيَةَ. فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: لَا تُفَارِقْنِي حَتَّى أَذْهَبَ بِكَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَأَنْتَ أَقْرَأْتَ هَذَا هَذِهِ الْآيَةَ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا. فَقَالَ أُبَيٌّ: تَصْدِيقُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] ، وَفِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] ، وَفِي الْأَنْفَالِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] الْآيَةَ. (وَ) الْعَاشِرَةُ: فِي أَوَّلِهِمْ إِسْلَامًا وَآخِرِهِمْ مَوْتًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَـ (اخْتُلِفْ أَيَّهُمُ) بِالنَّصْبِ (أَسْلَمَ قَبْلُ مِنْ سَلَفْ) ; أَيْ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي أَيِّ الصَّحَابَةِ أَوَّلُ إِسْلَامًا، عَلَى أَقْوَالٍ. (فَقِيلَ) كَمَا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ سَأَحْكِي عَنْهُ: (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ ; لِقَوْلِهِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ: (أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) . «وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ حِينَ سَأَلَهُ مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ: (حُرٌّ وَعَبْدٌ) ; يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا» . وَلِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا وَالثَّانِي وَالتَّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا وَلِقَوْلِ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُلُّ مُهَاجِرٍ ... سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِهِ غَيْرَ مُنْكَرِ سَبَقْتَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ شَاهِدٌ ... وَكُنْتَ جَلِيسًا فِي الْعَرِيشِ الْمُشْهَرِ (وَقِيلَ: بَلْ) أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا (عَلِي) بْنُ أَبِي طَالِبٍ ; لِقَوْلِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ: (اللَّهُمَّ لَا أَعْرِفُ عَبْدَكَ قَبْلِي غَيْرَ نَبِيِّكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - لَقَدْ صَلَّيْتُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ سَبْعًا) . وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَلِقَوْلِهِ مِمَّا أَنْشَدَهُ الْقُضَاعِيُّ: سَبَقْتُكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا ... صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلُمِي وَلِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَخَبَّابٍ وَخُزَيْمَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَفِيفٍ الْكِنْدِيِّ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي رَافِعٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فِي آخَرِينَ، مِنْهُمْ مُسْلِمٌ الْمُلَائِيُّ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيِّ لِخُزَيْمَةَ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ هَذَا الْأَمْرَ مُنْصَرِفًا ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنٍ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِهِمْ ... وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْفُرْقَانِ وَالسُّنَنِ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِبَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ التَّاهَرْتِيِّ: قُلْ لِابْنِ مُلْجِمٍ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... هَدَّمْتَ وَيْلَكَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانَا قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا وَإِيمَانَا وَأَنْشَدَ الْفَرْغَانِيُّ فِي الذَّيْلِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ يَذْكُرُ عَلِيًّا وَسَابِقَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ يُرْمَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 بِأَنَّهُ نَاصِبِيٌّ: فَأَوَّلُ مَنْ ضَلَّ فِي مَوْقِفٍ ... يُصَلِّي مَعَ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ (وَ) لَكِنْ (مُدَّعِي إِجْمَاعِهِ) ; أَيْ: الْإِجْمَاعِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ ; حَيْثُ قَالَ فِي (عُلُومِ الْحَدِيثِ) لَهُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِ التَّوَارِيخِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بُلُوغِ عَلِيٍّ، (لَمْ يُقْبَلِ) ، بَلِ اسْتُنْكِرَ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَوَّلِيَّةِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْحَاكِمَ قَالَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ ; لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ الْمَاضِي. (وَقِيلَ) حَسْبَمَا ذَكَرَهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا (زَيْدٌ) هُوَ ابْنُ حَارِثَةَ، (وَادَّعَى) حَالَ كَوْنِهِ (وِفَاقَا) ; أَيْ: مُوَافِقًا لِمَنْ سَبَقَهُ إِلَى مُطْلَقِ الْقَوْلِ بِهِ ; كَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ (الْمَغَازِي) . بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَائِشَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَنَافَعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (بَعْضٌ) ; كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالثَّعْلَبِيِّ، (عَلَى خَدِيجَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنَّهَا أَوَّلُ الْخَلْقِ إِسْلَامًا (اتِّفَاقَا) . زَادَ الثَّعْلَبِيُّ: وَإِنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَعْدَهَا. وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ عَلِيٍّ بَعْدَهَا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَوْنُهَا أَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْمُحَقِّقِينَ. وَجَمَعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 عَلِيًّا أَخْفَى إِسْلَامَهُ مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ إِسْلَامَهُ ; وَلِذَلِكَ شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي قَوْلِ عَمَّارٍ: ( «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ» ) ، مُرَادُهُ مِمَّنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ حِينَئِذٍ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَهُ مِنْ أَقَارِبِهِمْ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ خَدِيجَةُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ آمَنَ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ زَيْدٌ، فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ بَعْدَ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ عُثْمَانُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ، فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ الثَّمَانِيَةَ أَسْبَقُ النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ فِيمَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا بِلَالٌ ; لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ الْمَاضِي. وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ الصَّلَاحِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَالَ: وَالْأَوْرَعُ أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدٌ، وَمِنَ الْعَبِيدِ بِلَالٌ. وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ ; لِاجْتِمَاعِ الْأَقْوَالِ بِهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُبِقَ بِهِ مَا عَدَا بِلَالًا، فَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ إِسْحَاقَ ابْنَ رَاهَوَيْهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ: الْخَبَرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، أَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ فَخَدِيجَةُ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ فَأَبُو بَكْرٍ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي فَزَيْدٌ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ فَعَلِيٌّ. وَكَذَا جَاءَ بِدُونِهِ وَبِدُونِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 زَيْدٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ الْوَاعِظِ مِنْ تَارِيخِ نَيْسَابُورَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِسْهَرٍ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ. وَكَانَ الْبُرْهَانُ التَّنُوخِيُّ يَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَمِنْ غَيْرِ الْبَالِغِينَ عَلِيٌّ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فَعِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ عَلِيٍّ، لَكِنِّي كُنْتُ أَفْرَقُ أَبَا أُحَيْحَةَ، يَعْنِي وَالِدَهُ، وَكَانَ لَا يَفْرَقُ أَبَا طَالِبٍ. وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدٍ كَانَ مَعَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ. وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي (الْأَفْرَادِ) بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنَتِهِ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ: (أَبِي أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ) . لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: (كَانَ أَبِي خَامِسًا، سَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) . وَعَنْ بَعْضِهِمْ كَمَا حَكَاهُ الْمَسْعُودِيُّ: أَوَّلُهُمْ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِمَا قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ. لَكِنْ رَوَى الْبَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ أَسْلَمَ سَادِسَ سِتَّةٍ. وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ) لَهُ: أَوَّلُهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيُّ. وَيَحْتَاجُ هَذَا النَّقْلُ إِلَى تَحْرِيرٍ. وَنَقَلَ ابْنُ سَبُعٍ فِي الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: (كُنْتُ أَوَّلَهُمْ إِسْلَامًا) . وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ، لَكِنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي (التَّقْيِيدِ) : يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 الرِّجَالِ وَرَقَةُ، يَعْنِي بِنَاءً عَلَى ذِكْرِ ابْنِ مَنْدَهْ وَغَيْرِهِ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ. [مَنْ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا] 808 - وَمَاتَ آخِرًا بِغَيْرِ مِرْيَةِ ... أَبُو الطُّفَيْلِ مَاتَ عَامَ مِائَةِ 809 - وَقَبْلَهُ السَّائِبُ بِالْمَدِينَةِ ... أَوْ سَهْلٌ اوْ جَابِرٌ اوْ بِمَكَّةِ 810 - وَقِيلَ: الَاخِرُ بِهَا ابْنُ عُمَرَا ... إِنْ لَا أَبُو الطُّفَيْلِ فِيهَا قُبِرَا 811 - وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِالْبَصْرَةِ ... وَابْنُ أَبِي أَوْفَى قَضَى بِالْكُوفَةِ 812 - وَالشَّامِ فَابْنُ بُسْرٍ اوْ ذُو بَاهِلَهْ ... خُلْفٌ وَقِيلَ: بِدِمَشْقَ وَاثِلَهْ 813 - وَأَنَّ فِي حِمْصَ ابْنَ بُسْرٍ قُبِضَا ... وَأَنَّ بِالْجَزِيرَةِ الْعُرْسَ قَضَى 814 - وَبِفِلَسْطِينَ أَبُو أُبَيِّ ... وَمِصْرَ فَابْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْيِ 815 - وَقُبِضَ الْهِرْمَاسُ بِالْيَمَامَةِ ... وَقَبْلَهُ رُوَيْفِعٌ بِبَرْقَةِ 816 - وَقِيلَ إِفْرِيقِيَةٍ وَسَلَمَهْ ... بَادِيًا اوْ بِطَيْبَةَ الْمُكَرَّمَهْ [مَنْ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا] (وَ) أَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَـ ( مَاتَ) مِنْهُمْ (آخِرًا) عَلَى الْإِطْلَاقِ (بِغَيْرِ مِرْيَةِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا ; أَيْ: شَكٍّ، (أَبُو الطُّفَيْلِ) عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ، كَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ حَيْثُ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ رَآهُ غَيْرِي) . وَبِذَلِكَ جَزَمَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ وَخَلْقٌ، بَلْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَمِمَّنَ جَزَمَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَإِنَّهُ (مَاتَ عَامَ مِائَةِ) ; أَيْ: مِنَ الْهِجْرَةِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لَكِنْ قَالَ خَلِيفَةُ: إِنَّهُ مَاتَ بَعْدَ سَنَةِ مِائَةٍ. وَعَنِ ابْنِ الْبَرْقِيِّ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ. وَعَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ: سَنَةَ سَبْعٍ. وَبِهِ جَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: سَنَةَ عَشْرٍ. وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ فِي (الْوَفَيَاتِ) ، وَشَيْخُنَا فِي تَرْجَمَةِ عِكْرَاشٍ مِنْ (التَّهْذِيبِ) . وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 حِبَّانَ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ. بَلْ هُوَ آخِرُ الْمِائَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَاخِرِ عُمُرِهِ كَمَا صَحَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ( «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي السَّمَرِ فِي الْخَبَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ، فِي السَّمَرِ أَيْضًا مِنَ الْعِلْمِ، وَبِهِ تَمَسَّكَ هُوَ وَغَيْرُهُ لِلْقَوْلِ بِمَوْتِ الْخَضِرِ. لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ. وَأَجَابُوا عَنْهُ أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ حِينَئِذٍ مِنْ سَاكِنِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَبْقَى مِمَّنْ تَرَوْنَهُ أَوْ تَعْرِفُونَهُ، فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَقَالُوا أَيْضًا: خَرَجَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا ; لِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ غَيْرُ هَذَا الْمَحَلِّ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكَوَائِنِ بَعْدَهُ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي (الْمَعَارِفِ) ، وَابْنُ دُرَيْدٍ فِي الِاشْتِقَاقِ مَنْ أَنَّ عِكْرَاشَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ فِي الصَّحَابَةِ، شَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ عَائِشَةَ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: كَأَنَّكُمْ بِهِ وَقَدْ أُتِيَ بِهِ قَتِيلًا أَوْ بِهِ جِرَاحَةٌ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ: فَضُرِبَ ضَرْبَةً عَلَى أَنْفِهِ عَاشَ بَعْدَهَا مِائَةَ سَنَةٍ، أَوْ أَثَرُ الضَّرْبَةِ بِهِ. فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إِنْ صَحَّتْ مَعَ انْقِطَاعِهَا حُمِلَتْ عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلَ الْمِائَةَ مِنْ عُمُرِهِ، لَا أَنَّهُ اسْتَأْنَفَهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَإِلَّا لَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَاشَ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ مُحَالٌ ; إِذِ الْمُحَدِّثُونَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا. وَسَبَقَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 شَيْخُهُ الْمُصَنِّفُ لِنَحْوِهِ فَقَالَ: وَهَذَا إِمَّا بَاطِلٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ. وَكَذَا تَوَقَّفَ الْبُلْقِينِيُّ فِي صِحَّتِهِ. نَعَمْ، اسْتَدْرَكَ هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِآخِرِيَّةِ أَبِي الطُّفَيْلِ نَافِعَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْعَبْدِيَّ ; فَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ بِحَلَبٍ قَالَ: «قَالَ لِي أَبِي: وَفَدَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى أَتَى مَدِينَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أُنَاسٌ، وَأَنَا غُلَيْمٌ لَا أَعْقِلُ، أُمْسِكُ جِمَالَهُمْ، فَذَهَبُوا بِسِلَاحِهِمْ فَسَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَضَعَ الْمُنْذِرُ سِلَاحَهُ وَلَبِسَ ثِيَابًا كَانَتْ مَعَهُ، وَمَسَحَ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ، فَأَتَى نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَا مَعَ الْجِمَالِ أَنْظُرُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ لَمْ أَعْقِلْ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رَأَيْتُ مِنْكَ مَا لَمْ أَرَ مِنْ أَصْحَابِكَ) ، فَقُلْتُ: أَشَيْءٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ أَمْ أَحْدَثْتُهُ؟ قَالَ: (لَا، بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِ) . فَلَمَّا أَسْلَمُوا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَسْلَمَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ طَوْعًا، وَأَسْلَمَ النَّاسُ كَرْهًا) » . قَالَ سُلَيْمَانُ: وَعَاشَ أَبِي مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ وَابْنُ قَانِعٍ، جَمِيعًا عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ عَنْ إِسْحَاقَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ بِشْرَانَ فِي أَمَالِيهِ عَنْ دَعْلَجٍ عَنْ مُوسَى. وَقَالَ مُوسَى: لَيْسَ عِنْدَ إِسْحَاقَ أَعْلَى مِنْ هَذَا. انْتَهَى. لَكِنْ قَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا سُلَيْمَانَ فِي كِتَابِهِ فِي (الضُّعَفَاءِ) ، وَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا، قَالَ: وَإِنْ صَحَّ يَكُونُ نَافِعٌ قَدْ عَاشَ إِلَى دَوْلَةِ هِشَامٍ، إِلَّا أَنِّي أَظُنُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَهِمَ فِي سِنِّ أَبِيهِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَبْقَى أَحَدٌ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَالْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا لِلْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى مَعْرُوفَةٌ لِلْأَشَجِّ، وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ. قَالَ: وَأَظُنُّ سُلَيْمَانَ وَهِمَ فِي ذِكْرِ سِنِّ أَبِيهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غُلَامًا سَنَةَ الْوُفُودِ، وَعَاشَ هَذَا الْقَدْرَ، لَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَعَلَّهُ قَالَ: عَاشَ مِائَةً وَعَشْرًا ; لِأَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْتًا، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي وَفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ: إِنَّهَا سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ: (لَا «يَبْقَى بَعَدَ مِائَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» ) . وَأَرَادَ بِذَلِكَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ، فَكَانَ كَذَلِكَ. قُلْتُ: وَدَعْوَى مَنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ أَوِ ادُّعِيَتْ لَهُ بَعْدَ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَهُمْ جُبَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ مَحْمُودٍ الْمَارِدِينِيُّ، وَرَتَنٌ وَسَرَبَاتِكُ الْهِنْدِيَّانِ، وَمَعْمَرٌ، وَنُسْطُورٌ أَوْ جَعْفَرُ بْنُ نُسْطُورٍ الرُّومِيُّ، وَيُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، الَّذِينَ كَانَ آخِرَهُمْ رَتَنٌ ; فَإِنَّهُ فِيمَا قِيلَ: مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ - بَاطِلَةٌ. وَالْكَلَامُ فِي شَأْنِهِمْ مَبْسُوطٌ فِي (لِسَانِ الْمِيزَانِ) لِشَيْخِنَا، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ تَصَانِيفِهِ. بَلْ قَالَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ طُرُقِ الْمُصَافَحَةِ إِلَى الْمُعَمَّرِ مَا نَصُّهُ: لَا يَخْلُو طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْمُعَمَّرِ عَنْ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ حَتَّى الْمُعَمَّرِ] نَفْسِهِ ; فَإِنَّ مَنْ يَدَّعِي هَذِهِ الرُّتْبَةَ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، وَإِمْكَانُ ثُبُوتِ ذَلِكَ عِنَادٌ لَا يُفِيدُ مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِنَفْيِهِ ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ بِانْخِرَامِ قَرْنِهِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ مَقَالَتِهِ. فَمَنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِطْرِيقٍ يَنْقَطِعُ الْعُذْرُ بِهَا، وَيُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَمِمَّا اسْتَظَهَرَ بِهِ ابْنُ الْجَزَرِيِّ لِبُطْلَانِ الدَّعْوَى فِي هَؤُلَاءِ كَوْنُ الْأَئِمَّةِ ; كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَعَبْدٍ، مِمَّنْ رَحَلَ الْأَقْطَارَ، وَجَابَ الْأَمْصَارَ، وَحَرَصَ عَلَى الْإِسْنَادِ الْعَالِي، أَعْلَى مَا عِنْدَهُمُ الثُّلَاثِيَّاتُ مَعَ قِلَّتِهَا جِدًّا ; إِذْ خَفَاءُ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِهِمْ بَعِيدٌ مَعَ تَوَفُّرِ الْهِمَمِ عَلَى نَقْلِهِ. وَبَيَّنَ أَنَّ ظُهُورَ الْمُسَمَّى بِمُعَمَّرٍ الْمَغْرِبِيِّ الْمُدَّعَى فِيهِ الصُّحْبَةُ وَمُصَافَحَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ، وَقَوْلُهُ لَهُ: (عَمَّرَكَ اللَّهُ) ، كَانَ فِي حُدُودِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 السَّبْعِمِائَةِ أَوْ بَعْدَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ، لَا يُشْتَغَلُ بِحَدِيثِهِمْ وَلَا بِأَمْثَالِهِمْ. (وَ) أَمَّا آخِرُهُمْ مَوْتًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوَاحِي، فَمَاتَ (قَبْلَهُ) ; أَيْ: قَبْلَ أَبِي الطُّفَيْلِ ; إِمَّا (السَّائِبُ) بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ (بِالْمَدِينَةِ) النَّبَوِيَّةِ، (أَوْ سَهْلٌ) ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، (اوْ جَابِرٌ) بِالنَّقْلِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ ; أَيْ: فِيهَا، كَمَا قِيلَ بِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَجَزَمَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي الثَّانِي ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْوَاقِدِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ قَانِعٍ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ سَعْدٍ، وَادَّعَى نَفْيَ الْخِلَافِ فِيهِ فَقَالَ: لَيْسَ بَيْنَنَا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، بَلْ أَطْلَقَ أَبُو حَازِمٍ أَنَّهُ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ سَهْلٍ نَفْسِهِ: لَوْ مِتُّ لَمْ تَسْمَعُوا أَحَدًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً ; يَعْنِي مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَأْوِيلٍ أَيْضًا. وَفِي الثَّالِثِ أَبُو نُعَيْمٍ وَقَتَادَةُ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَصَدَّرَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ فِي وَفَيَاتِهِمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقِيلَ: إِنَّهَا سَنَةَ ثَمَانِينَ أَوْ بَعْدَهَا بِاثْنَتَيْنِ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَوْ بِسِتٍّ أَوْ بِثَمَانٍ. وَقَالَ الْجَعْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْفَلَّاسُ وَالْوَاقِدِيُّ: سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ. وَيَتَأَيَّدُ بِذِكْرِ الْبُخَارِيِّ لَهُ: فَصْلُ مَنْ مَاتَ مَا بَيْنَ التِّسْعِينَ إِلَى الْمِائَةِ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ إِمَّا فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَثَبَتَ قَوْلُهُ: حُجَّ بِي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ سَبْعٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وَأَمَّا الثَّانِي، فَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ. وَقِيلَ: إِحْدَى وَتِسْعِينَ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَالْمَدَائِنِيُّ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ زَبْرٍ وَابْنُ حِبَّانَ. لَكِنْ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ مَوْلِدَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ أَوْ بَعْدَهَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ: إِنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: سِتًّا وَتِسْعِينَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ، فَمَاتَ قَبْلَ الثَّمَانِينَ. قِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَبْرٍ. أَوْ ثَلَاثٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ. أَوْ أَرْبَعٍ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ. أَوْ سَبْعٍ، كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ وَأَبُو نُعَيْمٍ. أَوْ ثَمَانٍ، كَمَا قَالَهُ خَلْقٌ ; مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَالْفَلَّاسُ. أَوْ تِسْعٍ، كَمَا قَالَهُ خَلِيفَةُ فِي رِوَايَةٍ وَغَيْرُهُ. كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ السَّبْعِينَ، وَكُلُّهُمْ أَبْنَاءُ صَحَابَةٍ أَيْضًا. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الثَّانِيَ آخِرُهُمْ، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي كَوْنِ وَفَاةِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَدِينَةِ. فَأَمَّا أَوَّلُهُمَا، فَقِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ مَاتَ بِإِسْكَنْدَرِيَّةَ أَوْ مِصْرَ. وَلَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا: الْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ وَلَدُهُ عَبَّاسٌ، فَلَعَلَّهُ اشْتَبَهُ عَلَى حَاكِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 وَأَمَّا ثَانِيهِمَا، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِقُبَاءٍ (اوْ بِمَكَّةِ) بِالنَّقْلِ مَعَ الصَّرْفِ ; لِلضَّرُورَةِ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَإِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا. وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَكَذَا قَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَشْهَلِيُّ إِنْ مَشَيْنَا عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ بِصُحْبَتِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَدَّهُ مُسْلِمٌ وَجَمَاعَةٌ فِي التَّابِعِينَ. وَمَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الَّذِي عَقَلَ مَجَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ. فَأَمَّا أَوَّلُهُمَا، فَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَأَمَّا ثَانِيهِمَا، فَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. (وَقِيلَ: الَاخِرُ) بِالنَّقْلِ مَوْتًا (بِهَا) ; أَيْ: بِمَكَّةَ بَعْدَ مَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي جَابِرٍ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِمَكَّةَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْآخِرَ بِهَا، (ابْنُ عُمَرَا) عَبْدُ اللَّهِ، فِيمَا قَالَهُ قَتَادَةُ، وَأَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (التَّلْقِيحِ) . وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُ. وَالْخِلَافُ فِيهِ أَيْضًا يَنْشَأُ عَنْهُ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ أَوْ ثَلَاثٍ، وَجَزَمَ بِهِ أَحْمَدُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَالْجُمْهُورُ. أَوْ أَرْبَعٍ، وَبِهِ جَزَمَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَخَلِيفَةُ وَالْوَاقِدِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ زَبْرٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ أُثْبِتَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ دَفْنِهِ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُهُ سَالِمٌ: بِفَخٍّ، بِالْفَاءِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ فِيمَا قِيلَ وَادِي الظَّاهِرِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ زَبْرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: بِذِي طُوًى ; يَعْنِي بِمَقْبَرَةِ الْمُهَاجِرِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بِالْمُحَصَّبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِالْمَقْبَرَةِ الْعُلْيَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ، كَمَا فِي تَارِيخِ الْأَزْرَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّهُ بِالْجَبَلِ الَّذِي بِالْمَعْلَاةِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنَ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِيهِ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. (إِنْ لَا) ; أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ، (أَبُو الطُّفَيْلِ) الْمَاضِي أَوَّلًا (فِيهَا) ; أَيْ: فِي مَكَّةَ، قَدْ (قُبِرَا) . وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ قُبِرَ بِهَا كَمَا قَدَّمْتُهُ. (وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الْآخِرُ مَوْتًا (بِالْبَصْرَةِ) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْكَسْرُ أَصَحُّهَا فِيمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَأَبُو هِلَالٍ وَالْفَلَّاسُ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو زَكَرِيَّا ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ أَوْ إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالذَّهَبِيُّ. وَالَّذِي قَبِلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ: أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ عَنْ مِائَةٍ وَنَيِّفٍ. بَلْ قِيلَ: وَعَشْرٍ، وَهُوَ عَجِيبٌ. وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي سِنِّهِ إِذْ قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ: عَشْرُ سِنِينَ. وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي وَفَاتِهِ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. فَعَلَى هَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ عُمُرُهُ مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثَ سِنِينَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ، فَقَالَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَوْلُ حُمَيْدٍ، وَكَذَا الْوَاقِدِيُّ: مِائَةٍ إِلَّا سَنَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ شَاذٌّ مَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مَاتَ بَعْدَهُ مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 أَبَا الطُّفَيْلِ. وَانْتُقِدَ بِمَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ كَمَا تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِ عَبْدِ الصَّمَدِ. وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُ أَنَسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَأَنْتَ آخِرُ الصَّحَابَةِ؟ : قَدْ بَقِيَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَا آخِرُهُمْ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بِخُصُوصِهِ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِحَمْلِهِ عَلَى صُحْبَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ إِنَّهُ ذَكَرَ مَا عَلِمَهُ، كَمَا يُجَابُ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ. (وَابْنُ أَبِي أَوْفَى) ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْأَسْلَمِيُّ، (قَضَى) ; أَيْ: مَاتَ خَاتِمَتَهُمْ، (بِالْكُوفَةِ) فِيمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالْفَلَّاسُ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ زَبْرٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (التَّلْقِيحِ) . وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ. وَقِيلَ: بَلْ آخِرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; فَإِنَّ وَفَاةَ أَبِي جُحَيْفَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. نَعَمْ، عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَهُوَ قَدْ مَاتَ بِهَا، قَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي (الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ) لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ. فَعَلَى هَذَا هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا. وَلَكِنْ تَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي كَوْنِهَا بِتَقْدِيمِ التَّاءِ الْفَوْقَانِيَّةِ عَلَى السِّينِ، وَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّهُ بِتَقْدِيمِ السِّينِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ، لَا سِيَّمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وَقَدْ حَكَاهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ كَذَلِكَ فِي تَارِيخِهِ. وَكَذَا جَزَمَ شَيْخُنَا فِي (الْإِصَابَةِ) بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ. وَحِينَئِذٍ فَابْنُ أَبِي أَوْفَى بَعْدَهُ، وَكَذَا يَكُونُ بَعْدَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عَمْرًا مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ; كَابْنِ حِبَّانَ، فِي ثِقَاتِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا بِمَكَّةَ. وَبِكُلِّ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي أَوْفَى آخِرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، بَلْ هُوَ آخِرُ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَفَاةً. (وَ) أَمَّا الْآخِرُ مِنْهُمْ مَوْتًا بِـ (الشَّامِ) بِفَتْحِ الشِّينِ ثُمَّ أَلِفٍ ; إِمَّا مَعَ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ أَوْ بِدُونِهَا عَلَى لُغَتَيْنِ مِنْ لُغَاتِهَا، بِأَسْرِهَا، (فَـ) إِمَّا (ابْنُ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَازِنِيُّ، (اوْ ذُو بَاهِلَهْ) ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيُّ، (خُلْفٌ) ; أَيْ: فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ. فَالْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ الْأَحْوَصُ بْنُ حَكِيمٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَابْنُ سَعْدٍ تَبَعًا لِلْوَاقِدِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ. وَبِالثَّانِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ فِي الْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي (تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ) : قَالَ عَلِيٌّ ; يَعْنِي ابْنَ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ: قُلْتُ لِلْأَحْوَصِ: كَانَ أَبُو أُمَامَةَ آخِرَ مَنْ مَاتَ عِنْدَكُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: كَانَ بَعْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ قَدْ رَأَيْتُهُ. وَالْخِلَافِيَّةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا فِي وَفَيَاتَيْهِمَا، فَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَتِسْعِينَ. قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ سَعِيدٍ الْحِمْصِيُّ الْقَاضِي، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ وَقَالَ: إِنَّهُ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ. فَعَلَى هَذَا هُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ، وَإِنَّهُ مَاتَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْمَعْرِفَةِ) ، وَسَاقَ فِي تَرْجَمَتِهِ حَدِيثَ: «وَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: (يَعِيشُ هَذَا الْغُلَامُ قَرْنًا) » ، فَعَاشَ مِائَةً. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: إِنَّهَا قَبْلَ سَنَةِ مِائَةٍ. وَقِيلَ فِي الثَّانِي: إِنَّهَا سَنَةَ إِحْدَى أَوْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَالثَّانِي أَشْبَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 قَالَهُ الْفَلَّاسُ وَالْمَدَائِنِيُّ وَخَلِيفَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ. بَلْ عَيَّنَ قَتَادَةُ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ - كَمَا سَيَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ - لِوَفَاةِ أَوَّلِهِمَا حِمْصَ. وَكَذَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: وَقَبْرُهُ فِي قَرْيَةِ تَنْوِينَةَ. (وَقِيلَ) مِمَّا سُلِكَ فِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي تَفْضِيلِ نَوَاحٍ مِنَ الشَّامِ، وَهِيَ دِمَشْقُ وَحِمْصُ وَالْجَزِيرَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ: إِنَّ آخِرَهُمْ مَوْتًا (بِدِمَشْقَ وَاثِلَهْ) ، هُوَ ابْنُ الْأَسْقَعِ، فِيمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ. وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ. وَلَكِنْ فِي كَوْنِهِ مَاتَ بِدِمَشْقَ اخْتِلَافٌ، فَالْقَائِلُ بِهِ مَعَ هَذَيْنَ دُحَيْمٌ، وَأَمَّا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فَقَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ قَانِعٍ: بِحِمْصَ. وَكَذَا اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي وَقْتِهِ، فَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. قِيلَ: وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَخَمْسِ سِنِينَ. (وَأَنَّ فِي حِمْصَ) كَمَا قِيلَ (ابْنُ بُسْرٍ) الْمَاضِيَ كَمَا سَبَقَ (قُبِضَا) آخِرَهُمْ، وَ (أَنَّ بِالْجَزِيرَةِ) الَّتِي بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ كَمَا قِيلَ أَيْضًا (الْعُرْسُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، ابْنُ عَمِيرَةَ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ - الْكِنْدِيَّ، أَحَدُ مَنْ نَزَلَ الشَّامَ، (قَضَى) أَوْ مَضَى ; أَيْ: مَاتَ آخِرَهُمْ فِيمَا قَالَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ. لَكِنْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجِعَابِيُّ: إِنَّ آخِرَ الصَّحَابَةِ مَوْتًا بِالْجَزِيرَةِ وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَهَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ: قُبِرَ وَابِصَةُ عِنْدَ مَنَارَةِ جَامِعِ الرَّقَّةِ ; إِذِ الرَّقَّةُ عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ الشَّمَالِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 الشَّرْقِيِّ، وَهِيَ قَاعِدَةُ دِيَارِ مُضَرَ مِنَ الْجَزِيرَةِ، كَمَا أَنَّ حَرَّانَ أَيْضًا مِنْ دِيَارِ مُضَرَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الْآخِرُ. (وَ) إِنَّ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِيمَا قِيلَ أَيْضًا (بِفِلَسْطِينَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، نَاحِيَةٌ كَبِيرَةٌ وَرَاءَ الْأُرْدُنِّ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فِيهَا عِدَّةُ مُدُنٍ، مِنْهَا: الْقُدْسُ وَالرَّمْلَةُ وَعَسْقَلَانُ وَغَيْرُهَا. وَالْمُرَادُ هُنَا أَوَّلُهَا، (أَبُو أُبَيِّ) فِيمَا قَالَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ ثُمَّ الدِّمْيَاطِيُّ فِي (أَرْبَعِينِهِ الْكُبْرَى) ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُصَغَّرٌ، أَنْصَارِيٌّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أُمِّ حَرَامٍ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَهِيَ خَالَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَامْرَأَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَفِي اسْمِ أَبِيهِ اخْتِلَافٌ، قِيلَ: عَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَخَلِيفَةُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقِيلَ: أُبَيٌّ. وَقِيلَ: كَعْبٌ. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ وَفَاتِهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ بِهِ ابْنُ سُمَيْعٍ. وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ شَدَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ يَسْكُنُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: بِدِمَشْقَ. فَفِي مَقْبَرَةِ الْبَابِ الصَّغِيرِ مِنْهَا خَارِجَ الْحَظِيرَةِ قَبْرٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ الْقَدِيمِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا قَبْرُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أُمِّ حَرَامٍ، يُكَنَّى أَبَا الْبَرَاءِ، ابْنِ امْرَأَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَبِأَنَّهُ مَاتَ بِدِمَشْقَ. جَزَمَ الْكَتَّانِيُّ، وَأَرَى قَبْرَهُ لِلْأَكْفَانِيِّ. فَإِنْ صَحَّ فَيَكُونُ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِفِلَسْطِينَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ; فَقَدْ حَكَى أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ بَعْضِ وَلَدِ سَعْدٍ، أَنَّ قَيْسًا تُوُفِّيَ بِفِلَسْطِينَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ فِي وِلَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، قَالَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَالْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُهُمْ. بَلْ رَأَيْتُ فِي ثِقَاتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 ابْنِ حِبَّانَ مِمَّا حَكَاهُ شَيْخُنَا أَيْضًا أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَسَكَنَ تَفْلِيسَ، يَعْنِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ ثُمَّ فَاءٍ، وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ، أَحَدُ بِلَادِ آذَرْبِيجَانَ مِمَّا يَلِي الثَّغْرَ، وَمَاتَ بِهَا فِي وِلَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَعَلَّ أَحَدَهُمَا تَصَحَّفَ. (وَ) أَمَّا الْآخِرُ مِنْهُمْ مَوْتًا بِـ (مِصْرَ فَابْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْيِ) ; أَيْ: بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً لِلضَّرُورَةِ ; فَإِنَّهُ جَزْءٌ، وَهُوَ الزُّبَيْدِيُّ بِضَمِّ الزَّاءِ، مُصَغَّرٌ، نِسْبَةً لِزُبَيْدٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَكَوْنُ مَوْتِهِ بِمِصْرَ وَأَنَّهُ آخِرُهُمْ قَالَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (تَلْقِيحِهِ) . وَكَذَا أَطْلَقَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ مَاتَ بِمِصْرَ. وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ مَاتَ بِسَفْطِ الْقُدُورِ، وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ الْيَوْمَ بِسَفْطِ أَبِي تُرَابٍ مِنَ الْغَرْبِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ سَمَنُّودَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْيَمَامَةِ. حَكَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ عَنِ ابْنِ يُونُسَ، أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ خَبْطٌ فَاحِشٌ، قَالَ: وَأَظُنُّهُ عَمَّهُ مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ. وَكَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا. فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ آخِرُ الْبَدْرِيِّينَ مَوْتًا. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ. (وَقُبِضَ الْهِرْمَاسُ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مِيمٍ مَفْتُوحَةٍ، وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ، ابْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ، آخِرُهُمْ (بِالْيَمَامَةِ) فِيمَا قَالَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ. وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ أَنَّهُ لَقِيَهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ. (وَ) قُبِضَ (قَبْلَهُ رُوَيْفِعٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 ابْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ (بِبَرْقَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الثَّانِيَةِ وَبِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فِيمَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ قَبْرَهُ بِهَا، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ يُونُسَ: إِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا لِمَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ، وَإِنَّ قَبْرَهُ مَعْرُوفٌ بِبَرْقَةَ إِلَى الْيَوْمِ. وَعَيَّنَ وَفَاتَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. (وَقِيلَ) : إِنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ بِـ (إِفْرِيقِيَةٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ يَاءٍ سَاكِنَةٍ، بَعْدَهَا قَافٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ يَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ وَبِالصَّرْفِ أَيْضًا، مِنَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا، فِيمَا قَالَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ. وَكَذَا صَحَّحَ الْمِزِّيُّ الْأَوَّلَ، وَوَقَعَ لَهُ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ ابْنِ يُونُسَ فِي وَفَاتِهِ سَهْوٌ، تَبِعَهُ عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي (الْإِصَابَةِ وَالتَّهْذِيبِ) ، وَمِنْ قَبْلِهِ الذَّهَبِيُّ، وَالَّذِي فِي ابْنِ يُونُسَ مَا قَدَّمْتُهُ. وَفِي مَحَلِّ وَفَاتِهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَإِنَّهُ أَنْطَابُلُسُ، قَالَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ كَوْنُ مُعَاوِيَةَ وَلَّاهُ طَرَابُلُسَ الْمَغْرِبِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، فَغَزَا إِفْرِيقِيَةَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَدَخَلَهَا ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ بِالشَّامِ. (وَ) قُبِضَ (سَلَمَهْ) بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ إِمَّا (بَادِيًا) ; أَيْ: بِالْبَادِيَةِ، فَهُوَ آخِرُهُمْ بِهَا، قَالَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ، (اوْ بِطَيْبَةَ) ; أَيْ: الْمَدِينَةِ، (الْمُكَرَّمَهْ) بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِيمَا قَالَهُ ابْنُهُ إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّا هُوَ فِي جُزْءِ أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ مَنْدَهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، أَنَّ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بِخُرَاسَانَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ. قُلْتُ: وَكَانَ قَدْ غَزَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 إِلَيْهَا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى مَرْوَ فَسَكَنَهَا حَتَّى مَاتَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَحِينَئِذٍ فَقَدْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ أَبُو بَرْزَةَ نَضْلَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَسْلَمِيُّ ; لِقَوْلِ خَلِيفَةَ: إِنَّهُ مَاتَ بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَحَقَّقَ شَيْخُنَا أَنَّهُ كَانَ حَيًّا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ بِخُرَاسَانَ فَمَاتَ بِهَا. قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ بِالنَّهْرَوَانِ، وَغَزَا بَعْدَ ذَلِكَ خُرَاسَانَ فَمَاتَ بِهَا. وَكَذَا جَزَمَ خَلِيفَةُ وَالْوَاقِدِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ بِأَنَّهُ مَاتَ بِهَا. لَكِنْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ الْمَرْوَزِيُّ: قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِنَيْسَابُورَ. وَقِيلَ: بِالْبَصْرَةِ. وَقِيلَ: بِمَفَازَةٍ بَيْنَ سِجِسْتَانَ وَهَرَاةَ. حَكَاهُ الْحَاكِمُ فِي (تَارِيخِ نَيْسَابُورَ) . وَبِالرُّخْجِ، وَهِيَ بِضَمِّ الرَّاءِ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، مِنْ أَعْمَالِ سَجِسْتَانَ، الْعَدَّاءُ - بِوَزْنِ الْعَطَّارِ - بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْعَامِرِيُّ. قَالَ شَيْخُنَا: وَكَأَنَّهُ عُمِّرَ ; فَإِنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَاشَ إِلَى زَمَنِ خُرُوجِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ. وَقَالَ: إِنَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْطَعَهُ مِيَاهًا كَانَتْ لِبَنِي عَامِرٍ يُقَالُ لَهَا: الرُّخَيْخُ، بِخَائَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِهَا. وَمِمَّا لَيْسَ فِي الْجُزْءِ أَيْضًا أَنَّ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِأَصْبَهَانَ مِنْهُمُ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 فَقَدْ ذَكَرَ وَفَاتَهُ بِهَا أَبُو الشَّيْخِ فِي (طَبَقَاتِ الْأَصْبَهَانِيِّينَ) ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (تَارِيخِ أَصْبَهَانَ) بَعْدَ أَنْ عُمِّرَ طَوِيلًا. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ سَيَّرَهُ إِلَيْهَا. وَبِالطَّائِفِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ زُرْتُهُ. وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا: آخِرُ مَنْ مَاتَ بِسَمَرْقَنْدَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ شَهِيدًا، وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: بَلْ بِمَرْوَ. وَبِوَاسِطٍ لُبَيٌّ بِلَامٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، ابْنُ لَبَى بِمُوَحَّدَةٍ خَفِيفَةٍ وَزْنُ عَصًى عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِيهِمَا كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ يَكُونُ بِهَا، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجِعَابِيُّ فِي (تَارِيخِ الطَّالِبِيِّينَ) . وَقَدْ جَمَعَ الصَّغَانِيُّ اللُّغَوِيُّ جُزْءًا فِيمَنْ عُرِفَ أَمْكِنَةُ وَفَاتِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، سَمَّاهُ (دَرَّ السَّحَابَةِ) ، وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ. وَاخْتَصَرَهُ خَطِيبَ دَارَيَّا، وَفِيهِمَا فَوَائِدُ مَعَ احْتِيَاجِهِمَا إِلَى تَنْقِيبٍ. وَمِمَّا يُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ بِقَيْدِ الْأَنْصَارِ أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ، فِيمَا قَالَهُ الْمَدَايِنِيُّ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ. أَوْ أَبُو الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، فِيمَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَآخِرُهُمْ بِقَيْدِ الْمُهَاجِرِينَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ أَيْضًا آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا. وَآخِرُ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مَوْتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى. وَآخِرُ مَنْ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ مَوْتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ. وَآخِرُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مَوْتًا فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ جَابِرٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 وَآخِرُ مَوَالِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْتًا سَفِينَةُ. وَآخِرُ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْتًا مَيْمُونَةُ فِيمَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: أُمُّ سَلَمَةَ، كَمَا رَوَاهُ يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يُقَوِّيهِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَزَعَمَ أَنَّ صَفِيَّةَ آخِرُ الزَّوْجَاتِ مَوْتًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. [مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ] [تَعْرِيفُ التَّابِعِيِّ] مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ 817 - وَالتَّابِعُ اللَّاقِي لِمَنْ قَدْ صَحِبَا ... وَلِلْخَطِيبِ حَدُّهُ أَنْ يَصْحَبَا 818 - وَهُمْ طِبَاقٌ، قِيلَ: خَمْسَ عَشِرَهْ ... أَوَّلُهُمْ رُوَاةُ كُلِّ الْعَشَرَهْ 819 - وَقَيْسٌ الْفَرْدُ بِهَذَا الْوَصْفِ ... وَقِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَوْفِ 820 - وَقَوْلُ مَنْ عَدَّ سَعِيدًا فَغَلَطْ ... بَلْ قِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ سِوَى سَعْدٍ فَقَطْ 821 - لَكِنَّهُ الْأَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَا ... وَعَنْهُ قَيْسٌ وَسِوَاهُ وَرَدَا 822 - 822 - وَفَضَّلَ الْحَسَنَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ ... وَالْقَرَنِي أُوَيْسًا اهْلُ الْكُوفَةِ 823 - وَفِي نِسَاءِ التَّابِعِينَ الْأَبْدَا ... حَفْصَةُ مَعْ عَمْرَةَ أُمِّ الدَّرْدَا 824 - وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَهْ ... خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَهْ 825 - ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللَّهِ ... سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ 826 - إِمَّا أَبُو سَلَمَةَ اوْ سَالِمُ ... أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمٌ 827 - الْمُدْرِكُونَ جَاهِلِيَّةً فَسَمْ ... مُخَضْرَمِينَ كَسُوَيْدٍ فِي أُمَمْ 828 - وَقَدْ يُعَدُّ فِي الطِّبَاقِ التَّابِعُ ... فِي تَابِعِيهِمْ إِذْ يَكُونُ الشَّائِعُ 829 - الْحَمْلُ عَنْهُمْ كَأَبِي الزِّنَادِ ... وَالْعَكْسُ جَاءَ وَهْوَ ذُو فَسَادِ 830 - وَقَدْ يُعَدُّ تَابِعِيًّا صَاحِبُ ... كَابْنَيْ مُقَرِّنٍ وَمَنْ يُقَارِبُ (مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ) ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، أَصْلُهُ عَظِيمٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمُرْسَلِ وَالْمُتَّصِلِ ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وَلِذَا قَالَ الْحَاكِمُ: وَمَهْمَا غَفَلَ الْإِنْسَانُ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَمِنْ مَظَانِّهِمِ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا عَلَى التَّوَالِي (الطَّبَقَاتُ) لِمُسْلِمٍ، وَلِابْنِ سَعْدٍ، وَلِخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَرْقِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سُمَيْعٍ. بَلْ أَفْرَدَهُمْ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ بِالتَّأْلِيفِ، وَغَيْرِهَا. وَكَانَ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ فِي عَدَدٍ تَقْرِيبِيٍّ بِالنَّظَرِ لِمَا فِي كُتُبِ الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْجَدْوَى. [تَعْرِيفُ التَّابِعِيِّ] (وَ) فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: فِي تَعْرِيفِهِ، فَـ (التَّابِعُ) وَيُقَالَ لَهُ: التَّابِعِيُّ أَيْضًا، وَكَذَا التَّبَعُ، وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكَذَا عَلَى أَتْبَاعٍ، هُوَ (اللَّاقِي لِمَنْ قَدْ صَحِبَا) النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا فَأَكْثَرَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مِنَ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ، حَيْثُ كَانَ التَّابِعِيُّ أَعْمَى أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ كَانَا جَمِيعًا كَذَلِكَ ; لَصَدَقَ أَنَّهُمَا تَلَاقَيَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُمَيِّزًا أَمْ لَا، سَمِعَ مِنْهُ أَمْ لَا ; لِعَدِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ ابْنِ حِبَّانَ ثُمَّ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ فِيهِمِ الْأَعْمَشَ، مَعَ قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَعَبْدِ الْغَنِيِّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ ; لِكَوْنِهِ رَأَى أَنَسًا. وَمُوسَى بْنَ أَبِي عَائِشَةَ مَعَ اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِيهِ عَلَى رُؤْيَةِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَسًا رَآهُ رُؤْيَةً. وَهَذَا مَصِيرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 مِنْهُمْ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالرُّؤْيَةِ ; إِذْ رُؤْيَةُ الصَّالِحِينَ - بِلَا شَكٍّ - لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ بِالصَّحَابَةِ مِنْهُمْ؟ ! كَمَا قِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الصَّحَابِيِّ مِمَّا أَسْلَفْتُهُ فِي أَوَّلِ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ. وَلَكِنْ قَيَّدَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِكَوْنِهِ حِينَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ فِي سِنِّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ الَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: يُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَسَنَةٍ. وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ فِيهِ غَيْرُهُمَا: إِنَّهُ آخِرُ التَّابِعِينَ مَوْتًا ; حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ قَالَ: كُنْتُ فِي حِجْرِ أَبِي إِذْ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى بَغْلٍ أَوْ بَغْلَةٍ، فَقِيلَ: هَذَا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ صَاحِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: لَمْ نُدْخِلْ خَلَفًا فِي التَّابِعِينَ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رُؤْيَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّهُ رَأَى عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ لَمْ يَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا، يَعْنِي فَإِنَّ عَمْرًا تُوُفِّيَ - كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ - فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ. وَأَدْخَلْنَا الْأَعْمَشَ فِيهِمْ، مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى أَيْضًا فَقَطْ ; لِكَوْنِهِ حِينَ رُؤْيَتِهِ لِأَنَسٍ وَهُوَ بِوَاسِطٍ يَخْطُبُ كَانَ بَالِغًا يَعْقِلُ، بِحَيْثُ حَفِظَ مِنْهُ خُطْبَتَهُ، بَلْ حَفِظَ عَنْهُ حِينَ رَآهُ بِمَكَّةَ وَهُوَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ أَحْرُفًا مَعْدُودَةً حَكَاهَا ; إِذْ لَيْسَ حُكْمُ الْبَالِغِ إِذَا رَأَى وَحَفِظَ كَحُكْمِ غَيْرِ الْبَالِغِ إِذَا رَأَى وَلَمْ يَحْفَظْ. انْتَهَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ حِبَّانَ إِنَّمَا عَدَّ خَلَفًا فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ لِمَا قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جَعْفَرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، لَا عَمْرًا نَفْسَهُ، وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. ثُمَّ إِنَّ إِطْلَاقَ اللُّقِيِّ يَشْمَلُ أَيْضًا مَنْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَنَحَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ. وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ ابْنِ كَثِيرٍ: إِنَّ فِي كَلَامِ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ بِاللِّقَاءِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرِّوَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ ; إِذِ الرِّوَايَةُ لَا يُشْتَرَطُ لِتَحَمُّلِهَا الْإِسْلَامُ. عَلَى أَنَّ مَا نَسَبَهُ لِلْحَاكِمِ فِيهِ نَظَرٌ ; فَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: وَطَبَقَةٌ تُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ ; يَعْنِي اكْتِفَاءً فِيهِمْ بِالرُّؤْيَةِ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ عَدَمُ انْفِرَادِ الْحَاكِمِ بِمَا فَهِمَهُ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: فَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ الصَّحَابِيَّ، كَمَا اكْتَفَوْا فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الصَّحَابِيِّ عَلَى مَنْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشَرَفِ رُؤْيَتِهِ وَعِظَمِهَا. وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِاشْتِرَاطِهِ مَعَ الرُّؤْيَةِ كَوْنَهُ فِي سِنِّ مَنْ يَحْفَظُ، كَمَا لِابْنِ حِبَّانَ، أَوِ الرِّوَايَةَ صَرِيحًا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ. (وَ) كَذَا (لِلْخَطِيبِ) أَيْضًا: التَّابِعِيُّ (حَدُّهُ أَنْ يَصْحَبَا) الصَّحَابِيَّ. وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - عَمَلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الْأَظْهَرُ. وَسَبَقَهُ لِتَرْجِيحِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: وَالِاكْتِفَاءُ فِي هَذَا بِمُجَرَّدِ اللِّقَاءِ وَالرُّؤْيَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الصَّحَابِيِّ ; نَظَرًا إِلَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِيهِمَا ; أَيْ: فِي الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، وَإِذَا اكْتُفِيَ بِهِ فِي الصَّحَابِيِّ فَهُنَا أَوْلَى. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَاللُّغَةُ وَالِاصْطِلَاحُ فِي الصَّحَابِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ مُتَّفِقَانِ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عُرْفًا عَلَى الرُّؤْيَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِخِلَافِهِ فِي التَّابِعِ، فَالْعُرْفُ وَاللُّغَةُ فِيهِ مُتَقَارِبَانِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْخَطِيبَ عَدَّ مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ فِي التَّابِعِينَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَوْلُ الْخَطِيبِ لَهُ: مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ أَبِي أَوْفَى، يُرِيدُ فِي الرُّؤْيَةِ، لَا فِي السَّمَاعِ وَالصُّحْبَةِ. وَاحْتِمَالُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 كَوْنِ الْخَطِيبِ يَرَى سَمَاعَهُ مِنْهُ بَعِيدٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي التَّابِعِينَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) : إِنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعِيٍّ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُسْتَأْنَسُ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى لِمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ) ; حَيْثُ اكْتَفَى فِيهِمَا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذْ قَدْ بَانَ تَعْرِيفُهُ فَمُطْلَقُهُ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالتَّابِعِ بِإِحْسَانٍ. [مَرَاتِبُ التَّابِعِينَ] [مَرَاتِبُ التَّابِعِينَ] الثَّانِيَةُ: فِي تَفَاوُتِهِمْ بِأَنَّ فِيهِمُ الْقَدِيمَ الْمُلَاقِيَ لِقُدَمَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، أَوِ الْمُدْرِكَ لِلزَّمَنِ النَّبَوِيِّ أَوْ لِلْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمُخْتَصَّ بِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ عَنْ سَائِرِهِمْ، وَبِالْعَدَالَةِ، وَبِرِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنْهُمْ، وَالْمُتَصَدِّيَ لِلْفَتْوَى، وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي الِاسْمِ. (وَهُمْ) لِتَفَاوُتِهِمْ (طِبَاقٌ) . قِيلَ: ثَلَاثٌ، كَمَا فِي (الطَّبَقَاتِ) لِمُسْلِمٍ وَابْنِ سَعْدٍ، وَرُبَّمَا بَلَغَ بِهَا أَرْبَعًا. (وَقِيلَ) كَمَا لِلْحَاكِمِ فِي (عُلُومِ الْحَدِيثِ) : (خَمْسَ عَشِرَهْ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا كَتَبَهُ النَّاظِمُ بِخَطِّهِ مَشْيًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ ; لِيَكُونَ مُغَايِرًا مَعَ آخِرِ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْحَاكِمُ الطِّبَاقَ كُلَّهَا. نَعَمْ، أَشْعَرَ تَصَرُّفُهُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَقِيَ مَنْ تَقَدَّمَ كَانَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ هَكَذَا إِلَى آخِرِهَا ; بِحَيْثُ يَكُونُ آخِرُهَا سُلَيْمَانُ بْنُ نَافِعٍ إِنْ صَحَّ أَنَّ وَالِدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَزِيَادُ بْنُ طَارِقٍ الرَّاوِي عَنْ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدٍ، وَنَحْوُهُمَا ; كَخَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْمُتَوَفَّى - كَمَا سَلَفَ قَرِيبًا - فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَأَنَّهُ آخِرُ التَّابِعِينَ مَوْتًا. وَحِينَئِذٍ (فَأَوَّلُهُمْ رُوَاةُ كُلِّ الْعَشَرَهْ) الْمَشْهُودِ لَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 بِالْجَنَّةِ، الَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُمْ. (وَقَيْسٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، (الْفَرْدُ) مِنْهُمْ (بِهَذَا الْوَصْفِ) ; أَيْ: رِوَايَتُهُ عَنْ كُلِّهِمْ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خِرَاشٍ، وَعِبَارَتُهُ: وَهُوَ كُوفِيٌّ جَلِيلٌ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَحَدٌ رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ غَيْرُهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ: رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ. (وَقِيلَ) كَمَا لِأَبِي دَاوُدَ مِمَّا قَالَهُ الْآجُرِّيُّ عَنْهُ وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: إِنَّهُ (لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَوْفِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَحَدِهِمْ. (وَ) أَمَّا (قَوْلُ مَنْ عَدَّ) مَعَ قَيْسٍ فِيمَنْ سَمِعَ الْعَشَرَةَ (سَعِيدًا) ، هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي النَّوْعِ الثَّامِنِ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مَعًا مِنْ عُلُومِهِ، بَلْ وَعَدَّ فِي ثَانِي الْمَوْضِعَيْنِ غَيْرَهُ، (فَغَلَطْ) صَرِيحٌ ; لِأَنَّ سَعِيدًا إِنَّمَا وُلِدَ بِاتِّفَاقٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَكَيْفَ يَسْمَعُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ. وَالْحَاكِمُ نَفْسُهُ مُعْتَرِفٌ بِذَلِكَ ; حَيْثُ قَالَ: أَدْرَكَ عُمَرَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ. انْتَهَى. بَلْ سَمَاعُهُ مِنْ عُمَرَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَكِنْ مِمَّنْ جَزَمَ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَيَّدَهُ شَيْخُنَا بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لَا مَطْعَنَ فِيهَا مُصَرِّحَةٍ بِسَمَاعِ سَعِيدٍ مِنْهُ. وَكَذَا فِي الصَّحِيحِ سَمَاعُهُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ الِاخْتِلَافَ فِي الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِهْلَالِ عَلِيٍّ بِهِمَا. وَكَذَا جَاءَ عَنْهُ قَوْلُهُ: أَنَا أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمَا. وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ سَمَاعَهُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَكْثَرِ الْعَشَرَةِ. (بَلْ قِيلَ) : إِنَّهُ (لَمْ يَسْمَعْ سِوَى) ; أَيْ: غَيْرَ، (سَعْدٍ) ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، (فَقَطْ) . وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ قَوْلَ قَتَادَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ (صَحِيحِهِ) مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى عَلَى قَتَادَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَقِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَدْرِيًّا. فَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا كَانَ سَائِلًا قَبْلَ الْجَارِفِ، لَا يَعْرِضُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ بَدْرِيٍّ مُشَافَهَةً، وَلَا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ بَدْرِيٍّ مُشَافَهَةً إِلَّا عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتَ بُطْلَانَهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، لَا سِيَّمَا وَلَيْسَتِ الْعِبَارَةُ صَرِيحَةً فِي النَّفْيِ. (لَكِنَّهُ) ; أَيْ: سَعِيدًا، (الْأَفْضَلُ) مِنْ سَائِرِ التَّابِعِينَ (عِنْدَ أَحْمَدَا) كَمَا سَمِعَهُ مِنْهُ عُثْمَانُ الْحَارِثِيُّ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ عِنْدِي أَجَلُّ التَّابِعِينَ، لَا أَعْلَمُ فِيهِمْ أَوْسَعَ عِلْمًا مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَنْبَلُ مِنْهُ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: أَفْقَهُ التَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: سَيِّدُ التَّابِعِينَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: كَانَ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ فِقْهًا وَدِينًا وَوَرَعًا وَعِبَادَةً وَفَضْلًا، أَفْقَهُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَعْبَرُ النَّاسِ لِلرُّؤْيَا، مَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَّا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَدُفِعْتُ إِلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: وَمَنْ مِثْلُهُ؟ ! (وَعَنْهُ) ; أَيْ: عَنْ أَحْمَدَ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّ الْأَفْضَلَ (قَيْسٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ. (وَسِوَاهُ) ، وَهُوَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلٍّ، وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ (وَرَدَا) ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَلَفْظُهُ: أَفْضَلُ التَّابِعِينَ قَيْسٌ وَأَبُو عُثْمَانَ وَمَسْرُوقٌ، هَؤُلَاءِ كَانُوا فَاضِلِينَ وَمِنْ عِلْيَةِ التَّابِعِينَ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: لَا أَعْلَمُ فِي التَّابِعِينَ مِثْلَ أَبِي عُثْمَانَ وَقَيْسٍ. (وَفَضَّلَ الْحَسَنَ) الْبَصْرِيَّ (أَهْلُ الْبَصْرَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 قُبَيْلَ الْمُرْسَلِ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ. وَالْمُرَادُ غَالِبُهُمْ، وَإِلَّا فَسَيَأْتِي قَرِيبًا عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَصْرِيِّ قَاضِيهَا أَنَّهُ فَضَّلَ عَلَيْهِ حَفْصَةَ ابْنَةَ سِيرِينَ. (وَ) فَضَّلَ (الْقَرَنِي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ ثُمَّ نُونٍ وَيَاءِ نِسْبَةٍ سَاكِنَةٍ (أُوَيْسًا اهْلُ الْكُوفَةِ) فِيمَا قَالَهُ ابْنُ خَفِيفٍ أَيْضًا. وَكَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ يَقْتَضِي أَنَّ جُمْهُورَهُمْ فَضَّلَ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدَ النَّخَعِيَّيْنِ. وَفَضَّلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فِيمَا قَالَهُ ابْنُ خَفِيفٍ أَيْضًا، وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكُلٌّ اجْتَهَدَ فَجَزَمَ بِمَا ظَنَّهُ. وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ الصَّلَاحِ حِكَايَةَ ابْنِ خَفِيفٍ فِي (التَّفْصِيلِ) ، وَصَوَّبَ الْمُصَنِّفُ الْقَائِلِينَ بِأُوَيْسٍ بِحَدِيثِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ» ) . وَقَالَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ. وَتَفْضِيلُ أَحْمَدَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ لَعَلَّهُ أَرَادَ الْأَفْضَلِيَّةَ فِي الْعِلْمِ، لَا الْخَيْرِيَّةَ ; فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ شُيُوخٍ الْخَطَّابِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُ، يَعْنِي كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي الصَّحَابَةِ. وَبِهَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) ، فَقَالَ: مُرَادُهُمْ أَنَّ سَعِيدًا أَفْضَلُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ; كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا، لَا فِي الْخَيْرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لَعَلَّ أَحْمَدَ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، فَلَا يَحْسُنُ ; فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْهَا بِلَفْظِ: ( «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ» ) . لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا بِلَفْظِ: ( «إِنَّ مِنْ خَيْرِ التَّابِعِينَ» . . .) ، فَقَالَ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: نَادَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يَوْمَ صِفِّينَ: أَفِيكُمْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . وَذَكَرَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ شَرِيكٍ، فَزَالَ الْحَصْرُ. فَهَذِهِ أَقْوَالُهُمْ فِي أَفْضَلِ الرِّجَالِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 لِانْضِبَاطِ التَّابِعِينَ ; كَالْحُكْمِ لِإِسْنَادٍ مُعَيَّنٍ بِالنَّظَرِ لِصَحَابِيٍّ خَاصٍّ، وَلِكِتَابٍ مُعَيَّنٍ بِالْأَصَحِّيَّةِ. وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي أَفْرَادِ الْعِلْمِ: الْحَقُّ أَنَّ هَذَا - يَعْنِي قَوْلَهُمْ: لَيْسَ فِي الرُّوَاةِ مَنْ يُسَمَّى كَذَا سِوَى فُلَانٍ - فَنٌّ يَصْعُبُ الْحُكْمُ فِيهِ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ عَلَى خَطَرٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالِانْتِقَاضِ ; فَإِنَّهُ حَصْرٌ فِي بَابٍ وَاسِعِ الِانْتِشَارِ، قَدْ يُشِيرُ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَاكَ بِخُصُوصِهِ ; كَالْحُكْمِ لِسَنَدٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ أَصَحُّ أَسَانِيدِ الدُّنْيَا ; لِاتِّسَاعِهِ وَانْتِشَارِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِهِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ. (وَفِي نِسَاءِ التَّابِعِينَ الْأَبْدَا) ; أَيْ: أَبْدَأُهُنَّ، بِمَعْنَى: أَوَّلُهُنَّ فِي الْفَضْلِ، (حَفْصَةُ) ابْنَةُ سِيرِينَ ; لِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ إِلَى هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أُفَضِّلُهُ، يَعْنِي عَلَيْهَا. فَقِيلَ لَهُ: وَلَا الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ؟ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَمَا أُفَضِّلُ عَلَيْهَا أَحَدًا. وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ نَفْسُهُ، لَكِنْ قَرَنَ مَعَهَا غَيْرَهَا ; فَإِنَّهُ قَالَ: سَيِّدَتَا التَّابِعِينَ مِنَ النِّسَاءِ حَفْصَةُ (مَعْ) بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ (عَمْرَةَ) ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (وَأُمُّ الدَّرْدَا) بِالْقَصْرِ، يَعْنِي: الصُّغْرَى، وَاسْمُهَا هُجَيْمَةُ أَوْ جُهَيْمَةُ، لَا الْكُبْرَى، فَتِلْكَ صَحَابِيَّةٌ وَاسْمُهَا خَيْرَةُ. وَقَدْ صَنَّفَ سَعِيدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ مُوسَى وَغَيْرُهُ فِي فَضَائِلِ التَّابِعِينَ. وَكِتَابُ سَعِيدٍ فِي مُجَلَّدَيْنِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَتْبَاعُهُ لِحُكْمِهِمْ فِي الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا فِي جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهُمْ فِي الْفَضِيلَةِ، مُتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) . وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُرْسَلِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ فِي الْقَرْنَيْنِ بَعْدَ الْأَوَّلِ عَلَى الْغَالِبِ وَالْأَكْثَرِيَّةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِيهِمَا مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ، لَكِنْ بِقِلَّةٍ فِي أَوَّلِهِمَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُ ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَثُرَ فِيهِ وَاشْتَهَرَ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ كَانَ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَنْ عَاشَ إِلَى حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًا، وَأَطْلَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا، وَرَفَعَتِ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسَهَا، وَامْتُحِنَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إِلَى الْآنَ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَخَيْرُ النَّاسِ قَرْنًا بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ شَافَهَ الصَّحَابَةَ وَحَفِظَ عَنْهُمُ الدِّينَ وَالسُّنَنَ، أَوْ لَقِيَهُمْ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ فَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 100] . وَكَانَ فِي التَّابِعِينَ مَنْ رَوَى عَنْهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ; كَرِوَايَةِ الْعَبَادِلَةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ. [ذِكْرُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ] [ذِكْرُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ] (وَ) كَذَا كَانَ (فِي الْكِبَارِ) السَّادَاتِ مِنَ التَّابِعِينَ (الْفُقَهَاءُ السَّبْعَهْ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، الَّذِينَ كَانُوا يَصْدُرُونَ عَنْ آرَائِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ وَإِفْتَائِهِمْ مِمَّنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ وَالْفَلَاحِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَكَانُوا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَسْأَلَةُ دَخَلُوا فِيهَا جَمِيعًا فَنَظَرُوا فِيهَا، وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي حَتَّى تُرْفَعَ إِلَيْهِمْ فَيَنْظُرُونَ فِيهَا فَيُصْدِرُونَ. انْتَهَى. وَالْفُقَهَاءُ، وَإِنْ كَانُوا بِكَثْرَةٍ فِي التَّابِعِينَ، فَعِنْدَ إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ مَعَ قَيْدِ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَبَادِلَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَوَاءٍ. وَهُمْ: (خَارِجَةُ) بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ هُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ - يَعْنِي قَاضِيَ الْمَدِينَةِ وَابْنَ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - يُقَسِّمَانِ الْمَوَارِيثَ، وَيَكْتُبَانِ الْوَثَائِقَ، وَيَنْتَهِي النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِمَا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَزَادَ: وَأَنَّهُمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 كَانَا يُسْتَفْتَيَانِ فِي زَمَانِهِمَا. وَالثَّانِي: (الْقَاسِمُ) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: مَا أَدْرَكْنَا بِالْمَدِينَةِ أَحَدًا نُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ وَلَا أَحَدَّ ذِهْنًا مِنْهُ. وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) : ثَنَا عَلِيٌّ، ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، فَذَكَرَ شَيْئًا. وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (ثُمَّ عُرْوَهْ) بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْأَسَدِيُّ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ، فَبَدَأَ بِهِ. وَعَنْهُ نَفْسِهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي قَبْلَ مَوْتِهَا بِأَرْبَعِ حِجَجٍ أَوْ خَمْسٍ وَأَنَا أَقُولُ: لَوْ مَاتَتِ الْيَوْمَ مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ عِنْدَهَا إِلَّا وَقَدْ وَعَيْتُهُ. (ثُمَّ سُلَيْمَانُ) بْنُ يَسَارٍ الْهِلَالِيُّ مَوْلَى مَيْمُونَةُ أَوْ مُكَاتِبُ أُمِّ سَلَمَةَ فِيمَا قِيلَ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا أَفْهَمَ مِنَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ لِلسَّائِلِ: اذْهَبْ إِلَيْهِ ; فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ الْيَوْمَ. وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ بَعْدَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَالْخَامِسُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ) ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ الْعِجْلِيُّ: كَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ السَّبْعَةِ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الْفَتْوَى، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا مُقَدَّمًا فِي الْفِقْهِ، شَاعِرًا مُحْسِنًا، لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِيمَا عَلِمْتُ فَقِيهٌ أَشْعَرَ مِنْهُ، وَلَا شَاعِرٌ أَفْقَهَ مِنْهُ. وَالسَّادِسُ: (سَعِيدُ) بْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، الْمَاضِي قَرِيبًا، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ. قَالَ مَكْحُولٌ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 فَمَا لَقِيتُ أَعْلَمَ مِنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْهُ. وَعَنْ سَعِيدٍ نَفْسِهِ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِكُلِّ قَضَاءٍ قَضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنِّي. قَالَ الرَّاوِي: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَعُثْمَانُ. (وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ) فِي تَعْيِينِهِ، فَهُوَ (إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كَمَا عِنْدَ أَكْثَرِ عُلَمَاءَ الْحِجَازِ، حَسْبَمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ، وَقَدْ قَرَنَهُ الزُّهْرِيُّ بِسَعِيدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَعُرْوَةَ، فَقَالَ: وَجَدْتُهُمْ بُحُورًا، وَقَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ قَالَ لَهُ وَهُوَ بِمِصْرَ: لَقَدْ تَرَكْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِكَ لَا أَعْلَمُ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنْهُمَا ; عُرْوَةَ وَأَبَا سَلَمَةَ. وَقِيلَ لِأَبِي سَلَمَةَ: مَنْ أَفْقَهُ مَنْ خَلَّفْتَ بِبِلَادِكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى نَفْسِهِ. (اوْ) هُوَ (سَالِمُ) ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَمَا لِابْنِ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ زَمَانِهِ. بَلْ جَاءَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ أَشْبَهَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الزُّهْدِ وَالْفَضْلِ وَالْعَيْشِ مِنْهُ. وَقَرَنَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ بِالْقَاسِمِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي كَوْنِهِمْ فَاقُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ عِلْمًا وَتُقًى وَعِبَادَةً وَوَرَعًا. (أَوْ فَـ) ـهُوَ (أَبُو بَكْرٍ) ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْقُرَشِيُّ، كَمَا لِأَبِي الزِّنَادِ ; إِذْ قَالَ: أَدْرَكْتُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَمَنْ يُرْتَضَى مِنْهُمْ وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ. . . فَذَكَرَهُ فِي السَّبْعَةِ. بَلْ قَالَ فِي مَشْيَخَةٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ: أَهْلُ فِقْهٍ وَفَضْلٍ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَسَأَلْتُ الْوَاقِدِيَّ عَنِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ كَانَ أَبُو الزِّنَادِ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي السَّبْعَةُ، فَقَالَ: سَعِيدٌ. . . وَذَكَرَهُمْ، وَأَحَدُهُمْ أَبُو بَكْرٍ. وَكَانَ مَكْفُوفًا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ: رَاهِبُ قُرَيْشٍ ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ خِرَاشٍ: وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعِكْرِمَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ، بَنُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَجِلَّاءُ ثِقَاتٌ، يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا عُمَرَ. (خِلَافٌ) ; أَيْ: خُلْفٌ فِي السَّابِعِ، (قَائِمُ) ; يَعْنِي: قَوِيٌّ. وَجَمَعَهُمَا - أَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ وَسَالِمًا - عِوَضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ، وَزَادَ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيَّ بِحَيْثُ صَارُوا ثَمَانِيَةً، الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ كَمَا هُوَ رَأْيٌ لِغَيْرِهِ أَيْضًا. لَكِنْ فِي إِدْرَاجِ ابْنِ حَزْمٍ فِيهِمْ نَظَرٌ ; فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَؤُلَاءِ بِكَثِيرٍ ; إِذْ مَوْتُهُمْ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ مِائَةٍ، وَهُوَ قُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ قَتْلُهُ سَبَبُ هَزِيمَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَ بِهِمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِيمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ كَمَا لِلْحَاكِمِ فِي (عُلُومِهِ) اثْنَيْ عَشَرَ نَفْسًا، فَذَكَرَ مِمَّنْ سَبَقَ: خَارِجَةَ، وَالْقَاسِمَ، وَسَعِيدًا، وَأَبَا سَلَمَةَ، وَسَالِمًا، وَمِنْ غَيْرِهِمْ: حَمْزَةَ وَزَيْدًا وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَبِلَالًا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، إِخْوَةَ سَالِمٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخَا خَارِجَةَ، وَأَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ. وَقَرَنَ غَيْرُهُمْ مَعَ خَارِجَةَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَقَدْ نَظَمَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ (614هـ) السَّبْعَةَ الْمَشْهُورِينَ، وَاخْتَارَ فِي السَّابِعِ قَوْلَ أَبِي الزِّنَادِ، فَقَالَ: أَلَا كُلُّ مَنْ لَا يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ ... فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ فَخُذْهُمْ: عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ ... سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وَكُلُّهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ إِلَّا سُلَيْمَانَ، فَأَبُوهُ يَسَارٌ لَا صُحْبَةَ لَهُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ صِغَارِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَا كُتِبَتْ أَسْمَاؤُهُمْ وَوُضِعَتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الزَّادِ أَوِ الْقُوتِ إِلَّا بُورِكَ فِيهِ وَسَلِمَ مِنَ الْآفَةِ ; كَالسُّوسِ وَشِبْهِهِ. بَلْ وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَمَانٌ لِلْحِفْظِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. [تَعْرِيفُ الْمُخَضْرَمِ وَعَدَدُهُ] [تَعْرِيفُ الْمُخَضْرَمِ وَعَدَدُهُ] (وَ) أَمَّا (الْمُدْرِكُونَ جَاهِلِيَّةً) قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَوْ بَعْدَهَا، صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا، فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ لَمْ يَرَهُ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، أَوْ رَآهُ لَكِنْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَهُ، (فَسَمْ) هَؤُلَاءِ (مُخَضْرَمِينَ) بِالْخَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، كَمَا عَزَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي آخِرِ ذَيْلِهِ لِلْمُحَدِّثِينَ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ. وَحَكَى بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ فِيهَا بِالْكَسْرِ أَيْضًا. وَمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ مَشَايِخِهِ مِنْ أَنَّ اشْتِقَاقَهُ - يَعْنِي أَخْذَهُ - مِنْ كَوْنِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ كَانُوا يُخَضْرِمُونَ آذَانَ الْإِبِلِ ; أَيْ: يَقْطَعُونَهَا ; لِتَكُونَ عَلَامَةً لِإِسْلَامِهِمْ إِنْ أُغِيرَ عَلَيْهِمْ أَوْ حُورِبُوا، مُحْتَمِلٌ لَهُمَا. فَلِلْكَسْرِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ خَضْرَمُوا آذَانَ الْإِبِلِ، فَسُمُّوا - كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ - مُخَضْرِمِينَ، يَعْنِي بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَمُحْتَمِلٌ لِلْفَتْحِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ خُضْرِمُوا ; أَيْ: قُطِعُوا عَنْ نُظَرَائِهِمْ. وَاقْتَصَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ عَلَى كَسْرِ الرَّاءِ، لَكِنْ مِنْ إِهْمَالِ الْحَاءِ، وَأَغْرَبَ فِي ذَلِكَ، وَنَصُّهُ: قَدْ سُمِعَ مُحَضْرِمٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ. انْتَهَى. وَخَصَّهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِمَنْ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فِي الْكِبَرِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَجُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ; فَإِنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ بَالِغٌ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ. وَبَعْضُهُمْ بِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ; فَإِنَّهُ رَحَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ. وَكَذَا وَقَعَ لِقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 الصُّنَابِحِيِّ، مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ قُدُومِهِمْ بِلَيَالٍ. وَأَقْرَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، قَدِمَ حِينَ نُفِّضَتِ الْأَيْدِي مِنْ دَفْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصَحِّ، فِي آخَرِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ (الْمُحْكَمِ) : رَجُلٌ مُخَضْرَمٌ إِذَا كَانَ نِصْفُ عُمُرِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِصْفُهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَشَاعِرٌ مُخَضْرَمٌ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ نَفْيُ الصُّحْبَةِ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَشَبَهَهُ فِي ذَلِكَ مُخْضَرَمٌ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: الْمُخْضَرَمُ أَيْضًا الشَّاعِرُ الَّذِي أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ ; مِثْلُ لَبِيدٍ. فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا، فَتَمْثِيلُهُ بِلَبِيدٍ أَحَدِ الصَّحَابَةِ مُقَيِّدٌ لَهُ مَعَ احْتِمَالِهِ مُوَافَقَةَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمُوَافِقِ لِمَدْلُولِ الْخَضْرَمَةِ ; فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ (الْمُحْكَمِ) : مُخَضْرَمٌ: نَاقِصُ الْحَسَبِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِكَرِيمِ الْحَسَبِ. وَقِيلَ: هُوَ الدَّعِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ أَبَوَاهُ. وَقِيلَ: مَنْ أَبُوهُ أَبْيَضُ، وَهُوَ أَسْوَدُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي وَلَدَتْهُ السَّرَارِيُّ. وَالْخَضْرَمَةُ قَطْعُ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ. وَامْرَأَةٌ مُخَضْرَمَةٌ: مَخْتُونَةٌ. وَلَحْمٌ مُخَضْرَمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ: لَا يُدْرَى مِنْ ذَكَرٍ هُوَ أَوْ أُنْثَى. وَكَذَا قَالَ فِي (الصِّحَاحِ) : رَجُلٌ مُخَضْرَمُ النَّسَبِ ; أَيْ: دَعِيٌّ. وَنَاقَةٌ مُخَضْرَمَةٌ ; أَيْ: مَخْفُوضَةٌ. وَلَحْمٌ مُخَضْرَمٌ. . . إِلَى آخِرِهِ. وَالشَّاهِدُ فِي جُمْلَةِ: وَلَحْمٌ مُخَضْرَمٌ. . . إِلَى آخِرِهِ. وَكَثِيرٌ مِمَّا فِي (الْمُحْكَمِ) ; إِذِ الْمُخَضْرَمُونَ كَذَلِكَ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لِلْمُعَاصَرَةِ، وَبَيْنَ التَّابِعِينَ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعَسْكَرِيِّ فِي (الدَّلَائِلِ) : الْمُخَضْرَمَةُ مِنَ الْإِبِلِ: الَّتِي نُتِجَتْ بَيْنَ الْعِرَابِ وَالْبَخَاتِيِّ، فَقِيلَ: رَجُلٌ مُخَضْرَمٌ: إِذَا عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ: وَهُنَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ. وَكَأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: هَلْ هُوَ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ هَذَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: يَقْرُبُ مِنْهُ مَا اشْتَهَرَ فِي الْعُرْفِ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى مَنْ يَشْتَغِلُ بِهَذَا الْفَنِّ وَهَذَا الْفَنِّ، وَلَا يُمْعِنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: وَيُطْلَقُ الْمُخَضْرَمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ. وَسَبَقَهُ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ فَقَالَ فِي كِتَابِ (الْحَيَوَانِ) : وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: مُخَضْرَمٌ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً، وَلِمَنْ أَدْرَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ النَّقْصِ ; لِكَوْنِهِ نَاقِصَ الرُّتْبَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَصِيرُ بِهِ صَحَابِيًّا، مَعَ إِدْرَاكِهِ مَا يُمْكِنُ بِهِ وُجُودُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ: نَاقِصُ الْحَسَبِ، وَنَحْوُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَأَصْلُ الْخَضْرَمَةِ أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ بَيْنَ بَيْنَ، فَإِذَا قَطَعَ بَعْضَ الْأُذُنِ فَهِيَ بَيْنَ الْوَافِرَةِ وَالنَّاقِصَةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْمَنْتُوجَةُ بَيْنَ النَّجَائِبِ وَالْعُكَاظِيَّاتِ، قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُخَضْرِمُونَ نَعَمَهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَضْرِمُوا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخَضْرِمُ مِنْهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِكُلِّ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ: مُخَضْرِمٌ ; لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْخَضْرَمَتَيْنِ. عَلَى أَنَّ فِي كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) مَا قَدْ يُوَافِقُ قَوْلَ صَاحِبِ (الْمُحْكَمِ) . وَمَنْ لَعَلَّهُ وَافَقَهُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ فَإِنَّهُ قَالَ: الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ فِي الْكُفْرِ سِتُّونَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتُّونَ يُدْعَى مُخَضْرَمًا. وَلَكِنْ لَعَلَّهُ أَرَادَ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ. أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ يُسَمَّى مُخَضْرَمًا لُغَةً، لَا اصْطِلَاحًا. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَهُ التَّقَيُّدُ بِهَذَا السِّنِّ الْمَخْصُوصِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مُجَرَّدُ إِدْرَاكِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا كَافٍ. وَلَكِنْ مَا الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ؟ أَهِيَ مَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) عِنْدَ قَوْلِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَأَبُو رَافِعٍ الصَّائِغُ، وَهُمَا مِمَّنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ ; أَيْ: كَانَا رَجُلَيْنِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، مَا نَصُّهُ: وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا قَبْلَ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَهَالَاتِهِمْ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِدْرَاكُ قَوْمِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، لَكِنْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِزَوَالِ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ خَطَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَأَبْطَلَ أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَسَدَانَةِ الْكَعْبَةِ. قُلْتُ: وَصَنِيعُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لِذِكْرِهِ الْمُشَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 إِلَيْهِمَا فِيهِمْ. وَكَذَا يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ إِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ زَمَنِ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، فَأَدْرَكَ بَعْضَ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْمِهِ. بَلْ ذَكَرَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي عَقَدَ لَهُمْ مِنْ إِصَابَتِهِ: كُلُّ مَنْ لَهُ إِدْرَاكٌ مَا لِلزَّمَنِ النَّبَوِيِّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُفْصِحُ غَالِبًا بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَّا لِمَنْ طَالَ إِدْرَاكُهُ، وَمَنْ عَدَاهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُ إِدْرَاكٌ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ، فَجَعَلَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ طَبَقَةً بَعْدَ الْمُخَضْرَمِينَ، وَذَكَرَ فِيهِمِ الصُّنَابِحِيَّ وَعَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ. بَلْ وَأَدْرَجَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ، وَهُوَ صَنِيعٌ مُنْتَقَدٌ، فَمَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ فِي الصَّحَابَةِ، أَوْ يَكُونَ طَبَقَةً أَعْلَى مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ. وَالْمُخَضْرَمُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَيْسُوا صَحَابَةً، بَلْ مَعْدُودُونَ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ. وَقَدْ جَعَلَهُمُ الْحَاكِمُ طَبَقَةً مُسْتَقِلَّةً مِنَ التَّابِعِينَ، سَوَاءٌ أَعُرِفَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ مُسْلِمًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَالنَّجَاشِيِّ، أَمْ لَا. لَكِنْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا بِهِ فِي زَمَنِ الْإِسْرَاءِ يَأْتِي فِيهِ مَا قَدَّمْتُهُ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ عَنْ شَيْخِنَا. وَعَدُّ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ، لَا لِكَوْنِهِ يَقُولُ: إِنَّهُمْ صَحَابَةٌ، كَمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، بَلْ لِكَوْنِهِ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ رَامَ أَنْ يَكُونَ كِتَابُهُ بِهِ جَامِعًا مُسْتَوْعِبًا لِأَهْلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ مُعْتَذِرًا عَنْ إِخْرَاجِهِ تَرْجَمَةَ النَّجَاشِيِّ: إِنَّهُ صَدَّقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ يَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي الصَّحَابَةِ مَا احْتَاجَ إِلَى اعْتِذَارٍ. وَكَذَا عَدَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مُصَنِّفِي الصَّحَابَةِ جَمَاعَةً مِنْهُمْ ; لِكَوْنِ أَمْرِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُصَرِّحُ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي أَلَهُ رُؤْيَةٌ أَمْ لَا. وَأَحَادِيثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلَةٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَفْسُهُ بِذَلِكِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 (التَّمْهِيدِ) وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ. نَعَمْ، لَوْ حَفِظَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ رُؤْيَتِهِ لَهُ، ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالِاتِّصَالِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي الْمُرْسَلِ. وَهُمْ كَثِيرُونَ ; (كَسُوَيْدٍ) بِمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ، وَابْنُ غَفَلَةَ بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، (فِي أُمَمْ) بَلَغَ بِهِمْ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عِشْرِينَ، وَمُغَلْطَايْ أَزْيَدَ مِنْ مِائَةٍ. وَمَنْ طَالَعَ (الْإِصَابَةَ) لِشَيْخِنَا وَجَدَ مِنْهُمْ كَمَا قَدَّمْتُ خَلْقًا. وَأَفْرَدَهُمُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ الْحَافِظُ فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ (تَذْكِرَةَ الطَّالِبِ الْمُعَلَّمُ فِيمَنْ يُقَالُ: إِنَّهُ مُخَضْرَمٌ) . وَرَأَيْتُ أَنْ أَسْرُدَ مِنْهُمْ جُمْلَةً عَلَى الْحُرُوفِ أَسْتَوْعِبُ فِيهَا مَنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ، رَاقِمًا لَهُ (م) . الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، بَلْ يُرْوَى بِسَنَدٍ لَيِّنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُ. أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ، الْأَسْوَدُ بْنُ هِلَالٍ الْمُحَارِبِيُّ (م) ، الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ (م) ، أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، أَوْسَطُ الْبَجَلِيُّ، ثُمَامَةُ بْنُ حَزْمٍ الْقُشَيْرِيُّ (م) ، جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيُّ (م) ، حُجْرُ بْنُ عَنْبَسٍ، خَالِدُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيُّ (م) ، الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعِ بْنِ وَهْبٍ الْفَزَارِيُّ الْآتِي فِي الْمُعَمَّرِينَ بَيْنَ الْوَفَيَاتِ (م) ، رَبِيعَةُ بْنُ زُرَارَةَ، أَبُو الْحَلَالِ الْعَتَكِيُّ (م) ، زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ (م) ، سَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ (م) ، سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ (م) ، شِبْلُ بْنُ عَوْفٍ الْأَحْمَسِيُّ (م) ، شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَاضِي، شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ (م) ، شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثُوَبَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ أَحَدُ مَنْ تَفَقَّهَ بِهِ أَهْلُ دِمَشْقَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلٍّ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ (م) ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 عَبْدُ خَيْرِ بْنُ يَزِيدَ الْخَيْوَانِيُّ (م) ، عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، عِمْرَانُ بْنُ مِلْحَانَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ (م) ، عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ، عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ (م) ، غُنَيْمُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ (م) ، قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، كَعْبُ الْأَحْبَارِ، مَالِكُ بْنُ عُمَيْرٍ (م) ، مُرَّةُ بْنُ شَرَاحِيلَ الطَّيِّبُ، مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ، مَسْعُودُ بْنُ خِرَاشٍ أَخُو رِبْعِيٍّ (م) ، الْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ (م) ، نُفَيْعٌ أَبُو رَافِعٍ الصَّائِغُ (م) ، يُسَيْرُ أَوْ أُسَيْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ (م) ، أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ. وَذِكْرُ مُسْلِمٍ لِمَسْعُودِ بْنِ حِرَاشٍ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صُحْبَتِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِلَّا فَقَدْ أَثْبَتَهَا الْبُخَارِيُّ. كَمَا أَدْخَلَ غَيْرُهُ فِي الْمُخَضْرَمِينَ جُبَيْرَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ وَحَابِسًا الْيَمَامِيَّ وَطَارِقَ بْنَ شِهَابٍ الْأَحْمَسِيَّ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَهُ رُؤْيَةٌ أَوْ صُحْبَةٌ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ أَوْ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَهَا تَعَلُّقٌ بِكُلٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ; فَلِذَا أُخِّرَتْ عَنْهُمَا. (وَ) مِنْ فُرُوعِهَا أَنَّهُ (قَدْ يُعَدُّ فِي الطِّبَاقِ) الَّتِي يُجْعَلُ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهَا لِلْمُشْتَرِكِينَ فِي السَّنَدِ ; كَمَا سَيَأْتِي فِي طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ، (التَّابِعُ) لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ (فِي تَابِعِيهِمْ) ; أَيْ: تَابِعِي التَّابِعِينَ ; (إِذْ يَكُونُ الشَّائِعُ) الْغَالِبُ عَنْ ذَاكَ التَّابِعِيِّ (الْحَمْلُ عَنْهُمْ) ; أَيْ: عَنِ التَّابِعِينَ ; (كَأَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ ثُمَّ نُونٍ خَفِيفَةٍ، وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ ; فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: قَدْ لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَسًا وَأَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعِدَادُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. نَعَمْ، قَالَ الْعِجْلِيُّ: تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي التَّابِعِينَ. وَكَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَإِنَّهُ أُدْخِلَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَرَآهُ وَمَسَحَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ، وَرَأَى جَابِرًا وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَأَنَسًا، وَرَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَكَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ; فَإِنَّهُ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَأَنَسًا، وَرَوَى عَنْ أُمِّ خَالِدٍ ابْنَةِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيَّةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمَا عِنْدَهُمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. وَكَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ; فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ وَالرُّبَيِّعَ ابْنَةَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ الصَّحَابِيَّتَيْنِ مَعَ عَدِّ غَيْرِ وَاحِدٍ لَهُ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ ; كَأَبِي بَكْرٍ النَّقَّاشِ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الطَّبَسِيِّ وَغَيْرِهِمْ، بِحَيْثُ أَدْرَجَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي أَمْثِلَةِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، فَقَالَ: وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ التَّابِعِينَ. وَهُوَ مُنْتَقَدٌ بِمَا قَرَّرْنَاهُ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنَ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ مَعْدُودٌ فِيهِمْ. (وَالْعَكْسُ جَاءَ) ، وَهُوَ عَدُّ أَصْحَابِ الطِّبَاقِ فِي التَّابِعِينَ مَنْ لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ، بَلْ وَلَا لُقِيُّهُ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ جَزْمًا حَسْبَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ ; كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ النَّخَعِيِّ، وَلَيْسَ بِابْنِ يَزِيدَ الشَّهِيرِ، وَكَبُكَيْرِ بْنِ أَبِي السَّمِيطِ الْمِسْمَعِيِّ، وَسَعِيدٍ وَوَاصِلٍ أَبِي حُرَّةَ ابْنَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيِّ. (وَهْوَ) ; أَيْ: الْعَكْسُ، الَّذِي هُوَ الْإِدْخَالُ فِي التَّابِعِينَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ، (ذُو فَسَادِ) ; يَعْنِي: أَشَدَّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَذَاكَ أَيْضًا خَطَأٌ مِمَّنْ صَنَعَهُ. (وَ) نَحْوُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْإِخْرَاجُ عَنِ التَّابِعِينَ لِمَنْ هُوَ مِنْهُمْ، أَنَّهُ (قَدْ يُعَدُّ) فِي الطِّبَاقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 أَيْضًا (تَابِعِيًّا صَاحِبُ) ; أَيْ: بِأَنْ يُذْكَرَ فِي التَّابِعِينَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ (كَـ) نُعْمَانَ وَسُوَيْدٍ (ابْنَيْ مُقَرِّنٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ نُونٌ، الْمُزَنِيِّ ; فَقَدْ عَدَّهُمَا الْحَاكِمُ غَلَطًا فِي الْآخِرَةِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي نَوْعِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَعَدُّهُ لَهُمَا فِي التَّابِعِينَ مِنْ أَعْجَبِ ذَلِكَ، يَعْنِي: الْأَمْثِلَةِ فِيهِ. زَادَ النَّاظِمُ: (وَ) كَـ (مَنْ يُقَارِبُ) التَّابِعِينَ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رِوَايَتَهُ أَوْ جُلَّهَا عَنِ الصَّحَابَةِ ; فَقَدْ عَدَّ مُسْلِمٌ وَابْنُ سَعْدٍ فِي التَّابِعِينَ مِنْ طَبَقَاتِهِمَا يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ. وَابْنُ سَعْدٍ وَحْدَهُ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ. وَعَكْسُهُ وَهُوَ عَدُّ بَعْضِ التَّابِعِينَ صَحَابِيًّا ; كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ ; فَقَدْ عَدَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ فِيمَنْ دَخَلَ مِصْرَ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَوَهِمَ فِيمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَابْنُ الرَّبِيعِ إِنَّمَا نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ أَنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ وَاللَّيْثَ قَالَا: لَهُ صُحْبَةٌ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُمَا، وَأَثْبَتَهَا أَيْضًا الْبُخَارِيُّ وَابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحَادِيثِهِ مَا يَدُلُّ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - لِصُحْبَتِهِ. نَعَمْ لَهُمْ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ آخَرُ تَفَقَّهَ بِهِ أَهْلُ دِمَشْقَ، فَلَعَلَّهُ الَّذِي ظَنَّهُ الْمُؤَلِّفُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ إِدْرَاكٌ، بِحَيْثُ عُدَّ فِي مُخَضْرَمِينَ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ: زَعَمُوا أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي. وَلَكِنْ لِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيُّ رَاوِي حَدِيثِ: ( «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» ) . ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ أَرْسَلَ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 فِيمَنْ يُرْسِلُ مِنَ التَّابِعِينَ ; إِذِ اعْتِمَادُهُمْ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَقَعُ لَهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِحَسَبِ مَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . [الْأَكَابِرُ عَنِ الْأَصَاغِرِ] ِ 831 - وَقَدْ رَوَى الْكَبِيرُ عَنْ ذِي الصُّغْرِ ... طَبَقَةً وَسِنًّا اوْ فِي الْقَدْرِ 832 - أَوْ فِيهِمَا وَمِنْهُ أَخْذُ الصَّحْبِ ... عَنْ تَابِعٍ كَعِدَّةٍ عَنْ كَعْبِ (الْأَكَابِرُ) الَّذِينَ يَرْوُونَ (عَنِ الْأَصَاغِرِ) ، وَهُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ تَدْعُو لِفِعْلِهِ الْهِمَمُ الْعَلِيَّةُ وَالْأَنْفُسُ الزَّكِيَّةُ ; وَلِذَا قِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحَدِّثًا حَتَّى يَأْخُذَ عَمَّنْ فَوْقَهُ وَمِثْلَهُ وَدُونَهُ. وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْخَوْفُ مِنْ ظَنِّ الِانْقِلَابِ فِي السَّنَدِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» ) . وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ: وَمِنِ الْفَائِدَةِ فِيهِ أَلَّا يُتَوَهَّمَ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَكْبَرَ وَأَفْضَلَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ كَذَلِكَ، فَتُجْهَلُ بِذَلِكَ مَنْزِلَتُهُمَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ حَدِيثَ الْجَسَّاسَةِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ: ( «وَإِنَّ مَالِكًا - يَعْنِي ابْنَ مُرَارَةَ - حَدَّثَنِي بِكَذَا» ) ، وَذَكَرَ شَيْئًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: ( «حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّهُ مَا سَابَقَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا سَبَقَهُ» ) ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَالدَّيْلَمِيُّ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ; الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 كَأَمْرِ الْأَذَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. وَفِيهِ تَأْلِيفٌ لِإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَنْجَنِيقِيِّ سَمِعْتُهُ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الَمُخَرِّمِيِّ، وَفِي مُسْتَخْرَجِ ابْنِ مَنْدَهْ لَتَذْكِرَةُ أَشْيَاءَ نَفِيسَةٍ مِنْ ذَلِكَ. (وَقَدْ رَوَى الْكَبِيرُ عَنْ ذِي الصُّغْرِ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَسْكِينِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: عَنِ الصَّغِيرِ. وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا: (طَبَقَةً وَسِنًّا) ; أَيْ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْغَرَ مِنْهُ فِيهِمَا، وَهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، لَا فِي الْجَلَالَةِ وَالْقَدْرِ ; كَرِوَايَةِ كُلٍّ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ تِلْمِيذِهِمَا الْإِمَامِ الْجَلِيلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي خَلْقٍ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ مِنْ شُيُوخِهِ، بِحَيْثُ أَفْرَدَهُمُ الرَّشِيدُ الْعَطَّارُ فِي مُصَنَّفٍ سَمَّاهُ: (الْإِعْلَامَ بِمَنْ حَدَّثَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ مِنْ مَشَايِخِهِ السَّادَةِ الْأَعْلَامِ) . وَمِنْ قَبْلِهِ أَفْرَدَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الدُّورِيُّ، وَهُوَ فِي مَسْمُوعَاتِي. وَكَرِوَايَةٍ أَبِي الْقَاسِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَزْهَرِيِّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ عَنْ تِلْمِيذِهِ الْحَافِظِ الْجَلِيلِ الْخَطِيبِ، وَالْخَطِيبُ إِذْ ذَاكَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ وَطَلَبِهِ. (اوْ) بِالنَّقْلِ، رَوَى الْحَافِظُ الْعَالِمُ عَمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ (فِي الْقَدْرِ) فَقَطْ دُونَ السِّنِّ ; كَرِوَايَةِ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ شَيْخِهِمَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَأَشْبَاهِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْ شَيْخِهِمَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، مَعَ كَوْنِهِمْ دُونَ الرُّوَاةِ عَنْهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالْعِلْمِ ; لِأَجْلِ رِوَايَتِهِمْ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَكَمْ مِنْ حَافِظٍ جَلِيلٍ أَخَذَ عَنْ مُسْنِدٍ مَحْضٍ كَالْحَجَّارِ، أَوْ عَمَّنْ دُونَهُ فِي اللُّقِيِّ خَاصَّةً دُونَ السِّنِّ أَيْضًا. (أَوْ) رَوَى عَمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ (فِيهِمَا) ; أَيْ: فِي السَّنِّ الْمُلَازِمِ لِلطَّبَقَةِ كَمَا مَرَّ، وَفِي الْقَدْرِ مَعًا ; كَرِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْعُلَمَاءِ عَنْ أَصْحَابِهِمْ وَتَلَامِذَتِهِمْ ; مِثْلُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصُّورِيِّ، وَالْخَطِيبِ عَنْ أَبِي النَّصْرِ بْنِ مَاكُولَا، فِي نَظَائِرِهِمَا. وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى رِوَايَةِ الرَّاوِي عَمَّنْ دُونَهُ فِي اللُّقِيِّ أَوْ فِي السِّنِّ أَوْ فِي الْمِقْدَارِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 (وَمِنْهُ) ; أَيْ: وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ، (أَخْذُ الصَّحْبِ) ; أَيْ: الصَّحَابَةِ، (عَنْ تَابِعٍ) لَهُمْ ; (كَـ) رِوَايَةِ (عِدَّةٍ) مِنَ الصَّحَابَةِ، فِيهِمُ الْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَنَسٌ وَمُعَاوِيَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (عَنْ كَعْبِ) الْأَحْبَارِ فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ، أَفْرَدَهَا الْخَطِيبُ فِي جُزْءِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ رَتَّبْتُهُ وَلَخَّصَهُ شَيْخُنَا فِيمَا أَخَذْتُ عَنْهُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي (جَامِعِهِ) مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْلَى عَلَيْهِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] ، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ عَقِبَهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ سَهْلٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مَرْوَانُ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ لِزِيَادَةِ (وَهُمْ بِالشَّامِ) فِي حَدِيثِ: ( «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ» ) ، فَمَالِكٌ الْمَذْكُورُ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا. وَرِوَايَةُ الصَّحَابَةِ عَنِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا الْآبَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ، وَالشَّيْخُ عَنِ التِّلْمِيذِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَسَائِلَ هَذَا النَّوْعِ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِهِ. وَكَذَا أَخْذُ التَّابِعِينَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ ; كَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ، وَكَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مَعْمَرٍ، وَكَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ. وَمِنْ ظَرِيفِ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ أَنَّ الشَّرِيفَ يَعْقُوبَ الْمَغْرِبِيَّ الْمَالِكِيَّ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (783هـ) كَانَ يُوَاظِبُ الْحُضُورَ عِنْدَ الْوَلِيِّ ابْنِ النَّاظِمِ فِي الْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّةِ الْقَدِيمَةِ ; لِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا فِي طَلَبَتِهَا مَعَ كَوْنِهِ فِي عِدَادِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 شُيُوخِهِ. بَلْ ذَكَرَ السِّرَّاجُ بْنُ الْمُلَقِّنِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ; وَلِذَا قَالَ الْوَلِيُّ: فَقَدْ أَخَذَ الْمَذْكُورُ عَنِّي، وَأَخَذَ عَنْهُ شَيْخِي. قَالَ: وَهَذِهِ ظَرِيفَةٌ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا النَّوْعِ وَمَا أَشْبَهَهُ التَّنْوِيهُ مِنَ الْكَبِيرِ بِذِكْرِ الصَّغِيرِ، وَإِلْفَاتُ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ بَعْدَ إِفَادَتِهِ: إِنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ نِهَايَتِهِ عَنْ تِلْمِيذِهِ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَهَذَا أَعْظَمُ مَا عَظُمَ بِهِ أَبُو نَصْرٍ، فَهُوَ فَخَارٌ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ. وَكَذَا نَقَلَ الْجَمَالُ الْأَسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ وَغَيْرِهَا عَنِ النَّاظِمِ وَاصِفًا لَهُ بِحَافِظِ الْعَصْرِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ تَلَامِذَتِهِ، وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ مَفَاخِرِ كُلٍّ مِنَ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ عَنْهُ. وَذَكَرْتُ مِمَّا وَقَعَ لِشَيْخِنَا مِنْ ذَلِكَ مَعَ طَلَبَتِهِ فِي تَرْجَمَتِهِ جُمْلَةً. [رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ] 833 - وَالْقُرَنَا مَنِ اسْتَوَوْا فِي السَّنَدِ ... وَالسِّنِّ غَالِبًا وَقِسْمَيْنِ اعْدُدِ 834 - مُدَبَّجًا وَهْوَ إِذَا كُلٌّ أَخَذْ ... عَنْ آخَرٍ وَغَيْرَهُ انْفِرَادُ فَذْ وَهُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنْ ظَنِّ الزِّيَادَةِ فِي الْإِسْنَادِ، أَوْ إِبْدَالِ الْوَاوِ بِـ (عَنْ) إِنْ كَانَ بِالْعَنْعَنَةِ. (وَالْقُرَنَا) بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ (مَنِ اسْتَوَوْا) ; أَيْ: تَمَاثَلُوا أَيْ: تَقَارَبُوا، (فِي السَّنَدِ) ; يَعْنِي: الْأَخْذِ عَنِ الشُّيُوخِ. (وَ) كَذَا فِي (السِّنِّ) ، لَكِنْ (غَالِبًا) ; لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَكْتَفُونَ - كَالْحَاكِمِ - بِالتَّقَارُبِ فِي الْإِسْنَادِ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْأَسْنَانُ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ شَيْخِنَا أَنَّهُ لَوْ حَصَلَتِ الْمُقَارَنَةُ فِي السِّنِّ دُونَ الْإِسْنَادِ كَفَى ; فَإِنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 قَالَ: فَإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوِي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ ; مِثْلِ السِّنِّ وَاللُّقِيِّ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَنِ الْمَشَايِخِ، فَهُوَ النَّوْعُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَاوِيًا عَنْ قَرِينِهِ. (وَقِسْمَيْنِ اعْدُدِ) ; أَيْ: وَاعْدُدْ رِوَايَةَ الْأَقْرَانِ قِسْمَيْنِ: (مُدَبَّجًا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ، (وَهْوَ إِذَا كُلٌّ) مِنَ الْقَرِينَيْنِ (أَخَذْ عَنْ آخَرٍ) بِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ، وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَخْذًا مِنْ دِيبَاجَتَيِ الْوَجْهِ، وَهُمَا الْخَدَّانِ ; لِتَسَاوِيهِمَا وَتَقَابُلِهِمَا. وَلَكِنْ لَمْ يَتَقَيَّدِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ الْآتِي ذِكْرُهُ بِالْقَرِينَيْنِ، بَلْ أَدْرَجَ فِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الْآتِي، وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. (وَغَيْرَهُ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى (مُدَبَّجًا) فَأُبْدِلَا مِنْ قِسْمَيْنِ ; أَيْ: وَغَيْرَ مُدَبَّجٍ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ (انْفِرَادُ فَذْ) بِالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: انْفِرَادُ أَحَدِ الْقَرِينَيْنِ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الْآخَرِ، وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ عَنْهُ. وَحِينَئِذٍ فَالْأَوَّلُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَكُلُّ مُدَبَّجٍ أَقْرَانٌ، وَلَا عَكْسَ. وَفِي الْأَوَّلِ صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ كِتَابًا حَافِلًا فِي مُجَلَّدٍ، وَفِي الثَّانِي صَنَّفَ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ الْأَصْبَهَانِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسَفَ بْنِ الْأَخْرَمِ الشَّيْبَانِيُّ. وَفِيهِمَا شَيْخُنَا مُلَخِّصًا لِذَلِكَ مِنْهُمَا، فَسَمَّى الْأَوَّلَ: (التَّعْرِيجَ عَلَى التَّدْبِيجِ) ، وَالثَّانِيَ: (الْأَفْنَانَ فِي رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ) ، وَيُسَمَّى أَيْضًا (الْمُخَرَّجَ مِنَ الْمُدَبَّجِ) . مِثَالُ الْأَوَّلِ فِي الصَّحَابَةِ: أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ. وَفِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 التَّابِعِينَ: الزُّهْرِيُّ وَأَبُو الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ. وَفِي أَتْبَاعِهِمْ: مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ كَذَلِكَ. وَفِي أَتْبَاعِ الْأَتْبَاعِ: أَحْمَدُ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ كَذَلِكَ مَعَ نِزَاعٍ فِي كَوْنِهِمَا قَرِينَيْنِ. وَفِي الْمُتَأَخِّرِينَ: الْمِزِّيُّ وَالْبِرْزَالِيُّ كَذَلِكَ، وَشَيْخُنَا وَالتَّقِيُّ الْفَاسِيُّ كَذَلِكَ. وَمِثَالُ الثَّانِي: رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ مِسْعَرٍ ; فَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَحْفَظُ لِمِسْعَرٍ عَنِ التَّيْمِيِّ رِوَايَةً، عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ التَّيْمِيِّ مِنْ أَقْرَانِ مِسْعَرٍ، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُ. نَعَمْ، رَوَى كُلٌّ مِنَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ مِسْعَرٍ، وَهُمْ أَقْرَانٌ، وَالْأَعْمَشُ عَنِ التَّيْمِيِّ، وَهُمَا قَرِينَانِ، وَالزَّيْنُ رِضْوَانُ عَنِ الرَّشِيدِيِّ، وَهُمَا قَرِينَانِ مِنْ شُيُوخِنَا. وَقَدْ يَجْتَمِعُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَقْرَانِ فِي سِلْسِلَةٍ ; كَرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: (كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذْنَ مِنْ شُعُورِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ) . فَالْخَمْسَةُ - كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ - أَقْرَانٌ. وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، عَنْ عُمَرَ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ لِحَدِيثِ: ( «مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ» ) . فَفِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ. وَكَذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَفْرَدَ فِيهِ كُلٌّ مِنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْمِصْرِيِّ وَأَبِي الْحَجَّاجِ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلٍ الدِّمَشْقِيِّ فِيمَا سَمِعْنَاهُ جُزْءًا. بَلِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ فِي حَدِيثِ: ( «الْمَوْتُ كَفَّارَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ) ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 بِلَالٍ. وَهُوَ غَرِيبٌ ; لِاجْتِمَاعِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ وَدُونَ هَذَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِمَّا أَمْثِلَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ; كَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ - عَلَى الْقَوْلِ بِصُحْبَتِهِ - عَنْ مُعَاذٍ، وَكَمُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أُخْتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ. ثُمَّ مِمَّا أَمْثِلَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ وَمَا لَا يَدْخُلُ ; كَابْنِ عُمَرَ عَنْ كُلٍّ مِنْ أَبِيهِ وَأُخْتِهِ وَحَفْصَةَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ لِحَدِيثِ: ( «اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِدَاوَةٍ» ) . وَرِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَفِيهِمَا أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ. وَدُونَ هَذَا الْعَدَدِ مِمَّا أَمْثِلَتُهُ أَكْثَرُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ ; كَالزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَذَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى اثْنَيْنِ، وَأَكْثَرُ مَا وُجِدَ مِنْهُمْ حَسْبَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُرْسَلِ فِي نَسَقٍ ; إِمَّا سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ. وَفِي أَشْبَاهِ مَا ذَكَرْتُهُ طُولٌ. وَلِلْخَطِيبِ رِوَايَةُ التَّابِعِينَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهُوَ مَعَ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، الَّذِي عَلِمْتَ إِفْرَادَ نَوْعٍ مِنْهُ بِالتَّأْلِيفِ أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَتْبَاعُهُ، وَلَكِنْ قَدِ اسْتَدْرَكَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِمَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ الْحِرْصُ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِرَاوِيهِ، وَالرَّغْبَةُ فِي التَّوَاضُعِ فِي الْعِلْمِ. [الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ] ُ 835 - وَأَفْرَدُوا الْإِخْوَةَ بِالتَّصْنِيفِ ... فَذُو ثَلَاثَةٍ بَنُو حُنَيْفِ 836 - أَرْبَعَةٍ أَبُوهُمُ السَّمَّانُ وَخَمْسَةٍ أَجَلُّهُمْ سُفْيَانُ ... 837 - وَسِتَّةٍ نَحْوُ بَنِي سِيرِينَا وَاجْتَمَعُوا ثَلَاثَةً يَرْوُونَا ... 838 - وَسَبْعَةٍ بَنُو مُقَرِّنٍ وَهُمْ مُهَاجِرُونَ لَيْسَ فِيهِمْ عَدُّهُمْ ... 839 - وَالْأَخَوَانِ جُمْلَةٌ كَعُتْبَةِ أَخِي ابْنِ مَسْعُودٍ هُمَا ذُو صُحْبَةِ (الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ) ، وَهُوَ نَوْعٌ لَطِيفٌ. وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنْ ظَنِّ مَنْ لَيْسَ بِأَخٍ أَخًا ; لِلِاشْتِرَاكِ فِي اسْمِ الْأَبِ، كَأَحْمَدَ بْنِ إِشْكَابَ وَعَلِيِّ بْنِ إِشْكَابَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِشْكَابَ، أَوْ ظَنِّ الْغَلَطِ. (وَأَفْرَدُوا) ; أَيْ: أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ; كَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ وَالْجِعَابِيِّ ثُمَّ الدِّمْيَاطِيِّ، (الْإِخْوَةَ) مِنَ الرُّوَاةِ وَالْعُلَمَاءِ (بِالتَّصْنِيفِ) . وَكَذَا صَنَّفَ فِي خُصُوصِ أَوْلَادِ الْمُحَدِّثِينَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَفِي خُصُوصِ الْإِخْوَةِ مِنْ وَلَدِ كُلٍّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعُتْبَةَ ابْنَيْ مَسْعُودٍ، الدَّارَقُطْنِيُّ. وَفِي خُصُوصِ رِوَايَةِ الْإِخْوَةِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السُّنِّيِّ. وَأَمْثِلَتُهُ فِي الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا كَثِيرَةٌ. (فَذُو ثَلَاثَةٍ) مِنَ الصَّحَابَةِ: سَهْلٌ وَعَبَّادٌ وَعُثْمَانُ (بَنُو حُنَيْفِ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ نُونٍ، وَآخِرُهُ فَاءٌ، مُصَغَّرٌ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَمْرُو وَعُمَرُ وَشُعَيْبٌ بَنُو شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَذُو (أَرْبَعَةٍ) مِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وَمُحَمَّدٌ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ بَنُو أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَمِنِ التَّابِعِينَ: سُهَيْلٌ وَمُحَمَّدٌ وَصَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمُلَقَّبُ عَبَّادًا. (أَبُوهُمُ) ذَكْوَانُ أَبُو صَالِحٍ (السَّمَّانُ) ، وَيُقَالُ لَهُ: الزَّيَّاتُ أَيْضًا. وَوَهِمَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ حَيْثُ جَعَلَ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبَّادًا اثْنَيْنِ، وَأَبْدَلَ مُحَمَّدًا بِيَحْيَى مُصَرِّحًا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ. وَمِنْ غَيْرِهِمَا شَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَبِيرِ وَأَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ عُمَيْرٌ بَنُو عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْبَصْرِيِّ. (وَ) ذُو (خَمْسَةٍ) مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَعَقِيلٌ وَأُمُّ هَانِئٍ فَاخِتَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَجُمَانَةُ بَنُو أَبِي طَالِبٍ. وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ: سُفْيَانُ وَآدَمُ وَعِمْرَانُ وَمُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ بَنُو عُيَيْنَةَ. وَ (أَجَلُّهُمْ) فِي الْعِلْمِ (سُفْيَانُ) . وَهَؤُلَاءِ بِقَيْدِ مَنْ رَوَى ; فَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ الْحَافِظَ أَبَا عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ - يَعْنِي النَّيْسَابُورِيَّ - يَقُولُ: كُلُّهُمْ حَدَّثُوا، وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ. وَمِمَّا يُسْتَغْرَبُ فِي الْخَمْسَةِ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ شَيْخٍ أَخْبَرَهُ بِالْيَمَنِ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ خَمْسَةُ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ. وَفِي الْأَرْبَعَةِ بَنُو رَاشِدٍ أَبِي إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيِّ وُلِدُوا كَذَلِكَ فِي بَطْنٍ، وَكَانُوا عُلَمَاءَ، وَهُمْ: مُحَمَّدٌ وَعُمَرُ وَإِسْمَاعِيلُ، وَلَمْ يُسَمِّ الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ الرَّابِعَ، وَسَمَّاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي آخِرِ مُخْتَصَرِهِ الْفَرْعِيِّ عَلِيًّا، وَأَفَادَ أَنَّهُ هُوَ وَمُحَمَّدٌ وَعُمَرُ بَلَغُوا ثَمَانِينَ عَامًا. (وَ) ذُو (سِتَّةٍ) مِنَ الصَّحَابَةِ: حَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَصَفِيَّةُ وَأُمَيْمَةُ وَأَرْوَى وَعَاتِكَةُ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِسْلَامِ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَاتِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: (نَحْوُ) مُحَمَّدٍ وَأَنَسٍ وَيَحْيَى وَمَعْبَدٍ وَحَفْصَةَ وَكَرِيمَةَ (بَنِي سِيرِينَا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَنَّاتَيْنِ تَحْتَانِيَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ وَآخِرُهُ نُونٌ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَكَانَ مَعْبَدٌ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا وَأَقْدَمَهُمْ مَوْتًا، وَحَفْصَةُ أَصْغَرَهُمْ. وَمِمَّنْ عَدَّهُمْ سِتًّا ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ فِي (الْكُنَى) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 وَالْحَاكِمُ فِي (عُلُومِهِ) . وَكَذَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ فِيمَا نَقَلَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ، لَكِنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ كَرِيمَةَ خَالِدًا، وَجَعَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ سَابِعًا، وَزَادَ فِيهِمْ أَيْضًا عَمْرَةَ وَسَوْدَةَ، وَأُمُّهُمَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَأُمَّهَا هِيَ وَمُحَمَّدُ وَيَحْيَى وَحَفْصَةُ وَكَرِيمَةُ وَصَفِيَّةُ، فَصَارُوا عَشَرَةً. وَقَدْ ضَبَطَهُمُ الْبِرْمَاوِيُّ بِالنَّظْمِ فَقَالَ: لِسِيرِينَ أَوْلَادٌ يُعَدُّونَ سِتَّةً ... عَلَى الْأَشْهَرِ الْمَعْرُوفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ وَثِنْتَانِ مِنْهُمْ حَفْصَةُ وَكَرِيمَةُ ... كَذَا أَنَسٌ مِنْهُمُ وَيَحْيَى وَمَعْبَدُ فَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ خَالِدًا ثُمَّ عَمْرَةَ ... وَأُمَّ سُلَيْمٍ سَوْدَةَ لَا تُفَنَّدُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ قَالَ: حَجَجْنَا فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَنَحْنُ سَبْعَةٌ وَلَدُ سِيرِينَ، فَقَالَ: هَذَانِ لِأُمٍّ، وَهَذَانِ لِأُمٍّ، وَهَذَانِ لِأُمٍّ، وَهَذَا لِأُمٍّ، فَمَا أَخْطَأَ. بَلْ عَدَّهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي (الْمَعَارِفِ) إِجْمَالًا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ، وَلَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَشْهَرِهِمْ إِنْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنَ الزَّائِدِ رِوَايَةٌ. (وَاجْتَمَعُوا ثَلَاثَةً) مِنَ السِّتَّةِ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ (يَرْوُونَا) ; أَيْ: يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي (الْعِلَلِ) مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَخِيهِ يَحْيَى، عَنْ أَخِيهِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا» ) . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذِهِ غَرِيبَةٌ. بَلْ أَفَادَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ الْحَافِظُ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ لَهُ عَنْ أَخِيهِ يَحْيَى، عَنْ أَخِيهِ مَعْبَدٍ، عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 أَخِيهِ أَنَسٍ. وَرَوَيْنَاهُ كَذَلِكَ فِي مَشْيَخَةٍ أَبِي الْغَنَائِمِ النَّرْسِيِّ الْمَعْرُوفِ بِأُبَيٍّ، وَأَمْلَاهُ عَلَيْنَا شَيْخُنَا. وَحِينَئِذٍ فَقَدِ اجْتَمَعَ إِخْوَةٌ أَرْبَعَةٌ فِي إِسْنَادٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ نَادِرٌ تُسْتَحْسَنُ الْمُطَارَحَةُ بِهِ. (وَ) ذُو (سَبْعَةٍ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: النُّعْمَانُ وَمَعْقِلٌ وَعَقِيلٌ وَسُوَيْدٌ وَسِنَانٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ (بَنُو مُقَرِّنٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ نُونٌ. وَلَمْ يُسَمِّ ابْنُ الصَّلَاحِ السَّابِعَ، وَسَمَّاهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ فَتْحُونٍ فِي (ذَيْلِ الِاسْتِيعَابِ) . (وَهُمْ) ; أَيْ: بَنُو مُقَرِّنٍ، ذُكُورٌ (مُهَاجِرُونَ لَيْسَ) . وَفِي نُسْخَةٍ: صَحَابَةٌ، وَلَيْسَ (فِيهِمْ) ; أَيْ: فِي الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةٌ وَتَبِعَهُمُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّنْ هَاجَرَ وَحَصَّلَ هَذِهِ الْمَكْرُمَةَ مِنَ الْإِخْوَةِ، (عَدُّهُمْ) ; أَيْ: سَبْعَةٌ. وَيَشْهَدُ لِعَدِّهِمْ كَذَلِكَ مَا رَوَى شُعْبَةُ قَالَ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: مَا اسْمُكَ؟ قُلْتُ: شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو شُعْبَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَطَمَ غُلَامًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصُّورَةَ مُحَرَّمَةٌ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةِ إِخْوَةٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَنَا إِلَّا خَادِمٌ فَلَطَمَهَا أَحَدُنَا، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْتِقَهَا» . وَحَكَى الطَّبَرِيُّ وَابْنُ فَتْحُونٍ إِجْمَالًا أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ، وَمِنْهُمْ ضِرَارٌ وَنُعَيْمٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْعَاشِرِ. ثُمَّ إِنَّ دَعْوَى انْفِرَادِ بَنِي مُقَرِّنٍ بِذَلِكَ مُنْتَقِضَةٌ بِبِشْرٍ أَوْ سَهْمٍ وَتَمِيمٍ أَوْ نُمَيْرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وَالْحَارِثِ وَالْحَجَّاجِ وَالسَّائِبِ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَمَعْمَرٍ أَوْ مَعْبَدٍ وَأَبِي قُبَيْسٍ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ قُبَيْسٍ السَّهْمِيِّ، فَكُلُّهُمْ مِمَّنْ صَحِبَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ خُلْفٍ فِي بَعْضِهِمْ. وَكَذَا بِأَسْمَاءَ وَحُمْرَانَ وَخِرَاشٍ وَذُؤَيْبٍ وَسَلَمَةَ وَفَضَالَةَ وَمَالِكٍ وَهِنْدٍ بَنِي حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَكُلُّهُمْ مِمَّنْ صَحِبَ وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا: إِنَّهُمْ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، لَكِنَّهُمْ حَذَفُوا وَاحِدًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّبْعَةَ مِمَّنْ هَاجَرَ، وَالتِّسْعَةَ وَإِنْ هَاجَرُوا فَبِقَيْدِ الْحَبَشَةِ مَعَ الْخُلْفِ فِي بَعْضِهِمْ، وَالثَّمَانِيَةَ فَبِقَيْدِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُمْ مُنْفَرِدُونَ بِذَلِكَ. نَعَمْ، فِي الصَّحَابَةِ إِخْوَةٌ سَبْعَةٌ شَهِدُوا بَدْرًا، لَكِنْ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَبٍ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ آخَرَ، وَهُمْ: مُعَاذٌ وَمُعَوَّذٌ وَعَوْذٌ أَوْ عَوْفٌ - وَهُوَ أَصَحُّ - بَنُو الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيِّ. وَإِيَاسٌ وَخَالِدٌ وَعَاقِلٌ وَعَامِرٌ بَنُو الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ نَاشِبٍ، أُمُّهُمْ كُلُّهُمْ عَفْرَاءُ ابْنَةُ عُبَيْدٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ فِي السَّبْعَةِ: سَالِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ وَوَاقِدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَذَكَرَهُمْ كَذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ، لَكِنَّهُ جَعَلَ بِلَالًا مَكَانَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَبِلَالٌ بِلَا شَكٍّ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ سَمِعَ وَالِدُهُ شَاعِرًا يُنْشِدُ: بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَيْرُ بِلَالِ ... فَقَالَ: بَلْ بِلَالُ نَبِيِّ اللَّهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فَإِنْ صَحَّ كَوْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهُمْ، كَانَ مَعَ بَنِي حَارِثَةَ الْمَاضِي ذِكْرُهُمْ مِنْ أَمْثِلَةِ الثَّمَانِيَةِ. وَذُو التِّسْعَةِ بَنُو الْحَارِثِ الْمَاضِي ذِكْرُهُمْ، وَذُو الْعَشَرَةِ بَنُو الْعَبَّاسِ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ: تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرَهْ ... يَا رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ كِرَامًا بَرَرَهْ وَاجْعَلْ لَهُمْ ذِكْرًا وَأَنْمِ الثَّمَرَهْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ زَائِدٍ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَهُمْ: الْفَضْلُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقُثَمُ وَمَعْبَدٌ وَعَوْنٌ وَالْحَارِثُ وَكَثِيرٌ وَتَمَّامٌ وَمِسْهَرٌ وَصُبْحٌ، وَأَنْكَرَهُمَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَأُمُّ حَبِيبٍ وَأُمَيْمَةُ وَأُمُّ قُثَمَ، وَسَبْعَةٌ مِنْهُمْ هُمُ السِّتَّةُ الْأَوَّلُونَ وَأُمُّ حَبِيبٍ أُمُّهُمْ أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ الْكُبْرَى ابْنَةُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ; وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْلٍ ... كَسَبْعَةٍ مِنْ بَطْنِ أُمِّ الْفَضْلِ وَأَخَوَاتُ جَابِرٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُنَّ تِسْعَةٌ، قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: لِكُلِّهِنَّ صُحْبَةٌ. وَبَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ. وَلَكِنْ عَدَّهُمُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ اثْنَيْ عَشَرَ، وَهُمْ: إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعِمَارَةُ وَعُمَرُ وَعُمَيْرٌ وَالْقَاسِمُ وَمُحَمَّدٌ وَيَعْقُوبُ وَيَعْمَرُ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَكُلُّهُمْ حُمِلَ عَنْهُ الْعِلْمُ. فِي أَمْثِلَةٍ لِلْعَشَرَةِ كَبَنِي الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ صَاحِبِ الْجُزْءِ الشَّهِيرِ ; فَقَدْ قَالَ نُعَيْمٌ: كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلَادٍ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْعَشَرَةِ. بَلْ ثَمَّ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَعْدَادِ. بَلْ وَلِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ أَوْدَعَ الْعَلَاءُ مُغَلْطَايْ فِي اسْتِدْرَاكِهِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ مِنَ الزَّائِدِ جُمْلَةً مَعَ قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَلَمْ نُطَوِّلْ بِمَا زَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 عَلَى السَّبْعَةِ ; لِنُدْرَتِهِ وَلِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي غَرَضِنَا هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي (الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ) : وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ عَدَدِ الْأَوْلَادِ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَأَقَلَّ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ فَنَادِرٌ. هَذَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالرُّومِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالسُّودَانِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِينَ فَبَلَغَنَا عَنْ عَدَدٍ يَسِيرٍ جِدًّا، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَخَلِيفَةُ بْنُ بُوٍّ السَّعْدِيُّ وَأَبُو بَكْرَةَ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا حَتَّى مَشَى بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةُ ذَكَرٍ مِنْ وَلَدِهِ. وَعُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَ يَرْكَبُ مَعَهُ سِتُّونَ رَجُلًا مِنْ وَلَدِهِ، وَجَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ ذَكَرًا سِوَى أَوْلَادِهِمْ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلُ وُلِدَ لَهُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ ذَكَرًا، وَمُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقُ بَلَغَ لَهُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ ذَكَرًا. وَذَكَرَ آخَرِينَ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ. وَسَمَّى ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ وَلَدًا، رَوَى عَنْهُ مِمَّنْ فِي رِجَالِ السِّتَّةِ إِبْرَاهِيمُ وَعَامِرٌ وَعُمَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمُصْعَبٌ وَعَائِشَةُ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي (تَارِيخِ بُخَارَى) لِغُنْجَارَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ خَالِدٍ الْبَجَلِيِّ الْحَافِظِ بِبُخَارَى، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِبَغْدَادَ قَائِدٌ مِنْ بَعْضِ قُوَّادِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَلِدُ الْبَنَاتِ، فَحَمَلَتِ الْمَرْأَةُ مَرَّةً فَحَلَفَ زَوْجُهَا إِنْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْمَرَّةُ بِنْتًا فَإِنِّي أَقْتُلُكِ بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا وَجَعَلَتِ الْقَابِلَةُ، أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ مِثْلَ الْجَرِيبِ وَهُوَ يَضْطَرِبُ، فَشَقُّوهُ فَخَرَجَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ ابْنًا وَعَاشُوا كُلُّهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ: وَأَنَا رَأَيْتُهُمْ بِبَغْدَادَ رُكْبَانًا خَلْفَ أَبِيهِمْ، وَكَانَ اشْتَرَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ظِئْرًا. وَدُونَهُ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَطْلَبِ عَنِ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ، أَنَّ امْرَأَةً بِالْأَنْبَارِ أَلْقَتْ كِيسًا فِيهِ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا. وَدُونَهُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. (وَالْأَخَوَانِ) فِي الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ (جُمْلَةٌ) يَطُولُ عَدُّهُمْ ; (كَعُتْبَةِ) بِالصَّرْفِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 لِلضَّرُورَةِ (أَخِي ابْنِ مَسْعُودٍ) عَبْدِ اللَّهِ، وَ (هُمَا ذُو صُحْبَةٍ) لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعُتْبَةُ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا، وَكَمُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، وَبَيْنَهُمَا فِي الْعُمُرِ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَمِنْ أَهَمِّ هَذَا النَّوْعِ مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ فِيهِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ أَوِ الْإِخْوَةِ فِي الِاسْمِ، وَهُوَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَضْلِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ أَخَوَانِ، وَيَتَمَيَّزُ غَالِبًا بِاللَّقَبِ وَنَحْوِهِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُ لِلنَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُنَ مِنَ الْأَوْلَادِ ثَمَانِيَةٌ، وُلُّوا السَّلْطَنَةَ عَلَى الْوَلَاءِ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَوَّلُهُمُ الْمَنْصُورُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ الْأَشْرَفُ كَجَكٌ، ثُمَّ النَّاصِرُ أَحْمَدُ، ثُمَّ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ الْكَامِلُ شَعْبَانُ، ثُمَّ الْمُظَفَّرُ حَاجِي، ثُمَّ النَّاصِرُ حَسَنٌ، ثُمَّ الصَّالِحُ صَالِحٌ، وَبَعْدَهُ أُعِيدَ الَّذِي قَبْلَهُ فَطَالَتْ مُدَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِإِخْوَتِهِ. وَلَهُ مِمَّنْ لَمْ يَلِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْأَمْجَدُ حُسَيْنٌ، وَهُوَ آخِرُ أَوْلَادِ أَبِيهِ مَوْتًا. وَأَنْجَبَ الْأَشْرَفَ شَعْبَانَ وَالِدَ الْمَنْصُورِ عَلِيٍّ، وَحَاجِي الْمُلَقَّبَ أَوَّلًا الصَّالِحَ ثُمَّ الْمَنْصُورَ، وَبِهِ خُتِمَتْ ذُرِّيَّةُ الْمَنْصُورِ، خَلَعَهُ الظَّاهِرُ بَرْقُوقٌ. [رِوَايَةُ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَعَكْسُهُ] ُ 840 - وَصَنَّفُوا فِيمَا عَنِ ابْنٍ أَخَذَا ... أَبٌ كَعَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ كَذَا 841 - وَايِلُ عَنْ بَكْرِ ابْنِهِ وَالتَّيْمِي ... عَنِ ابْنِهِ مُعْتَمِرٍ فِي قَوْمِ 842 - أَمَّا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْحَمْرَاءِ عَائِشَةٍ ... فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ 843 - فَإِنَّهُ لِابْنِ أَبِي عَتِيقِ وَغُلِّطَ الْوَاصِفُ بِالصِّدِّيقِ ... 844 - وَعَكْسُهُ صَنَّفَ فِيهِ الْوَائِلِي وَهْوَ مَعَالٍ لِلْحَفِيدِ النَّاقِلِ ... 845 - وَمِنْ أَهَمِّهِ إِذَا مَا أُبْهِمَا الْأَبُ أَوْ جَدٌّ وَذَاكَ قُسِمَا ... 846 - قِسْمَيْنِ عَنْ أَبٍ فَقَطْ نَحْوُ أَبِي الْعُشَرَا عَنْ أَبِهِ عَنِ النَّبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 847 - وَاسْمُهُمَا عَلَى الشَّهِيرِ فَاعْلَمِ ... أُسَامَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قِهْطَمِ 848 - وَالثَّانِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ ... كَبَهْزٍ اوْ عَمْرٍو أَبًا أَوْ جَدَّهُ 849 - وَالْأَكْثَرُ احْتَجُّوا بِعَمْرٍو حَمْلَا ... لَهُ عَلَى الْجَدِّ الْكَبِيرِ الْأَعْلَى 850 - وَسَلْسَلَ الْأَبَا التَّمِيمِيُّ فَعَدْ ... عَنْ تِسْعَةٍ قُلْتُ: وَفَوْقَ ذَا وَرَدْ (رِوَايَةُ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَعَكْسُهُ) ، وَهُمَا نَوْعَانِ مُهِمَّانِ. وَفَائِدَةُ ضَبْطِ أَوَّلِهِمَا الْأَمْنُ مِنْ ظَنِّ التَّحْرِيفِ النَّاشِئِ عَنْهُ كَوْنَ الِابْنِ أَبًا، وَإِنَّمَا أُخِّرَ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ ; لِضَمِّ الثَّانِي إِلَيْهِ. (وَصَنَّفُوا) كَالْخَطِيبِ (فِيمَا عَنِ ابْنٍ أَخَذَا أَبٌ) ; أَيْ: فِيمَا أَخَذَهُ الْأَبُ عَنِ ابْنِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ النَّوْعَيْنِ، كِتَابًا لَطِيفًا، وَقَدْ سَمِعْتُهُ، وَفِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِ أَنَسٍ: حَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أَمِينَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي إِلَى مَقْدِمِ الْحُجَّاجِ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ. وَكَرِوَايَتِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَكَرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ كُتُبِ النَّاسِ لِلْفَائِدَةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ. (وَكَـ) ـرِوَايَةِ (عَبَّاسٍ) عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنِ الْفَضْلِ) وَلَدِهِ لِحَدِيثِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ حَسْبَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (التَّلْقِيحِ) ، وَكَرِوَايَتِهِ أَيْضًا عَنْ وَلَدِهِ الْبَحْرِ عَبْدِ اللَّهِ. وَ (كَذَا) رَوَى (وَايِلُ) بِكَسْرِ التَّحْتَانِيَّةِ وَدُونَ تَنْوِينٍ، ابْنُ دَاوُدَ، (عَنْ بَكْرِ) بِدُونِ تَنْوِينٍ أَيْضًا (ابْنِهِ) ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ بَكْرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ» ) . أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «أَخِّرُوا الْأَحْمَالَ ; فَإِنَّ الْيَدَ مُعَلَّقَةٌ وَالرِّجْلَ مُوَثَّقَةٌ» ) . أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ وَقَالَ: لَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نَعْلَمُهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ بَكْرٍ وَأَبِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ بَكْرٍ، لَا ذِكْرَ لِوَايِلٍ فِيهِ. (وَ) كَذَلِكَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ (التَّيْمِي) بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ وَبِإِسْكَانِ يَاءِ النِّسْبَةِ (عَنِ ابْنِهِ مُعْتَمِرٍ) لِحَدِيثَيْنِ. بَلْ عِنْدَ الْخَطِيبِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثْتَنِي أَنْتَ عَنِّي، عَنْ أَيُّوبَ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ هُوَ الْبَصْرِيُّ، أَنَّهُ قَالَ: وَيْحٌ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا ظَرِيفٌ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا يَعْنِي كَرِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَعَكْسِهِ، وَالْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، وَالْمُدَبَّجِ وَالتَّحْدِيثِ بَعْدَ النِّسْيَانِ وَاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، (فِي قَوْمِ) غَيْرِ هَؤُلَاءِ، رَوَوْا عَنْ أَبْنَائِهِمْ ; كَأَحْمَدَ بْنِ شَاهِينَ، عَنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ، عَنِ ابْنِهِ يَعْقُوبُ، وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ، وَزَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِهِ يَحْيَى، وَسَعِيدِ بْنِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيِّ عَنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنِ ابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ، وَشُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنِ ابْنِهِ أَبِي هِشَامٍ الْوَلِيدِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ عَنِ ابْنِهِ أَبِي الرِّضَا مُحَمَّدٍ، وَعَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الطَّائِيِّ عَنِ ابْنِهِ الْحَسَنِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي عِيسَى الدَّارْبِجِرْدِيِّ عَنِ ابْنِهِ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيِّ الْبَحِيرِيِّ صَاحِبِ (الصَّحِيحِ) عَنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَعُمَرَ بْنِ يُونُسَ الْيَمَامِيِّ عَنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَكَثِيرِ بْنِ يَحْيَى الْبَصْرِيِّ عَنِ ابْنِهِ يَحْيَى، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ عَنِ ابْنِهِ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَعْيَنَ عَنِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ، وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنِ ابْنِهِ إِسْرَائِيلَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي بَعْضِ هَؤُلَاءِ مَنْ رَوَى أَكْثَرَ مِنْ حَدِيثٍ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 كِتَابِ الْخَطِيبِ مِمَّا رَوَاهُ أَبٌ عَنِ ابْنٍ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا أَوْ نَحْوَهَا، وَذَلِكَ لِحَفْصِ بْنِ عُمَرَ الدُّورِيِّ عَنِ ابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدٍ، وَكَالْحَافِظِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ صَاحِبِ (ذَيْلِ تَارِيخِ بَغْدَادَ) عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحِيمِ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ لَفْظًا قَالَ: أَنْبَأَنِي وَالِدِي عَنِّي فِيمَا قَرَأْتُ بِخَطِّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَلَدِي أَبُو الْمُظَفَّرِ عَبْدُ الرَّحِيمِ مِنْ لَفْظِهِ وَأَصْلِهِ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ مَسْلَمَةَ الرَّوَاسِ الْمُتَّهَمِ بِالْوَضْعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ بُرْدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أَحْضِرُوا مَوَائِدَكُمُ الْبَقْلَ ; فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ مَعَ التَّسْمِيَةِ» ) . وَهَذَا مِمَّا أَدْخَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَخْلَقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا آخِرُ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَأَقْرَبُهُ عَهْدًا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّفَّارُ عَنِ ابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ أَبْيَاتًا قَالَهَا، وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْحَافِظُ عَنِ ابْنِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بَيْتَيْنِ لِنَفْسِهِ، وَهُمَا: لَا تُكْثِرَنَّ تَأَمُّلًا وَأَمْـ ـلِكْ ... عَلَيْكَ عِنَانَ طَرْفِكْ فَلَرُبَّمَا أَرْسَلْتَهُ فَرَمَاكَ ... فِي مَيْدَانِ حَتْفِكْ وَالسِّرَاجُ عُمَرُ الْبُلْقِينِيُّ عَنِ ابْنِهِ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ بَيْتَيْنِ قَالَهُمَا شَفَاهًا مُعَزِّيًا لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِي وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ، وَهُمَا: أَنْتَ الْمُظَفَّرُ حَقَّا ... وَلِلْمَعَالِي تَرْقَى وَأَجْرُ مَنْ مَاتَ تَلْقَى ... تَعِيشُ أَنْتَ وَتَبْقَى سَمِعَهُمَا مِنَ السِّرَّاجِ، الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ ابْنُ الْمُصَنِّفِ وَقَالَ لَهُ: أَرْوِي هَذَا عَنْكَ، عَنْ وَلَدِكَ، فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَأَبِي الشَّيْخِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 ابْنِهِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حِكَايَةً، وَالْمُصَنِّفِ عَنِ ابْنِهِ أَبِي زُرْعَةَ أَحْمَدَ الْوَلِيِّ. فَائِدَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ حَدِيثًا كَثِيرَ الثَّوَابِ مَعَ قِلَّةِ الْعَمَلِ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ: ( «مَنْ بَكَرَ وَابْتَكَرَ، وَغَسَلَ وَاغْتَسَلَ، وَدَنَا وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا كَفَّارَةُ سَنَةٍ» ) الْحَدِيثَ. سَمِعَ ذَلِكَ شَيْخُنَا مِنْ شَيْخِهِ الْمُصَنِّفِ، وَثَنَا بِهِ كَذَلِكَ غَيْرُ مَرَّةٍ، وَكَذَا ثَنَا أَنَّ شَيْخَهُ نَاصِرَ الدِّينِ بْنَ الْفُرَاتِ حَكَى فِي تَارِيخِهِ عَنْ وَلَدِهِ الْعِزِّ عَبْدِ الرَّحِيمِ، يَعْنِي شَيْخَنَا مُسْنِدَ عَصْرِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا رِوَايَةُ الْمَرْءِ عَنِ ابْنِ ابْنَتِهِ، وَفِيهِ قِصَّةُ الْحَبَّالِ عَنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ أَنَّهُ أَرْسَلَ ابْنَ ابْنَتِهِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ بَقَّا إِلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ بِمِصْرَ فِي حَدِيثٍ فَحَدَّثَهُ بِهِ، فَقَرَأَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ عَنِ ابْنِ ابْنَتِهِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقَاضِيَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ جَمَاعَةً أَخْبَرَ وَالِدَهُ الْبَدْرَ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةً أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةَ أَنْشَدَهُ قَالَ: أَنْشَدَنِي عَمِّي عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَفِظْتُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ مِنْ وَالِدِي فِي النَّوْمِ وَهُمَا: مَا لِي عَلَى السُّلْوَانِ عَنْكَ مُعَوَّلُ ... فَعَلَامَ تَتْعَبُ فِي هَوَاكَ الْعُذَّلُ يَزْدَادُ حُبُّكَ كُلَّ يَوْمٍ جِدَّةً ... فَكَأَنَّ آخِرَهُ لِقَلْبِيَ أَوَّلُ فَقَالَ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ: هَذِهِ ظَرِيفَةٌ، أَرْوِي هَذَا عَنْ وَلَدِي - يَعْنِي الْعِزَّ - عَنِ ابْنِ أَخِي، يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَخِي، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ وَالِدِي، يَعْنِي الْبُرْهَانَ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمَنَامِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْبَرَنِي بِهِمَا أَبُو الْفَتْحِ الْمَرَاغِيُّ: ثَنَا الْمُصَنِّفُ لَفْظًا إِمْلَاءً أَنْشَدَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَذْكُورُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ رِوَايَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الشَّمْسِ بْنِ الْجَزَرِيِّ، عَنِ ابْنِهِ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ أَخِيهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا الْمَذْكُورِ أَوَّلًا عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خَلِيفَةَ الْمُحَدِّثِ، عَنِ الدِّمْيَاطِيِّ الْحَافِظِ، عَنْ شَيْخِهِ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلٍ الْحَافِظِ، فَذَكَرَ شَيْئًا. وَمِنْ ظَرِيفِهِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ رِوَايَةُ الْأَبَوَيْنِ عَنِ الِابْنِ ; كَرِوَايَةِ أُمِّ رُومَانَ عَنِ ابْنَتِهَا عَائِشَةَ لِحَدِيثَيْنِ، وَرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْهَا أَيْضًا لِحَدِيثَيْنِ، أَفَادَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَلْقِيحِهِ، وَوَقَعَتْ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْهَا فِي (الْمُسْتَخْرَجِ) لِابْنِ مَنْدَهْ. (أَمَّا أَبُو بَكْرٍ) الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَنْجَنِيقِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ) ، (عَنِ الْحَمْرَاءِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، لَقَبٌ جَاءَ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ فِيهَا مَقَالٌ، لَكِنْ بِالتَّصْغِيرِ لَقَبٌ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (عَائِشَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَصْغِيرُ تَقْرِيبٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَيْضَاءُ، فَكَأَنَّهَا غَيْرُ كَامِلَةِ الْبَيَاضِ ; لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، (فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ) وَإِنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ ; (فَإِنَّهُ) ; أَيْ: أَبَا بَكْرٍ هَذَا (لِـ) هُوَ (ابْنِ أَبِي عَتِيقِ) مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ ابْنَ أَبِي عَتِيقٍ فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) ، بَلْ وَفِي جُلِّ الرِّوَايَاتِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَائِشَةُ هِيَ عَمَّةُ وَالِدِهِ، (وَغُلِّطَ الْوَاصِفُ) لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا (بِالصِّدِّيقِ) . وَهُوَ شَيْءٌ انْفَرَدَ بِهِ الْمَنْجَنِيقِيُّ عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْكُوفِيِّ أَحَدِ الْكِبَارِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَيْثُ رَوَاهُ الْمَنْجَنِيقِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِحَيْثُ نَشَأَ عَنْ غَلَطِهِ إِدْخَالُهُ لِذَلِكَ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بَلْ أَدْخَلَهُ الْخَطِيبُ فِي تَصْنِيفِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَكِنْ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْغَلَطِ فِيهِ، قَالَ: وَأَبُو عَتِيقٍ كُنْيَةُ أَبِيهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ ; لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ وَجَدُّ أَبِيهِ أَبُو قُحَافَةَ صَحَابَةٌ مَشْهُورُونَ. انْتَهَى. وَادَّعَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ انْفِرَادَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَرْبَعَةً أَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ وَذَكَرَهُمْ، وَتَبِعَهُ غَيْرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وَاحِدٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَيْدِ الذُّكُورِ، وَإِلَّا فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ صَحَابِيٌّ، وَهُوَ أَسَنُّ وَأَشْهَرُ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ، أُمُّهُ أَسْمَاءُ ابْنَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، نَعَمْ ذَكَرُوا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ الْحِبَّ ابْنَ الْحِبِّ وُلِدَ لَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحِينَئِذٍ فَهُمْ أَرْبَعَةٌ ; إِذْ حَارِثَةُ وَالِدُ زَيْدٍ صَحَابِيٌّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُنْذِرِيُّ فِي أَمَالِيهِ عَلَى (مُخْتَصَرِ مُسْلِمٍ) ، وَحَدِيثُ إِسْلَامِهِ فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، وَنَحْوُهُ مَا فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنْ حَدِيثِ أَسْلَمَ عَنْ عُمَرَ فِي مَجِيءِ ابْنَةِ خُفَافٍ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي لَأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا. إِلَى آخِرِهِ ; فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَخَ الْمُبْهَمَ كَانَ صَحَابِيًّا، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَرْجَمَةِ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ، أَنَّ لَهُ وَلِأَبِيهِ وَجَدِّهِ صُحْبَةً، صَارُوا أَرْبَعَةً فِي نَسَقٍ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْنَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا رُؤْيَةٌ ; لِأَنَّهَا ابْنَةُ صَحَابِيٍّ، وَقَدْ وُصِفَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ بِأَنَّهَا ذَاتُ أَوْلَادٍ، وَكَذَا ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي تَرْجَمَةِ حِذْيَمٍ الْحَنَفِيِّ وَالِدِ حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ وَلِابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ وَنَافِلَتِهِ صُحْبَةً. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ مَدَحَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِعْرٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ سَلَمَةَ وَوَالِدِهِ وَجَدِّهِ صَحَابِيٌّ بِاتِّفَاقٍ، وَمِنْهُ أَنَّ شَافِعًا جَدُّ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ، هُوَ وَأَبُوهُ السَّائِبُ وَجَدُّهُ عُبَيْدٌ، وَجَدُّ أَبِيهِ عَبْدُ يَزِيدَ صَحَابَةٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ: الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ بَيْتُ الصِّدِّيقِ كَوْنُهُمْ مُسَمَّيْنَ، فَخَرَجَ ابْنُ أُسَامَةَ وَابْنُ خُفَافٍ، وَكَوْنُهُمْ بِاتِّفَاقٍ، فَخَرَجَ حِذْيَمٌ وَإِيَاسٌ وَعَبْدُ يَزِيدَ، فَفِيهِمْ خِلَافٌ، بَلْ قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 الذَّهَبِيُّ: لَعَلَّ إِيَاسًا هَذَا وَلَدٌ قَدِيمٌ لِسَلَمَةَ. وَفِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَيْضًا أَرْبَعَةٌ فِي نَسَقٍ، وَهُمْ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ جَمَعَ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ جُزْءًا فِيمَنْ رَوَى هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْجِعَابِيُّ فِيمَنْ رَوَى هُوَ وَأَبُوهُ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هُنَا اسْتِطْرَادًا، وَإِلَّا فَالْأَلْيَقُ بِهَا الصَّحَابَةُ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهَا هُنَاكَ. وَنَحْوُ هَذَا الْبَابِ رِوَايَةُ الْعَبَّاسِ وَحَمْزَةَ عَنِ ابْنِ أَخِيهِمَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْعَمُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي أَمْثِلَةِ الْبَابِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) لَهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ رَوَى عَنِ ابْنِ أَخِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَخِي الْأَمِينُ. وَذَكَرَ شَيْئًا، وَكَذَا رَوَى مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِيهِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ أَخِيهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَالِكٌ عَنِ ابْنِ أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، فِي أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ، وَرُبَّمَا يَكُونُ ابْنُ الْأَخِ أَكْبَرَ، فَلَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. [رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ] [رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ] (وَعَكْسُهُ) ; أَيْ: رِوَايَةُ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ، الَّذِي هُوَ ثَانِي النَّوْعَيْنِ وَالْجَادَّةُ، (صَنَّفَ فِيهِ) الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ السِّجْزِيُّ (الْوَايِلِي) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ، نِسْبَةً لِبَكْرِ بْنِ وَايِلٍ - كِتَابًا، وَزَادَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَشْيَاءَ مُهِمَّةً نَفِيسَةً، كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَذَا لِأَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ كِتَابُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، (وَهْوَ) ; أَيْ: رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ ; كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ، (مَعَالٍ) يَعْنِي مَفَاخِرَ، (لِلْحَفِيدِ) وَهُوَ وَلَدُ الِابْنِ (النَّاقِلِ) رِوَايَةً، وَكَذَا دِرَايَةً مِنْ بَابِ أَوْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَلَفْظُهُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ لَفْظًا، عَنْ أَبِي نَصْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْفَامِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْمَذْكُورَ يَقُولُ: الْإِسْنَادُ بَعْضُهُ عَوَالٍ وَبَعْضُهُ مَعَالٍ: وَقَوْلُ الرَّجُلِ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّهِ مِنَ الْمَعَالِي. بَلْ قَالَ مَالِكٌ مِمَّا رَوَيْنَاهُ فِيمَا انْتَقَاهُ السَّلَفِيُّ مِنَ الطُّيُورِيَّاتِ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 حَدِيثِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] . قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي. (وَمِنْ أَهَمِّهِ) ; أَيْ: رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ، (إِذَا مَا أُبْهِمَا الْأَبُ) فَلَمْ يُسَمَّ (أَوْ) سُمِّيَ الْأَبُ وَأُبْهِمَ (جَدٌّ وَذَاكَ) بِحَسَبِ هَذَا (قُسِمَا قِسْمَيْنِ) : أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ الرِّوَايَةُ فِيهِ (عَنْ أَبٍ فَقَطْ) وَذَلِكَ بَابٌ وَاسِعٌ، وَهُوَ (نَحْوُ) رِوَايَةِ (أَبِي الْعُشَرَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ مَعَ الْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، الدَّارِمِيِّ (عَنْ أَبِهِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ عَلَى لُغَةِ النَّقْصِ، كَمَا مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ، (عَنِ النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَالِدُ أَبِي الْعُشَرَاءِ لَمْ يُسَمَّ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ، بَلْ وَلَمْ يَأْتِ هُوَ إِلَّا مَكْنِيًّا، (وَاسْمُهُمَا) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (عَلَى الشَّهِيرِ) مِنَ الْأَقْوَالِ: (فَاعْلَمِ أُسَامَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قِهْطَمِ) ، فَكَذَلِكَ نَسَبَهُ ابْنُ سَعْدٍ، بَلْ وَنَقَلَهُ الَمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَجَدِّهِ، بِكَسْرِ الْقَافِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ خَطِّ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا الطَّاءُ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا هَاءٌ، وَقِيلَ: حَاءٌ مُهْمَلَةٌ بَدَلَهَا، وَآخِرُهُ مِيمٌ، بَلْ حَكَى فِيهِ أَرْبَعَ لُغَاتٍ: كَسْرَ الْقَافِ وَالطَّاءِ، وَفَتْحَهُمَا وَفَتْحَ الْأَوَّلِ وَكَسْرَ الثَّانِي، وَعَكْسُهُ كَاللُّغَاتِ فِي قِرْطِمٍ، وَقِيلَ: فِي اسْمِهِمَا عُطَارِدُ بْنُ بَرْزٍ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّاءِ مَعَ الِاخْتِلَافِ أَهِيَ مَفْتُوحَةٌ أَوْ سَاكِنَةٌ؟ بَلْ قِيلَ: إِنَّهَا لَامٌ. وَقِيلَ: يَسَارٌ أَوْ سِنَانٌ. كَمَا هُوَ لِأَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ بْنِ بَلْزِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ خَوَلِيِّ بْنِ حِرْمَةَ بْنِ قَتَادَةَ، وَقِيلَ كَمَا لِلطَّبَرَانِيِّ: بَلَازُ بْنُ يَسَارٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَامِرٌ. (وَ) الْقِسْمُ (الثَّانِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنَ الْقِسْمَيْنِ (أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 يَزِيدَ فِيهِ) يَعْنِي فِي السَّنَدِ (بَعْدَهُ) ; أَيْ: بَعْدَ ذِكْرِ الْأَبِ، (كَبَهْزٍ) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءٍ وَزَاءٍ، هُوَ ابْنُ حَكِيمٍ (اوْ) بِالنَّقْلِ (عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ شُعَيْبٍ (أَبًا) يَعْنِي لِحَكِيمٍ أَبِي بَهْزٍ (أَوْ) يَزِيدَ، (جَدَّهُ) ; أَيْ: جَدَّ عَمْرٍو، مَعَ كَوْنِ التَّعْبِيرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِقَوْلِهِ: عَنْ جَدِّهِ. غَيْرَ أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَفِي الْأَوَّلِ لِبَهْزٍ وَجَدِّهِ، وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيُّ، صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيهِ لِحَكِيمٍ ; فَإِنَّ جَدَّهُ حَيْدَةَ لَمْ يُنْقَلْ لَهُ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ كَوْنِهِ صَحَابِيًّا، وَرِوَايَةُ حَفِيدِهِ عَنْهُ كَمَا فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) لِلْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرُهَا مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حَيْدَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا هُوَ بِشَيْخٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِي الثَّانِي لِشُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَجَدُّهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ الشَّهِيرُ، وَيُرْوَى بِكُلٍّ مِنَ السَّنَدَيْنِ نُسْخَةٌ كَبِيرَةٌ حَسَنَةٌ، وَالثَّانِيَةُ أَكْثَرُهَا فِقْهِيَّاتٌ جِيَادٌ وَكُلٌّ مِنَ النُّسْخَتَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سَمَاعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْيَسِيرُ، وَالْبَاقِي مِنْ صَحِيفَةٍ وَجَدَاهَا، (وَ) لَكِنْ (الْأَكْثَرُ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ (احْتَجُّوا بِـ) حَدِيثِ (عَمْرٍو حَمْلًا لَهُ) أَيْ: لِجَدِّهِ فِي الْإِطْلَاقِ، (عَلَى الْجَدِّ الْكَبِيرِ الْأَعْلَى) وَهُوَ الصَّحَابِيُّ دُونَ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ وَالِدِ شُعَيْبٍ لِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ إِطْلَاقِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ وَأَبَا عُبَيْدٍ وَعَامَّةَ أَصْحَابِنَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، مَا تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَمَنِ النَّاسُ بَعْدَهُمْ؟ زَادَ فِي رِوَايَةٍ وَالْحُمَيْدِيِّ، وَقَالَ مَرَّةً: اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَشُيُوخٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَذَاكَرُونَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَثَبَتُوهُ وَذَكَرُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، هُوَ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الرِّجَالِ مِثْلَ أَيُّوبَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِهِ، وَسَمِعَ أَبُوهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: صَحَّ سَمَاعُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَسَمَاعُ شُعَيْبٍ مِنْ جَدِّهِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي الْحَدِيثِ وَيَنْتَقِي الرِّجَالَ يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَحَدِيثُهُ عِنْدَهُمْ صَحِيحٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي أَنْكَرُوا مِنْ حَدِيثِهِ إِنَّمَا هِيَ لِقَوْمٍ ضُعَفَاءَ رَوَوْهَا عَنْهُ، وَمَا رَوَى عَنْهُ الثِّقَاتُ صَحِيحٌ، قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ: قَدْ سَمِعَ أَبُوهُ شُعَيْبٌ مِنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ عِنْدَنَا ثِقَةٌ، وَكِتَابُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ: عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ كَأَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) : وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ مِنْ مِثْلِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ وَآخَرُونَ، وَخَالَفَ آخَرُونَ فَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ فِي خُصُوصِ رِوَايَتِهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَالْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: حَدِيثُهُ عِنْدَنَا وَاهٍ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: لَهُ أَشْيَاءُ مِنْهَا مَنَاكِيرُ، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فَلَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ هُوَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ كِتَابٌ أَيْ: وِجَادَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُكَاتَبَةً، قَالَ: وَمِنْ هُنَا جَاءَ ضَعْفُهُ. وَقَالَ الْآجُرِّيُّ: قُلْتُ لِأَبِي دَاوُدَ هُوَ عِنْدَكَ حُجَّةٌ. قَالَ: لَا، وَلَا نِصْفُ حُجَّةٍ، وَحَكَى فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ نَصَّ فِي كِتَابِهِ: (اللُّمَعِ) وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ هَكَذَا. قَالَ: وَأَكْثَرَ الشَّيْخُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي (الْمُهَذَّبِ) كَأَنَّهُ لَمَّا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ حَالَ تَصْنِيفِهِ، وَفَصَّلَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّهُ إِنْ أَفْصَحَ بِتَسْمِيَةِ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ صَحِيحًا ; لِأَنَّ شُعَيْبًا سَمِعَ مِنْهُ وَلَمْ يَتْرُكْ حَدِيثَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَكَذَا إِنْ قَالَ عَنْ جَدِّهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَالِدَ شُعَيْبٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا فَصَّلَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ إِنِ اسْتَوْعَبَ ذِكْرَ آبَائِهِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، فِيهَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَلَا، لَكِنْ قَدْ قَالَ الْعَلَائِيُّ: إِنَّ مَا يَجِيءُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدٍ شَاذٌّ نَادِرٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ وَإِنَّ الَّذِي كَفَلَ شُعَيْبًا هُوَ جَدُّهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ شُعَيْبًا إِنَّمَا سَمِعَ مِنْ جَدِّهِ بَعْضَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَالْبَاقِي صَحِيفَةً، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ: رَوَى عَنْهُ الثِّقَاتُ. وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا سَمِعَ أَحَادِيثَ يَسِيرَةً وَأَخَذَ صَحِيفَةً كَانَتْ عِنْدَهُ فَرَوَاهَا وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ، إِنَّمَا يُتَكَلَّمُ فِيهِ بِسَبَبِ كِتَابٍ عِنْدَهُ، وَمَا أَقَلَّ مَا تُصِيبُ عِنْدَهُ مِمَّا رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ: هُوَ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَا رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ، فَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَجَدَ شُعَيْبٌ كُتُبَ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَكَانَ يَرْوِيهَا عَنْهُ إِرْسَالًا، وَهِيَ صِحَاحٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا، قَالَ شَيْخُنَا: فَإِذَا شَهِدَ لَهُ ابْنُ مَعِينٍ أَنَّ أَحَادِيثَهُ صِحَاحٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَصَحَّ سَمَاعُهُ لِبَعْضِهَا، فَغَايَةُ الْبَاقِي أَنْ يَكُونَ وِجَادَةً صَحِيحَةً، وَهِيَ أَحَدُ وُجُوهِ التَّحَمُّلِ. وَقَدْ صَنَّفَ الْبُلْقِينِيُّ (بَذْلَ النَّاقِدِ بَعْضَ جُهْدِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) وَجَمَعَ مُسْلِمٌ جُزْءًا فِيمَا اسْتَنْكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِيمَنْ رَوَى عَنْهُ مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا بِالنَّظَرِ لِكَثْرَةِ الْآبَاءِ وَقِلَّتِهَا، (وَ) قَدْ (سَلْسَلَ الْآبَا) بِالْقَصْرِ، أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أُكَيْنَةَ بْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 عَبْدِ اللَّهِ (التَّمِيمِيُّ) الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، وَهُوَ ـ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ ـ مِمَّنْ كَانَتْ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ حَلْقَةٌ لِلْوَعْظِ وَالْفَتْوَى، (فَعَدْ) فِيمَا رَوَاهُ رِوَايَتَهُ (عَنْ تِسْعَةٍ) ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَذْكُورُ مِنْ لَفْظِهِ سَمِعْتُ أَبِي أَبَا الْحَسَنِ عَبْدَ الْعَزِيزِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي أَبَا بَكْرٍ الْحَارِثَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي أَسَدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي اللَّيْثَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي الْأَسْوَدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَزِيدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي أُكَيْنَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ، فَقَالَ الْحَنَّانُ: هُوَ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ. (قُلْتُ) : هَكَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَظْرَفِ ذَلِكَ، (وَ) لَكِنَّ (فَوْقَ ذَا وَرَدْ) فَبِاثْنَيْ عَشَرَ فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الذَّهَبِيِّ، أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ الْحَافِظِ، أَنَا الْبَهَاءُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَسَاكِرَ، عَنْ كَرِيمَةِ ابْنَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ حُضُورًا وَإِجَازَةً قَالَتْ: أَنَا مَسْعُودُ بْنُ الْحَسَنِ الثَّقَفِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الصَّيْدَلَانِيُّ، وَعَبْدُ الْحَاكِمِ بْنُ ظَفَرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالُوا: أَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ التَّمِيمِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي أَبَا الْفَرَجِ عَبْدَ الْوَهَّابِ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى أُكَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي الْهَيْثَمِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ عَلَى ذِكْرٍ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ» ) وَسَنَدُهُ كَمَا قَالَ الْعَلَائِيُّ: غَرِيبٌ جِدًّا. قَالَ: وَرِزْقُ اللَّهِ كَانَ إِمَامَ الْحَنَابِلَةِ فِي زَمَانِهِ مِنَ الْكِبَارِ الْمَشْهُورِينَ، مُتَقَدِّمًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (488) ، وَأَبُوهُ إِمَامٌ مَشْهُورٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ جَدَّهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ كَثِيرًا عَلَى إِمَامَتِهِ، وَاشْتُهِرَ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَبَقِيَّةُ آبَائِهِ مَجْهُولُونَ لَا ذِكْرَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ أَصْلًا، وَقَدْ خَبَطَ فِيهِمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَيْضًا بِالتَّغْيِيرِ ; أَيْ: فَزَادَ فِي الثَّانِي أَبًا لِأُكَيْنَةَ، وَهُوَ الْهَيْثَمُ، وَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَجَعَلَهُ صَحَابِيًّا. وَبِأَرْبَعَةَ عَشَرَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الذَّيْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 قَالَ: أَنَا أَبُو شُجَاعٍ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ الْإِمَامُ بِقِرَاءَتِي وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَاسِرٍ الْجَيَّانِيُّ مِنْ لَفْظِهِ قَالَا: حَدَّثَنَا السَّيِّدُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ لَفْظِهِ بِبَلْخٍ، حَدَّثَنِي سَيِّدِي وَالِدِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، حَدَّثَنِي أَبِي أَبُو طَالِبٍ الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي أَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي أَبِي الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ بَلْخًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، حَدَّثَنِي أَبِي جَعْفَرٌ الْمُلَقَّبُ بِالْحُجَّةِ، حَدَّثَنِي أَبِي عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي الْحُسَيْنُ الْأَصْغَرُ، حَدَّثَنِي أَبِي زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» ) . وَحَدِيثَ: ( «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ» ) . وَ: ( «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ) . وَ: ( «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» ) . وَ: ( «الْمُسْلِمُ مِرَآةُ الْمُسْلِمِ» ) . قَالَ شَيْخُنَا: وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي وَالِدِي. وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُتُونُ مُنْكَرَةٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ; يَعْنِي لِكَوْنِهَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَوَّلَهَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَنِيعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ دِحْيَةَ فِي الْمَوْلِدِ: أَخْبَرَتْنِي خَالَةُ أَبِي أَمَةُ الْعَزِيزِ قَالَتْ: حَدَّثَنِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 جَدِّي الْحَسَنُ، حَدَّثَنِي أَبِي مُوسَى، حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنِي أَبِي الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي أَبِي جَعْفَرٌ، حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنِي أَبِي مُوسَى، حَدَّثَنِي أَبِي جَعْفَرٌ، حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنِي أَبِي الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: (كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي بِبَدْرٍ) . نَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّ مُغَلْطَايْ. وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ جُزْءًا فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَهُوَ فِيمَا أَعْلَمُ أَوَّلُ مُصَنَّفٍ فِيهِ، وَكَذَا الْمِزِّيُّ، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الدِّمْيَاطِيِّ شَيْخِهِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنْ مِصْرَ يَسْأَلُهُ عَنْ جُمَلٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعَلَائِيُّ وَهُوَ أَجْمَعُ مُصَنَّفٍ فِي ذَلِكَ سَمَّاهُ: (الْوَشْيَ الْمُعَلَّمَ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَقَدْ لَخَّصَهُ شَيْخُنَا، وَذَكَرَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فِي آخِرِ كِتَابِهِ فِي (الْمُبْهَمَاتِ) مِنْهُ فَصْلًا كَبِيرًا، وَالْقُطْبُ الْقَسْطَلَانِيُّ مِنْهُ جُمْلَةً. [السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ] ُ 851 - وَصَنَّفُوا فِي سَابِقٍ وَلَاحِقِ ... وَهُوَ اشْتِرَاكُ رَاوِيَيْنِ سَابِقِ 852 - مَوْتًا كَزُهْرِيٍّ وَذِي تَدَارُكِ ... كَابْنِ دُوَيْدٍ رَوَيَا عَنْ مَالِكِ 853 - سَبْعُ ثَلَاثُونَ وَقَرْنٍ وَافِي ... أُخِّرَ كَالْجُعْفِيِّ وَالْخَفَّافِ وَهُوَ نَوْعٌ ظَرِيفٌ سَمَّاهُ كَذَلِكَ الْخَطِيبُ، وَأَمَّا ابْنُ الصَّلَاحِ فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْرِفَةُ مَنِ اشْتَرَكَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ رَاوِيَانِ ; مُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنْ ظَنِّ سُقُوطِ شَيْءٍ فِي إِسْنَادِ الْمُتَأَخِّرِ، وَتَفَقُّهُ الطَّالِبِ فِي مَعْرِفَةِ الْعَالِي وَالنَّازِلِ، وَالْأَقْدَمِ مِنَ الرُّوَاةِ عَنِ الشَّيْخِ، وَمَنْ بِهِ خُتِمَ حَدِيثُهُ، وَتَقْرِيرُ حَلَاوَةِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ فِي الْقُلُوبِ، وَعَلَى الْأَخِيرَةِ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ أَكْثَرَ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ، يَعْنِي كَوْنَ فُلَانٍ آخِرَ مَنْ رَوَى عَنْ فُلَانٍ، وَهُوَ مِمَّا يَتَحَلَّى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَيْسَ فِي الْمُهِمَّاتِ فِيهِ، وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 مُتَعَقَّبٌ بِأَوَّلِ فَوَائِدِهِ. (وَصَنَّفُوا) كَالْخَطِيبِ ثُمَّ الذَّهَبِيِّ (فِي سَابِقٍ وَلَاحِقِ، وَهْوَ اشْتِرَاكُ رَاوِيَيْنِ سَابِقِ، مَوْتًا كَزُهْرِيٍّ) وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، (وَ) لَاحِقٍ (ذِي تَدَارُكِ) لِلسَّابِقِ ; (كَابْنِ دُوَيْدٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ، مُصَغَّرٌ، هُوَ زَكَرِيَّا الْكِنْدِيُّ، فَإِنَّهُمَا (رَوَيَا) جَمِيعًا (عَنْ مَالِكِ) بْنِ أَنَسٍ وَ (سَبْعَ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَ (ثَلَاثُونَ) مِنَ السِّنِينَ، (وَقَرْنٌ وَافِي) ; أَيْ: تَامٌّ (أُخِّرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ابْنُ دُوَيْدٍ بِهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ ; فَإِنَّهُ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالزُّهْرِيُّ مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَلَكِنَّ التَّمْثِيلَ بِابْنِ دُوَيْدٍ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَقَدْ كَانَ كَذَّابًا رُمِيَ بِالْوَضْعِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ آخِرَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ - كَمَا قَالَهُ الْمِزِّيُّ - أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ، لَكِنْ لَا تَبْلُغُ الْمُدَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ ; فَإِنَّ السَّهْمِيَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (259هـ) ، فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْرِيِّ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالسَّهْمِيُّ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا أَيْضًا فَإِنَّ أَبَا مُصْعَبٍ شَهِدَ لَهُ أَنَّهَ كَانَ يَحْضُرُ مَعَهُمُ الْعَرْضَ عَلَى مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَقَدْ حَظِيَ مَالِكٌ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَ (كَالْجُعْفِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ، كَمَا سَلَفَ فِي آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، (وَ) أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ النَّيْسَابُورِيِّ الزَّاهِدِ (الْخَفَّافِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ فَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، نِسْبَةً لِعَمَلِ الْخِفَافِ أَوْ بَيْعِهَا، فِي مُجَرَّدِ طُولِ الْمُدَّةِ بَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا، لَا فِي خُصُوصِ الْمُدَّةِ قَبْلَهَا ; إِذْ بَيْنَهُمَا مِائَةُ سَنَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَزْيَدُ ; لِأَنَّ وَفَاةَ الْجُعْفِيِّ كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالْخَفَّافُ فِي ثَانِي عَشَرَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إِنَّهَا فِي سَنَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ غَلَطٌ، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ فِي تَأْرِيخِهِ وَغَيْرِهِ، وَصَحَّ سَمَاعُ الْآخَرِ مِنْهُ، كَمَا هُوَ بِخَطِّ أَبِيهِ أَبِي نَصْرٍ، حَتَّى صَارَ وَاحِدَ عَصْرِهِ فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي (تَأْرِيخِ نَيْسَابُورَ) قَالَ: وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَتْ لَنَا جُمْلَةٌ مِنْ عَوَالِيهِ. وَكَأَبِي عَمْرٍو أَحْمَدَ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُسْتَمْلِي الْحَافِظِ الْمَشْهُورِ الرَّاوِي عَنْ قُتَيْبَةَ وَطَبَقَتِهِ، وَالْحَافِظِ أَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، بَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْأَصَمِّ، لَكِنَّ ثَانِيهِمَا بِالْإِجَازَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ، حَتَّى كَانَ خَاتِمَةَ أَصْحَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَمُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ الْحَافِظِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ السَّفَاقُسِيِّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ السِّلَفِيِّ، الْأَوَّلُ بِالسَّمَاعِ، وَالثَّانِي بِالْحُضُورِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ أَبَدًا فِيمَا عَلِمْتُ فِي السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ. كَذَا قَالَ: هُوَ مَرْدُودٌ بِأَبِي عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيِّ أَحَدِ شُيُوخِ السِّلَفِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَكِّيٍّ الطَّرَابُلُسِيِّ سِبْطِ السِّلَفِيِّ، فَبَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً ; لِأَنَّ وَفَاةَ الْبَرَدَانِيِّ عَلَى رَأْسِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَالْآخَرِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ الْحَافِظِ السِّلَفِيِّ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا أَكْثَرُ مَا حَصَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مِنَ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْوَفَاتَيْنِ. كَذَا قَالَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَأَخَّرَ بَعْدَ السِّبْطِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَبُو بَكْرٍ السَّفَاقُسِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمَقْدِسِيَّةِ ; لِكَوْنِ أُمِّهِ أُخْتَ الْحَافِظِ ابْنَ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيِّ، مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَهُوَ مِمَّنْ يَرْوِي عَنِ السِّلَفِيِّ - حُضُورًا - الْحَدِيثَ الْمُسَلْسَلَ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَقَطْ، وَتَأَخَّرَ بَعْدَهُ قَلِيلًا جَمَاعَةٌ، لَهُمْ إِجَازَةٌ مِنَ السِّلَفِيِّ ; كَابْنِ خَطِيبِ الْقَرَافَةِ وَغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ وَفَاةَ الْبَرَدَانِيِّ كَانَتْ فِي جُمَادَى، كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ، أَوْ شَوَّالٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الذَّهَبِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُدَّةُ أَزْيَدُ مِمَّا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ. وَغَالِبُ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ يَتَأَخَّرُ زَمَانًا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ عِنْدَ تَقَدُّمِ سِنِّهِ حَالَ كَوْنِ الْمُسْتَمِعِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَسْمَعُ مِنْهُ عِنْدَ تَقَدُّمِ سِنِّهِ بَعْضَ الْأَحْدَاثِ، وَيَعِيشُ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْهُ دَهْرًا طَوِيلًا، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ نَحْوُ هَذِهِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمُدَدِ بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ بِالنَّظَرِ لِمَا لِذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ لَمْ يَحُدَّهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَتْبَاعُهُ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ قَالَ: مَنِ اشْتَرَكَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ رَاوِيَانِ ; مُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ، وَتَبَايَنَ وَقْتُ وَفَاتَيْهِمَا تَبَايُنًا شَدِيدًا يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا أَمَدٌ بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَعْدُودٍ مِنْ مُعَاصِرِي الْأَوَّلِ. وَقَدْ حَدَّدَهُ الْخَطِيبُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا بِخَمْسِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ سَنَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ عَنْهُ، قَالَ شَيْخُنَا مِمَّا هُوَ مُؤَيِّدٌ لِلنَّقْلِ الْأَوَّلِ: وَكَأَنَّ أَعْمَارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمَّا كَانَتْ بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ كَانَ الزَّائِدُ عَلَى الْمُقَدَّرِ هُنَا يَقَعُ بَعْدَهُ الطَّلَبُ، فَكَأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ بِهَذَا الْقَدْرِ تَأَخَّرَ بِقَرْنٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 وَمِنْ طَرِيفِ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ يَقُولُ: حَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ فِي مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: أَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ حَبِيبٍ، سَمِعَ أَبِي الْحَكَمُ مِنْ سُفْيَانَ، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَا مِنْهُ، وَحَدَّثْتُ عَنْهُ بِخُرَاسَانَ، وَهَذَا ابْنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ. وَنَحْوُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ جَلَالَ الدِّينِ الْبُلْقِينِيَّ كَتَبَ عَنْ شَيْخِنَا بَعْضَ تَصَانِيفِهِ وَقَابَلَهُ مَعَهُ، وَتَأَخَّرَ شَيْخُنَا حَتَّى أَخَذَ عَنْهُ حَفِيدَا الْقَاضِي وَأَبُوهُمَا، بَلْ وَوَلَدُ كُلٍّ مِنَ الْحَفِيدَيْنِ، وَكَذَا اتَّفَقَ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَصَمَّ صَاحِبَ الرَّبِيعِ سَمِعَ مِنْهُ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ كِتَابَ (الرِّسَالَةِ) ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُ ابْنُهُ أَبُو الْحَسَنِ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، وَيُوصَفُ مَنْ يَتَّفِقُ لَهُ ذَلِكَ بِمُلْحَقِ أَبْنَاءِ الْأَحْفَادِ بِالْأَجْدَادِ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْعٌ مُسْتَغْرَبٌ يَتَعَلَّقُ بِتَعَدُّدِ الْأَنْسَابِ، صَنَّفَ فِيهِ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، فَذَكَرَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 جِمَاعِ قُرَيْشٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَبًا، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَبْيَضَ بْنِ أَسْوَدَ بْنِ نَافِعٍ الْفِهْرِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِهْرٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَبًا، وَمَاتَ عُمَرُ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَيْنَهُمَا فِي الْوَفَاةِ مِائَتَانِ وَسَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي التَّعَدُّدِ مِثْلُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَيْنَهُمَا فِي الْوَفَاةِ مِائَةٌ وَبِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. [مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ] ٌ 854 - وَمُسْلِمٌ صَنَّفَ فِي الْوُحْدَانِ ... مَنْ عَنْهُ رَاوٍ وَاحِدٌ لَا ثَانِي 855 - كَعَامِرِ بْنِ شَهْرٍ اوْ كَوَهْبِ هُوَ ... ابْنُ خَنْبَشٍ وَعَنْهُ الشَّعْبِي 856 - وَغُلِّطَ الْحَاكِمُ حَيْثُ زَعَمَا ... بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ فِيهِمَا 857 - فَفِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَا الْمُسَيَّبَا ... وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيُّ لِابْنِ تَغْلِبَا (مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ) مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ (إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ) ، (وَمُسْلِمٌ) صَاحِبُ (الصَّحِيحِ) (صَنَّفَ فِي) الْمُنْفَرِدَاتِ وَ (الْوُحْدَانِ) مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ مِمَّا أَصَّلَ ابْنُ طَاهِرٍ بِهِ عِنْدِي، وَعَلَيْهِ خَطُّ الْعَلَاءِ مُغْلَطَايْ، وَقَالَ: إِنَّ لَهُ عَلَيْهِ زَوَائِدَ سَيُفْرِدُهَا، وَهُوَ (مَنْ عَنْهُ) ; أَيْ: الرَّاوِي، انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ (رَاوٍ وَاحِدٌ لَا ثَانِي) لَهُ، وَأَمْثِلَتُهُ إِمَّا (كَعَامِرِ بْنِ شَهْرٍ) الْهَمْدَانِيِّ، (اوْ) بِالنَّقْلِ (كَوَهْبِ هُوَ ابْنُ خَنْبَشٍ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ - وَزْنُ جَعْفَرٍ - الطَّائِيِّ، الَّذِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صُحْبَةٌ وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، (وَعَنْهُ) ; أَيْ: عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ (الشَّعْبِيُّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، فِيمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَلِأَوَّلِهِمَا ذِكْرٌ فِي السِّيرَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ فِي (الْفُتُوحِ) عَنْ طَلْحَةَ الْأَعْلَمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اعْتَرَضَ فِي نَاحِيَتِهِ عَلَى الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَابَرَهُ: وَكَانَ أَحَدَ عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَمَنِ، وَأَمَّا ثَانِيهِمَا فَتَسْمِيَتُهُ بِوَهْبٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 هِيَ الْأَكْثَرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ تَسْمِيَتُهُ هَرَمًا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي عُلُومِهِمَا، وَخَطَّأَ ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ، وَكَذَا نَصَّ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهِمَ فِيهِ دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ الْأَوْدِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ وَهْبٌ، كَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُفَّاظُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قُلْتُ: مِمَّنْ رَوَاهُ كَذَلِكَ بَيَانٌ وَفِرَاسٌ وَجَابِرٌ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ الْمَشْهُورُ، وَالْأَوَّلَانِ أَوْثَقُ مِنْ دَاوُدَ ; وَلِذَا قَالَ الْمِزِّيُّ: مَنْ قَالَ: وَهْبٌ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ. (وَغُلِّطَ الْحَاكِمُ) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ (الْمُسْتَدْرَكِ) وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ (حَيْثُ زَعَمَا) فِي الْمَدْخَلِ إِلَى كِتَابِهِ (الْإِكْلِيلِ) ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُهُ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا (بِأَنَّ) ; أَيْ: أَنَّ (هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ فِيهِمَا) ; أَيْ: لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ التَّخْرِيجُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَمِمَّنْ غَلَّطَهُ ابْنُ طَاهِرٍ وَالْحَازِمِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيُّ وَغَيْرُهُمْ (فَفِي الصَّحِيحِ) لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (أَخْرَجَا الْمُسَيَّبَا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ أَوْ مَكْسُورَةٍ، كَمَا ضَبَطْتُهُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، صَحَابِيَّ حَدِيثِ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ ; إِذْ أَوْرَدَاهُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ ابْنُ حَزْنٍ الصَّحَابِيُّ، أَيْضًا ابْنُ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى ابْنِهِ سَعِيدٍ، وَعَدَّهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ فِيمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 (وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ - كَمَا مَضَى قَرِيبًا - وَهُوَ الْبُخَارِيُّ وَحْدَهُ (لِابْنِ تَغْلِبَا) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ، هُوَ عَمْرٌو، صَحَابِيُّ حَدِيثِ: ( «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ» ) . مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فِيمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ لَهُ رَاوِيًا غَيْرَهُ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، ثُمَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ الْأَعْرَجِ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ، وَقَدِ اعْتَذَرَ الْمُؤَلِّفُ فِي اتِّبَاعِهِ لِمَنْ ذَكَرَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ رِوَايَتَهُ عَنِ الْحَكَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ أَحَادِيثِ عَمْرٍو. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ لِمِرْدَاسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ مُسْلِمٌ وَالْأَزْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَلِزَاهِرِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْأَسْلَمِيِّ الصَّحَابِيِّ مَعَ تَفَرُّدِ ابْنِهِ مَجْزَأَةَ عَنْهُ، كَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: وَمُسْلِمٌ لِطَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ الصَّحَابِيِّ مَعَ تَفَرُّدِ ابْنِهِ أَبِي مَالِكٍ سَعْدٍ عَنْهُ، كَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي أَمْثِلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْهَا مَا تَعَقَّبَهُ الْعَلَاءُ مُغْلَطَايْ وَغَيْرُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ، وَنَبَّهُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَقْيِيدِهِ، مَعَ قَوْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 ابْنِ الصَّلَاحِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ مَنْ ذَكَرْنَا تَفَرُّدَ رَاوٍ وَاحِدٍ عَنْهُ خِلَافٌ فِي تَفَرُّدِهِ، بَلْ قَالَ عَقِبَ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْحَاكِمِ مِنْ ذَلِكَ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي تَنْزِيلِهِ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي جَعَلَهُ مِنْهَا، مُعْتَمِدًا عَلَى الْحُسْبَانِ وَالتَّوَهُّمِ، وَقَدَّمْتُ مِنْهَا فِي الْمَجْهُولِ مِمَّا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا انْتِقَادَ فِيهِ جُمْلَةً، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ نَفْسِهِ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَقَالِهِ بِغَيْرِ الصَّحَابِيِّ، وَأَنَّ شَيْخَنَا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابَيْنِ حَدِيثٌ أَصْلٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ فَقَطْ، فَرَاجِعْهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَزُولُ نِسْبَةُ الْحَاكِمِ إِلَى الْغَلَطِ. [مَنْ ذُكِرَ بِنُعُوتٍ مُتَعَدِّدَةٍ] 858 - وَاعْنَ بِأَنْ تَعْرِفَ مَا يَلْتَبِسُ ... مِنْ خَلَّةٍ يُعْنَى بِهَا الْمُدَلِّسُ 859 - مِنْ نَعْتِ رَاوٍ بِنُعُوتٍ نَحْوِ مَا ... فُعِلَ فِي الْكَلْبِيِّ حَتَّى أُبْهِمَا 860 - مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْعَلَّامَهْ ... سَمَّاهُ حَمَّادًا أَبُو أُسَامَهْ 861 - وَبِأَبِي النَّضْرِ ابْنُ إِسْحَاقَ ذَكَرْ ... وَبِأَبِي سَعِيدٍ الْعَوْفِيُّ شَهَرْ (مَنْ ذُكِرَ) مِنَ الرُّوَاةِ (بِنُعُوتٍ مُتَعَدِّدَةٍ) ، وَهُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ وَفَنٌّ ـ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - عَوِيصٌ، بِمُهْمَلَتَيْنِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، كَرَغِيفٍ ; أَيْ: صَعْبُ الِاسْتِخْرَاجِ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ حَاقَّةٌ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنْ تَوَهُّمِ الْوَاحِدِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَاشْتِبَاهُ الضَّعِيفِ بِالثِّقَةِ وَعَكْسِهِ، (وَاعْنَ) ; أَيِ: اجْعَلْ أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ عِنَايَتِكَ الِاهْتِمَامَ (بِأَنْ تَعْرِفَ مَا يَلْتَبِسُ) الْأَمْرُ فِيهِ كَثِيرًا، لَا سِيَّمَا عَلَى غَيْرِ الْمَاهِرِ الْيَقِظِ، (مِنْ خَلَّةٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: خَصْلَةٍ، (يُعْنَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَقَدْ يُفْتَحُ ; أَيْ: يَهْتَمُّ وَيَشْتَغِلُ (بِهَا الْمُدَلِّسُ) مِنَ الرُّوَاةِ ; أَيْ: كَثِيرًا، وَإِلَّا فَقَدْ فَعَلَهُ الْخَطِيبُ بَلْ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَمْ يُوصَفْ بِتَدْلِيسٍ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: فَإِنَّ أَكْثَرَ ذَلِكَ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَدْلِيسِهِمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ، (مِنْ نَعْتِ رَاوٍ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وَاحِدٍ (بِنُعُوتٍ) مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْكُنَى أَوِ الْأَلْقَابِ أَوِ الْأَنْسَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَيْثُ يَكُونُ ذَاكَ الرَّاوِي ضَعِيفًا أَوْ صَغِيرَ السِّنِّ، أَوِ الْفَاعِلُ لَهُ مُقِلًّا مِنَ الشُّيُوخِ، أَوْ قَصْدًا لِتَمَرُّنِ الطَّالِبِ بِالنَّظَرِ فِي الرُّوَاةِ وَتَمْيِيزِهِمْ إِنْ كَانَ مُكْثِرًا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي قِسْمِ تَدْلِيسِ الشُّيُوخِ مِنَ التَّدْلِيسِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ رَاوٍ وَاحِدٍ بِأَنْ تَتَعَدَّدَ الرِّوَايَاتُ مِنْهُ عَنْ ذَاكَ الرَّاوِي بِأَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الرَّاوِيَ بِغَيْرِ مَا عَرَفَهُ الْآخَرُ بِهِ، وَلِعَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ الْمِصْرِيِّ الْحَافِظِ فِي ذَلِكَ (إِيضَاحُ الْإِشْكَالِ) ، وَكَذَا لِلْخَطِيبِ فِيهِ (الْمُوَضِّحُ لِأَوْهَامِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ) ، بَدَأَ فِيهِ بِمَا وَقَعَ لِأُسْتَاذِ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيِّ مِنَ الْوَهْمِ فِي ذَلِكَ، وَصَنَّفَ فِيهِ الصُّورِيُّ أَيْضًا، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ، فَفِي الضُّعَفَاءِ (نَحْوِ مَا فُعِلَ) مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ (فِي الْكَلْبِيِّ) الْمَنْسُوبِ لِكَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ، (حَتَّى أُبْهِمَا) الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ عُدُولِهِمْ فِي الْكَلْبِيِّ، (مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ) بْنِ بِشْرٍ الْكُوفِيُّ (الْعَلَّامَهْ) ; كَمَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَحَادِيثِهِمْ وَالتَّفْسِيرِ وَالَّذِي اتَّفَقَ أَهْلُ النَّقْلِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَاتَّهَمَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِالْكَذِبِ وَالْوَضْعِ ; حَيْثُ سَمَّاهُ (حَمَّادًا) بَدَلَ مُحَمَّدٍ (أَبُو أُسَامَهْ) حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ ; إِذْ رَوَى عَنْهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: ( «زَكَاةُ كُلِّ مِسْكٍ دِبَاغُهُ» ) . وَلَمْ يَتَنَبَّهْ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْقَاسِمِ الْكِنَانِيُّ الْحَافِظُ لَهُ ; فَإِنَّهُ وَثَّقَ حَمَّادَ بْنَ السَّائِبِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَفْلَةٍ عَنْ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ ; لِاشْتِهَارِهِ بِالضَّعْفِ، وَدُونَهُ مَا وَقَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 لِلنَّسَائِيِّ فِي الْكُنَى فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَسْقَطَ " عَنْ " بَيْنَ أَبِي أُسَامَةَ وَحَمَّادٍ ; فَصَارَ حَمَّادٌ اسْمَ أَبِي أُسَامَةَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَذْكُورُ، وَقَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ شَيْخَهُ الدَّارَقُطْنِيَّ عَنْ حَمَّادٍ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: إِنَّهُ الْكَلْبِيُّ، إِلَّا أَنَّ أَبَا أُسَامَةَ كَانَ يُسَمِّيهِ حَمَّادًا. قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ: وَيَدُلُّ لِشَيْخِنَا أَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ - يَعْنِي السَّبِيعِيَّ الْكُوفِيَّ - رَوَى الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ مُصَرِّحًا بِهِ عَنْ غَيْرِ تَغْطِيَةٍ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبٌ لَهُ اخْتُصَّ بَلَدِيُّهُ أَبُو أُسَامَةَ بِمَعْرِفَتِهِ ; لِأَنَّهُ مَعَ جَلَالَتِهِ لَا يُظَنُّ بِهِ ابْتِكَارُ ذَلِكَ، وَإِنْ وُصِفَ بِالتَّدْلِيسِ فَقَدْ كَانَ يُبَيِّنُ تَدْلِيسَهُ. (وَبَأَبِي النَّضْرِ) بِنُونٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، (ابْنُ إِسْحَاقَ) مُحَمَّدٌ، صَاحِبُ (الْمَغَازِي) (ذَكَرَ) الْكَلْبِيَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَلَكِنَّهَا كُنْيَةٌ شَهِيرَةٌ لِابْنِ السَّائِبِ مَعَ كَوْنِ ابْنِ إِسْحَاقَ رَوَى عَنْهُ مَرَّةً أُخْرَى فَسَمَّاهُ ; وَلِذَا قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا الْقَوْلُ - يَعْنِي فِي كُنْيَتِهِ أَبَا النَّضْرِ - صَحِيحٌ، ثُمَّ أَوَرَدَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ كَذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بَاذَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] ، وَقِصَّةِ جَامِ الْفِضَّةِ. (وَبِأَبِي سَعِيدٍ) عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ (الْعَوْفِيُّ) ، نِسْبَةً لِعَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ (شَهَرَ) الْكَلْبِيَّ بِمَا أَخَذَهُ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كُنْيَةً لَهُ، حَتَّى إِنَّ الْخَطِيبَ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ الْكَلْبِيَّ نَفْسَهُ يَقُولُ: كَنَّانِي عَطِيَّةُ أَبَا سَعِيدٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ قَالَ لِيَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ لِي عَطِيَّةُ: كَنَّيْتُكَ بِأَبِي سَعِيدٍ، فَأَنَا أَقُولُ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُوهِمَ النَّاسَ أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: سَمِعَ عَطِيَّةُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَحَادِيثَ، فَلَمَّا مَاتَ جَعَلَ يُجَالِسُ الْكَلْبِيَّ وَيَحْضُرُ قِصَصَهُ، وَكَنَّاهُ أَبَا سَعِيدٍ، فَإِذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا. يَحْفُظُهُ وَيَرْوِيهِ عَنْهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ يَقُولُ: أَبُو سَعِيدٍ. فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْكَلْبِيَّ ; وَلِذَا قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ هُشَيْمٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 يُضَعِّفُ عَطِيَّةَ، بَلْ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ. وَكَنَّى الْكَلْبِيَّ الْقَاسِمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْهَمْدَانِيُّ بِابْنٍ لَهُ اسْمُهُ هِشَامٌ، فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ إِلَى الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} [الأنعام: 65] الْحَدِيثَ. ثُمَّ نَقَلَ الْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: أَبُو هِشَامٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا النَّضْرِ، وَلَكِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: هِشَامٌ. صَاحِبَ نَحْوٍ وَعَرَبِيَّةٍ، فَكَنَّاهُ الْقَاسِمُ بِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ بِشْرٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ فَرَّقَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلْبِيِّ ; فَإِنَّهُ وَاحِدٌ، بَيَّنَ نَسَبَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ. وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيَّ الْمَصْلُوبَ الْمَعْرُوفَ بِالْكَذِبِ وَالْوَضْعِ أَيْضًا يَقُولُ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانٍ، وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَرَّةً مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ، وَمَرَّةً مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ، وَمَرَّةً مُحَمَّدُ ابْنِ أَبِي زَيْنَبَ، وَمَرَّةً مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، وَمَرَّةً مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَنَسَبَهُ الْمُحَارِبِيُّ إِلَى وَلَاءِ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَسَدِيُّ، وَيَقُولُونَ فِيهِ أَيْضًا: مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّامِيُّ وَأَبُو قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ وَأَبُو قَيْسٍ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ. وَرُبَّمَا قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ، وَنَحْوُهَا عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيدِ لِلَّهِ، وَيَنْسُبُونَهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَسَّانٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 الطَّبَرِيُّ وَمُحَمَّدٌ الْأُرْدُّنِّيُّ وَمُحَمَّدٌ الْمُرْتَضَى: وَيُقَالُ: إِنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُمَيْلَةَ. وَلَا يَثْبُتُ، بَلْ قَالَ ابْنُ عُقْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَوَادَةَ يَقُولُ: قَلَبَ أَهْلُ الشَّامِ اسْمَهُ عَلَى مِائَةِ اسْمٍ، كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ: وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: يُقْلَبُ اسْمُهُ عَلَى نَحْوِ مِائَةِ اسْمٍ. قَالَ: وَمَا أَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى شَيْخُ الشَّافِعِيِّ، هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَاسْمُهُ سَمْعَانُ الْأَسْلَمِيُّ مَوْلَاهُمْ، قَالَ فِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى فَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ. وَهُوَ مَشْهُورٌ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيهِ جَمْعٌ، مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ آدَمَ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ مَرَّةً: أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَطَاءٍ، وَقَالَ مَرَّةً: إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ. وَقَالَ مَرَّةً: أَنَا أَبُو الذِّيبِ، وَسَمَّاهُ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ عَبْدَ الْوَهَّابِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ سَمْعَانَ مَوْلَى أَسْلَمَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَالَ مَرَّةً: أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَرَّةً: إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ فِيهِ نَظَرٌ. وَمِنْهَا أَبُو الْيَقْظَانِ شَيْخُ الْمَدَائِنِيِّ، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ ثِقَةٌ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ: أَبُو الْيَقْظَانِ هُوَ سُحَيْمُ بْنُ حَفْصٍ، وَسُحَيْمٌ لَقَبُهُ، وَاسْمُهُ عَامِرٌ، وَكَانَ لِحَفْصٍ ابْنٌ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَلَمْ يَكُنْ يُكَنَّى بِهِ، وَكَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْيَقْظَانِ: سُمِّيتُ مُدَّةً عُبَيْدَ اللَّهِ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: فَإِذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 قُلْتَ: ثَنَا أَبُو الْيَقْظَانِ فَهُوَ هُوَ، وَهُوَ سُحَيْمُ بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَعَامِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَسُحَيْمُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعَامِرُ بْنُ حَفْصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَائِدٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ. وَفِي الثِّقَاتِ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّصْرِيُّ الْمَدَنِيُّ أَحَدُ التَّابِعِينَ هُوَ سَالِمٌ مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ، وَهُوَ سَالِمٌ سَبَلَانُ، وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى دَوْسٍ، وَهُوَ سَالِمٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيُّ، وَهُوَ سَالِمٌ مَوْلَى الْمُهْرِيُّ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى شَدَّادٍ، وَهُوَ أَبُو سَالِمٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَبَهَ عَلَى الْعِجْلِيِّ الْأَمْرُ فِيهِ ; حَتَّى أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُ تَرْجَمَةَ. وَفَعَلَ ابْنُ حِبَّانَ ذَلِكَ فِي اثْنَيْنِ، وَكَذَا مُسْلِمٌ وَالْحُسَيْنُ الْقَبَّانِيُّ ; لِظَنِّهِمُ التَّعَدُّدَ وَالِافْتِرَاقَ، وَالصَّوَابُ عَدَمُهُ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّجْمَ ابْنَ الرِّفْعَةِ الْفَقِيهَ وَجَدَ فِي مَوْضِعٍ خِلَافًا لِلزُّهْرِيِّ، وَفِي آخَرَ خِلَافًا لِابْنِ شِهَابٍ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِظَنِّ التَّعَدُّدِ فَقَالَ: خِلَافًا لِابْنِ شِهَابٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَمَا قِيلَ مِنْ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْعَطْفِ تَفْسِيرِيًّا، وَتَقْدِيرُهُ خِلَافًا لِابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، الظَّاهِرُ خِلَافُهُ، نَعَمْ عِنْدِي أَنَّ الْوَاوَ سَبْقُ قَلَمٍ ; لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِي هَذَا. [أَفْرَادُ الْعَلَمِ] ِ 862 - وَاعْنَ بِالْأَفْرَادِ سُمًا أَوْ لَقَبَا ... أَوْ كُنْيَةً نَحْوَ لُبَيِّ بْنِ لَبَا 863 - أَوْ مِنْدَلٍ عَمْرٌو وَكَسْرًا نَصُّوا ... فِي الْمِيمِ أَوْ أَبِي مُعَيْدٍ حَفْصُ (أَفْرَادُ الْعَلَمِ) ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ عَلَامَةً عَلَى الرَّاوِي مِنَ اسْمٍ وَكُنْيَةٍ وَلَقَبٍ، (وَاعْنَ) ; أَيِ: اجْعَلْ أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ عِنَايَتِكَ الِاهْتِمَامَ (بِـ) مَعْرِفَةِ (الْأَفْرَادِ) الْآحَادِ الَّتِي لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 يَكُونُ مِنْهَا فِي كُلِّ حَرْفٍ أَوْ فَصْلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سِوَاهَا، (سُمًا) مُثَلَّثُ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَهِيَ مَا تُوضَعُ عَلَامَةَ عَلَى الْمُسَمَّى، (أَوْ لَقَبَا) ; أَيْ: أَوْ مِنَ الْأَلْقَابِ، وَهُوَ مَا يُوضَعُ أَيْضًا عَلَامَةَ لِلتَّعْرِيفِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْمِيَّةِ الْعَلَمِيَّةِ، مِمَّا دَلَّ لِرِفْعَةٍ ; كَزَيْنِ الْعَابِدِينَ، أَوْ ضَعَةٍ ; كَأَنْفِ النَّاقَةِ، (أَوْ كُنْيَةً) ; أَيْ: أَوْ مِنَ الْكُنَى، وَهِيَ مَا صُدِّرَتْ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ، فَهُوَ نَوْعٌ مَلِيحٌ عَزِيزٌ، بَلْ مُهِمٌّ ; لِتَضَمُّنِهِ ضَبْطَهَا، فَإِنَّ جُلَّهُ مِمَّا يُشْكِلُ لِقِلَّةِ دَوَرَانِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مَعَ كَوْنِهِ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمُؤْتَلِفِ، وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ الْحُفَّاظِ الْمُصَنَّفَةِ فِي الرِّجَالِ ; كَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَجْمُوعًا، لَكِنْ مُفَرَّقًا فِي آخِرِ أَبْوَابِهَا، وَكَذَا يُوجَدُ فِي (الْإِكْمَالِ) لِابْنِ مَاكُولَا مِنْهُ الْكَثِيرُ، بَلْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْبَرْدِيجِيُّ، وَتَعَقَّبَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ مَوَاضِعَ مِنْهُ لَيْسَتْ أَفْرَادًا، بَلْ هِيَ مَثَانٍ فَأَكْثُرُ، وَمَوَاضِعَ لَيْسَتِ اسْمًا، بَلْ هِيَ أَلْقَابٌ ; كَالْأَجْلَحِ لَقَبٌ بِهِ لَجَلْحَةٍ كَانَتْ بِهِ، وَاسْمُهُ يَحْيَى. وَمِمَّا تُعُقِّبَ عَلَيْهِ فِيهِ صُغْدِيُّ بْنُ سِنَانٍ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ بَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تُبْدَلُ سِينًا مُهْمَلَةَ، وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ، ثُمَّ يَاءٌ كَيَاءِ النَّسَبِ، اسْمُ عَلَمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ ; إِذْ لَيْسَ فَرْدًا، فَفِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ صُغْدِيٌّ الْكُوفِيُّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ فَضَعَّفَهُ، وَفِي تَارِيخِ الْعُقَيْلِيِّ صُغْدِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَرْوِي عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: حَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَأَظُنُّهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْعُقَيْلِيُّ إِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاءِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الْآفَةُ فِيهِ مِنْهُ، بَلْ هِيَ مِنَ الرَّاوِي عَنْهُ ; عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وَمِنْهُ سَنْدَرٌ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ مَوْلَى زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ اسْمٌ فَرْدٌ، لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ فِيمَا نَعْلَمُ، لَكِنْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ (سَنْدَرٌ أَبُو الْأَسْوَدِ) ، وَرَوَى لَهُ حَدِيثًا، وَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ فِي تَارِيخِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ فِي تَرْجَمَةِ الْأَوَّلِ كَمَا حَرَّرَ ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي (الْإِصَابَةِ) ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ قَالَ: وَعَلَى مَا فَهِمْتُهُ مِنْ شَرْطِهِ لَا يَلْزَمُهُ مَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ، بَلْ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا فَنٌّ يَصْعُبُ الْحُكْمُ فِيهِ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ عَلَى خَطَرٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالِانْتِقَاضِ ; فَإِنَّهُ حَصْرٌ فِي بَابٍ وَاسِعٍ شَدِيدِ الِانْتِشَارِ، يَعْنِي كَمَا قِيلَ فِي الْحُكْمِ لِسَنَدٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقًا، وَقَدْ قَلَّدَ ابْنُ الصَّلَاحِ غَيْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْهَامِ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى فِي ذَلِكَ طَائِفَةً رَتَّبَهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَمِنَ الْأَلْقَابِ عِدَّةً، وَعَلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤَاخَذَاتٌ ; وَلِذَا اقْتَصَرْتُ مِنْهَا عَلَى جُمْلَةٍ مِمَّا لَا مُشَاحَحَةَ فِيهِ. فَمِنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ: أَجْمَدُ بِالْجِيمِ ابْنُ عَجْيَانَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ وَمُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ عَلَى وَزْنِ عَلْيَانَ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَرَأَيْتُهُ بِخَطِ ابْنِ الْفُرَاتِ، وَهُوَ حُجَّةٌ، مُخَفَّفًا عَلَى وَزْنِ سُفْيَانَ، صَحَابِيٌّ. وَقِيلَ فِيهِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ كَالْجَادَّةِ، وَأَوْسَطُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيِّ، تَابِعِيٌّ، وَتَدُومَ كَتَقُومَ، ابْنُ صُبْحٍ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، الْكَلَاعِيِّ عَنْ تُبَيْعٍ الْحِمْيَرِيِّ، ابْنِ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَجُبَيْبٌ بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الْحَارِثِ، صَحَابِيٌّ، وَجَنْدَرَةُ ابْنُ خَيْشَنَةَ أَبُو قِرْصَافَةَ، وَجِيلَانُ بِكَسْرِ الْجِيمِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، ابْنُ فَرْوَةَ أَبُو الْجَلْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ ثُمَّ لَامٍ سَاكِنَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، الْأَخْبَارِيُّ، تَابِعِيٌّ، وَسَنْدَرٌ الْجُذَامِيُّ الْخَصِيُّ مَوْلَى زِنْبَاعٍ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَشَكَلٌ بِفَتْحَتَيْنِ، ابْنُ حُمَيْدٍ، صَحَابِيٌّ، وَشَمْغُونُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو رَيْحَانَةَ، صَحَابِيٌّ، وَهُوَ بِمُعْجَمَتَيْنِ، وَحُكِيَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْإِهْمَالُ وَصُدَيٌّ كَأُبَيٍّ، ابْنُ عَجْلَانَ أَبُو أُمَامَةَ الصَّحَابِيُّ، وَضُرَيْبُ بْنُ نُقَيْرٍ أَوْ نُفَيْرٍ أَوْ نُفَيْلٍ عَلَى الْأَقْوَالِ بِتَصْغِيرِ كُلِّهَا أَبُو السَّلِيلِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَآخِرُهُ لَامٌ، الْعَدَوِيُّ الْبَصَرِيُّ، وَعَزْوَانُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ابْنُ زَيْدٍ الرَّقَاشِيُّ أَحَدِ الزُّهَّادِ، تَابِعِيٌّ، وَعَسْعَسُ بِمُهْمَلَاتٍ ابْنُ سَلَامَةَ أَبُو صُفْرَةَ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ، تَابِعِيٌّ، وَكَلَدَةَ، بِفَتَحَاتٍ، ابْنُ الْحَنْبَلِ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَلَامٌ، صَحَابِيٌّ، وَ (لُبَيِّ) بِمُوَحَّدَةٍ كَأُبَيٍّ بِالتَّصْغِيرِ، (ابْنِ لَبَا) بِمُوَحَّدَةٍ أَيْضًا كَفَتَى وَعَصَى، ضَبَطَهُ كَذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ ثُمَّ ابْنُ الدَّبَّاغِ وَابْنُ الصَّلَاحِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، ضَبَطَهُ ابْنُ فَتْحُونَ فِي (الِاسْتِيعَابِ) ، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَأَيْتُهُ بِخَطِ ابْنِ مُفَرِّجٍ فِيهِ وَفِي وَلَدِهِ مَعًا، وَشَذَّ ابْنُ قَانِعٍ فَجَعَلَ لُبَيًّا أُبَيًّا، وَهُوَ وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَلَبِيدُ رَبِّهِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: ابْنُ بَعْكَكٍ، بِمُوَحَّدَةٍ، مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا كَافَانِ، أَحَدُ مَا قِيلَ فِي اسْمِ أَبِي السَّنَابِلِ الصَّحَابِيِّ، وَلُمَازَةُ بِضَمِّ اللَّامِ ثُمَّ مِيمٍ خَفِيفَةٍ وَزَاءٍ مُعْجَمَةٍ ابْنُ زَبَّارٍ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَرَاءٍ، تَابِعِيٌّ، وَوَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ صَحَابِيٌّ، وَهُبَيْبٌ، بِضَمِّ الْهَاءِ ثُمَّ مُوحَّدَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ مُصَغَّرٌ، ابْنُ مُغْفِلٍ بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَآخِرُهُ لَامٌ، وَهَمْدَانُ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَرِيدُ عُمَرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وَفِي بَعْضِ هَؤُلَاءِ مَا الْفَرْدِيَّةُ فِيهِ وَفِي أَبِيهِ مَعًا، وَرُبَّمَا تَكُونُ فِي الْكُنْيَةِ أَيْضًا، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كَلِّهِ مَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ مِثْلُ أَسْمَاءِ آبَائِهِ، وَهُوَ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدِ بْنِ مُسَرْبَلِ بْنِ مُغَرْبَلِ بْنِ مُرَعْبَلِ بْنِ أَرَنْدَلِ بْنِ سَرَنْدَلِ بْنِ عَرَنْدَلِ بْنِ مَاسِكِ بْنَ الْمُسْتَوْرِدِ، هَكَذَا سَرَدَ نَسَبَهُ مَنْصُورٌ الْخَالِدِيُّ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، قَالَ أَحْمَدُ الْعِجْلِيُّ: وَكَانَ أَبُو نُعَيْمٍ - يَعْنِي الْفَضْلَ بْنَ دُكَيْنٍ - يَسْأَلُنِي عَنْ نَسَبِهِ فَأُخْبِرُهُ بِهِ فَيَقُولُ: يَا أَحْمَدُ، هَذِهِ رُقْيَةُ الْعَقْرَبِ. وَمِنَ الْأَلْقَابِ نَحْوَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سَفِينَةَ الصَّحَابِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِي اسْمِهِ (أَوْ مِنْدَلٍ) هُوَ لَقَبٌ لِابْنِ عَلِيٍّ الْعَنَزِيِّ وَاسْمُهُ، (عَمْرٌو وَكَسْرًا نَصُّوا فِي الْمِيمِ) ; أَيْ: وَنَصُّوا عَلَى الْكَسْرِ فِي الْمِيمِ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَقُولُونَهُ كَثِيرًا بِفَتْحِهَا. زَادَ الْمُصَنِّفُ حِكَايَةَ عَنْ خَطِ ابْنِ نَاصِرٍ الْحَافِظِ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَمُطَيِّنٍ وَمُشْكُدَانَةَ الْجُعْفِيِّ، وَسَيَأْتِي مِنْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ فِي نَوْعِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا. وَمِنَ الْكُنَى نَحْوَ كُلٍّ مِنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ ابْنِ عَاصِمٍ، تَابِعِيٌّ، وَأَبِي بَرْزَةَ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ الصَّحَابِيِّ، فَرْدٌ فِيهِمْ، وَاسْمُهُ نَضْلَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبِي سِرْوَعَةَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، صَحَابِيٌّ، وَأَبِي السَّنَابِلِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ نُونٍ خَفِيفَةٍ وَبَعْدَ الْأَلْفِ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ لَامٌ الْمَاضِي قَرِيبًا، وَأَبِي الْعُبَيْدَيْنِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، تَثْنِيَةُ عُبَيْدٍ، وَاسْمُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَبْرَةَ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ تَابِعِيٌّ، وَأَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ الْمَاضِي ضَبْطُهُ فِي رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ، وَأَبِي الْمُدِلَّةِ بِضَمِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 الْمِيمِ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ، بَعْدَهَا لَامٌ مُشَدَّدَةٌ، ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ الْمَدَنِيِّ، تَابِعِيٌّ، وَأَبِي مُرَايَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ رَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ وَبَعْدَ الْأَلْفِ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثِ الْعِجْلِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، تَابِعِيٌّ، (أَوْ أَبِي مُعَيْدٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، وَاسْمُهُ، (حَفْصٌ) ابْنُ غَيْلَانَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ وَجَمَاعَةٍ، وَعَنْهُ نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةٍ، وَمَعَ هَذَا جَهِلَهُ ابْنُ حَزْمٍ كَمَا جَهِلَ التِّرْمِذِيَّ صَاحِبَ الْجَامِعِ فَقَالَ: وَمَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ؟ . [الْأَسْمَاءُ وَالْكُنَى] 864 - وَاعْنَ بِالَاسْمَا وَالْكُنَى وَقَدْ قَسَمْ ... الشَّيْخُ ذَا لِتِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ قَسَمْ 865 - مَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ انْفِرَادَا ... نَحْوُ أَبِي بِلَالٍ أَوْ قَدْ زَادَا 866 - نَحْوَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَدْ كُنِي ... أَبَا مُحَمَّدٍ بِخُلْفٍ فَافْطُنِ 867 - وَالثَّانِي مَنْ يُكْنَى وَلَا اسْمًا نَدْرِي ... نَحْوُ أَبِي شَيْبَةَ وَهْوَ الْخُدْرِي 868 - ثُمَّ كُنَى الْأَلْقَابِ وَالتَّعَدُّدِ ... نَحْوُ أَبِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ 869 - وَابْنِ جُرَيْجٍ بِأَبِي الْوَلِيدِ ... وَأَبِي خَالِدٍ كُنِّيَ لِلتَّعْدِيدِ 870 - ثُمَّ ذَوُو الْخُلْفِ كُنًى وَعُلِمَا ... أَسْمَاؤُهُمْ وَعَكْسُهُ وَفِيهِمَا 871 - وَعَكْسُهُ وَذُو اشْتِهَارٍ بِسُمِ ... وَعَكْسُهُ أَبُو الضُّحَى لِمُسْلِمِ (وَاعْنَ) ; أَيِ: اجْعَلْ أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ عِنَايَتِكَ الِاهْتِمَامَ (بِـ) مَعْرِفَةِ (الْأَسْمَاءِ) بِالنَّقْلِ وَبِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، لِذَوِي الْكُنَى، (وَالْكُنَى) لِذَوِي الْأَسْمَاءِ، فَهُوَ فَنٌّ مُهِمٌّ مَطْلُوبٌ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنْ ظَنِّ تَعَدُّدِ الرَّاوِي الْوَاحِدِ الْمُكَنَّى فِي مَوْضِعٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وَالْمُسَمَّى فِي آخَرَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْتَنُونَ بِهِ وَيَتَحَفَّظُونَهُ وَيُطَارِحُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَنْتَقِضُونَ مَنْ جَهِلَهُ، يَعْنِي كَمَا عِيبَ الْجَمَالُ بْنُ هِشَامٍ إِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ رَامَ الْكَشْفَ عَنْ تَرْجَمَةِ أَبِي الزِّنَادِ فَلَمْ يَهْتَدِ لِمَحَلِّهِ مِنْ كُتُبِ الْأَسْمَاءِ ; لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ اسْمِهِ، مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ مُبْتَدِي الطَّلَبَةِ، وَلَقَدِ امْتَحَنَ شَيْخُنَا بَعْضَ الطَّلَبَةِ بِتَعْيِينِ أَبِي الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيِّ شَيْخِ ابْنِ حِبَّانَ حَيْثُ مَرَّ فِي قِرَاءَةِ زَوَائِدَ صَحِيحِهِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَهْتَدِ لِذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي التَّدْلِيسِ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَبُو ذَرٍّ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدَبٌ. وَرُبَّمَا يَنْشَأُ عَنْ إِغْفَالِهِ زِيَادَةٌ فِي السَّنَدِ أَوْ نَقْصٌ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَهُ قِرَاءَةٌ» ) . وَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ أَبُو الْوَلِيدِ، كَمَا بَيَّنَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. يَعْنِي فَعَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: وَمَنْ تَهَاوَنَ بِمَعْرِفَةِ الْأَسَامِي أَوْرَثَهُ مِثْلُ هَذَا الْوَهْمَ. انْتَهَى. وَعَكْسُهُ أَنْ تُسْقِطَ (عَنْ) كَمَا اتَّفَقَ لِلنَّسَائِيِّ مَعَ جَلَالَتِهِ حَيْثُ قَالَ: عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ السَّائِبِ ; لِأَنَّ أَبَا أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، وَشَيْخُهُ حَمَّادٌ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ أَبُو النَّضْرِ الْكَلْبِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ. وَلِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَشَبَابٍ الْعُصْفُرِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْجَارُودِ وَأَبِي بِشْرٍ الدُّولَابِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ وَوَالِدِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْلَدٍ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الصَّرِيفِينِيِّ وَأَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 النَّيْسَابُورِيِّ وَغَيْرِهِمْ فِيهِ تَصَانِيفُ، سَمَّى ابْنُ عَبْدَ الْبَرِّ تَصْنِيفَهُ (الِاسْتِغْنَاءَ فِي مَعْرِفَةِ الْكُنَى) ، وَهُوَ مُجَلَّدٌ ضَخْمٌ، وَلَعَلَّهُ انْدَرَجَ فِي قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَنْوَاعٍ مِنْهُ كُتُبٌ لَطِيفَةٌ رَائِقَةٌ. انْتَهَى. وَأَجَلُّهَا آخِرُهَا ; لِعَدَمِ اقْتِصَارِهِ عَلَى مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ، بَلْ ذَكَرَ مَنْ لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ أَيْضًا، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا ; فَإِنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ غَالِبًا إِلَّا مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ، وَهِيَ مَرْتَبَةٌ عَلَى الشَّائِعِ لِلْمَشَارِقَةِ فِي الْحُرُوفِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، فَعَلَى تَرْتِيبٍ فِيهَا كَأَنَّهُ ابْتَكَرَهُ، فَبَدَأَ بِالْأَلْفِ ثُمَّ اللَّامِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ وَأُخْتَيْهَا، ثُمَّ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ النُّونِ ثُمَّ السِّينِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الرَّاءِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الدَّالِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الْكَافِ ثُمَّ الطَّاءِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الصَّادِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الْفَاءِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الْوَاوِ ثُمَّ الْهَاءِ ثُمَّ الْمِيمِ ثُمَّ الْعَيْنِ وَأُخْتِهَا، ثُمَّ الْحَاءِ وَأُخْتَيْهَا، وَلَمْ يُرَاعُوا جَمِيعًا تَرْتِيبَهَا فِي كُلِّ حَرْفٍ بِحَيْثُ يَبْدَءُونَ فِي الْهَمْزَةِ مَثَلًا بِأَبِي إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ بِأَبِي إِسْحَاقَ قَبْلَ أَبِي أَسْلَمَ ; جَرْيًا مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ غَالِبًا، فَالْكَشْفُ مِنْهَا لِذَلِكَ مُتْعِبٌ ; وَلِذَا رَتَّبَ الذَّهَبِيُّ كِتَابَ الْحَاكِمِ مُجَرَّدًا عَنِ الْمُتُونِ وَالتَّرَاجِمِ وَغَيْرِهَا وَسَمَّاهُ (الْمُعْتَنَى فِي سَرْدِ الْكُنَى) ، وَقَالَ: إِنَّ مُصَنِّفَ الْأَصْلِ زَادَ وَأَفَادَ وَحَرَّرَ وَأَجَادَ، وَكِتَابُهُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ سِفْرًا، يَجِيءُ بِالْخَطِّ الرَّفِيعِ خَمْسَةُ أَسْفَارٍ أَوْ نَحْوُهَا، وَكَذَا جَمَعَ فِي (الْكُنَى) مُحَمَّدٌ الْمَدْعُوُّ ثَابِتُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اللَّخْمِيُّ بْنِ الصَّيْرَفِيِّ، وَلِي فِيهَا أَيْضًا تَصْنِيفٌ لَمْ أُبَيِّضْهُ إِلَى الْآنَ. (وَقَدْ قَسَمْ) بِالتَّخْفِيفِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (ذَا) النَّوْعَ إِمَّا (لِتِسْعٍ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْأَقْسَامِ ; نَظَرًا إِلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النَّوْعِ الْخَمْسِينَ، (أَوْ) بِالنَّقْلِ (عَشْرٍ قَسَمْ) ; أَيْ: أَقْسَامٍ، بِانْضِمَامِ الْمَعْرُوفِينَ بِالِاسْمِ دُونَ الْكُنْيَةِ الَّذِي أَفْرَدَهُ فِي نَوْعٍ مُسْتَقِلٍّ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ ضِدُّ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَوِّبَ عَلَى الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ يُبَيِّنَ كُنَاهَا، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ: وَقَلَّ مَنْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 وَبَلَغَنَا أَنَّ لِأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ فِيهِ كِتَابًا، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِهِ، يَعْنِي كَمَا سَلَكَهُ مُصَنِّفُو الْكُنَى، حَيْثُ جَمَعُوا مَنْ عُرِفَ بِالْكُنْيَةِ وَمَنْ عُرِفَ بِالِاسْمِ، وَتَبِعَهُمُ النَّاظِمُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّوْعُ - يَعْنِي مَنِ اشْتُهِرَ بِالِاسْمِ - قِسْمًا عَاشِرًا لِلْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَشَرَةِ وَهُوَ قِسْمَانِ: (مَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ انْفِرَادَا) ; أَيْ: لَيْسَ لَهُ كُنْيَةٌ وَلَا اسْمٌ غَيْرُهَا، (نَحْوُ أَبِي بِلَالٍ) الْأَشْعَرِيِّ الرَّاوِي عَنْ شَرِيكٍ وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِي اسْمٌ، اسْمِي وَكُنْيَتِي وَاحِدٌ. وَمَا قِيلٌ مِنْ أَنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ، فَشَاذٌّ، وَنَحْوُ أَبِي حُصَيْنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيِّ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَسَأَلَهُ هَلْ لَكَ اسْمٌ؟ فَقَالَ: لَا، اسْمِي وَكُنْيَتِي وَاحِدٌ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا أُسَمِّيكَ عَبْدَ اللَّهِ. فَتَبَسَّمَ، وَمَا وَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمُقْرِئِ مِنَ الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ أَنَّ اسْمَ أَبِي حُصَيْنٍ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ فَوَهْمٌ، فَيَحْيَى إِنَّمَا هُوَ اسْمُ أَبِيهِ، وَكَذَا ذُكِرَ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ الْمُقْرِئُ رَاوِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ ; لِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِي اسْمٌ غَيْرُهُ، وَسَأَلَهُ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فَاحِشَةً قَطُّ، وَيَخْتِمُ الْقُرْآنَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً. وَلِذَا لَمَّا سَأَلَ أَبُو حَاتِمٍ ابْنَهُ هَذَا عَنِ اسْمِ أَبِيهِ، قَالَ: اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ وَاحِدٌ. وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمِزِّيُّ، وَقِيلَ: بَلْ لَهُ اسْمٌ غَيْرُهَا، فَقِيلَ: حَبِيبٌ أَوْ حَمَّادٌ أَوْ خِدَاشٌ أَوْ رُؤْبَةُ أَوْ سَالِمٌ أَوْ شُعْبَةُ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ مُحَمَّدٌ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ مُطَرِّفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ صَحَّ لَهُ اسْمٌ فَهُوَ شُعْبَةُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَمَشَى عَلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ، وَعَاشَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 الْمَازِنِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ قِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ. وَقِيلَ: بَلْ سُمِّيَ إِمَّا الْعُرْيَانَ أَوْ زَبَّانَ أَوْ يَحْيَى أَوْ جَزْءً أَوْ غَيْرَهَا عَلَى الْأَقْوَالِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، لَمَّا قِيلَ مِنْ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ: إِسْمَاعِيلُ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ. وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَمْثِلَةٌ هَذَا الْقِسْمِ قَلِيلَةٌ، وَقَلَّ أَنْ تَخْلُوَ مِنْ خَدْشٍ، وَمَا أَظْرَفَ قَوْلَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ لِابْنِهِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ أَبَاكَ وُلِدَ بَعْدَ أَنْ قُسِّمَتِ الْأَسْمَاءُ. (أَوْ) بِالنَّقْلِ (قَدْ زَادَا) عَلَى الْكُنْيَةِ الَّتِي هِيَ اسْمُهُ، وَهُوَ ثَانِي قِسْمَيِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ (نَحْوَ أَبِي بَكْرِ بْنِ) مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ (حَزْمٍ) الْأَنْصَارِيِّ، (قَدْ كُنِيَ أَبَا مُحَمَّدٍ بِخُلْفٍ) فِيهَا فَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْمُهُ، وَإِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ كُنْيَتُهُ. وَقِيلَ: بَلِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ وَنَحْوُهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا كُنْيَةَ لَهُ، بَلِ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ وَاحِدٌ. حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، (فَافْطُنِ) لِهَذَا الْخِلَافِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، اسْمُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، ثُمَّ الْمِزِّيُّ، وَقِيلَ: أَبُو مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وَقِيلَ: عُمَرُ. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ النَّوَوِيِّ وَالْمِزِّيِّ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ. (وَ) الْقِسْمُ (الثَّانِي مَنْ يُكْنَى وَلَا اسْمًا) لَهُ (نَدْرِي) ، فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، فَلَا نَدْرِي أَكُنْيَتُهُ اسْمُهُ ; كَالْأَوَّلِ أَوْ لَهُ اسْمٌ وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ، (نَحْوُ) أَبِي أُنَاسٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، ابْنِ زُنَيْمٍ، بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ، وَآخِرَهُ مِيمٌ، مُصَغَّرٌ، اللَّيْثِيِّ أَوِ الدِّيَلِيِّ، صَحَابِيٌّ، وَأَبِي شَاهٍ، وَ (أَبِي شَيْبَةَ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، (وَهْوَ الْخُدْرِيُّ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، أَخُو أَبِي سَعِيدٍ الشَّهِيرِ، صَحَابِيٌّ مُقِلٌّ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ السَّكَنِ: لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: لَمْ يُسَمَّ لَنَا، وَلَمْ نَجِدِ اسْمَهُ وَلَا نَسَبَهُ فِي كِتَابِ نَسَبِ الْأَنْصَارِ. انْتَهَى. مَاتَ فِي حِصَارِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَأَبِي مُوَيْهِبَةَ أَوْ أَبِي مَوْهِبَةَ أَوْ أَبِي مَوْهُوبَةَ - وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي حَرِيزٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ ; كَكَثِيرٍ، الْمَوْقِفِيِّ شَيْخٍ لِابْنِ وَهْبٍ، وَالْمَوْقِفُ مَحَلَّةٌ بِمِصْرَ. (ثُمَّ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ، (كُنَى) لِذَوِي أَسْمَاءٍ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ (الْأَلْقَابِ) ; لِمُشَابَهَتِهَا لَهَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 مَعْنَاهَا مِنْ رِفْعَةٍ أَوْ ضَعَةٍ، مَعَ أَنَّ لِصَاحِبِهَا كُنْيَةً غَيْرَهَا. (وَ) الْقِسْمُ الرَّابِعُ كُنَى (التَّعَدُّدِ) بِأَنْ يَكُونَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ كُنْيَةٍ، زِيَادَةً عَلَى اسْمِهِ وَلَا لَقَبَ فِيهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَمْثِلَةٌ، فَالْأَوَّلُ (نَحْوُ أَبِي الشَّيْخِ) فَهُوَ لَقَبٌ لِلْحَافِظِ الشَّهِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْأَصْبِهَانِيِّ (أَبِي مُحَمَّدِ) ، وَأَبِي تُرَابٍ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ ; كَمَا قَالَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَأَبِي الزِّنَادِ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، وَكَانَ يَغْضَبُ مِنْهُ فِيمَا قِيلَ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبِي الْآذَانِ بِالْمَدِّ لِعُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَافِظِ ; لِكِبَرِ أُذُنَيْهِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبِي الرِّجَالِ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلَادٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (وَ) نَحْوُ (ابْنِ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرٌ، عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (بِـ) كُلٍّ مِنْ (أَبِي الْوَلِيدِ وَأَبِي خَالِدٍ كُنِّيَ) بِالتَّشْدِيدِ فِي أَمْثِلَةٍ ; (لِلتَّعْدِيدِ) ثَانِي هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرَيُّ يُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ فَتَرَكَهَا وَاكْتَنَى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَذَا كَانَ السُّهَيْلِيُّ يُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَانَ لِشَيْخِنَا مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْمَعَالِي النَّيْسَابُورِيِّ حَفِيدِ الْفَرَاوِيِّ ثَلَاثُ كُنًى ; أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْفَتْحِ وَأَبُو الْقَاسِمِ، قُلْتُ: وَنَحْوُهُ شَيْخُنَا كُنْيَتُهُ الصَّحِيحَةُ أَبُو الْفَضْلِ، وَكُنِّيَ أَيْضًا بِأَبِي الْعَبَّاسِ وَبِأَبِي جَعْفَرٍ، وَرُبَّمَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الَّذِي بَعْدَهُ. (ثُمَّ) وَهُوَ الْخَامِسُ (ذَوُو الْخُلْفِ كُنًى) بِالتَّنْوِينِ أَيْ: مَنِ اخْتُلِفَ فِي كُنَاهُمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ كُنْيَتَانِ فَأَكْثَرُ، (وَعُلِمَا) بِلَا خِلَافٍ (أَسْمَاؤُهُمْ) كَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْحِبِّ بْنِ الْحِبِّ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا خِلَافَ فِي اسْمِهِ، وَفِي كُنْيَتِهِ اخْتِلَافٌ، فَقِيلَ: أَبُو خَارِجَةَ أَوْ أَبُو زَيْدٍ أَوْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَلِأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ الْهَرَوِيِّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُخْتَصَرٌ، قَالَ: وَفِي بَعْضِ أَهْلِهِ مَنْ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 مُلْتَحِقٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ. (وَعَكْسُهُ) وَهُوَ السَّادِسُ مَنِ اخْتُلِفَ فِي أَسْمَائِهِمْ دُونَ كُنَاهُمْ ; كَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكَنِّيهِ بِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى نَحْوِ عِشْرِينَ قَوْلًا، فَقِيلَ: عَبْدُ شَمْسٍ وَعَبْدُ تَيْمٍ وَعَبْدُ نَهْمٍ، وَعَبْدُ الْعُزَّى وَعَبْدُ يَا لَيْلَ، وَهَذِهِ لَا جَائِزَ أَنْ تَبْقَى بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَعُبَيْدٌ بِدُونِ إِضَافَةٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَسُكَيْنٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَسَكَنٌ بِفُتْحَتَيْنِ، وَعَمْرٌو بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَعُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَعَامِرٌ وَبَرِيرٌ، وَبَرٌّ، وَيَزِيدُ، وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَجَمِيعُهَا مُحْتَمَلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَّا الْأَخِيرَيْنِ فَإِنَّهُمَا إِسْلَامِيَّانِ جَزْمًا، وَكَذَا مَجْمُوعُ مَا قِيلَ فِي اسْمِ أَبِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا، بَلْ قَالَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ: إِنَّهُ اجْتَمَعَ مِنَ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ قَوْلًا، مَذْكُورَةَ فِي (الْكُنَى) لِلْحَاكِمِ وَ (الِاسْتِيعَابِ) وَ (تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ) ، وَاخْتَارَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ، وَصَحَّحَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ وَالرَّافِعِيُّ فِي (التَّذْنِيبِ) ، وَالنَّوَوِيُّ، وَصَحَّحَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّهُ عُمَيْرُ بْنُ عَامِرٍ. (وَفِيهِمَا) ; أَيْ: فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى جَمِيعًا اخْتِلَافٌ، وَهُوَ السَّابِعُ ; كَسَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَفِينَةُ إِنَّمَا هُوَ لَقَبُهُ وَبِهِ اشْتُهِرَ، وَفِي اسْمِهِ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ قَوْلًا، قِيلَ: عُمَيْرٌ أَوْ صَالِحٌ أَوْ مِهْرَانُ أَوْ طَهْمَانُ أَوْ قَيْسٌ. وَلَا نُطِيلُ بِسَرْدِهَا، وَكَذَا كُنِّيَ بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ. (وَعَكْسُهُ) وَهُوَ الثَّامِنُ مَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وَاحِدٍ مِنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ ; كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ آبَاءِ عَبْدِ اللَّهِ ; مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِثٍ. (وَذُو اشْتِهَارٍ بِسُمِ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ لُغَةٌ فِي الِاسْمِ غَيْرُ لُغَةِ الْقَصْرِ، فَيُعْرَبُ بِالْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ ; أَيْ: مَنِ اشْتَهَرَ بِاسْمِهِ دُونَ كُنْيَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهُوَ التَّاسِعُ، وَهُوَ الَّذِي أَفْرَدَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ كَمَا قَدَّمْنَا بِنَوْعٍ ; كَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي آخَرِينَ كُنْيَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَكَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ وَجَابِرٍ فَى آخَرِينَ كُنُّوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، (وَعَكْسُهُ) وَهُوَ الْعَاشِرُ مَنِ اشْتُهِرَ بِكُنْيَةٍ دُونَ اسْمِهِ وَإِنْ كَانَ اسْمُهُ مُعَيَّنًا مَعْرُوفًا، وَمِنْهُ (أَبُو الضُّحَى) بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ حَاءٍ مَفْتُوحَةٍ كُنْيَةٌ (لِمُسْلِمِ) بْنِ صُبَيْحٍ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي آخَرِينَ، وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِالْكُنَى نَوْعَانِ: أَهْمَلَهُمَا ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَتْبَاعُهُ، مَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ ; كَأَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ أَحَدِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. قَالَ شَيْخُنَا: وَفَائِدَةُ مَعْرِفَتِهِ نَفْيُ الْغَلَطِ عَمَّنْ نَسَبُهُ إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ: أَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ. لِظَنِّهِ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَوْ كُنْيَتُهُ كُنْيَةُ زَوْجَتِهِ كَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأُمِّ أَيُّوبَ، صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ، وَفَائِدَتُهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ تَصْحِيفِ أَدَاةِ الْكُنْيَةِ، وَعِنْدِي فِيهِ مُصَنَّفٌ لِأَبِي الْحَسَنِ بْنِ حَيُّوَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 [الْأَلْقَابُ] ُ 872 - وَاعْنَ بِالْأَلْقَابِ فَرُبَّمَا جُعِلْ ... الْوَاحِدُ اثْنَيْنِ الَّذِي مِنْهَا عَطِلْ 873 - نَحْوُ الضَّعِيفِ أَيْ بِجِسْمِهِ وَمَنْ ... ضَلَّ الطَّرِيقَ بِاسْمِ فَاعِلٍ وَلَنْ 874 - يَجُوزَ مَا يَكْرَهُهُ الْمُلَقَّبُ ... وَرُبَّمَا كَانَ لِبَعْضٍ سَبَبُ 875 - كَغُنْدَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ ... وَصَالِحٍ جَزَرَةَ الْمُشْتَهِرِ (الْأَلْقَابُ) وَكَانَ الْأَنْسَبُ - حَيْثُ خُولِفَ الْأَصْلُ فِي ضَمِّ مَنْ عُرِفَ بِاسْمِهِ إِلَى الْكُنَى - أَنْ يُضُمَّ هَذَا إِلَيْهَا أَيْضًا، وَلَعَلَّهُ أَفْرَدَهُ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ التَّصَانِيفِ، (وَاعْنَ) ; أَيِ: اجْعَلْ أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ عِنَايَتِكَ الِاهْتِمَامَ بِمَعْرِفَةِ (الْأَلْقَابِ) ، الْمَاضِي تَعْرِيفُهَا فِي أَفْرَادِ الْعَلَمِ قَرِيبًا لِلْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُذْكَرُ مَعَهُمْ، (فَرُبَّمَا جُعِلَ الْوَاحِدُ اثْنَيْنِ) ; حَيْثُ يَجِيءُ مَرَّةً بِاسْمِهِ وَأُخْرَى بِلَقَبِهِ، (الَّذِي مِنْهَا) ; أَيْ: مِنْ مَعْرِفَتِهَا (عَطِلْ) ; أَيْ: خَلَا ; لِظَنِّهِ فِي الْأَلْقَابِ أَنَّهَا أَسَامِي، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَكَابِرَ الْحُفَّاظِ ; كَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ خِرَاشٍ وَأَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ ; إِذْ فَرَّقُوا بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ أَخِي سُهَيْلٍ وَبَيْنَ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، وَجَعَلُوهُمَا اثْنَيْنِ، وَلَيْسَ عَبَّادٌ بِأَخٍ لِعَبْدِ اللَّهِ ; كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، بَلْ هُوَ لَقَبُهُ حَسْبَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، وَرُبَّمَا جَهِلَهُ الطَّالِبُ أَصْلًا وَرَأْسًا، كَمَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ الْأَعْيَانِ حَيْثُ قَالَ لِشَيْخِنَا: فَتَّشْتُ كُتُبَ الرِّجَالِ عَنْ تَمْتَامٍ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: هُوَ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، تَرْجَمَهُ الْخَطِيبُ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ صَنَّفَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 فِي الْأَلْقَابِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ ; كَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيِّ، وَهُوَ فِي مُجَلَّدٍ مُفِيدٍ كَثِيرِ النَّفْعِ، وَاخْتَصَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ ; وَكَأَبِي الْفَضْلِ الْفَلَكِيِّ وَأَبِي الْوَلِيدِ بْنِ الْفَرْضِيِّ، مُحَدِّثِ الْأَنْدَلُسِ، وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ أَوْسَعُهَا، وَسَمَّاهُ (كَشْفَ النِّقَابِ) ، وَجَمَعَهَا مَعَ التَّلْخِيصِ وَالزِّيَادَاتِ شَيْخُنَا فِي مُؤَلَّفٍ بَدِيعٍ سَمَّاهُ (نُزْهَةَ الْأَلْبَابِ) ، وَزِدْتُ عَلَيْهِ زَوَائِدَ كَثِيرَةً ضَمَمْتُهَا إِلَيْهِ فِي تَصْنِيفٍ مُسْتَقِلٍّ. وَلَقَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، بِالصِّدِّيقِ، وَعُمَرُ بِالْفَارُوقِ، وَعُثْمَانُ بِذِي النُّورَيْنِ، وَعَلِيٌّ بِأَبِي تُرَابٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِسَيْفِ اللَّهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِأَمِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَحَمْزَةُ بِأَسَدِ اللَّهِ، وَجَعْفَرٌ بِذِي الْجَنَاحَيْنِ، وَسَمَّى قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ الْأَنْصَارَ، فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى حُلَفَائِهِمْ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ سَمَّى مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ سَيِّدَ الْقُرَّاءِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَدْعُو الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ يَاقُوتَةَ الْعُلَمَاءِ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ يُلَقِّبُ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ الْأَصْبِهَانِيَّ عَرُوسَ الزُّهَّادِ، وَأَشْرَفُ مَنِ اشْتُهِرَ بِاللَّقَبِ الْجَلِيلِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَمُوسَى الْكَلِيمُ وَعِيسَى الْمَسِيحُ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ بِأَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ ; كَأَشْهَبَ، وَبِالصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ ; كَالْبَقَّالِ، وَبِالصِّفَاتِ كَالْأَعْمَشِ، وَالْكُنَى ; كَأَبِي بَطْنٍ، وَالْأَنْسَابِ إِلَى الْقَبَائِلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وَالْبُلْدَانِ وَغَيْرِهَا، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، (نَحْوُ الضَّعِيفِ) لَقَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَبِي مُحَمَّدٍ الطَّرْسُوسِيِّ، (أَيْ بِجِسْمِهِ) لَا فِي حَدِيثِهِ، كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّسَائِيِّ: إِنَّهُ لُقِّبَ بِهِ ; لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ. يَعْنِي كَأَنَّ الْعِبَادَةَ أَنْهَكَتْ بَدَنَهُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ; لِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ. يَعْنِي مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ ; كَمَا قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا قِيلَ أَشْقَرَ كَالْبَصَلَةِ أَوْ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، وَكَذَا لَهُمْ يُونُسُ لَقَّبَهُ أَحْمَدُ بِالصَّدُوقِ وَلَمْ يَكُنْ صَدُوقًا، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَاهُ عَنَى بِالصَّدُوقِ الْكَذُوبَ مَقْلُوبٌ، (وَ) نَحْوُ (مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ) ، وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ لُقِّبَ (بِـ) الضَّالِّ (اسْمِ فَاعِلٍ) مِنْ ضَلَّ ; لِأَنَّهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَاتِمٍ ضَلَّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَكَذَا قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: وَزَادَ، فَمَاتَ مَفْقُودًا، قَالَ: وَكَذَا فُقِدَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَسَلْمُ بْنُ أَبِي الذَّيَّالِ، فَلَمْ يُرَ لَهُمْ أَثَرٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ: رَجُلَانِ نَبِيلَانِ لَزِمَهُمَا لَقَبَانِ قَبِيحَانِ: مُعَاوِيَةُ الضَّالُّ، وَإِنَّمَا ضَلَّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الضَّعِيفُ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَعِيفًا فِي جِسْمِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وَنَحْوُ الْقَوِيِّ لَقَبٌ لِلْحَسَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ فَرُّوخَ أَبِي يُونُسَ، لُقِّبَ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ ثِقَةً أَيْضًا ; لِقُوَّتِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّوَافِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ بَكَى حَتَّى عَمِيَ وَصَلَّى حَتَّى حَدِبَ، وَطَافَ حَتَّى أُقْعِدَ، كَانَ يَطُوفُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ أُسْبُوعًا. ثُمَّ إِنَّ الْأَلْقَابَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَا يَكْرَهُهُ الْمُلَقَّبُ بِهِ ; كَأَبِي تُرَابٍ، لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَكَبُنْدَارٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ ; لِكَوْنِهِ كَمَا قَالَ الْفَلَكِيُّ: كَانَ بُنْدَارَ الْحَدِيثِ، وَإِلَى مَا يَكْرَهُهُ ; كَأَبِي الزِّنَادِ وَعَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ وَمُشْكُدَانَةَ، فَالْأَوَّلُ جَائِزٌ ذِكْرُهُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ عُرِفَ بِغَيْرِهِ أَمْ لَا، مَا لَمْ يَرْتَقِ إِلَى الْإِطْرَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَيْسَ بِجَائِزٍ، (وَلَنْ يَجُوزَ) أَيْضًا (مَا يَكْرَهُهُ الْمُلَقَّبُ) إِلَّا إِذَا لَمْ يُتَوَصَّلْ لِتَعْرِيفِهِ إِلَّا بِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَاخِرَ آدَابِ الْمُحَدِّثِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَيَتَأَكَّدُ التَّحْرِيمُ فِي التَّلْقِيبِ الْمُبْتَكَرِ مِنَ الْمُلَقَّبِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا - كَمَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ: ( «مَا مِنْ رَجُلٍ رَمَى رَجُلًا بِكَلِمَةٍ يَشِينُهُ بِهَا إِلَّا حَبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي طِينَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا» ) . (وَ) مِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِهَا فَـ (رُبَّمَا كَانَ لِبَعْضٍ) مِنْهَا (سَبَبٌ) ، يَعْنِي: ظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَكُلُّهَا لَا تَخْلُو عَنْ أَسْبَابٍ. وَيُسْتَفَادُ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جُزْءٍ سَمِعْتُهُ لِلْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ الْمِصْرِيِّ سَمَّاهُ (أَسْبَابَ الْأَسْمَاءِ) كَالضَّعِيفِ وَالصَّدُوقِ وَالْقَوِيِّ وَالضَّالِّ مِمَّا ذُكِرَ هُنَا، وَأَبِي الرِّجَالِ وَأَبِي الْآذَانِ، مِمَّا ذُكِرَ فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ وَمُطَيَّنٍ مِمَّا ذُكِرَ فِي مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ؟ وَمُشْكُدَانَةُ مِمَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 ذُكِرَ فِي أَدَبِ الْمُحَدِّثِ، وَالنَّبِيلُ لِأَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ ; لِكَوْنِهِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ شُعْبَةَ حَلَفَ أَنْ لَا يُحَدِّثَ لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُ، قَالَ لَهُ: حَدِّثْ وَغُلَامِي فُلَانٌ حُرٌّ. فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: أَنْتَ نَبِيلٌ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ غَيْرُ هَذَا، وَصَاعِقَةُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ لِشِدَّةِ مُذَاكَرَتِهِ وَحِفْظِهِ، وَغُنْجَارٌ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى أَبِي أَحْمَدَ التَّمِيمِيِّ الْبُخَارِيِّ ; لِحُمْرَةِ وَجْنَتَيْهِ، وَخَتٌّ لِيَحْيَى بْنِ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ كَانَتْ تَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ، وَلُوَيْنٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ ; لِكَوْنِهِ - كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ - كَانَ يَبِيعُ الدَّوَابَّ بِبَغْدَادَ فَيَقُولُ: هَذَا الْفَرَسُ لَهُ لُوَيْنٌ، هَذَا الْفَرَسُ لَهُ قُدَيْدٌ، وَلَكِنْ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ قَوْلُهُ: لَقَّبَتْنِي أُمِّي لُوَيْنًا، وَقَدِ رَضِيتُ بِهِ. وَ (كَغُنْدَرٍ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ رَاءٌ، (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) ; لِكَوْنِهِ كَانَ يُكْثِرُ الشَّغَبَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ حِينَ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: اسْكُتْ يَا غُنْدَرُ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ عَائِشَةَ الْعَيْشِيُّ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُسَمُّونَ الْمُشَغِّبَ غُنْدَرًا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ: الْغُنْدَرُ الصَّيِّخُ. وَأَغْرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ فِي تَأْلِيفِهِ الِاشْتِقَاقَ أَنَّهُ مِنَ الْغَدْرِ، وَأَنَّ نُونَهُ زَائِدَةٌ وَدَالَهُ تُضَمُّ وَتُفْتَحُ. عَلَى أَنَّ الْبُلْقِينِيَّ قَالَ: إِنَّ التَّشْغِيبَ فِي ضِمْنِهِ مَا يُشْبِهُ الْغَدْرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِالتَّلْقِيبِ بِذَلِكَ، بَلْ شَارَكَهُ فِيهِ سَبْعَةٌ مِمَّنِ اتَّفَقَ مَعَهُ أَيْضًا فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ، وَاثْنَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 مِمَّنِ اتَّفَقَ مَعَهُ فِي الِاسْمِ خَاصَّةً فِي اثْنَيْنِ، اسْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَحْمَدُ، أَوْرَدْتُهُمْ فِي تَصْنِيفِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَالْمَاجِشُونُ لِيَعْقُوبَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ أَحْمَرَ (وَ) كَـ (صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ أَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، ثُمَّ الْبُخَارِيُّ، الْمُلَقَّبُ (جَزَرَةَ) بِجِيمٍ ثُمَّ زَاءٍ مَنْقُوطَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَاتٍ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، (الْمُشْتَهِرِ) بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ وَالثِّقَةِ ; لِكَوْنِهِ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ صَحَّفَ خَرَزَةَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّهُ كَانَ يُرْقَى بِخَرَزَةٍ، يَعْنِي بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ زَاءٍ مَنْقُوطَةٍ، إِذْ سُئِلَ مِنْ أَيْنَ سَمِعْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ حَدِيثِ الْجَزَرَةِ. يَعْنِي بِجِيمٍ ثُمَّ زَاءٍ مَنْقُوطَةٍ ثُمَّ رَاءٍ، وَذَلِكَ فِي حَدَاثَتِهِ، قَالَ: فَبَقِيَتْ عَلَيَّ. وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ، وَأَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ شُيُوخٍ الشَّامِ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِمْ حَدَّثَكُمْ حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ؟ قَالَ: كَانَ لِأَبِي أُمَامَةَ خَرَزَةٌ يَرْقِي بِهَا الْمَرِيضَ فَقَالَهَا (جَزَرَةٌ) . وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى الذُّهْلِيِّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، فَلَمَّا بَلَغَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَرِقِي مِنَ الْخَرَزَةِ، فَقَالَ: مِنَ الْجَزَرَةِ. فَلُقِّبَ بِهِ. وَغَلَّطَ الْخَطِيبُ آخِرَهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ تَصْحِيفُهُ خَرَزَةَ، نَعَمْ، قِيلَ فِي السَّبَبِ مَا يُخَالِفُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْكُتَّابِ أَهْدَى الصِّبْيَانُ لِلْمُؤَدِّبِ هَدَايَا فَكَانَتْ هَدِيَّتُهُ هُوَ جَزَرَةً ; فَلَقَّبَهُ الْمُؤَدِّبُ بِهَا وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَاتُّفِقَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَمْشِي مَعَ رَفِيقٍ لَهُ يُلَقَّبُ الْجَمَلَ، فَمَرَّ جَمَلٌ عَلَيْهِ جَزَرٌ، فَقَالَ لَهُ رَفِيقُهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَنَا عَلَيْكَ. وَكَانَ مَذْكُورًا كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 التَّصْحِيفِ بِكَثْرَةِ الْمِزَاحِ، وَفِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُسْتَظْرَفُ، وَكَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فَإِنَّ الْمُلَقَّبَ بِذَلِكَ جَدُّهُ وَهْبٌ ; لِكَوْنِهِ خَرَجَ يَوْمًا مِنْ بَلَدِهِ قُوصٍ وَعَلَيْهِ طَيْلَسَانٌ أَبْيَضُ وَثَوْبٌ أَبْيَضُ، فَقَالَ شَخْصٌ بَدَوِيٌّ: كَأَنَّ قُمَاشَ هَذَا يُشْبِهُ دَقِيقَ الْعِيدِ. يَعْنِي فِي الْبَيَاضِ ; فَلَزِمَهُ ذَلِكَ. وَمِنْ ظَرِيفِ هَذَا النَّوْعِ يَمُوتُ، لَقَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُزْرِعِ بْنِ يَمُوتَ الْبَغْدَادِيِّ الْأَخْبَارِيِّ كَانَ يَقُولُ فِيمَا رُوِّينَا عَنْهُ: بُلِيتُ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي ; فَإِنِّي إِذَا عُدْتُ مَرِيضًا فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَقِيلَ: مَنْ ذَا؟ أُسْقِطُ اسْمِي، وَأَقُولُ: ابْنُ الْمُزْرِعِ. فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ أَصْلِيًّا، وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّهُ هُوَ الْمُسَمِّي نَفْسَهُ. [الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ] [ المصنفات فيه ] الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ 876 - وَاعْنَ بِمَا صُورَتُهُ مُؤْتَلِفُ ... خَطًّا وَلَكِنْ لَفْظُهُ مُخْتَلِفُ 877 - نَحْوُ سَلَامٍ كُلُّهُ فَثَقِّلِ ... لَا ابْنَ سَلَامِ الْحَبْرِ وَالْمُعْتَزِلِي 878 - أَبَا عَلِيٍّ فَهْوَ خِفُّ الْجَدِّ ... وَهْوَ الْأَصَحُّ فِي أَبِي الْبِيكَنْدِي 879 - وَابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ وَابْنَ مِشْكَمِ ... وَالْأَشْهَرُ التَّشْدِيدُ فِيهِ فَاعْلَمِ 880 - وَابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ نَاهِضٍ فَخِفْ ... أَوْ زِدْهُ هَاءً فَكَذَا فِيهِ اخْتُلِفْ 881 - قُلْتُ: وَلِلْحَبْرِ ابْنُ أُخْتٍ خَفِّفِ ... كَذَاكَ جَدُ السَّيِّدِي وَالنَّسَفِي 882 - عَيْنَ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ اكْسِرِ ... وَفِي خُزَاعَةَ كَرِيزٌ كَبِّرِ 883 - وَفِي قُرَيْشٍ ابَدًا حِزَامُ ... وَافْتَحْ فِي الَانْصَارِ بِرَا حَرَامُ 884 - فِي الشَّامِ عَنْسِيٌّ بِنُونٍ وَبِبَا ... فِي كُوفَةٍ وَالشِّينُ وَالْيَا غَلَبَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 885 - فِي بَصْرَةٍ وَمَا لَهُمْ مَنِ اكْتَنَى أَبَا عَبِيدَةٍ بِفَتْحٍ وَالْكُنَى ... 886 - فِي السَّفْرِ بِالْفَتْحِ وَمَا لَهُمْ عَسَلْ إِلَّا ابْنُ ذَكْوَانَ وَعِسْلٌ فَجُمَلْ ... 887 - وَالْعَامِرِيُّ بْنُ عَلِي عَثَّامُ وَغَيْرُهُ فَالنُّونُ وَالْإِعْجَامُ ... 888 - وَزَوْجُ مَسْرُوقٍ قَمِيرٌ صَغَّرُوا سِوَاهُ ضَمًّا وَلَهُمْ مُسَوَّرُ ... 889 - ابْنُ يَزِيدَ وَابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَا سِوَى ذَيْنِ فَمِسْوَرٌ حُكِي ... 890 - وَوَصَفُوا الْحَمَّالَ فِي الرُّوَاةِ هَارُونَ وَالْغَيْرُ بِجِيمٍ يَاتِي ... 891 - وَوَصَفُوا حَنَّاطًا أَوْ خَبَّاطَا عِيسَى وَمُسْلِمًا كَذَا خَيَّاطَا ... 892 - وَالسَّلَمِيَّ افْتَحْ فِي الَانْصَارِ وَمَنْ يَكْسِرُ لَامَهُ كَأَصْلِهِ لَحَنْ ... 893 - وَمِنْ هُنَا لِمَالِكٍ وَلَهُمَا بَشَّارًا افْرِدْ أَبَ بُنْدَارِهِمَا ... 894 - وَلَهُمَا سَيَّارٌ أَيْ أَبُو الْحَكَمْ وَابْنُ سَلَامَةَ وَبِالْيَا قَبْلُ جَمْ ... 895 - وَابْنُ سَعِيدٍ بُسْرُ مِثْلُ الْمَازِنِي وَابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَابْنُ مِحْجَنِ ... 896 - وَفِيهِ خُلْفٌ وَبُشَيْرًا اعْجِمِ فِي ابْنِ يَسَارٍ وَابْنِ كَعْبٍ وَاضْمُمِ ... 897 - يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو اوْ أُسَيْرُ وَالنُّونُ فِي أَبِي قَطَنْ نُسَيْرُ ... 898 - جَدُّ عَلِي بْنِ هَاشِمٍ بُرَيْدُ وَابْنُ حَفِيدِ الْأَشْعَرِي بُرَيْدُ ... 899 - وَلَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَهْ ابْنِ الْبِرِنْدِ فَالْأَمِيرُ كَسَرَهْ ... 900 - ذُو كُنْيَةٍ بِمَعْشَرٍ وَالْعَالِيَهْ بَرَّاءٌ اشْدُدْ وَبِجِيمٍ جَارِيَهْ ... 901 - ابْنُ قُدَامَةٍ كَذَاكَ وَالِدُ يَزِيدَ قُلْتُ: وَكَذَاكَ الْأَسْوَدُ ... 902 - ابْنُ الْعَلَا وَابْنُ أَبِي سُفْيَانِ عَمْرٌو فَجَدُّ ذَا وَذَا سِيَّانِ ... 903 - مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ لَا تُهْمِلِ وَالِدُ رِبْعِيٍّ حِرَاشٌ أَهْمِلِ ... 904 - كَذَا حَرِيزُ الرَّحَبِي وَكُنْيَهْ قَدْ عُلِّقَتْ وَابْنُ حُدَيْرٍ عِدَّهْ ... 905 - حُضَيْنٌ اعْجِمْهُ أَبُو سَاسَانَا وَافْتَحْ أَبَا حَصِينٍ ايْ عُثْمَانَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 906 - كَذَاكَ حَبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ وَمِنْ ... وَلَدِهِ وَابْنُ هِلَالٍ وَاكْسِرَنْ 907 - ابْنَ عَطِيَّةٍ مَعَ ابْنِ مُوسَى ... وَمَنْ رَمَى سَعْدًا فَنَالَ بُوسَا 908 - خُبَيْبًا أَعْجِمْ فِي ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنْ ... وَابْنِ عَدِيٍّ وَهْوَ كُنْيَةً كَانْ 909 - لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَرِيَاحَ اكْسِرْ بِيَا ... أَبَا زِيَادٍ بِخِلَافٍ حُكِيَا 910 - وَاضْمُمْ حُكَيْمًا فِي ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ ... كَذَا رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ وَانْفَرَدْ 911 - وَزُيَيْدُ بْنُ الصَّلْتِ وَاضْمُمْ وَاكْسِرِ ... وَفِي ابْنِ حَيَّانَ سَلِيمٍ كَبِّرِ 912 - وَابْنُ أَبِي سُرَيْجٍ أَحْمَدُ ائْتَسَا ... بِوَلَدِ النُّعْمَانِ وَابْنُ يُونُسَا 913 - عَمْرٌو مَعَ الْقَبِيلَةِ ابْنُ سَلِمَهْ ... وَاخْتَرْ بِعَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ سَلِمَهْ 914 - وَالِدُ عَامِرٍ كَذَا السَّلْمَانِي ... وَابْنُ حُمَيْدٍ وَوَلَدْ سُفْيَانِ 915 - كُلُّهُمُ عَبِيدَةٌ مُكَبَّرْ ... لَكِنْ عُبَيْدٌ عِنْدَهُمْ مُصَغَّرْ 916 - وَافْتَحْ عَبَادَةً أَبَا مُحَمَّدِ ... وَاضْمُمْ أَبَا قَيْسٍ عُبَادًا أَفْرِدِ 917 - وَعَامِرٌ بَجَالَةُ ابْنُ عَبَدَهْ ... كُلٌّ وَبَعْضٌ بِالسُّكُونِ قَيَّدَهْ 918 - عُقَيْلٌ الْقَبِيلُ وَابْنُ خَالِدِ ... كَذَا أَبُو يَحْيَى وَقَافُ وَاقِدِ 919 - لَهُمْ كَذَا الْأَيْلِيُّ لَا الْأُبُلِّي ... قَالَ سِوَى شَيْبَانَ وَالرَّا فَاجْعَلِ 920 - بَزَّارًا انْسُبِ ابْنَ صَبَّاحٍ حَسَنْ ... وَابْنَ هِشَامٍ خَلَفًا ثُمَّ انْسُبَنْ 921 - بِالنُّونِ سَالِمًا وَعَبْدَ الْوَاحِدْ ... وَمَالِكَ بْنَ الْأَوْسِ نَصْرِيًّا يَرِدْ 922 - وَالتَّوَّزِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ ... وَفِي الْجُرَيْرِيِّ ضَمُّ جِيمٍ يَأْتِي 923 - فِي اثْنَيْنِ عَبَّاسٍ سَعِيدٍ وَبِحَا ... يَحْيَى بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَرِيرِي فُتِحَا 924 - وَانْسُبْ حِزَامِيًّا سِوَى مَنْ أَبْهَمَا ... فَاخْتَلَفُوا وَالْحَارِثِيُّ لَهُمَا 925 - وَسَعْدٌ الْجَارِي فَقَطْ وَفِي النَّسَبْ ... هَمْدَانُ وَهْوَ مُطْلَقًا قِدْمًا غَلَبْ (وَاعْنَ) ; أَيِ: اجْعَلْ أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ عِنَايَتِكَ الِاهْتِمَامَ (بِـ) مَعْرِفَةِ (مَا صُورَتُهُ) مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَلْقَابِ وَنَحْوِهَا (مُؤْتَلِفُ خَطًّا) ; أَيْ: مُتَّفِقٌ فِي الْخَطِّ، (وَلَكِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 لَفْظُهُ مُخْتَلِفُ) ، فَهُوَ فَنٌّ وَاسِعٌ مِنْ فُنُونِ الْحَدِيثِ الْمُهِمَّةِ، الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ مَعَرَّةِ التَّصْحِيفِ، وَيَفْتَضِحُ الْعَاطِلُ مِنْهُ ; حَيْثُ لَمْ يَعْدَمْ مَخْجَلًا، وَيَكْثُرُ عِثَارُهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: أَشَدُّ التَّصْحِيفِ مَا يَقَعُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي ضَبْطِ الْحَدِيثِ - بِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ، وَلَا قَبْلَهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا بَعْدَهُ. وَالتَّصَانِيفُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، فَصَنَّفَ فِيهِ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ، لَكِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى كِتَابِ التَّصْحِيفِ لَهُ، ثُمَّ أَفْرَدَهُ بِالتَّأْلِيفِ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ ; وَلِذَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ فِيهِ، وَلَهُ فِيهِ كِتَابَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مُشْتَبِهِ الْأَسْمَاءِ، وَالْآخَرُ: فِي مُشْتَبِهِ الْأَنْسَابِ، ثُمَّ شَيْخُهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَهُوَ حَافِلٌ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمَا الْخَطِيبُ فِي ذَيْلٍ مُفْرَدٍ، وَجَمَعَهَا مَعَ زِيَادَاتٍ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ ابْنُ مَاكُولَا، بِحَيْثُ كَانَ كِتَابُهُ ـ وَهُوَ فِي مُجَلَّدَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ ـ أَكْمَلَ التَّصَانِيفِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُ، وَكِتَابُهُ فِي ذَلِكَ عُمْدَةُ كُلِّ مُحَدِّثٍ بَعْدَهُ، بَلْ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ آخَرَ جَمَعَ فِيهِ أَوْهَامَهُمْ وَبَيَّنَهَا، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَيْهِ مَا فَاتَهُ أَوْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ الْمُعِينُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ نُقْطَةَ بِذَيْلٍ مُفِيدٍ فِي قَدْرِ ثُلُثَيِ الْأَصْلِ، ثُمَّ ذَيَّلَ عَلَى ابْنِ نُقْطَةَ كُلٌّ مِنَ الْجَمَّالِ أَبِي حَامِدِ بْنِ الصَّابُونِيِّ، وَمَنْصُورِ بْنِ سَلِيمٍ بِالْفَتْحِ، وَثَانِيهِمَا أَكْبَرُهُمَا، وَتَوَارَدَا فِي بَعْضِ مَا ذَكَرَاهُ، وَكَذَا ذَيَّلَ عَلَى ابْنِ نُقْطَةَ الْعَلَاءُ مُغْلَطَايْ جَامِعًا بَيْنَ الذَّيْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَعَ زِيَادَاتٍ مِنْ أَسْمَاءِ الشُّعَرَاءِ وَأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِيهِ أَوْهَامٌ وَتَكْرِيرٌ، حَيْثُ يَذْكُرُ مَا هُوَ صَالِحٌ لِإِدْخَالِهِ فِي الْبَاءِ وَالتَّاءِ أَوِ السِّينِ وَالشِّينِ مَثَلًا فِي أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ مَنْ قَبْلَهُ ذَكَرَهُ فِي الْآخَرِ، وَمِمَّنْ ذَيَّلَ عَلَى عَبْدِ الْغَنِيِّ، الْمُسْتَغْفِرِيُّ، وَصَنَّفَ فِيهِ أَيْضًا الْآمِدِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ الْفُوطِيِّ، فِيمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 أَفَادَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَجْمَعُهَا. وَأَبُو الْعَلَاءِ مَحْمُودٌ الْفَرَضِيُّ الْبُخَارِيُّ وَلِتِلْمِيذِهِ ابْنِ رَافِعٍ عَلَيْهِ ذَيْلٌ فِي أَوْرَاقٍ يَسِيرَةٍ لَا يُرَدُّ أَكْثَرُهُ، وَكَذَا لِأَبِي سَعْدٍ الْمَالِينِيِّ الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ، لَكِنْ فِي الْأَنْسَابِ خَاصَّةً، وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ (الْمُشْتَبِهُ) ، وَلِلذَّهَبِيِّ مُخْتَصَرٌ جِدًّا جَامِعٌ لَخَّصَهُ مِنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ وَابْنِ مَاكُولَا، وَابْنِ نُقْطَةَ وَشَيْخِهِ الْفَرَضِيِّ، وَلَكِنَّهُ أَجْحَفَ فِي الِاخْتِصَارِ، بِحَيْثُ لَمْ يَسْتَوْعِبْ غَالِبًا أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ مَثَلًا، بَلْ يَذْكُرُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا جَمَاعَةً ثُمَّ يَقُولُ: وَغَيْرُهُمْ. فَيَصِيرُ مَنْ يَقَعُ لَهُ رَاوٍ مِمَّنْ لَمْ يُذْكَرْ، فِي حَيْرَةٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِ الْقِسْمَيْنِ يَلْتَحِقُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاكْتَفَى فِيهِ بِضَبْطِ الْقَلَمِ، فَلَا يَعْتَمِدُ لِذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِهِ، وَصَارَ كِتَابُهُ لِذَلِكَ مُبَائِنًا لِمَوْضُوعِهِ ; لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ التَّصْحِيفِ فِيهِ، وَفَاتَهُ مِنْ أُصُولِهِ أَشْيَاءُ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ شَيْخُنَا فَضَبَطَهُ بِالْحُرُوفِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَرْضِيَّةِ، وَزَادَ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْ كَثْرَتِهِ مَعَ شِدَّةِ تَحْرِيرِهِ وَاخْتِصَارِهِ ; فَإِنَّهُ فِي مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ، وَمَيَّزَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ الْأَسْمَاءَ عَنِ الْأَنْسَابِ، وَهُوَ فِيمَا أَخَذْتُهُ عَنْهُ وَحَقَّقْتُ فِيهِ مَوَاضِعُ نَافِعَةٌ، وَقَدْ كَانَ شَيْخُهُ الْمُصَنِّفُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ فِي هَذَا النَّوْعِ جُمْلَةٌ كَثِيرَةٌ، بِحَيْثُ عَزَمَ عَلَى إِفْرَادِ تَصْنِيفٍ فِيهِ فَمَا تَيَسَّرَ، نَعَمْ لِحَافِظِ الشَّامِ ابْنِ نَاصِرِ الدِّينِ عَصْرِيِّ شَيْخِنَا مُصَنَّفٌ حَافِلٌ مَبْسُوطٌ فِي تَوْضِيحِ الْمُشْتَبِهِ، وَجَرَّدَ مِنْهُ الْأَعْلَامَ بِمَا وَقَعَ فِي مُشْتَبِهِ الذَّهَبِيِّ مِنَ الْأَوْهَامِ [ أقسامه ] ثُمَّ هُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ ; لِكَثْرَةِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ كَأُسَيْدٍ وَأَسِيدٍ مَثَلًا، أَوِ الْأَقْسَامِ ; كَحِبَّانَ وَحَبَّانَ وَحَيَّانَ مَثَلًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّقْلِ وَالْحِفْظِ، وَثَانِيهِمَا: مَا يَنْضَبِطُ لِقِلَّةِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، ثُمَّ تَارَةً يُرَادُ فِيهِ التَّعْمِيمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 بِأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ كَذَا إِلَّا كَذَا. أَوِ التَّخْصِيصُ بِالصَّحِيحَيْنِ وَ (الْمُوَطَّأِ) بِأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ كَذَا إِلَّا كَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ أَمْثِلَةِ كِلَيْهِمَا عُيُونًا مُفِيدَةً وَتَرَاجِمَ عَدِيدَةً، فَمِنَ الْأَوَّلِ رُبَّمَا أُدْرِجَ فِيهِ مَا هُوَ كُلِّيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِقُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ. (نَحْوَ سَلَامٍ كُلُّهُ فَثَقِّلِ) ; أَيْ: شَدِّدِ اللَّامَ مِنْ كُلِّهِ، (لَا) ; أَيْ: إِلَّا (ابْنَ سَلَامٍ) الصَّحَابِيَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ ثُمَّ الْأَنْصَارِيَّ (الْحَبْرَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ أَفْصَحُ ; أَيِ: الْعَالِمَ، فَقَدْ كَانَ أَوَّلًا مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; بِحَيْثُ نَزَلَ فِيهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرَّعْدِ: 43] ، وَقَوْلُهُ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الْأَحْقَافِ: 10] . وَاسْمُهُ أَوَّلًا الْحُصَيْنُ، فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ، فَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ (وَ) إِلَّا (الْمُعْتَزِلِي أَبَا عَلِيٍّ) الْجُبَّائِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سَلَامٍ، (فَهْوَ) أَيْضًا (خِفٌّ) أَيْ مُخَفَّفُ (الْجَدِّ وَهْوَ) ; أَيِ: التَّخْفِيفُ، (الْأَصَحُّ) ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ الْأَثْبَتُ (فِي) سَلَامٍ (أَبِي) ; أَيْ: وَالِدِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامِ بْنَ الْفَرَجِ (الْبِيكَنْدِي) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ - كَمَا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ - وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ، ثُمَّ كَافٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ، الْبُخَارِيِّ الْحَافِظِ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبِ (الصَّحِيحِ) ، فَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ غُنْجَارٌ فِي (تَارِيخِ بُخَارَى) عَنْ أَبِي عِصْمَةَ سَهْلِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ أَحَدِ الْآخِذِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ لَا بِالتَّشْدِيدِ وَأَقَرَّهُ غُنْجَارٌ، وَإِلَيْهِ الْمَفْزَعُ وَالْمَرْجِعُ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ بِلَادِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَطِيبُ وَابْنُ مَاكُولَا غَيْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدَانَ الْمِسْكِيُّ: سَأَلْتُ عَبْدَ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرُ. كَذَلِكَ قَرَأْتُهُ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْجِيلِيِّ، وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ التَّشْدِيدُ خَاصَّةً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 وَصَنِيعُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ يَقْتَضِيهِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْ صَاحِبٍ (الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ) : إِنَّهُ الْأَكْثَرُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يُتَابَعْ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ بِآخَرَ شَارَكَهُ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَالنِّسْبَةِ، حَدَّثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَوَّارٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ الْجَوْهَرِيِّ، رَوَى عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ وَاصِلٍ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، فَإِنَّ ذَاكَ بِالتَّشْدِيدِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي (التَّلْخِيصِ) وَغَيْرِهِ، وَاسْمُ جَدِّهِ السَّكَنُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الْبِيكَنْدِيُّ الصَّغِيرُ. وَإِلَّا فَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ قَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِصْمَةَ الْمَاضِي قَرِيبًا أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ. بِالتَّخْفِيفِ، وَهَذَا قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ ; وَلِذَا صَنَّفَ فِيهِ الْمُنْذِرِيُّ، وَقَدْ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ، فَقَالَ لَهُ الْمُسْمِعُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. (وَ) إِلَّا (ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ) بِمُهْمَلَةٍ وَقَافٍ، مُصَغَّرٌ، أَبَا رَافِعٍ الْيَهُودِيَّ الَّذِي بَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَتَلَهُ، وَهُوَ فِي حِصْنٍ لَهُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، فَهُوَ سَلَامٌ بِالتَّخْفِيفِ ; لِقَوْلِ الْمُبَرِّدِ فِي (الْكَامِلِ) : إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ بِالتَّخْفِيفِ إِلَّا هُوَ، وَوَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَاضِي أَوَّلًا، وَلَكِنَّ الَّذِي فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي هَذَا التَّشْدِيدُ ; وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا فِي (الْفَتْحِ) : وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ سَلَّامٌ. بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، كَمَا أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ لَمْ يَحْكِ غَيْرَ التَّخْفِيفِ، وَصَرَّحَ شَيْخُنَا فِي الْمُشْتَبِهِ بِأَنَّهُ مِمَّنِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ فِي ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ الْجَرُّ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ أَيْضًا: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَهُ أَخَوَانِ ; كِنَانَةُ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ ابْنَةِ حُيَيٍّ، وَالرَّبِيعُ الَّذِي كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بُعَاثٍ رَئِيسَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَتَلَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعًا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 (وَ) إِلَّا (ابْنَ مِشْكَمِ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ، وَفَتْحِ الْكَافِ ثُمَّ مِيمٍ ; لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُبَرِّدِ الْمَاضِي، وَزَادَ آخَرُونَ سَلَّامَ بْنَ مِشْكَمٍ خَمَّارًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ (وَالْأَشْهَرُ) الْمَعْرُوفُ (التَّشْدِيدُ فِيهِ فَاعْلَمِ) ذَلِكَ، قَالَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي هُوَ دِيوَانُ الْعَرَبِ مُخَفَّفًا. فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي (السِّيرَةِ) : وَقَالَ سِمَاكٌ الْيَهُودِيُّ: فَلَا تَحْسَبَنِّي كُنْتُ مَوْلَى ابْنِ مِشْكَمٍ ... سَلَامٍ وَلَا مَوْلَى حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَا وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ قَصِيدَةٍ: فَطَاحَ سَلَامٌ وَابْنُ سَعْيَةَ عَنْوَةً ... وَقِيدَ ذَلِيلًا لِلْمَنَايَا ابْنُ أَخْطَبَا وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: سَقَانِي فَرَوَّانِي كُمَيْتًا مُدَامَةً ... عَلَى ظَمَأٍ مِنِّي سَلَامُ بْنُ مِشْكِمِ وَكُلُّ هَذَا دَالٌّ لِلتَّخْفِيفِ. قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي فِي الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ مِنْ سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ، قَالَ شَيْخُنَا: وَكَأَنَّ قَوْلَ أَبِي سُفْيَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي تَعْرِيفِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَهُ بِكَوْنِهِ كَانَ خَمَّارًا، لَكِنْ قَدْ عَرَّفَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ. قُلْتُ: وَذَلِكَ فِي قِصَّةٍ أَوْرَدَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي غَزْوَةِ السَّوِيقِ مِنْ سِيرَتِهِ، فَقَالَ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ - كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ - حِينَ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ إِلَى أَنْ قَالَ حَتَّى أَتَى بَنِي النَّضِيرِ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ ; فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ وَخَافَهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى سَلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وَصَاحِبَ خَبَرِهِمْ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَرَاهُ وَسَقَاهُ وَبَطَّنَ لَهُ مِنْ أَخْبَارِ النَّاسِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ خُرُوجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَبِهِمْ، وَذَكَرَ الْقَصِيدَةَ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا صَنَعَ لَهُ سَلَامٌ، وَفِيهَا: سَقَانِي فَرَوَّانِي. . . الْبَيْتَ وَقَبْلَهُ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَبْيَاتِ: إِنِّي تَخَيَّرْتُ الْمَدِينَةَ وَاحِدًا ... لِحِلْفٍ فَلَمْ أَنْدَمْ وَلَمْ أَتَلَوَّمِ وَكَذَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيُّ صَاحِبُ (الْأَغَانِي) : إِنَّهُ كَانَ رَئِيسَ بَنِي النَّضِيرِ. قَالَ شَيْخُنَا وَأَبُو سُفْيَانَ لَا يَمْدَحُ مَنْ يَكُونُ خَمَّارًا، بَلَى إِنَّمَا كَانَ أَضَافَهُ فَمَدَحَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَمَّارًا، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُقَالُ: لَعَلَّ تَخْفِيفَهُ فِي الشِّعْرِ لِلضَّرُورَةِ، فَذَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، سِيَّمَا مَعَ تَكَرُّرِ وُقُوعِهِ. (وَ) أَمَّا (ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ نَاهِضٍ) بِالنُّونِ وَالْهَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَقْدِسِيَّ (فَخِفْ) ; أَيْ: فَمُخَفَّفُ اللَّامِ مِنْ سَلَامٍ اسْمِهِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَاقْتُصِرَ فِي اسْمِهِ عَلَى سَلَامٍ، أَوْ (زِدْهُ هَاءً فَكَذَا فِيهِ اخْتُلِفْ) بَيْنَ الْآخِذِينَ عَنْهُ، فَقَالَهُ بِدُونِهَا أَبُو طَالِبٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْحَافِظُ، وَبِإِثْبَاتِهَا أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ. (قُلْتُ) : وَعَلَى هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ - أَعْنِي الصَّحَابِيَّ الْحَبْرَ، وَجَدَّ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَالْبِيكَنْدِيَّ، وَابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَابْنَ مِشْكَمٍ، وَابْنَ نَاهِضٍ - اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ، (وَلِلْحَبْرِ) أَوَّلِهِمْ (ابْنُ أُخْتٍ) اسْمُهُ سَلَامٌ، عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ ابْنُ فَتْحُونَ فِي ذَيْلِهِ عَلَى الِاسْتِيعَابِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ، (خَفِّفِ) ; أَيْ: لَامَهُ أَيْضًا، (كَذَاكَ جَدُّ) سَعْدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سَلَامٍ أَبِي الْخَيْرِ الْبَغْدَادِيِّ، (السَّيِّدِي) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ مَكْسُورَةٍ ; لِكَوْنِهِ كَانَ وَكِيلَ السَّيِّدِ أُخْتِ الْمُسْتَنْجِدِ، رَوَى سَعْدٌ عَنِ ابْنِ الْبَطِّيِّ وَمَعْمَرِ بْنِ الْفَاخِرِ، وَيَحْيَى بْنِ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 (614هـ) ، ذَكَرَهُ ابْنُ نُقْطَةَ فِي (التَّكْمِلَةِ) فِيمَا وُجِدَ بِخَطِّهِ (وَ) جَدُّ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ سَلَامٍ (النَّسَفِيُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، قَيَّدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، نِسْبَةً لِنِسَفَ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفُتِحَتْ لِلنَّسَبِ، كَالنَّمَرِيِّ، وَيُنْسَبُ أَيْضًا السَّلَامِيُّ لِجَدِّهِ الْمَذْكُورِ يَرْوِي عَنْ زَاهِرِ بْنِ أَحْمَدَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، مَاتَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ، وَكَذَا عَمُّ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامٍ أَخُو الْحَبْرِ صَحَابِيٌّ أَيْضًا، ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَكَذَا ابْنُ فَتْحُونَ فِي الذَّيْلِ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي الْحَبْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ، وَكَذَا لِلْحَبْرِ وَلَدَانِ ; يُوسُفُ، لَهُ رُؤْيَةٌ، بَلْ وَحَفِظَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُحَمَّدٌ، ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا. وَلِأَوَّلِهِمَا ابْنٌ اسْمُهُ حَمْزَةُ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَحَفِيدٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ، رَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الْبِيكَنْدِيِّ الْكَبِيرِ الْمَاضِي، وَلَكِنْ أَغْنَى عَنْ ضَبْطِ الْأَخِيرَيْنِ ذِكْرُ أَبِيهِمَا، وَعَنِ الْخَمْسَةِ قَبْلَهُمَا ذِكْرُ الْحَبْرِ، نَعَمْ لَهُمْ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَلَامِ بْنِ أَبِي دُلَفَ الْبَغْدَادِيُّ شَيْخٌ لِلدِّمْيَاطِيِّ، وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَهُ، وَكَانَ اسْمُ سَلَامٍ عَبْدَ السَّلَامِ، فَخُفِّفَ. وَمِنْ ذَلِكَ عُمَارَةُ فَـ (عَيْنَ أُبَيِّ) بِالضَّمِّ مُصَغَّرٌ، (ابْنِ عِمَارَةَ) الصَّحَابِيِّ الْمُخَرَّجُ حَدِيثُهُ فِي أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ، (اكْسِرِ) خَاصَّةً عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنْهُمْ مَنْ ضَمَّهَا، وَمَنْ عَدَاهُ فَبِالضَّمِّ جَزْمًا، وَفَاتَهُ عَمَّارَةُ بِالْفَتْحِ ثُمَّ التَّثْقِيلِ، وَهُمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ، فَالرِّجَالُ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمَّارَةَ الْحَرْبِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْبَنَّا، وَابْنَاهُ: قَاسِمٌ وَأَحْمَدُ، وَمُدْرِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَمْقَامِ بْنَ عَمَّارَةَ بْنِ مَالِكٍ الْقُضَاعِيُّ، وَلِيَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَزِيرَةَ، وَبَرَكَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَمَّارَةَ سَمِعَ أَبَا الْمُظَفَّرِ بْنَ أَبِي الْبَرَكَاتِ قَيَّدَهُ الشَّرِيفُ عِزُّ الدِّينِ فِي الْوَفَيَاتِ، وَأَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَمَّارَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارَةَ الْحَرْبِيُّ النَّجَّارُ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمَجْدِ وَغَيْرِهِ، وَبَنُو عَمَّارَةَ بَطْنٌ مِنْهُمُ الْمُجَذَّرُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَخْزَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمَّارَةَ بْنِ مَالِكٍ الْبَلَوِيُّ، وَقَرِيبُهُ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزَمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو، وَأَخَوَاهُ: بَحَّاثٌ وَعَبْدُ اللَّهِ صَحَابَةٌ، وَالنِّسَاءُ عَمَّارَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحِمْصِيَّةُ، رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، وَعَمَّارَةُ ابْنَةُ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ، وَهِيَ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَمِيلٍ، الَّذِي كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِبَغْدَادَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَامُونِ، وَعَمَّارَةُ عَنْ أَبِي ظِلَالٍ، وَعَنْهَا أَبُو يُوسُفَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْدَلَانِيٌّ الرَّقِّيُّ وَهِيَ جَدَّتُهُ، وَعَمَّارَةُ الثَّقَفِيَّةُ زَوْجُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، يَقُولُ فِيهَا ابْنُ مُنَاذِرٍ مِنْ أَبْيَاتٍ: مُحَمَّدٌ زَوْجُ عَمَّارَةَ. وَعَمَّارَةُ امْرَأَةُ يَزِيدَ بْنِ ضَبَّةَ يَقُولُ فِيهِ عَنْتَرَةُ بْنُ عَرُوسٍ مِمَّا أَنْشَدَهُ الْآمِدِيُّ: تَقُولُ عَمَّارَةُ لِي يَاعَنْتَرَةْ. وَمِنْ ذَلِكَ كُرَيْزٌ كُلُّهُ بِالضَّمِّ، مُصَغَّرٌ، وَلَيْسَ فِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، كَمَا نَقَلَهُ الْجَيَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ غَيْرَهُ، (وَفِي خُزَاعَةَ كَرِيزٌ) يَعْنِي فَقَطْ (كَبِّرِ) ، وَمِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ تَابِعِيٌّ، وَابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَا يُسْتَدْرَكُ - يَعْنِي عَلَى الْحَصْرِ فِي خُزَاعَةَ - أَيُّوبُ بْنُ كَرِيزٍ الرَّاوِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ ; لِكَوْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ ضَبَطَهُ بِالْفَتْحِ ; فَإِنَّهُ بِالضَّمِّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ ; أَيْ: كَابْنِ مَاكُولَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 (وَ) مِنْ ذَلِكَ حِزَامٌ فَقُلْ (فِي قَرَيْشٍ أَبَدًا حِزَامٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالزَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ (وَافْتَحْ) الْحَاءَ أَبَدًا (فِي الْأَنْصَارِ) بِالنَّقْلِ مَعَ الْإِتْيَانِ (بِرَا) مُهْمَلَةٍ بَدَلَ الْمَنْقُوطَةِ وَبِالْقَصْرِ، فَقُلْ: (حَرَامٌ) . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا إِلَّا ضَبْطَ مَا فِي هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ خَاصَّةً، فَلَا يُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ وَقَعَ حِزَامٌ بِالزَّاءِ فِي خُزَاعَةَ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَحَرَامٌ بِالرَّاءِ فِي بِلَى وَخَثْعَمٍ، وَجِذَامٍ وَتَمِيمِ بْنِ مُرَبَّلٍ، وَفِي خُزَاعَةَ أَيْضًا. وَفِي عُذْرَةَ وَبَنِي فَزَارَةَ وَهُذَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: لَهُمْ خُرَّامٌ. بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ، وَخَزَّامٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ زَاءٍ ثَقِيلَةٍ، وَخُزَامٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ زَاءٍ خَفِيفَةٍ، كَمَا بُيِّنَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مَحَالِّهِ، نَعَمْ إِدْخَالُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَثْنَاءِ مَا هُوَ كُلِّيٌّ مُلْبِسٌ لَا سِيَّمَا وَالِاشْتِبَاهُ فِيهَا لِغَيْرِ الْبَارِعِ بَاقٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَمُرُّ الرَّاوِي غَيْرَ مَنْسُوبٍ، فَلَا يَدْرِي الطَّالِبُ مِنْ أَيِ الْقَبِيلَتَيْنِ هُوَ. وَمِنْ ذَلِكَ عَنْسِيٌّ، فَالَّذِي (فِي الشَّامِ) بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ، وَتَرْكُهَا مِنْ لُغَاتِهِ كَمَا سَبَقَ مَثَلُهُ فِي آخِرِ الصَّحَابَةِ، لَا سِيَّمَا دَارِيَّا مِنْهَا، (عَنْسِيٌّ بِنُونٍ) ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، نِسْبَةً لِعَنْسٍ حَيٍّ مِنْ مَذْحِجٍ فِي الْيَمَنِ، كَعُمَيْرِ بْنَ هَانِئٍ تَابِعِيٌّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ رَوَى عَنْ عُمَرَ (وَ) عَبْسِيٌّ (بِبَا) بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ النُّونِ وَبِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، (فِي كُوفَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ نِسْبَةَ فِي الْأَكْثَرِ لِعَبْسِ غَطَفَانَ، كَرَبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، (وَ) عَيْشِيٌّ (بِالشِّينِ) الْمُعْجَمَةِ (وَالْيَا) الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ أَيْضًا، نِسْبَةً لَعَائِشَةَ ابْنَةِ أَحَدِ الْعَشَرَةِ طَلْحَةَ ; كَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ، وَلِبَنِي عَائِشَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 ابْنَةِ تَيْمِ اللَّهِ، كَمُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، (غَلَبَا) الَّذِي بِالْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ ; أَيْ: هُوَ الْأَغْلَبُ، (فِي بَصْرَةٍ) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْكَسْرُ أَصَحُّهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، وَبِالصَّرْفِ أَيْضًا لَا جَمِيعُهُمْ، بَلِ الْمَذْكُورُ فِي كُلٍّ مِنَ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ هُوَ الْغَالِبُ أَيْضًا، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ ابْنِ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَرَدَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الْخَطِيبَ الْحَافِظَ يَقُولُ: الْعَيْشِيُّونَ - يَعْنِي بِالْمُعْجَمَةِ - بَصْرِيُّونَ، وَالْعَبْسِيُّونَ - يَعْنِي بِالْمُوَحَّدَةِ - كُوفِيُّونَ، وَالْعَنْسِيُّونَ - يُعْنَى بِالنُّونِ - شَامِيُّونَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَالَهُ قَبْلَهُ الْحَاكِمُ. قَالَ - أَعْنِي ابْنَ الصَّلَاحِ -: وَهَذَا يَعْنِي فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْغَالِبِ. انْتَهَى. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُنْتَقَدُ هَذَا الضَّابِطُ بِقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ رُهَاوِيٌّ وَلَا عَنْسِيٌّ، وَهُمْ بِالْيَمَنِ وَالشَّامِ كَثِيرٌ، حَيْثُ اقْتَضَى أَنَّهُ بِالنُّونِ فِي الْيَمَنِ أَيْضًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ مَاكُولَا، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِي الْعَنْسِيِّينَ: وَعَظُمَ عَنْسٌ فِي الشَّامِ. وَابْنِ مَاكُولَا فِي الْعَيْشِيِّينَ: إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، عَامَّتُهُمْ بِالْبَصْرَةِ. فَالضَّابِطُ إِنَّمَا هُوَ لِخُصُوصِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَدُ بِالْعَيْشِيِّ كَالثَّالِثِ، لَكِنْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَالْعِيسِيُّ بِالْكَسْرِ أَيْضًا، لَكِنْ سِينُهُ مُهْمَلَةٌ، أَوِ الْغَشْتِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَوِ الْغِيشِيُّ، بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَالِّهِ. نَعَمْ يُنْتَقَدُ بِمَنْ يَكُونُ مِنَ الْكُوفَةِ، وَهُوَ عَيْشِيٌّ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ، أَوْ عَنْسِيٌّ بِالنُّونِ، كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الصَّحَابِيِّ ; فَإِنَّهُ - مَعَ كَوْنِهِ مَعْدُودًا فِي الْكُوفِيِّينَ - عَنْسِيٌّ بِالنُّونِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نِسْبَةٌ لِعَنْسٍ الَّذِي انْتَسَبَ إِلَيْهِ الشَّامِيُّونَ، فَيَاسِرٌ وَالِدُ عَمَّارٍ، وَكَانَ صَحَابِيًّا أَيْضًا، كَانَ مِمَّنْ قَدِمَ الْيَمَنَ، أَوْ بِمَنْ يَكُونُ مِنَ الشَّامِ، وَهُوَ عَبْسِيٌّ بِالْمُوَحَّدَةِ، أَوْ عَيْشِيٌّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ، أَوْ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ عَنْسِيٌّ بِالنُّونِ أَوْ عَبْسِيٌّ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَيَأْتِي فِي كَوْنِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً، وَكَذَا فِيمَنْ جَاءَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، مَا قُلْنَا فِي التَّرْجَمَةِ قَبْلَهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 وَمِنْ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكُلُّهُ بِالضَّمِّ وَالتَّصْغِيرِ، (وَمَا لَهُمْ) ; أَيِ: الرُّوَاةُ، كَمَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (مَنِ اكْتَنَى أَبَا عَبِيدَةٍ بِفَتْحٍ) فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ كَسْرٍ لِثَانِيهِ وَبِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُشَارِقَةِ، وَوُجِدَ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَغَارِبَةِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ أَبِي عَبِيدَةَ مِنْ شُيُوخِ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَقِيٍّ، ضَبَطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي التَّكْمِلَةِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَأَرَّخَهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ (586هـ) . وَمِنْ ذَلِكَ السَّفْرُ بِالْفَاءِ، فَالْأَسْمَاءُ كُلُّهَا بِالسُّكُونِ، السَّفْرُ بْنُ نُسَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو الْفَيْضِ يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ، (وَالْكُنَى فِي السَّفْرِ بِالْفَتْحِ) ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنَ الْمَغَارِبَةِ مَنْ يُسَكِّنُ الْفَاءَ أَيْ: مِنْ أَبِي السَّفْرِ سَعِيدِ بْنِ يَحْمِدَ التَّابِعِيِّ، يَعْنِي وَالِدَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَذَلِكَ خِلَافُ مَا حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَوَافَقَهُ الْمِزِّيُّ فِي هَذَا الضَّابِطِ فَقَالَ: الْأَسْمَاءُ بِالسُّكُونِ، وَالْكُنَى بِالْحَرَكَةِ. وَأَمَّا السَّقْرُ بِالْقَافِ السَّاكِنَةِ، فَلَهُمْ جَمَاعَةٌ مُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ، وَهُمْ سَقْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ عَمِّهِ شُعْبَةَ، وَسَقْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو بَهْزٍ الْكُوفِيُّ سِبْطُ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، شَيْخٌ لِأَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ وَالْكُوفِيِّينَ، وَسَقْرُ بْنُ حُسَيْنٍ الْحَذَّاءُ عَنِ الْعَقَدِيِّ، وَسَقْرُ بْنُ عَدَّاسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَسَقْرُ بْنُ حَبِيبٍ اثْنَانِ، رَوَى أَحَدُهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، وَسَقْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَكَذَا لَهُمْ فِي الْكُنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو السَّقْرِ يَحْيَى بْنُ يَزْدَادَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ الْمَرْوَزِيِّ، لَكِنْ نُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ بِالْقَافِ يَعْنِي مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى الْأَشْهَرُ فِيهِ الصَّادُ بَدَلَ السِّينِ، وَاقْتَصَرَ فِي الْمُشْتَبِهِ عَلَى حِكَايَتِهِ بِدُونِ تَرْجِيحٍ فَقَالَ: وَيُقَالُ فِي هَؤُلَاءِ بِالصَّادِ. وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ سَقْرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَاضِي فِي كُلٍّ مِنَ الْحَرْفَيْنِ، وَلَهُمْ أَيْضًا شَقَرٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ، حَيٌّ مِنْ تَمِيمٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِمُ الشَّقَرِيُّونَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمٍ سُمِّيَ الشَّقِرَ يَعْنِي بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِ الْقَافِ ; لِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَحْمِلُ الرُّمْحَ الْأَصَمَّ كُعُوبُهُ ... بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْقَوْمِ كَالشَّقِرَاتِ وَقَالَ وَهُوَ أَبُو حَيٍّ مِنْ تَمِيمٍ، وَالشَّقِرُ هُوَ شَقَائِقُ النُّعْمَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَمُعَاوِيَةُ إِنَّمَا هُوَ الشَّقِرَهُ بِهَاءٍ فِي آخِرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَشُقْرٌ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ مَدِينَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا حَصَلَ بِهَذَا الضَّابِطِ تَمْيِيزٌ إِلَّا فِي خُصُوصِ الْفَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ عَسَلٌ (وَمَا لَهُمْ) ; أَيِ: الرُّوَاةُ (عَسَلْ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (إِلَّا ابْنُ ذَكْوَانَ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ، الْأَخْبَارِيُّ الْبَصَرِيُّ أَحَدُ مَنْ لَقِيَ الْأَصْمَعِيَّ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، (وَ) أَمَّا (عِسْلٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ (فَجُمَلْ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، جَمْعُ جُمْلَةٍ ; أَيْ: فَكَثِيرٌ، وَهُمْ عِسْلُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَصَبِيغُ بْنُ شَرِيكِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ قَطَنِ بْنِ قَشْعِ بْنِ عِسْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ التَّمِيمِيُّ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِجَدِّهِ الْأَعْلَى فَقِيلَ: صَبِيغُ بْنُ عِسْلٍ، وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ، شَهِدَ الْجَمَلَ، وَابْنُ أَخِيهِمَا عِسْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 حَدَّثَ عَنْ عَمِّهِ صَبِيغٍ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ وُجِدَ ابْنُ ذَكْوَانَ - بِخَطِّ الْإِمَامِ مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيِّ فِي تَهْذِيبِ اللُّغَةِ لَهُ - كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَا أَرَاهُ ضَبَطَهُ. وَزَعَمَ مُغْلَطَايُ أَنَّهُ رَاجَعَ نُسْخَتَيْنِ مِنْ (الْمُحْكَمِ) فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ عَثَّامٌ (وَالْعَامِرِيُّ) الْكُوفِيُّ (ابْنُ عَلِي) بِالسُّكُونِ، ابْنُ هُجَيْرٍ، بَهَاءٍ ثُمَّ جِيمٍ وَآخِرَهُ رَاءٌ، مُصَغَّرٌ، اسْمُهُ (عَثَّامُ) بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ مُشَدَّدَةٍ، يَرْوِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا حَفِيدُهُ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَثَّامِ بْنِ عَلِيٍّ، (وَ) أَمَّا (غَيْرُهُ) ; أَيْ: غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ كَغَنَّامِ بْنِ أَوْسٍ الصَّحَابِيِّ، وَعُبَيْدِ بْنِ غَنَّامٍ الْكُوفِيِّ رَاوِيَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، (فَالنُّونُ وَالْإِعْجَامُ) ; أَيْ: فَهُوَ غَنَّامٌ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ. تَنْبِيهٌ: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ النَّظْمِ هُنَا. (قُلْتُ: ابْنُ عَثَّامٍ صَحَابِيٌّ وَلَهْ فِي الذِّكْرِ ثَلَاثَةٌ وَأَعْجِمْ أَوَّلَهْ) وَالصَّوَابُ - فِيهِ كَمَا ضَبَطَهُ الْأَمِيرُ - الْإِعْجَامُ وَالنُّونُ، وَبِهِ جَزَمَ شَيْخُنَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَمِيرٌ (وَزَوْجُ مَسْرُوقٍ) هُوَ ابْنُ الْأَجْدَعِ، اسْمُهَا (قَمِيرٌ) بِفَتْحِ الْقَافِ ثُمَّ مِيمٍ مَكْسُورَةٍ ابْنَةُ عَمْرٍو، تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْهَا الشَّعْبِيُّ، وَ (صَغَّرُوا) ; أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (سِوَاهُ) ; أَيِ: الِاسْمِ الْمَذْكُورِ حَالَ كَوْنِهِ (ضَمًّا) ; أَيْ: مَضْمُومًا أَوَّلُهُ ; كَزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُمَيْرٍ الشَّاشِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمَكِّيِّ بْنِ قُمَيْرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانِ. وَمِنْ ذَلِكَ مُسَوَّرٌ، (وَلَهُمْ مُسَوَّرٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 وَاوٌ مُشَدَّدَةٌ وَآخِرَهُ رَاءٌ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا (ابْنُ يَزِيدَ) الْكَاهِلِيُّ الْأَسَدِيُّ ثُمَّ الْمَالِكِيُّ، صَحَابِيٌّ، حَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، (وَ) ثَانِيهِمَا (ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) الْيَرْبُوعِيُّ حَدَّثَ عَنْهُ مَعْنٌ الْقَزَّازُ، هَكَذَا ذَكَرَهُمَا ابْنُ الصَّلَاحِ ثُمَّ الذَّهَبِيُّ، وَاقْتَصَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ ابْنُ مَاكُولَا عَلَى أَوَّلِهِمَا وَلَمْ يَسْتَدْرِكِ ابْنُ نُقْطَةَ وَلَا غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا أَحَدًا، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ، حَيْثُ ذَكَرَ ابْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي بَابِ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ الْمُخَفَّفِ، يَشْهَدُ لَهُمْ لَكِنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَهُ فِي الْمُشَدَّدِ مَعَ ابْنِ يَزِيدَ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمَا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إِنَّهُ ذَكَرَ مَعَ ابْنِ يَزِيدَ فِي الْمُشَدَّدِ مُسَوَّرَ بْنَ مَرْزُوقٍ، لَمْ أَرَهُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي عِنْدِي بِتَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، بَلْ لَمْ أَرَ ابْنَ مَرْزُوقٍ فِيهِ أَصْلًا مَعَ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي الْمُشْتَبِهِ: إِنَّهُ هُوَ وَابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ اخْتَلَفَتْ نُسَخُ التَّارِيخِ فِيهِمَا تَشْدِيدًا وَتَخْفِيفًا، بَلْ قَالَ فِي (الْإِصَابَةِ) : إِنَّهُ أَوْرَدَ ابْنَ يَزِيدَ مَعَ ابْنِ مَخْرَمَةَ فَاقْتَضَى تَخْفِيفَهُ، (وَمَا سِوَى ذَيْنِ) ; أَيِ: ابْنُ يَزِيدَ وَابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، (فَمِسْوَرٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ فِيمَا (حُكِيَ) عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ ثُمَّ الذَّهَبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحَمَّالُ (وَوَصَفُوا) ; أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (الْحَمَّالَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: وَصَفُوا بِالْحَمَّالِ، (فِي الرُّوَاةِ) لِلْحَدِيثِ خَاصَّةً أَوْ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ فِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ، (هَارُونَ) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ الْبَغْدَادِيَّ الْبَزَّازَ الْحَافِظَ وَالِدَ مُوسَى (وَالْغَيْرُ) ; أَيْ: وَغَيْرُ هَارُونَ (بِجِيمٍ) بَدَلَ الْحَاءِ (يَاتِي) بِالْإِبْدَالِ، كَمُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، شَيْخٌ لِلشَّيْخَيْنِ، وَأُسَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ نَجِيحٍ الْهَاشِمِيِّ الْكُوفِيِّ، شَيْخٌ لِلْبُخَارِيِّ، وَأَيُّوبَ الْجَمَّالِ كَانَ يَعْتَقِدْ بِدِمَشْقَ، قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 الذَّهَبِيُّ: كُنْتُ أَرَى أَبِي يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَنُوزِعُ ابْنَ الصَّلَاحِ فِي الْحَصْرِ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ قَيَّدَ بِالْوَصْفِ، لَيُخْرِجَ مَنْ تَسَمَّى بِذَلِكَ كَحَمَّالِ بْنِ مَالِكٍ، أَخِي مَسْعُودٍ اللَّذَيْنِ شَهِدَا الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ وَقَتَلَا الْفِيلَ، وَأَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ الْمَأْرِبِيِّ الصَّحَابِيِّ، مَعَ كَوْنِ هَارُونَ مُخْتَصًّا عَنْهُمْ صَاحِبَةِ التَّعْرِيفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِذَلِكَ عَنِ التَّقْيِيدِ، فَلَهُمْ مِمَّنْ وُصِفَ بِالْحَمَّالِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّشْدِيدِ، رَافِعُ بْنُ نَصْرٍ الْحَمَّالُ الْفَقِيهُ صَاحِبُ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعَ أَبَا عُمَرَ بْنَ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو الْقَاسِمُ مَكِّيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَنَانٍ الْحَمَّالُ أَحَدُ الرُّوَاةِ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الدَّبْسِ الْحَمَّالُ أَحَدُ شُيُوخِ أَبِي النَّرْسِيِّ، وَزَاهِدُ مِصْرَ أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَّالُ، وَاسْمُهُ بَنَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الْبَغْدَادِيُّ، قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطٍ، مَاتَ بَعْدَ الثَّلَاثِ مِائَةٍ، كَانَ فَاضِلًا وَلِيًّا، لَهُ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ، وَأَيُّوبُ الْحَمَّالُ الزَّاهِدُ بِبَغْدَادَ، وَأَكْثَرُهُمْ وَارِدٌ عَلَى الْحَصْرِ ; وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا فِي الْمُشْتَبِهِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ فِيمَنْ بِالْمُهْمَلَةِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ هَارُونَ، وَآخَرُونَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ ذِكْرٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ، كَمَا أَنَّ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا جَمَاعَةً يُلَقَّبُونَ الْجَمَالَ بِالْجِيمِ وَالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِيهِمْ كَثْرَةٌ، وَأَبُو الْجَمَالِ جَدُّ أَبِي عَلِيٍّ يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْجَمَالِ الْحَرَّانِيُّ، ذَكَرَهُ أَبُو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ (289هـ) ، وَأَبُو الْجَمَالِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرُ الْمُقْتَدِرِ، وَجَمَالُ ابْنَةُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَجَمَالُ ابْنَةُ عَوْنِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَجَمَالُ ابْنَةُ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي حَزْمِ بْنَ كَعْبِ بْنَ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهِيَ أُمُّ أَوْلَادِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ ضَابِطًا كُلِّيًّا. ثُمَّ إِنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ وَصْفِ هَارُونَ بِالْحَمَّالِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَزَّازًا، ثُمَّ تَزَهَّدَ وَصَارَ يَحْمِلُ الشَّيْءَ بِالْأُجْرَةِ وَيَأْكُلُ مِنْهَا، حَكَاهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّاهِرِ الذُّهْلِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ عَكْسُهُ كَانَ حَمَّالًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَزِّ، حَكَاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 ابْنُ الْجَارُودِ فِي كِتَابِهِ (الْكُنَى) عَنْ وَلَدِهِ مُوسَى بْنِ هَارُونَ، وَزَعَمَ الْخَلِيلِيُّ وَابْنُ الْفَلَكِيِّ أَنَّهُ لِكَثْرَةِ مَا حَمَلَ مِنَ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَا أَرَى مَا قَالَاهُ يَصِحُّ، وَكَأَنَّهُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّاهِرِ كَانَ صَاحِبَ مُوسَى وَلَدِ هَارُونَ، فَهُوَ أَخْبَرُ وَقَوْلُهُ أَنْسَبُ بِالزُّهْدِ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ غَيْرِهِ: إِنَّهُ حَمَلَ رَجُلًا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ عَلَى ظَهْرِهِ فَانْقَطَعَ فِيمَا يُقَالُ بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْخَيَّاطُ (وَوَصَفُوا) ; أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (حَنَّاطًا) بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ النُّونِ (أَوْ) بِالنَّقْلِ (خَبَّاطًا) بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: بِكُلٍّ مِنَ الْحَنَّاطِ وَالْخَبَّاطِ (عِيسَى) بْنَ أَبِي عِيسَى مَيْسَرَةَ، (وَمُسْلِمًا) هُوَ ابْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَ (كَذَا) وَصَفُوا كُلًّا مِنْهُمَا (خَيَّاطًا) بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ: بِالْخَيَّاطِ، فَبِأَيِ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وُصِفَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنَ - كَانَ صَحِيحًا، وَالْغَلَطُ لِذَلِكَ مَأْمُونٌ فِيهِمَا، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ثُمَّ ابْنُ مَاكُولَا لِقَوْلِ ابْنِ مَعِينٍ كَمَا نَقَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مُسْلِمٍ: إِنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْخَبَطَ وَالْحِنْطَةَ وَكَانَ خَيَّاطًا. وَقَوَلَهُ أَيْضًا فِي عِيسَى: إِنَّهُ كَانَ كُوِفِيًّا وَانْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ خَيَّاطًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَصَارَ حَنَّاطًا ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَصَارَ يَبِيعُ الْخَبَطَ. بَلْ قَالَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا خَيَّاطٌ وَحَنَّاطٌ وَخَبَّاطٌ، كُلًّا قَدْ عَالَجْتُ. وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَاشْتِهَارُهُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَاشْتِهَارُ الْآخَرِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ ; وَلِذَا رَجَّحَ الذَّهَبِيُّ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مَا اشْتُهِرَ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 وَمِنْ ذَلِكَ مِمَّا أَدْخَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْقِسْمِ بَعْدَهُ، السَّلَمِيُّ، (وَالسَّلَمِيَّ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (افْتَحْ) ; أَيِ: افْتَحِ السِّينَ وَاللَّامَ مِنَ السَّلَمِيِّ، (فِي الَانْصَارِ) بِالنَّقْلِ خَاصَّةً، كَأَبِي قَتَادَةَ فَارِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ شَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ فِي النَّسَبِ كَالنَّمَرِيِّ وَالصَّدَفِيِّ وَبَابِهِمَا، قَالَ السَّمْعَانِيُّ: وَهَذِهِ النِّسْبَةُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ: وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَكْسِرُونَ اللَّامَ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ بَاطِيشَ فِي (مُشْتَبِهِ النِّسْبَةِ) ، وَجَعَلَ الْمَفْتُوحَ اللَّامَ نِسْبَةً إِلَى سُلَيْمَةَ مِنْ عَمَلِ حَمَاةَ، (وَمَنْ يَكْسِرُ لَامَهُ) ; أَيْ: لَفَظَ السَّلِمِيِّ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ (كَأَصْلِهِ) فَقَدْ (لَحَنْ) ، وَهَذَا ضَابِطٌ لِمَا فِي الْأَنْصَارِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَلَهُمْ فِي غَيْرِهَا بِالْفَتْحِ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِمَّنِ انْتَسَبَ إِلَى أَجْدَادِهِ ; كَبَنِي سَلَمَةَ بَطْنٌ مِنْ لَخْمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَيَشْتَبِهُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالسُّلَمِيِّ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُمْ خَلْقٌ كَعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. (وَمِنْ هُنَا) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، (لِمَالِكٍ وَلَهُمَا) ; أَيِ: الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَاشْتَمَلَ عَلَى تَرَاجِمَ، فَمِنْهَا يَسَارٌ، وَ (بَشَّارًا) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مُشَدَّدَةٍ، (افْرِدْ) ; أَيِ افْرِدْ أَيُّهَا الطَّالِبُ بِهَذَا الضَّبْطِ بَشَّارًا، (أَبَ) ; أَيْ: وَالِدُ (بُنْدَارِهِمَا) ; أَيِ: الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَبُنْدَارٌ وَهُوَ لَقَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارِ بْنِ عُثْمَانَ شَيْخِهِمَا، بَلْ شَيْخِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ وَإِنَّمَا أَضَافَهُ لَهُمَا ; لِاخْتِصَاصِ التَّرْجَمَةِ بِهِمَا دُونَ مَالِكٍ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَبَشَّارٌ - أَيْ: بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ - قَلِيلٌ فِي التَّابِعِينَ مَعْدُومٌ فِي الصَّحَابَةِ، (وَلَهُمَا) ; أَيِ: الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ خَاصَّةً أَيْضًا مِمَّا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ قَارَبَهَا. بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ ; لِتَمَيُّزِ ذَاكَ عَنِ الَّذِي بَعْدَهُ بِطُولِ رَأْسِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ. وَجَعَلَهُ مَعَ سِنَانٍ، لَكِنْ قَدْ أَدْخَلَهُ الذَّهَبِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 (سَيَّارٌ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ اثْنَانِ: هَمَّا ابْنُ أَبِي سَيَّارٍ (أَيْ) بِالنَّقْلِ، وَكُنْيَةُ سَيَّارٍ (أَبُو الْحَكَمِ) الْوَاسِطِيُّ، يَرْوِي عَنِ التَّابِعِينَ وَفِي اسْمِ أَبِيهِ اخْتِلَافٌ، فَقِيلَ: وَرْدَانُ أَوْ وَرْدٌ أَوْ دِينَارٌ. (وَ) سَيَّارٌ هُوَ (ابْنُ سَلَامَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، أَبُو الْمِنْهَالِ الرِّيَاحِيُّ الْبَصْرِيُّ، تَابِعِيٌّ، (وَ) مَا عَدَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فَهُوَ يَسَارٌ (بِالْيَا) التَّحْتَانِيَّةِ (قَبْلُ) ; أَيْ: قَبْلَ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ وَهُوَ (جَمْ) ; أَيْ: كَثِيرٌ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ ; كَسُلَيْمَانَ وَعَطَاءِ ابْنَيْ يَسَارٍ، وَسَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ. (وَ) مِنْهُمْ بِشْرٌ (وَابْنُ سَعِيدٍ) الْمَدَنِيُّ مَوْلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ اسْمُهُ (بُسْرٌ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَبِدُونِ تَنْوِينٍ لِلضَّرُورَةِ، (مِثْلُ) بُسْرِ بْنِ أَبِي بُسْرٍ (الْمَازِنِي) ، نِسْبَةً لِمَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ حَفْصَةَ بْنِ قَيْسِ غَيْلَانَ، فَهُوَ أَيْضًا بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ، صَحَابِيٌّ، وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيِّ أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَأَصَابَ ; لِأَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ رَقَّمَ عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ عَلَامَةَ مُسْلِمٍ، بِحَيْثُ قَلَّدَهُ الْمُؤَلِّفُ فَهُوَ سَهْوٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَقْيِيدِهِ، وَشَيْخُنَا فِي (مُخْتَصَرِ التَّهْذِيبِ) ، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، (وَ) مِثْلُ بُسْرٍ (ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) الْحَضْرَمِيُّ الشَّامِيُّ، فَهُوَ أَيْضًا بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، تَابِعِيٌّ، (وَ) مِثْلُ بُسْرٍ (ابْنُ مِحْجَنٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ جِيمٌ، ابْنُ مِحْجَنٍ الدِّيَلِيُّ، فَهُوَ أَيْضًا بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، تَابِعِيٌّ، وَحَدِيثُهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) خَاصَّةً دُونَ الصَّحِيحَيْنِ، (وَفِيهِ خُلْفٌ) فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنَّهُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَالِدَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْبُرُلُّسِيَّ يَقُولُ: أَحْمَدُ بْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 صَالِحٍ بِجَامِعِ مِصْرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَمَاعَةَ مِنْ وَلَدِهِ وَرَهْطِهِ لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ أَنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ مَالِكًا وَالْأَكْثَرَ عَلَى الْأَوَّلِ، بَلْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ الثَّوْرِيَّ رَجَعَ عَنِ الْإِعْجَامِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ بِالْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَهُ بِالْمُعْجَمَةِ فَقَدْ وَهِمَ. وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ أَوِ الْأَرْبَعَةَ مِمَّا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَلَا تَشْتَبِهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِأَبِي الْيَسَرِ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، الْمُخَرَّجِ حَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ ; لِمُلَازِمَةِ أَدَاةِ التَّعْرِيفِ لَهُ غَالِبًا، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَمِنْهَا بُشَيْرٌ (وَبُشَيْرًا اعْجِمِ) بِالنَّقْلِ أَيْ: أَعْجِمْ بُشَيْرًا (فِي) رَاوِيَيْنِ فَقَطْ: بُشَيْرِ (ابْنِ يَسَارٍ) فَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ الْحَارِثِيِّ الْمَدَنِيِّ التَّابِعِيِّ، حَدِيثُهُ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ، (وَ) بُشَيْرِ (بْنِ كَعْبٍ) الْعَدَوِيِّ، وَقِيلَ: الْعَامِرِيُّ الْبَصْرِيُّ التَّابِعِيُّ، الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ جَزْمًا فَأَعْجِمْ هَذَيْنَ، (وَاضْمُمِ) الْمُوَحَّدَةَ مِنْهُمَا، بِحَيْثُ يَكُونَانِ مُصَغَّرَيْنِ، وَأَمَّا مُقَاتِلُ بْنُ بُشَيْرٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُمَا فَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ زَعَمَ صَاحِبُ (الْكَمَالِ) أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ لَهُ فَهُوَ وَهْمٌ، وَ (يُسَيْرُ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ تَابِعِيٌّ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّ لَهُ رُؤْيَةً. حَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي اسْمِ أَبِيهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ (ابْنُ عَمْرٍو) . وَهُوَ الْأَكْثَرُ، أَوِ ابْنُ جَابِرٍ، كَمَا اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ (أَوْ) بِالنَّقْلِ، (أُسَيْرُ) بِهَمْزَةٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: أَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ: أُسَيْرُ بْنُ جَابِرٍ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: أُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو. وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ كَوْنَهُ أُسَيْرَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَشَارَ إِلَى تَلْيِينِ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِيهِ: ابْنُ جَابِرٍ. (وَالنُّونُ) بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ (فِي أَبِي) ; أَيْ: وَالِدِ (قَطَنْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرَهُ نُونٌ سَاكِنَةٌ لِلْوَزْنِ، فَاسْمُهُ (نُسَيْرُ) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وَهُوَ قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ بَصْرِيٌّ، يُكَنَّى أَبَا عَبَّادٍ، حَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ مِمَّا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فَبَشِيرٌ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَهُوَ الْجَادَّةُ، كَبَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَابْنِ نَهِيكٍ السَّدُوسِيِّ، وَابْنِ الْمُهَاجِرِ الْغَنَوِيِّ وَابْنِ عُقْبَةَ النَّاجِي وَابْنِ سُلَيْمَانَ الْكِنْدِيِّ. (وَ) مِنْهَا يَزِيدُ وَ (جَدُّ عَلِي) بِسُكُونِ آخِرِهِ لِلضَّرُورَةِ، (ابْنِ هَاشِمٍ بَرِيدٌ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، وَيُنْسَبُ عَلِيٌّ لِذَلِكَ الْبَرِيدِيُّ، يَرْوِي عَنْ هِشَامِ بْنَ عُرْوَةَ، وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ، (وَابْنُ) عَبْدِ اللَّهِ (حَفِيدُ) أَبِي مُوسَى (الْأَشْعَرِي) بِالسُّكُونِ لِلضَّرُورَةِ، أَيْ: وَلَدُ وَلَدِهِ اسْمُهُ (بُرَيْدُ) مُصَغَّرٌ، وَهُوَ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى رَوَى لَهُ الشَّيْخَانِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كَصَلَاةِ شَيْخِنَا أَبِي بُرَيْدٍ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ - بِكَسْرِ اللَّامِ - كَمَا سَيَأْتِي، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَالْأَكْثَرُ بُرَيْدٌ بِالتَّصْغِيرِ ; كَحَفِيدِ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ عَنِ الْحَمَوِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الْكُنَى، وَلَكِنَّ عَامَّةَ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ قَالُوا: يَزِيدُ كَالْجَادَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ. كَذَلِكَ قَالَ: وَمُسْلِمٌ أَعْلَمُ، (وَلَهُمَا) أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِيمَنْ خَرَّجَا لَهُ مِمَّا هُوَ مُصَاحِبٌ لِلتَّعْرِيفِ، (مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَهْ بْنِ الْبِرِنْدِ) السَّامِيِّ، بِالْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً لِسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ الْبَصْرِيِّ، يَرْوِي عَنْ شُعْبَةَ (فَالْأَمِيرُ) أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا (كَسَرَهْ) أَيْ: قَالَ فِيهِ: الْبِرِنْدُ. بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ، يَعْنِي وَبَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ دَالٌ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، لَكِنْ فِي كِتَابِ عُمْدَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَفْتَحُهُمَا، وَحَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ عَنِ ابْنِ الْفَرَضِيِّ فَقَالَ: إِنَّهُ يُقَالُ بِالْفَتْحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 وَالْكَسْرِ. قَالَ: وَالْأَشْهُرُ الْكَسْرُ. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ أَشْهَرُ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ ثُمَّ شَيْخُنَا، وَمَا عَدَا مَنْ ذُكِرَ مِمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَيَزِيدُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ زَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَهُوَ الْجَادَّةُ ; كَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ. (وَ) مِنْهَا الْبَرَاءُ وَ (ذُو كُنْيَةٍ بِمَعْشَرٍ وَبِالْعَالِيَهْ) أَيْ: فَأَبُو مَعْشَرٍ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ زِيَادُ بْنُ فَيْرُوزَ أَوْ كُلْثُومٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، الْمُخَرَّجُ حَدِيثُهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا (بِرَّاءٌ اشْدُدِ) الرَّاءَ مِنْهُمَا، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالْبَرَّاءُ الَّذِي يَبْرِي الْعُودَ، يَعْنِي النُّشَّابَ وَغَيْرَهُ، وَمَنْ عَدَاهُمَا مِمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَالْبَرَاءُ بِالتَّخْفِيفِ. (وَ) مِنْهَا حَارِثَةُ وَ (بِجِيمٍ) وَتَحْتَانِيَّةٍ (جَارِيَهْ ابْنُ قُدَامَةٍ) بِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، صَحَابِيٌّ عَلَى مَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ: ( «لَا تَغْضَبْ» ) ، وَلَمْ تَقَعْ رِوَايَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ، نَعَمْ وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي الْفِتَنِ مِنَ الْبُخَارِيِّ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةٍ قَالَ فِيهَا: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حَرْقِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ (كَذَاكَ وَالِدُ يَزِيدَ) بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، مَذْكُورٌ فِي (الْمُوَطَّأِ) ، بَلْ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعِ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ عَنْ خَنْسَاءَ ابْنَةِ خِذَامٍ. (قُلْتُ) : كَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى هَذَيْنَ (وَ) فَاتَهُ مِمَّنْ ضُبِطَ (كَذَاكَ) اثْنَانِ (الْأَسْوَدُ ابْنُ الْعَلَا) بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَ: (الْبِئْرُ جُبَارٌ) . (وَابْنُ أَبِي سُفْيَانَ) بْنِ أَسِيدٍ، كَكَبِيرٍ، ابْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ الْمَدَنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زَهْرَةَ، وَاسْمُهُ (عَمْرٌو) ، رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 أَبِي هُرَيْرَةَ، فَالْأَوَّلُ: قِصَّةُ قَتْلِ خُبَيْبٍ، وَالثَّانِي: حَدِيثُ: ( «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا» ) ، (فَجَدُّ ذَا وَذَا) أَيِ: الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا عُلِمَ (سِيَّانِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ نُونٍ، تَثْنِيَةُ سِيٍّ أَيْ: مِثْلَانِ ; فَإِنَّ اسْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا جَارِيَةُ، غَيْرَ أَنَّهُ لِثَانِيهِمَا خَاصَّةً الْجَدُّ الْأَعْلَى، عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْبُخَارِيِّ عَمْرُو بْنُ أَسِيدِ بْنَ جَارِيَةَ، وَمَا عَدَا الْمَذْكُورَيْنَ مِمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَحَارِثَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ. (وَ) مِنْهَا حَازِمٌ وَ (مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ) أَبَا مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ (لَا تُهْمِلِ) أَيْ: لَا تُهْمِلِ ابْنَ خَازِمٍ مَعَ إِعْجَامٍ خَائِهِ وَهُوَ فَرْدٌ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا عَدَاهُ مِمَّا فِيهَا كَأَبِي حَازِمٍ الْأَعْرَجِ وَجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَالْحَاءُ فِيهِ مُهْمَلَةٌ. وَمِنْهَا وَهُوَ عَكْسُ التَّرْجَمَةِ قَبْلَهَا خِرَاشٌ وَ (وَالِدُ رِبْعِيٍّ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ (حِرَاشٌ اهْمِلِ) - بِالنَّقْلِ - الْحَاءَ مِنْهُ، وَهُوَ أَيْضًا فَرْدٌ فِي الثَّلَاثَةِ، وَمَا عَدَاهُ مِمَّا فِيهَا كَشِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ، فَالْخَاءُ فِيهِ مُعْجَمَةٌ، وَلَهُمْ خِدَاشٌ بِالْمُعْجَمَةِ أَيْضًا، لَكِنْ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الرَّاءِ أَدْخَلَهُ ابْنُ مَاكُولَا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّهُ لَا يُلْتَبَسُ. وَمِنْهَا جَرِيرٌ، وَ (كَذَا) أَيْ: كَوَالِدِ رِبْعِيٍّ فِي إِهْمَالِ الْحَاءِ، (حَرِيزٌ) بِدُونِ تَنْوِينٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 لِلْوَزْنِ كَكَثِيرٍ، هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ (الرَّحَبِي) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، نِسْبَةً إِلَى رَحَبَةَ، بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ الْحِمْصِيُّ، رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ (وَ) أَبُو حَرِيزٍ (كُنْيَهْ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَزْدَيِّ الْبَصْرِيِّ قَاضِي سِجِسْتَانَ، (قَدْ عُلِّقَتْ) رِوَايَتُهُ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمَا عَدَاهُمَا مِمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَجَرِيرٌ بِالْجِيمِ وَالرَّائَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، (وَ) لَهُمُ (ابْنُ حُدَيْرٍ) بِالْحَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، مُصَغَّرٌ، (عِدَّهْ) كَعِمْرَانَ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ، وَزَيْدِ وَزِيَادِ ابْنَيْ حُدَيْرٍ، لَهُمَا ذِكْرٌ خَاصَّةً فِي الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدُ الِاشْتِبَاهِ، بَلْ لَا يَلْتَبِسُ، كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا ; وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذِهِ أَصْلًا. وَمِنْهَا حُصَيْنٌ وَ (حُضَيْنٌ اعْجِمْهُ) مَعَ التَّصْغِيرِ وَإِهْمَالِ الْحَاءِ، وَهُوَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الْبَصَرِيُّ الرَّقَاشِيُّ، يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، وَلَقَبُهُ (أَبُو سَاسَانَا) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرَهُ نُونٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَاحِبُ عَلِيٍّ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: لَا أَعْرِفُ بِالْمُعْجَمَةِ غَيْرَهُ. وَغَيْرُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ يَعْنِي كَيَحْيَى بْنِ حُضَيْنٍ الَّذِي لَهُ خَبَرٌ مَعَ الْفَرَزْدَقِ، وَذَكَرَهُ فِي شِعْرِهِ، وَكَذَا قَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي رُوَاةِ الْعِلْمِ مِنْ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ سِوَاهُ، فَهُوَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرْدٌ، وَمَا زَعَمَهُ الْأَصِيلِيُّ وَالْقَابِسِيُّ مِنْ حُفَّاظِ الْمَغْرِبِ مِمَّا حَكَاهُ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ فَصَدَّقَهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، زَادَ الْقَابِسِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ غَيْرُهُ. قَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّهُ وَهْمٌ فَاحِشٌ. وَكَذَا قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّ صَوَابَهُ كَمَا لِلْجَمَاعَةِ كَالْجَادَّةِ. وَمِمَّنْ رَدَّ عَلَى الْقَابِسِيِّ مِنَ الْمَغَارِبَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْفَرَضِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ وَقَالُوا كُلُّهُمْ: كَانَ الْقَابِسِيُّ يَهِمُ فِي هَذَا، (وَافْتَحْ أَبَا حُصَيْنٍ) مَعَ الْإِهْمَالِ لِحَرْفَيْهِ، (ايْ) بِالنَّقْلِ الْمُسَمَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 (عُثْمَانَا) ابْنَ عَاصِمٍ الْأَسَدِيَّ، بَلْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي الْكِتَابَيْنِ بِفَتْحِ الْحَاءِ غَيْرَهُ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَمَا عَدَاهُمَا فَحُصَيْنٌ بِالْإِهْمَالِ مُصَغَّرٌ، وَأَمَّا وَالِدُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْنٍ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ، الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْتَبِسُ فِي الْغَالِبِ، كَأَشْبَاهِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا حَيَّانُ وَ (كَذَاكَ) أَيِ: افْتَحْ مَعَ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ حَاءً، (حَبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا قَافٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، ابْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَذْكُورُ فِي (الْمُوَطَّأِ) ، وَأَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ (وَ) افْتَحْ أَيْضًا (مِنْ وَلَدِهِ) وَهُمُ ابْنُهُ وَاسِعٌ الْمُخَرَّجُ حَدِيثُهُ فِي الثَّلَاثَةِ، وَحَفِيدُهُ حَبَّانُ بْنُ وَاسِعٍ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي مُسْلِمٍ، وَابْنُ عَمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الثَّلَاثَةِ، (وَ) افْتَحْ مِنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِينَ (ابْنُ هِلَالٍ) حَبَّانَ الْبَاهِلِيَّ الْبَصْرِيَّ الْمُخَرَّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَيَقَعُ كَثِيرًا غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلُّ مَا كَانَ فِي شُيُوخِ شُيُوخِهِمَا حَبَّانُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ فَهُوَ ابْنُ هِلَالٍ، (وَاكْسِرَنْ) بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ أَيُّهَا الطَّالِبُ (ابْنَ عَطِيَّةٍ) بِالتَّنْوِينِ، فَهُوَ حِبَّانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ السَّلَمِيُّ الْعَلَوِيُّ ; لِكَوْنِهِ كَانَ يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، الْمَذْكُورُ فِي الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: تَنَازَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي السَّلَمِيَّ - وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا يُفَضِّلُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ يَعْنِي عَلِيًّا عَلَى الدِّمَاءِ. قَالَ: مَا هُوَ لَا أَبَا لَكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ الَّتِي وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا خَاصَّةً دُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَالْكَسْرُ فِيهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ الَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ مَاكُولَا وَالْمَشَارِقَةُ، وَصَوَّبَهُ صَاحِبَا الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ وَالْجَيَّانِيُّ وَحَكَوْا أَنَّ بَعْضَ رُوَاةِ أَبِي ذَرٍّ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَوَهَّمُوهُ، وَبِالْفَتْحِ ضَبَطَهُ ابْنُ الْفَرَضِيِّ، بَلْ قَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّ الْجَيَّانِيَّ تَبِعَهُ. لَكِنَّ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ لِلْجَيَّانِيِّ مَا قَدَّمْتُهُ (مَعَ ابْنِ مُوسَى) بْنِ سَوَّارٍ، فَهُوَ حِبَّانُ أَبُو مُحَمَّدٍ السِّلْمِيُّ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الشَّيْخَيْنِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، فَالْكَسْرُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ حِبَّانُ الْآتِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، (وَ) مَعَ (مَنْ رَمَى سَعْدًا) هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ سَيِّدُ الْأَوْسِ، الَّذِي اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لَهُ، فَهُوَ حِبَّانُ بِالْكَسْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، بَلِ الْأَصَحُّ ابْنُ الْعَرِقَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ. الْحَدِيثَ. وَقِيلَ كَمَا لِابْنِ عُقْبَةَ فِي (الْمَغَازِي) : جَبَّارٌ. بِالْجِيمِ، وَآخِرَهُ رَاءٌ، وَالْعَرِقَةَ أُمُّهُ فِيمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ قَافٍ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، وَحَكَى ابْنُ مَاكُولَا عَنِ الْوَاقِدِيِّ فَتْحَ الرَّاءِ، وَأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَصَحَّحَ ابْنُ مَاكُولَا الْكَسْرَ، وَقِيلَ لَهَا ذَلِكَ ; لِطِيبِ رَائِحَتِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهَا، فَقِيلَ كَمَا لِابْنِ الْكَلْبِيِّ: قِلَابَةُ - بِكَسْرِ الْقَافِ - ابْنَةُ سُعَيْدٍ، مُصَغَّرٌ ابْنُ سَهْمٍ، وَتُكَنَّى أُمَّ فَاطِمَةَ، وَاسْمُ وَالِدِ حِبَّانَ قَيْسٌ أَوْ أَبُو قَيْسِ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَعِيصٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، ابْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَمَى سَعْدًا هُوَ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ، (فَـ) بِسَبَبِ ذَلِكَ (نَالَ بُؤْسًا) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ وَاوٍ مَهْمُوزٍ، وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: عَذَابًا شَدِيدًا، وَلَقَدْ قَالَ لَهُ الْمَرْمِيُّ حِينَ قَالَ لَهُ الرَّامِي: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ. وَمَا عَدَا مَنْ ذُكِرَ مِمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَحَيَّانُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ، وَأَمَّا جَبَّارٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرَهُ رَاءٌ، وَهُوَ ابْنُ صَخْرٍ الْمَذْكُورُ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَخِيَارٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ وَآخِرَهُ رَاءٌ، وَهُوَ جَدُّ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنَ الْخِيَارِ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَقَدْ لَا يَلْتَبِسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ; لِمُصَاحِبَةِ التَّعْرِيفِ لِثَانِيهِمَا ; وَلِأَنَّ آخِرَهُمَا رَاءٌ، وَالْأَوَّلُ نُونٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وَمِنْهَا حَبِيبٌ وَ (خُبَيْبًا أَعْجِمْ) أَيْ: أَعْجِمْ خَاءَهُ (فِي ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنْ) ، الْأَنْصَارِيُّ الْمُخَرَّجُ حَدِيثُهُ فِي الثَّلَاثَةِ، فَهُوَ وَجَدُّهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالتَّصْغِيرِ، وَيَرِدُ خُبَيْبٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ، وَهُوَ هَذَا (وَ) كَذَا الْإِعْجَامُ فِي (ابْنِ عَدِيٍّ) خُبَيْبٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سَرِيَّةِ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقُتِلَ خُبَيْبٌ وَهُوَ الْقَائِلُ: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي. (وَهْوَ) أَيْ: خُبَيْبٌ بِالْإِعْجَامِ وَالتَّصْغِيرِ (كُنْيَةٌ كَانْ) أَيْ: كَانَ أَبُو خُبَيْبٍ كُنْيَةَ (لِابْنِ الزُّبَيْرِ) عَبْدِ اللَّهِ، كُنِّيَ بِاسْمِ وَلَدِهِ خُبَيْبٍ الَّذِي لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الثَّلَاثَةِ، وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فَحَبِيبٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ كَكَبِيرٍ. وَمِنْهَا رَبَاحُ (وَرِيَاحَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (اكْسِرْ) مَعَ الْإِتْيَانِ (بِيَا) مُثَنَّاهٍ تَحْتَانِيَّةٍ وَبِالْقَصْرِ، (أَبَا زِيَادٍ) أَيِ: اكْسِرِ الرَّاءَ مِنْ رِيَاحِ وَالِدِ زِيَادٍ الْقَيْسِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَيُقَالُ: الْمَدَنِيُّ التَّابِعِيُّ الْمَرْوِيُّ لَهُ فِي مُسْلِمٍ حَدِيثَانِ، وَالْمُكَنَّى عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْخَطِيبِ وَابْنِ مَاكُولَا وَغَيْرِهِمْ - بِأَبِي قَيْسٍ، بَلْ وَقَعَ مُكَنَّيًا بِهَا فِي الْمَغَازِي مِنْ أَصْلِ صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَشَذَّ صَاحِبُ الْكَمَالِ، وَتَبِعَهُ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ فَكَنَّاهُ أَبَا رِيَاحٍ كَاسْمِ أَبِيهِ، بَلْ هُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الْمُصَدَّرُ بِهِ عِنْدَ الْمِزِّيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ: أَبُو قَيْسٍ. وَهُوَ مِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ (الْكَمَالِ) انْتَقَلَ بَصَرُهُ إِلَى الرَّاوِي الْآخَرِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، فَذَاكَ هُوَ الْمُكَنَّى بِأَبِي رِيَاحٍ كَاسْمِ أَبِيهِ، وَلَكِنَّ الْقَيْسِيَّ أَقْدَمُ وَإِنِ انْدَرَجَ الثَّانِي فِي التَّابِعِينَ ; لِرُؤْيَتِهِ أَنَسًا، ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي ضَبْطِ وَالِدِ زِيَادٍ (بِخِلَافٍ) فِيهِ (حُكِيَا) عَنْ تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ فَتَحَ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا كَالْجَادَّةِ، وَحَكَى ثَانِيهِمَا صَاحِبُ الْمَشَارِقِ عَنِ ابْنِ الْجَارُودِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَبِهِ جَزَمَ عَبْدُ الْغَنِيِّ ثُمَّ ابْنُ مَاكُولَا، وَمَا عَدَاهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهُوَ رَبَاحٌ بِالْفَتْحِ وَالْمُوَحَّدَةِ جَزْمًا. وَمِنْهَا حُكَيْمٌ (وَاضْمُمْ حُكَيْمًا فِي ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ الْمُطَّلِبِيِّ الْقُرَشِيِّ التَّابِعِيِّ الْمُخَرَّجِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ فِي مُسْلِمٍ، فَهُوَ حُكَيْمٌ بِالضَّمِّ، (قَدْ) أَيْ: لَيْسَ فِي ضَبْطِهِ إِلَّا الضَّمُّ حَسْبُ، وَهِيَ بِمَعْنَى قَطُّ أَيْضًا، وَيُسَمَّى الْحُكَيْمُ بِالتَّعْرِيفِ أَيْضًا، كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ، وَ (كَذَا) بِالضَّمِّ (رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ) أَبُو حُكَيْمٍ بِالضَّمِّ أَيْضًا الْأَيْلِيُّ وَالِيهَا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي رَوَى مَالِكٌ فِي الْحُدُودِ مِنَ (الْمُوَطَّأِ) عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مِصْبَاحٌ. فَذَكَرَ شَيْئًا، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ، قَالَ يُونُسُ ـ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ ـ: كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بَوَادِي الْقُرَى: هَلْ تَرَى أَنْ أَجْمَعَ؟ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ. . . فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَهُوَ - أَعْنِي تَصْغِيرَهُ وَتَصْغِيرَ أَبِيهِ - وَكُنْيَتُهُ مَعَ تَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّاءِ فِيهِ هُوَ الْمَشْهُورُ، بَلِ الصَّوَابُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَحَكَى صَاحِبُ (تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ) عَنْهُ: أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ كَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَكَذَا قِيلَ فِي زَرِيقٍ تَقْدِيمُ الزَّاءِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ وَهِمَ، (وَ) عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِيهِ وَفِي أَبِيهِ وَكُنْيَتِهِ فَقَدَ (انْفَرَدْ) ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّوَاةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ سِوَاهُ، بَلْ لِرُزَيْقٍ ابْنٌ اسْمُهُ حُكَيْمٌ أَيْضًا كَجَدِّهِ، وَمَا عَدَاهُمَا فِي الثَّلَاثَةِ فَحَكِيمٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ. وَمِنْهَا زُبَيْدُ (وَزُيَيْدٌ) وَهُوَ بِالْمُثَنَّاتَيْنِ التَّحْتَانِيَّتَيْنِ، وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ (ابْنُ الصَّلْتِ) بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيُّ التَّابِعِيُّ، وَالِدُ الصَّلْتِ شَيْخُ مَالِكٍ الْمُنْفَرِدُ عَنِ الصَّحِيحَيْنِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، (وَاضْمُمْ وَاكْسِرِ) الزَّاءَ مِنْهُ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْحَذَّاءِ أَنَّهُ كَانَ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، قَالَ شَيْخُنَا: وَأَظُنُّ ذَلِكَ وَلَدَهُ الصَّلْتَ. وَجَزَمَ شَيْخُهُ الْمُصَنِّفُ بِتَوْهِيمِ ابْنِ الْحَذَّاءِ فِي ذَلِكَ، وَبِكَوْنِ الصَّلْتِ هُوَ الْقَاضِيَ، وَمَا عَدَاهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَزُبَيْدٌ بِالضَّمِّ وَالْمُوَحَّدَةِ. وَمِنْهَا سَلِيمٌ (وَفِي ابْنِ حَيَّانَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ ابْنِ بِسْطَامٍ الْهَدْلِيُّ الْبَصْرِيُّ (سَلِيمٍ) الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (كَبِّرِ) خَاصَّةً، وَصَغِّرْ مَا عَدَاهُ مِمَّا فِيهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وَمِنْهَا شُرَيْحٌ (وَابْنُ أَبِي سُرَيْجٍ) وَاسْمُهُ (أَحْمَدُ) بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ الصَّبَّاحُ، مِمَّنَ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (ائْتَسَا) أَيْ: لَهُ أُسْوَةٌ (بِـ) سُرَيْجٍ (وَلَدِ النُّعْمَانِ) بْنِ مَرْوَانَ الْجَوْهَرِيِّ اللُّؤْلُؤِيِّ الْبَغْدَادِيِّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، بَلْ ذَكَرَ الْجَيَّانِيُّ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ رَجُلٍ عَنْهُ (وَ) بِسُرَيْجٍ (ابْنِ يُونُسَا) بِتَثْلِيثِ النُّونِ مَعَ الْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، وَالْفَصِيحُ الضَّمُّ بِلَا هَمْزٍ، ابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغْدَادِيِّ الْمُخَرَّجِ حَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاخْتُصَّ مُسْلِمٌ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ مَضْبُوطًا كَهُمَا بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ، وَمَا عَدَا الثَّلَاثَةَ مِمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَشُرَيْحٌ بِالْمُعْجَمَةِ، أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ. وَمِنْهَا سَلِمَةُ وَ (عَمْرٌو) الْجَرْمِيُّ إِمَامُ قَوْمِهِ حَالَ صِغَرِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُخْتَلَفُ فِي صُحْبَتِهِ (مَعَ الْقَبِيلَةِ) ، الَّتِي هُوَ الْوَاحِدَةُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ فِي الْأَنْصَارِ، (ابْنُ سَلِمَةْ) أَيْ: أَنَّ أَبَا كُلٍّ مِنْ عَمْرٍو وَالْقَبِيلَةِ سَلِمَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ، (وَاخْتَرْ) كُلًّا مِنَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ (بِعَبْدٍ) أَيْ: فِي عَبْدِ (الْخَالِقِ بْنِ سَلِمَهْ) الشَّيْبَانِيِّ الْمِصْرِيِّ أَحَدِ مَنْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ حَدِيثَ قُدُومِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فِيهِمَا، ضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا ; لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ قَالَهُ بِالْفَتْحِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ بِالْكَسْرِ، وَهُمَا ضَابِطَانِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ فَبِالْفَتْحِ خَاصَّةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 وَمِنْهَا عُبَيْدَةُ وَ (وَالِدُ عَامِرٍ) الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ قَاضِيهَا، التَّابِعِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْبُخَارِيِّ فِي جُمْلَةِ مَنْ شَاهَدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، الْقُرَشِيُّ الضَّالُّ يُجِيزُ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، وَ (كَذَا) ابْنُ عَمْرٍو أَوِ ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو (السَّلْمَانِي) بِسُكُونِ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا، وَهُوَ الَّذِي لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، نِسْبَةً إِلَى سَلْمَانَ، بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، وَهُوَ ابْنُ يَشْكُرَ بْنَ نَاجِيَةَ بْنِ مُرَادٍ التَّابِعِيُّ الْمُخَضْرَمُ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، (وَ) كَذَا (ابْنُ حُمَيْدٍ) هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ الْكُوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَذَّاءِ، الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ (وَ) كَذَا (وَلَدْ) بِإِسْكَانِ الدَّالِ لِلْوَزْنِ، (سُفْيَانِ) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَضْرَمِيُّ الْمَدَنِيُّ التَّابِعِيُّ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) وَمُسْلِمٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، (كُلُّهُمُ) بِضَمِّ الْمِيمِ (عَبِيدَةٌ) بِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ وَبِالْفَتْحِ (مُكَبَّرٌ) ، وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ فِي الثَّلَاثَةِ فَبِالتَّصْغِيرِ، وَمَا حَكَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ مِنْ كَوْنِ عَبِيدَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْوَاقِعِ بِبَدْرٍ فِي الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عَبِيدَةَ. بِالْفَتْحِ ; فَوَهِمَ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) عَنِ الْبُخَارِيِّ الضَّمَّ كَالْجَادَّةِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ. وَمِنْهَا عُبَيْدٌ بِدُونِ هَاءِ تَأْنِيثٍ فَبِالْفَتْحِ جَمَاعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ (لَكِنْ عُبَيْدٌ عِنْدَهُمْ) أَيِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ مَا وَقَعَ بِالضَّمِّ (مُصَغَّرٌ) كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِمَّنْ هُوَ بِالْفَتْحِ أَحَدٌ. وَمِنْهَا عَبَادَةٌ (وَافْتَحْ عَبَادَةً) بِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ، (أَبَا) أَيْ: وَالِدُ (مُحَمَّدِ) الْوَاسِطِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَمَا عَدَاهَ فِي الثَّلَاثَةِ فَبِالضَّمِّ. وَمِنْهَا وَهُوَ عَكْسُهُ عُبَادٌ (وَاضْمُمْ) مَعَ التَّخْفِيفِ (أَبَا) أَيْ: وَالِدُ (قَيْسٍ) الْقَيْسِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 الضُّبَعِيُّ الْبَصْرِيُّ الْمُخَرَّجُ حَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (عُبَادًا) وَ (أَفْرِدِ) الْمَذْكُورَ عَنْ سَائِرِ مَنْ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ بِذَلِكَ ; إِذْ مَا عَدَاهُ فِيهَا فَبِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفِ بْنَ الْمُرَابِطِ فِي (الْمُوَطَّأِ) مِنْ عُبَادِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) بَعْدَ حِكَايَتِهِ: إِنَّهُ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عُبَادَةُ بَهَاءِ التَّأْنِيثِ كَجَدِّهِ. وَمِنْهَا عَبْدَةُ (وَعَامِرٌ) أَبُو إِيَاسٍ الْكُوفِيُّ الْبَجَلِيُّ، نِسْبَةً إِلَى بَجِيلَةَ، حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلُهُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ) الْحَدِيثَ. وَ (بَجَالَةَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْجِيمِ التَّمِيمِيُّ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ الْمَرْوِيُّ لَهُ فِي الْجِزْيَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ: (كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ) الْحَدِيثَ. (ابْنُ عَبْدَهْ كُلٌّ) أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْمَذْكُورِينَ اسْمُ أَبِيهِ عَبَدَةُ بِفَتْحَتَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَوَّلِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدُ وَالْجَيَّانِيُّ وَالتَّمِيمِيُّ وَالصَّدَفِيُّ وَابْنُ الْحَذَّاءِ وَبِهِ صَدَّرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا كَلَامَهُمَا، وَفِي الثَّانِي الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا وَالْجَيَّانِيُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) عَنْ تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ الضَّبْطِ، (وَبَعْضٌ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ (بِالسُّكُونِ) فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ (قَيَّدَهْ) ، فَحَكَاهُ فِي الْأَوَّلِ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، وَكَذَا حَكَاهُ فِيهِ بَعْدَ الْبَدَاءَةِ بِمَا تَقَدَّمَ كُلٌّ مِنَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا، بَلْ حَكَى صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ " عَبْدٌ " بِدُونِ هَاءٍ، قَالَ: وَهُوَ وَهْمٌ. وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْكُنَى لِلنَّسَائِيِّ عَبْدُ اللَّهِ، وَالَّذِي فِي عِدَّةِ نُسَخٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَحَكَاهُ فِي الثَّانِي صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) عَنِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَأَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ أَيْضًا: عَبْدٌ. بِدُونِ هَاءٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ شَيْخُنَا فِي الْمُشْتَبِهِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الثَّانِي، وَمَا عَدَاهُمَا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فَعَبْدَةُ بِالسُّكُونِ وَيَشْتَبِهُ مِمَّنْ بِالسُّكُونِ عَامِرُ بْنُ عَبْدَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 شَيْخٌ لِأَبِي أُسَامَةَ ; لِمُوَافَقَتِهِ لِأَوَّلِ الْمَفْتُوحَيْنِ فِي الِاسْمِ، وَصُورَةِ اسْمِ الْأَبِ، وَلَكِنْ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا فِي الثَّلَاثَةِ، بَلْ وَلَا فِي سَائِرِ السِّتَّةِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَوْلُ الذَّهَبِيِّ فِي الْمُشْتَبِهِ عَنْهُ: إِنَّهُ يَشْتَبِهُ بِعَامِرِ بْنِ عَبْدَةَ الْبَاهِلِيِّ. وَهْمٌ، فَالْبَاهِلِيُّ إِنَّمَا هُوَ ابْنُ عُبَيْدَةَ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الضَّوَابِطِ. انْتَهَى. وَالَّذِي فِي الْمُشْتَبِهِ لِشَيْخِنَا تَبَعًا لِأَصْلِهِ، وَأَمَّا الْبَاهِلِيُّ عَامِرُ بْنُ عُبَيْدَةَ الَّذِي فِي طَبَقَةِ مِسْعَرٍ، فَهُوَ بِالْكَسْرِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ. وَمِنْهَا عُقَيْلٌ وَ (عُقَيْلٌ) بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرًا (الْقَبِيلُ) أَيِ: الْقَبِيلَةُ الْمَعْرُوفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَيْثُ: (كَانَتْ ثَقِيفٌ حِلْفًا لِبَنِي عُقَيْلٍ) ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْعَضْبَاءِ وَأَنَّهَا كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، (وَ) كَذَا عُقَيْلٌ (ابْنُ خَالِدِ) الْأَيْلِيُّ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَ (كَذَا أَبُو) أَيْ: وَالِدُ (يَحْيَى) الْخُزَاعِيُّ الْبَصْرِيُّ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي مُسْلِمٍ، وَمَنْ عَدَا الثَّلَاثَةَ فِي الثَّلَاثَةِ فَعَقِيلٌ بِالْفَتْحِ مُكَبَّرٌ. وَمِنْهَا وَاقِدٌ (وَقَافُ وَاقِدٍ لَهُمْ) أَيْ: لِلثَّلَاثَةِ: لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ بِالْفَاءِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَمِنْهَا الْأَيْلِيُّ وَ (كَذَا) لَهُمْ (الْأَيْلِيُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ، نِسْبَةً إِلَى أَيْلَةَ الَّتِي عَلَى بَحْرِ الْقُلْزُمِ (لَا الْأُبُلِّي) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ لَامٍ مُشَدَّدَةٍ نِسْبَةً إِلَى الْأُبُلَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَيْسَ فِيهَا - كَمَا قَالَ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) - أَحَدٌ وَقَعَ مَنْسُوبًا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (سِوَى شَيْبَانَ) بْنِ فَرُّوخٍ شَيْخِ مُسْلِمٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 فَهُوَ أُبُلِّيٌّ، قَالَ: لَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَنْسُوبًا لَمْ يَلْحَقْ صَاحِبَ (الْمَشَارِقِ) مِنْهُ تَخْطِئَةٌ. وَمِنْهَا الْبَزَّارُ (وَالرَّا) الْمُهْمَلَةَ التَّالِيَةُ لِلزَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْقَصْرِ لِلْوَزْنِ (فَاجْعَلِ بَزَّارًا) بِهَا، اسْمٌ لِمَنْ يُخْرِجُ الدُّهْنَ مِنَ الْبَزْرِ وَيَبِيعُهُ، (وَانْسُبْ) كَذَلِكَ (ابْنَ صَبَّاحٍ) الْمُسَمَّى (حَسَنْ) أَحَدَ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، (وَ) كَذَا انْسُبْ (ابْنَ هِشَامٍ) الْمُقْرِئَ الْمُسَمَّى (خَلَفًا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ، بَعْدَهَا فَاءٌ، مِنْ شُيُوخِ مُسْلِمٍ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَا نَعْلَمُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ غَيْرَهُمَا، يَعْنِي مِمَّنْ يَقَعُ مَنْسُوبًا، وَإِلَّا فَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَبِشْرُ بْنُ ثَابِتٍ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، قَدْ نُسِبَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعَا فِي الْبُخَارِيِّ مَنْسُوبَيْنِ، وَمَا عَدَا الْمَذْكُورِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَبِالزَّائَيْنِ الْمَنْقُوطَتَيْنِ. وَمِنْهَا فِي الْأَنْسَابِ الْبَصْرِيُّ (ثُمَّ انْسُبَنْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ (بِالنُّونِ) مَعَ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ (سَالِمًا) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ التَّابِعِينَ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي مُسْلِمٍ، (وَعَبْدَ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ الْمُخَرَّجُ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُهُ عَنْ وَاثِلَةَ فِي أَعْظَمِ الْفِرَى، (وَمَالِكَ بْنَ الْأَوْسِ) بْنِ الْحَدَثَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، الْمُخَضْرَمَ الْمُخْتَلَفَ فِي صُحْبَتِهِ وَالْمُخَرَّجَ حَدِيثُهُ فِي الثَّلَاثَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمُ انْسُبْهُ (نَصْرِيًّا) نِسْبَةً إِلَى أَبِي الْقَبِيلَةِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، حَسْبَمَا (يَرِدْ) فِي الرِّوَايَةِ، وَأَوْسُ بْنُ الْحَدَثَانِ الصَّحَابِيُّ وَالِدُ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ نَصْرِيًّا، وَوَقَعَ ذِكْرُهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ (صَحِيحٍ مُسْلِمٍ) فَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَالْأَوَّلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مَوْلًى لِلثَّالِثِ، وَمَا عَدَاهُمْ فِي الثَّلَاثَةِ فَبَصْرِيٌّ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْكَسْرُ أَصَحُّهَا، كَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 تَقَدَّمَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ. وَمِنْهَا الثَّوْرِيُّ وَ (التَّوَّزِيُّ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ثُمَّ زَاءٍ مَكْسُورَةٍ نِسْبَةً إِلَى تَوَّزَ، وَيُقَالُ بِجِيمٍ بَدَلَ الزَّاءِ، بَلْدَةٌ بِفَارِسَ هُوَ (مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ) أَبُو يَعْلَى الْبَصْرِيُّ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الرِّدَّةِ حَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ ; لِكَوْنِ أَصْلِهِ مِنْهَا وَمَا عَدَاهُ فَبِالْمَثَلَّثَةِ وَالْوَاوِ السَّاكِنَةِ ثُمَّ رَاءٍ، وَمِنْهُمْ مِمَّا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَبُو يَعْلَى، مُنْذِرُ بْنُ يَعْلَى، وَيَشْتَدُّ الْتِبَاسُهُ بِالْأَوَّلِ ; لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكُنْيَةِ، وَفِي صُورَةِ النِّسْبَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ جَاءَ غَيْرَ مُسَمًّى. وَمِنْهَا الْحَرِيرِيُّ (وَفِي الْجُرَيْرِي) بِسُكُونِ آخِرِهِ (ضَمُّ جِيمٍ) مِنْهُ، مُصَغَّرٌ، نِسْبَةً لِجُرَيْرِ بْنِ عُبَادٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، (يَأْتِي) فِي الصَّحِيحَيْنِ (فِي اثْنَيْنِ) فَقَطْ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فِي (عَبَّاسٍ) هُوَ ابْنُ فَرُّوخٍ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَفِي (سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ إِيَاسٍ أَبُو مَسْعُودٍ الْمُخَرَّجُ حَدِيثُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَيَرِدُ ثَانِيهِمَا مُقْتَصِرًا عَلَى النِّسْبَةِ مِنْهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا حَيَّانُ هَذَا وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ فَهُمَا وَإِنْ نُسِبَا كَذَلِكَ، وَخَرَّجَ لَهُمَا مُسْلِمٌ فَلَمْ يَرِدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِيهِ مَنْسُوبًا، (وَبِحَا) مُهْمَلَةٍ مَعَ الْقَصْرِ (يَحْيَى بْنِ بِشْرِ) هُوَ ابْنُ كَثِيرٍ أَبُو زَكَرِيَّا الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ (الْحَرِيرِي) بِسُكُونِ آخِرِهِ أَيْضًا، (فُتِحَا) أَيِ: الْحَاءُ مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّنِ انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ. أَيْضًا قَلَّدَ فِيهِ عِيَاضًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وَهُوَ قَلَّدَ شَيْخَهُ الْجَيَّانِيَّ فِي تَقْيِيدِهِ، وَسَبَقَهُمُ الْحَاكِمُ وَالْكِلَابَاذِيُّ خَطَأٌ، فَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ إِنَّمَا هُوَ الْبَلْخِيُّ الْفَلَّاسُ الزَّاهِدُ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَطِيبُ ثُمَّ الْمِزِّيُّ وَشَيْخُنَا وَآخَرُونَ، وَلَهُمْ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْجَرِيرِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ نِسْبَةً لِجَدِّهِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ، وَهُوَ إِنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ صَحِيحِهِ، فَلَمْ يَقَعْ مَنْسُوبًا. وَمِنْهَا الْحِزَامِيُّ (وَانْسُبْ حِزَامِيًّا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالزَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ، كُلُّ مَنْ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ إِنْ عَمَّمَهُ، ابْنُ الصَّلَاحِ فَذَاكَ، (سِوَى مَنْ أُبْهِمَا) اسْمُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: (كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ) ، (فَاخْتَلَفُوا) فِي ضَبْطِهِ، فَالْأَكْثَرُ - كَمَا قَالَ عِيَاضٌ - ضَبَطُوهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالطَّبَرِيُّ بِكَسْرِهَا وَبِالزَّايِ، وَابْنُ مَاهَانَ بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، وَلَكِنِ اعْتَذَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي حَاشِيَةٍ أَمْلَاهَا عَلَى كِتَابِهِ عَنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَنْ وَقَعَ فِي أَنْسَابِ الرُّوَاةِ دُونَ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ ذِكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ تَبِعَهُ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ فِي (الْإِرْشَادِ) ، مَعَ أَنَّهُ قَدِ اسْتَثْنَاهُ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مُسْلِمٍ، نَعَمْ عَدَّ الْجَيَّانِيُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى بَنِي حَرَامٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَتَوَقَّفَ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وُرُودُ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَنْسُوبًا، وَكَذَا ذَكَرَ عِيَاضٌ - فِيمَنْ يَشْتَبِهِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ - فَرْوَةَ بْنَ نَعَامَةَ الْجُذَامِيَّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، الَّذِي أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً، وَهُوَ بَعِيدُ الِالْتِبَاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وَمِنْهَا الْحَارِثِيُّ (وَالْحَارِثِيُّ) بِالْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، (لَهُمَا) أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، لَيْسَ فِيهِمَا غَيْرُ ذَلِكَ، (وَسَعْدٌ) هُوَ ابْنُ نَوْفَلٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (الْجَارِي) بِجِيمٍ ثُمَّ يَاءِ نِسْبَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَامِلُهُ عَلَى الْجَارِ مَرْفَأِ السُّفُنِ بِسَاحِلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: هُوَ سَاحِلُ الْمَدِينَةِ. وَسَبَقَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ فَقَالَ: بُلَيْدَةٌ عَلَى السَّاحِلِ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيُحْمَلُ قَوْلِ الذَّهَبِيِّ: إِنَّهُ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ. عَلَيْهِ لِلْمَوْطَّأِ (فَقَطْ) مِنْ رِوَايَةٍ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْهُ. وَمِنْهَا هَمْدَانُ (وَفِي النَّسَبْ) إِلَى الْقَبِيلَةِ (هَمْدَانُ) بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَإِهْمَالِ الدَّالِ، وَمِنْهُمْ أَبُو أَحْمَدَ مَرَّارٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ كَعَبَّادٍ، ابْنُ حَمُّوَيْهِ الثَّقَفِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ مُقْتَصِرًا عَلَى كُنْيَتِهِ لَمْ يَنْسُبْهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، بَلْ وَلَا سَمَّاهُ فِي أَكْثَرِهَا، إِنَّمَا قَالَ فِي الشُّرُوطِ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، ثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى. وَلِذَا اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ، وَرَجَّحَ كَوْنَهُ الْمُرَّارَ بِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ عَنِ الْمُرَّارِ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ، لِلْحَدِيثِ الْمُخَرَّجِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالَّذِي بِالسُّكُونِ وَالْإِهْمَالِ هُوَ جَمِيعُ مَا فِي الثَّلَاثَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا - كَمَا لِعِيَاضٍ - مَنْ هُوَ مِنْ مَدِينَةِ هَمَذَانَ بِالتَّحْرِيكِ وَالْإِعْجَامِ بِبِلَادِ الْجَبَلِ، فَلَمْ يُنْسَبْ كَذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، نَعَمْ فِي الْبُخَارِيِّ عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ أَبُو فَرْوَةَ مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ الْهَمَذَانِيُّ وَجَدْتُهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِلنَّسَفِيِّ مَضْبُوطًا كَذَلِكَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ - أَيْ: مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ كَمَا كَتَبَهُ الْأَصِيلِيُّ بِخَطِّهِ، بَلْ وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ - الْإِهْمَالُ وَالسُّكُونُ. انْتَهَى بِمَعْنَاهُ. وَأَبُو فَرْوَةَ الْهَمْدَانِيُّ إِنَّمَا اسْمُهُ عُرْوَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَمَّا أَبُو فَرْوَةَ الْمُسَمَّى مُسْلِمَ بْنَ سَالِمٍ فَهُوَ نَهْدِيٌّ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْجَيَّانِيُّ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَبَا فَرْوَةَ الْوَاقِعَ فِي الصَّحِيحِ اسْمُهُ عُرْوَةُ، لَا مُسْلِمٌ، وَإِنْ وَقَعَ كَذَلِكَ مُسَمَّى فِيهِ ; إِذْ مُسْلِمٌ إِنَّمَا هُوَ نَهْدِيٌّ يُعْرَفُ بِالْجُهَنِيِّ، لَا هَمْدَانِيٌّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَلَى الصَّوَابِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ النِّسْبَةُ وَقَعَتْ فِي الْبُخَارِيِّ فَضَبْطُهَا مُتَعَيِّنٌ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْوَهْمُ فِيهَا وَهِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالسُّكُونِ، (وَهْوَ) فِي سَائِرِ الرُّوَاةِ (مُطْلَقًا) لَا بِقَيْدِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ (قِدْمًا) أَيْ قَدِيمًا (غَلَبْ) ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَاكُولَا، وَعِبَارَتُهُ: وَالْهَمْدَانِيُّ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ بِسُكُونِ الْمِيمِ أَكْثَرُ، وَبِفَتْحِهَا فِي الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَنَحْوُهُ قَالُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمُشْتَبِهِ: وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابَعُوهُمْ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ النَّوْعِ بَعْدَهُ أَنَّ ابْنَ شَهْرَدَارَ، خَلَّطَ فَأَدْخَلَ فِي تَارِيخِ هَمَذَانَ جَمْعًا مِنَ الْهَمْدَانِيِّنَ. وَمِمَّنْ خَرَجَ عَنِ الْغَالِبِ، وَسُكِّنَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الدَّمِ الْفَقِيهُ قَاضِي حَمَاةَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُقْدَةَ الْحَافِظُ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْحَكَمِ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ الْمُعْطِي بْنُ فَتُّوحٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّخَاوِيُّ، وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ أَصْحَابِ السِّلَفِيِّ، وَأَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَّافٍ، وَمَنْصُورُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَافِظُ، وَآخَرُونَ، فَكُلُّهُمْ هَمْدَانِيُّونَ بِالسُّكُونِ وَالْإِهْمَالِ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنَ الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَأَعْرَضَ الْمُصَنِّفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 عَنْ ذِكْرِهِ لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ سِلْمٌ مَعَ سَالِمٍ، وَسَلْمَانُ مَعَ سُلَيْمَانَ، وَسِنَانُ مَعَ شَيْبَانَ. [الْمُتَّفِقُ وَالْمُفْتَرِقُ] [ المصنفات فيه ] الْمُتَّفِقُ وَالْمُفْتَرِقُ. 926 - وَلَهُمُ الْمُتَّفْقُ وَالْمُفْتَرِقُ ... مَا لَفْظُهُ وَخَطُّهُ مُتَّفِقُ 927 - لَكِنْ مُسَمَّيَاتُهُ لِعِدَّهْ ... نَحْوُ ابْنِ أَحْمَدَ الْخَلِيلِ سِتَّهْ 928 - وَأَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَجَدُّهْ ... حَمْدَانُ هُمْ أَرْبَعَةٌ تَعُدُّهْ 929 - وَلَهُمُ الْجَوْنِي أَبُو عِمْرَانَا ... اثْنَانِ وَالْآخَرُ مِنْ بَغْدَانَا 930 - كَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ... هُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ ذُو اشْتِبَاهِ 931 - ثُمَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ لَهُمْ ... ثَلَاثَةٌ قَدْ بَيَّنُوا مَحَلَّهُمْ 932 - وَصَالِحٌ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمُ ... ابْنُ أَبِي صَالِحٍ اتْبَاعٌ هُمُ 933 - وَمِنْهُ مَا فِي اسْمٍ فَقَطْ وَيُشْكِلُ ... كَنَحْوِ حَمَّادٍ إِذَا مَا يُهْمَلُ 934 - فَإِنْ يَكُ ابْنُ حَرْبٍ اوْ عَارِمُ قَدْ ... أَطْلَقَهُ فَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ وَرَدْ 935 - عَنِ التَّبُوذَكِيِّ أَوْ عَفَّانِ ... أَوِ ابْنِ مِنْهَالٍ فَذَاكَ الثَّانِي 936 - وَمِنْهُ مَا فِي نَسَبٍ كَالْحَنَفِي ... قَبِيلًا اوْ مَذْهَبًا اوْ بِالْيَا صِفِ (الْمُتَّفِقُ وَالْمُفْتَرِقُ) وَهِيَ نَوْعٌ جَلِيلٌ يَعْظُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، صَنَّفَ فِيهِ الْخَطِيبُ كِتَابًا نَفِيسًا شَرَعَ شَيْخُنَا فِي تَلْخِيصِهِ فَكَتَبَ مِنْهُ حَسْبَمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ يَسِيرًا مَعَ قَوْلِهِ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: إِنَّهُ لَخَّصَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةَ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَكْمِلَتِهِ مَعَ اسْتِدْرَاكِ أَشْيَاءَ فَاتَتْهُ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ: الْأَمْنُ مِنَ اللَّبْسِ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْأَشْخَاصَ شَخْصًا وَاحِدًا عَكْسَ الْمَذْكُورِ بِنُعُوتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، الْمَاضِي شَرْحُهُ، وَإِنَّ لِلْخَطِيبِ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 (الْمُوَضِّحَ لِأَوْهَامِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ) ، وَرُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُ الْمُشْتَرِكَيْنِ ثِقَةً وَالْآخَرُ ضَعِيفًا، فَيُضَعَّفُ مَا هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ يُصَحَّحُ مَا هُوَ ضَعِيفٌ. (وَلَهُمُ) أَيْ: لِلْمُحَدِّثِينَ (الْمُتِّفِقُ) وَ (الْمُفْتَرِقُ) مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ (مَا لَفْظُهُ وَخَطُّهُ مُتَّفِقٌ لَكِنْ) مُفْتَرِقٌ إِذْ كَانَتْ (مُسَمَّيَاتُهُ لِعِدَّهْ) وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ الْمُشْتَرَكَ - أَعْنِي اللَّفْظِيَّ لَا الْمَعْنَوِيَّ - بَلْ لَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُشْتَرِكُ وَضْعًا، وَالْمُفْتَرِقُ صُقْعًا، وَقَدْ زَلَّ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكِبَارِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ فِي كُلِّ عِلْمٍ، وَالْمُهِمُّ مِنْهُ مَنْ يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ الِاشْتِبَاهِ لِأَجْلِ التَّعَاصُرِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ فِي بَعْضِ الشُّيُوخِ أَوْ فِي الرُّوَاةِ [ أقسامه ] [الْأَوَّلُ أَنْ تَتَّفِقَ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ] وَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَّفِقَ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ خَاصَّةً نَحْوُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ اثْنَانِ فِي الصَّحَابَةِ ; أَشْهَرُهُمَا الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ الْمُلَقَّبُ سَيْفَ اللَّهِ، وَالْآخَرُ أَنْصَارِيٌّ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَأَبْلَى فِيهَا بَلَاءً شَدِيدًا، وَكَذَا فِيمَنِ اسْمُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَذُكِرَ لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَكِنِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَآخَرُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْوَلِيدَ جَدُّهُ إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِكَمَالِهَا عِنْدَ الْخَطِيبِ. وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ اثْنَانِ: إِمَامُ الْمَذْهَبِ، وَآخَرُ كُوفِيٌّ مُقِلٌّ قَرِيبٌ الطَّبَقَةِ مِنْهُ، لَا يُؤْمَنُ الْتِبَاسُهُ بِهِ عَلَى مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالرِّجَالِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْإِمَامَ سَمِعَ مِنْهُ شَيْخُهُ الزُّهْرِيُّ حَدِيثَ الْفُرَيْعَةِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ قَائِلًا: حَدَّثَنِي فَتًى يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ مَنْ رَأَى مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَبَحِّرٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، جَزَمَ بِأَنَّهُ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَ (نَحْوُ ابْنِ أَحْمَدَ الْخَلِيلِ سِتَّهْ) حَسْبَمَا ذَكَرَهُمُ ابْنُ الصَّلَاحِ، اقْتَصَرَ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ، فَالْأَوَّلُ اسْمُ جَدِّهِ عَمْرُو بْنُ تَمِيمٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 الْفَرَاهِيدِيُّ الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ صَاحِبُ الْعَرُوضِ وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَهُ، وَكِتَابِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ وَشَيْخُ سِيبَوَيْهِ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةَ مِائَةٍ، يَرْوِي عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ وَآخَرِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَمَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ أَوْ بِضْعٍ وَسِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ أَوَّلَ مَنْ تَسَمَّى فِي الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَالْمُبَرِّدُ، وَعَزَاهُ شَيْخُنَا كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا ; لِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ زَوْجِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، وَالْمُكَنَّى بِأَبِي عَمْرٍو، فَقَدْ سَمَّاهُ كَذَلِكَ النَّسَائِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ عَلَّامَةً بِأَنْسَابِهِمْ عَنْهُ، وَتَبِعَهُ الذَّهَبِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، بِحَيْثُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ شِهَابٍ الْأَوْسِيِّ، سَمِعَ مِنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَدِيثًا فِي السُّجُودِ. وَبِأَحْمَدَ أَبِي مُحَمَّدٍ الَّذِي كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ مَسْعُودُ بْنُ زَيْدِ بْنِ سُبَيْعٍ، لَا أَحْمَدُ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيِّ، ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِيمَنْ وَلَدَتْهُ أَسْمَاءُ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيِّ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ، وَاسْتَدْرَكَهُ ابْنُ فَتْحُونَ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّ الْوَاقِدِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ أَسْمَاءَ وَلَدَتْهُ بِالْحَبَشَةِ، وَبِأَحْمَدَ وَالِدِ أَبِي السَّفَرِ سَعِيدٍ فِيمَا سَمَّاهُ ابْنُ مَعِينٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِ يَحْمَدُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. وَالثَّانِي: بَصْرِيٌّ اسْمُ جَدِّهِ بِشْرُ بْنُ الْمُسْتَنِيرِ أَبُو بِشْرٍ الْمُزَنِيُّ وَيُقَالُ: السُّلَمِيُّ. رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُمَيْنَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الْمُسْنَدِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا فِي الثِّقَاتِ، وَمِمَّنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا غَيْرَهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَطِيبُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، كَمَا قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ الصَّوَابُ. قَالَ - وَقَوْلُ الْخَطِيبِ -: إِنَّ الْمُسْنَدِيَّ مَا أَدْرَكَ الْأَوَّلَ. وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَرَّخَ بِهِ وَفَاةَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ أَقْدَمَ شَيْخٍ لِلْمُسْنَدِيِّ، وَهُوَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، مَاتَ بَعْدَ الْخَلِيلِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ تَزِيدُ عَلَى عَشْرَةِ سِنِينَ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ أَعْلَمُ بِشَيْخِهِ الْمُسْنَدِيِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي الرُّوَاةِ عَنِ الْأَوَّلِ، هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا جَنَحَ إِلَى الِافْتِرَاقِ ; لِكَوْنِ اشْتِرَاكِهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا لَا يَمْنَعُهُ، وَيَتَأَيَّدُ بِافْتِرَاقِهِمَا فِي اسْمِ الْجَدِّ. وَالثَّالِثُ: بَصْرِيٌّ أَيْضًا يَرْوِي عَنْ عِكْرِمَةَ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ الْهَرَوِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ (مُشْتَبِهِ أَسْمَاءِ الْمُحَدِّثِينَ) فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَلْقِيحِهِ عَنْ خَطِّ شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْهُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَ ; فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ. بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: أَخْلَقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا ; فَإِنَّ أَقْدَمَ مَنْ يُقَالُ لَهُ: الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ. الْأَوَّلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ لَقِيَ عِكْرِمَةَ، بَلْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَقِيَ أَصْحَابَ عِكْرِمَةَ ; كَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ أَسْقَطَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِكْرِمَةَ، فَظَنَّهُ أَبُو الْفَضْلِ آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ تَسَمَّ أَحْمَدَ مِنْ بَعْدِ قَرْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَالِدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الْأَوَّلِ، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ مَا فِيهِ. وَالرَّابِعُ: اسْمُ جَدِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَلِيلِ أَبُو سَعِيدٍ السِّجْزِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ قَاضِي سَمَرْقَنْدَ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ صَاعِدٍ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمْ، سَمِعَ مِنْهُ الْحَاكِمُ، وَذَكَرَهُ فِي (تَارِيخِ نَيْسَابُورَ) ، مَاتَ بِسَمَرْقَنْدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَالْخَامِسُ: اسْمُ جَدِّهِ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، وَيُكَنَّى أَيْضًا أَبَا سَعِيدٍ، الْبُسْتِيُّ الْمُهَلَّبِيُّ الشَّافِعِيُّ الْقَاضِي، ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ وَمِنْ أَحْمَدَ بْنِ الْمُظَفَّرِ الْبَكْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، حَدَّثَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَالسَّادِسُ: اسْمُ جَدِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَيُكَنَّى أَيْضًا أَبَا سَعِيدٍ، وَهُوَ أَيْضًا بُسْتِيٌّ فَقِيهٌ شَافِعِيٌّ، فَاشْتَرَكَ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي أَشْيَاءَ ; وَلِذَا جَوَّزَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِيَّاهُ، وَلَكَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي تَارِيخِ الْأَنْدَلُسِ الْمُسَمَّى بِالْجَذْوَةِ، وَابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الصِّلَةِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدِمَ الْأَنْدَلُسَ مِنَ الْعِرَاقِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ بِمِصْرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمَالِينِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَائِينِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَحَكَى عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ خَزْرَجٍ أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْعُذْرِيُّ، وَكَانَ أَدِيبًا نَبِيلًا ثَبَتًا صَدُوقًا مُتَصَرِّفًا فِي عُلُومٍ. هَكَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى سِتَّةٍ، وَلَكِنَّ الرَّاوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ السَّابِقَ، التَّرَدُّدُ فِيهِ لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُ بَدَلَهُ آخَرُ، أَصْبَهَانِيٌّ رَوَى عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 تَبِعَ فِيهِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ تَبِعَ أَبَا الْفَضْلِ الْهَرَوِيَّ، وَالصَّوَابُ فِي اسْمِ أَبِيهِ مُحَمَّدٌ، لَا أَحْمَدُ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي تَارِيخَيْ أَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْعِجْلِيُّ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ التَّاسِعِ وَالْمِائَةِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ صَحِيحِهِ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ بِوَاسِطٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ الْكُرْدِيِّ حَدِيثًا، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ بِوَاسِطٍ أَحَادِيثَ أَوْرَدَهَا مُفَرَّقَةً فِي كِتَابِهِ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَا يُغْتَرُّ بِمَا وَقَعَ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَزَادَ الْمُصَنِّفُ سَابِعًا، هُوَ بَغْدَادِيٌّ رَوَى عَنْ سَيَّارِ بْنِ حَاتِمٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ النَّجَّارِ فِي الذَّيْلِ. وَثَامِنًا: وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُّ الشَّاعِرُ رَوَى عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ الطَّحَّانِ الْحَافِظُ، وَذَكَرَهُ فِي ذَيْلِهِ لِتَارِيخِ مِصْرَ، وَقَالَ: مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَتَاسِعًا: اسْمُ جَدِّهِ عَلِيٌّ وَيُكَنَّى أَبَا طَاهِرٍ الْجَوْسَقِيَّ الصَّرْصَرِيَّ الْخَطِيبَ بِهَا، سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَابْنِ الْبَطِيِّ وَشُهْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ النَّجَّارِ وَابْنُ الدُّبَيْثِيِّ، وَذَكَرَاهُ فِي ذَيْلِهِمَا، وَمَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَوَجَدْتُ مِنْ نَمَطِ مَنْ ذَكَرَهُمُ الْمُؤَلِّفُ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَاحِدٌ اسْمُ جَدِّهِ رُوزْبَةُ حَنَفِيٌّ تَفَقَّهَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامِغَانِيِّ، وَسَمِعَ بِأَصْبَهَانَ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْمُظَفِّرِ بْنِ أَحْمَدَ الْخُوَارِزْمِيِّ، رَوَى عَنْهُ السَّلَفِيُّ، وَآخَرُ شَيْبَانِيٌّ أَنْشَدَ الْبَاخُرْزِيَّ فِي دُمْيَةِ الْقَصْرِ لِوَلَدِهِ الْمُوَفَّقِ قَصِيدَةً مَدَحَ بِهَا نِظَامَ الْمُلْكِ، وَيُحَرَّرُ كَوْنُهُ غَيْرَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَآخَرُ سَكُونِيٌّ لَبْلِيٌّ مَغْرِبِيٌّ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَآخَرُ اسْمُ جَدِّهِ خَلِيلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 بْنُ بَادِرِ بْنِ عُمَرَ وَيُكَنَّى أَبَا الصَّفَا مِنْ شُيُوخِ الدِّمْيَاطِيِّ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فِي آخَرِينَ مِمَّنْ عَاصَرْنَاهُمْ ; كَابْنِ الْغَرْزِ الشَّاعِرِ الْمُسَمَّى جَدُّهُ خَلِيلًا أَيْضًا، وَابْنِ جُمْعَةَ الْحُسَيْنِيِّ الْعَدْلِ، وَابْنِ عِيسَى الْقَيْمُرِيِّ وَقَدْ كَتَبَ الْكَمَالُ بْنُ الْبَارِزِيِّ عَلَى دِيوَانِ صَاحِبِ حِصْنِ كَيْفَا الْعَادِلِ خَلِيلِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحْمَدَ بْنِ الْعَادِلِ سُلَيْمَانَ الْأَيُّوبِيِّ: أَبْحُرُ الشِّعْرِ إِنْ غَدَتْ مِنْكَ فِي قَبْضَةِ الْيَدِ غَيْرُ بِدْعٍ فَإِنَّهَا لِلْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَتَتَبُّعُ الْمُتَبَاعِدِينَ فِي الطَّبَقَةِ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ طَائِلٍ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا فِي (مُخْتَصَرِ التَّهْذِيبِ) : وَأَمَّا مَنْ يُقَالُ لَهُ: الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ غَيْرُ الْعَرُوضِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ عَصْرِهِمَا، لَوْ صَحَّ فَجَمَاعَةٌ تَزِيدُ عِدَّتُهُمْ عَلَى الْعَشَرَةِ، قَدْ ذَكَرْتُهُمْ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى (عُلُومِ الْحَدِيثِ) لِابْنِ الصَّلَاحِ، سَبَقَنِي فِي النُّكَتِ إِلَى نَحْوِ النِّصْفِ. انْتَهَى. وَمَا وَقَفْتُ مِنَ النُّكَتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى الْمَقْلُوبِ خَاصَّةً. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى اثْنَا عَشَرَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ تِسْعَةٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَمَانِيَةٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وَعُمَرُ بْنُ خَطَّابٍ سَبْعَةٌ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ سِتَّةٌ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ خَمْسَةٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَرْبَعَةٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ ثَلَاثَةٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ اثْنَانِ. [وَالثَّانِي أَنْ تَتَّفِقَ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ] (وَ) الثَّانِي أَنْ تَتَّفِقَ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، فَمِنْهُ (أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَجَدُّهُ حَمْدَانُ هُمْ أَرْبَعَةٌ) مُتَعَاصِرُونَ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ (تَعُدُّهُ) أَيِ: الْمُسَمَّى، كَذَلِكَ أَشْهَرُهُمُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ مَالِكُ بْنُ شَبِيبٍ، وَيُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ الْبَغْدَادِيَّ الْقَطِيعَيَّ، لِسُكْنَاهُ قَطِيعَةَ الدَّقِيقِ، كَانَ مُسْنَدَ الْعِرَاقِ فِي زَمَنِهِ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْمُسْنَدَ وَالتَّأْرِيخَ وَالزُّهْدَ وَالْمَسَائِلَ كُلَّهَا لِأَبِيهِ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْحُفَّاظُ ; كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ شَاهِينَ وَالْحَاكِمِ وَالْبَرْقَانِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَمَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةَ، وَثَانِيهِمُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ عِيسَى، وَيُكَنَّى أَيْضًا أَبَا بَكْرٍ السَّقْطَيَّ الْبَصَرِيَّ، يَرْوِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ الْمُثَنَّى الْعَنْبَرِيِّ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ وَآخَرُونَ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَقَدْ جَازَ الْمِائَةَ، وَقَدْ تَجِيءُ رِوَايَتُهُ عَنِ الدَّوْرَقِيِّ غَيْرَ مَنْسُوبٍ فَيَشْتَدُّ اشْتِبَاهُهُ بِالْأَوَّلِ، وَثَالِثُهُمْ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ الطَّرَسُوسِيَّ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ الطَّرَسُوسِيَّيْنِ، وَعَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْخَصِيبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَصِيبِيُّ الْمِصْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَابِعُهُمُ الدِّينَوَرِيُّ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ الرَّوْحِيِّ نِسْبَةً لِشَيْخِهِ رَوْحٍ لِإِكْثَارِهِ عَنْهُ، وَعَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ شَاذَانَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ ثَلَاثَةٌ مُتَعَاصِرُونَ مَاتُوا فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُمْ فِي عَشْرِ الْمِائَةِ، أَوَّلُهُمُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ الْهَيْثَمُ بْنُ عِمْرَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ الْبُنْدَارُ مِنْ شُيُوخِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَثَانِيهِمُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ كِنَانَةُ، وَيُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ أَيْضًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 الْبَغْدَادِيُّ الْمُؤَدِّبُ شَيْخٌ لِبِشْرِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَاتِنِيِّ، وَثَالِثُهُمُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ مَطَرٌ، وَيُكَنَّى أَبَا عَمْرِو بْنَ مَطَرٍ النَّيْسَابُورِيَّ الْحَافِظَ مِنْ شُيُوخِ الْحَاكِمِ. وَفِي الْحُفَّاظِ اثْنَانِ مِنَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ أَيْضًا مِمَّنْ شَارَكَهُمْ فِي الِاسْمِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَمَاتَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوَّلُهُمَا وَأَشْهَرُهَا اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ سَهْلُ بْنُ شَاكِرٍ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ الْمُصَنِّفُ الشَّهِيرُ، وَالْآخَرُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ نُوحٌ أَبُو نُعَيْمٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَقَرِيبٌ مِنْ طَبَقَتِهِمَا آخَرُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ هِشَامُ بْنُ قَسِيمِ بْنَ مَلَّاسٍ أَبُو الْعَبَّاسِ النُّمَيْرِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْمُحَدِّثُ صَاحِبُ الْجُزْءِ الشَّهِيرِ، مَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَقَبْلَهُمَا بِيَسِيرٍ آخَرُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ خَازِمٌ، وَيُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ الْخَازِمَيَّ الْجُرْجَانِيَّ أَحَدَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَكَذَا فِي الرُّوَاةِ آخَرُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ كَامِلٌ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَضْرَمِيُّ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَآخَرُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ جَعْفَرُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ، وَيُعْرَفُ بِأَبِي قِيرَاطٍ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآخَرُ اسْمُ جَدِّ أَبِيهِ فَضَالَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْقَارِئُ، مَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآخَرَانِ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِينَ اسْمُ جَدِّ أَبِي أَحَدِهِمَا عِصَامٌ الْأَنْصَارِيُّ النَّسَفِيُّ، وَالْآخَرُ الْمُسْتَفَاضُ أَبُو الْحَسَنِ الْفِرْيَابِيُّ فِي آخَرِينَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلَهُ مِمَّنْ كُلُّهُمْ مِنَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، لَا نُطِيلُ بِهِمْ. وَمِثْلُ هَذَا الْقِسْمِ لَكِنْ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي النِّسْبَةِ أَيْضًا مِمَّا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ قِسْمًا آخَرَ ; كَمُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ النَّيْسَابُورِيِّ، اثْنَانِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ يَرْوِي الْحَاكِمُ عَنْهُمَا ; أَحَدُهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، وَالْآخَرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْرَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 الشَّيْبَانِيُّ الْحَافِظُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ السُّعُودِيُّ، اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا شَافِعِيٌّ أَخَذْتُ عَنْهُ، وَالْآخَرُ حَنَفِيٌّ أَخَذَ عَنْهُ الْفِقْهَ بَعْضُ مَنْ أَخَذْتُ عَنْهُ، وَهُوَ أَقْدَمُ وَفَاةً مِنَ الْأَوَّلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا شَيْئًا مِنْ مَسْمُوعِهِ فِي سَمَاعَاتِ الْأَوَّلِ، وَنَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ. [الثَّالِثُ أَنْ تَتَّفِقَ الْكُنْيَةُ وَالنِّسْبَةُ مَعًا] وَالثَّالِثُ: أَنْ تَتَّفِقَ الْكُنْيَةُ وَالنِّسْبَةُ مَعًا (وَلَهُمُ) أَيْ: لِلْمُحَدِّثِينَ فِي أَمْثِلَتِهِ (الْجَوْنِي) بِفَتْحِ الْجِيمِ ثُمَّ وَاوٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ (أَبُو عِمْرَانَا اثْنَانِ) كُلٌّ مِنْهُمَا بَصْرِيٌّ، أَحَدُهُمَا اسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ تَابِعِيٌّ شَهِيرٌ، مَاتَ قَبْلَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ، (وَالْآخَرُ مِنْ بَغْدَانَا) بِنُونٍ بَعْدَ مُعْجَمَةٍ عَلَى إِحْدَى اللُّغَاتِ فِي بَغْدَادَ، مَدِينَةِ السَّلَامِ وَقُبَّةِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْإِمَامِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْأَيَّامِ، وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، رَوَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَطَبَقَتِهِ، وَعَنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي آخَرِينَ، لَكِنَّهُمَا مَعَ تَبَاعُدِهِمَا نِسْبَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَالْأَوَّلُ لِلْجَوْنِ بَطْنٌ مَنِ الْأَزْدِ، وَالْآخَرُ وَوُرُودُهُ كَذَلِكَ قَلِيلٌ تَخْفِيفًا، وَإِلَّا فَالْأَكْثَرُ فِيهِ الْجُوَيْنِيُّ بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَتُهُ إِلَى نَاجِيَةٍ، وَكَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْعَنْسِيُّ اثْنَانِ، أَقْدَمُهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ، بَقِيَ إِلَى قَرِيبِ التِّسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَالْآخَرُ وَهُوَ الزَّاهِدُ الشَّهِيرُ، اسْمُهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، تَعَاصَرَ مَعَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ اثْنَانِ، ذَكَرَهُمَا الْخَطِيبُ. [مُتَّفَقٌ مَعَهُ فِي الِاسْمِ فِي الْجُمْلَةِ وَفِي النِّسْبَةِ] (كَذَا) أَيْ: مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ مَعَهُ فِي الِاسْمِ فِي الْجُمْلَةِ وَفِي النِّسْبَةِ وَهُوَ الرَّابِعُ (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ) ، أَحَدُهُمَا بِالنَّسَبِ، وَاسْمُ جَدِّهِ الْمُثَنَّى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي الثِّقَةُ صَاحِبُ الْجُزْءِ الْعَالِي الشَّهِيرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَالْآخَرُ بِالْوَلَاءِ وَاسْمُ جَدِّهِ زِيَادٌ أَبُو سَلَمَةَ ضَعِيفٌ جِدًّا مُقِلٌّ يُقَالُ: إِنَّهُ جَازَ الْمِائَةَ. وَهُمَا لِانْتِسَابِهِمَا كَذَلِكَ، بَلْ وَلِكَوْنِهِمَا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَاشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَقُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، (ذُو اشْتِبَاهٍ) وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ عَلَيْهِمَا، وَإِلَّا فَلِأَوَّلِهِمَا قَرِيبٌ شَارَكَهُ فِي الِاسْمِ وَالْأَبِ وَالنِّسْبَةِ، وَفِي كَوْنِهِ بَصْرِيًّا غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ، وَاسْمُ جَدِّهِ حَفْصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ صَاعِدٍ وَآخَرُونَ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَكَذَا فِي الرُّوَاةِ آخَرُ إِلَّا أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ فَضْلًا عَنِ الثَّالِثِ، تَابِعِيٌّ مَدَنِيٌّ اسْمُ جَدِّهِ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْعِجْلِيُّ. [الْخَامِسُ أَنْ تَتَّفِقَ كُنَاهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ] وَالْخَامِسُ: وَلَمْ يُفْرِدْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، بَلْ أَدْرَجَهُ فِي الثَّالِثِ ; لِكَوْنِهِ كَمَا قَالَ مِمَّا يُقَارِبُهُ أَنْ تَتَّفِقَ كُنَاهُمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ ; كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَمَاعَةً، (ثُمَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، (لَهُمْ) أَيْ: لِلْمُحَدِّثِينَ مِنَ الرُّوَاةِ كَذَلِكَ (ثَلَاثَةٌ) فَقَطْ لَا رَابِعَ لَهُمْ، (قَدْ بَيَّنُوا مَحَلَّهُمْ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِمْ، أَوَّلُهُمُ الْكُوفِيُّ الْقَارِئُ الشَّهِيرُ رَاوِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَاسْمُ جَدِّهِ سَالِمٌ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الْكُنَى الْخِلَافَ فِي اسْمِهِ، وَكَوْنَ الصَّحِيحِ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ وَأَنَّهُ عُمِّرَ نَحْوَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَثَانِيهِمْ حِمْصِيٌّ يَرْوِي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ شِبَاكٍ الشَّامِيِّ، وَعَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ هُوَ وَشَيْخُهُ مَجْهُولَانِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَثَالِثُهُمْ سُلَمِيٌّ مَوْلَاهُمْ بَاجُدَّائِيٌّ، وَاسْمُهُ حُسَيْنٌ، لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الْغَرِيبِ كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِيهِ، رَوَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، وَعَنْهُ عَلِيُّ بْنُ جَمِيلٍ الرَّقِّيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 فَاضِلًا أَدِيبًا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ بِبَاجُدَّا، قَالَهُ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ. [السَّادِسُ ضِدُّ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ أَسْمَاؤُهُمْ وَكُنَى آبَائِهِمْ] وَالسَّادِسُ ضِدُّ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ أَسْمَاؤُهُمْ وَكُنَى آبَائِهِمْ، (وَ) مِنْهُ (صَالِحٌ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمُ ابْنُ) أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمْ وَلَدُ (أَبِي صَالِحٍ اتْبَاعٌ) بِالنَّقْلِ (هُمُ) ، فَأَوَّلُهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ابْنَةِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، وَاسْمُ أَبِي صَالِحٍ نَبْهَانُ، وَقِيلَ: إِنَّ نَبْهَانَ جَدُّهُ، فَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: هُوَ صَالِحُ بْنُ صَالِحِ بْنِ نَبْهَانَ، وَنَبْهَانُ يُكَنَّى أَبَا صَالِحٍ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: نَبْهَانُ أَبُو صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، هُوَ جَدُّ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ; لِأَنَّهُ صَالِحُ بْنُ صَالِحِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ. كَذَا قَالَ يَرْوِي عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَثَانِيهِمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيُّ السَّمَّانُ، وَاسْمُ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانُ يَرْوِي عَنِ أَنَسٍ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَثَالِثُهُمُ السَّدُوسِيُّ، يَرْوِي عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ عَمْرٍو، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ، وَرَابِعُهُمُ الْكُوفِيُّ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَاسْمُ أَبِي صَالِحٍ مِهْرَانُ، يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشَ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَجَهَّلَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْخَطِيبُ، وَفِيمَنْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ آخَرُ أَسَدِيٌّ يَرْوِي عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَعَنْهُ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدِيثُهُ فِي النَّسَائِيِّ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَتَرَكَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ ; لِتَأَخُّرِهِ، لَا سِيَّمَا وَبَعْضُهُمْ سَمَّى وَالِدَهُ صَالِحًا، لَكِنْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ. وَكَذَا بَعْدَهُمْ آخَرُ يَرْوِي عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، وَعَنْهُ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخَفَّافُ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 (وَمِنْهُ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ وَهُوَ سَابِعُ الْأَقْسَامِ (مَا) الِاتِّفَاقُ فِيهِ (فِي اسْمٍ) أَوْ فِي كُنْيَةٍ أَوْ فِي نِسْبَةٍ (فَقَطْ) وَيَقَعُ فِي السَّنَدِ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بِاسْمِهِ أَوْ بِكُنْيَتِهِ أَوْ بِنِسْبَتِهِ خَاصَّةً مُهْمَلًا مِنْ ذِكْرِ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنِ الْمُشَارَكَةِ لَهُ فِيمَا وَرَدَ بِهِ فَيَلْتَبِسُ (وَيُشْكِلُ) مَرَّ فِيهِ، وَلِلْخَطِيبِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ كِتَابٌ مُفِيدٌ سَمَّاهُ (الْمُكْمَلَ فِي بَيَانِ الْمُهْمَلِ) ; وَلِذَا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُفْرَدَ بِنَوْعٍ مُسْتَقِلٍّ خُصُوصًا، وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ عَكْسُ الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ فِي كَوْنِهِ يُخْشَى مِنْهُ ظَنُّ الْوَاحِدِ اثْنَيْنِ، (كَنَحْوِ حَمَّادٍ إِذَا مَا يُهْمَلُ) مِنْ نِسْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِحَسَبِ مَنْ أَطْلَقَهُ، (فَإِنْ يَكُ ابْنُ حَرْبٍ) هُوَ سُلَيْمَانُ (أَوْ عَارِمُ) بِمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ لَقَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ السَّدُوسِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ (قَدْ أَطْلَقَهُ) أَيْ: مُهْمَلًا (فَهْوَ) كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ وَالرَّامَهُرْمُزِيُّ ثُمَّ الْمِزِّيُّ (ابْنُ زَيْدٍ) حَمَّادٌ (أَوْ وَرَدْ) مُطْلَقًا أَيْضًا (عَنْ) وَاحِدٍ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ (التَّبُوذَكِيِّ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، نِسْبَةً فِي الْبَصْرَةِ ; لِبَيْعِ السَّمَاذِ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَهُوَ السَّرْجِينُ وَالرَّمَادُ يُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ. وَقَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: هُوَ عِنْدَنَا الَّذِي يَبِيعُ مَا فِي بُطُونِ الدَّجَاجِ مِنَ الْكَبِدِ وَالْقَلْبِ وَالْقَانِصَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا جُوزِيَ خَيْرًا مَنْ نَسَبَنِي كَذَلِكَ، أَنَا مَوْلًى لَبَنِي مِنْقَرٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ دَارِي قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهَا فَنُسِبَتْ كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ اشْتَرَى بِهَا دَارًا فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، (أَوْ) عَنْ (عَفَّانِ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ الصَّفَّارُ (أَوِ ابْنِ مِنْهَالٍ) هُوَ حَجَّاجٌ أَوْ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 الصَّلَاحِ، وَلَا نَظَمَهُ الْمُؤَلِّفُ، (فَذَاكَ الثَّانِي) أَيْ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَطْوِيُّ فِي الذِّكْرِ، وَوُصِفَ بِالثَّانِي ; لِتَأَخُّرِهِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ بِالْإِشَارَةِ وَإِلَّا فَابْنُ سَلَمَةَ أَقْدَمُ وَفَاةً مِنْهُ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ التَّبُوذَكِيِّ، الرَّامَهُرْمُزِيُّ، وَكَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَزَادَ أَنَّ التَّبُوذَكِيَّ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْهُ خَاصَّةً، وَمِنَ ابْنِ مِنْهَالٍ الذُّهْلِيُّ وَالرَّامَهُرْمُزِيُّ وَالْمِزِّيُّ، وَمِنْ عَفَّانَ هُوَ نَفْسُهُ كَمَا رَوَاهُ الذُّهْلِيُّ عَنْهُ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّهُ الصَّوَابُ. وَقَوْلُ الرَّامَهُرْمُزِيِّ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا. وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ لَا يَجِيءُ بَعْدَ نَصِّهِ عَلَى اصْطِلَاحِهِ وَإِنْ مَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِحِكَايَةِ قَوْلَيْنِ وَمِنْ هَدِيَّةِ الْمِزِّيِّ، وَقَدْ نَظَمَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ تِلْمِيذُ النَّاظِمِ فَقَالَ: كَذَا إِذَا أَطْلَقَهُ هَدَّابُ ... هُوَ ابْنُ خَالِدٍ فَلَا يُرْتَابُ . وَمِنْ أَمْثِلَةٍ ذَلِكَ كَمَا عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِطْلَاقُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُكِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَ يَوْمًا فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: ابْنُ مَنْ؟ فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا تَرْضَوْنَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ حَتَّى أَقُولَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَنْظَلِيُّ الَّذِي مَنْزِلُهُ فِي سِكَّةِ صُغْدٍ، ثُمَّ قَالَ سَلَمَةُ: إِذَا قِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بِمَكَّةَ، فَهُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ بِالْمَدِينَةِ فَابْنُ عُمَرَ، أَوْ بِالْكُوفَةِ فَابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ بِالْبَصْرَةِ فَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ بِخُرَاسَانَ فَابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ: إِذَا قَالَهُ الْبَصْرِيُّ فَابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَوِ الْمَكِّيُّ فَابْنُ عَبَّاسٍ. انْتَهَى. فَاخْتَلَفَ الْقَوْلَانِ فِي إِطْلَاقِ الْبَصْرِيِّ وَالْمَكِّيِّ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: إِذَا قَالَهُ الشَّامِيُّ فَابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَوِ الْمَدَنِيُّ فَابْنُ عُمَرَ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ الْمِصْرِيِّينَ فِي إِطْلَاقِ عَبْدِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَإِطْلَاقِ شُعْبَةَ أَبَا جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; فَإِنَّهُ يُرِيدُ نَصْرَ بْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 عِمْرَانَ الضُّبَعِيَّ، وَهُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَإِنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ سَبْعَةٍ مِمَّنْ يَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلِّهُمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّاءِ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ وَاحِدًا مِنْهُمْ بَيَّنَهُ وَنَسَبَهُ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِ الْحُفَّاظِ، وَيَتَبَيَّنُ الْمُهْمَلُ وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّظَرِ فِي الرِّوَايَاتِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي مُمَيَّزًا فِي بَعْضِهَا، أَوْ بِاخْتِصَاصِ الرَّاوِي بِأَحَدِهِمَا ; إِمَّا بِأَنْ لَمْ يَرْوِ إِلَّا عَنْهُ فَقَطْ ; كَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ، وَقُتَيْبَةَ وَمُسَدَّدٍ، وَأَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرْوُوا إِلَّا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ خَاصَّةً، وَبَهْزِ بْنَ أَسَدٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ إِلَّا عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ، خَاصَّةً، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ عِنْدَ الْمُلَازِمِينَ لَهُ دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ حَدَّثَ الْقَاسِمُ الْمُطَرِّزُ يَوْمًا بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِي هَمَّامٍ، أَوْ غَيْرُهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبِ بْنُ نَصْرٍ الْحَافِظُ: مَنْ سُفْيَانُ هَذَا؟ فَقَالَ: الثَّوْرِيُّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: بَلْ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. فَقَالَ لَهُ الْمُطَرِّزُ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْوَلِيدَ قَدْ رَوَى عَنِ الثَّوْرِيِّ أَحَادِيثَ مَعْدُودَةً مَحْفُوظَةً وَهُوَ مَلِيءٌ بِابْنِ عُيَيْنَةَ، أَوْ بِكَوْنِهِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ أَوْطَانِ الرُّوَاةِ بَلَدِيِّ شَيْخِهِ، أَوِ الرَّاوِي عَنْهُ إِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالرِّحْلَةِ فَإِنَّ بِذَلِكَ وَبِالَّذِي قَبْلَهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ تَبْيِينُ الْمُهْمَلِ، وَمَتَى لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، أَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمَا مَعًا، فَإِشْكَالُهُ شَدِيدٌ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْقَرَائِنِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ فِي حَالِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَرُبَّمَا قَالُوا فِي ذَلِكَ بِظَنٍّ لَا يَقْوَى. وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ غَيْرِ مَنْسُوبٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ ; فَإِنَّهُ إِمَّا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ أَوْ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَكَذَا رِوَايَتُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ أَيْضًا عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُ إِمَّا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبِيكَنْدِيُّ، أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ غَيْرِ مَنْسُوبٍ، تَارَةً عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَتَارَةً عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; فَإِنَّهُ إِمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الْآمُلِيُّ كَمَا قَالَهُ الْكَلَابَاذِيُّ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْخُوَارِزْمِيِّ الْقَاضِي، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ الظَّاهِرُ لِرِوَايَتِهِ فِي كِتَابِهِ فِي الضُّعَفَاءِ عَنْهُ صَرِيحًا عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ، أَوْ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ غَيْرِ مُسَمًّى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ; فَإِنَّهُ إِمَّا مُرَّارُ بْنُ حَمُّوَيْهِ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْبِيكَنْدِيُّ. [الثامن مَا يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ فِيهِ فِي لَفْظٍ نَسَبٍ فَقَطْ] (وَمِنْهُ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ، وَهُوَ ثَامِنُ الْأَقْسَامِ (مَا) يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ فِيهِ (فِي) لَفْظٍ (نَسَبٍ) فَقَطْ، وَالِافْتِرَاقُ فِي أَنَّ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلِأَبِي الْفَضْلِ بْنِ طَاهِرٍ الْحَافِظِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ تَصْنِيفٌ حَسَنٌ، (كَالْحَنَفِي) حَيْثُ يَكُونُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ (قَبِيلًا) أَيْ: قَبِيلَةٌ، وَهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَبِيرِ، وَأَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَنَفِيِّ، أَخْرَجَ لَهُمَا الشَّيْخَانِ، (أَوْ) بِالنَّقْلِ يَكُونُ (مَذْهَبًا) وَهُمْ خَلْقٌ يَدِينُونَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، أُفْرِدُوا بِالتَّصْنِيفِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَأَنْتَ فِيمَنْ يُنْسَبُ لِلْمَذْهَبِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ: حَنَفِيٌّ بِلَا يَاءٍ، (أَوْ) بِالنَّقْلِ (بِالْيَاءِ) الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالْقَصْرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَذْكُورُ، (صِفْ) ; لِيَكُونَ إِثْبَاتُهَا مُمَيِّزًا لَهُمْ عَنِ الْآخَرِينَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ الْإِمَامِ، قَالَهُ فِي (الْكَافِي) . انْتَهَى. وَقَدِ اشْتَبَهَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَى الْقَبِيلَةِ، عَلَى بَعْضِ مَنْ صَنَّفَ طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فَأَدْخَلَهُمْ فِيهَا، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِ الْمَذْهَبِ، كَمَا اتَّفَقَ لِابْنِ شَهْرَدَارَ الدَّيْلَمِيِّ صَاحِبِ (الْفِرْدَوْسِ) ; فَإِنَّهُ أَدْخَلَ فِي تَارِيخِهِ - لَهَمْدَانَ كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ - خَلْقًا مِنَ الْهَمْدَانِيِّينَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 الْقَبِيلَةِ، وَكَالْآمُلِيِّ فَهُوَ مَوْضِعَانِ ; آمُلُ طَبَرِسْتَانَ، قَالَ السَّمْعَانِيُّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ أَهِلِ طَبَرِسْتَانَ مِنْهُ، وَآمُلُ جَيْحُونَ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الْآمُلِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْحَافِظَانِ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ ثُمَّ عِيَاضٌ مِنَ الْأُولَى، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ خَطَأٌ. وَمِنْهُ أَنْ يَتَّفِقَ اسْمُ أَبِ الرَّاوِي وَاسْمُ شَيْخِهِ مَعَ مَجِيئِهِمَا مَعًا مُهْمَلَيْنِ مِنْ نِسْبَةٍ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا بِهَا عَنِ الْآخَرِ ; كَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ، هَكَذَا يَأْتِي فِي الرِّوَايَاتِ فَيُظَنُّ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ، كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، وَهُوَ أَبُوهُ، وَلَيْسَ أَنَسٌ شَيْخَ الرَّبِيعِ وَالِدِهِ، بَلْ أَبُوهُ بَكْرِيٌّ، وَشَيْخُهُ أَنْصَارِيٌّ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الصَّحَابِيُّ الشَّهِيرُ، وَلَيْسَ الرَّبِيعُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَوْلَادِهِ. [تَلْخِيصُ الْمُتَشَابِهِ] ِ 937 - وَلَهُمُ قِسْمٌ مِنَ النَّوْعَيْنِ ... مُرَكَّبٌ مُتَّفِقُ اللَّفْظَيْنِ 938 - فِي الِاسْمِ لَكِنَّ أَبَاهُ اخْتَلَفَا ... أَوْ عَكْسُهُ أَوْ نَحْوُهُ وَصَنَّفَا 939 - فِيهِ الْخَطِيبُ نَحْوُ مُوسَى بْنِ عَلِي ... وَابْنُ عُلَيٍّ وَحَنَانُ الْأَسَدِي (وَلَهُمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ (قِسْمٌ) آخَرُ (مِنَ النَّوْعَيْنِ) السَّابِقَيْنِ، (مُرَكَّبٌ) وَهُوَ إِمَّا (مُتَّفِقُ اللَّفْظَيْنِ) أَيْ: نُطْقًا وَخَطًّا، (فِي الِاسْمِ) خَاصَّةً، مُفْتَرِقٌ فِي الْمُسَمَّيْنِ، (لَكِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ (أَبَاهُ) أَيِ: الْمُتَّفِقُ أَسْمَاؤُهُمَا (اخْتَلَفَا) نُطْقًا مَعَ الِائْتِلَافِ خَطًّا، (أَوْ عَكْسُهُ) بِأَنْ يَأْتَلِفَ الِاسْمَانِ خَطًّا وَيَخْتَلِفَانِ لَفْظًا، وَيَتَّفِقَ أَسْمَاءُ أَبَوَيْهِمَا لَفْظًا، (أَوْ نَحْوُهُ) أَيِ: الْمَذْكُورُ بِأَنْ يَتَّفِقَ الِاسْمَانِ أَوِ الْكُنْيَتَانِ لَفْظًا وَيَخْتَلِفَ نِسْبَتُهُمَا نُطْقًا أَوْ تَتَّفِقَ النِّسْبَةُ لَفْظًا، وَيَخْتَلِفَ الِاسْمَانِ أَوِ الْكُنْيَتَانِ لَفْظًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، (وَ) قَدْ (صَنَّفَا فِيهِ) الْحَافِظُ (الْخَطِيبُ) السَّابِقُ إِلَى غَالِبِ مَا صَنَّفَهُ فِي أَنْوَاعِ هَذَا الشَّأْنِ كِتَابًا جَلِيلًا سَمَّاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 (تَلْخِيصَ الْمُتَشَابِهِ) ، ثُمَّ ذَيَّلَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا فَاتَهُ أَوَّلًا وَهُوَ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، بَلْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ كُتُبِهِ، لَكِنْ لَمْ يُعْرِبْ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ كَمَا أَعْرَبْنَا عَنْهُ. انْتَهَى. وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنَ التَّصْحِيفِ وَظَنِّ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةٌ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَطِيبُ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا لَا يَشْتَبِهُ غَالِبًا، كَثَوْرٍ اثْنَانِ: ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ زُرَارَةَ اثْنَانِ: عُمَرُ وَعَمْرٌو، وَابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ اثْنَانِ: عُبَيْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ، مَعَ اعْتِرَافِ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي أَوَّلِهَا بِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَارَبُ وَيَشْتَبِهُ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ. فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ فِيهِ فِي الِاسْمِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَبِ، (نَحْوُ مُوسَى بْنِ عَلِي) بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُكَبَّرٌ كَالْجَادَّةِ، (وَابْنُ عُلَيٍّ) بِالضَّمِّ مُصَغَّرٌ مُوسَى أَيْضًا، فَالْأَوَّلُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مَنِ اسْمُ جَدِّهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَيُكَنَّى أَبَا عِيسَى الْخُتُّلِيَّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مِقْسَمٍ الْمُقْرِئُ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ الصَّوَّافِ وَغَيْرُهُمَا، وَمَاتَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَكُلُّهُمْ مُتَأَخِّرُونَ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ وَلَا (الْجَرْحِ) لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَالثَّانِي فَرْدٌ اسْمُ جَدِّهِ رَبَاحٌ اللَّخْمِيُّ الْمِصْرِيُّ أَمِيرُ مِصْرَ الْمُخَرَّجُ لَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، بَلْ وَالْبُخَارِيِّ، لَكِنْ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَالضَّمُّ فِيهِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَلَكِنَّ الَّذِي صَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ وَصَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) الْفَتْحَ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ مِصْرَ، وَتَوَسَّطَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فَجَعَلَهُ بِالْفَتْحِ اسْمًا لَهُ وَبِالضَّمِّ لَقَبًا، وَكَانَ هُوَ وَأَبُوهُ يَكْرَهَانِ الضَّمَّ، وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا: لَا أَجْعَلُ قَائِلَهُ فِي حِلٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِهِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ: لِأَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ إِذَا سَمِعَتْ بِمَوْلُودٍ اسْمُهُ عَلِيٌّ - يَعْنِي بِالْفَتْحِ - قَتَلُوهُ، فَقَالُوا أَبُوهُ هُوَ عُلَيٌّ، يَعْنِي بِالضَّمِّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ: كَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَجْعَلُونَ كُلَّ عَلَمٍ عِنْدَهُمْ عُلَيًّا لِبُغْضِهِمْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَمُحَمَّدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 بْنُ عُقَيْلٍ بِضَمِّهَا، الْأَوَّلُ نَيْسَابُورِيٌّ، وَالثَّانِي فِرْيَابِيٌّ، وَهُمَا مَشْهُورَانِ، وَطَبَقَتُهُمَا مُتَقَارِبَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ ضِدُّ الْأَوَّلِ، مَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الِاسْمِ وَالِاتِّفَاقِ فِي الْأَبِ، نَحْوَ عَبَّاسٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَعَيَّاشٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا ابْنُ الْوَلِيدِ، وَبَصْرِيٌّ أَيْضًا وَفِي عَصْرٍ وَاحِدٍ بِحَيْثُ تَشَارَكًا فِي بَعْضِ الشُّيُوخِ، وَأَخَذَ الْبُخَارِيُّ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْأَوَّلُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ هَذَا، وَاسْمُ جَدِّهِ نَصْرٌ وَيُكَنَّى أَبَا الْفَضْلِ، نَرْسِيٌّ، وَالْآخَرُ فَرْدٌ وَهُوَ الرَّقَّامُ يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ، وَسُرَيْجٌ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، وَشُرَيْحٌ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا ابْنُ النُّعْمَانِ، فَالْأَوَّلُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ بَغْدَادِيٌّ لُؤْلُؤِيٌّ اسْمُ جَدِّهِ مَرْوَانُ، وَالْآخَرُ مِنَ التَّابِعِينَ، حَدِيثُهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ صَائِدِيٌّ كُوفِيٌّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا حَصَلَ فِيهِ الِاتِّفَاقُ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ، وَالِاخْتِلَافُ نُطْقًا فِي النِّسْبَةِ، كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: مُخَرِّمِيٌّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى الْمُخَرِّمِ مِنْ بَغْدَادَ، وَاسْمُ جَدِّهِ الْمُبَارَكُ، وَيُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ، قُرَشِيٌّ بَغْدَادِيٌّ قَاضِي حُلْوَانَ، وَأَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ الْحُفَّاظِ، وَالْآخَرُ مَخْرَمِيٌّ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا: لَعَلَّهُ مِنْ وَلَدِ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَهُوَ مَكِّيٌّ، يَرْوِي عَنِ الشَّافِعِيِّ وَعَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَبَالَةَ، لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَا حَصَلَ فِيهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْكُنْيَةِ، وَالِاخْتِلَافُ نُطْقًا فِي النِّسْبَةِ ; كَأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَالسَّيْبَانِيُّ مِثْلُهُ لَكِنْ بِمُهْمَلَةٍ، فَالْأَوَّلُ جَمَاعَةٌ كُوفِيُّونَ، أَشْهَرُهُمْ سَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ، تَابِعِيٌّ مُخَضْرَمٌ حَدِيثُهُ فِي السِّتَّةِ، وَهَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، حَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَّائِيِّ، وَوَهِمَ الْمِزِّيُّ فَكَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ كَمَا لِعَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، أَوْ كَعَمَّارٍ كَمَا لِلدَّارَقُطْنِيِّ، نَحْوِيٌّ لُغَوِيٌّ نَزَلَ بَغْدَادَ، لَهُ ذِكْرٌ فِي (صَحِيحٍ مُسْلِمٍ) بِكُنْيَتِهِ فَقَطْ، وَالْآخَرُ شَامِيٌّ تَابِعِيٌّ مُخَضْرَمٌ، اسْمُهُ زُرْعَةُ، وَهُوَ عَمُّ الْأَوْزَاعِيِّ وَالِدِ يَحْيَى، حَدِيثُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ. وَالْخَامِسُ: مَا حَصَلَ فِيهِ الِاتِّفَاقُ فِي النِّسْبَةِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ نَحْوُ (حَنَانُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْمُخَفَّفَةِ وَبِتَرْكِ الصَّرْفِ، وَحَيَّانَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ (الْأَسَدِي) كُلٌّ مِنْهُمَا، فَالْأَوَّلُ نِسْبَةً لِبَنِي أَسَدِ بْنَ شُرَيْكٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، بَصْرِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَعَنْهُ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، وَالْآخَرُ اثْنَانِ تَابِعِيَّانِ: أَحَدُهُمَا كُوفِيٌّ يُكَنَّى أَبَا الْهَيَّاجِ وَاسْمُ أَبِيهِ حُصَيْنٌ، حَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَثَانِيهِمَا شَامِيٌّ وَيُعْرَفُ بِحَيَّانَ أَبِي النَّضْرِ، لَهُ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ وَاثِلَةَ حَدِيثٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وَالسَّادِسُ: مَا حَصَلَ فِيهِ الِاتِّفَاقُ فِي النِّسْبَةِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْكُنْيَةِ، نَحْوُ أَبِي الرِّجَاءِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَأَبِي الرَّحَّالِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، الْأَنْصَارِيُّ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَالْأَوَّلُ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَدَنِيٌّ يَرْوِي عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهَا، حَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالْآخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ أَوْ خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ، تَابِعِيٌّ ضَعِيفٌ حَدِيثُهُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَنَحْوُهُ ابْنُ عُفَيْرٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَابْنُ غُفَيْرٍ بِالْمُعْجَمَةِ، وَهُمَا بِالتَّصْغِيرِ، مِصْرِيَّانِ ; أَوَّلُهُمَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، يُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ، مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَالْآخَرُ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ غُفَيْرٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرَّةً: مَتْرُوكٌ. وَمَرَّةً: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. فِي أَقْسَامٍ أُخَرَ يَطُولُ الْأَمْرُ فِيهَا. مِنْهَا وَهُوَ أَهَمُّهَا مِمَّا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا، أَنْ يَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ أَوِ الِاشْتِبَاهُ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ مَثَلًا إِلَّا فِي حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْهُمَا، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالتَّغْيِيرِ مَعَ أَنَّ عَدَدَ الْحُرُوفِ سَوَاءٌ فِي الْجِهَتَيْنِ، أَوْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالتَّغْيِيرِ مَعَ نُقْصَانِ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ عَنْ بَعْضٍ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَوَّلِ مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْعَوَقِيُّ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْوَاوِ ثُمَّ الْقَافِ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَيَّارٍ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ رَاءٌ، وَهُمْ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْيَمَامِيُّ شَيْخُ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُنَيْنٍ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ، الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ بَيْنَهُمَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ، تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِجِيمٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ أَيْضًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَيْنٍ بِنُونَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ آخِرُهُ رَاءٌ كَمُجِيرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مُعَرِّفُ بْنُ وَاصِلٍ كُوفِيٌّ مَشْهُورٌ، وَمُطَرِّفُ بْنُ وَاصِلٍ بِالطَّاءِ بَدَلَ الْعَيْنِ شَيْخٌ آخَرُ يَرْوِي عَنْهُ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ صَاحِبُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَآخَرُونَ، وَأُحَيْدُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِثْلُهُ، لَكِنْ بَدَلَ الْمِيمِ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ وَهُوَ شَيْخٌ بُخَارِيٌّ، يَرْوِي عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِيكَنْدِيُّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّانِي مِمَّا أَسْلَفْنَاهُ أَوَّلًا، أَنَّهُ لَا يَشْتَبِهُ غَالِبًا، أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَحَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ شَيْخٌ مَشْهُورٌ مِنْ طَبَقَةِ مَالِكٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ مَيْسَرَةَ شَيْخٌ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْكُوفِيِّ، الْأَوَّلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ، بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ، وَالثَّانِي بِالْجِيمِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثُمَّ رَاءٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ فِي الصَّحَابَةِ صَاحِبُ الْأَذَانِ وَاسْمُ جَدِّهِ عَبْدُ رَبِّهِ، وَرَاوِي حَدِيثِ الْوُضُوءِ وَاسْمُ جَدِّهِ عَاصِمٌ، وَهُمَا أَنْصَارِيَّانِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ يَاءٍ فِي أَوَّلِ اسْمِ الْأَبِ، وَالزَّاءُ مَكْسُورَةٌ، وَهُمْ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ فِي الصَّحَابَةِ الْخَطْمِيُّ يُكَنَّى أَبَا مُوسَى، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالْقَارِئُ لَهُ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْخَطْمِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَالِمٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ سَالِمٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ سَمِعَ مِنَ ابْنِ خَطِيبِ الْمِزَّةِ، فَأَوَّلُهُمَا الْحَوْرَانِيُّ وَاسْمُ جَدِّ أَبِيهِ عَبْدَانُ، وَثَانِيهِمَا ابْنُ الْمُطَوَّعِ وَهُوَ أَسَنُّهُمَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، وَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُجَيٍّ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ يَرْوِي عَنْ عَلِيٍّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 [الْمُشْتَبِهُ الْمَقْلُوبُ] 940 - وَلَهُمُ الْمُشْتَبِهُ الْمَقْلُوبُ ... صَنَّفَ فِيهِ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ 941 - كَابْنِ يَزِيدَ الْأَسْوَدِ الرَّبَّانِي ... وَكَابْنِ الْأَسْوَدِ يَزِيدَ اثْنَانِ (وَلَهُمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ مَا يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ فِيهِ لِرَاوِيَيْنِ فِي اسْمَيْنِ لَفْظًا وَخَطًّا، لَكِنْ يَحْصُلُ الِاخْتِلَافُ أَوِ الِاشْتِبَاهُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لِلرَّاوِي وَفِي الْآخَرِ لِأَبِيهِ، وَهُوَ (الْمُشْتَبِهُ الْمَقْلُوبُ) وَأُفْرِدَ عَنِ الْمُرَكَّبِ النَّوْعِ قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ أَيْضًا مُرَكَّبًا مِنْ مُتَّفِقٍ وَمُخْتَلِفٍ ; لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ مِنْ نَوْعِ الْمُؤْتَلِفِ، وَقَدْ (صَنَّفَ فِيهِ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ) (رَافِعَ الِارْتِيَابِ فِي الْمَقْلُوبِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ) ، وَهُوَ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ الْأَمْنُ مِنْ تَوَهُّمِ الْقَلْبِ خُصُوصًا، وَقَدِ انْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ نُسِبَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِإِمَامِ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ ; كَمُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَدَنِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيِّ الشَّهِيرِ الَّذِي نَبَّهَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابٍ أَفْرَدَهُ لِخَطَأِ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ حِكَايَةً عَنْ أَبِيهِ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَعَلَ أَوَّلَهُمَا الثَّانِيَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لَا تُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ التَّارِيخِ ; وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَ (كَابْنِ يَزِيدَ الْأَسْوَدِ) أَيْ: كَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ الزَّاهِدِ الْفَقِيهِ الْمُفْتِي، (الرَّبَّانِي) أَيِ: الْعَالِمُ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَوِ الطَّالِبُ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ، أَوِ الْمُرَبِّي الْمُتَعَلِّمِينَ بِصِغَارِ الْعُلُومِ قَبْلَ كِبَارِهَا، وَكَانَ جَدِيرًا بِالِاتِّصَافِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، بَلْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ لِإِدْرَاكِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَخَالُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَمِائَةِ رَكْعَةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وَيَصُومُ الدَّهْرَ حَتَّى ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ مِنَ الصَّوْمِ، وَسَافَرَ ثَمَانِينَ حِجَّةً وَعُمْرَةً مِنَ الْكُوفَةِ، لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، (وَكَابْنِ الْأَسْوَدِ يَزِيدَ) أَيْ: يَزِيدَ بْنَ الْأُسُودِ (اثْنَانِ) : أَحَدُهُمَا الْخُزَاعِيُّ الْحِجَازِيُّ الْمَكِّيُّ، وَقِيلَ: الْمَدَنِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمُخَرَّجُ حَدِيثُهُ فِي السُّنَنِ، وَالْآخَرُ الْجَرَشِيُّ تَابِعِيٌّ مُخَضْرَمٌ، يُكَنَّى أَبَا الْأُسُودِ، سَكَنَ الشَّامَ وَأَقْعَدَهُ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَسْتَسْقِي عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فَفَعَلَ، وَفَعَلَ النَّاسُ مِثْلَهُ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْجَرَشِيِّ. فَسُقُوا لِلْوَقْتِ حَتَّى كَادُوا لَا يَبْلُغُونَ مَنَازِلَهُمْ، وَقَدْ يَقَعُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ حُرُوفِ الِاسْمِ الْمُشْتَبِهِ ; كَأَيُّوبَ بْنِ سَيَّارٍ وَيَسَارِ بْنِ أَيُّوبَ. [مَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ] ِ 942 - وَنَسَبُوا إِلَى سِوَى الْآبَاءِ ... إِمَّا لِأُمٍّ كَبَنِي عَفْرَاءِ 943 - وَجَدَّةٍ نَحْوُ ابْنِ مُنْيَةٍ وَجَدّْ ... كَابْنِ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَاتٍ وَقَدْ 944 - يُنْسَبُ كَالْمِقْدَادِ بِالتَّبَنِّي ... فَلَيْسَ لِلْأَسْوَدِ أَصْلًا بِابْنِ (مَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ) وَهُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ التَّعَدُّدِ عِنْدَ نِسْبَتِهِ لِأَبِيهِ، أَوْ دَفْعُ ظَنِّ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا عَنْ مُوَافَقَةِ اسْمَيْهِمَا وَاسْمِ أَبِي أَحَدِهِمَا اسْمَ الْجَدِّ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ ; كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، شَيْخٍ لِلزُّهْرِيٍّ، نَسَبَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ اسْمُ رَاوٍ آخَرَ هُوَ عَمٌّ لِلْأَوَّلِ، لَكِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ شَيْئًا، وَكَخَالِدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ، رَاوٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، يَرْوِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ; فَإِنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فَيُظَنُّ أَنَّهُ الصَّحَابِيُّ الشَّهِيرُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ قَدَّمْنَا فِي الْمُتَّفِقِ. (وَنَسَبُوا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (إِلَى سِوَى الْآبَاءِ) وَذَلِكَ (إِمَّا لِأُمٍّ كَـ) مُعَاذٍ وَمُعَوِّذٍ وَعَوْذٍ أَوْ عُرْفٍ بِالْفَاءِ فِي الْأَكْثَرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (بَنِي عَفْرَاءَ) فَعَفْرَاءُ أُمُّهُمْ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، ثُمَّ فَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا رَاءٌ وَهَمْزَةٌ، ابْنَةُ عُبَيْدِ بْنَ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَاسْمُ أَبِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ أَيْضًا، وَثَلَاثَتُهُمْ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ مَنْ عَدَا أَوَّلَهُمْ بِهَا، وَتَأَخَّرَ أَوَّلُهُمْ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ جُرِحَ أَيْضًا بِبَدْرٍ، وَإِنَّهُ مَاتَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَكَبِلَالِ ابْنِ حَمَامَةَ، فَحَمَامَةُ - وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ رَبَاحٌ، وَالْحَارِثُ ابْنُ بَرْصَاءَ، فَالْبَرْصَاءُ - وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ - أُمُّهُ أَوْ أُمُّ أَبِيهِ وَاسْمُ أَبِيهِ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، وَسَعْدُ ابْنُ حَبْتَةَ، فَحَبْتَةُ - وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ وَهَاءُ تَأْنِيثٍ - ابْنَةُ مَالِكٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ بَحِيرٌ كَكَبِيرٍ، ابْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ سُدُوسٍ الْبَجَلِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَهْلٌ وَسُهَيْلٌ وَصَفْوَانُ بَنِي بَيْضَاءَ، فَبَيْضَاءُ أُمُّهُمْ وَاسْمُهَا دَعْدُ، وَاسْمُ أَبِيهِ وَهْبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ الْقُرَشِيُّ، وَشُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، وَهِيَ بِفَتَحَاتٍ أُمُّهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا تَبَنَّتْهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَاعِ الْكِنْدِيُّ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَأُمُّ مَكْتُومٍ هِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُهَا عَاتِكَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ إِمَّا زَائِدَةُ أَوْ قَيْسُ بْنُ زَائِدَةَ، وَأَمَّا اسْمُهُ هُوَ فَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 عَمْرٌو، أَوْ غَيْرُهُمَا، وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بُحَيْنَةَ، وَهِيَ - بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَهَا نُونٌ وَهَاءُ تَأْنِيثٍ مُصَغَّرٌ - أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ مَالِكُ بْنُ الْقِشْبِ الْأَزْدِيُّ الْأَسَدِيُّ، وَرُبَّمَا يَقَعُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ بِالْجَرِّ مُنَوَّنًا، وَيَكُونُ ابْنُ بُحَيْنَةَ صِفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ، لَا لِمَالِكٍ، فَيُعْرَبُ إِعْرَابَهُ، وَيُكْتَبُ " ابْنُ " بِالْأَلْفِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ عَلَمَيْنِ ; فَإِنَّهُ صِفَةٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ; لِأَنَّ سَلُولَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِثْلُهُ مُحَمَّدُ ابْنُ حَبِيبَ، لَا يُنَوَّنُ حَبِيبُ ; لِأَنَّهُ اسْمُ أُمِّهِ، فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالْعَلَمِيَّةُ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ ابْنُ شَرَفَ الْقَيْرَوَانِيُّ الْأَدِيبُ ; فَإِنَّ شَرَفَ اسْمُ أُمِّهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُهَا خَوْلَةُ، وَأَبُوهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَنْصُورُ ابْنُ صَفِيَّةَ فَهِيَ أُمُّهُ، وَهِيَ ابْنَةُ شَيْبَةَ وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَلَحَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ هِيَ أُمُّهُ وَأَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنُ هَرَاسَةَ، هِيَ أُمُّهُ وَأَبُوهُ سَلَمَةُ، وَلِلْعَلَاءِ مُغْلَطَايْ فِي ذَلِكَ تَصْنِيفٌ حَسَنٌ حَصَّلْتُ جُلَّهُ مِنْ خَطِّهِ وَعَلَيْهِ فِيهِ مُؤَاخَذَاتٌ، (وَ) إِمَّا لِـ (جَدَّةٍ) سَوَاءٌ كَانَتْ دُنْيَا أَوْ عُلْيَا، (نَحْوُ ابْنِ مُنْيَةٍ) يَعْلَى الصَّحَابِيِّ الشَّهِيرِ، فَمُنْيَةُ وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ وَهَاءُ تَأْنِيثٍ وَبِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، أُمُّ أَبِيهِ، فِيمَا قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، ثُمَّ ابْنُ مَاكُولَا، وَلَكِنْ كَوْنُهَا جَدَّتَهُ لَيْسَ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بَلْ لَمْ يُصَوِّبْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ: إِنَّهَا أُمُّهُ فِيمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَرَجَّحَهُ الْمِزِّيُّ، ثُمَّ إِنَّ فِي نَسَبِهَا خُلْفًا، فَقِيلَ: ابْنَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 الْحَارِثِ بْنِ جَابِرٍ قَالَهُ ابْنُ مَاكُولَا، وَقِيلَ: بِدُونِ الْحَارِثِ. وَإِنَّهَا عَمَّةُ عُتْبَةَ بْنِ غَزَوَانَ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقِيلَ: ابْنَةُ غَزْوَانَ. وَإِنَّهَا أُخْتُ عُتْبَةَ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ وَرَجَّحَهُ الْمِزِّيُّ، وَاسْمُ أَبِي يَعْلَى أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَوْلُ ابْنِ وَضَّاحٍ: إِنَّ مُنْيَةَ أَبَوْهُ وَهْمٌ. حَكَاهُ صَاحِبُ (الْمَشَارِقِ) ، وَكَبَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ السَّدُوسِيِّ الصَّحَابِيِّ الشَّهِيرِ، فَالْخَصَاصِيَةُ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ ; إِمَّا أُمُّهُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (التَّلْقِيحِ) ، وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَوْ أُمُّ الثَّالِثِ مِنْ أَجْدَادِهِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوْ أُمُّ جَدٍّ أَعْلَى لَهُ فِيمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، وَاسْمُهَا كَبْشَةُ أَوْ مَاوِيَّةُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْغِطْرِيفِ، وَاسْمُ أَبِي بَشِيرٍ مَعْبَدٌ أَوْ نَذِيرٌ أَوْ يَزِيدُ أَوْ مَرْثَدٌ أَوْ شَرَاحِيلُ عَلَى الْأَقْوَالِ ; وَكَابْنِ سُكَيْنَةَ الْمُسْنَدِ الشَّهِيرِ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ، فَسُكَيْنَةُ وَهِيَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ كَافٍ مُصَغَّرٌ أُمُّ أَبِيهِ، وَهُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مَجْدُ الدِّينِ صَاحِبُ (الْمُنْتَقَى) فَهِيَ جَدَّتُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ وَادِي التَّيْمِ فِي آخَرِينَ. (وَ) إِمَّا لِـ (جَدْ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» ) . وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ كَأَبِي عُبَيْدَةَ ابْنِ الْجَرَّاحِ، فَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَحَمَلِ ابْنِ النَّابِغَةِ، فَهُوَ ابْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ، وَمُجَمِّعِ ابْنِ جَارِيَةَ فَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ، وَأَحْمَرَ ابْنِ جَزْءٍ، فَهُوَ ابْنُ سَوَاءِ بْنِ جَزْءٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ. (وَكَابْنِ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ، مُصَغَّرٌ، فَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، (وَجَمَاعَاتٍ) مِنْهُمُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ وَالْقَاسِمُ بَنُو أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ يُونُسَ صَاحِبُ (تَارِيخِ مِصْرَ) وَابْنُ مِسْكِينٍ (مِنْ بُيُوتِ الْمِصْرِيِّينَ اشْتَهَرُوا بِبَنِي مِسْكِينٍ مِنْ زَمَنِ النَّسَائِيِّ وَإِلَى وَقْتِنَا، وَجَدُّهُمُ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ أَحَدُ شُيُوخِ النَّسَائِيِّ. (وَقَدْ يُنْسَبُ كَالْمِقْدَادِ) ابْنِ الْأَسْوَدِ الصَّحَابِيِّ إِلَى رَجُلٍ (بِالتَّبَنِّي فَلَيْسَ) الْمِقْدَادُ (لِلْأَسْوَدِ) وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، (أَصْلًا بِابْنِ) إِنَّمَا كَانَ فِي حِجْرِهِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَمْرُو بْنُ ثَعْلَبَةَ الْكِنْدِيُّ، وَكَشُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ، كَمَا ذُكِرَ قَرِيبًا فِي أَنَّ حَسَنَةَ لَيْسَتْ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا تَبَنَّتْهُ، وَكَالْحَسَنِ ابْنِ دِينَارٍ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ، فَدِينَارٌ إِنَّمَا هُوَ زَوْجُ أُمِّهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ وَاصِلٌ، قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْفَلَّاسُ وَالْجَوْزَجَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: الْحَسَنُ بْنُ دِينَارِ بْنِ وَاصِلٍ، فَجَعَلَ وَاصِلًا جَدَّهُ. انْتَهَى. وَجَعَلَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ الْمُصَنِّفُ الشَّهِيرُ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ دِينَارًا جَدَّهُ حَيْثُ قَالَ: الْحَسَنُ بْنُ وَاصِلِ بْنِ دِينَارٍ، وَكَالْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرِ ابْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 نُقْطَةَ، فَنُقْطَةُ وَهِيَ بِضَمِّ النُّونِ ثُمَّ قَافٍ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَهَاءُ تَأْنِيثٍ، امْرَأَةٌ رَبَّتْ جَدَّهُ، وَفِي الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ مُلَقِّنًا، وَإِنَّمَا نُسِبَ لِزَوْجِ أُمِّهِ الَّذِي كَانَ يُلَقِّنُ الْقُرْآنَ بِجَامِعِ عَمْرٍو بِمِصْرَ ; لِكَوْنِهِ رَبَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَبَلَغَنِي أَنَّ الشَّيْخَ كَانَ يَغْضَبُ مِنْهَا. [الْمَنْسُوبُونَ إِلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ] ِ 945 - وَنَسَبُوا لِعَارِضٍ كَالْبَدْرِي ... نَزَلَ بَدْرًا عُقْبَةَ بْنَ عَمْرِو 946 - كَذَلِكَ التَّيْمِي سُلَيْمَانُ نَزَلْ ... تَيْمًا وَخَالِدٌ بِحَذَّاءٍ جَعَلْ 947 - جُلُوسَهُ وَمِقْسَمٌ لَمَّا لَزِمْ ... مَجْلِسَ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَاهُ وُسِمْ (الْمَنْسُوبُونَ إِلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ) وَأُفْرِدَ عَمَّا قَبْلَهُ لِكَوْنِهِ فِي الْأَنْسَابِ خَاصَّةً، وَذَاكَ فِي الْأَعْلَامِ وَإِنْ تَشَابَهَا فِي الْمَعْنَى (وَنَسَبُوا) أَيِ: الْمُحَدِّثُونَ، بَعْضَ الرُّوَاةِ إِلَى مَكَانٍ كَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ أَوْ إِلَى بَلَدٍ أَوْ قَبِيلَةٍ أَوْ صَنْعَةٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ وَلَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ ظَاهِرُهُ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ مُرَادًا، بَلِ النِّسْبَةُ لِذَلِكَ (لِعَارِضٍ) عَرَضَ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَالْأَوَّلُ: (كَالْبَدْرِي) لِمَنْ (نَزَلَ) أَيْ: سَكَنَ (بَدْرًا عُقْبَةَ) أَيْ: كَعُقْبَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ قَافٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، ابْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ الصَّحَابِيِّ ; فَإِنَّهُ فِيمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إِنَّمَا سَكَنَهَا خَاصَّةً، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: إِنَّهُ نَزَلَ مَاءً بِبَدْرٍ فَنُسِبَ إِلَيْهِ ; إِذْ لَيْسَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا اخْتِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ الشَّهِيرَ بِهَا، وَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: إِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَابْنِ مَعِينٍ ثُمَّ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعِبَارَتُهُ: لَا يَصِحُّ شُهُودُهُ بَدْرًا. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَمَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَتْبَاعُهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنْ نَزَلَ بَدْرًا فَنُسِبَ إِلَيْهَا. انْتَهَى. وَعَدَّهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَدْرِيِّينَ كَمَا فِي صَحِيحِهِ وَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثَ فِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ شَهِدَهَا، مِنْهَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: أَخَّرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الْعَصْرَ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو جَدُّ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ: يَا مُغِيرَةُ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، سَمِعَهُ عُرْوَةُ مِنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا قَالَ مُسْلِمٌ فِي الْكُنَى إِنَّهُ شَهِدَهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ: إِنَّهُ كَانَ بَدْرِيًّا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنِي عَمِّي، يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ، يَعْنِي الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ أَنَّهُ شَهِدَهَا، وَقَالَ ابْنُ الْبَرْقِيِّ: لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّهُ مِمَّنْ شَهِدَهَا وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: أَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِيهِمْ، وَذَكَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِيمَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ. انْتَهَى. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ خُصُوصًا، وَفِيهِمُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَدِ اسْتَظْهَرَ لَهُ شَيْخُنَا بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى شُهُودِ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ مَنْ شَهِدَهَا لَا مَانِعَ مِنْ شُهُودِهِ بَدْرًا، قَالَ: وَالْوَاقِدِيُّ وَلَوْ قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي (الْمَغَازِي) مَعَ ضَعْفِهِ لَا تُرَدُّ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. انْتَهَى. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مَسْعُودٍ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْأَنْسَابِ مِمَّنْ نُسِبَ بَدْرِيًّا لَا لِشُهُودِهَا، بَلْ لِنُزُولِهِ آبَارَ بَدْرٍ، أَبُو حَنَّةَ أَوْ حَبَّةَ ثَابِتُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ صَحَابِيٌّ. وَالثَّانِي: كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيِّ، نُسِبَ كَذَلِكَ لِإِكْثَارِهِ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا لِلْحَجِّ وَالْمُجَاوَرَةِ، لَا أَنَّهُ مِنْهَا، قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 وَالْوَاوِ ثُمَّ قَافٍ ; لِنُزُولِهِ الْعَوَقَةَ، وَإِلَّا فَهُوَ بَصْرِيٌّ. وَالثَّالِثُ: كَأَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ نُسِبَ كَذَلِكَ لِنُزُولِهِ فِي بَنِي دَالَانَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيُّ نُسِبَ كَذَلِكَ لِنُزُولِهِ جَبَّانَةَ عَرْزَمٍ بِالْكُوفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَ (كَذَلِكَ التَّيْمِي) بِالْإِسْكَانِ لِلْوَزْنِ (سُلَيْمَانُ) بْنُ طَرْخَانَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ نُسِبَ تَيْمِيًّا لِكَوْنِهِ (نَزَلَ تَيْمًا) بِالْقَصْرِ لِلْوَزْنِ، لَا أَنَّهُ مَنْ بَنِي تَيْمٍ، بَلْ هُوَ مَوْلًى لِبَنِي مُرَّةَ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ وَلَدِهِ الْمُعْتَمِرِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ، إِنَّكَ تُكْتَبُ التَّيْمَيَّ وَلَسْتَ تَيْمِيًّا؟ فَقَالَ: أَنَا تَيْمِيُّ الدَّارِ. لَكِنْ قَدْ رَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْمُعْتَمِرِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: إِذَا كَتَبْتَ فَلَا تَكْتُبِ التَّيْمِيَّ، وَلَا تَكْتُبِ الْمُرِّيَّ، بَلِ اكْتُبِ الْقَيْسِيَّ ; فَإِنَّ أَبِي كَانَ مُكَاتِبًا لِبُجَيْرِ بْنِ حِمْرَانَ وَإِنَّ أُمِّي كَانَتْ مَوْلَاةً لِبَنِي سُلَيْمٍ، فَإِنْ كَانَ أَبِي أَدَّى الْكِتَابَةَ، فَالْوَلَاءُ لِبَنِي مُرَّةَ، وَهُوَ مُرَّةُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّاهَا فَالْوَلَاءُ لِبَنِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ، فَعَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ أَنَا قَيْسِيٌّ. وَالرَّابِعُ: (وَ) مِنْهُ (خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْبَصْرِيُّ، نُسِبَ حَذَّاءً بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ مَعَ الْمَدِّ (بِـ) سَبَبِ رَجُلٍ (حَذَّاءٍ) أَيْ: يَحْذُو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 النَّعْلَ ; لِكَوْنِهِ (جَعَلْ جُلُوسَهُ) عِنْدَهُ فِي دُكَّانِهِ كَمَا قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِيمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَنَّهُ مَا حَذَا نَعْلًا قَطُّ، وَكَذَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِحَذَّاءٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَيْهِمْ، وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا حَذَوْتُ نَعْلًا قَطُّ وَلَا بِعْتُهَا، وَلَكِنْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَتِي فِي بَنِي مُجَاشِعٍ، فَنَزَلْتُ عَلَيْهَا فِي الْحَذَّائِينَ، فَنُسِبْتُ إِلَيْهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَهَذَا قَدْ لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ، لَكِنْ قَدْ حَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا عَنْ فَهْدِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَحْذِ خَالِدٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: احْذُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ. فَلُقِّبَ الْحَذَّاءَ، وَكَذَا كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عُبَيْدَةُ بْنُ حَمِيدٍ الْكُوفِيُّ يُعْرَفُ بِالْحَذَّاءِ فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَذَّاءً، إِنَّمَا كَانَ يُجَالِسُ الْحَذَّائِينَ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ. وَالْخَامِسُ: كَيَزِيدَ الْفَقِيرِ أَحَدِ التَّابِعِينَ، لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا، وَإِنَّمَا أُصِيبَ فِي فَقَارِ ظَهْرِهِ فَكَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْحَنِيَ لَهُ. وَالسَّادِسُ: (وَ) مِنْهُ (مِقْسَمٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، بَيْنَهُمَا قَافٌ وَآخِرَهُ مِيمٌ مَعَ كَوْنِهِ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، (لَمَّا لَزِمْ مَجْلِسَ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ عَبَّاسٍ (مَوْلَاهُ وُسِمْ) أَيْ: عُرِفَ، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا كَثُرَ الِاشْتِبَاهُ فِيهِ وَعَمَّ الضَّرَرُ بِهِ مَنْ يُنْسَبُ حُسَيْنِيًّا ; لِسُكْنَاهُ مَحَلًّا مِنَ الْقَاهِرَةِ أَوْ بَلَدًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهَا نِسْبَةٌ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيُوصَفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 بِالشَّرَفِ ; وَلِذَا كَانَ بَعْضُ مُتْقِنِي الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ يَنْسُبُ كَذَلِكَ يُقَيِّدُ بِقَوْلِهِ: سُكْنًى، أَوْ زُبَيْرِيًّا لِمَحَلَّةٍ بِنَوَاحِي الْغَرْبِيَّةِ فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِلزُّبَيْرِ بْنَ الْعَوَّامِ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ جَعْفَرِيًّا لِمَحَلَّةٍ أَيْضًا فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ قُرَشِيًّا لِمَحَلَّةٍ تُسَمَّى الْقُرَشِيَّةُ فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِقُرَيْشٍ أَوْ جَرَّاحِيًّا لِمَحَلَّةٍ أَيْضًا فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَوْ عَبَّاسِيًّا لِلْعَبَّاسَةِ مِنَ الشَّرْقِيَّةِ فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ عَمَّ الضَّرَرُ بِهَا. [الْمُبْهَمَاتُ] ُ 948 - وَمُبْهَمُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يُسْمَى ... كَامْرَأَةٍ فِي الْحَيْضِ وَهْيَ أَسْمَا 949 - وَمَنْ رَقَى سَيِّدَ ذَاكَ الْحَيِّ ... رَاقٍ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِي 950 - وَمِنْهُ نَحْوُ ابْنِ فُلَانٍ عَمِّهِ ... عَمَّتِهِ زَوَّجْتِهِ ابْنِ أُمِّهِ (وَمُبْهَمُ الرُّوَاةِ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (مَا لَمْ يُسْمَى) بِإِسْكَانِ ثَانِيهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَوْ جَمِيعِهَا ; إِمَّا اخْتِصَارًا أَوْ شَكًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُهِمٌّ، وَفَائِدَةُ الْبَحْثِ عَنْهُ زَوَالُ الْجَهَالَةِ الَّتِي يَرِدُ الْخَبَرُ مَعَهَا، حَيْثُ يَكُونُ الْإِبْهَامُ فِي أَصْلِ الْإِسْنَادِ، كَأَنْ يُقَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَوْ شَيْخٌ أَوْ فُلَانٌ أَوْ بَعْضُهُمْ. لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْخَبَرِ - كَمَا عُلِمَ - عَدَالَةُ رَاوِيهِ، وَمَنْ أُبْهِمَ اسْمُهُ لَا تُعْرَفُ عَيْنُهُ فَكَيْفَ عَدَالَتُهُ؟ ! بَلْ وَلَوْ فُرِضَ تَعْدِيلُ الرَّاوِي عَنْهُ لَهُ مَعَ إِبْهَامِهِ إِيَّاهُ لَا يَكْفِي عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِهِ، وَمَا عَدَاهُ مِمَّا يَقَعُ فِي أَصْلِ الْمَتْنِ وَنَحْوِهِ قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ يَتَحَلَّى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ. كَذَا قَالَ، بَلْ مِنْ فَوَائِدِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُبْهِمُ سَائِلًا عَنْ حُكْمٍ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فَيُسْتَفَادُ بِمَعْرِفَتِهِ النَّسْخَ وَعَدَمَهُ إِنْ عُرِفَ زَمَنُ إِسْلَامِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ قِصَّةٍ قَدْ شَاهَدَهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ ثُمَّ الْخَطِيبُ مُرَتِّبًا لَهُ عَلَى الْحُرُوفِ فِي الْمُبْهَمِ ثُمَّ ابْنُ بَشْكُوالَ فِي الْغَوَامِضِ وَالْمُبْهَمَاتِ بِدُونِ تَرْتِيبٍ، وَهُوَ أَجْمَعُهَا، وَقَدِ اخْتَصَرَ النَّوَوِيُّ كِتَابَ الْخَطِيبِ مَعَ نَفَائِسَ ضَمَّهَا إِلَيْهِ مُهَذِّبًا مُحَسِّنًا، لَا سِيَّمَا فِي تَرْتِيبِهِ عَلَى الْحُرُوفِ فِي رَاوِي الْخَبَرِ مِمَّا سَهُلَ بِهِ الْكَشْفُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِأَصْلِهِ، وَسَمَّاهُ الْإِشَارَاتِ إِلَى الْمُبْهَمَاتِ، وَاخْتَصَرَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ السَّرَّاجِ بْنِ الْمُلَقِّنِ وَالْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ كِتَابَ ابْنِ بَشْكُوالَ بِحَذْفِ الْأَسَانِيدِ، وَأَتَى أَوَّلُهُمَا فِيهِ بِزِيَادَاتٍ. وَكَذَا صَنَّفَ فِيهِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ، وَاعْتَنَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي أَوَاخِرَ كِتَابِهِ (جَامِعِ الْأُصُولِ) بِتَحْرِيرِهَا، وَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَلْقِيحِهِ مِنْهَا جُمْلَةً، وَلِلْقُطْبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ (الْإِيضَاحُ عَنِ الْمُعْجَمِ مِنَ الْغَامِضِ وَالْمُبْهَمِ) وَلِلْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ (الْمُسْتَفَادُ مِنْ مُبْهَمَاتِ الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ) ، وَرَتَّبَهُ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَاعْتَنَى شَيْخُنَا بِذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَأَرْبَى فِيهِ عَلَى مَنْ سَبَقَهُ، بِحَيْثُ كَانَ مُعَوَّلُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْبُلْقِينِيِّ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُفْرَدِ فِي ذَلِكَ، عَلَيْهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: (لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) . إِلَى أَنْ خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ قَالَ: هُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. وَيُعْرَفُ تَعْيِينُ الْمُبْهَمِ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى مُصَرِّحَةٍ بِهِ أَوْ بِالتَّنْصِيصِ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَنَحْوِهِمْ إِنِ اتَّفَقَتِ الطَّرْقُ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَرُبَّمَا اسْتُدِلَّ لَهُ بِوُرُودِ تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمُبْهَمِ صَاحِبُهَا لِمُعَيَّنٍ مَعَ احْتِمَالِ تَعَدُّدِهَا كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَأَمْثِلَتُهُ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ كَثِيرَةٌ. فَفِي الْمَتْنِ (كَامْرَأَةٍ) سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا (فِي الْحَيْضِ) فَقَالَ لَهَا: (خُذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 فِرْصَةً مُمَسَّكَةً) . . . الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنِ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ (وَهِيَ) كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ (أَسْمَا) ، لَكِنَّهَا مُهْمَلَةٌ مِنْ نِسْبَةٍ تَتَمَيَّزُ بِهَا ; وَلِذَا اخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ الْخَطِيبُ: هِيَ ابْنَةُ يَزِيدَ بْنَ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَقَالَ ابْنُ بَشْكُوَالٍ: هِيَ ابْنَةُ شَكْلٍ. وَصُوِّبَ لِثُبُوتِهِ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ ابْنِ مُهَاجِرٍ، وَلَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ لَهُمَا مَعًا فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ، وَمَالَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَنَّ الدِّمْيَاطِيَّ يَعْنِي فِي حَاشِيَةِ نُسْخَتِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ ادَّعَى فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمُعَيَّنَةِ التَّصْحِيفَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ السَّكَنُ بِالْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ نُونٌ ; كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَلْقِيحِهِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ، وَأَنَّهَا نُسِبَتْ لِجَدِّهَا فَهِيَ ابْنَةُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: إِنَّهُ رَدٌّ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ، وَإِلَّا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَا امْرَأَتَيْنِ، خُصُوصًا وَقَدْ وَقَعَ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، فَانْتَفَى عَنْهُ الْوَهْمُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ طَاهِرٍ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ كُلَّ عَامٍ؟ فَالرَّجُلُ هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. (وَ) مِنْهَا (مَنْ رَقَى سَيِّدَ ذَاكَ الْحَيِّ) مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ مَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ أُصِيبَ أَوْ لُسِعَ بَعْدَ سُؤَالِ الْحَيِّ إِيَّاهُمْ: أَفِيكُمْ مَنْ يَرْقِي سَيِّدَنَا؟ فَامْتَنَعُوا إِلَّا بِجُعْلٍ ; لِكَوْنِهِمُ اسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَـ (رَاقٍ) أَيْ: فَاعِلُ الرُّقْيَةِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَسَائِرِ السِّتَّةِ، قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ (أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) رَاوِي الْقِصَّةِ يَعْنِي كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدٌ وَغَيْرُهُمْ مِمَّا صَحَّحَهُ ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَفْظُ أَحَدِهِمْ: (قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا، وَلَكِنْ لَا أَرْقِيهِ حَتَّى تُعْطُونَا غَنَمًا) . وَفِيهِ أَيْضًا: (إِنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُونَ شَاةً وَعِدَّةَ السَّرِيَّةِ كَذَلِكَ) . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: (فَأَتَيْتُهُ فَرَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . وَلَا يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ مَا عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا أَرْقِيهِ) ، وَكَذَا مَا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ حَيْثُ قَالَ: (فَقَامَ مَعَهَا - أَيْ: مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَتْ تَسْأَلُ فِي ذَلِكَ - رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبِنُهُ، وَهِيَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّهَا، أَيْ: نَتَّهِمُهُ - بِرُقْيَةٍ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: رَجُلٌ مِنَّا مَا كُنَّا نَظُنُّهُ يُحْسِنُ رُقْيَةً، ثُمَّ اتَّفَقْنَا - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ - (أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ فَقَالَ: لَا، مَا رَقَيْتُهُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَبُو سَعِيدٍ أَنْصَارِيٌّ، وَحِينَئِذٍ فَلَعَلَّهُ صَرَّحَ تَارَةً وَكَنَّى أُخْرَى، وَأَمَّا احْتِمَالُ التَّعَدُّدِ فَقَالَ شَيْخُنَا فِي الْفَتْحِ: إِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ وَالسِّيَاقِ، وَالسَّبَبِ وَكَوْنِ الْأَصْلِ عَدَمَهُ، لَكِنَّهُ مَعَ اسْتِبْعَادِهِ لَهُ جَوَّزَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ فَقَالَ مَعَ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ: وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَنَى الَّتِي أَوْرَدْتُهَا أَنَّ الرَّاقِيَ غَيْرُ أَبِي سَعِيدٍ، فَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ نُسَخِ النَّظْمِ (أَبِي سَعِيدٍ) بِالْجَرِّ، وَيَظْهَرُ فِي إِعْرَابِهِ أَنَّ (رَاقٍ) عَطْفٌ عَلَى كَامْرَأَةٍ، وَ (أَبِي سَعِيدٍ) بَيَانٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ رَقَى) خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَنْ رَقَى إِلَى آخِرِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ، وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَإِنِ اخْتَلَفَ الرَّوِيُّ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ. (وَمِنْهُ) أَيِ: الْمُبْهَمُ (نَحْوُ ابْنِ فُلَانٍ) كَحَدِيثِ: (مَاتَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَهِيَ زَيْنَبُ زَوْجَةُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَابْنِ مِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمِ بْنَ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرَهُ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، قِيلَ: اسْمُهُ زَيْدٌ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ يَزِيدُ، وَكَابْنِ اللُّتْبِيَّةِ أَوِ الْأُتْبِيَّةِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَاسْمُهُ - فِيمَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ - عَبْدُ اللَّهِ. وَنَحْوُ (عَمِّهِ) كَرِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ، هُوَ عِلَاقَةُ بْنُ صُحَارٍ، وَكَرَافِعِ بْنِ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ، هُوَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ، وَكَزِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ عَمِّهِ، هُوَ قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَيَحْيَى بْنِ خَلَّادِ بْنِ رَافِعٍ لِحَدِيثِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، عَنْ عَمٍّ لَهُ بِدَرِيٍّ، فَالْعَمُّ هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الزُّرَقِيُّ. وَنَحْوُ (عَمَّتِهِ) كَحُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ عَنْ عَمَّةٍ لَهُ، فَهِيَ أَسْمَاءُ فِيمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَقَوْلِ جَابِرٍ: فَجَعَلَتْ عَمَّتِي تَبْكِيهِ، يَعْنِي أَبَاهُ، فَهِيَ فَاطِمَةُ أَوْ هِنْدُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ. وَنَحْوُ (زَوْجَتِهِ) كَقَوْلِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ أُمُّ يَحْيَى غَنِيَّةُ أَوْ زَيْنَبُ ابْنَةُ أَبِي إِهَابِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَحَدِيثِ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَهِيَ تَمِيمَةُ بِالتَّكْبِيرِ أَوْ تُمَيْمَةُ بِالتَّصْغِيرِ أَوْ سُهَيْمَةُ، كَذَلِكَ ابْنَةُ وَهْبٍ أَوْ زَوْجُهَا كَقَوْلِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ: إِنَّهَا وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَزَوْجُهَا هُوَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَنَحْوُ (ابْنِ أُمِّهِ) ; كَقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ: زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلُ رَجُلًا أَجَرْتُهُ) الْحَدِيثَ. فَابْنُ أُمِّهَا هُوَ أَخُوهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَحْوُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَهُوَ إِمَّا عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَمْرٌو، كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَنْ نُسِبَ إِلَى أُمِّهِ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَكُونُ الرَّاوِي عَنِ الْمُبْهَمِ مُعَيَّنًا، وَقَدْ يَكُونُ مُبْهَمًا أَيْضًا، كَحَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ أُخْتِ حُذَيْفَةَ، فَأُخْتُ حُذَيْفَةَ هِيَ فَاطِمَةُ أَوْ خَوْلَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 ابْنَةُ الْيَمَانِ، وَامْرَأَةُ رِبْعِيٍّ لَمْ تُسَمَّ، وَكَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ خَالَتِهِ، عَنِ امْرَأَةٍ مُصَدِّقَةٍ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ مَيْمُونَةُ ابْنَةُ كَرْدَمٍ، وَالْخَالَةُ لَمْ تُسَمَّ، وَكَهُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنِ امْرَأَتِهِ، وَقِيلَ: أُمُّهُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ ( «إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ» ) فَالزَّوْجَةُ أُمُّ سَلَمَةَ وَالْأُخْرَى لَمْ تُسَمَّ، وَبَسْطُ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْمَحِلِّ. وَمِنَ النُّكَتِ مَا رُوِّينَاهُ فِي خَامِسَ عَشَرَ الْمُجَالَسَةُ عَنْ جِهَةِ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى الشَّعْبِيِّ حَمَّالٌ عَلَى ظَهْرِهِ دَنٌّ يَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَى الشَّعْبِيَّ وَضَعَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُ امْرَأَةِ إِبْلِيسَ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: ذَاكَ نِكَاحٌ لَمْ نَشْهَدْهُ. [تَوَارِيخُ الرُّوَاةِ وَالْوَفَيَاتِ] [حَقِيقَةُ التَّأْرِيخِ] تَوَارِيخُ الرُّوَاةِ وَالْوَفَيَاتِ 951 - وَوَضَعُوا التَّأْرِيخَ لَمَّا كَذَبَا ... ذَوُوهُ حَتَّى بَانَ لَمَّا حُسِبَا 952 - فَاسْتَكْمَلَ النَّبِيُّ وَالصِّدِّيقُ ... كَذَا عَلِيٌّ وَكَذَا الْفَارُوقُ 953 - ثَلَاثَةَ الْأَعْوَامِ وَالسِّتِّينَا ... وَفِي رَبِيعٍ قَدْ قَضَى يَقِينَا 954 - سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَقُبِضَا ... عَامَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ التَّالِي الرِّضَا 955 - وَلِثَلَاثٍ بَعْدَ عِشْرِينَ عُمَرْ ... وَخَمْسَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ غَدَرْ 956 - عَادٍ بِعُثْمَانَ كَذَاكَ بِعَلِي ... فِي الْأَرْبَعِينَ ذُو الشَّقَاءِ الْأَزَلِي 957 - وَطَلْحَةٌ مَعَ الزُّبَيْرِ جُمِعَا ... سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مَعَا 958 - وَعَامَ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ قَضَى ... سَعْدٌ وَقَبْلَهُ سَعِيدٌ فَمَضَى 959 - سَنَةَ إِحْدَى بَعْدَ خَمْسِينَ وَفِي ... عَامِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ تَفِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 960 - قَضَى ابْنُ عَوْفٍ وَالْأَمِينُ سَبَقَهْ عَامَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مُحَقَّقَهْ ... 961 - وَعَاشَ حَسَّانٌ كَذَا حَكِيمُ عِشْرِينَ بَعْدَ مِائَةٍ تَقُومُ ... 962 - سِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ حَضَرَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ خَلَتْ ... 963 - وَفَوْقَ حَسَّانٍ ثَلَاثَةٌ كَذَا عَاشُوا وَمَا لِغَيْرِهِمْ يُعْرَفُ ذَا ... 964 - قُلْتُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى مَعَ ابْنِ يَرْبُوعٍ سَعِيدٍ يُعْزَى ... 965 - هَذَانَ مَعَ حَمْنَنٍ وَابْنِ نَوْفَلِ كُلٌّ إِلَى وَصْفِ حَكِيمٍ فَاجْمِلِ ... 966 - وَفِي الصِّحَابِ سِتَّةٌ قَدْ عُمِّرُوا كَذَاكَ فِي الْمُعَمَّرِينَ ذُكِرُوا ... 967 - وَقُبِضَ الثَّوْرِيُّ عَامَ إِحْدَى مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ وَقَرْنٍ عُدَّا ... 968 - وَبَعْدُ فِي تِسْعٍ تَلِي سَبْعِينَا وَفَاةُ مَالِكٍ وَفِي الْخَمْسِينَا ... 969 - وَمِائَةٍ أَبُو حَنِيفَةَ قَضَى وَالشَّافِعِيُّ بَعْدَ قَرْنَيْنِ مَضَى ... 970 - لِأَرْبَعٍ ثُمَّ قَضَى مَأْمُونَا أَحْمَدُ فِي إِحْدَى وَأَرْبَعِينَا ... 971 - ثُمَّ الْبُخَارِي لَيْلَةَ الْفِطْرِ لَدَى سِتٍّ وَخَمْسِينَ بِخَرْتَنْكَ رَدَى ... 972 - وَمُسْلِمٌ سَنَةَ إِحْدَى فِي رَجَبْ مِنْ بَعْدِ قَرْنَيْنِ وَسِتِّينَ ذَهَبْ ... 973 - ثُمَّ لِخَمْسٍ بَعْدَ سَبْعِينَ أَبُو دَاوُدَ ثُمَّ التِّرْمِذِيُّ يُعْقِبُ ... 974 - سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَهَا وَذُو نَسَا رَابِعَ قَرْنٍ لِثَلَاثٍ رُفِسَا ... 975 - ثُمَّ لِخَمْسٍ وَثَمَانِينَ تَفِي الدَّارَقُطْنِي ثُمَّتَ الْحَاكِمُ فِي ... 976 - خَامِسِ قَرْنٍ عَامَ خَمْسَةٍ فَنِي وَبَعْدَهُ بِأَرْبَعٍ عَبْدُ الْغَنِي ... 977 - فَفِي الثَّلَاثِينَ أَبُو نُعَيْمِ وَلِثَمَانٍ بَيْهَقِيُّ الْقَوْمِ ... 978 - مِنْ بَعْدِ خَمْسِينَ وَبَعْدَ خَمْسَةِ خَطِيبُهُمْ وَالنَّمَرِي فِي سَنَةِ [حَقِيقَةُ التَّأْرِيخِ] (تَوَارِيخُ الرُّوَاةِ وَالْوَفَيَاتِ) وَحَقِيقَةُ التَّارِيخِ: التَّعْرِيفُ بِالْوَقْتِ الَّذِي تُضْبَطُ بِهِ الْأَحْوَالُ فِي الْمَوَالِيدِ وَالْوَفَيَاتِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا يَتَّفِقُ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا مَعَانٍ حَسَنَةٌ مَعَ تَعْدِيلٍ وَتَجْرِيحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَالْعَطْفُ بِالْوَفَيَاتِ مِنْ عَطْفِ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، يُقَالُ: تَأْرِيخٌ وَتَوْرِيخٌ، وَأَرَّخْتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 الْكِتَابَ وَوَرَّخْتُهُ بِمَعْنًى، وَقَالَ الصُّولِيُّ: تَارِيخُ كُلِّ شَيْءٍ غَايَتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ زَمَنُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِفُلَانٍ: تَأْرِيخُ قَوْمِهِ. أَيْ: إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي شَرَفِ قَوْمِهِ، كَمَا قَالَهُ الْمُطَرِّزِيُّ، أَوْ لِكَوْنِهِ ذَاكِرٌ لِلْأَخْبَارِ وَمَا شَاكَلَهَا، وَمِمَّنْ لُقِّبَ بِذَلِكَ أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَغْدَادِيُّ الْعَسَّالُ الْمُقْرِئُ الْحَنْبَلِيُّ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَأَوَّلُ مَنْ أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاخْتِيرَ لِابْتِدَائِهِ أَوَّلُ سِنِّيهَا بَعْدَ أَنْ جَمَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا فِيمَا قِيلَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهَا بِخِلَافِ وَقْتِ كُلٍّ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالْوِلَادَةِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْوَفَاةِ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ فَالِابْتِدَاءُ بِهِ، وَجَعْلُهُ أَصْلًا غَيْرَ مُسْتَحْسَنٍ عَقْلًا ; لِتَهْيِيجِهِ لِلْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، وَأَيْضًا فَوَقْتُ الْهِجْرَةِ مِمَّا يُتَبَرَّكُ بِهِ ; لِكَوْنِهِ وَقْتَ اسْتِقَامَةِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَوَالِي الْفُتُوحِ وَتَرَادُفِ الْوُفُودِ وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اخْتِيرَ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ مُفْتَتَحَةً مِنْ شُهُورِهَا بِالْمُحَرَّمِ ; لِكَوْنِهِ شَهْرُ اللَّهِ، وَفِيهِ يُكْسَى الْبَيْتُ، وَيُضْرَبُ الْوَرَقُ، وَفِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ قَوْمٌ فَتِيبَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ تَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ فِيهَا تَأْرِيخٌ فَأَرِّخْ. بَلْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدِمَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَمَرَ بِالتَّأْرِيخِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَوَّلُ مَنْ أَرَّخَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ بِالْيَمَنِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وَهُوَ فَنٌّ عَظِيمُ الْوَقْعِ مِنَ الدِّينِ، قَدِيمُ النَّفْعِ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَلَا يُعْتَنَى بِأَعَمَّ مِنْهُ، خُصُوصًا مَا هُوَ الْقَصْدُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ، وَهُوَ الْبَحْثُ عَنِ الرُّوَاةِ وَالْفَحْصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي ابْتَدَائِهِمْ وَحَالِهِمْ وَاسْتِقْبَالِهِمْ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الِاعْتِقَادِيَّةَ وَالْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كَلَامِ الْهَادِي مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْمُبَصِّرِ مِنَ الْعَمَى وَالْجَهَالَةِ، وَالنَّقَلَةُ لِذَلِكَ هُمُ الْوَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَالرَّوَابِطُ فِي تَحْقِيقِ مَا أَوْجَبَهُ وَسَنَّهُ، فَكَانَ التَّعْرِيفُ بِهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَالتَّشْرِيفُ بِتَرَاجِمِهِمْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ ; وَلِذَا قَامَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَهْلُ الْحَدِيثِ، بَلْ نُجُومُ الْهُدَى وَرُجُومُ الْعِدَى. [بَوَاعِثُ وَضْعِ التَّأْرِيخِ] [بَوَاعِثُ وَضْعِ التَّأْرِيخِ] (وَوَضَعُوا التَّأْرِيخَ) الْمُشْتَمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ ضَمِّهِمْ لَهُ الضَّبْطَ لِوَقْتِ كُلٍّ مِنَ السَّمَاعِ، وَقُدُومِ الْمُحَدِّثِ الْبَلَدَ الْفُلَانِيَّ فِي رِحْلَةِ الطَّالِبِ وَمَا أَشْبَهَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَصَانِيفِهِمْ فِي آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ ; لِيَخْتَبِرُوا بِذَلِكَ مَنْ جَهِلُوا حَالَهُ فِي الصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ، (لَمَّا كَذَبَا ذَوُوهُ) أَيْ: ذَوُو الْكَذِبِ، (حَتَّى بَانَ) أَيْ: ظَهَرَ بِهِ كَذِبُهُمْ وَبُطْلَانُ قَوْلِهِمُ الَّذِي يُرَوِّجُونَ بِهِ عَلَى مَنْ أَغْفَلَهُ، (لَمَّا حُسِبَا) سِنُّهُمْ وَسِنُّ مَنْ زَعَمُوا لُقْيَهُمْ إِيَّاهُ، وَافْتَضَحُوا بِذَلِكَ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ كَمَا اتَّفَقَ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا اخْتِبَارًا: أَيُّ سَنَةٍ كَتَبْتَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ؟ فَقَالَ: سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. يَعْنِي: وَمِائَةٍ، (فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ سَمِعْتَ مِنْ خَالِدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَبْعِ سِنِينَ) وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي وَقْتِ وَفَاةِ خَالِدٍ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: جَاءَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: أَنَا شَيْخُكُمُ الصَّالِحُ. وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ. فَقِيلَ لَهُ: فِي أَيِّ سَنَةٍ لَقِيتَهُ؟ قَالَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ فِي غَزَاةِ أَرْمِينِيَّةَ. فَقِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا شَيْخُ، وَلَا تَكْذِبْ، مَاتَ خَالِدٌ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَلَمْ يَغْزُ أَرْمِينِيَّةَ) وَكَذَا قَالَ عُفَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ خَالِدٍ أَيْضًا: إِنَّهُ مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَهُوَ قَوْلُ دُحَيْمٍ وَسُلَيْمَانَ الْخَبَايِرِيِّ وَمُعَاوِيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 بنِ صَالِحٍ وَيَزِيدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَرَأَهُ كَذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْعَطَاءِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَبِهِ جَزَمَ الذَّهَبِيُّ فِي (الْعِبَرِ) وَفِيهَا مِنَ الْأَقْوَالِ أَيْضًا: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قَانِعٍ، أَوْ خَمْسٍ أَوْ ثَلَاثٍ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ وَالْمَدَائِنِيِّ وَالْفَلَّاسِ وَابْنِ مَعِينٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ فِي آخَرِينَ، وَكَذَا اتَّفَقَ لِلْحَاكِمِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْكَشِّيِّ حِينَ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فَسَأَلَهُ عَنْ مَوْلِدِهِ، فَقَالَ لَهُ: فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. فَقَالَ: إِنَّ هَذَا سَمِعَ مِنْ عَبْدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الْمُعَلَّى بْنُ عِرْفَانَ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنُ مَسْعُودٍ بِصِفِّينَ، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: أَتُرَاهُ بُعِثَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَكَذَا أَدْرَجَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ الشَّيْبَانِيُّ سَمَاعَ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ فَافْتَضَحَ ; إِذْ مَوْتُ عَمْرٍو قَبْلَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي الْمُسَلْسَلِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الثَّوْرِيُّ: لَمَّا اسْتَعْمَلَ الرُّوَاةُ الْكَذِبَ اسْتَعْمَلْنَا لَهُمُ التَّأْرِيخَ. أَوْ كَمَا قَالَ، وَنَحْوُهُ قَوْلِ حَسَّانَ بْنِ يَزِيدَ كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَأْرِيخِهِ، لَمْ يُسْتَعَنْ عَلَى الْكَذَّابِينَ بِمِثْلِ التَّارِيخِ، يُقَالُ لِلشَّيْخِ: سَنَةَ كَمْ وُلِدْتَ؟ فَإِذَا أَقَرَّ بِمَوْلِدِهِ عُرِفَ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، وَقَوْلِ حَفْصِ بْنَ غِيَاثٍ الْقَاضِي: إِذَا اتَّهَمْتُمُ الشَّيْخَ فَحَاسِبُوهُ بِالسِّنَّيْنِ يَعْنِي بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ تَثْنِيَةُ سِنٍّ، وَهُوَ الْعُمُرُ، يُرِيدُ احْسُبُوا سِنَّهُ وَسِنَّ مَنْ كَتَبَ عَنْهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا فِي السَّنَدِ مِنَ انْقِطَاعٍ أَوْ عَضَلٍ أَوْ تَدْلِيسٍ أَوْ إِرْسَالٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَفِيٍّ لِلْوُقُوفِ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ مَثَلًا لَمْ يُعَاصِرْ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَوْ عَاصَرَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَلْقَهُ ; لِكَوْنِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَهُوَ لَمْ يَرْحَلْ إِلَيْهَا، مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَتْ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةٌ أَوْ نَحْوُهَا، وَكَوْنُ الرَّاوِي عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِطِينَ، سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ التَّصْحِيفُ فِي الْأَنْسَابِ كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي التَّصْحِيفِ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ الطُّرُقِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ كَمَا سَلَفَ فِي بَابِهِ، وَرُبَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِضَبْطِ الرَّاوِي، حَيْثُ يَقُولُ فِي الْمَرْوِيِّ: وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ، أَوْ رَأَيْتُهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ يَفْعَلُ كَذَا، أَوْ كَانَ فُلَانٌ آخِرَ مَنْ رَوَى عَنْ فُلَانٍ، أَوْ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَ مَا أُحَدِّثُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ، وَفِي الْمُتُونِ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرُ كَـ ( «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ» ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كَذَا ; وَكَقَوْلِهِ عَنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ) الْحَدِيثَ. وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَقَوْلِ عَائِشَةَ: (إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ إِذَا لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَغْتَسِلْ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدُ وَأَمَرَ بِهِ وَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِعَامٍ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِشَهْرٍ وَكُنَّا نَفْعَلُ كَذَا حَتَّى قَدِمْنَا الْحَبَشَةَ، وَنَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ كَذَا) . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، بِحَيْثُ أَفْرَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ فَمَنْ بَعْدَهُمُ الْأَوَائِلَ بِالتَّصْنِيفِ، وَأَجْمَعُهَا لِشَيْخِنَا، وَكَذَا أَفْرَدَ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ آخِرَ الصَّحَابَةِ مَوْتًا كَمَا سَلَفَ هُنَاكَ، بَلْ أَفْرَدَ الْأَوَاخِرَ مُطْلَقًا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ فِي الْمُتُونِ مِنْ ذَلِكَ أَفْرَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِنَوْعٍ مُسْتَقِلٍّ وَلَوْ ضَمَّهُ بِهَذَا، وَيَكُونُ عَلَى قِسْمَيْنِ: سَنَدِيٍّ وَمَتْنِيٍّ، وَقَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ لَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 حَسَنًا. وَكَانَ لِخِيَارِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ بِأَهْلِهِ أَتَمُّ اعْتِنَاءٍ، حَتَّى إِنَّ الْأَمِيرَ سَنْجَرَ الدَّوَادَارِيَّ سَأَلَ الدِّمْيَاطِيَّ وَنَاهِيَكَ بِجَلَالَتِهِ عَنْ سَنَةِ وَفَاةِ الْبُخَارِيِّ، فَلَمْ تَتَّفِقْ لَهُ الْمُبَادَرَةُ لِاسْتِحْضَارِهَا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَبَادَرَ لِذِكْرِهَا فَحَظِيَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ جِدًّا، وَزَادَ فِي إِكْرَامِهِ وَتَقْرِيبِهِ. وَفُنُونُهُ مُتَشَعِّبَةٌ جِدًّا، وَالْمَرْغُوبُ عَنْهُ مِنْهَا مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلتَّفَرُّجِ ; وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي (الْإِحْيَاءِ) ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ مِنَ (الرَّوْضَةِ) : الْكِتَابُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِثَلَاثَةِ أَغْرَاضٍ: التَّعْلِيمِ وَالتَّفَرُّجِ بِالْمُطَالَعَةِ، وَالِاسْتِفَادَةِ. فَالتَّفَرُّجُ لَا يُعَدُّ حَاجَةً ; كَاقْتِنَاءِ كُتُبِ الشِّعْرِ وَالتَّوَارِيخِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا يُبَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَيَمْنَعُ اسْمَ الْمَسْكَنَةِ. انْتَهَى. وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْإِحْيَاءِ بِكَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ الْمُبَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا الْمُبَاحُ مِنْهُ فَالْعِلْمُ بِالْأَشْعَارِ الَّتِي لَا سَخْفَ فِيهَا، وَتَوَارِيخُ الْأَخْبَارِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَوَلِعَ بَعْضُ الْفُسَّاقِ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي ذَمِّ مُطْلَقِ التَّارِيخِ فَأَخْطَأَ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْوُقُوفِ عَلَى اتِّصَالِ الْخَبَرِ وَشِبْهِهِ. وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ: فُنُونُ التَّوَارِيخِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي تَأْرِيخَيِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَسَرَدَهَا فَكَانَتْ أَمْرًا عَجَبًا، وَلَمْ أَنْهَضْ لَهُ، وَلَوْ عَمِلْتُهُ لَجَاءَ فِي سِتِّمِائَةِ مُجَلَّدٍ. وَلِذَا قَالَ مُغْلَطَايُ كَمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ أَيْضًا: إِنَّ شَخْصًا وَاحِدًا حَازَ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ تَصْنِيفٍ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْوَفَيَاتِ بِخُصُوصِهَا كِتَابٌ مُسْتَوْفًى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ مُؤَلِّفُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَأَنَّهُ رَامَ جَمْعَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا: رَتِّبْهُ عَلَى الْحُرُوفِ بَعْدَ أَنْ تُرَتِّبَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 عَلَى السِّنِينِ، يَعْنِي فِي تَصْنِيفَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ يَسْتَوْفِي الْغَرَضَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ فِي وَاحِدٍ فَقَطْ، وَيَكُونُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُسْتَوْفِيًا، وَالْآخَرُ: حَوَالَةً، بِأَنْ يَقُولَ فِي حَرْفِ الْعَيْنِ مَثَلًا: عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الطَّبَقَةِ الْفُلَانِيَّةِ مِنَ التَّابِعِينَ. لِيَتَيَسَّرَ بِذَلِكَ لِلطَّالِبِ الْإِحَاطَةُ بِالرَّاوِي، سَوَاءٌ عَرَفَ طَبَقَتَهُ أَوِ اسْمَهُ، وَإِنْ كَانَ صَنِيعُ الذَّهَبِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ طَبَقَةٍ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ فِيهِ الْأَسْمَاءُ مُرَتَّبَةً عَلَى الْحُرُوفِ، وَالْآخَرِ فِيهِ الْحَوَادِثُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كَلَامِ الْحُمَيْدِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِ الْإِسْلَامِ لَهُ مَا نَصُّهُ: قَدْ فَتَحَ اللَّهُ بِكِتَابِنَا هَذَا ـ انْتَهَى. فَإِنَّ الظَّاهِرَ مَا قَدَّمْتُهُ، هَذَا مَعَ أَنَّ تَأْرِيخَ الْإِسْلَامِ قَدْ فَاتَهُ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ مَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَقَدْ رَتَّبْتُهُ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَزِدْتُ فِيهِ قَدْرَهُ أَوْ أَكْثَرَ، وَصَارَ الْآنَ كِتَابًا حَافِلًا بَدِيعًا مَعَ أَنِّي لَمْ أَبْلُغْ فِيهِ غَرَضِي. [ المصنفات فيه ] وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْوَفَيَاتِ الْقَاضِيَانِ ; أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَآخِرُ وَفَيَاتِهِ عِنْدَ سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زَبْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَاضِي مِصْرَ، وَالْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكِلَّاهُمَا مِمَّنْ تُكَلِّمَ فِيهِ، فَأَوَّلُهُمَا لِخَطِئِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى الْخَطَأِ مَعَ ثِقَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَثَانِيهِمَا قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَذَيَّلَ عَلَى وَفَيَاتِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْكَتَّانِيُّ ثُمَّ أَبُو مُحَمَّدٍ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْأَكْفَانِيُّ فَعَمِلَ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ ثُمَّ الْحَافِظُ الذَّكِيُّ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ، وَهُوَ كَبِيرٌ، كَثِيرُ الْإِتْقَانِ وَالْفَائِدَةِ، ثُمَّ الشَّرِيفُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُسَيْنِيُّ، ثُمَّ الْمُحَدِّثُ الشِّهَابُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَيْبَكَ الدِّمْيَاطِيُّ، وَانْتَهَى إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَذَيَّلَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَّ الْحَافِظُ الْمُصَنِّفُ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، فَذَيَّلَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِي مِائَةٍ، وَلَكِنَّ الَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْهُ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَلِلْحَافِظِ التَّقِيِّ بْنِ رَافِعٍ فِي الْوَفَيَاتِ كِتَابٌ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ ذَيَّلَ بِهِ عَلَى تَارِيخِ الْعِلْمِ الْبَرْزَالِيُّ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ، مِنْ سَنَةِ مَوْلِدِهِ، وَجَعَلَهُ ذَيْلًا عَلَى تَأْرِيخِ أَبِي شَامَةَ، وَانْتَهَتْ وَفَيَاتُ ابْنِ رَافِعٍ إِلَى أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ; وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ تَارِيخَهُ إِنْبَاءَ الْغَمْرِ يَصْلُحُ مِنْ جِهَةِ الْوَفَيَاتِ أَنْ يَكُونَ ذَيْلًا عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي ذَيْلٍ عَلَيْهِ يَسَّرَ اللَّهُ إِكْمَالَهُ وَتَحْرِيرَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالذُّيُولُ الْمُتَأَخِّرَةُ أَبْسَطُ مِنَ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَكْثَرُ فَوَائِدَ، وَأَصْلُهَا ـ وَهُوَ كِتَابُ ابْنِ زَبْرٍ ـ أَشَدُّهَا إِجْحَافًا، حَتَّى إِنَّهُ فِي كُلٍّ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتٍّ وَسَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ لَمْ يَكْتُبْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، بَلْ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَاللَّتَيْنِ بَعْدَهَا، وَكَذَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَاثْنَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ السِّنِينَ لَمْ يُؤَرِّخْ أَحَدًا وَلِأَجْلِ إِجْحَافِهَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَمِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْوَفَيَاتِ أَيْضًا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَلَمْ أَرَ أَكْثَرَ اسْتِيعَابًا مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنَ الْوَفَيَاتِ عُيُونًا مُفِيدَةً تَحْسُنُ الْمُذَاكَرَةُ بِهَا وَيَقْبُحُ بِالطَّالِبِ جَهْلُهَا مَعَ مِقْدَارِ سِنِّ جَمَاعَةٍ وَبَيَانِ عِدَّةٍ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ. [ استكمال النبي والصديق وعمر وعلي لثلاثة وستين سنة ] فَأَمَّا الثَّانِي (فَاسْتَكْمَلَ النَّبِيُّ) سَيِّدُ الْعَالَمِينَ طُرًّا، وَسَنَدُ الْمُؤْمِنِينَ ذُخْرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُفَ وَكَرُمَ، (وَ) كَذَا خَلِيفَتُهُ وَصَاحِبُهُ (الصِّدِّيقُ) أَبُو بَكْرٍ، وَ (كَذَا) ابْنُ عَمِّهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ (عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ (كَذَا الْفَارُوقُ) هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخُطَّابِ الْمُسَمَّى قَدِيمًا بِذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِكَوْنِهِ كَمَا فِي مَرْفُوعٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 (فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ) ، وَالْمُتَأَخِّرُ هُنَا فِي الذِّكْرِ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ لِلضَّرُورَةِ، (ثَلَاثَةَ الْأَعْوَامِ وَالسِّتِّينَا) أَيْ: ثَلَاثَةَ وَسِتِّينَ سَنَةً مَعَ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، لَكِنَّ الْقَوْلَ بِهِ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَنْ عَائِشَةَ وَجَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ مَجِيءِ خِلَافِهِ أَيْضًا عَنْهُمْ إِلَّا مُعَاوِيَةَ فَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ سِوَاهُ، وَبِهِ جَزَمَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ، وَكَذَا قَالَ بِهِ الْقَاسِمُ وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيُّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ: هُوَ الثَّبَتُ عِنْدَنَا. بَلْ حَكَى فِيهِ الْحَاكِمُ الْإِجْمَاعَ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَتَأَلَّوُا الْبَاقِيَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سِتُّونَ كَمَا ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنْ أَنَسٍ، وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمَالِكٍ، وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي (الْإِكْلِيلِ) ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَارِيخِهِ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُلْغِي الْكُسُورَ وَتَقْتَصِرُ عَلَى الْأَعْدَادِ الصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَيْضًا، وَدَغْفَلِ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ. قَالَهُ قَتَادَةُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْهُ، وَنَحْوُهُ مَا فِي تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى أَنَسٍ، قَالَ: اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ وَنِصْفٌ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَبَّةَ: إِحْدَى أَوِ اثْنَتَانِ، لَا أَرَاهُ بَلَغَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَالَّذِي قَبْلَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وُلِدَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِي مِقْدَارِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَدَّ مِنْ وَقْتِ مَجِيءِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ عَشْرٌ فَقَطْ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَدَّ مِنْ بَعْدِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَمَجِيءِ الْمَلَكِبِـ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 وَالْقَوْلُ بِهِ فِي الصِّدِّيقِ صَحَّ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ وَمُعَاوِيَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْخُلَفَاءِ، لَهُ مِنْ جِهَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ قَانِعٍ وَالْمِزِّيُّ وَالذَّهَبِيُّ، وَقَالَ مُبَالِغًا فِي أَصَحِّيَّتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَالْقَوْلُ بِهِ فِي الْفَارُوقِ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَمُعَاوِيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَصَحَّحَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمِزِّيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْمُصَنِّفُ بِكَوْنِهِ وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، يَعْنِي فَإِنَّ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ، وَهُوَ تَأَخَّرَ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي سَبَقَهُ بِهَا، وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ. قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الْخُلَفَاءِ لَهُ، وَقِيلَ: سِتٌّ وَخَمْسُونَ أَوْ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ أَوْ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ، رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقِيلَ: سِتُّونَ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ قَانِعٍ فِي (الْوَفَيَاتِ) ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتُّونَ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ. قَالَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالزُّهْرِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُمَا، وَقِيلَ: سِتٌّ وَسِتُّونَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي تَصْحِيحِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ. فَهُوَ وَإِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عُمَرَ قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ، فَرَأَيْتُ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ لِعُمْرَ بْنِ شَبَّةَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِعَامٍ: أَنَا ابْنُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَإِنَّمَا أَتَانِي الشَّيْبُ مِنْ قِبَلِ أَخْوَالِي بَنِي الْمُغِيرَةِ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ يَوْمَ مَاتَ ابْنَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ أَوْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ يُرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَخْبَرُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّهُ عَنْ آلِ بَيْتِهِ، وَآلِ الرَّجُلِ أَتْقَنُ لِأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ بِهِ فِي عَلِيٍّ مَرْوِيٌّ عَنْ وَلَدِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ وَآخَرِينَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ لِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَبْعٌ وَخَمْسُونَ. قَالَهُ الْهَيْثَمُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَرْقِيِّ، وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ قَانِعٍ كَلَامَهُ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالْمِزِّيُّ حِينَ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَاضِي، وَقِيلَ: اثْنَانِ وَسِتُّونَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الْخُلَفَاءِ لَهُ، وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ أَوْ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، رُوِيَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا. (وَ) أَمَّا الْوَفَيَاتُ وَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَالْفُقَهَاءِ الْخَمْسَةِ، الثَّوْرِيِّ، ثُمَّ الْأَرْبَعَةِ الْمَشْهُورِينَ وَالْحُفَّاظِ الْخَمْسَةِ أَصْحَابِ أُصُولِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 الْإِسْلَامِ وَسَبْعَةِ حُفَّاظٍ بَعْدَهُمُ انْتُفِعَ بِتَصَانِيفِهِمُ الْحَسَنَةِ مِنْ زَمَنِهِمْ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَأَرْدَفَ الْعَشَرَةَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُعَمَّرِينَ (فَفِي) شَهْرِ (رَبِيعٍ) هُوَ الْأَوَّلُ (قَدْ قَضَى) أَيْ: مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقِينَا) أَيْ: بِلَا خِلَافٍ ; فَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا، لَكِنْ فِي حَدِيثٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ أَنَّهُ كَانَ فِي حَادِي عَشَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ ـ انْتَهَى. وَذَلِكَ (سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى أَحَدِ لُغَاتِهَا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ دُفِنَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْيَوْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّهْرِيُّ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ فِي آخَرِينَ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي ضَبْطِهِ مِنَ الشَّهْرِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، فَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ سَعْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ كَانَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَبِهِ جَزَمَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) وَ (الرَّوْضَةِ) وَغَيْرِهِمَا مِنْ تَصَانِيفِهِ، وَالذَّهَبِيُّ فِي (الْعِبَرِ) ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَبِهِ صَدَّرَ الْمِزِّيُّ كَلَامَهُ، وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَابْنِ شِهَابٍ وَاللَّيْثِ وَالْخَوَارِزْمِيِّ أَنَّهُ فِي مُسْتَهَلِّهِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ زَبْرٍ فِي (الْوَفَيَاتِ) ، وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ كَمَا سَيَأْتِي عَنْهُمَا أَنَّهُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، بَلْ يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلْمِ بْنَ قُتَيْبَةَ الْبَاهِلِيِّ: ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرِضَ ثَمَانِيَةً فَتُوُفِّيَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ، وَنَحْوُهُ مَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ وَأَبِي مِخْنَفٍ أَنَّهُ فِي ثَانِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يَتَنَزَّلُ مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ حِجَّتِهِ ثَمَانِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا. وَأَمَّا عَلَى جَزْمٍ مَا بِهِ فِي (الرَّوْضَةِ) ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ عَاشَ بَعْدَ حِجَّتِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا أَوْ أَحَدًا أَوْ تِسْعِينَ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ السُّهَيْلِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَا الْحِجَّةِ كَانَ أَوَّلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ؟ ؟ ، فَمَهْمَا فُرِضَتِ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ تَوَامَّ أَوْ نَوَاقِصَ أَوْ بَعْضُهَا لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 يَصِحَّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَأَجَابَ الشَّرَفُ ابْنُ الْبَارِزِيِّ ثُمَّ ابْنُ كَثِيرٍ بِاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ كَوَامِلَ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَرَآهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، وَلَمْ يَرَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَحَصَلَتِ الْوَقْفَةُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَرَّخُوا بِرُؤْيَةِ أَهْلِهَا، فَكَانَ أَوَّلُ ذِي الْحِجَّةِ الْجُمُعَةَ وَآخِرُهُ السَّبْتَ، وَأَوَّلُ الْمُحَرَّمِ الْأَحَدَ وَآخِرُهُ الِاثْنَيْنِ، وَأَوَّلُ صَفَرٍ الثُّلَاثَاءَ، وَآخِرُهُ الْأَرْبِعَاءَ، وَأَوَّلُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الْخَمِيسَ، فَيَكُونُ ثَانِيَ عَشْرَةَ الِاثْنَيْنِ، وَأَجَابَ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ بِجَوَابٍ آخَرَ فَقَالَ: يُحْمَلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ أَيْ: بِأَيَّامِهَا فَيَكُونُ مَوْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَتُفْرَضُ الشُّهُورُ كَوَامِلَ فَيَصِحُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَاسْتَبْعَدَهُمَا شَيْخُنَا لِمُخَالَفَةِ الثَّانِي اصْطِلَاحَ أَهْلِ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِمْ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهَا إِلَّا مُضِيَّ اللَّيَالِي، وَيَكُونُ مَا أُرِّخَ بِذَلِكَ وَاقِعًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَلِاسْتِلْزَامِهِمَا مَعًا تَوَالِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَوَامِلَ مَعَ جَزْمِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَحَدِ الثِّقَاتِ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: بِأَنَّ ابْتِدَاءَ مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرَ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ صَفَرَ كَانَ نَاقِصًا، وَأَنَّ أَوَّلَهُ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَنَحْوُهُ فِي تَضَمُّنِ كَوْنِ أَوَّلِهِ السَّبْتَ مَا فِي (الْمَغَازِي) لِأَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرَ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّهُ اشْتَكَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ السَّبْتَ إِلَّا أَنْ كَانَ ذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ نَاقِصَيْنِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَقْصَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ، قَالَ: وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ أَبُو مِخْنَفٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِمَّا رَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ فِي ثَانِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ لَفْظُ شَهْرٍ غُيِّرَ مِنْ أَوَّلِ قَائِلٍ بِعَشْرٍ، فَصَارَ ثَانِيَ عَشَرَ، وَاسْتَمَرَّ الْوَهْمُ بِذَلِكَ ; لِاقْتِفَاءِ الْمُتَأَخِّرِ الْمُتَقَدِّمَ بِدُونِ تَأَمُّلٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 قُلْتُ: وَهُوَ وَإِنْ سَبَقَهُ شَيْخُهُ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ وَظَنِّ الْغَلَطِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ مَنْ قَالَ: ثَانِي عَشَرَ. غَلِطَ مِنَ الْمَوْلِدِ إِلَى الْوَفَاةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَعَذِّرٌ مِنْ حَيْثُ التَّارِيخِ إِلَّا عَلَى الْمَحْمَلِ الْمَاضِي لَهُ مَعَ خَدْشِهِ، مُسْتَلْزِمٌ لِتَوَالِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فِي النَّقْصِ، وَكَلَامُهُ أَوَّلًا مُشْعِرٌ بِالتَّوَقُّفِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرَ، فَاشْتَكَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. فَمُشْكِلٌ ; لِاسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ صَفَرَ الْأَرْبِعَاءَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِكَوْنِ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ الْخَمِيسَ، مَهْمَا فُرِضَتِ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: ثُمَّ بَدَأَ بِهِ مَرَضُهُ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرَ. يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ صَفَرَ الْخَمِيسُ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ أَيْضًا. [الاخْتُلاِفَ فِي ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ ثُمَّ مُدَّتِهِ ثُمَّ وَقْتِ وَفَاتِهِ وَدَفْنِهِ] وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ ثُمَّ مُدَّتِهِ ثُمَّ وَقْتِ وَفَاتِهِ وَدَفْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ أَوْ يَوْمُ السَّبْتِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَكْثَرُ أَنَّهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: بِزِيَادَةِ يَوْمٍ، وَقِيلَ: بِنَقْصِهِ. وَالْقَوْلَانِ فِي (الرَّوْضَةِ) ، وَصَدَّرَ بِالثَّانِي، وَقِيلَ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ ضُحًى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَأَلْقَى السَّجْفَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ تَأَخَّرَ بَعْدَ الضُّحَى، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ النِّصْفِ الثَّانِي، فَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الضُّحَى، وَهُوَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَتْ عَائِشَةُ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِهَا فَقَالَتْ: ( «مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - ارْتِفَاعَ الضُّحَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 وَانْتِصَافَ النَّهَارِ» ) . وَنَحْوُهُ قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: (تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَيْثُ زَاغَتِ الشَّمْسُ) . وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي (النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) لَهُ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَقِيلَ: إِنَّهُ سَاعَةَ وَفَاتِهِ وَهِيَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي (الْإِكْلِيلِ) : إِنَّهُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَثْبَتُهَا. وَقِيلَ: لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ. رَوَاهُ سَيْفٌ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَكَاهُ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ شَاهِينَ فِي النَّاسِخِ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ دُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ. وَصَدَّرَ بِهِ الْحَاكِمُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُمَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِفَ النَّهَارُ وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ: ( «أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ فِي الضُّحَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدُفِنَ الْغَدَ فِي الضُّحَى» ) ، وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ. كَمَا فِي خَبَرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ( «مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ» ) . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ( «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ» ) . وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَلَبِثَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَتِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَحُبِسَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَمِنَ الْغَدِ حَتَّى دُفِنَ مِنَ اللَّيْلِ، وَحَكَاهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ سَلَفًا وَخَلَفًا، مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَصَحَّحَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ كَمَا أَسْنَدَهُ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: ( «تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَمَكَثَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ حَتَّى دُفِنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ» ) . وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ( «لَمَّا فَرَغُوا مِنْ غُسْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وَتَكْفِينِهِ وَضَعُوهُ حَيْثُ تُوُفِّيَ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ» . وَقِيلَ: كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ مُرْسَلِ مَكْحُولٍ وَفِيهِ: (ثُمَّ تُوُفِّيَ فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُدْفَنُ، يَدْخُلُ عَلَيْهِ النَّاسُ أَرْسَالًا أَرْسَالًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ تَدْخُلُ الْعُصْبَةُ تُصَلِّي وَتُسَلِّمُ، لَا يَصُفُّونَ، وَلَا يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْهِمْ مُصَلٍّ، حَتَّى فَرَغَ مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ ثُمَّ دُفِنَ. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أُخِّرَ لِلِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْبَيْعَةِ ; لِيَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْلِهِ ; لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى نِزَاعٍ وَاخْتِلَافٍ، لَا سِيَّمَا فِي مَحَلِّ دَفْنِهِ، وَهَلْ يَكُونُ لَحْدًا أَوْ شَقًّا. (وَقُبِضَا) أَيْ: مَاتَ، (عَامَ ثَلَاثَ عَشْرٍ) بِسُكُونِ ثَانِيهِ أَيْضًا بِالتَّنْوِينِ هُنَاكَ وَدُونِهِ هُنَا مِنَ الْهِجْرَةِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (التَّالِي) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِخْلَافِ وَالْوَفَاةِ، (الرِّضَا) أَيِ: الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا فِي السَّنَةِ، قِيلَ: فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ وَالْفَلَّاسِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمِزِّيُّ، وَقِيلَ: فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ زَبْرٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالذَّهَبِيُّ فِي (الْعِبَرِ) ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِلَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْهُ. رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ، مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ، فَقِيلَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: لِلَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْخُلَفَاءِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، بَلْ رُوِيَتْ وَفَاتُهُ فِي مَسَاءِ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ فِي صَحِيحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّهُ دُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقِيلَ: لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْهُ. وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي اخْتَلَفُوا أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ السِّيَرِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَشِيَّةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ أَوْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ أَوْ عَشِيَّةَ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ. زَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْهُ، شَهِيدًا ; لِقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَالْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَكَلَا خَزِيرَةً، أُهْدِيَتْ لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ الْحَارِثُ وَكَانَ طَبِيبًا: ارْفَعْ يَدَكَ، وَاللَّهِ إِنَّ فِيهَا لَسُمُّ سَنَةٍ، فَلَمْ يَزَالَا عَلِيلَيْنِ حَتَّى مَاتَا عِنْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَدُفِنَ مَعَ صَاحِبِهِ بِبَيْتِ عَائِشَةَ. [وفاة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (وَ) مَاتَ (لِثَلَاثٍ) مِنَ السِّنِينَ (بَعْدَ عِشْرِينَ) سَنَةً فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الْفَارُوقُ (عُمَرْ) ، بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَدُفِنَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ; وَلِذَا أَرَّخَ الْفَلَّاسُ مَوْتَهُ فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمِزِّيِّ، وَتَبِعَهُ الذَّهَبِيُّ: إِنَّهُ قُتِلَ لِأَرْبَعٍ أَوْ ثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ حِينَ طَعْنِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ ; فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ. وَقِيلَ: لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْهُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: تُوُفِّيَ عُمَرُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 فَغَلَطٌ. وَدُفِنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. [مقتل عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (وَ) عَامَ (خَمْسَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ) عَامًا فِي ذِي الْحِجَّةِ أَيْضًا (غَدَرْ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: تَرَكَ لِلْوَفَاءِ بِعَهْدِ الْإِسْلَامِ، (عَادٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا أَلْفٌ حَيْثُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ، قِيلَ: إِنَّهُ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ، أَوْ سَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ أَوْ رُومَانُ الْيَمَامِيُّ أَوْ رُومَانُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، (بِعُثْمَانَ) بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَتَلَهُ، وَكَوْنُهُ جَبَلَةَ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ كِنَانَةَ مَوْلَى صَفِيَّةَ قَالَ: رَأَيْتُ قَاتِلَ عُثْمَانَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ: جَبَلَةُ. بَاسِطٌ يَدَهُ أَوْ رَافِعٌ يَدَهُ يَقُولُ: أَنَا قَاتِلُ نَعْثَلٍ. يَعْنِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنَ دَارِمٍ قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ قَامَ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ سَبْعَ عَشْرَةَ كَرَّةً يَقْتُلُ مَنْ حَوْلَهُ وَلَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي وَقْتِ قَتْلِهِ فَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي أَوَّلِهَا، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ أَوْ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْهَا، وَقِيلَ: كَمَا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: إِنَّهُ خَطَأٌ مِنْ رَاوِيهِ. ثُمَّ عَلَى الْأَشْهُرِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهِ مِنَ الشَّهْرِ، فَقِيلَ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْهُ. كَمَا أَوْرَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي (فَضَائِلِ عُثْمَانَ) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، وَكَذَا قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَزَادَ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، بَلِ ادَّعَى ابْنُ نَاصِرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 لِثَمَانٍ خَلَتْ مِنْهُ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَادَّعَى أَيْضًا الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قُتِلَ عَلَى رَأْسِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا أَوِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ خِلَافَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي ثَانِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْهُ. وَقِيلَ كَمَا لِأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ: فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ كَمَا لِلَيْثِ بْنِ سَعْدٍ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ. وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامَهُ. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي الْيَوْمِ فَقِيلَ: لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: يَوْمَهَا. وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ. وَدُفِنَ كَمَا قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي حَشِّ كَوْكَبٍ كَانَ عُثْمَانُ اشْتَرَاهُ فَوَسَّعَ بِهِ الْبَقِيعَ. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ، فَقِيلَ كَمَا لِابْنِ إِسْحَاقَ: ثَمَانُونَ. وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ. قَالَهُ أَبُو الْيَقْظَانِ، يَعْنِي وَأَشْهُرًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَادَّعَى الْوَاقِدِيُّ اتِّفَاقَ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَمَانُونَ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقِيلَ: ثَمَانٌ وَثَمَانُونَ. وَقِيلَ: تِسْعُونَ. وَزَعَمَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الثَّمَانِينَ. [مقتل علي بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (كَذَلِكَ) غَدَرَ (بِعَلِي) هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَتَلَهُ غِيلَةً (فِي) شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ (الْأَرْبَعِينَ) مِنَ الْهِجْرَةِ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيُّ أَحَدُ الْخَوَارِجِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَفُرْسَانِ قَوْمِهِ الْمَعْدُودِينَ بِمِصْرَ، وَكَوْنُهُ عَابِدًا قَانِتًا لِلَّهِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، لَكِنَّهُ بِفَتْقِهِ فِي الْإِسْلَامِ هَذَا الْفَتْقَ الْعَظِيمَ الَّذِي زَعَمَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ، وَهُوَ (ذُو الشَّقَاءِ الْأَزَلِي) أَيِ: الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، بَلْ هُوَ أَشْقَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِقَوْلِهِ مُخَاطِبًا لِعَلِيٍّ: ( «أَشْقَى النَّاسِ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، حَتَّى تُخَضَّبَ هَذِهِ» ) . يَعْنِي لِحْيَتَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ صُهَيْبٍ، بَلْ يُرْوَى أَنَّهُ حِينَ دَعَا عَلِيٌّ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ لِيُبَايِعَ ; فَرَدَّهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ جَاءَ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَبَايَعَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا يُحْبَسُ أَشْقَاهَا، أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخَضِّبَنَّ هَذِهِ. وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَ بِرَأْسِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ قَتْلُهُ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، فَقِيلَ: لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقِيلَ: فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَاتَ غَدَاةَ الْيَوْمِ، وَبِهِ جَزَمَ الذَّهَبِيُّ فِي (الْعِبَرِ) . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ضُرِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشَرَةَ بَقِيَتْ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ وَالشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّهُ ضُرِبَ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَقُبِضَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: قُتِلَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَقِيَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَمَاتَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ. وَقِيلَ: مَاتَ يَوْمِ الْأَحَدِ. وَشَذَّ ابْنُ زَبْرٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قُتِلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعِ عَشَرَةٍ مَضَتْ مِنْهُ، سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ; وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّهُ وَهِمَ لَمْ أَرَ مَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ دَفْنِهِ فَقِيلَ: فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ أَوْ فِي رَحْبَةَ الْكُوفَةِ أَوْ بِنَجَفِ الْحِيرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَجَزَمَ الصَّغَانِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّهُ قُتِلَ بِالْكُوفَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ بَابِ كِنْدَةَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 الرَّحْبَةِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ جُهِلَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ، وَقَتَلَ أَوْلَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَاتِلَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ فَقُطِعَتْ أَرْبَعَتُهُ وَلِسَانُهُ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ أُحْرِقَ. [مقتل طلحة والزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما] (وَطَلْحَةٌ) بِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: (مَعَ الزُّبَيْرِ) ابْنِ الْعَوَامِّ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعَشَرَةِ (جُمِعَا) قُتِلَا فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ: (سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ) مِنَ الْهِجْرَةِ، بَلْ قِيلَ: فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ وَيَوْمٍ وَاحِدٍ (مَعَا) وَاخْتُلِفَ فِي شَهْرِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ الَّتِي كَانَتْ بِنَاحِيَةِ الطَّفِّ، فَقِيلَ: كَانَتْ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَبِهِ جَزَمَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَالْوَاقِدِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ زَبْرٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَآخَرُونَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ خَلِيفَةُ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ وَاللَّذَانِ بَعْدَهُ وَالْجُمْهُورُ: يَوْمَ الْخَمِيسِ. وَقِيلَ كَمَا لِلَيْثِ بْنِ سَعْدٍ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي جُمَادَى الْأَوَّلِ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ حَيْثُ أَرَّخَ وَفَاتَهُمَا بِهِ، وَعَيَّنَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، وَحَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لَكِنْ فِي مَوْضِعَيْنِ ; فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي تَرْجَمَةِ طَلْحَةَ عَلَى الْأَوَّلِ وَفِي الزُّبَيْرِ عَلَى الثَّانِي، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْمِزِّيُّ، وَكَذَا قِيلَ فِي قَتْلِ طَلْحَةَ كَمَا لَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ: إِنَّهُ فِي رَبِيعٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَكَمَا لِأَبِي نُعَيْمٍ: إِنَّهُ فِي رَجَبٍ، بَلْ قَالَهُ فِي الزُّبَيْرِ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ صَبِيحَةِ الْجَمَلِ. وَهَذَا يَقْضِي أَنَّهُ فِي حَادِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخَرِ، وَقَاتِلُ طَلْحَةَ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَا خِلَافٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 أَخْذًا بِثَأْرِهِ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ فِيمَا قِيلَ: أَعَانَ عَلَى قَتْلِ ابْنِ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فَبَادَرَ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ: لَا أَطْلُبُ ثَأْرِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ نَزَعَ لَهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي عَيْنِ رُكْبَتِهِ، فَمَا زَالَ الدَّمُ يَسِيحُ إِلَى أَنْ مَاتَ، هَذَا مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ مَرْوَانَ وَطَلْحَةَ كَانَا مَعَ عَائِشَةَ، فَهُمَا فِي حِزْبٍ وَاحِدٍ، وَعُدَّ قَتْلِ طَلْحَةَ مِنْ مُوبِقَاتِ مَرْوَانَ، وَقَاتِلُ الزُّبَيْرِ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ غَدْرًا، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِمُعَاوَنَةٍ مِنْ فَضَالَةَ بْنِ حَابِسٍ وَنُفَيْعٍ، بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي السِّبَاعِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْجَمَلِ ; فَإِنَّهُ - كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى - تَوَافَى فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ هُوَ وَعَلِيٌّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: (أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّكَ تُقَاتِلُ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ) ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ إِلَى الْآنَ وَانْصَرَفَ) ، زَادَ بَعْضُهُمْ فَبَلَغَ الْأَحْنَفَ فَقَالَ: حَمَلَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا ضَرَبَ بَعْضُهُمْ حَوَاجِبَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ أَرَادَ أَنْ يَلْحَقَ بِبَيْتِهِ، فَسَمِعَهَا عَمْرٌو فَانْطَلَقَ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ وَأَعَانَهُ مَنْ ذَكَرْنَا، فَقَتَلُوهُ، وَأَتَى عَمْرٌو بَعْدَ ذَلِكَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ فَقَذَفَهُ فِي السِّجْنِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَظَنَنْتَ أَنِّي قَاتِلٌ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ بِالزُّبَيْرِ، خَلِّ سَبِيلَهُ. وَكَانَ مَبْلَغُ سِنِّهِمَا فِيمَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ أَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ، ثُمَّ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَلْحَةَ خَاصَّةً، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فَبِالنِّسْبَةِ لَطَلْحَةَ قِيلَ: سِتُّونَ. قَالَهُ الْمَدَايِنِيُّ، وَصَدَّرَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ، وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ. قَالَهُ عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ. قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: مَا أَظُنُّ ذَلِكَ. وَدُفِنَ بِالْبَصْرَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلزُّبَيْرِ قِيلَ: بِضْعٌ وَخَمْسُونَ. وَقِيلَ: سِتٌّ وَسِتُّونَ. وَقِيلَ: سَبْعٌ وَسِتُّونَ. قَالَهُمَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَبِالثَّانِي مِنْهُمَا صَدَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 [موت سَعْدٌ ابن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (وَعَامَ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ) مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ (قَضَى) أَيْ: مَاتَ سَعْدٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ وَآخِرُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مَوْتًا، وَقِيلَ: خَمْسِينَ أَوْ إِحْدَى أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، كُلُّهَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ وَابْنِ سَعْدٍ وَالْهَيْثَمِ ابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي مُوسَى الزَّمِنِ وَالْمَدَايِنِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ زَبْرٍ عَنِ الْفَلَّاسِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ. وَالثَّانِي: قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالثَّالِثُ: حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْفَلَّاسِ أَيْضًا، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ، وَالرَّابِعُ: حُكِيَ عَنِ الْفَلَّاسِ أَيْضًا وَغَيْرِهِ، وَالْأَخِيرُ قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَذَلِكَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، وَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى دُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَسِنُّهُ قِيلَ: ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ. وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقِيلَ: أَرْبَعٌ. وَبِهِ جَزَمَ الْفَلَّاسُ وَابْنُ زَبْرٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقِيلَ: اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ. ثَانِيهِمَا قَوْلُ أَحْمَدَ. [موت سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (وَقَبْلَهُ سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ ; (فَإِنَّهُ مَضَى) أَيْ: مَاتَ عَلَى الْمَشْهُورِ (سَنَةَ إِحْدَى بَعْدَ خَمْسِينَ) سَنَةً مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَالْهَيْثَمُ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَالْمَدَايِنِيُّ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَخَلِيفَةُ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسِينَ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَذَا حَكَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ بَعْضِ وَلَدِ سَعِيدٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. قَالَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، وَقِيلَ: ثَمَانٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ: وَلَا يَصِحُّ، فَإِنَّ سَعْدًا الَّذِي قَبْلَهُ فِي الذِّكْرِ شَهِدَهُ وَنَزَلَ حُفْرَتَهُ وَوَفَاتَهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ - كَمَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ - بِالْعَقِيقِ أَيْضًا، وَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدُفِنَ بِهَا، وَقَالَ الْهَيْثَمُ: إِنَّهَا بِالْكُوفَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَدُفِنَ بِهَا وَلَا يَصِحُّ، وَسِنُّهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ ; إِمَّا ثَلَاثٌ، فِيمَا قَالَهُ الْمَدَايِنِيُّ وَالْهَيْثَمُ، أَوْ أَرْبَعٌ، فِيمَا قَالَهُ الْفَلَّاسُ. [موت عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (فِي عَامِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ) مِنَ الْهِجْرَةِ، (تَفِي) أَيْ: تَتِمُّ وَتَكْمُلُ، (قَضَى) أَيْ: مَاتَ (ابْنُ عَوْفٍ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي قَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْوَاقِدِيُّ وَالْهَيْثَمُ وَالْفَلَّاسُ وَالزَّمِنُّ، وَالْمَدَايِنِيُّ وَخَلِيفَةُ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ، وَقِيلَ: إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ. قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ بُكَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَمَبْلَغُ سِنِّهِ قِيلَ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَلَدِهِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقِيلَ: خَمْسٌ. قَالَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَالْوَاقِدِيُّ وَابْنُ زَبْرٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَقِيلَ: ثَمَانٌ. قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَوْصَى لِكُلِّ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا مِائَةَ نَفْسٍ، وَصُولِحَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَنْ رُبُعِ الثُّمُنِ بِثَمَانِينَ أَلْفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 [موت أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (وَالْأَمِينُ) لِلْأُمَّةِ وَأَحَدُ الْعَشَرَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ، (سَبَقَهْ) أَيْ: سَبَقَ ابْنَ عَوْفٍ بِالْوَفَاةِ ; فَإِنَّهُ مَاتَ (عَامَ ثَمَانِي) بِالسُّكُونِ لِلْوَزْنِ (عَشْرَةٍ) بِإِسْكَانِ الْمُعْجَمَةِ لُغَةً، وَبِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ حَالَ كَوْنِ وَفَاتِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى مَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ، (مُحَقَّقَهْ) ; لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَشْهُورَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَالْفَلَّاسُ وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ بِفَتَحَاتٍ، وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ وَقَدْ تُسَكَّنُ الْمِيمُ، اسْمُ مَوْضِعٍ بِالشَّامِ، وَأَرَّخَهَا ابْنُ مَنْدَهْ وَإِسْحَاقُ الْقِرَابُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقَبْرُهُ بِبَيْسَانَ، وَقِيلَ: بِالْعَادِلِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ عَمْتَا الَّتِي بُعْدُهَا عَنْ بَيْسَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (التَّلْقِيحِ) : قُبِرَ بِعَمَوَاسَ، فَلَعَلَّهُ الِاسْمُ الْقَدِيمُ لِلْعَادِلِيَّةِ، فَالْعَادِلِيَّةُ بِلَا رَيْبٍ اسْمٌ مُحْدَثٌ. [ وفيات المعمرين من الصحابة ] وَلَمَّا تَمَّ ذِكْرُ وَفَيَاتِ الْعَشَرَةِ أَرْدَفَ بِالْمُعَمَّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عُنْهُمْ - (وَعَاشَ حَسَّانٌ) بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ شَاعِرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَ (كَذَا حَكِيمُ) بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ ابْنِ أَخِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ، الصَّحَابِيَّانِ الشَّهِيرَانِ (عِشْرِينَ) سَنَةً (بَعْدَ مِائَةٍ) مِنَ السِّنِينِ (تَقُومُ) بِدُونِ نَقْصٍ، وَتَفْصِيلُهَا (سِتُّونَ) فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِثْلُهَا (فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ حَضَرَتْ) بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَفَاةُ كُلٍّ مِنْهُمَا (سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ خَلَتْ) أَيْ: مَضَتْ مِنَ الْهِجْرَةِ، كَمَا قَالَ بِهِ فِي مَبْلَغِ سِنِّ أَوَّلِهِمَا عَلَى هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 التَّفْصِيلِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، بَلْ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا سِتُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَسِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَمَنْ قَالَ بِهِ فِي مُطْلَقِ كَوْنِهِ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمُ الْوَاقِدِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مُمَرَّضًا، وَفِي مَبْلَغِ سِنِّ ثَانِيهِمَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ فِيمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ، وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَمَا قَالَ بِهِ فِي سَنَةِ وَفَاةِ أَوَّلِهِمَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَابْنُ الْبَرْقِيِّ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ، وَجَزَمَ بِهِ الذَّهِبِيُّ فِي (الْعِبَرِ) ، وَفِي وَفَاةِ ثَانِيهِمَا الْوَاقِدِيُّ وَالْهَيْثَمُ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَالْمَدَايِنِيُّ وَمُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَابْنُ قَانِعٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَذَا جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَّا حَسَّانَ، فَحَكَى فِي وَفَاتِهِ قَوْلًا آخَرَ فَقَالَ: وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. انْتَهَى. وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا، وَقِيلَ: قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، قَالَهُ خَلِيفَةُ، وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ. قَالَهُ الْهَيْثَمُ وَالْمَدَايِنِيُّ وَالزَّمِنُ وَابْنُ قَانِعٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: مَاتَ أَيَّامَ قَتْلِ عَلِيٍّ، بَلِ اخْتُلِفَ فِي مَبْلَغِ سِنِّهِ أَيْضًا، فَقِيلَ: مِائَةٌ وَأَرْبَعُ سِنِينَ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنِ الْمَدَايِنِيِّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ الْبَرْقِيِّ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَوْ نَحْوَهَا. كَمَا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي سَنَةِ وَفَاةِ ثَانِيهِمَا، فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ ـ وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ ـ: سَنَةَ سِتِّينَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالتَّحْدِيدُ بِالسِّتِّينَ فِي الزَّمَنَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا حَسَّانُ ; فَلِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانَ ابْنَ سِتِّينَ سَنَةً، وَهُوَ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ بِذَلِكَ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي وَفَاتِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا سَنَةَ أَرْبَعِينَ يَكُونُ قَدْ بَلَغَ مِائَةً أَوْ دُونَهَا، أَوْ سَنَةَ خَمْسِينَ يَكُونُ بَلَغَ مِائَةً وَعَشْرَةَ، أَوْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ يَكُونُ بَلَغَ مِائَةً وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهُوَ أَقْرَبُهَا ; فَإِنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 يَتَمَشَّى عَلَى طَرِيقَةِ جَبْرِ الْكَسْرِ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ ابْنِ الْبَرْقِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَمَّا حَكِيمٌ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ مَوْلِدُهُ، كَمَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ عَنْهُ قَبْلَ عَامِ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَكَانَ كَمَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ أَيْضًا بِذَلِكَ تَحْدِيدًا مَعَ أَقْوَالِ وَفَاتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَتَحْدِيدُ أَنَّ مَوْلِدَهُ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ كَوْنِهِ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَوْلِدَهُ الشَّرِيفَ عَامَ الْفِيلِ. (وَفَوْقَ حَسَّانٍ) بِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ، الْمَذْكُورِ أَوَّلًا مِنْ آبَائِهِ ثَلَاثَةٌ فِي نَسَقٍ، وَهُمْ أَبَوْهُ ثَابِتٌ وَأَبُوهُ الْمُنْذِرُ وَأَبُوهُ حَرَامٌ، (كَذَا عَاشُوا) أَيْ: مِائَةً وَعِشْرِينَ كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ حَفِيدِ حَسَّانَ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَدُ حَسَّانَ إِذَا ذُكِرَ هَذَا اسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ، وَضَحِكَ وَتَمَدَّدَ كَأَنَّهُ لِسُرُورِهِ يَأْمُلُ حَيَاتَهُ كَذَلِكَ، فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، لَكِنْ قَدْ رُوِّينَا فِي الزُّهْدِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ فَقَالَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْأَرْبَعَةِ عَاشَ مِائَةً وَأَرْبَعَ سِنِينَ. قَالَ سَعِيدٌ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِذَا حَدَّثَنَا هَذَا الْحَدِيثَ أَشْرَأَبَّ لِهَذَا وَثَنَى رِجْلَيْهِ، عَلَى مِثْلِهَا، فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ سَلَفُ ابْنِ حِبَّانَ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي أَسْنَانِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: لِكُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الصَّلَاحِ غَيْرَهُ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: (وَمَا لِغَيْرِهِمْ) أَيِ: الْأَرْبَعَةُ مِنَ الْعَرَبِ، (يُعْرَفُ) مِثْلُ (ذَا) مُتَوَالِيًا. (قُلْتُ) : لَكِنْ فِي الصَّحَابَةِ (حُوَيْطِبٌ) بِمُهْمَلَتَيْنِ، الثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ، مُصَغَّرٌ (ابْنُ عَبْدِ الْعُزَّى) الْعَامِرِيُّ (مَعَ ابْنِ يَرْبُوعٍ) كَيَنْبُوعٍ، (سَعِيدٍ يُعْزَى) أَيْ: يُنْسَبُ (هَذَانَ مَعْ) بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، (حَمْنَنِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا نُونٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ أُخْرَى بِدُونِ تَنْوِينٍ لِلضَّرُورَةِ كَمَا لِلزُّبَيْرِ فِي النَّسَبِ وَالْأَمِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَضَبَطَهُ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ: بِزَاءٍ بَدَلَهَا وَقَالَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمِرَةِ وَهِيَ الصُّعُوبَةُ، وَقَالَ: وَنُونُهُ زَائِدَةٌ، ابْنِ عَوْفٍ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ (وَ) مَعَ مَخْرَمَةَ (ابْنِ نَوْفَلِ) وَالِدِ الْمِسْوَرِ (كُلُّ) مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ قُرَشِيُّونَ (إِلَى وَصْفِ) حَسَّانَ وَ (حَكِيمٍ) فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمْ صَحَابِيًّا، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، نِصْفُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِصْفُهَا فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي أَوَّلِهِمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ عَنْ أَبِيهِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ أَوْ نَحْوِهَا، وَكَمَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي ثَانِيهِمْ، وَكَمَا قَالَهُ الزُّبَيْرُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ثَالِثِهِمْ، وَأَنَّهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَمْ يُهَاجِرْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَمَا قَالَهُ فِي الرَّابِعِ الْوَاقِدِيُّ فَقَالَ: يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ حِينَ مَاتَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 سَنَةً. وَبِهِ جَزَمَ أَبُو زَكَرِيَّا ابْنُ مَنْدَهْ فِي جُزْءٍ لَهُ سَمِعْتُهُ فِيمَنْ عَاشَ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنَ الصَّحَابَةِ (فَاجْمِلِ) عَدَدَهُمْ سِتَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ مُدَّةَ الزَّمَنَيْنِ لَيْسَتْ فِي الْأَوَّلَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَكَذَا الْأَخِيرُ عَلَى السَّوَاءِ ; لِأَنَّ وَفَاتَهُمْ كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَإِسْلَامُهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَسَوَاءٌ اعْتَبَرْنَا زَمَنَ الْإِسْلَامِ بِهِ أَوْ بِالْهِجْرَةِ أَوِ الْبَعْثَةِ، لَا يَلْتَئِمُ التَّحْدِيدُ بِذَلِكَ ; وَلِذَا قِيلَ فِي ثَانِيهِمْ أَيْضًا: إِنَّهُ بَلَغَ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِوَفَاةِ الْأَرْبَعَةِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ ابْنُ حِبَّانَ، وَبِهَا فِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فَقَطِ الْهَيْثَمُ وَابْنُ قَانِعٍ، وَفِي الْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ خَلِيفَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِي الْأَوَّلِ فَقَطِ الزَّمِنُ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَفِي الثَّانِي فَقَطِ الْوَاقِدِيُّ، وَفِي الثَّالِثِ فَقَطِ ابْنُ نُمَيْرٍ وَالْمَدَايِنِيُّ وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُ فِيهِمْ إِلَّا الْأَوَّلَ، فَقِيلَ فِيهِ أَيْضًا: إِنَّهَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا الثَّالِثَ فَبِمَكَّةَ، بَلْ قِيلَ فِي الثَّانِي أَيْضًا: إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِهَا، وَكَذَا قِيلَ فِي نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدِّيَلِيِّ: إِنَّهُ عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ، وَمِمَّنَ جَزَمَ بِذَلِكَ الْوَاقِدِيُّ ثُمَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. (وَفِي الصَّحَابِ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، جَمْعُ صَاحِبٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، (سِتَّةٌ) أَيْضًا (قَدْ عُمِّرُوا) هَذَا السِّنَّ، وَلَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ نِصْفِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنِصْفِهِ فِي الْإِسْلَامِ ; لِتَقَدُّمِ وَفَاتِهِمْ عَلَى الْمَذْكُورِينَ أَوْ تَأَخُّرِهَا أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا، ذَكَرَهُ إِلَّا الثَّالِثَ أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ مَنْدَهْ فِي الْجُزْءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَهُمْ سَعْدُ بْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 جُنَادَةَ الْعَوْفِيُّ الْأَنْصَارِيُّ وَالِدُ عَطِيَّةَ، ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُمُرَهُ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنَ الْجَدِّ الْعَجْلَانِيُّ صَاحِبُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ فِي قِصَّةِ اللِّعَانِ، حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا، وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَقَدْ بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ بَلَغَ مِائَةً وَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ وَخَلِيفَةُ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ. وَقِيلَ: سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَاللَّجْلَاجُ الْعَامِرِيُّ ذَكَرَ ابْنُ سُمَيْعٍ وَابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ بَنِي اللَّجْلَاجِ، وَالْمُنْتَجِعُ جَدُّ نَاجِيَةَ، ذَكَرَهُ الْعَسْكَرِيُّ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَنَافِعٌ أَبُو سُلَيْمَانَ الْعَبْدِيُّ، رَوَى إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ وَلَدِهِ سُلَيْمَانَ قَالَ: مَاتَ أَبِي وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ قَانِعٍ، (كَذَاكَ فِي الْمُعَمَّرِينَ ذُكِرُوا) ، بَلْ نَظَمَهُمُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: مُنْتَجِعٌ وَنَافِعٌ مَعَ عَاصِمِ وَسَعْدٌ لَجْلَاجٌ مَعَ ابْنِ حَاتِمِ قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَهُوَ أَحْسَنُ وَسَعْدُ اللَّجْلَاجُ وَابْنُ حَاتِمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وَفِي الْمُعَمَّرِينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ زَادَ سِنُّهُمْ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، مِنْهُمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ فِي طَبَقَاتِ الْأَصْبَهَانِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: أَهْلُ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَاشَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. فَأَمَّا مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَلَا يَشُكُّونَ فِيهَا، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: وَجَدْتُ الْأَقْوَالَ فِي سِنِّهِ كُلَّهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ جَاوَزَ الْمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّائِدِ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ وَظَهَرَ لِي أَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الثَّمَانِينَ، كَذَا قَالَ: وَقِرْدَةُ أَوْ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ السَّلُولِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجْسِتَانِيُّ فِي الْمُعَمَّرِينَ: قَالُوا: إِنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي (الزُّهْدِ) لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ جِهَةِ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: عَاشَ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا، وَالنَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ الشَّاعِرُ الشَّهِيرُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَشْيَاخِهِ: إِنَّهُ عُمِّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَلَهُ مَائِتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَفِي الْمُخَضْرَمِينَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعِ بْنِ وَهْبٍ الْفَزَارِيُّ جَاهِلِيٌّ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، مِنْهَا سِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ. وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ قَالَ: عِشْتُ مِائَتَيْ سَنَةٍ فِي فَتْرَةِ عِيسَى، وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقَائِلُ: إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي ... فَإِنَّ الشَّيْخَ يَهْدِمُهُ الشِّتَاءُ وَأَمَّا حِينَ يَذْهَبُ كُلُّ قَرٍّ ... فَسِرْبَالٌ خَفِيفٌ أَوْ رِدَاءُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وَفِي اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ طُولُ. [ وفيات أصحاب المذاهب ] وَلَمَّا تَمَّ ذِكْرُ الْمُعَمَّرِينَ أَرْدَفَ بِأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، (وَقُبِضَ) أَيْ: مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ (الثَّوْرِيُّ) نِسْبَةً لِثَوْرِ بْنَ عَبْدِ مَنَاةِ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لِثَوْرِ هَمْدَانَ. الْكُوفِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَتْبُوعِينَ إِلَى بَعْدِ الْخَمْسِمِائَةِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ فِيهِمُ الْغَزَالِيُّ فِي (الْإِحْيَاءِ) (عَامَ إِحْدَى مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ وَقَرْنٍ عُدَّا) أَيْ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَمِمَّنْ أَرَّخَهُ كَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَزَادَ: فِي شَعْبَانَ فِي دَارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَزَادَ فِي أَوَّلِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْلِدِهِ فَقَالَ الْعِجْلِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمَا: سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. (وَبَعْدُ) أَيْ: بَعْدَ الثَّوْرِيِّ وَذَلِكَ (فِي) سَنَةٍ (تِسْعٍ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ (تَلِي سَبْعِينَا) بِتَقْدِيمِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ بَعْدِ مِائَةٍ، كَانَتْ (وَفَاةُ) إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَأَحَدِ الْمُقَلَّدِينَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (مَالِكٍ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ فِيمَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَحْمَدُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ وَالْقَعْنَبِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ وَأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ وَأَبُو مُصْعَبٍ وَالْمَدَائِنِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَادَ فِي صَفَرَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَقَالَ: فِي صَبِيحَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَبُو طَاهِرِ بْنُ السَّرْحِ، وَقَالَ: فِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَقَالَ: لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْهُ. وَهِيَ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 هَذِهِ السَّنَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَبِهِ جَزَمَ الذَّهَبِيُّ فِي الْعِبَرِ، وَشَذَّ هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ فِهْرٍ مِنْ جِهَتِهِ فَقَالَ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ تِسْعِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ هَارُونَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَقَبْرُهُ هُنَاكَ عَلَيْهِ قُبَّةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْلِدِهِ فَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَقِيلَ: تِسْعِينَ. وَبِهِ جَزَمَ أَبُو مُسْهِرٍ، وَقِيلَ: إِحْدَى. وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ. قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ. وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَنُسِبَ لِأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا، وَبِهِ جَزَمَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَأَنَّهُ سَمِعَهُ كَذَلِكَ مِنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَزَادَ: فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، بِهَذِهِ السَّنَةِ جَزَمَ الذَّهَبِيُّ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَيْضًا أَنَّهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ. فِيمَا قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ أَيْضًا، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ. وَمَكَثَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي الْأَكْثَرِ وَقِيلَ: أَكْثَرَ مِنْهَا. وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ. وَكَانَ مَوْضِعُ مَوْلِدِهِ بِذِي الْمَرْوَةِ فِيمَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ. (وَفِي الْخَمْسِينَا وَمِائَةٍ) مِنَ السِّنِينَ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ أَحَدُ مِنْ عُدَّ فِي التَّابِعِينَ (أَبُو حَنِيفَةَ) النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ الْكُوفِيُّ (قَضَى) أَيْ: مَاتَ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، كَمَا قَالَهُ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ وَالْهَيْثَمُ وَقُنَّبُ بْنُ الْمُحَرِّرِ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ وَسَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَزَادَ: فِي رَجَبٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: سَنَةَ إِحْدَى، وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيُّ: سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَذَلِكَ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يُزَارُ، وَمَوْلِدُهُ فِيمَا قَالَهُ حَفِيدُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ: سَنَةَ ثَمَانِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 (وَ) إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ (الشَّافِعِيُّ بَعْدَ قَرْنَيْنِ) كَامِلَيْنِ (مَضَى) أَيْ: مَاتَ، (لِأَرْبَعٍ) مِنَ السِّنِينَ بَعْدَهُمَا، قَالَهُ الْفَلَّاسُ وَيُوسُفُ الْقَرَاطِيسِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَزَادَ: فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: فِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ: فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْهُ، وَأَشْرَفْنَا مِنْ جِنَازَتِهِ فَرَأَيْنَا هِلَالَ شَعْبَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَأَمَّا ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ: فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ عِنْدَ مَغْرِبَانِ الشَّمْسِ بِالْفُسْطَاطِ، وَرَجَعُوا فَرَأَوْا هِلَالَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: إِنَّهُ قَرَأَهُ عَلَى لَوْحٍ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ يُزَارُ، وَرَامُوا تَحْوِيلَهُ فِيمَا قِيلَ بَعْدُ إِلَى بَغْدَادَ وَشَرَعُوا فِي الْحَفْرِ حِينَ عَجْزِ الْمِصْرِيِّينَ عَنِ الدَّفْعِ، فَلَمَّا وَصَلُوا لِقُرْبِ اللَّحْدِ الشَّرِيفِ فَاحَ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبٌ مَا شَمُّوا مِثْلَهُ بِحَيْثُ سَكِرُوا مِنْ طِيبِ رَائِحَتِهِ، وَمَا تَمَكَّنُوا مَعَهُ مِنَ التَّوَصُّلِ فَكَفُّوا وَصَارَ ذَلِكَ مَعْدُودًا فِي مَنَاقِبِهِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، فَعَاشَ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَالْفَلَّاسُ وَابْنُ حِبَّانَ: وَهُوَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ، وَقِيلَ كَمَا لِابْنِ زَبْرٍ: اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ. (ثُمَّ قَضَى) أَيْ: مَاتَ (مَأْمُونًا) مِنْ مِحْنَةِ السُّلْطَانِ وَفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (أَحْمَدُ) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ (فِي) سَنَةِ (إِحْدَى وَأَرْبَعِينَا) بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 مِنَ الشَّهْرِ وَالْيَوْمِ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ ضَحْوَةً، وَدَفَنَّاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَهَكَذَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَقَالَ نَصْرُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَرَائِضِيُّ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَقَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ وَمُطَيَّنٌ: لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ. زَادَ عَبَّاسٌ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِينَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عَمِّهِ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ يُزَارُ، وَمَوْلِدُهُ - فِيمَا قَالَهُ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَصَالِحٌ عَنْهُ - فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ وَكَشَفَ قَبْرَهُ حِينَ دُفِنَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى إِلَى جَانِبِهِ فَوَجَدَ كَفَنَهُ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ، وَجُثَّتَهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ نَحْوًا مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: خَمْسِينَ، أَوْ إِحْدَى أَوْ سِتٍّ بِبَيْرُوتَ مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَكَذَلِكَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ قَدْ كَانَ إِمَامًا مُتَّبَعًا لَهُ طَائِفَةٌ يُقَلِّدُونَهُ وَيَجْتَهِدُونَ عَلَى مَسْلَكِهِ يُقَالُ لَهُمُ: الْإِسْحَاقِيَّةُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِيمَا أَرَّخَهُ الْبُخَارِيُّ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ: يَا هَدَّةٌ مَا هَدَدْنَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ ... فِي نِصْفِ شَعْبَانَ لَا تُنْسَى مَدَى الْأَبَدِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ. وَكَذَلِكَ اللَّيْثُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 بْنُ سَعْدٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ إِمَامُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قُلِّدَ وَقْتًا، وَلَكِنْ لَا نُطِيلُ لِوَفَيَاتِهِمْ. [وفيات أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ] وَلَمَّا تَمَّ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ أَرْدَفَ بِأَصْحَابِ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا، (ثُمَّ) الْإِمَامُ صَاحِبُ الصَّحِيحِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ (الْبُخَارِي) بِالْإِسْكَانِ لِلْوَزْنِ، نِسْبَةً لِبُخَارَى، بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بِمَا وَرَاءَ النَّهَرِ، عَمِلَ غُنْجَارٌ لَهُ تَارِيخًا، (لَيْلَةَ) عِيدِ (الْفِطْرِ) وَهِيَ لَيْلَةُ السَّبْتِ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، (لَدَى) بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: عِنْدَ سَنَةِ (سِتٍّ وَخَمْسِينَ) وَمِائَتَيْنِ (بِخَرْتَنْكَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا لِلسَّمْعَانِيِّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، أَوْ كَسْرِهَا كَمَا لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ سُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ نُونٌ سَاكِنَةٌ وَكَافٌ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى سَمَرْقَنْدَ عِنْدَ أَقْرِبَاءٍ لَهُ فِيهَا، كَانَ الَّذِي نَزَلَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ غَالِبَ بْنَ جِبْرِيلَ، وَقِيلَ: بِمِصْرَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ الْغُرَبَاءِ لَهُ وَهُوَ شَاذٌّ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُ، (رَدَى) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: ذَهَبَ بِالْوَفَاةِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَذَا أَرَّخَهُ مُهِيبُ بْنُ سُلَيْمٍ وَالْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَزَّارُ، وَفِي السَّنَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ قَانِعٍ وَابْنُ الْمُنَادَى وَأَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ وَآخَرُونَ، قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَ مُدَّةُ عُمْرِهِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً إِلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 يَوْمًا ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ أَيْضًا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ نَظَمَ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ وَفَاتَهُ فَقَالَ: ثُمَّ الْبُخَارِيُّ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسِتٍّ فَادْرِي. وَالْإِمَامُ التَّالِي لَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ (مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ أَيْضًا (سَنَةَ إِحْدَى فِي) عَشِيَّةِ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ (رَجَبْ مِنْ بَعْدِ قَرْنَيْنِ) أَيْ: مِائَتَيْنِ (وَسِتِّينَ) سَنَةً (ذَهَبْ) بِالْوَفَاةِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ بِنَيْسَابُورَ، وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ يُزَارُ، أَرَّخَهُ كَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ الْأَخْرَمِ فِيمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، وَكَانَ فِيمَا قِيلَ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْمُذَاكَرَةِ، فَذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقُدِّمَتْ لَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تَمْرٌ فَكَانَ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ وَيَأْخُذُ تَمْرَةً تَمْرَةً فَأَصْبَحَ وَقَدْ فَنِيَ التَّمْرُ وَوَجَدَ الْحَدِيثَ، وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبٍ غَرِيبٍ نَشَأَ مِنْ غَمْرَةِ فِكْرَةٍ عِلْمِيَّةٍ، وَسِنُّهُ قِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَتَوَقَّفَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنَ الْجَزْمِ بِبُلُوغِهِ سِتِّينَ ; فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 (ثُمَّ) فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ (لِخَمْسٍ) مِنَ السِّنِينَ (بَعْدَ سَبْعِينَ) سَنَةً تَلِي مِائَتَيْ سَنَةٍ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ الْإِمَامُ (أَبُو دَاوُدَ) سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ صَاحِبُ (السُّنَنِ) ، وَمَوْلِدُهُ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْآجُرِّيُّ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ. (ثُمَّ) الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى (التِّرْمِذِيُّ) بِتَثْلِيثِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَوْ ضَمِّهَا وَإِعْجَامِ الذَّالِ (يُعْقِبُ) الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْوَفَاةِ بِنَحْوِ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ مَاتَ فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، (سَنَةَ تِسْعٍ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ عَلَى السِّينِ (بَعْدَهَا) أَيْ: بَعْدَ السَّبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَغْفِرِيُّ وَغُنْجَارٌ وَابْنُ مَاكُولَا، وَالرُّشَاطِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَوْلُ الْخَلِيلِيِّ فِي (الْإِرْشَادِ) : إِنَّهُ مَاتَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ. ظَنٌّ مِنْهُ بِأَنَّ النَّقْلَ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ بِقَرْيَةِ بُوغٍ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، إِحْدَى قُرَى تِرْمِذَ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْهَا. (وَ) الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ (ذُو نَسَا) بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ كُوَرِ نَيْسَابُورَ، وَقِيلَ: مِنْ أَرْضِ فَارِسَ. فَهُوَ يُنْسَبُ لِذَلِكَ نَسَائِيٌّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَقَدْ يُنْسَبُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا نَسَوِيًّا، وَقَالَ الرُّشَاطِيُّ: إِنَّهُ الْقِيَاسُ. صَاحِبُ كِتَابِ السُّنَنِ (رَابِعَ قَرْنٍ لِثَلَاثٍ) مِنَ السِّنِينَ (رُفِسَا) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: ضُرِبَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَذَلِكَ فِي صَفَرَ كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ يُونُسَ، وَزَادَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عَامِرٍ الْعَبْدَرِيُّ الْحَافِظُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ: لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: فِي شَعْبَانَ. كَمَا حَكَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ مَشَايِخِهِ، أَعْنِي الرَّفْسَ بِالْأَرْجُلِ فِي حُضْنَيْهِ - أَيْ: جَانِبَيْهِ - مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ حِينَ أَجَابَهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَمَا رُوِيَ فِي فَضَائِلِهِ، كَأَنَّهُمْ لِيُرَجِّحُوهُ بِهَا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: أَلَّا يَرْضَى مُعَاوِيَةُ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى يَفْضُلَ؟ وَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا مَقْتُولًا شَهِيدًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالرَّمْلَةِ، وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: إِنَّهُ مَاتَ بِالرَّمَلَةِ بِمَدِينَةِ فِلَسْطِينَ وَدُفِنَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَسِنُّهُ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً فِيمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَوْلِدِي فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ صَاحِبُ السُّنَنِ الَّتِي كَمُلَ بِهَا الْكُتُبُ السِّتَّةُ وَالسُّنَنُ الْأَرْبَعَةُ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي اعْتَنَى بِأَطْرَافِهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ ثُمَّ الْمِزِّيُّ مَعَ رِجَالِهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: كِتَابٌ مُفِيدٌ قَوِيُّ التَّبْوِيبِ فِي الْفِقْهِ. لَكِنْ قَالَ الصَّلَاحُ الْعَلَائِيُّ: إِنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ بَدَلَهُ كَانَ أَوْلَى، وَكَانَتْ وَفَاةُ ابْنِ مَاجَهْ فِيمَا قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ إِدْرِيسَ ثُمَّ الْخَلِيلِيُّ فِي (الْإِرْشَادِ) : فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، زَادَ: أَوَّلُهُمَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وُلِدْتُ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَقَدْ نَظَمَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ فَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 قُلْتُ: وَمَاتَ الْحَافِظُ ابْنُ مَاجَةِ مِنْ قَبْلِ حَبْرِ تِرْمِذٍ بِسَنَةِ. قَالَ: وَتَجَوَّزْتُ فِي إِطْلَاقِ الْعَامِ عَلَى بَعْضِهِ ; لِأَنَّهُ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، وَشَيْءٌ. انْتَهَى. وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: مِنْ قَبْلِ تِرْمِذِيٍّ بِنِصْفِ سَنَةِ. [وفيات أَئِمَّةٍ انْتُفِعَ بِتَصَانِيفِهِمْ] وَلَمَّا تَمَّ أَصْحَابُ الْكُتُبِ ; أُصُولُ الْإِسْلَامِ، أَرْدَفَ بِأَئِمَّةٍ انْتُفِعَ بِتَصَانِيفِهِمْ مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنْ نَمَطِهِمْ (ثُمَّ لِـ) مُضِيِّ (خَمْسِ وَثَمَانِينَ) عَامًا مِنَ الْقَرْنِ الرَّابِعِ (تَفِي) بِدُونِ نَقْصٍ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مَاتَ (الدَّارَقُطْنِي) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ آخِرِهِ، نِسْبَةً لِدَارِ الْقُطْنِ، وَكَانَتْ مَحَلَّةً كَبِيرَةً بِبَغْدَادَ، الْبَغْدَادِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ صَاحِبُ السُّنَنِ وَالْعِلَلِ وَغَيْرِهِمَا، أَرَّخَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْأَزْجِيُّ وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَمَوْلِدُهُ كَمَا قَالُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ زَادَ غَيْرُهُ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا، فَعَاشَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. (ثُمَّتَ) أَيْ: ثُمَّ، لُغَةٌ فِيهَا، الْحَافِظُ (الْحَاكِمُ) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَيِّعِ صَاحِبُ (الْمُسْتَدْرَكِ) وَ (التَّارِيخِ) وَ (عُلُومِ الْحَدِيثِ) وَغَيْرِهَا (فِي خَامْسِ قَرْنٍ عَامَ خَمْسَةٍ) تَمْضِي مِنْهُ أَيْ: سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، (فَنِيَ) أَيْ: مَاتَ بِنَيْسَابُورَ، فِيمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَعَبْدُ الْغَافِرِ فِي السِّيَاقِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَكِّي، وَزَادَ فِي صَفَرَ، وَمَوْلِدُهُ أَيْضًا، بِنَيْسَابُورَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 (وَبَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ الْحَاكِمِ (بِأَرْبَعٍ) مِنَ السِّنِينَ مَاتَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ (عَبْدُ الْغَنِي) بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَزْدِيُّ الْمِصْرِيُّ صَاحِبُ الْمُؤْتَلِفِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِيمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ بِمِصْرَ عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. (فَـ) بَعْدَهُ (فِي الثَّلَاثِينَ) مِنَ السِّنِينَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي بُكْرَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مَاتَ الْحَافِظُ (أَبُو نُعَيْمِ) أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ مُؤَلِّفُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَتَارِيخِ أَصْبَهَانَ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا فِيمَا أَرَّخَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْدَهْ بِهَا، وَسُئِلَ عَنْ مَوْلِدِهِ فَقَالَ: فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (وَلِـ) مُضِيِّ (ثَمَانٍ) مِنَ السِّنِينَ مَاتَ مِنْ طَبَقَةٍ أُخْرَى تَلِي هَذِهِ فِي الزَّمَنِ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الشَّافِعِيُّ، (بَيْهَقِيُّ الْقَوْمِ) أَيِ: الْحُفَّاظُ وَأَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ لِاحْتِيَاجِهِمْ لِتَصَانِيفِهِ الشَّهِيرَةِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا، وَنُسِبَ لِبَيْهَقَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا هَاءٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ قَافٌ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مُجْتَمِعَةٌ بِنُوَاحِي نَيْسَابُورَ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْهَا، وَكَانَتْ قَصَبَتُهَا خَسْرُوَجَرْدَ، (مِنْ بَعْدِ) مُضِيِّ (خَمْسِينَ) وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ فِي عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ بِنَيْسَابُورَ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى بَيْهَقَ، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ، قَالَ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (وَبَعْدَ) مُضِيِّ (خَمْسَةِ) مِنْ وَفَاةِ الَّذِي قَبْلَهُ مَاتَ (خَطِيبُهُمْ) أَيِ: الْحُفَّاظِ وَالْمُسْلِمِينَ، الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْبَغْدَادِيُّ الشَّافِعِيُّ، (وَ) كَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 (النَّمَرِيُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ، نِسْبَةً إِلَى النَّمِرِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهِيَ مِنْ شَوَاذِّ النَّسَبِ الَّتِي تُحْفَظُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، كَالنِّسْبَةِ إِلَى أُمَيَّةَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَمَوِيٌّ بِفَتْحِهَا، وَأَبِي سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ سَلَمِيٌّ بِفَتْحِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ الْقُرْطُبِيُّ الْمَالِكِيُّ مُؤَلِّفُ (الِاسْتِيعَابِ) وَجُمْلَةٍ، كِلَاهُمَا (فِي سَنَةِ) وَاحِدَةٍ، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَالْخَطِيبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا بِبَغْدَادَ، أَرَّخَهُ ابْنُ شَافِعٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ فِي سَابِعِهِ، وَأَنَّ مَوْلِدَهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ الْخَطِيبِ نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ فِي سَلْخِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا بِشَاطِبَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ عَنْ خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ طَاهِرُ بْنُ مُفَوَّزٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ الصَّلَاحِ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ اشْتَهَرَتْ أَيْضًا تَصَانِيفُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; كَأَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ وَأَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ وَإِمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَتِلْمِيذِهِ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَالطَّبَرَانِيِّ صَاحِبِ الْمَعَاجِمِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ صَاحِبِ (الْكَامِلِ) . قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ لَمْ يَقْصِدِ الْمُكْثِرِينَ خَاصَّةً وَإِنَّمَا أَرَادَ مَعَ انْضِمَامِ تَصَانِيفَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ، اشْتَهَرَتْ وَعَمَّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وَبِنَحْوِ ذَلِكَ يَعْتَذِرُ عَنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ لِابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ كَوْنُهُ سَاذَجًا عَمَّا حَرِصَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي بِتَدَبُّرِهَا يَتَمَرَّنُ الْمُحَدِّثُ خُصُوصًا، وَفِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرَةٌ، بَلْ قَالَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ: إِنَّ الْغَالِبَ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ الضَّعْفُ. وَلِذَا لَمْ يُضِفْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَرَزِينٍ السَّرَقُسْطِيِّ وَابْنِ الْأَثِيرِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْخَمْسَةِ. تَتِمَّةٌ: يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ: فُلَانٌ الْمُتَوَفَّى، وَأَنْتَ فِي فَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا بِالْخِيَارِ، وَالْكَسْرُ مُوَجَّهٌ بِالْمُتَوَفِّي لِمُدَّةِ حَيَّاتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] عَلَى قِرَاءَةِ عَلِيٍّ فِي فَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، وَإِنْ حُكِيَ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ كَانَ مَعَ جِنَازَةٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنِ الْمُتَوَفِّي؟ بِكَسْرِ الْفَاءِ، فَقَالَ: اللَّهُ. وَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ لِأَمْرِ عَلِيٍّ لَهُ بِالنَّحْوِ، فَقَدَ قِيلَ يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْحِكَايَةِ: إِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ فَهْمُهُ وَيَتَعَقَّلُهُ خُصُوصًا، وَهُوَ الْقَائِلُ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ. [مَعْرِفَةُ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ] [ أهمية معرفة هذا النوع والمصنفات فيه ] مَعْرِفَةُ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ 979 - وَاعْنَ بِعِلْمِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ... فَإِنَّهُ الْمِرْقَاةُ لِلتَّفْصِيلِ 980 - بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَاحْذَرِ ... مِنْ غَرَضٍ فَالْجَرْحُ أَيُّ خَطَرِ 981 - وَمَعَ ذَا فَالنُّصْحُ حَقٌّ وَلَقَدْ ... أَحْسَنَ يَحْيَى فِي جَوَابِهِ وَسَدْ 982 - لَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لِي أَحَبْ ... مِنْ كَوْنِ خَصْمِي الْمُصْطَفَى إِذْ لَمْ أَذُبْ 983 - وَرُبَّمَا رُدَّ كَلَامُ الْجَارِحِ ... كَالنَّسَائِي فِي أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ 984 - فَرُبَّمَا كَانَ لِجَرْحٍ مَخْرَجُ ... غَطَّى عَلَيْهِ السُّخْطُ حِينَ يَحْرُجُ (مَعْرِفَةُ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ) وَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُضَمَّ لِمَرَاتِبَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 مَعَ الْقَوْلِ فِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ سَبَبِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَكَوْنِ الْمُعْتَمَدِ عَدَمَهُ مِنَ الْعَالِمِ بِأَسْبَابِهِمَا، وَفِي التَّعْدِيلِ عَلَى الْإِبْهَامِ وَالْبِدْعَةِ الَّتِي يُجَرَّحُ بِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. (وَاعْنَ) أَيِ: اجْعَلْ أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ عِنَايَتِكَ الِاهْتِمَامَ (بِعِلْمِ الْجَرْحِ) أَيِ: التَّجْرِيحِ (وَالتَّعْدِيلِ) فِي الرُّوَاةِ، فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ وَأَعْلَاهَا وَأَنْفَعِهَا ; (فَإِنَّهُ الْمِرْقَاةُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْآلَةِ الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا وَبِفَتْحِهَا، الدَّرَجَةُ، (لِلتَّفْصِيلِ بَيْنَ الصَّحِيحِ) مِنَ الْحَدِيثِ (وَالسَّقِيمِ) وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، فَفِي الضُّعَفَاءِ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَأَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي حَفْصٍ الْفَلَّاسِ، وَلِأَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ قَبْلَهُ وَأَجَلُّهَا، وَلَكِنَّهُ تَوَسَّعَ لِذِكْرِ كُلِّ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ; وَلِذَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْكَامِلُ. لِلنَّاقِصِينَ، وَذَيَّلَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ طَاهِرٍ فِي تَكْمِلَةِ الْكَامِلِ، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيِّ وَهُوَ مُفِيدٌ، وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي زَكَرِيَّا السَّاجِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ وَأَبِي الْفَتْحِ الْأَزْدِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَاخْتَصَرَهُ الذَّهَبِيُّ، بَلْ وَذَيَّلَ عَلَيْهِ فِي تَصْنِيفَيْنِ وَجَمَعَ مُعْظَمَهُمَا فِي مِيزَانِهِ فَجَاءَ كِتَابًا نَفِيسًا عَلَيْهِ مُعَوَّلُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّهُ تَبِعَ ابْنَ عَدِيٍّ فِي إِيرَادِ كُلِّ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ ثِقَةً، وَلَكِنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَذْكُرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي مُجَلَّدٍ، وَالْتَقَطَ شَيْخُنَا مِنْهُ مَنْ لَيْسَ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ وَضَمَّ إِلَيْهِ مَا فَاتَهُ مِنَ الرُّوَاةِ وَالتَّتِمَّاتِ، مَعَ انْتِقَادٍ وَتَحْقِيقٍ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ (لِسَانَ الْمِيزَانِ) مِمَّا كَتَبْتُهُ وَأَخَذْتُهُ عَنْهُ وَعَمَّ النَّفْعُ بِهِ، بَلْ لَهُ كِتَابَانِ آخَرَانِ هُمَا (تَقْوِيمُ اللِّسَانِ) وَ (تَحْرِيرُ الْمِيزَانِ) ، كَمَا أَنَّ لِلذَّهَبِيِّ فِي الضُّعَفَاءِ مُخْتَصَرًا سَمَّاهُ (الْمُغْنِي) ، وَآخَرَ سَمَّاهُ (الضُّعَفَاءَ وَالْمَتْرُوكِينَ) ، وَذَيَّلَ عَلَيْهِ وَالْتَقَطَ بَعْضَهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْوَضَّاعِينَ فَقَطْ، وَبَعْضَهُمُ الْمُدَلِّسِينَ كَمَا مَضَى فِي بَابَيْهِمَا، وَبَعْضَهُمُ الْمُخْتَلِطِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَفِي الثِّقَاتِ لِأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ وَهُوَ أَحْفَلُهَا، لَكِنَّهُ يُدْرِجُ فِيهِمْ مَنْ زَالَتْ جَهَالَةُ عَيْنِهِ، بَلْ وَمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ جَرْحٌ كَمَا سَلَفَ فِي الصَّحِيحِ الزَّائِدِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي مَجْهُولِ الْعَيْنِ أَيْضًا، وَذَلِكَ غَيْرُ كَافٍ فِي التَّوْثِيقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَرُبَّمَا يَذْكُرُ فِيهِمْ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الضُّعَفَاءِ ; إِمَّا سَهْوًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ تَخْرِيجُ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ لِجَمَاعَةٍ، وَحُكْمُهُ عَلَى الْأَسَانِيدِ الَّذِينَ هُمْ فِيهَا بِالصِّحَّةِ، مَعَ ذِكْرِ إِيَّاهُمْ فِي كِتَابِهِ فِي (الضُّعَفَاءِ) ، وَقَطَعَ بِتَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ وَالْمَنْعِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ جَرْحُهُمْ، وَلِلْعِجْلِيِّ وَابْنِ شَاهِينَ، وَأَبِي الْعَرَبِ التَّمِيمِيِّ، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الشَّمْسُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيْبَكَ السَّرُوجِيُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ، وُجِدَ مِنْهُ الْأَحْمَدُونَ فَقَطْ فِي مُجَلَّدٍ، وَأَفْرَدَ شَيْخُنَا الثِّقَاتِ مِمَّنْ لَيْسَ فِي التَّهْذِيبِ وَمَا كَمُلَ أَيْضًا وَلِلذَّهَبِيِّ مَعْرِفَةُ الرُّوَاةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِمْ بِمَا لَا يُوجِبُ الرَّدَّ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ جَمِيعًا ; كَتَارِيخِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَهُوَ كَثِيرُ الْفَوَائِدِ، وَ (الطَّبَقَاتِ) لِابْنِ سَعْدٍ، وَ (التَّمْيِيزِ) لِلنِّسَائِيِّ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ بَعْضُهُ فِي آدَابِ الطَّالِبِ، وَلِلْعِمَادِ ابْنِ كَثِيرٍ (التَّكْمِيلُ فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ) ، جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ تَهْذِيبِ الْمِزِّيِّ وَمِيزَانِ الذَّهَبِيِّ مَعَ زِيَادَاتٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْفَقِيهِ الْبَارِعِ، وَكَذَا الْمُحَدِّثِ، فَهَذِهِ مَظَانُّ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ غَالِبًا، وَمِنْ مَظَانِّ الثِّقَاتِ التَّصَانِيفُ فِي الصَّحِيحِ بَعْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَكَذَا مَنْ خَرَّجَ عَلَى كِتَابَيْهِمَا ; فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهَا الْكَثِيرُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكُتُبِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَرُبَّمَا يُسْتَفَادُ مِمَّا يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَسَانِيدِ تَوْثِيقُ بَعْضِ الرُّوَاةِ ; كَأَنْ يَقُولَ الرَّاوِي الْمُعْتَمَدُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَكَانَ ثِقَةً. يَعْنِي وَمَا أَشْبَهَهُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 دَقِيقِ الْعِيدِ. (وَاحْذَرِ) أَيُّهَا الْمُتَصَدِّي لِذَلِكَ، الْمُقْتَفِي فِيهِ أَثَرَ مَنْ تَقَدَّمَ (مِنْ غَرَضٍ) أَوْ هَوًى يَحْمِلُكَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى التَّحَامُلِ وَالِانْحِرَافِ وَتَرْكِ الْإِنْصَافِ أَوِ الْإِطْرَاءِ وَالِافْتِرَاءِ، فَذَلِكَ شَرُّ الْأُمُورِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْقَائِمِ بِذَلِكَ الْآفَةُ مِنْهَا، وَالْمُتَقَدِّمُونَ سَالِمُونَ مِنْهُ غَالِبًا مُنَزَّهُونَ عَنْهُ ; لِوُفُورِ دِيَانَتِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي تَوَارِيخِهِمْ، وَهُوَ مُجَانِبٌ لِأَهْلِ الدِّينِ وَطَرَائِقِهِمْ. (فَالْجَرْحُ) وَالتَّعْدِيلُ خَطَرٌ ; لِأَنَّكَ إِنْ عَدَّلَتْ بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ كُنْتَ كَالْمُثْبِتِ حُكْمًا لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَيُخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ رَوَى حَدِيثًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَإِنْ جَرَّحْتَ بِغَيْرِ تَحَرُّزٍ أَقْدَمْتَ عَلَى الطَّعْنِ فِي مُسْلِمٍ بَرِيءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَوَسَمْتَهُ بِمِيسَمِ سُوءٍ يَبْقَى عَلَيْهِ عَارُهُ أَبَدًا، وَهُوَ فِي الْجَرْحِ بِخُصُوصِهِ، (أَيُّ خَطَرٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَاطَرَ بِنَفْسِهِ ; أَيْ: أَشْرَفَ عَلَى هَلَاكِهَا ; فَإِنَّ فِيهِ مَعَ حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَقَّ آدِمِيٍّ، وَرُبَّمَا يَنَالُهُ إِذَا كَانَ بِالْهَوَى وَمُجَانَبَةِ الِاسْتِوَاءِ الضَّرَرُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمُنَافَرَةُ، كَمَا اتَّفَقَ لِأَبِي شَامَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا رَاسِخًا فِي الْعِلْمِ مُقْرِئًا مُحَدِّثًا نَحْوِيًّا يَكْتُبُ الْخَطَّ الْمَلِيحَ الْمُتْقَنَ مَعَ التَّوَاضُعِ وَالِانْطِرَاحِ، وَالتَّصَانِيفِ الْعِدَّةِ - كَثِيرَ الْوَقِيعَةِ فِي الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَأَكَابِرِ النَّاسِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنَقُّصِ لَهُمْ وَذِكْرِ مَسَاوِيهِمْ، وَكَوْنُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ عَظِيمًا فَصَارَ سَاقِطًا مِنْ أَعْيُنِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى امْتِحَانِهِ بِدُخُولِ رَجُلَيْنِ جَلِيلَيْنِ عَلَيْهِ دَارَهُ فِي صُورَةِ مُسْتَفْتِينَ فَضَرَبَاهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا إِلَى أَنْ عِيلَ صَبْرُهُ وَلَمْ يُغِثْهُ أَحَدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 وَنَحْوُهُ مَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ الْعَصْرِيِّينَ، مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ الَّذِي قَبْلَهُ بِيَقِينٍ ; فَإِنَّهُ أَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي النَّاسِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ وَلَا قِيَاسٍ، فَأُبْعِدَ عَنِ الْبَلَدِ وَتَزَايَدَ بِهِ الْأَلَمُ وَالنَّكَدُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا كَفَّ حَتَّى ثَقُلَ عَلَى الْكَافَّةِ وَمَا خَفَّ، وَارْتَقَى لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ ; فَضْلًا عَمَّنْ يَلِيهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْأَعْلَامِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ وَمَا اشْتَفَى مِنْ تِلْكَ النِّكَايَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقِينَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا وَحَصَائِدَ أَلْسِنَتِنَا. وَلِمَا فِي الْجَرْحِ مِنَ الْخَطَرِ، لَمَّا جِيءَ لِلتَّقِيِّ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ بِالْمَحْضَرِ الْمُكْتَتَبِ فِي التَّقِيِّ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ ; لِيَكْتُبَ فِيهِ، امْتَنَعَ مِنْهَا أَشَدَّ امْتِنَاعٍ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ، بَلْ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِمْ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِي أَنِ اكْتُبَ فِيهِ. وَرَدَّهُ، فَتَزَايَدَتْ جَلَالَتُهُ بِذَلِكَ وَعُدَّ فِي وُفُورِ دِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَانْتَفَعَ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ بِذَلِكَ، وَكَيْفَ لَا، وَالتَّقِيُّ هُوَ الْقَائِلُ مِمَّا أَحْسَنَ فِيهِ: أَعْرَاضُ الْمُسْلِمِينَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ: الْمُحَدِّثُونَ وَالْحُكَّامُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَنْ أَرَادَ بِي سُوءًا جَعَلَهُ اللَّهُ مُحَدِّثًا أَوْ قَاضِيًا. [ النصح في الدين حق واجب ] (وَمَعَ ذَلِكَ) أَيْ: كَوْنُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ خَطَرًا فَلَابُدَّ مِنْهُ (فَالنُّصْحُ) فِي الدِّينِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِلْمُؤْمِنَيْنِ (حَقٌّ) وَاجِبٌ يُثَابُ مُتَعَاطِيهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَتِ النَّصِيحَةُ خَاصَّةً أَوْ عَامَّةً، وَهَذَا مِنْهُ لِقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِأَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ حِينَ عَزَلَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (لَا تَغْتَبِ النَّاسَ، وَيْحَكَ، هَذِهِ نَصِيحَةٌ، وَلَيْسَتْ غَيْبَةً) ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف: 29] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 ) [الْكَهْفِ: 29] . وَأَوْجَبَ اللَّهُ الْكَشْفَ وَالتَّبَيُّنَ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَرْحِ: ( «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» ) . وَفِي التَّعْدِيلِ: ( «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ» ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَلِذَا اسْتَثْنَوْا هَذَا مِنَ الْغَيْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ، بَلْ عُدَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلَفْظُهُ فِي قَوَاعِدِهِ: الْقَدْحُ فِي الرُّوَاةِ وَاجِبٌ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّرْعِ، وَلِمَا عَلَى النَّاسِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ خَبَرٍ يُجَوِّزُ الشَّرْعُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَجَرْحُ الشُّهُودِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحُكَّامِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ ; لِحِفْظِ الْحُقُوقِ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَنْسَابِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ. [ المتكلمون في الرجال ] وَتَكَلَّمَ فِي الرِّجَالِ - كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ - جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ مِنَ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ، وَلَكِنَّهُ فِي التَّابِعِينَ ; أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ بِقِلَّةٍ ; لِقِلَّةِ الضَّعْفِ فِي مَتْبُوعِيهِمْ ; إِذِ اكْثَرُهُمْ صَحَابَةٌ عُدُولٌ، وَغَيْرُ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ أَكْثَرُهُمْ ثِقَاتٌ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي انْقَرَضَ فِي الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ ضَعِيفٌ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ ; كَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَالْمُخْتَارِ الْكَذَّابِ، فَلَمَّا مَضَى الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَدَخَلَ الثَّانِي كَانَ فِي أَوَائِلِهِ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، الَّذِينَ ضُعِّفُوا غَالِبًا مِنْ قِبَلِ تَحَمُّلِهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِلْحَدِيثِ، فَتَرَاهُمْ يَرْفَعُونَ الْمَوْقُوفَ وَيُرْسِلُونَ كَثِيرًا، وَلَهُمْ غَلَطٌ ; كَأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ آخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ - وَهُوَ حُدُودُ الْخَمْسِينَ وَمِائَةٍ - تَكَلَّمَ فِي التَّوْثِيقِ وَالتَّضْعِيفِ طَائِفَةٌ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 الْأَئِمَّةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ. وَضَعَّفَ الْأَعْمَشُ جَمَاعَةً، وَوَثَّقَ آخَرِينَ، وَنَظَرَ فِي الرِّجَالِ شُعْبَةُ وَكَانَ مُتَثَبِّتًا لَا يَكَادُ يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَكَذَا كَانَ مَالِكٌ، وَمِمَّنْ إِذَا قَالَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قُبِلَ قَوْلُهُ، مَعْمَرٌ وَهِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ طَبَقَةٌ أُخْرَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ ; كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَهُشَيْمٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيِّ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ طَبَقَةٌ أُخْرَى فِي زَمَانِهِمْ ; كَابْنِ عُلَيَّةَ وَابْنِ وَهْبٍ وَوَكِيعٍ، ثُمَّ انْتُدِبَ فِي زَمَانِهِمْ أَيْضًا لِنَقْدِ الرِّجَالِ الْحَافِظَانِ الْحُجَّتَانِ ; يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ، فَمَنْ جَرَّحَاهُ لَا يَكَادُ يَنْدَمِلُ جُرْحُهُ، وَمَنْ وَثَّقَاهُ فَهُوَ الْمَقْبُولُ، وَمَنِ اخْتَلَفَا فِيهِ وَذَلِكَ قَلِيلٌ اجْتُهِدَ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ إِذَا قَالَ، سُمِعَ مِنْهُ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَبَعْدَهُمْ طَبَقَةٌ أُخْرَى كَالْحُمَيْدِيِّ وَالْقَعْنَبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، ثُمَّ صُنِّفَتِ الْكُتُبُ وَدُوِّنَتْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْعِلَلِ وَبُيِّنَ مَنْ هُوَ فِي الثِّقَةِ وَالثَّبَتُ كَالسَّارِيَةِ، وَمَنْ هُوَ فِي الثِّقَةِ كَالشَّابِّ الصَّحِيحِ الْجِسْمِ، وَمَنْ هُوَ لَيِّنٌ كَمَنْ تُوجِعُهُ رَأْسُهُ وَهُوَ مُتَمَاسِكٌ يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ، وَمِنْ صِفَتُهُ كَمَحْمُومٍ تَرَجَّحَ إِلَى السَّلَامَةِ، وَمِنْ صِفَتُهُ كَمَرِيضٍ شَبْعَانٍ مِنَ الْمَرَضِ، وَآخَرُ كَمَنْ سَقَطَ قُوَاهُ وَأَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يَسْقُطُ حَدِيثُهُ، وَوُلَاةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الرِّجَالِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُ وَعِبَارَتُهُ فِي بَعْضِ الرِّجَالِ كَمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ الْفُقَهَاءِ وَصَارَتْ لَهُمُ الْأَقْوَالُ وَالْوُجُوهُ، فَاجْتَهَدُوا فِي الْمَسَائِلِ، كَمَا اجْتَهَدَ ابْنُ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ، وَمِنْ طَبَقَتِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، سَأَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ تَلَامِذَتِهِ عَنِ الرِّجَالِ وَكَلَامِهِ فِيهِمْ بِاعْتِدَالٍ وَإِنْصَافٍ وَأَدَبٍ وَوَرَعٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 وَكَذَا تَكَلَّمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتَبُ الْوَاقِدِيِّ فِي طَبَقَاتِهِ بِكَلَامٍ جَيِّدٍ مَقْبُولٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ لَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّبِيلُ حَافِظُ الْجَزِيرَةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ أَرَ أَحْفَظَ مِنْهُ. وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْكَثِيرَةُ فِي الْعِلَلِ وَالرِّجَالِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ: هُوَ دُرَّةُ الْعِرَاقِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ صَاحِبُ (الْمُسْنَدِ) ، وَكَانَ آيَةً فِي الْحِفْظِ، يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ صَالِحٌ جَزَرَةُ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ رَأَيْتُ بِحَدِيثِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ إِمَامُ خُرَاسَانَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ الْحَافِظُ، وَلَهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الطَّبَرِيُّ حَافِظُ مِصْرَ وَكَانَ قَلِيلَ الْمِثْلِ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّالُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. ثُمَّ خَلَفَهُمْ طَبَقَةٌ أُخْرَى مُتَّصِلَةٌ بِهِمْ، مِنْهُمْ إِسْحَاقُ الْكَوْسَجُ وَالدَّارِمِيُّ وَالذُّهْلِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَالْعِجْلِيُّ الْحَافِظُ نَزِيلُ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّانِ، وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجْسِتَانِيُّ وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ وَأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خِرَاشٍ الْبَغْدَادِيُّ لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، قَوِيُّ النَّفْسِ كَأَبِي حَاتِمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ الْأَنْدَلُسِيُّ حَافِظُ قُرْطَبَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَصَالِحٌ جَزَرَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثُمَّ مِنْ بَعْدَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ وَالْبَرْدِيجِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالدُّولَابِيُّ وَأَبُو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنُ جَوْصَا وَأَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ. ثُمَّ طَبَقَةٌ أُخْرَى، مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو طَالِبٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ شَيْخُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنُ عُقْدَةَ وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ وَابْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 وَمُصَنَّفُهُ فِي الرِّجَالِ، إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي الْجَرْحِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَاسَرْجِسِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَلَهُ مُسْنَدٌ مُعَلَّلٌ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ، وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَبِهِ خُتِمَ (مَعْرِفَةُ الْعِلَلِ) . ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ وَأَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ، وَأَبُو الْمُطَرِّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ فُطَيْسٍ قَاضِي قُرْطَبَةَ، وَلَهُ دَلَائِلُ السُّنَّةِ فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ، وَفَضَائِلُ الصَّحَابَةِ كَمَا أَسْلَفْتُهُ هُنَاكَ، وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ الْأَصْبَهَانِيُّ وَتَمَّامٌ الرَّازِيُّ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ الْبَغْدَادِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ وَأَبُو حَازِمٍ الْعَبْدَوِيُّ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ عَشَرَةُ أَنْفُسٍ عَشَرَةَ آلَافِ جُزْءٍ، وَخَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الْفَلَكِيُّ، وَلَهُ كِتَابُ (الطَّبَقَاتِ) فِي أَلْفِ جُزْءٍ، وَأَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ السَّهْمِيُّ وَأَبُو يَعْقُوبَ الْقِرَابُ وَأَبُو ذَرٍّ الْهَرُوبَانِ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ الْبَغْدَادِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمَّانُ وَأَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيَّانِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ، ثُمَّ أَبُو الْقَاسِمِ سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّنْجَانِيُّ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ وَابْنُ مَاكُولَا وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَكَانَ عَلَّامَةً حُجَّةً وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ وَابْنُ مُفَوَّزٍ الْمُعَافِرِيُّ الشَّاطِبِيُّ ثُمَّ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ وَشُجَاعُ بْنُ فَارِسٍ الذُّهْلِيُّ، وَالْمُؤْتَمِنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ السَّاجِيُّ وَشِيرُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ الْهَرَوِيُّ مُصَنِّفٌ (تَارِيخِ هَرَاةَ) وَأَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ السَّلَامِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَالسِّلَفِيُّ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ بَشْكُوالٍ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ عَبْدُ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَخَّارِ الْمَالِقِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 الْمَقْدِسِيُّ وَالرَّهَاوِيُّ وَابْنُ مُفَضَّلٍ الْمَقْدِسِيُّ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ الْأَنْمَاطِيِّ وَابْنُ نُقْطَةَ وَابْنُ الدُّبَيْثِيِّ وَابْنُ خَلِيلٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلْفُونَ الْأَزْدِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ ثُمَّ الزَّكِيُّ الْمُنْذِرِيُّ وَالْبِرْزَالِيُّ وَالصَّرِيفِينِيُّ وَالرَّشِيدُ الْعَطَّارُ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَابْنُ الْأَبَّارِ وَابْنُ الْعَدِيمِ وَأَبُو شَامَةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ النَّابُلْسِيُّ وَابْنُ الصَّابُونِيِّ. ثُمَّ بَعْدَهُمُ الدِّمْيَاطِيُّ وَابْنُ الظَّاهِرِيِّ وَالْمَيْدُومِيُّ وَالِدُ الصَّدْرِ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَابْنُ فَرَجٍ وَعُبَيْدٌ الْإِسْعَرْدِيُّ، ثُمَّ بَعْدَهُمْ سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ وَالْمِزِّيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالذَّهَبِيُّ وَصَفِيُّ الدِّينِ الْقِرَافِيُّ وَابْنُ الْبِرْزَالِيِّ وَالْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ وَابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ. فِي آخَرِينَ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ، مِنْهُمْ فِي شُيُوخِ شُيُوخِنَا الْمُصَنِّفُ، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ شَيْخُنَا، وَفَاقَ فِي ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ أَدْرَكَهُ، وَطُوِيَ الْبِسَاطُ بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ شَاءُ اللَّهُ، خُتِمَ لَنَا بِخَيْرٍ، فَعَدَّلُوا وَجَرَّحُوا، وَوَهَّنُوا وَصَحَّحُوا، وَلَمْ يُحَابُوا أَبًا وَلَا ابْنًا وَلَا أَخًا، حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ سُئِلَ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: سَلُوا عَنْهُ غَيْرِي. فَأَعَادُوا ; فَأَطْرَقَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَكَانَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ لِكَوْنِ وَالِدِهِ كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، يُقْرِنُ مَعَهُ آخَرَ إِذَا رَوَى عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ صَاحِبُ (السُّنَنِ) : ابْنِي عَبْدُ اللَّهِ كَذَّابٌ، وَإِنْ تَأَوَّلْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ فِي وَلَدِهِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَشَاغَلَ عَنْهُ حَتَّى نَسِيَهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ: لَا تَأْخُذُوا عَنْ أَخِي. يَعْنِي يَحْيَى الْمَذْكُورَ بِالْكَذِبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 نَعَمْ فِي الْخُلَفَاءِ وَآبَائِهِمْ وَأَهْلِيِهِمْ كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةَ دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَهُ: قَوْمٌ أَعْرَضَ أَهْلُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَنْ كَشْفِ حَالِهِمْ ; خَوْفًا مِنَ السَّيْفِ وَالضَّرْبِ، قَالَ: وَمَا زَالَ هَذَا فِي كُلِّ دَوْلَةٍ قَائِمَةٍ يَصِفُ الْمُؤَرِّخُ مَحَاسِنَهَا وَيُغْضِي عَنْ مَسَاوِئِهَا هَذَا إِذَا كَانَتْ ذَا دِينٍ وَخَيْرٍ ; فَإِنْ كَانَ مَدَّاحًا مُدَاهِنًا لَمْ يَلْتَفَتْ إِلَى الْوَرَعِ، بَلْ رُبَّمَا أَخْرَجَ مَسَاوِئِ الْكَبِيرِ وَهَنَاتِهِ فِي هَيْئَةِ الْمَدْحِ وَالْمَكَارِمِ وَالْعَظْمَةِ، فَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ كَانَ مِنَ الْوَرَعِ بِمَكَانٍ، كَالْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ صَاحِبِ (الْكَمَالِ فِي مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ) الْمُخَرَّجِ لَهُمْ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ الَّذِي هَذَّبَهُ الْمِزِّيُّ وَصَارَ كِتَابًا حَافِلًا، عَلَيْهِ مُعَوَّلُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَاخْتَصَرَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ لَمْ يُشَكَّ فِي وَرَعِهِ ; كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَابْنِ الْمُبَارَكِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنِ ادْخُلَ الْجَنَّةَ وَبَيْنَ أَنِ الْقَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُحَرَّرِ لَاخْتَرْتُ أَنِ الْقَاهُ ثُمَّ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَلَمَّا رَأَيْتُهُ كَانَتْ بَعْرَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَابْنِ مَعِينٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي أُنَاسٍ قَدْ حَطُّوا رِحَالَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَالْبُخَارِيِّ الْقَائِلِ: مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا مُذْ عَلِمْتُ أَنَّ الْغَيْبَةَ حَرَامٌ. وَحُجَّتُهُمُ التَّوَصُّلُ بِذَلِكَ لِصَوْنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّ حَقَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْمُقَدَّمُ. (وَلَقَدْ أَحْسَنَ) الْإِمَامُ (يَحْيَى) بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ (فِي جَوَابِهِ) لِأَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ حِينَ قَالَ لَهُ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ (وَسَدْ) بِمُهْمَلَتَيْنِ ; أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ، أَيْ: وُفِّقَ لِلسَّدَادِ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ حَيْثُ قَالَ: (لَأَنْ يَكُونُوا) أَيِ: الْمَتْرُوكُونَ (خُصَمَاءَ لِي أَحَبْ) إِلَيَّ (مِنْ كَوْنِ خَصْمِي الْمُصْطَفَى) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذْ لَمْ أَذُبْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، أَيْ: أَمْنَعِ الْكَذِبَ عَنْ حَدِيثِهِ وَشَرِيعَتِهِ ; وَلِذَا رَأَى رَجُلٌ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِ مَعِينٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مُجْتَمِعِينَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ اجْتِمَاعِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جِئْتُ لِأُصَلِّيَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَإِنَّهُ كَانَ يَذُبُّ الْكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي) . وَنُودِيَ بَيْنَ نَعْشِهِ هَذَا الَّذِي كَانَ يَنْفِي الْكَذِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رُؤِيَ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَأَعْطَانِي وَحَبَانِي وَزَوَّجَنِي ثَلَاثَمِائَةِ حَوْرَاءَ، وَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ. وَقِيلَ فِيهِ: ذَهَبَ الْعَلِيمُ بِعَيْبِ كُلِّ مُحَدِّثٍ ... وَبِكُلِّ مُخْتَلِفٍ وَفِي الْإِسْنَادِ وَبِكُلِّ وَهْمٍ فِي الْحَدِيثِ وَمُشْكِلٍ ... يُعْنَى بِهِ عُلَمَاءُ كُلِّ بِلَادِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ شُغِفَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَائِمِينَ بِالتَّارِيخِ وَمَا أَشْبَهَهُ ; كَالذَّهَبِيِّ ثُمَّ شَيْخِنَا بِذِكْرِ الْمَعَايِبِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُعَابُ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ غَيْبَةٌ مَحْضَةٌ ; وَلِذَا تَعَقَّبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ابْنَ السَّمْعَانِيَّ فِي ذِكْرِهِ بَعْضَ الشُّعَرَاءِ وَقَدَحَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: إِذَا لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْقَدْحِ فِيهِ لِلرِّوَايَةِ لَمْ يَجُزْ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُرَابِطِ: قَدْ دَوَّنْتُ الْأَخْبَارَ، وَمَا بَقِيَ لِلتَّجْرِيحِ فَائِدَةٌ، بَلِ انْقَطَعَتْ مِنْ رَأْسِ الْأَرْبَعِمِائَةِ، وَدَنْدَنَ هُوَ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ مَقَالَهُ بِعَيْبِ الْمُحَدِّثِينَ بِذَلِكَ، قُلْتُ: الْمَلْحُوظُ فِي تَسْوِيغِ ذَلِكَ كَوْنُهُ نَصِيحَةً وَلَا انْحِصَارَ لَهَا فِي الرِّوَايَةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا ذِكْرُ الْمَرْءِ بِمَا يَكْرَهُ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ غِيبَةً، بَلْ هُوَ نَصِيحَةٌ وَاجِبَةٌ، أَنْ تَكُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 لِلْمَذْكُورِ وِلَايَةٌ لَا يَقُومُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ صَالِحًا لَهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ فَاسِقًا أَوْ مُغَفَّلًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُذْكَرُ لِيُزَالَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ، أَوْ يَكُونَ مُبْتَدِعًا أَوْ فَاسِقًا وَيَرَى مَنْ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ لِلْعِلْمِ وَيُخَافُ عَلَيْهِ عَوْدُ الضَّرَرِ مِنْ قِبَلِهِ بِبَيَانِ حَالِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الْمُتَسَاهِلُ فِي الْفَتْوَى أَوِ التَّصْنِيفِ أَوِ الْأَحْكَامِ أَوِ الشَّهَادَاتِ أَوِ النَّقْلِ، أَوِ الْمُتَسَاهِلُ فِي ذِكْرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ فِي الرِّشَاءِ وَالِارْتِشَاءِ ; إِمَّا بِتَعَاطِيهِ لَهُ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِ، وَآكِلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْحِيَلِ وَالِافْتِرَاءِ، أَوِ الْغَاصِبُ لِكُتُبِ الْعِلْمِ مِنْ أَرْبَابِهَا أَوِ الْمَسَاجِدِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ مِلْكًا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَوْ وَاجِبٌ ذِكْرُهُ لِيُحْذَرَ ضَرَرُهُ، وَكَذَا يَجِبُ ذِكْرُ الْمُتَجَاهِرِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ وَنَحْوِهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، قَالَ شَيْخُنَا: وَيَتَأَكَّدُ الذِّكْرُ لِكُلِّ هَذَا فِي حَقِّ الْمُحَدِّثِ ; لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ فَنِّهِ بَيَانُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَمَنْ عَابَهُ بِذِكْرِهِ لَعَيْبِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ أَوِ الْمُتَّصِفِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَهُوَ جَاهِلٌ أَوْ مُلَبِّسٌ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي صِفَتِهِ فَيُخْشَى أَنْ يَسْرِيَ إِلَيْهِ الْوَصْفُ. نَعَمْ لَا يَجُوزُ التَّجْرِيحُ بِشَيْئَيْنِ إِذَا حَصَلَ بِوَاحِدٍ، فَقَدْ قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يُجَرَّحَ بِذَنَبَيْنِ مَهْمَا أَمْكَنَ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِهِمَا ; فَإِنَّ الْقَدْحَ إِنَّمَا يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ فَلْيُقَدَّرْ بِقَدْرِهَا، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الْقِرَافِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَدْ قَسَّمَ الذَّهَبِيُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرِّجَالِ أَقْسَامًا، فَقِسْمٌ تَكَلَّمُوا فِي سَائِرِ الرُّوَاةِ ; كَابْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَقِسْمٌ تَكَلَّمُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ ; كَمَالِكٍ وَشُعْبَةَ، وَقِسْمٌ تَكَلَّمُوا فِي الرَّجُلِ بَعْدَ الرَّجُلِ ; كَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُمُ الْكُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا: قِسْمٌ مِنْهُمْ مُتَعَنِّتٌ فِي التَّوْثِيقِ، مُتَثَبِّتٌ فِي التَّعْدِيلِ يَغْمِزُ الرَّاوِيَ بِالْغَلْطَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، فَهَذَا إِذَا وَثَّقَ شَخْصًا فَعَضَّ عَلَى قَوْلِهِ بِنَوَاجِذِكَ، وَتَمَسَّكْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 بِتَوْثِيقِهِ، وَإِذَا ضَعَّفَ رَجُلًا فَانْظُرْ هَلْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ عَلَى تَضْعِيفِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ وَلَمْ يُوَثِّقْ ذَاكَ الرَّجُلَ أَحَدٌ مِنَ الْحُذَّاقِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ وَثَّقَهُ أَحَدٌ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالُوا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْجَرْحُ إِلَّا مُفَسَّرًا، يَعْنِي لَا يَكْفِي فِيهِ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ مَثَلًا: هُوَ ضَعِيفٌ. وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ ضَعْفِهِ، ثُمَّ يَجِيءُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ يُوَثِّقُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُخْتَلَفُ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِهِ وَتَضْعِيفِهِ، وَمَنْ ثَمَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ، وَهُوَ مَنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ: لَمْ يَجْتَمِعِ اثْنَانِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ قَطُّ عَلَى تَوْثِيقٍ ضَعِيفٍ وَلَا عَلَى تَضْعِيفِ ثِقَةٍ. انْتَهَى. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ النَّسَّائِيِّ أَنْ لَا يُتْرَكَ حَدِيثُ الرَّجُلِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ تَرْجِيحِهِ بِمَا يَحْسُنُ اسْتِحْضَارُهُ هُنَا، وَقِسْمٌ مِنْهُمْ مُتَسَمِّحٌ ; كَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ، قُلْتُ: وَكَابْنِ حَزْمٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَشْهُورِينَ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ. وَقِسْمٌ مُعْتَدِلٌ ; كَأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ عَدِيٍّ. (وَ) لِوُجُودِ الْمُتَشَدِّدِ وَمُقَابِلِهِ نَشَأَ التَّوَقُّفُ فِي أَشْيَاءَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ (رُبَّمَا رُدَّ كَلَامُ) كُلٌّ مِنَ الْمُعَدِّلِ وَ (الْجَارِحِ) مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَنَقْدِهِ وَدِيَانَتِهِ ; إِمَّا لِانْفِرَادِهِ عَنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ; كَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى ; فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ يُوَثِّقْهُ غَيْرُهُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ قَدِ اعْتَذَرَ السَّاجِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ إِلَّا فِي الْفَضَائِلِ، يَعْنِي وَهُمْ يَتَسَامَحُونَ فِيهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ خَلَافُهُ، وَابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّ مُجَالَسَتَهُ لِإِبْرَاهِيمَ كَانَتْ فِي حَدَاثَتِهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَمَا مَضَى فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي لَهُ أَتْبَاعٌ يُقَلِّدُونَهُ فِيمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ، إِذَا احْتَجَّ بِرَاوٍ ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ الرَّاوِي حُجَّةً فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَ ذَلِكَ الْإِمَامَ، أَوْ لِتَحَامُلِهِ (كَالنَّسَّائِي) بِالْإِسْكَانِ لِلْوَزْنِ، صَاحِبِ (السُّنَنِ) (فِي أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ) أَبِي جَعْفَرٍ الْمِصْرِيِّ الْحَافِظِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الطَّبَرِيِّ، حَيْثُ جَرَّحَهُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ، تَرَكَهُ مُحَمَّدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 بْنُ يَحْيَى وَرَمَاهُ يَحْيَى بِالْكَذِبِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، سَمِعْتُ ابْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ كَذَّابٌ يَتَفَلْسَفُ. انْتَهَى. فَإِنَّهُ - كَمَا قَالَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ - مِمَّنِ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ فِيهِ تَحَامُلٌ قَالَ: وَلَا يَقْدَحُ كَلَامُ أَمْثَالِهِ فِيهِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي (الْمِيزَانِ) : إِنَّهُ آذَى نَفْسَهُ بِكَلَامِهِ فِيهِ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَثِقَتِهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ صَدُوقٌ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِحُجَّةٍ، كَانَ أَحْمَدُ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا يُثَبِّتُونَهُ، وَكَانَ يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ مَعِينٍ - يَقُولُ: سَلُوهُ ; فَإِنَّهُ ثَبَتٌ. وَمِمَّنْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَقَالَ: صَاحِبُ سُنَّةٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ ابْنُ يُونَسَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا. كَمَا قَالَ النَّسَائِيُّ: لَمْ تَكُنْ لَهُ آفَةٌ غَيْرَ الْكِبْرِ. وَالسَّبَبُ فِي كَلَامِ النَّسَائِيِّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكُنْ يُحَدِّثُ أَحَدًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ، فَجَاءَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ صَحِبَ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لَيْسُوا هُنَاكَ، فَأَبَى أَحْمَدُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَعَمِدَ النَّسَائِيُّ إِلَى جَمْعِ أَحَادِيثَ قَدْ غَلِطَ فِيهَا ابْنُ صَالِحٍ فَشَنَّعَ بِهَا وَلَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونَ الرَّقِّيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَهُ فَطَرَدَهُ مِنْهُ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى التَّكَلُّمِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ فَجَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، فَالَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ إِنَّمَا هُوَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الشُّمُومِيُّ الْمِصْرِيُّ شَيْخٌ بِمَكَّةَ، كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ، سَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَنْهُ يَحْيَى، فَأَمَّا هَذَا فَهُوَ يُقَارِنُ ابْنَ مَعِينٍ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَقَوَّاهُ شَيْخُنَا بِنَقْلِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، كَمَا حَكَيْنَاهُ أَنَّهُ ثَبَتٌ، عَلَى أَنَّ ابْنَ يُونُسَ قَدْ رَدَّ قَوْلَ ابْنِ مَعِينٍ أَنْ لَوْ كَانَ فِي أَبِي جَعْفَرٍ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّ ابْنَ مَعِينٍ لَا يَدْرِي مَا الْفَلْسَفَةُ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ; وَلِذَا كَانَ أَحَدَ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تَدْخُلُ الْآفَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ النَّاسَ انْتَشَرَتْ بَيْنَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَقَدِّمَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وَالْمُتَأَخِّرَةِ حَتَّى عُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ عُلُومَ الْأَوَائِلِ قَدِ انْقَسَمَتْ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَمِنَ الْحَقِّ عِلْمُ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالطِّبِّ، وَمِنَ الْبَاطِلِ مَا يَقُولُونَهُ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَأَحْكَامِ النُّجُومِ، وَقَدْ تَحَدَّثَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَقْوَامٌ، فَيَحْتَاجُ الْقَادِحُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ; لِئَلَّا يُكَفِّرَ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرٍ أَوْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْكَافِرِ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ قَدِ اسْتَرَاحُوا مِنْ هَذَا ; لِعَدَمِ شُيُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي زَمَانِهِمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ: إِنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي الْجَارِحِ وَالْمُعَدِّلِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، فَيُجَرِّحَ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ مَثَلًا بِشُرْبِ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا ; لِأَنَّهُ يَرَاهُ قَادِحًا دُونَ غَيْرِهِ ; إِذْ لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ ذَلِكَ لَكَانَ الْجَارِحُ أَوِ الْمُعَدِّلُ غَارًّا لِبَعْضِ الْحُكَّامِ حَتَّى يَحْكُمَ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَرَى قَبُولَ قَوْلِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْغِشِّ. وَهُنَا لَطِيفَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا تَكَلَّمَ فِي حَرْمَلَةَ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: إِنَّهُ تَحَامَلَ عَلَيْهِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ أَحْمَدَ سَمِعَ فِي كُتُبِ حَرْمَلَةَ مِنَ ابْنِ وَهْبٍ فَأَعْطَاهُ نِصْفَ سَمَاعِهِ وَمَنَعَهُ النِّصْفَ، فَتَوَلَّدَتْ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ مِنْ هَذَا، وَكَانَ مَنْ يَبْدَأُ بِحَرْمَلَةَ إِذَا دَخَلَ مِصْرَ لَمْ يُحَدِّثْهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْغُرَبَاءِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا أَحْمَدُ بْنُ رِشْدِينَ شَيْخُ الطَّبَرَانِيِّ، فَجُوزِيَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ بِمَا تَقَدَّمَ. [ لا يقبل الجرح إلا مفسرا ] وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ; وَلِذَا قِيلَ فِي كُلٍّ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَسَّرًا، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اسْتَفْسَرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ جَرَّحَ أَوْ عَدَّلَ فَذَكَرُوا مَا لَا يَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مَعَ فَوَائِدَ مُهِمَّةٍ، وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ قَبُولُهُمَا مِنَ الْعَارِفِ بِأَسْبَابِهِمَا بِدُونِ تَفْسِيرٍ، فِي آخَرِينَ غَيْرِ النَّسَائِيِّ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَوْرَدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِ الْعِلْمِ لَهُ عَنْهُمْ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَحَكَمَ بِأَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، وَحَمَلَ بَعْضَهَا عَلَى أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ غَضَبٍ، وَجَرَّحَ مَنْ قَالَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. (فَرُبَّمَا كَانَ لِجَرْحٍ مَخْرَجُ) أَيْ: مَخْلَصٌ صَحِيحٌ يَزُولُ بِهِ، وَلَكِنْ (غَطَّى عَلَيْهِ السُّخْطُ) وَحُجِبَ عَنْهُ الْفِكْرُ (حِينَ يَحْرَجُ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَجِيمٍ، أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ بِسَبَبٍ نَالَهُ ; لِأَنَّ الْفَلَتَاتِ مِنَ الْأَنْفُسِ لَا يُدَّعَى الْعِصْمَةُ مِنْهَا ; فَإِنَّهُ رُبَّمَا حَصَلَ غَضَبٌ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَبَدَرَتْ مِنْهُ بَادِرَةُ لَفْظٍ فَحُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ، لَا أَنَّهُمْ مَعَ جَلَالَتِهِمْ وَوُفُورِ دِيَانَتِهِمْ تَعَمَّدُوا الْقَدْحَ بِمَا يَعْلَمُونَ بُطْلَانَهُ، حَاشَاهُمْ، وَكُلٌّ تَقِيٌّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ هَذَا الدَّاءُ فِي الْمُتَعَاصِرِينَ، وَسَبَبُهُ غَالِبًا مِمَّا هُوَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمَرَاتِبِ، وَلَكِنْ قَدْ عَقَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِهِ بَابًا لِكَلَامِ الْأَقْرَانِ الْمُتَعَاصِرِينَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، وَرَأَى أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ فِيهِمْ إِلَّا بِبَيَانٍ وَاضِحٍ، فَإِنِ انْضَمَّ لِذَلِكَ عَدَاوَةٌ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَبُولِ، وَلَوْ كَانَ سَبَبُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الِاخْتِلَافَ فِي الِاعْتِقَادِ ; فَإِنَّ الْحَاذِقَ إِذَا تَأَمَّلَ ثَلْبَ أَبِي إِسْحَاقَ الْجَوْزَجَانِيِّ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ رَأَى الْعَجَبَ ; وَذَلِكَ لِشِدَّةِ انْحِرَافِهِ فِي النَّصْبِ وَشُهْرَةِ أَهْلِهَا بِالتَّشَيُّعِ، فَتَرَاهُ لَا يَتَوَقَّفُ فِي جَرْحِ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْهُمْ بِلِسَانٍ ذَلِقٍ وَعِبَارَةٍ طَلِقَةٍ، حَتَّى إِنَّهُ أَخَذَ يُلَيِّنُ مِثْلَ الْأَعْمَشِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَأَسَاطِينَ الْحَدِيثِ وَأَرْكَانَ الرِّوَايَةِ، فَهَذَا إِذَا عَارَضَهُ مِثْلُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ فَوَثَّقَ رَجُلًا مِمَّنْ ضَعَّفَهُ هُوَ قُبِلَ التَّوْثِيقِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خِرَاشٍ الْمُحَدِّثُ الْحَافِظُ ; فَإِنَّهُ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ، بَلْ نُسِبَ إِلَى الرَّفْضِ، فَيَتَأَتَّى فِي جَرْحِهِ لِأَهْلِ الشَّامِ لِلْعَدَاوَةِ الْبَيِّنَةِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَكَذَا كَانَ ابْنُ عُقْدَةَ شِيعِيًّا، فَلَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَتَعَصَّبَ لِأَهْلِ الرَّفْضِ ; وَلِذَا كَانَتِ الْمُخَالِفَةُ فِي الْعَقَائِدِ أَحَدَ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تَدْخُلُ الْآفَةُ مِنْهَا ; فَإِنَّهَا - كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - أَوْجَبَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 تَكْفِيرَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَوْ تَبْدِيعَهِمْ، وَأَوْجَبَتْ عَصَبِيَّةً اعْتَقَدُوهَا دِينًا يَتَدَيَّنُونَ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعْنُ بِالتَّكْفِيرِ أَوِ التَّبْدِيعِ، قَالَ: وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا فِي الطَّبَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ مَوْجُودٌ كَثِيرًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ الْجَرْحِ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ الْحَالِ فِي الْعَمَلِ بِرِوَايَةِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَحَكَيْنَا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ هُنَاكَ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ. وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا مِمَّا جَعَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَجْهًا مُسُتَقِلًّا الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَصْحَابِ الْعُلُومِ الظَّاهِرَةِ، فَقَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَافُرٌ أَوْجَبَ كَلَامَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالَ: وَهَذِهِ غَمْرَةٌ لَا يَخْلُصُ مِنْهَا إِلَّا الْعَالِمُ الْوَافِي بِشَوَاهِدَ الشَّرِيعَةِ، وَلَا أَحْصُرُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ بِالْفُرُوعِ الْمَذْهَبِيَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ لَا يَفِي بِتَمْيِيزِ حِقِّهِ مِنْ بَاطِلِهِ عِلْمُ الْفُرُوعِ، بَلْ لَابُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْجَائِزِ، وَالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالْمُسْتَحِيلِ الْعَادِيِّ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُتَمَيِّزُ فِي الْفِقْهِ جَاهِلًا بِذَلِكَ، حَتَّى يَعُدَّ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً مُسْتَحِيلًا عَقْلًا، وَهَذَا الْمَقَامُ خَطَرٌ شَدِيدٌ ; فَإِنَّ الْقَادِحَ فِي الْمُحِقِّ مِنَ الصُّوفِيَّةِ مُعَادٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» ) . وَالتَّارِكُ لِإِنْكَارِ الْبَاطِلِ مِمَّا يَسْمَعُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَارِكٌ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ بِقَلْبِهِ فَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» ) . فَإِذَا انْضَمَّا - أَعْنِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ عِلْمِ الظَّاهِرِ وَالْمُخَالِفَةِ فِي الْعَقَائِدِ - مَعَ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ ; وَهُمَا الْجَهْلُ بِمَرَاتَبِ الْعُلُومِ وَالْغَرَضُ وَالْهَوَى، وَانْضَافَ إِلَيْهَا عَدَمُ الْوَرَعِ وَالْأَخْذُ بِالتَّوَهُّمِ وَالْقَرَائِنِ الَّتِي قَدْ تَتَخَلَّفُ - كَانَتِ الْأَوْجَهُ الْخَمْسَةُ، الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 (الِاقْتِرَاحِ) أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْآفَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْهَا، وَقَالَ فِي خَامِسِهَا: إِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، أَيْ: أَخَذَ بِالتَّوَهُّمِ وَالْقَرَائِنِ فَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِيَّاكَ وَالظَّنَّ ; فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» ) . قُلْتُ: لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ احْمَلْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ، وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْهُ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا. انْتَهَى. وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْجَارِحُ مَعْرُوفًا بِالْعِلْمِ وَكَانَ قَلِيلَ التَّقْوَى، فَإِنَّ عِلْمَهُ يَقْتَضِي أَنْ يُجْعَلَ أَهْلًا لِسَمَاعِ قَوْلِهِ وَجَرْحِهِ، فَيَقَعُ الْخَلَلُ بِسَبَبِ قِلَّةِ وَرَعِهِ وَأَخْذِهِ بِالتَّوَهُّمِ، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ عَصْرِنَا فِي سَمَاعِ قَوْلِهِ إِنْ جَرَّحَ ذُكِرَ لَهُ إِنْسَانٌ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ شَيْخٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ سَمِعْتَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَقَدْ كَانَ جَاءَ إِلَى مِصْرَ، يَعْنِي فِي طَرِيقِهِ لِلْحَجِّ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ صَاحِبِي وَلَوْ جَاءَ إِلَى مِصْرَ لَاجْتَمَعَ بِي أَوْ كَمَا قَالَ: فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّعْلِيقِ بِهَذَا الْوَهْمِ الْبَعِيدِ وَالْخَيَالِ الضَّعِيفِ فِيمَا أَنْكَرَهُ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى حَاصِلِهَا، وَقَالَ: إِنَّهُ وَاضِحٌ جَلِيٌّ. [مَعْرِفَةُ مَنِ اخْتَلَطَ مِنَ الثِّقَاتِ] [ أهمية هذا الفن ] مَعْرِفَةُ مَنِ اخْتَلَطَ مِنَ الثِّقَاتِ 985 - وَفِي الثِّقَاتِ مَنْ أَخِيرًا اخْتَلَطْ ... فَمَا رَوَى فِيهِ أَوَ ابْهَمَ سَقَطْ 986 - نَحْوُ عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ السَّائِبِ ... وَكَالْجُرَيْرِيِّ سَعِيدٍ وَأَبِي 987 - إِسْحَاقَ ثُمَّ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةِ ... ثُمَّ الرَّقَاشِيِّ أَبِي قِلَابَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 988 - كَذَا حُصَيْنُ السُّلَمِيُّ الْكُوفِي وَعَارِمٌ مُحَمَّدٌ وَالثَّقَفِي ... 989 - كَذَا ابْنُ هَمَّامٍ بِصَنْعَا إِذْ عَمِي وَالرَّأْيُ فِيمَا زَعَمُوا وَالتَّوْأَمِي ... 990 - وَابْنُ عُيَيْنَةٍ مَعَ الْمَسْعُودِي وَآخِرًا حَكَوْهُ فِي الْحَفِيدِ ... 991 - ابْنِ خُزَيْمَةٍ مَعَ الْغِطْرِيفِ مَعَ الْقَطِيعِي أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ (مَعْرِفَةُ مَنِ اخْتَلَطَ مِنَ الثِّقَاتِ) وَكَانَ الْأَنْسَبُ ذِكْرَهُ فِي مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ، كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ فَنٌّ عَزِيزٌ مُهِمٌّ، وَفَائِدَةُ ضَبْطِهِمْ تَمْيِيزُ الْمَقْبُولِ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلِذَا لَمْ يَذْكُرِ الضُّعَفَاءَ مِنْهُمْ كَأَبِي مَعْشَرٍ، نَجِيحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّنْدِيِّ الْمَدَنِيِّ ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْبُولِينَ بِدُونِهِ. (وَفِي الثِّقَاتِ) مِنَ الرُّوَاةِ (مَنْ أَخِيرًا اخْتَلَطْ) أَيْ: مَنِ اخْتَلَطَ آخِرَ عُمُرِهِ، يَعْنِي غَالِبًا، وَإِلَّا فَلَيْسَ قَيْدًا فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّمَا يَخْرَفُ الْكَذَّابُونَ، وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ لِمَنْ تَعَجَّبَ مِنْ صِحَّةِ حَوَاسِّهِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ: مَا عَصَيْتُ اللَّهَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا. أَوْ كَمَا قَالَ، مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَحَقِيقَتُهُ فَسَادُ الْعَقْلِ وَعَدَمُ انْتِظَامِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ; إِمَّا بِخَرَفٍ أَوْ ضَرَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَرَضٍ مِنْ مَوْتِ ابْنٍ وَسَرِقَةِ مَالٍ ; كَالْمَسْعُودِيِّ، أَوْ ذَهَابِ كُتُبٍ كَابْنِ لَهِيعَةَ أَوِ احْتِرَاقِهَا كَابْنِ الْمُلَقِّنِ. (فَمَا رَوَى) الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ (فِيهِ) أَيْ: فِي حَالِ اخْتِلَاطِهِ، (أَوَ ابْهَمَ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ مَبْنِيَّا لِلْفَاعِلِ، الْأَمْرُ فِيهِ وَأَشْكَلَ بِحَيْثُ لَمْ نَعْلَمْ أَرِوَايَتُهُ صَدَرَتْ فِي حَالِ اتِّصَافِهِ بِهِ أَوْ قَبْلَهُ، (سَقَطْ) حَدِيثُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ لِثِقَتِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَمَذْهَبُ وَكِيعٍ حَسْبَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَرِيبًا أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ فِي حَالِ اخْتِلَاطِهِ بِحَدِيثٍ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَلَمْ يُخَالِفْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ، فَلْيُحْمَلْ إِطْلَاقُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَتَمَيَّزُ ذَلِكَ بِالرَّاوِي عَنْهُ، فَإِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَهُ فَقَطْ، أَوْ بَعْدَهُ فَقَطْ، أَوْ فِيهِمَا مَعَ التَّمْيِيزِ وَعَدَمِهِ. [ المصنفات فيه والمختلطون في الصحيحين ] وَمَا يَقَعُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنَ التَّخْرِيجِ لِمَنْ وُصِفَ بِالِاخْتِلَاطِ مِنْ طَرِيقِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَهُ ; فَإِنَّا نَعْرِفُ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ عِنْدَ الْمُخَرِّجِ أَنَّهُ مِنْ قَدِيمِ حَدِيثِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ عَلَى شَرْطِهِ وَلَوْ ضَعِيفًا، يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ ; لِحُصُولِ الْأَمْنِ بِهِ مِنَ التَّغْيِيرِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِيمَا يَقَعُ عِنْدَهُمَا اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا مِنْ حَدِيثِ الْمُدَلِّسِ، بِالْعَنْعَنَةِ، وَمِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ غَالِبًا يُسْتَفَادُ التَّصْرِيحُ، وَمَنْ سَمِعَ قَدِيمًا مِمَّنِ اخْتَلَطَ. وَأَفْرَدَ لِلْمُخْتَلِطِينَ كِتَابًا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ فِي تَصْنِيفِهِ تُحْفَةِ الْمُسْتَفِيدِ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ، وَاعْتَنَى بِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقًا بِذَلِكَ جِدًّا، وَالْعَلَائِيُّ مُرَتِّبًا لَهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بِاخْتِصَارٍ، وَذَيَّلَ عَلَيْهِ شَيْخُنَا، وَلِلْبُرْهَانِ الْحَلَبِيِّ الِاغْتِبَاطُ بِمَنْ رُمِيَ بِالِاخْتِلَاطِ، [ أمثلة لمن اختلط من الثقات ] وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 (نَحْوُ عَطَاءٍ وَهُوَ) بِضَمِّ الْهَاءِ (ابْنُ السَّائِبِ) الثَّقَفِيُّ الْكُوفِيُّ فِي أَحَدِ التَّابِعِينَ، فَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِاخْتِلَاطِهِ ; كَابْنِ مَعِينٍ، وَوَصَفَهُ بَعْضُهُمْ بِالِاخْتِلَاطِ الشَّدِيدِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ بِأَخَرَةٍ، وَلَمْ يُفْحِشْ حَتَّى يَسْتَحِقَّ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الْعُدُولِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَقَطْ أَيُّوبُ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَزَائِدَةُ وَزُهَيْرُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَوُهَيْبٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي الثَّانِي ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ، وَفِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِي الْخَامِسِ الْحُمَيْدِيُّ، وَفِي السَّادِسِ وَالسَّابِعِ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَكَذَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَثْنَى حَدِيثَيْنِ سَمِعَهُمَا مِنْهُ شُعْبَةُ بِأَخَرَةٍ عَنْ زَاذَانَ، وَمِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِيمَا قَالَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ الْجَارُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ فِي الْوَقْتَيْنِ مَعًا، وَكَذَا سَمِعَ مِنْهُ فِي الْوَقْتَيْنِ مَعًا أَبُو عَوَانَةَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَابْنُ مَعِينٍ، وَزَادَ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْهُ، وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَهُ فَقَطْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزَوَانَ وَهُشَيْمٌ وَسَائِرُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فِي قَدْمَتِهِ الثَّانِيَةِ لَهَا دُونَ الْأُولَى، وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، لَكِنَّهُ مَقْرُونًا بِأَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ أَحَدِ الْأَثْبَاتِ، لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ فِي الْأَوَّلِ شَيْئًا. (وَكَالْجُرَيْرِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ، مُصَغَّرٌ، أَبِي مَسْعُودٍ (سَعِيدٍ) وَهُوَ ابْنُ إِيَاسٍ الْبَصْرِيُّ الثِّقَةُ ; فَإِنَّهُ اخْتَلَطَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وَرَآهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَهُوَ مُخْتَلِطٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَاطُهُ فَاشِيًا ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: لَمْ يَخْتَلِطْ إِنَّمَا كَبِرَ فَرَقَّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تَغَيَّرَ حِفْظُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَمَنْ كَتَبَ عَنْهُ قَدِيمًا فَهُوَ صَالِحٌ. وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْهُ: أَنْكَرْنَاهُ أَيَّامَ الطَّاعُونِ، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ أُنْكِرَ أَيَّامَ الطَّاعُونِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ وَالْحَمَّادَانِ وَالثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَسَمَاعُهُ مِنْهُ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ بِثَمَانٍ وَسِتِّينَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْعِجْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ أَصَحِّهِمْ عَنْهُ حَدِيثًا. وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ وَمَعْمَرٌ وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ; لِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ الْآجُرُّيِّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيَّ فَسَمَاعُهُ مَنِ الْجُرَيْرِيِّ جَيِّدٌ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ سَمِعُوا مِنْ أَيُّوبَ، وَبَعْدَ تَغَيُّرِهِ إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَقَالَ: لَا نَكْذِبُ اللَّهَ، سَمِعْنَا مِنْهُ وَهُوَ مُخْتَلِطٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ; وَلِذَا لَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ شَيْئًا، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَقَالَ - كَمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ -: سَمِعْتُ مِنْهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَهِيَ أَوَّلُ سَنَةٍ دَخَلْتُ فِيهَا الْبَصْرَةَ وَلَمْ نُنْكِرْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ قِيلَ لَنَا: إِنَّهُ قَدِ اخْتَلَطَ، وَسَمِعَ مِنْهُ إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ بَعْدَنَا، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَخَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى وَعَبْدِ الْوَارِثِ عَنْهُ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْهُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَبِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ وَجَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ وَأَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسَالِمِ بْنِ نُوحٍ وَالثَّوْرِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشُعْبَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَالثَّقَفِيِّ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ الْخَفَّافِ وَوُهَيْبٍ وَابْنِ زُرَيْعٍ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْهُ، وَفِي هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَمْ نَرَ التَّنْصِيصَ عَلَى كَوْنِ سَمَاعِهِمْ مِنْهُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 (وَ) كَـ (أَبِي إِسْحَاقَ) عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيِّ الْكُوفِيِّ التَّابِعِيِّ أَحَدِ الْأَعْلَامِ الْأَثْبَاتِ ; فَإِنَّهُ فِيمَا قَالَهُ الْخَلِيلِيُّ: اخْتَلَطَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْفَسَوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ سَمَاعَ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ مَا تَغَيَّرَ، وَأَنْكَرَ الذَّهَبِيُّ اخْتِلَاطَهُ، وَقَالَ: بَلْ شَاخَ وَنَسِيَ. يَعْنِي فَإِنَّهُ قَارَبَ الْمِائَةَ، قَالَ: وَسَمِعَ مِنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَقَدْ تَغَيَّرَ قَلِيلًا. وَقَالَ أَحْمَدُ: ثِقَةٌ، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ حَمَلُوا عَنْهُ بِأَخَرَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى التَّخْرِيجِ لَهُ، لَا مِنْ جِهَةِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ ; كَابْنِ عُيَيْنَةَ وَنَحْوِهِ، بَلْ عَنْ قُدَمَائِهِمْ حَفِيدَيْهِ ; إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ وَيُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَزَكَرِيَّا وَعُمَرَ ابْنَيْ أَبِي زَائِدَةَ، وَزُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ أَثْبَتُ النَّاسِ فِيهِ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ وَشَرِيكٍ وَشُعْبَةَ، وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْهُ، وَمُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَرَقَبَةَ بْنِ مَصْقَلَةَ، وَالْأَعْمَشِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُعَاذٍ وَعَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ وَمِسْعَرٍ عَنْهُ، وَاخْتُلِفَ فِي وَفَاتِهِ، فَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ وَكَبِرَ وَاخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ يُقَالُ: بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بَعْدَمَا كَبِرَ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أَوْسٍ الْكُوفِيُّ تَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ: أَتَيْتُهُ، فَرَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا فَرَجَعْتُ، وَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ، وَقُلْتُ: قَدْ خَرِفَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 (ثُمَّ) بَعْدَهُمْ جَمَاعَةٌ (كَابْنِ أَبِي عَرُوبَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْدَ الْوَاوِ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ مَكْسُورَةٌ مَعَ اتِّزَانِهِ، وَمَا بَعْدَهُ بِالْإِسْكَانِ أَيْضًا مِمَّا هُوَ أَوْلَى ; لِعَدَمِ ارْتِكَابِ ضَرُورَةِ الصَّرْفِ فِيهِ، هُوَ سَعِيدُ بْنُ مِهْرَانَ الْعَدَوِيُّ الْبَصْرِيُّ وَيُكَنَّى أَبَا النَّضْرِ، أَحَدُ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ وَثِقَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مِمَّنِ اخْتَلَطَ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: اخْتِلَاطًا قَبِيحًا، وَطَالَتْ مُدَّةُ اخْتِلَاطِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي ابْتِدَائِهَا، فَقِيلَ - كَمَا لِدُحَيْمٍ وَابْنِ حِبَّانَ -: إِنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: بَعْدَ هَزِيمَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ ; إِذْ هَزِيمَةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، بَلْ وَقُتِلَ فِي أَوَاخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ أَمْرٌ مُوَافِقٌ لِلْأَوَّلِ، لَكِنْ حَكَى الذُّهْلِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْخَفَّافِ أَنَّ اخْتِلَاطَهُ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: أَوَّلُ مَا أَنْكَرْنَاهُ يَوْمَ مَاتَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، جِئْنَا مِنْ جِنَازَتِهِ فَقَالَ: مَنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ قُلْنَا: مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ. فَقَالَ: وَمَنْ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ؟ وَكَانَتْ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَيَتَأَيَّدُ بِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي (الْكَامِلِ) عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَمِعَ مِنْهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ صَحِيحُ السَّمَاعِ، أَوْ بَعْدَهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ: كَانَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَاطَهُ كَانَ فِي الطَّاعُونِ. يَعْنِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ الْقَطَّانُ يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ: إِنَّمَا اخْتَلَطَ قَبْلَ الْهَزِيمَةِ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِمَا قَالَهُ الْبَزَّارُ: إِنَّهُ ابْتَدَأَ بِهِ الِاخْتِلَاطُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَلَمْ يَسْتَحْكِمْ وَلَمْ يُطْبِقْ بِهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنِ اسْتَحْكَمَ بِهِ أَخِيرًا، وَعَامَّةُ الرُّوَاةِ عَنْهُ سَمِعُوا مِنْهُ قَبْلَ الِاسْتِحْكَامِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ النَّاسُ اخْتِلَاطَهُ بِمَا قَالَهُ الْقَطَّانُ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَسِرَارُ بْنُ مُجَشِّرٍ، وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعَبْدُ الْأَعْلَى السَّامِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 الْقَطَّانُ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كَمَا قَالَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ وَالْعَاشِرِ وَالْحَادِي عَشَرَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَإِنَّهُمْ أَثْبَتُ النَّاسِ فِيهِ. وَفِي الثَّانِي أَبُو دَاوُدَ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْآجُرُّيُّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كَانَ سَمَاعُهُ مِنْهُ قَبْلَ الْهَزِيمَةِ، وَفِي الثَّالِثِ النَّسَائِيُّ فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ يُقَدِّمُهُ عَلَى يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءَ أَصْحَابِ سَعِيدٍ. وَفِي الرَّابِعِ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ بِسَنَةٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: إِنَّهُ هُوَ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ أَرْوَاهُمْ عَنْهُ بَعْدَ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَفِي الْخَامِسِ ابْنُ عَدِيٍّ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَرْوَاهُمْ عَنْهُ، وَابْنُ الْمَوَّاقِ، وَرَدَّ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ بْنَ الْقَطَّانِ: إِنَّهُ مُشْتَبِهٌ لَا يَدْرِي قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ أَوْ بَعْدَهُ. فَأَجَادَ فِي الرَّدِّ، وَفِي السَّادِسِ، وَكَذَا فِي الْحَادِي عَشَرَ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ، وَفِي الثَّامِنِ ابْنُ سَعْدٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: جَالَسْتُ سَعِيدًا سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَفِي التَّاسِعِ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ فِيهِ. وَكَذَا قَالَ فِي الْأَخِيرِ: إِنَّهُ صَحِيحُ السَّمَاعِ مِنْهُ سَمِعَ مِنْهُ بِوَاسِطٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْكُوفَةَ، وَقَوْلُ التَّاسِعِ عَنْ نَفْسِهِ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ فِي الِاخْتِلَاطِ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ بَيَانَ اخْتِلَاطِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِيهِ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ فِي الِاخْتِلَاطِ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ فِيمَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ وَقَدْ قَدَّمْتُ خِلَافَهُ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ ; فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ فِيمَا نَقَلَهُ الْآجُرُّيُّ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ سَمَاعَهُ مِنْهُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَتَبْتُ عَنْهُ بَعْدَمَا اخْتَلَطَ حَدِيثَيْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَالْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيُّ، وَوَكِيعٌ ; لِقَوْلِ ابْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيِّ الْحَافِظِ: لَيْسَتْ رِوَايَتُهُمَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا سَمَاعُهُمَا بَعْدَ مَا اخْتَلَطَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ لِثَانِيهِمَا: تُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا سَمِعْتَ مِنْهُ فِي الِاخْتِلَاطِ؟ ! فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتَنِي حَدَّثْتُ عَنْهُ إِلَّا بِحَدِيثٍ مُسْتَوٍ. حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَعَنْ وَكِيعٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَدْخُلُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ فَنَسْمَعُ، فَمَا كَانَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ أَخَذْنَاهُ، وَمَا لَا طَرَحْنَاهُ، وَخَرَّجَ لَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ وَرَوْحٍ وَعَبْدِ الْأَعْلَى وَابْنِ زُرَيْعٍ الْمَذْكُورِينَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَكْرَاوِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 وَمُحَمَّدِ بْنِ سَوَاءٍ السَّدُوسِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْهُ، وَالْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَسَهْلِ بْنِ يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ وَكَهْمَسِ بْنَ الْمِنْهَالِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْهُ، وَمُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَأَبِي أُسَامَةَ وَسَالِمِ بْنِ نُوحٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الضُّبَعِيِّ وَأَبِي خَالِدٍ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيَّانَ الْأَحْمَرِ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الْخَفَّافِ وَعَبْدَةَ وَعَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ الْعَبْدِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرِ الْبُرْسَانِيِّ وَغُنْدَرٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْتِهِ فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. (ثُمَّ) بَعْدَهُ جَمَاعَةٌ ; كَـ (الرَّقَاشِيِّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ يَاءِ النِّسْبَةِ، نِسْبَةً إِلَى امْرَأَةٍ اسْمُهَا رَقَاشُ ابْنَةُ قَيْسٍ، (أَبِي قِلَابَةَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ هَاءِ تَأْنِيثٍ، وَيُكَنَّى أَيْضًا أَبَا مُحَمَّدٍ لَكِنَّهَا أَغْلَبُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ الْحَافِظُ، رَوَى عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ابْنُ مَاجَهْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ خَلْقٌ، مِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ الَّذِي وَصَفَهُ بِالِاخْتِلَاطِ، فَقَالَ: ثَنَا أَبُو قِلَابَةَ بِالْبَصْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ وَيَخْرُجَ إِلَى بَغْدَادَ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ أَخِيرًا بِبَغْدَادَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَّاكُ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خُزَيْمَةَ سَمَاعُهُمْ مِنْهُ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَ (كَذَا) مِمَّنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 كَانَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ مِنَ الْمُخْتَلِطِينَ (حُصَيْنٌ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا، ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْهُذَيْلِ (السُّلَمِيُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ الْكُوفِيُّ وَابْنُ عَمِّ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَبِنِسْبَتِهِ سُلَمِيًّا يَتَمَيَّزُ عَنْ جَمَاعَةٍ اسْمُ كُلٍّ مِنْهُمْ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، مَعَ أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِمْ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّهُ سَاءَ حِفْظُهُ فِي الْآخِرِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّسَائِيِّ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ. وَلِذَا جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ اخْتَلَطَ وَتَغَيَّرَ، وَقَالَ: ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ قَدْ أَنْكَرَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ اخْتِلَاطَهُ. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: إِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ، وَهُوَ مِمَّنْ خَرَّجَ لَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ وَأَبِي زُبَيْدٍ عَبْثَرِ بْنِ الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ وَهُشَيْمٍ وَأَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ عَنْهُ، وَالْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنَ نُمَيْرٍ وَزَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيِّ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ وَأَبِي كُدَيْنَةَ يَحْيَى بْنِ الْمُهَلَّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْهُ، وَمُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَزِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ وَأَبِي الْأَحْوَصِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ وَعَبَّادِ بْنَ الْعَوَّامِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْهُ، وَفِي هَؤُلَاءِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ كَالْوَاسِطِيِّ وَزَائِدَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَهُ كَحُصَيْنٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 (وَ) كَذَا مِنَ الْمُخْتَلِطِينَ (عَارِمٌ) بِمُهْمَلَتَيْنِ، ثَانِيهِمَا مَكْسُورَةٌ، بَيْنَهُمَا أَلْفٌ وَآخِرَهُ مِيمٌ، لَقَبٌ لِأَحَدِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَاسْمُهُ (مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ، وَيُكَنَّى أَبَا النُّعْمَانِ السَّدُوسِيَّ الْبَصْرِيَّ، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّهُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: كَانَ أَحَدَ الثِّقَاتِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَزَالَ عَقْلُهُ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَسَمَاعُهُ صَحِيحٌ وَقَدْ كَتَبْتُ عَنْهُ قَبْلَهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ سَنَةِ عِشْرِينَ فَسَمَاعُهُ جَيِّدٌ، وَأَبُو زُرْعَةَ لَقِيَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَتَغَيَّرَ حَتَّى كَانَ لَا يَدْرِي مَا يُحَدِّثُ بِهِ، فَوَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمَنَاكِيرُ الْكَثِيرَةُ، فَيَجِبُ التَّنَكُّبُ عَنْ حَدِيثِهِ فِيمَا رَوَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَذَا مِنْ هَذَا، تُرِكَ الْكُلُّ، وَأَنْكَرَ الذَّهَبِيُّ قَوْلَهُ، وَوَصَفَهُ بِالتَّخْسِيفِ وَالتَّهْوِيرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَسُوقَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ بِأَخَرَةٍ، وَمَا ظَهَرَ لَهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ أَبِي حَاتِمٍ الْمَاضِي يُخَالِفُهُ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الذَّارِعِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ أَنْكَرَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ثُمَّ رَاجَعَهُ عَقْلُهُ وَاسْتَحْكَمَ بِهِ الِاخْتِلَاطُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ: إِنَّ سَمَاعَ عَلِيٍّ الْبَغَوِيِّ مِنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَعْنِي بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ الزُّرَيْقِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ. وَأَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْبُخَارِيُّ ; فَإِنَّهُ إِنَّمَا سَمِعَ مِنْهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ بِمُدَّةٍ ; وَلِذَا اعْتَمَدَهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، بَلْ رَوَى لَهُ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ الْمُسْنَدِيِّ فَقَطْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: ثَنَا عَارِمٌ، وَكَانَ بَعِيدًا مِنَ الْعَرَامَةِ صَحِيحَ الْكِتَابِ وَكَانَ ثِقَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَالذُّهْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا عَنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغْوِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمَا، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ وَحَجَّاجٍ الشَّاعِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 وَأَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ مَعْبَدٍ السِّنْجِيِّ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَهَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّالِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ أَوْ فِي صَفَرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالثَّانِي أَكْثَرُ. (وَ) كَذَا مِنَ الْمُخْتَلِطِينَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو مُحَمَّدٍ (الثَّقَفِي) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْقَافِ ثُمَّ فَاءٍ، نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ، الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ ; لِقَوْلِ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ بِأَخَرَةٍ. وَكَذَا وَصَفَهُ بِالِاخْتِلَاطِ عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، وَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، لَكِنْ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي (الْمِيزَانِ) : إِنَّهُ مَا ضَرَّ تَغَيُّرُهُ حَدِيثَهُ ; فَإِنَّهُ مَا حَدَّثَ فِي زَمَنِهِ بِحَدِيثٍ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي دَاوُدَ: تَغَيَّرَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ فَحُجِبَ النَّاسُ عَنْهُمَا. وَكَذَا قَالَهُ الْعُقَيْلِيُّ، وَيَخْدِشُ فِيهِ قَوْلُ الْفَلَّاسِ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ حَتَّى كَانَ لَا يَعْقِلُ، وَسَمِعْتُهُ وَهُوَ مُخْتَلِطٌ يَقُولُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ بِاخْتِلَاطٍ شَدِيدٍ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ حَجْبِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ، وَالْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ جِهَةِ أَزْهَرَ بْنِ جَمِيلٍ وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ وَقُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهُ، وَمُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ وَأَبِي غَسَّانَ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَسْمَعِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ وَيَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ عَنْهُ. وَ (كَذَا) مِنَ الْمُخْتَلِطِينَ (ابْنُ هَمَّامٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ تَشْدِيدٍ ; كَحَمَّادِ بْنِ نَافِعٍ، هُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَبُو بَكْرٍ الْحِمْيَرِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، (بِصَنْعَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ مَقْصُورًا لِلضَّرُورَةِ، مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ شَهِيرَةٌ، (إِذْ عَمِيَ) لِقَوْلِ أَحْمَدَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْهُ: أَتَيْنَاهُ قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ صَحِيحُ الْبَصَرِ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ فَهُوَ ضَعِيفُ السَّمَاعِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا: مَنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَمَا عَمِيَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَا كَانَ فِي كُتُبِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا لَيْسَ فِي كُتُبِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُلَقَّنُ فَيَتَلَقَّنُ، وَحَكَى حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوَهُ، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ لِمَنْ كَتَبَ عَنْهُ بِآخِرَةٍ، كَتَبُوا عَنْهُ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَوَكِيعٌ وَابْنُ مَعِينٍ، وَالضَّابِطُ لِمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ أَنْ يَكُونَ سَمَاعُهُ قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَبُّوَيْهِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطَّهْرَانِيُّ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: مَاتَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلِلدَّبَرِيِّ سِتٌّ أَوْ سَبْعُ سِنِينَ. وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: اعْتَنَى بِهِ أَبُوهُ فَأَسْمَعَهُ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ تَصَانِيفَهُ، وَلَهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَدِيٍّ: إِنَّهُ اسْتُصْغِرَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ وَجَدْتُ فِيمَا رُوِيَ عَنِ الدَّبَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَحَادِيثَ اسْتَنْكَرْتُهَا جِدًّا فَأَحَلْتُ أَمْرَهَا عَلَى الدَّبَرِيِّ ; لِأَنَّ سَمَاعَهُ مِنْهُ مُتَأَخِّرٍ جِدًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَكَذَا كَانَ الْعُقَيْلِيُّ يُصَحِّحُ رِوَايَتَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي أَلَّفَهُ، وَأَكْثَرَ عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وَقَالَ الْحَاكِمُ: قُلْتُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: أَيَدْخُلُ فِي الصَّحِيحِ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ. وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَالُوا بِتَغَيُّرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ; لِكَوْنِهِ إِنَّمَا حَدَّثَهُ مِنْ كُتُبِهِ، لَا مِنْ حَفْظِهِ، قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ كَثِيرٍ كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي (أَدَبِ الْمُحَدِّثِ) : مَنْ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي حَدِيثِهِ عَلَى حَفْظِهِ وَضَبْطِهِ، يَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ أَوْ لَا، بَلِ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ أَوِ الضَّابِطِ لَهُ فَلَا. وَقَالَ شَيْخُنَا: الْمَنَاكِيرُ الْوَاقِعَةُ فِي حَدِيثِ الدَّبَرِيِّ إِنَّمَا سَبَبُهَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، فَمَا يُوجَدُ مِنْ حَدِيثِ الدَّبَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَاتِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَلَا يَلْحَقُ الدَّبَرِيَّ مِنْهُ تَبِعَةٌ إِلَّا إِنْ صَحَّفَ وَحَرَّفَ، وَقَدْ جَمَعَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُفَرِّجٍ الْقُرْطُبِيُّ الْحُرُوفَ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا الدَّبَرِيُّ وَصَحَّفَهَا فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي عِنْدَ الدَّبَرِيِّ فِي غَيْرِ التَّصَانِيفِ، فَهِيَ الَّتِي فِيهَا الْمَنَاكِيرُ ; وَذَلِكَ لِأَجْلِ سَمَاعِهِ مِنْهُ فِي حَالِ اخْتِلَاطِهِ، ثُمَّ إِنَّ حَدِيثَ عَبْدَ الرَّزَّاقِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ جِهَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجِ وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْهُ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَطْ مِنْ جِهَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ السَّعْدِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ الْمُسْنَدِيِّ وَالذُّهْلِيِّ وَيَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ الْبِيكَنْدِيِّ وَيَحْيَى بْنِ مُوسَى الْبَلْخِيِّ خَتٍّ عَنْهُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَطْ مِنْ جِهَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ السُّلَمِيِّ وَحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الشَّاعِرِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَلَّالِ وَسَلَمَةَ بْنَ شَبِيبٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَعَمْرٍو النَّاقِدِ وَمُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 (وَ) كَذَا عُدَّ فِيهِمْ شَيْخُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَثْبَاتِ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرُّوخَ الْمَدَنِيُّ، (الرَّأْيُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ ثُمَّ هَمْزَةٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالسُّنَّةِ قَائِلًا بِهِ، (فِيمَا زَعَمُوا) حَسْبَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، فَقَالَ: قِيلَ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَتُرِكَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ النَّاظِمُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَكَلَّمَ فِيهِ بِالِاخْتِلَاطِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانُوا يَتَّقُونَهُ لِمَوْضِعِ الرَّأْيِ، عَلَى أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لَرَبِيعَةَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: إِنَّا قَدْ تَعَلَّمْنَا مِنْكَ، وَرُبَّمَا جَاءَنَا مَنْ يَسْتَفْتِينَا فِي الشَّيْءِ لَمْ نَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا ; فَنَرَى أَنَّ رَأْيَنَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ رَأْيِهِ لِنَفْسِهِ فَنُفْتِيهِ. قَالَ: فَقَالَ: أَقْعِدُونِي. ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ، لَأَنْ تَمُوتَ جَاهِلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا لَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ بِالْمَدِينَةِ. (وَ) كَذَا (التَّوْأَمِي) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ ثُمَّ وَاوٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ تَلِيهَا مِيمٌ، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ نَبْهَانُ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَنُسِبَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِمَوْلَى التَّوْأَمَةِ، وَهِيَ ابْنَةُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، صَحَابِيَّةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ هِيَ وَأُخْتٌ لَهَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ بِاسْمٍ، وَهَذِهِ بِالتَّوْأَمَةِ ; فَإِنَّهُ اخْتَلَطَ فِيمَا قَالَهُ أَحْمَدُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ: خَرِفَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: خَرِفَ وَكَبِرَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: تَغَيَّرَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَجَعَلَ يَأْتِي بِمَا يُشْبِهُ الْمَوْضُوعَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ، فَاخْتَلَطَ حَدِيثُهُ الْأَخِيرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 بِحَدِيثِهِ الْقَدِيمِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ مَيَّزَ الْأَئِمَّةُ بَعْضَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ التَّغَيُّرِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَسْبَمَا قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِيهِمْ، وَابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْجَوْزَجَانِيُّ فِي الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَلَكِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِنَّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ سَمِعَ مِنْهُ أَخِيرًا، وَرَوَى عَنْهُ مُنْكَرًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ السُّفْيَانَانِ وَمَالِكٌ، فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: سَمِعْتُ مِنْهُ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ. يَعْنِي مِنَ الْكِبَرِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا يُحَدِّثُ عَنْهُ، لَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا: لَقِيتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَقَدْ تَغَيَّرَ وَلَقِيَهُ الثَّوْرِيُّ بَعْدِي. وَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ مَالِكٌ أَدْرَكَهُ وَقَدِ اخْتَلَطَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا فَذَاكَ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ إِنَّمَا سَمِعَا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَخَرِفَ، ابْنُ مَعِينٍ، وَكَذَا فِي الثَّوْرِيِّ خَاصَّةً الْجَوْزَجَانِيُّ. (وَ) كَذَا (ابْنُ عُيَيْنَةٍ) بِتَحْتَانِيَّتَيْنِ مَعَ التَّصْغِيرِ وَبِالصَّرْفِ لِلضَّرُورَةِ، هُوَ سُفْيَانُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْهِلَالِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَثْبَاتِ، فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فِيمَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ عَنْهُ: أَشْهَدُوا أَنَّهُ اخْتَلَطَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ، فِيهَا وَبَعْدَهَا فَسَمَاعُهُ لَا شَيْءَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَأَنَا أَسْتَبْعِدُهُ وَأَعُدُّهُ غَلَطًا مِنَ ابْنِ عَمَّارٍ، فَالْقَطَّانُ مَاتَ فِي الْكُوفَةِ أَوَّلَ سَنَةِ ثَمَانٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وَتِسْعِينَ عِنْدَ رُجُوعِ الْحَاجِّ وَتَحَدُّثِهِمْ بِأَخْبَارِ الْحِجَازِ، فَمَتَى تَمَكَّنَ مِنْ سَمَاعِهِ بِاخْتِلَاطِ سُفْيَانَ حَتَّى تَهَيَّأَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَالْمَوْتُ قَدْ نَزَلَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّهُ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ سَنَةِ سَبْعٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الَّذِي لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ ابْنَ عَمَّارٍ مِنَ الْأَثْبَاتِ الْمُتْقِنِينَ، ثُمَّ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْقَطَّانُ سَمِعَهُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ حَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَاعْتَمَدَ قَوْلَهُمْ، وَكَانُوا كَثِيرًا، فَشَهِدَ عَلَى اسْتِفَاضَتِهِمْ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَوْ بِيَوْمٍ ; فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقَدْ وَجَدْتُ عَنِ الْقَطَّانِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَمَّارٍ، وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو سَعْدِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي تَرْجَمَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ الْمُؤَذِّنِ مِنْ ذَيْلِ تَارِيخِ بَغْدَادَ لَهُ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: قُلْتُ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: كُنْتَ تَكْتُبُ الْحَدِيثَ وَتُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَتَزِيدُ فِي إِسْنَادِهِ أَوْ تَنْقُصُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالسَّمَاعِ الْأَوَّلِ ; فَإِنِّي سَئِمْتُ. بَلْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُ الْقَطَّانِ، فَذَكَرَ أَبُو مَعِينٍ الرَّازِيُّ فِي زِيَادَةِ كِتَابِ الْإِيمَانِ لِأَحْمَدَ، أَنَّ هَارُونَ بْنَ مَعْرُوفٍ قَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ تَغَيَّرَ أَمْرُهُ بِآخِرَةٍ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ قَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَخْطَأَ فِي عَامَّةِ حَدِيثِهِ عَنْ أَيُّوبَ. وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى التَّخْرِيجِ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَبِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ النَّيْسَابُورِيِّ وَوَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ وَقُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَكِّيِّ وَأَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ، وَالْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ جِهَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ وَصَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ وَمَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ الْبِيكَنْدِيِّينَ، وَأَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْهُ، وَمُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ التَّمَّارِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيِّ وَأَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَسَعِيدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 ابْنِ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ النَّرْسِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي قُدَامَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ السَّرَخْسِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ وَعَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ وَعَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدِ وَمُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ وَمَخْلَدِ بْنِ خَالِدٍ الشَّعِيرِيِّ وَنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ وَهَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنْهُ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ سَائِرَ شُيُوخِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ سَمِعُوا مِنْهُ قَبْلَ سَنَةِ سَبْعٍ، فَأَمَّا سَنَةَ ثَمَانٍ فَفِيهَا مَاتَ وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا فِيهَا ; فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، بَلْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ أَوَّلِ شَهْرِ رَجَبٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ زَبْرٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، وَجَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَالْمَعْرُوفُ: ثَمَانٍ، وَكَانَ انْتِقَالُهُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى مَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ فَاسْتَمَرَّ بِهَا حَتَّى مَاتَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَمُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ صَاحِبُ ذَاكَ الْجُزْءِ الْعَالِي سَمِعَ مِنْهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ يَحْصُلُ نَظَرٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَالِي الْوَاقِعَةِ عَمَّنْ تَأَخَّرَ سَمَاعُهُ مِنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَأَشْبَاهِهِ. يَعْنِي مِمَّنْ تَغَيَّرَ. وَكَذَا مِمَّنِ اخْتَلَطَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ ; لِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ فِي (تَهْذِيبِ الْآثَارِ) : إِنَّهُ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. (مَعَ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيِّ (الْمَسْعُودِي) نِسْبَةً لِجَدِّهِ، أَحَدِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ وَالْكِبَارِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فَقَدْ صَرَّحَ بِاخْتِلَاطِهِ غَيْرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وَاحِدٍ ; كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْعِجْلِيِّ وَابْنِ سَعْدٍ، وَأَنَّهَا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ: قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ. وَأَحْمَدُ وَقَالَ: إِنَّمَا اخْتَلَطَ بِبَغْدَادَ فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ بِالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَسَمَاعُهُ جَيِّدٌ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ نَزَلَ بَغْدَادَ وَتَغَيَّرَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ زَمَانَ أَبِي جَعْفَرٍ، يَعْنِي الْمَنْصُورَ، فَهُوَ صَحِيحُ السَّمَاعِ، أَوْ زَمَنَ الْمَهْدِيِّ فَلَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ، إِذَا مَشَيْنَا عَلَى أَنَّ وَفَاةَ الْمَسْعُودِيِّ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَةٍ ; لِأَنَّ وَفَاةَ الْمَنْصُورِ كَانَتْ بِمَكَّةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَفَاةَ الْمَسْعُودِيِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فَلَا. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: اخْتَلَطَ حَدِيثُهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ: إِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْأَغْلَبِ مَا رَوَاهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ مِمَّا رَوَاهُ بَعْدَهُ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِتَمْيِيزِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ وَوَكِيعٌ فِيمَا قَالَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثًا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ مَهْدِيٍّ وَأَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ سِلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، وَفِي الثَّانِي وَالرَّابِعِ أَحْمَدُ، وَفِي الْآخَرِينَ، ابْنُ نُمَيْرٍ، وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ أَحَدُهُمْ: إِنِّي لَأَعْرِفُ الْيَوْمَ الَّذِي اخْتَلَطَ فِيهِ، كُنَّا عِنْدَهُ وَهُوَ يُعَزَّى فِي ابْنٍ لَهُ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ غُلَامَكَ أَخَذَ مِنْ مِلْكِكَ عَشَرَةَ آلَافٍ وَهَرَبَ، فَفَزِعَ وَقَامَ وَدَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَقَدِ اخْتَلَطَ، وَقَدْ وَقَعَ حَدِيثُهُ فِي الْبُخَارِيِّ لَا بِقَصْدِ التَّخْرِيجِ لَهُ فِيمَا ظَهَرَ لِشَيْخِنَا كَمَا قَرَّرَهُ فِي (مُخْتَصَرِ التَّهْذِيبِ) وَالْمُقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَلَمْ يَرْوِ لَهُ مُسْلِمٌ شَيْئًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 (وَآخِرًا حَكَوْهُ) أَيْ: وَفِي الْمُتَأَخِّرِينَ حَكَى أَهْلُ الْحَدِيثِ ; كَأَبِي عَلِيٍّ الْبَرْذَعِيِّ ثُمَّ السَّمَرْقَنْدِيِّ فِي مُعْجَمِهِ بَلَاغًا، وَمَنْ تَبِعَهُمَا الِاخْتِلَاطُ آخِرَ الْعُمْرِ (فِي الْحَفِيدِ ابْنِ خُزَيْمَةٍ) بِمُعْجَمَتَيْنِ، مُصَغَّرٌ، نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْأَعْلَى، فَهُوَ أَبُو الطَّاهِرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ الْحَافِظِ الشَّهِيرِ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ السُّلَمِيِّ. (مَعَ الْغِطْرِيفِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ، بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ فَاءٌ، نِسْبَةً لِجَدِّ جَدِّهِ، وَهُوَ الثِّقَةُ الثَّبَتُ أَحَدُ أَكَابِرَ الْحُفَّاظِ فِي وَقْتِهِ، أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنَ الْغِطْرِيفِ بْنَ الْجَهْمِ الرِّبَاطِيُّ الْغِطْرِيفِيُّ الْجُرْجَانِيُّ الْعَبْدِيُّ مُصَنِّفُ الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَالْأَبْوَابِ وَصَاحِبُ الْجُزْءِ الْعَالِي وَشَيْخُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ. وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِهِمَا الْحَاكِمُ فَقَالَ: إِنَّهُ مَرِضَ فِي الْآخِرِ وَتَغَيَّرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَعَاشَ بَعْدُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَقَصَدْتُهُ فِيهَا فَوَجَدْتُهُ لَا يَعْقِلُ، وَكُلُّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالدِّينِ، وَمَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَمُدَّةُ اخْتِلَاطِهِ - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْيِيدِ - سَنَتَانِ وَنِصْفُ سَنَةٍ تَنْقُصُ أَيَّامًا، وَتَجَوَّزَ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ فِي (الْعِبَرِ) ، وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّرْحِ: اخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ فَتَجَنَّبُوهُ. بَلْ صَرَّحَ فِي (الْمِيزَانِ) بِقَوْلِهِ: مَا عَرَفْتُ أَحَدًا سَمِعَ مِنْهُ فِي أَيَّامِ عَدَمِ عَقْلِهِ. وَكَذَا قَالَ فِي (تَارِيخِ الْإِسْلَامِ) : وَمَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْهُ إِلَّا فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ كَيْفَ يُسْمَعُ عَلَيْهِ؟ ! وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِكَلَامِ الْحَاكِمِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَيَّنَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 بِخِلَافِ هَذَا ; فَإِنَّهُ قَالَ: عَقَدْتُ لَهُ مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَدَخَلْتُ بَيْتَ كُتُبِ جَدِّهِ، وَأَخْرَجْتُ لَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ سَمَاعَاتِهِ الصَّحِيحَةِ، وَانْتَقَيْتُ لَهُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، وَقُلْتُ: دَعِ الْأُصُولَ عِنْدِي صِيَانَةً لَهَا. فَأَخَذَهَا وَفَرَّقَهَا عَلَى النَّاسِ، وَذَهَبْتُ وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى كُتُبِ غَيْرِهِ فَقَرَأَ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَرِضَ. . . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَأَمَّا ثَانِيهِمَا فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّقْيِيدِ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِيمَنِ اخْتَلَطَ إِلَّا أَبَا عَلِيٍّ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ حَمْزَةُ السَّهْمِيُّ فِي تَارِيخِ جُرْجَانَ، فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِهِ ; فَإِنَّهُ مِنْ شُيُوخِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ رِوَايَةُ رَفِيقِهِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ حَدِيثٍ، لَكِنَّهُ يُدَلِّسُهُ، فَمَرَّةً يَقُولُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَبْدِيُّ، وَمَرَّةً: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَامِدٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْعَبْقَسِيُّ وَالثَّغْرِيُّ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ تَغَيُّرُهُ - إِنْ صَحَّ - بَعْدَ أَخْذِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَثَمَّ آخَرُ يُوَافِقُ الْغِطْرِيفِيَّ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَبَلَدِهِ، وَيُقَارِبُهُ فِي اسْمِ الْجَدِّ، وَهُمَا مُتَعَاصِرَانِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بِالتَّكْبِيرِ الْجُرْجَانِيُّ، وَهُوَ مِمَّنْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ تَغَيَّرَ وَاخْتَلَطَ، فَيَحْتَمِلُ أَنِ اشْتَبَهَ بِالْغِطْرِيفِيِّ. وَكَذَا مِمَّنِ اخْتَلَطَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَبُو الْعِبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ صَاحِبُ الرَّبِيعِ، فَقَالَ الْقِرَابُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنِ النَّاسِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ ; لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْعَامِرِيُّ الْكُوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي الْيَابِسِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 أَحَدِ شُيُوخِ ابْنِ شَاهِينَ، وَغَيْرُهُ كَابْنِ السَّمْعَانِيِّ فَإِنَّهُ تَرْجَمَهُ فِي الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ مِنَ الْأَنْسَابِ وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ قَدِ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَوَسْوَسَ، كَتَبْتُ عَنْهُ يَسِيرًا. (مَعَ الْقَطِيعِي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، نِسْبَةً لِقَطِيعَةِ الدَّقِيقِ بِبَغْدَادَ، أَبِي بَكْرٍ (أَحْمَدَ) بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ (الْمَعْرُوفِ) بِالثِّقَةِ بِحَيْثُ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: إِنَّهُ صَدُوقٌ فِي نَفْسِهِ، مَقْبُولٌ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَجْزَاءِ الْقَطِيعِيَّاتِ الْخَمْسَةِ ; النِّهَايَةِ فِي الْعُلُوِّ لِأَصْحَابِ الْفَخْرِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَنَيِّفِ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ لَا غَيْرَ، وَالرَّاوِي لِمُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَالزُّهْدِ الْكَبِيرِ لَهُ، الْمُنْفَرِدِ بِهِمَا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ اخْتَلَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَخَرِفَ حَتَّى كَانَ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا يُقْرَأُ عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ الذَّهَبِيُّ فِي (الْمِيزَانِ) وَقَالَ: ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ يَعْنِي كَمَا نَقَلَهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ غُلُوٌّ وَإِسْرَافٌ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَسْنَدَ أَهْلِ زَمَانِهِ. انْتَهَى. وَإِنْكَارُهُ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا: عَجِيبٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ فَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ السِّيبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ بَغْدَادَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ حَيٌّ، وَكَانَ مَقْصُودُنَا دَرْسَ الْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ، فَقَالَ لَنَا ابْنُ اللَّبَّانِ الْفَرَضِيُّ: لَا تَذْهَبُوا إِلَى ابْنِ مَالِكٍ ; فَإِنَّهُ قَدْ ضَعُفَ وَاخْتَلَّ وَمَنَعْتُ ابْنِي السَّمَاعَ مِنْهُ. قَالَ: فَلَمْ نَذْهَبْ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الذَّهَبِيُّ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفُرَاتِ قَوْلَهُ: كَانَ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا يَقْرَأُ، لَا الِاخْتِلَاطَ. وَلَكِنْ قَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْمَذْهَبِ الرَّاوِي عَنِ الْقَطِيعِيِّ ـ هَذَا مِنَ الْمِيزَانِ أَيْضًا ـ مَا نَصُّهُ: الظَّاهِرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 مِنَ ابْنِ الْمُذْهِبِ أَنَّهُ شَيْخٌ لَيْسَ بِمُتْقِنٍ، وَكَذَلِكَ شَيْخُهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ فِي الْمُسْنَدِ أَشْيَاءُ غَيْرُ مُحْكَمَةِ الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ. انْتَهَى، وَبِالْجُمْلَةِ فَسَمَاعُ أَبِي عَلِيٍّ لِلْمُسْنَدِ مِنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، كَمَا نَقَلَهُ شَيْخُنَا عَنْ شَيْخِهِ الْمُصَنِّفِ. [مِمَّنِ اخْتَلَطَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ] وَمِمَّنِ اخْتَلَطَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الصَّدْرُ سُلَيْمَانُ الْأَبْشِيطِيُّ قَالَ شَيْخُنَا ـ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ ـ: إِنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ اسْتَحْكَمَتْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَتَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ قَلِيلًا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُبَارَكِ الْغَزِّيُّ ابْنُ الشَّيْخَةِ شَيْخِ شُيُوخِنَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ قَبْلَهُمَا ; كَسُلَيْمَانَ بْنِ حَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَحْمَدَ الْبَعْلِيِّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: يُقَالُ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ وَعَبْدُ الْحَقِّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ الْمَنْبَجِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ الْكَمَالُ الْمِنْشَاوِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الطَّائِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَالْمُوَفَّقُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ بْنِ سُمَيْطٍ الْقَاضِي، بِبَابِ زُوَيْلَةَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. تَتِمَّةٌ: رُبَّمَا يَتَّفِقُ عُرُوضٌ مَا يُشْبِهُ الِاخْتِلَاطَ ثُمَّ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ مِنْهُ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: احْتَجَمْتُ فَذَهَبَ عَقْلِي حَتَّى كُنْتُ أُلَقَّنُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي صَلَاتِي. قَالَ: وَكَانَ احْتَجَمَ عَلَى هَامَتِهِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ الْبُرْهَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 الْحَلَبِيَّ عَرَضَ لَهُ الْفَالِجُ، فَأُنْسِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْفَاتِحَةَ ثُمَّ عُوفِيَ، وَكَانَ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ صَارَ يَتَرَاجَعُ إِلَيْهِ مَحْفُوظُهُ كَالطِّفْلِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الشَّرَفِيِّ، وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِينَ شَهْرًا فَالِجٌ، فَلَمْ يَكُنْ يَنْطِقُ بِغَيْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَكْتُبُ غَيْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَحْوُهُ مَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرٍ الْوَادِي - يَعْنِي شَيْخَهُ - يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَكَّامٍ وَالنَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَانْهَدَمَتْ دَارُهُ وَتَقَطَّعَتِ الْكُتُبُ، فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِ النَّضْرِ ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يُحَدِّثَانِ عَنْ شُعْبَةَ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الِاخْتِلَاطَ الْمَذْكُورَ وَإِنْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ يُلْحَقُ فِي الْمُخْتَلِطِينَ. وَقَدْ يَتَغَيَّرُ الْحَافِظُ لِكِبَرِهِ، وَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ ; لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ وَطُولِ صُحْبَتِهِ إِيَّاهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ حَدِيثُهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَحِفْظِهِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ وَالتَّغَيُّرِ، كَمَا كَانَ قَبْلَهُ ; كَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ ; وَلِذَا خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ - كَمَا قَدَّمْتُهُ - فِي مَرَاتِبِ الصَّحِيحِ، عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: إِنَّ مُسْلِمًا اجْتَهَدَ وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ ثَابِتٍ بِخُصُوصِهِ مَا سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. [طَبَقَاتُ الرُّوَاةِ] ِ 992 - وَلِلرُّوَاةِ طَبَقَاتٌ تُعْرَفُ ... بِالسِّنِّ وَالْأَخْذِ وَكَمْ مُصَنِّفُ 993 - يَغْلَطُ فِيهَا وَابْنُ سَعْدٍ صَنَّفَا ... فِيهَا وَلَكِنْ كَمْ رَوَى عَنْ ضُعَفَا (طَبَقَاتُ الرُّوَاةِ) وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَفَائِدَتُهُ الْأَمْنُ مِنْ تَدَاخُلِ الْمُشْتَبِهِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 كَالْمُتَّفِقِينَ فِي اسْمٍ أَوْ كُنْيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ، وَإِمْكَانُ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَبَيُّنِ التَّدْلِيسِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ مِنَ الْعَنْعَنَةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّارِيخِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَيَجْتَمِعَانِ فِي التَّعْرِيفِ بِالرُّوَاةِ، وَيَنْفَرِدُ التَّارِيخُ بِالْحَوَادِثِ وَالطَّبَقَاتِ، بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْبَدْرِيِّينَ مَثَلًا مَنْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَشْهَدْهَا ; لِاسْتِلْزَامِهِ تَقْدِيمَ الْمُتَأَخِّرِ الْوَفَاةِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ التَّارِيخَ يُنْظَرُ فِيهِ بِالذَّاتِ إِلَى الْمَوَالِيدِ وَالْوَفَيَاتِ، وَبِالْعَرَضِ إِلَى الْأَحْوَالِ، وَالطَّبَقَاتِ يُنْظَرُ فِيهَا بِالذَّاتِ إِلَى الْأَحْوَالِ، وَبِالْعَرَضِ إِلَى الْمَوَالِيدِ وَالْوَفَيَاتِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ. (وَلِلرُّوَاةِ طَبَقَاتٌ) أَيْ: مَرَاتِبُ وَأَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ، جَمْعُ طَبَقَةٍ ; وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْقَوْمُ الْمُتَشَابِهُونَ، (وَتُعْرَفُ) فِي الِاصْطِلَاحِ، (بِالسِّنِّ) أَيْ: بِاشْتِرَاكِ الْمُتَعَاصِرِينَ فِي السِّنِّ وَلَوْ تَقْرِيبًا (وَ) بِـ (الْأَخْذِ) عَنِ الْمَشَايِخِ، وَرُبَّمَا اكْتَفَوْا بِالِاشْتِرَاكِ فِي التَّلَاقِي، وَهُوَ غَالِبًا مُلَازِمٌ لِلِاشْتِرَاكِ فِي السِّنِّ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالْبَاحِثُ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْفَنِّ يَحْتَاجُ مَعْرِفَةَ الْمَوَالِيدِ وَالْوَفَيَاتِ، وَمَنْ أَخَذُوا عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَرُبَّ شَخْصَيْنِ يَكُونَانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَشَابُهِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِهَةٍ، وَمِنْ طَبَقَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَتَشَابَهَانِ فِيهَا، فَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصَاغِرَ الصَّحَابَةِ مَعَ الْعَشَرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى تَشَابُهِمْ فِي أَصْلِ صِفَةِ الصُّحْبَةِ، فَعَلَى هَذَا فَالصَّحَابَةُ بِأَسْرِهِمْ طَبَقَةٌ أُولَى، وَالتَّابِعُونَ طَبَقَةٌ ثَانِيَةٌ، وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ طَبَقَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهَلُمَّ جَرًّا، يَعْنِي كَمَا صَنَعَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى تَفَاوُتِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَوَابِقِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ كَانُوا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، يَعْنِي فِي الصَّحَابَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ طَبَقَةً، وَلَا يَكُونُ عِنْدَ هَذَا أَنَسٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصَاغِرَ الصَّحَابَةِ مِنْ طَبَقَةِ الْعَشَرَةِ مِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 الصَّحَابَةِ، بَلْ دُونَهُمْ بِطَبَقَاتٍ. يَعْنِي كَمَا فَعَلَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَيْثُ عَدَّدَ الطَّبَقَاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ، قَالَ شَيْخُنَا: وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا وَجْهٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ - كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - كُلَّ طَبَقَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ يَسْتَشْهِدُ لَهُ بِمَا يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِنَّ طَبَقَاتِ أُمَّتِي خَمْسُ طَبَقَاتٍ، كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَطَبَقَتِي وَطَبَقَةُ أَصْحَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَالَّذِي يَلُونَهُمْ إِلَى الثَّمَانِينَ أَهْلُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ إِلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَهْلُ التَّرَاحُمِ وَالتَّوَاصُلِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ إِلَى السِّتِّينَ - يَعْنِي وَمِائَةٍ - أَهْلُ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ إِلَى الْمِائَتَيْنِ أَهْلُ الْهَرَجِ وَالْحُرُوبِ» ) . رَوَاهُ يَزِيدٌ الرَّقَاشِيُّ وَأَبُو مَعْنٍ، وَكِلَاهُمَا فِي ابْنِ مَاجَهْ، وَعَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ أَبُو مَعْمَرٍ، كَمَا فِي نُسْخَةِ كَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، ثَلَاثَتُهُمْ - وَهُمْ ضُعَفَاءُ - عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا لَهُ شَوَاهِدُ، كُلُّهَا ضِعَافٌ، مِنْهَا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُجْرٍ رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُطَهَّرٍ الْفِهْرِيِّ وَلَيْسَ بِعُمْدَةٍ، عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ بْنِ أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عَنْبَسَةَ الْقُرَشِيُّ - وَهُوَ تَالِفٌ - عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا نَحْوَهُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُهُ لِكَوْنِهِ فِي إِحْدَى السُّنَنِ، وَكَذَا يُسْتَشْهَدُ لِهَذَا النَّوْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) . فَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. (وَكَمْ) مَرَّةٍ أَوْ وَقْتٍ (مُصَنِّفُ) مِنْ حُفَّاظِ الْأَئِمَّةِ (يَغْلَطُ) أَوْ كَمْ يَغْلَطُ مُصَنِّفٌ (فِيهَا) ; لِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمُتَّفِقِينَ حَيْثُ يَظُنُّ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ، أَوْ لِسَبَبٍ أَنَّ الشَّايِعَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَهْلِ طَبَقَةٍ رُبَّمَا يَرْوِي عَنْ أَقْدَمَ مِنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ التَّابِعِينَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 أَوْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ طَبَقَتِهِ فَيَذْكُرُهُ تَخْمِينًا عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْمُقَيَّدِينَ فِي إِدْخَالِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَثَلًا كَابْنِ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الطَّرْطُوسِيِّ الْمَالِكِيِّ، وَكَذَا مِنَ الظَّنِّ الْغَالِبِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا كَالْبُخَارِيِّ فِيهِمْ، وَفِي إِدْخَالِ مُصَنِّفِ طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ الشَّافِعِيَّ فِيهِمْ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ افْتَضَحَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ. وَفِيهَا تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ لِأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي الْحَسَنِ مَحْمُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُمَيْعٍ الدِّمَشْقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الْبَرْقِيِّ وَأَبِي عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيِّ وَأَبِي الشَّيْخِ بْنِ حَيَّانَ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدُوَيْهِ وَأَبِي مَسْعُودٍ أَحْمَدَ بْنِ الْفُرَاتِ الرَّازِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ الْفَلَكِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَحْمَدَ بْنِ إِشْكَابٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْوَرَّاقِ وَأَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُسْتَمْلِي الْبَلْخِيِّ، فِي آخَرِينَ، مِنْهُمْ مَنْ طَوَّلَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَ غَيْرَ مُتَقَيِّدِينَ أَوْ مُتَقَيِّدِينَ بِالْفُقَهَاءِ ; إِمَّا مُطْلَقًا كَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، أَوْ مُقَيَّدًا بِمَذْهَبٍ كَـ (الْمَدَارِكِ) لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَالْحَنَابِلَةِ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ثُمَّ ابْنِ رَجَبٍ، وَالشَّافِعِيَّةِ لِخَلْقٍ، أَوْ بِالْحُفَّاظِ أَوْ بِالْقُرَّاءِ كَالذَّهَبِيِّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، لِلدَّانِيِّ ثُمَّ ابْنِ الْجَزْرِيِّ فِي الْقُرَّاءِ أَيْضًا أَنَّ بِالنُّحَاةِ كَالْقِفْطِيِّ وَابْنِ مَكْتُومٍ، أَوْ بِالْبِلَادِ كَطَبَقَاتِ الْمَكِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِلْقَاضِي بْنِ مُفَرِّجٍ، أَوِ النَّيْسَابُورِيِّينَ لِلِحَاكُمِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّهُ مِمَّا بَسَطْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 (وَابْنُ سَعْدٍ) بْنِ مَنِيعٍ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْهَاشِمِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ الْحَافِظُ نَزِيلُ بَغْدَادَ وَكَاتِبُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ الْأَسْلَمِيِّ الْوَاقِدِيِّ أَيْضًا (صَنَّفَا فِيهَا) أَيْ: فِي الطَّبَقَاتِ ثَلَاثَةَ تَصَانِيفَ، وَالْكَبِيرُ مِنْهَا كِتَابٌ حَفِيلٌ جَلِيلٌ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، أَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى مُصَنِّفِهِ الْخَطِيبُ فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، صَنَّفَ كِتَابًا كَبِيرًا فِي طَبَقَاتِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى وَقْتِهِ، فَأَجَادَ فِيهِ وَأَحْسَنَ. انْتَهَى. وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ثِقَةٌ (وَلَكِنْ كَمْ رَوَى) فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ (عَنْ) أُنَاسٍ (ضُعَفَا) ، مِنْهُمْ شَيْخُهُ الْوَاقِدِيُّ مُقْتَصِرًا كَثِيرًا عَلَى اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بِنِسْبَتِهِ وَلَا غَيْرِهَا، وَمِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، فَأَكْثَرَ عَنْهُمَا، وَمِنْهُمْ نَصْرُ بْنُ بَابٍ أَبُو سَهْلٍ الْخُرَاسَانِيُّ مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ: إِنَّهُ نَزَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعُوا مِنْهُ وَرَوَوْا عَنْهُ، ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ فَاتَّهَمُوهُ، فَتَرَكُوا حَدِيثَهُ، وَالْمَرْءُ قَدْ يُضَعَّفُ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ، لَا سِيَّمَا مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزِهِمْ وَمَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا شَكَ أَنَّ مِنْ شُيُوخِ ابْنِ سَعْدٍ [هُشْيَمًا وَالْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ وَابْنَ عُيَيْنَةَ وَابْنَ عُلَيَّةَ وَابْنَ أَبِي فُدَيْكٍ، وَأَبَا ضَمْرَةَ أَنَسَ بْنَ عِيَاضٍ وَيَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَمَعْنَ بْنَ عِيسَى وَأَبَا الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيَّ، وَوَكِيعًا وَأَبَا أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيَّ وَغَيْرَهُمْ؟ ؟ ؟] ، وَكَتَبَ عَنْ أَقْرَانِهِ وَمَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ فَهْمٍ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، فَمَرَّ بِنَا ابْنُ مَعِينٍ فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْكَاتِبُ بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ يَحْيَى: كَذَبَ، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: أَظُنُّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُصْعَبٌ عَنْهُ لِابْنِ مَعِينٍ مِنَ الْمَنَاكِيرِ الَّتِي يَرْوِيهَا الْوَاقِدِيُّ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ. فَقَالَ: يَصْدُقُ، رَأَيْتُهُ جَاءَ إِلَى الْقَوَارِيرِيِّ وَسَأَلَهُ عَنْ أَحَادِيثَ فَحَدَّثَهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهُوَ عِنْدَنَا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَحَدِيثُهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ ; فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ فَهْمٍ: كَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالْكُتُبِ وَالْحَدِيثِ وَالْغَرِيبِ وَالْفِقْهِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: ظَهَرَتْ فَضَائِلُهُ وَمَعْرِفَتُهُ الْوَاسِعَةُ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَاحِدٍ عَنْهُ حِكَايَةً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. تَنْبِيهٌ: كَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمُتَدَاوَلَةِ مِنَ النَّظْمِ: (وَكَمْ مُصَنَّفٌ) بِالرَّفْعِ، فَخَرَّجْنَاهُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَاتِ فِي قَوْلِهِ: كَمْ عَمَّةٌ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٌ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي وَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ (يَغْلَطُ) قُدِّمَ لِضِيقِ النَّظْمِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ، وَلَكِنْ قَدْ عَزَى الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ لِخَطِّ النَّاظِمِ مَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى مَزِيدِ تَكَلُّفٍ فَقَالَ: وَلِلرُّوَاةِ طَبَقَاتٌ فَاعْرِفِ ... بِالسِّنِّ وَالْأَخْذِ وَكَمْ مُصَنِّفِ. [الْمَوَالِي مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ] 994 - وَرُبَّمَا إِلَى الْقَبِيلِ يُنْسَبُ ... مَوْلَى عَتَاقَةٍ وَهَذَا الْأَغْلَبُ 995 - أَوْ لِوَلَاءِ الْحِلْفِ كَالتَّيْمِيِّ ... مَالِكٍ أَوْ لِلدِّينِ كَالْجُعْفِيِّ 996 - وَرُبَّمَا يُنْسَبُ مَوْلَى الْمَوْلَى ... نَحْوُ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَصْلَا (الْمَوَالِي مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ) وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، لَا سِيَّمَا (وَرُبَّمَا إِلَى الْقَبِيلِ) أَيِ: الْقَبِيلَةِ، إِحْدَى الْقَبَائِلِ، وَهِيَ الْبُطُونُ الَّتِي هُوَ الْأَصْلُ فِي النِّسْبَةِ (يُنْسَبُ مَوْلَى عَتَاقَةٍ) ; كَأَبِي الْعَالِيَةِ رَفِيعٍ الرِّيَاحِيِّ التَّمِيمِيِّ التَّابِعِيِّ كَانَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وَمَكْحُولٍ الشَّامِيِّ الْهُذَلِيِّ كَانَ - كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ - عَبْدًا نُوبِيًّا أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَعِيدِ بْنِ فَيْرُوزَ الطَّائِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْحَنْظَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ الْجُهَنِيِّ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ إِطْلَاقِ النِّسْبَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّنْ نُسِبَ كَذَلِكَ صَلِيبَةٌ أَيْ: مِنْ وَلَدِ الصُّلْبِ. (وَهَذَا) أَيِ: الِانْتِسَابُ لِلْعَتَاقَةِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْلِ فِي الِانْتِسَابِ وَالْحَقِيقَةِ (هُوَ الْأَغْلَبُ) بِالنَّظَرِ لِمَا بَعْدَهُ، فَالْخَارِجُ عَنِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ إِمَّا لِلْعَتَاقَةِ كَمَا تَقَرَّرَ، (أَوْ لِوَلَاءِ الْحِلْفِ) الَّذِي أَصْلُهُ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ عَلَى التَّعَاضُدِ وَالتَّسَاعُدِ وَالِاتِّفَاقِ، وَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالْغَارَاتِ دُونَ نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ (كَالتَّيْمِيِّ) بِالتَّشْدِيدِ، هُوَ وَمَا بَعْدَهُ (مَالِكٍ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ، إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ، فَهُوَ حِمْيَرِيٌّ أَصُبْحِيٌّ صَلِيبَةٌ، وَلَكِنْ لِكَوْنِ نَفَرِهِ أَصْبَحَ حُلَفَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ تَيْمِ بْنَ مُرَّةَ الْقُرَشِيِّ التَّيْمِيِّ أَخِي طَلْحَةَ، نُسِبَ تَيْمِيًّا، أَوْ لِوَلَاءِ الْمُصَاحِبَةِ بِإِجَارَةٍ أَوْ تَعَلُّمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَالِكٍ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا انْتَسَبَ تَيْمِيًّا ; لِكَوْنِ جَدِّهِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ كَانَ عَسِيفًا، أَيْ: أَجِيرًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ حِينَ كَانَ طَلْحَةٌ يَخْتَلِفُ فِي التِّجَارَةِ، وَكَمِقْسَمٍ، قِيلَ لَهُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ; لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ، كَمَا سَلَفَ فِي الْمَنْسُوبِينَ إِلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ عَلَّمَ عَبْدًا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَوْلَاهُ» ) الْحَدِيثَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شُعْبَةَ: مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ حَدِيثًا فَأَنَا لَهُ عَبْدٌ أَوِ الدِّيوَانِ كَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الْفَهْمِيِّ ; فَإِنَّهُ مَوْلَى قُرَيْشٍ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِمُ افْتَرَضُوا فِي فَهْمٍ نُسِبَ إِلَيْهِمْ، أَوْ لِلِاسْتِرْضَاعِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ الصَّحَابِيِّ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) : إِنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لِأَبِيهِ السَّعْدِيِّ ; لِكَوْنِهِ اسْتُرْضِعَ لَهُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، أَوْ لِلْمُجَاوَرَةِ. (أَوْ لِـ) وَلَاءِ (الدِّينِ) وَالْإِسْلَامِ (كَالْجُعْفِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَفَاءٍ إِمَامِ الصَّنْعَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْبُخَارِيِّ ; فَإِنَّهُ انْتَسَبَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ جَدَّ أَبِيهِ الْمُغِيرَةُ كَانَ مَجُوسِيًّا فَأَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْيَمَانِ بْنَ أَخْنَسَ الْجُعْفِيِّ وَالِدِ جَدِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ يَمَانٍ الْمُسْنَدِيِّ الْجُعْفِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاسَرْجِسَ الْمَاسَرْجِسِيِّ، بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ; فَإِنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَأَسْلَمَ عَلَى يَدِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَقِيلَ لَهُ: مَوْلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ وَكَإِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ الْآمِدِيِّ أَحَدِ شُيُوخِ شَيْخِنَا ; فَإِنَّهُ أَسْلَمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 عَلَى يَدِ التَّقِيِّ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَعُرِفَ بِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا نُطِيلُ بِهِ، مِمَّا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ مِنْ صَحِيحِهِ، لِبَعْضِهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَنْ يَلِيكَ أَوْ وَالَاكَ فَهُوَ مَوْلًى. (وَرُبَّمَا) تَوَسَّعَ حَيْثُ (يُنْسَبُ) لِلْقَبِيلَةِ مَنْ يَكُونُ (مَوْلَى الْمَوْلَى) لَهَا (نَحْوُ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ) بِتَحْتَانِيَّةٍ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، أَبِي الْحُبَابِ الْهَاشِمِيِّ ; فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ مَوْلَى شُقْرَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُسِبَ (أَصْلَا) أَيْ: لِلْأَصْلِ بَنِي هَاشِمٍ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقِيلَ: مَوْلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقِيلَ: مَوْلَى بَنِي النَّجَّارِ، وَعَلَيْهِمَا فَلَيْسَ بِمَوْلًى لِبَنِي هَاشِمٍ، وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيِّ الْفِهْرِيِّ الْمِصْرِيِّ ; فَإِنَّهُ مَوْلَى يَزِيدَ بْنَ رُمَّانَةَ، وَيَزِيدُ مَوْلَى يَزِيدَ بْنِ أُنَيْسٍ الْفِهْرِيِّ، وَفِي وَقْتِنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَرَكُوتَ الْمَكِينِيُّ، نُسِبَ لِمَكِينِ الدِّينِ الْيَمَنِيِّ ; لِكَوْنِهِ مُعْتِقُ سَيِّدِ مُعْتِقِ بَرَكُوتَ. وَقَدْ أَفْرَدَ الْمَوَالِي لَكِنْ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ خَاصَّةً أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْكِنْدِيُّ، وَأَفْرَدْتُ مَوَالِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي كُرَّاسَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 تَمْيِيزُ كُلُّ هَذَا إِلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ ; لِاشْتِرَاطِ حَقِيقَةِ النَّسَبِ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَالْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ وَالتَّوَارُثِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِاسْتِحْبَابِ التَّقْدِيمِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ) . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ: كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ - يَعْنِي عَنْبَسَةَ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْقُرَشِيَّ ـ مِنَ الْأَبْدَالِ قَبْلَ أَنْ نَسْمَعَ أَنَّ الْأَبْدَالَ مِنَ الْمَوَالِي، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمَوَالِي، فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا تَلَقَّاهُ نَائِبُ مَكَّةَ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قَالَ لَهُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْفَعُ بِهَذَا الْعِلْمِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» ) . وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، قَالَ لَهُ: مَنْ يَسُودُ أَهْلَ مَكَّةَ؟ فَقُلْتُ: عَطَاءٌ. قَالَ: فَأَهْلَ الْيَمَنِ؟ قُلْتُ: طَاوُسٌ. قَالَ: فَأَهْلَ الشَّامِ؟ قُلْتُ: مَكْحُولٌ. قَالَ: فَأَهْلَ مِصْرَ؟ فَقُلْتُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ. قَالَ: فَأَهْلَ الْجَزِيرَةِ؟ فَقُلْتَ: مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ. قَالَ: فَأَهْلَ خُرَاسَانَ؟ قُلْتُ: الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ. قَالَ: فَأَهْلَ الْبَصْرَةِ؟ فَقُلْتُ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ. قَالَ: فَأَهْلَ الْكُوفَةِ؟ فَقُلْتُ: إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَذُكِرَ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ عِنْدَ كُلٍّ وَاحِدٍ: مَنِ الْعَرَبِ أَمْ مِنَ الْمَوَالِي؟ قَالَ فَيَقُولُ: مِنَ الْمَوَالِي إِلَّا النَّخَعِيَّ ; فَإِنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا زُهْرِيُّ! فَرَّجْتَ عَنِّي. يَعْنِي لِذِكْرِهِ عَرَبِيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَتَسُودَنَّ الْمَوَالِي عَلَى الْعَرَبِ حَتَّى يُخْطَبَ لَهَا عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْعَرَبُ تَحْتَهَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَدِينُهُ، فَمَنْ حَفِظَهُ سَادَ، وَمَنْ ضَيَّعَهُ سَقَطَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ إِمَّا فِرَاسَةً، أَوْ بَلَغَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا نَرْوِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْعَبَادِلَةُ صَارَ الْفِقْهُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ إِلَى الْمَوَالِي إِلَّا الْمَدِينَةَ ; فَإِنَّ اللَّهَ خَصَّهَا بِقُرَشِيٍّ، فَكَانَ فَقِيهَهَا بِغَيْرِ مُدَافِعٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي هَذَا بَعْضُ الْمَيْلِ، فَقَدْ كَانَ حِينَئِذٍ مِنَ الْعَرَبِ غَيْرَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فُقَهَاءُ أَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ، مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، بَلْ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَرَبٌ سِوَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الشَّعْبِيَّ وَالنَّخَعِيَّ لَمْ يَكُونَا حِينَ مَوْتِ الْعَبَادِلَةِ فِي طَبَقَةِ سَعِيدٍ، وَمَا عَدَاهُمَا فَهُمْ بِالْمَدِينَةِ. وَسَأَلَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: مَنْ سَيِّدُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ؟ قَالَ: الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ. قَالَ: أَمَوْلًى هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَبِمَ سَادَهُمْ؟ فَقَالَ: بِحَاجَتِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ وَعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى دُنْيَاهُمْ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَذَا لَعَمْرُ أَبِيكَ هُوَ السُّؤْدَدُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِلزُّهْرِيِّ فِي الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ: وَبِمَ سَادَهُمْ عَطَاءٌ؟ قُلْتُ: بِالدِّيَانَةِ وَالرِّوَايَةِ. قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ وَالرِّوَايَةِ لَيَنْبَغِيُ أَنْ يَسُودُوا. وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: أَبُو عُمَرَ هُمْ وَالْيَحْصُبِيُّ ابْنُ عَامِرٍ ... صَرِيحٌ وَبَاقِيهِمْ أَحَاطَ بِهِ الْوَلَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْلَى مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ الْمَوْضُوعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضِّدَّيْنِ ; إِذْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى، وَهُوَ الْمُنْعِمُ الْمُعْتِقُ، بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ، وَالْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ، وَهُوَ الْمُعْتَقُ بِفَتْحِهَا، وَمَعْرِفَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُهِمَّةٌ ; وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا فِي النُّخْبَةِ: وَمَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مَنْ أَعْلَى وَمَنْ أَسْفَلُ، وَغَفَلَ الْكَمَالُ الشَّمَنِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْهَا عَنْ مُرَادِهِ، فَجَعَلَ مَوْلَى الْمَوْلَى هُوَ الْأَسْفَلَ، وَمَا عَدَاهُ الْأَعْلَى، وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا. [أَوْطَانُ الرُّوَاةِ وَبُلْدَانُهُمْ] ْ 997 - وَضَاعَتِ الْأَنْسَابُ فِي الْبُلْدَانِ ... فَنُسِبَ الْأَكْثَرُ لِلْأَوْطَانِ 998 - وَإِنْ يَكُنْ فِي بَلْدَتَيْنِ سَكَنَا ... فَابْدَأْ بِالْأُولَى وَبِثُمَّ حَسُنَا 999 - وَمَنْ يَكُنْ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ بَلْدَةِ ... يُنْسَبْ لِكُلٍّ وَإِلَى النَّاحِيَةِ 1000 - وَكَمَلَتْ بِطَيْبَةَ الْمَيْمُونَهْ ... فَبَرَزَتْ مِنْ خِدْرِهَا مَصُونَهْ 1001 - فَرَبُّنَا الْمَحْمُودُ وَالْمَشْكُورُ ... إِلَيْهِ مِنَّا تَرْجِعُ الْأُمُورُ 1002 - وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ... عَلَى النَّبِيِّ سَيِّدِ الْأَنَامِ (أَوْطَانُ الرُّوَاةِ وَبُلْدَانُهُمْ) وَهُوَ مُهِمٌّ جَلِيلٌ يُعْتَنَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، لَا سِيَّمَا وَرُبَّمَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ الرَّاوِي الْمُدَلِّسُ وَمَا فِي السَّنَدِ مِنْ إِرْسَالٍ خَفِيٍّ، وَيَزُولُ بِهِ تَوَهُّمُ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ رِوَايَةَ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ عَنِ اللَّيْثِ ; لِاخْتِلَافِ بَلَدَيْهِمَا، وَسَأَلَ الْمِزِّيُّ: أَيْنَ سَمِعَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ فِي الْحَجِّ ثُمَّ قَالَ: بَلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 فِي بَغْدَادَ حِينَ دُخُولِ اللَّيْثِ لَهَا فِي الرَّسْلِيَّةِ، وَيَتَمَيَّزُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَّفِقَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَابِعِ أَقْسَامِ الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ، وَمِنْ مَظَانِّهِ (الطَّبَقَاتُ) لِابْنِ سَعْدٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَ (تَوَارِيخُ الْبُلْدَانِ) ، وَأَحْسَنُ مَا أُلِّفَ فِيهِ وَأَجْمَعُهُ (الْأَنْسَابُ) لِابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَفِي مُخْتَصَرِهِ لِابْنِ الْأَثِيرِ فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ، وَكَذَا لِلرُّشَاطِيِّ (الْأَنْسَابُ) ، وَاخْتَصَرَهُ الْمَجْدُّ الْحَنَفِيُّ. (وَ) قَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُنْسَبُونَ إِلَى الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ وَالْعَمَائِرِ وَالْعَشَائِرِ وَالْبُيُوتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الْحُجُرَاتِ: 13] . وَالْعَجَمُ إِلَى رَسَاتِيقِهَا ; وَهِيَ الْقُرَى وَبُلْدَانِهَا، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى أَسْبَاطِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَ النَّاسُ فِي الْأَقَالِيمِ وَالْمُدِنِ وَالْقُرَى (ضَاعَتْ) كَثِيرًا (الْأَنْسَابُ) الْعَرَبِيَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا (فِي الْبُلْدَانِ) الْمُتَفَرِّقَةِ، (فَنُسِبَ الْأَكْثَرُ) مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، كَمَا كَانَتِ الْعَجَمُ تَنْتَسِبُ (لِلْأَوْطَانِ) ; جَمْعُ وَطَنٍ وَهُوَ مَحَلُّ الْإِنْسَانِ مِنْ بَلْدَةٍ أَوْ ضَيْعَةٍ أَوْ سِكَّةٍ، وَهِيَ الزُّقَاقُ أَوْ نَحْوُهَا، وَهَذَا وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ أَيْضًا فَهُوَ قَلِيلٌ، كَمَا أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْضًا النِّسْبَةُ إِلَى الْقَبَائِلِ بِقِلَّةٍ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى مَحَلٍّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلِيًّا مِنْهُ أَوْ نَازِلًا فِيهِ، بَلْ وَمُجَاوِرًا لَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُنَا ; وَلِذَلِكَ تُعَدَّدُ النِّسْبَةُ بِحَسَبِ الِانْتِقَالِ، وَلَا حَدَّ لِلْإِقَامَةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلنِّسْبَةِ بِزَمَنٍ، وَإِنْ ضَبَطَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، فَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَوَّغُ الِانْتِسَابُ إِلَى الْبَلَدِ إِذَا قَامَ فِيهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ. بَلْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ قَوْلٌ سَاقِطٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَإِذَا أَرَدْتَ نِسْبَةَ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَرَادَ الْمُجَاوَرَةَ لِنَابُلُسَ قُلْتَ: النَّابُلُسِيُّ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّدْلِيسِ. (وَإِنْ يَكُنْ فِي بَلْدَتَيْنِ سَكَنَا) بِأَنِ انْتَقَلَ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ أَوْ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، وَأَرَدْتَ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِمَا (فَابْدَأْبِـ) الْبَلْدَةِ (الْأُولَى) بِالنَّقْلِ، (وَبِثُمَّ) فِي الثَّانِيَةِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهَا (حَسُنَا) أَيْ: حَسُنَ الْإِتْيَانُ فِيهَا بِثُمَّ، فَيُقَالُ: الشَّامِيُّ ثُمَّ الْعِرَاقِيُّ أَوِ الدِّمَشْقِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وَجَمْعُهُمَا أَحْسَنُ مِمَّا لَوِ اقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا. (وَمَنْ يَكُنْ) مِنَ الرُّوَاةِ (مِنْ قَرْيَةٍ) كَدَارِيَّا (مِنْ) قُرَى (بَلْدَةٍ) كَدِمَشْقَ (يُنْسَبْ) جَوَازًا (لِكُلٍّ) مِنَ الْقَرْيَةِ وَالْبَلْدَةِ، بَلْ (وَإِلَى النَّاحِيَةِ) الَّتِي مِنْهَا تِلْكَ الْبَلْدَةُ، وَتُسَمَّى الْإِقْلِيمَ أَيْضًا ; كَالشَّامِ فَيُقَالُ فِيهِ: الدَّارِيُّ أَوِ الدِّمَشْقِيُّ أَوِ الشَّامِيُّ، لَكِنْ خَصَّهُ الْبُلْقِينِيُّ بِمَا إِذَا كَانَ اسْمُ الْمَدِينَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَقْرَبُ مَنْعُهُ، فَإِنَّ الِانْتِسَابَ إِنَّمَا وُضِعَ لِلتَّعَارُفِ وَإِزَالَةِ الْإِلْبَاسِ. وَإِنْ أُرِيدَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ بِالْأَعَمِّ فَيَقُولُ: الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الدَّارِيُّ، أَوْ بِالْقَرْيَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا فَيَقُولُ: الدَّارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّامِيُّ ; إِذِ الْمَقْصُودُ التَّعْرِيفُ وَالتَّمْيِيزُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، نَعَمْ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْضَحَ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُ رُبَّمَا تَقَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَيُقَالُ لِمَنْ سَكَنَ الْخُصُوصَ مَثَلًا - قَرْيَةٌ مَنْ قُرَى مُنْيَةِ بَنِي خَصِيبٍ -: الْخُصُوصِيِّ الْمُنَاوِيُّ الصَّعِيدِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاحِيَةَ قَدْ تَكُونُ فَوْقَهَا نَاحِيَةٌ أُخْرَى أَوْسَعُ دَائِرَةً مِنْهَا بِأَنْ تَتَنَاوَلَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ الْمَخْصُوصَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ النَّوَاحِي، وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ يَقَعُ التَّعَدُّدُ لِأَزْيَدَ مِنْ هَذَا أَيْضًا. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَدْ تَقَعُ النِّسْبَةُ أَيْضًا إِلَى الصَّنَائِعِ ; كَالْخَيَّاطِ، وَإِلَى الْحِرَفِ كَالْبَزَّازِ، وَتَقَعُ أَلْقَابًا ; كَخَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ الْكُوفِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 الْقَطَوَانِيِّ، وَكَانَ يَغْضَبُ مِنْهَا، وَيَقَعُ فِي كُلِّهَا الِاتِّفَاقُ وَالِاشْتِبَاهُ كَالْأَسْمَاءِ. فَائِدَةٌ: الشُّعُوبُ: الْقَبَائِلُ الْعِظَامُ، وَقِيلَ: الْجِمَاعُ الَّتِي تَجْمَعُ مُتَفَرِّقَاتِ الْبُطُونِ، وَاحِدُهَا شِعْبٌ، وَالْقَبَائِلُ الْبُطُونُ، وَهِيَ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ لِلْعَرَبِ كَالْأَسْبَاطِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلْ يُقَالُ لِكُلِّ مَا جُمِعَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ قَبِيلٌ ; أَخْذًا مِنْ قَبَائِلَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ غُصُونُهَا، أَوْ مِنْ قَبَائِلِ الرَّأْسِ، وَهِيَ أَعْضَاؤُهَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِاجْتِمَاعِهَا، وَالْعَمَائِرُ جَمْعُ عِمَارَةٍ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، قِيلَ: الْحَيُّ الْعَظِيمُ يُمْكِنُهُ الِانْفِرَادُ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ فَوْقَ الْبَطْنِ، وَالْبُيُوتُ جَمْعُ بَيْتٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ خِنْدِفَ عَلْيَاءَ، تَحْتَهَا النُّطُقُ أَرَادَ شَرَفَهُ، فَجَعَلَهُ فِي أَعْلَى خِنْدِفَ بَيْتًا، وَلَهُمُ الْأُسْرَةُ، وَالْبَطْنُ، وَالْجِذْمُ وَالْجِمَاعُ، وَالْجُمْهُورُ، وَالْحَيُّ، وَالرَّهْطُ، وَالذُّرِّيَّةُ، وَالْعِتْرَةُ، وَالْعَشِيرَةُ، وَالْفَخْذُ وَالْفَصِيلَةُ مِمَّا لِشَرْحِهِ وَبَيَانِ مَرَاتِبِهِ غَيْرُ هَذَا الْمَحَلِّ. (وَكَمَلَتْ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، أَيِ: الْمَنْظُومَةُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ مَعَ الْإِحَاطَةِ بِأَنَّ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهَا، لَيْسَ حَصْرًا لِفُنُونِهَا ; وَلِذَا أَدْرَجْتُ فِي شَرْحِهَا مَا كَانَ مُنَاسِبًا لَهَا مِنَ الزَّوَائِدِ مِمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ أُفْرِدَ بِالتَّأْلِيفِ جُمْلَةَ كَالصَّالِحِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 الْحَسَنِ: ذَكَرْتُ فِيهِ مَا صَحَّ أَوْ قَارَبَ أَوْ يَحْكِيهِ. وَالْمُضَعَّفِ فِي آخَرَ الضَّعِيفِ وَالْمَحْفُوظِ فِي الشَّاذِّ، وَالْمَعْرُوفِ فِي الْمُنْكَرِ، وَالْمَطْرُوحِ فِي آخِرِ الْمَوْضُوعِ، وَالْمُبْدَلِ وَالْمُرَكَّبِ وَالْمُنْقَلِبِ فِي الْمَقْلُوبِ، وَالْمَشْهُورِ وَالْوَجْهِ فِي كَوْنِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ مَبَاحِثِنَا فِي الْمَشْهُورِ، وَأَسْبَابِ الْحَدِيثِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَتَوَالِي رِوَايَةِ فُقَهَاءَ وَنَحْوِهِمْ فِي الْمُسَلْسَلِ، وَالْمُحْكَمِ فِي آخَرَ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ، وَجَمْعٍ مِنَ التَّابِعِينَ، أَوْ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْأَقْرَانِ، وَمُشْتَرِكِينَ فِي التَّسْمِيَةِ أَوْ مَا اتَّفَقَ اسْمُ رَاوِيهِ مَعَ اسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَصَاعِدًا، أَوِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ مَعَ اسْمِ جَدِّهِ وَأَبِي جَدِّهِ، أَوِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ مَعَ شَيْخِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أَوِ اسْمِ شَيْخِ الرَّاوِي مَعَ اسْمِ تَلْمِيذِهِ - وَكُلُّهَا فِي الْمُسَلْسَلِ - أَوِ اسْمِ أَبِيهِ مَعَ اسْمِ شَيْخِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِمَا مُهْمَلَيْنِ فِي الْمُتَّفِقِ، أَوْ كُنْيَةِ اسْمِ أَبِيهِ أَوْ كُنْيَةِ زَوْجَتِهِ، وَكِلَاهُمَا فِي الْكُنَى، وَالتَّأْرِيخِ فِي التَّأْرِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالتَّحْقِيقِ لَهُ، بَلْ مَنْ أَتْقَنَ تَوْضِيحَ النُّخْبَةِ لِشَيْخِنَا مَعَ اخْتِصَارِهِ رَأَى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ مِمَّا أَكْثَرُ كُلِّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قِسْمًا أَوْ فَرْعًا مِمَّا ذُكِرَ كَمَا بَانَ مِمَّا أَثْبَتَهُ مِنْهُ (بِطَيْبَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ، كَشَيْبَةَ اسْمٌ مِنْ أَرْبَعِينَ فَأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لِلْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِهَا تَيَمُّنًا وَتَبَرُّكًا، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: طَابَةُ. كَمَا جَاءَ مَعًا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرِيقٍ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَفَعَهُ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ» ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَالطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ، «كَانُوا يُسَمُّونَ الْمَدِينَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 يَثْرِبَ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَابَةَ» ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرَّاوِيَتَيْنِ، وَهُمَا تَأْنِيثُ طِيبٍ وَطَابٍ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَاشْتِقَاقُهُمَا إِمَّا مِنَ الطِّيبِ الَّذِي هُوَ الرَّائِحَةُ الْحَسَنَةُ لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ طِيبِ تُرْبَتِهَا وَحِيطَانِهَا وَهَوَائِهَا ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَفِي طِيبِ تُرَابِهَا وَهَوَائِهَا دَلِيلٌ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ; لِأَنَّ مَنْ أَدَامَ بِهَا يَجِدُ مِنْ تُرْبَتِهَا وَحِيطَانِهَا رَائِحَةً طَيِّبَةً، لَا تَكَادُ تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، زَادَ غَيْرُهُ: أَوْ لِطِيبِهَا لِسَاكِنِهَا أَوْ لِطِيبِ الْعَيْشِ بِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا بِهَا مِنْ تُرَابٍ وَجُدُرٍ وَعَيْشٍ وَمَنْزِلٍ وَسَائِرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهَا طِيبٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَلِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دَرُّ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَطِبْ فِي طِيبَةَ عِنْدَ طَيِّبٍ ... بِهِ طِيبَةٌ طَابَتْ فَأَيْنَ تَطِيبُ أَوْ مِنَ الطَّيِّبِ بِالتَّشْدِيدِ، الطَّاهِرُ بِالْمُهْمَلَةِ لِخُلُوصِهَا مِنَ الشِّرْكِ وَطَهَارَتِهَا (الْمَيْمُونَهْ) يَعْنِي الْمُبَارَكَةَ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا بِالْبَرَكَةِ، حَتَّى كَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا - مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ - مَا يَحْمِلُهُ الْحَجِيجُ خُصُوصًا زَمَنَ الْمَوْسِمِ مِنْ تَمْرِهَا إِلَى جَمِيعِ الْآفَاقِ، بِحَيْثُ يَفُوقُ غَلَّاتِ الْأَمْصَارِ، وَيَفْضُلُ لِأَهْلِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَقُومُ بِهِمْ قُوتًا وَبَيْعًا وَإِهْدَاءً إِلَى زَمَنِ التَّمْرِ وَزِيَادَةً. (فَبَرَزَتْ) أَيْ: خَرَجَتِ الْمَنْظُومَةُ إِلَى النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ (مِنْ خِدْرِهَا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُهْمَلَتَيْنِ، أَوَّلُهُمَا سَاكِنَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ، أَيْ: سِتْرِهَا، (مَصُونَهْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، لَمْ تَزَلْ صِيَانَتُهَا بِبُرُوزِهَا، وَكَذَا بَرَزَ شَرْحُ النَّاظِمِ عَلَيْهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ تَصْنِيفِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِالْخَانْقَاهْ الطّشْتمرِيَّةِ خَارِجَ الْقَاهِرَةِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمَا، وَسَارًّا لِأَكْثَرِ الْأَقْطَارِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ وَافٍ بِتَمَامِ الْغَرَضِ كَمَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ لِشَارِحِي تَصَانِيفِهِمْ غَالِبًا، وَذَلِكَ غَيْرُ خَادِشٍ فِي جَلَالَتِهِ وَاخْتَصَرَهُ مَعَ ذَلِكَ الشَّمْسُ بْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 عَمَّارٍ الْمَالِكِيُّ، وَمَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا لِسِوَاهُ شَرْحًا ; وَلِذَا انْتُدِبْتُ بِشَرْحِي هَذَا، وَجَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَدِيعًا كَمَا أَسْلَفْتُهُ فِي (آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ) وَكَمُلَ، سَائِلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دَوَامَ النَّفْعِ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْضًا مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، فَبَيْنَهُمَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً (فَرَبُّنَا) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الْمَحْمُودُ وَالْمَشْكُورُ) عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ (إِلَيْهِ مِنَّا تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كُلُّهَا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، (وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ) الْمُخْبِرِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ (سَيِّدِ الْأَنَامِ) كُلِّهِمْ، وَوَسِيلَتِنَا وَسَنَدِنَا وَذُخْرِنَا فِي الشَّدَائِدِ وَالنَّوَازِلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ. [مِنْ نَاسِخِ الْكِتَابِ] مِنْ نَاسِخِ الْكِتَابِ: تَشَرَّفَ بِكِتَابَتِهِ دَاعِيًا لِمُؤَلِّفِهِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا الْعَلَّامَةِ الْمُحَقِّقِ الْحُجَّةِ شَمْسِ الدِّينِ خَاتِمَةِ الْحُفَّاظِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَبِي الْخَيْرِ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيِّ الشَّافِعِيِّ، أَدَامَ اللَّهُ تَعَالَى النَّفْعَ بِعُلُومِهِ وَبَقَائِهِ وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ، فَقِيرُ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْقَسْطَلَّانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَسَتَرَ عُيُوبَهُ، وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ كِتَابَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْمُبَارَكِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ الْفَرْدِ الْحَرَامِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، خَتَمَ اللَّهُ لِي وَلِأَحِبَّائِي وَلِلْمُسْلِمِينَ بِالْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فِي عَافِيَةٍ بِلَا مِحْنَةٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 [تَصْرِيحٌ عَنْ نِسْبَةِ الْكِتَابِ] وَاعْلَمْ جَمِيعَ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ الْمُسَمَّى (فَتْحُ الْمُغِيثِ بِشَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْحَدِيثِ) مِنْ تَأْلِيفِي إِلَّا مِنَ الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ إِلَى آخِرِهِ، مَالِكُهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْفَهَّامَةُ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ مُفِيدُ الطَّالِبِينَ بَرَكَةُ الْمُحَصِّلِينَ، مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ الشَّيْخِ الْمَرْحُومِ الْعَالِمِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَارِدِينِيُّ الْأَصْلَ، الْحَلَبِيُّ الشَّافِعِيُّ الْأَبَّارُ وَابْنُ الْأَبَّارِ، نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبَلَّغَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدَّارَيْنِ نِهَايَةَ أَرَبِهِ وَسَلَّمَهُ سَفَرًا وَحَضَرًا، وَجَمَعَ لَهُ الْحَدِيثَ زُمَرًا، وَنَفَعَتْنِي بَعْدَ كِتَابِهِ وَبَرَكَاتِ عُلُومِهِ وَسَلَفِهِ وَجَمَعَتْنِي فِي سَنَدِ رَحْمَتِهِ وَأَعَالِي غُرَفِهِ قِرَاءَةٌ رَافِعَةٌ لِلَّبْسِ، دَافِعَةٌ لِكُلِّ تَخْمِينٍ وَحَدْسٍ، مُحَقِّقَةٌ لِلْمَعْنَى، مُوَفِّقَةٌ عَلَى الَّذِي هُوَ أَهْنَى، مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ، مُعَيِّنَةٌ لِمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْإِيرَادُ، اجْتَهِدَ فِيهَا أَتَمَّ اجْتِهَادٍ، وَاعْتَمِدَ مَا أَبْدَيْتُهُ لَهُ فِي تَقْرِيرِي أَيَّ اعْتِمَادٍ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ السَّفَرُ قَبْلَ إِكْمَالِهِ وَحَثَّهُ عَلَى الرُّجُوعِ الْخَبَرُ عَنْ بَعْضِ آلِهِ، لَقَّاهُ اللَّهُ كُلَّ خَيْرٍ وَكَفَاهُ سَائِرَ مُهِمَّاتِهِ فِي الْإِقَامَةِ وَالسَّيْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَفِيقَهُ الْفَاضِلَ الْكَامِلَ الْحَسَنَ الشَّمَائِلِ الْبَارِعَ الْمُفِيدَ الْفَارِغَ الْمُجِيدَ الشِّهَابَ الْعَبَّاسِيَّ أَحْمَدَ بْنَ الشَّمْسِ مُحَمَّدَ بْنِ الْفَخْرِ عُثْمَانَ بْنِ جَمَالِ الدِّينِ الْحَلَبِيَّ الْحَنَفِيَّ وَيُعْرَفُ بِالتِّبْرِينِيِّ، نَفَعَهُ اللَّهُ وَنَفَعَ بِهِ وَوَصَّلَ أَسْبَابَ الْخَيْرَاتِ بِسَبَبِهِ، وَرَجَعَ بِهِ إِلَى وَطَنِهِ سَالِمًا غَانِمًا، فَسَمَّعَ عَلَيَّ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ فِي الْبَحْثِ وَالتَّقْرِيرِ وَالْإِيضَاحِ وَالتَّحْرِيرِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى إِلَى آخِرِ الْكِتَابِ، وَهُوَ مُمْسِكٌ بِيَدِهِ هَذِهِ النُّسْخَةَ بِحَيْثُ صَارَتْ أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهَا وَيُعَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَالْمُطَالَعَةِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ سَمَاعِ الشِّهَابِ الْمَذْكُورِ لِجُلِّ مَا قَرَأَهُ الْأَوَّلُ مَعَهُ، وَأَجَزْتُ لَهُمَا رِوَايَةَ ذَلِكَ عَنِّي وَسَائِرَ مَا يَجُوزُ لِي وَعَنِّي رِوَايَتُهُ بِشَرْطِهِ، بَلْ أَذِنْتُ لَهُمَا حَبْسَ النُّسْخَةِ فِي أَقَارِبِهِ وَأَقْرَانِهِ، وَإِلْقَائِهِ لِلطَّالِبِينَ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَأَسْأَلُ كُلًّا مِنْهُمَا فِي الدُّعَاءِ لِي بِخَاتِمَةِ الْخَيْرِ وَإِصْلَاحِ فَسَادِ الْقَلْبِ، وَكَانَ انْتِهَاؤُهُ فِي ثَامِنِ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ (889 هـ.) ، قَالَهُ وَكَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ السَّخَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَسَتَرَ عُيُوبَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا لَقَدْ تَمَّ الْكِتَابُ بِعَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406