الكتاب: إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد المؤلف: ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي، أبو عبد الله، عز الدين اليمني (المتوفى: 840هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الثانية، 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات ابن الوزير الكتاب: إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد المؤلف: ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي، أبو عبد الله، عز الدين اليمني (المتوفى: 840هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الثانية، 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين أكمل الْحَمد على جَمِيع هداياته ومعارفه وعطاياه وعوارفه وَأفضل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتحياته الطَّيِّبَات المباركات وإكرامه على رَسُوله وحبيبه وصفوته مُحَمَّد الْأمين خَاتم النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ الَّذِي جعل الله الذلة وَالصغَار على من خَالف أمره كَمَا ورد بِهِ الحَدِيث المتين وَالْقُرْآن الْمُبين حَيْثُ قَالَ رب الْعَالمين فِي بعض الْمُخَالفين لَهُ فِي الدّين {سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نجزي المفترين} وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أهل بَيته الطيبين الطاهرين وَرَضي الله عَن الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ الصَّادِقين السَّابِقين وَالَّذين جاؤا من بعدهمْ من التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين أما بعد فَإِنِّي نظرت إِلَى شدَّة الْخلاف وَاخْتِلَاف الْعُقَلَاء والأذكياء وَأهل الرياضات الْعَظِيمَة من الرهبان وَسَائِر أَجنَاس أهل الْأَدْيَان ثمَّ إِلَى مَا وَقع من ذَلِك بَين أهل الْإِسْلَام من أهل القوانين العلمية البرهانية وَأهل القوانين الرياضية الرهبانية وَأهل التفاسير والتآويل للآيات القرآنية وَأهل الْآثَار والأنظار فِي الْفُرُوع الظنية فَرَأَيْت اخْتِلَافا كَبِيرا وتعاديا نكيرا وتباعدا كثيرا سبق إِلَى ظن النَّاظر فِيهِ أَنه لَا طَرِيق لَهُ مَعَ سَعَة ذَلِك إِلَى تَمْيِيز المحق من الْمُبْطل والمصيب من الْمُخطئ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح لِأَن التَّمْيِيز الصَّحِيح لذَلِك لَا يحصل إِلَّا بعد بُلُوغ الْغَايَة القصوى فِي طرق جَمِيع هَذِه الطوائف حَتَّى يعْتَرف لَهُ بِالْإِمَامَةِ فِي كل فن من تِلْكَ الْفُنُون كل أَمَام بهَا وعارف ويتقن علم كل فرقة مثل اتقان كل من أئمتهم لدعواهم وحقائقهم مُمَيّزا لمعارفهم ومزالقهم والعمر أقصر من أَن يَتَّسِع لذَلِك مَعَ تفريغه عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الشواغل الْمُزَاحمَة لذَلِك تمّ الطّلب الشَّديد لَهُ فَكيف يَتَيَسَّر علم جَمِيع ذَلِك فِي أول أَوْقَات التَّكْلِيف مَعَ الشواغل الجمة وَالتَّقْصِير الْكثير من الأكابر المتصدرين للتعليم كَيفَ للمتعلمين الْمُقَصِّرِينَ على تلقن مَذَاهِب أسلافهم من غير الثِّقَات إِلَى الإهتمام بتحقيق أدلتهم الَّتِي تخصهم دع عَنْك الإهتمام بأدلة خصومهم وتحقيقها مَعَ شدَّة الإشكالات ودقتها ومعارضة الأذكياء والرهبان بَعضهم لبَعض فِي كل مِلَّة وكل فرقة وَمَعَ اسْتِمْرَار من ظَاهره الْفَهم والإنصاف من أهل الْإِسْلَام على ذَلِك الإختلاف فعظمت هَذِه الفكرة عِنْدِي واهتم لَهَا قلبِي لَوْلَا مَا عارضها من الْعلم الْيَقِين بل الضَّرُورِيّ بِمَا للأكثرين من العقائد الْبَاطِلَة ومعارضة الْحق الْوَاضِح بالشبه الساقطة وتعرف ذَلِك بمطالعة كتب الْملَل والنحل والأهواء والتجاهل فَنَظَرت فِي كَيْفيَّة النجَاة مَعَ ذَلِك مستمدا من الله تَعَالَى دَاعيا طَالبا رَاغِبًا رَاهِبًا وان الله تَعَالَى وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء وفقني حِينَئِذٍ إِلَى أوضح الطّرق فِي علمي وأبعدها من الشّبَه والشكوك إِلَى معرفَة مَا تمس الضَّرُورَة إِلَى مَعْرفَته من الْحق الَّذِي تخَاف الْمضرَّة بجهله وَهُوَ الَّذِي جَاءَ الْإِسْلَام بِوُجُوب مَعْرفَته أَو أَمر بهَا أَو ندب إِلَيْهَا من الْكتاب وَالسّنة دون معرفَة مَا لم يدل عقل وَلَا سمع على وجوب مَعْرفَته وَلَا ثَبت فِي الشَّرِيعَة استحبابها وبترك هَذَا الْقسم يسهل الْأَمر ويهون الْخطب فَإِن الَّذِي وسع دَائِرَة المراء والضلال هُوَ الْبَحْث عَمَّا لَا يعلم وَالسَّعْي فِيمَا لَا يدْرك وَطول السّير وَالسَّعْي فِي الطَّرِيق الَّتِي لَا توصل إِلَى الْمَطْلُوب والإقتداء بِمن يظنّ فِيهِ الْإِصَابَة وَهُوَ مُخطئ والإشتغال بالبحث عَن الدقائق الَّتِي لَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا وَلَا يُوصل الْبَحْث عَنْهَا إِلَى الْيَقِين وَلَا إِلَى الْوِفَاق وَلَا ظَهرت للخوض فِيهَا مَعَ طوله ثَمَرَة نافعة لَا بِالْيَقِينِ صادعة وَلَا للإفتراق جَامِعَة وَلَا رُوِيَ عَن أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلَا صَحَّ عَن أحد من السّلف الْكِرَام وَرُبمَا انْقَطع هَذَا الْعُمر الْقصير فِي تِلْكَ الطّرق الْبَعِيدَة قبل الْبلُوغ إِلَى الْمَقْصُود بهَا وَهُوَ معرفَة الْحق الْوَاجِب من الْبَاطِل المهلك وَمَعْرِفَة المحق من الْمُبْطل وَلَيْسَ الطّلب لكل علم بمحمود وَلَا كل مَطْلُوب بموجود أما الثَّانِيَة فوفاقية وَأما الأولى فعقلا وسمعا أما الْعقل فَإِنَّهُ لَا يحسن قطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الْأَوْقَات فِي وزن الْحِجَارَة وَكيل التُّرَاب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يُفِيد وَالْعلَّة أَنه عَبث وَلعب لَا يضر وَلَا ينفع فَكيف بِمَا يضر أَو لَا يُؤمن أَنه يضر وَقد ذكر نَحْو ذَلِك القَاضِي جَعْفَر رَحمَه الله تَعَالَى وَأما السّمع فقد قَالَ تَعَالَى فِي متعلمي السحر أَنهم يتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم} صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْآيَة تَقْتَضِي ذمّ علمهمْ وذمهم بِهِ وَفِي الحَدِيث أَن من الْعلم جهلا قَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة قيل فِي تَفْسِيره وَهُوَ أَن يتَعَلَّم مَا لايحتاج إِلَيْهِ كَالنُّجُومِ وعلوم الْأَوَائِل ويدع مَا هُوَ مُحْتَاج اليه فِي دينه من علم الْقُرْآن وَالسّنة وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ} وَعلم آدم الاسماء دون الْمَلَائِكَة وآتانا من الْعلم قَلِيلا مَعَ قدرته على أَن يؤتينا كثيرا فَقَالَ فِي ذَلِك {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يُوضحهُ قَول الْخضر لمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام مَا علمي وعلمك وَعلم جَمِيع الْخَلَائق فِي علم الله إِلَّا كَمَا أَخذ هَذَا الطَّائِر بمنقاره من هَذَا الْبَحْر وَقَالَ لمُوسَى أَنا على علم من علم الله لَا يَنْبَغِي لَك أَن تعلمه وَأَنت على علم من علم الله لَا يَنْبَغِي لي أَن أعمله فَدلَّ ذَلِك كُله على أَنه لَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يتَعَرَّض لعلم مَا لم يعلمنَا الله وَرَسُوله ويتضح معقوله ومنقوله لقَوْل الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم هَذَا ذكر من معي وَذكر من قبلي} وَهَذِه الْآيَة دَالَّة على أَن كتب الله لَا تَخْلُو من الْبَرَاهِين الْمُحْتَاج اليها فِي أَمر الدّين كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْمُخْتَصر مستوعبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي قَول الْمَلَائِكَة لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِشَارَة إِلَى ذَلِك بل دلَالَة وَاضِحَة لأَنهم حِين قطعُوا على فَسَاد آدم مَعَ اخبار الله تَعَالَى لَهُم أَنه مستخلفه فِي الأَرْض إِنَّمَا أَتَوا من خوضهم فِيمَا لم يعلمهُمْ الله تَعَالَى إِذْ لَو كَانَ من تَعْلِيم الله مَا أخطأوا فِيهِ فَلَمَّا تبين لَهُم خطأهم نظرُوا من أَيْن جَاءَهُم الْخَطَأ على علو مَنْزِلَتهمْ فعرفوا أَنهم أخطأوا لما تعرضوا لعلم مَا لم يعلمهُمْ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 سُبْحَانَهُ فَقَالُوا حِينَئِذٍ {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} فَهَذَا وهم أَحَق الْخلق بِالْعلمِ والكشف للغائبات فَإِنَّهُم أنوار وعقول بِلَا شهوات حاجبة وَلَا أهواء غالبة وَلذَلِك ذمّ الله الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ بابتغاء تَأْوِيل الْمُتَشَابه ومدح الراسخين بالإعتراف بِالْعَجزِ كَمَا هُوَ مَعْرُوف عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أمالي السَّيِّد الامام أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي نهج البلاغة على مَا سَيَأْتِي تَقْرِيره وَالْحجّة عَلَيْهِ وذم الْيَهُود على تعَاطِي مَا لم يعلمُوا فَقَالَ تَعَالَى {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ حاججتم فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم} وَمن ذَلِك أَن الله تَعَالَى أرى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُسْلِمين يَوْم بدر الْكثير من الْمُشْركين قَلِيلا فِي الْمَنَام ثمَّ فِي الْيَقَظَة للْمصْلحَة وَاخْتلف لمن الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى {يرونهم مثليهم رَأْي الْعين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي السَّاعَة {أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى} أَي أُخْفِي علمهَا الْجملِي وَأما تعْيين وَقتهَا فقد أخفاه من الْخلق كَمَا قَالَ {ثقلت فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة} وَكفى بذلك حجَّة صادعة على أَن الْمصلحَة لِلْخلقِ قد تعلق بِجَهْل بعض الْعُلُوم وَمِمَّا يُوضح ذَلِك قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ} كَمَا ذكر فِي الْكَشَّاف وَلِأَن حِكْمَة الله وَحكمه الَّذِي لَا يغالب قد يَقْتَضِي ذَلِك عُمُوما كَمَا اقْتَضَت كتم الْآجَال على الاكثرين وَجَاء فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أول رُؤْيا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ أصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا فَسَأَلَهُ بَيَان مَا أصَاب فِيهِ وَمَا أَخطَأ فَأبى عَلَيْهِ فَقَالَ أَقْسَمت عَلَيْك الا مَا أَخْبَرتنِي فَقَالَ لَا تقسم فَهَذَا مَعَ اكرامه لَهُ وانه على خلق عَظِيم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فلولا أَن الْجَهْل بِبَعْض الْأُمُور قد يكون راجحا أَو وَاجِبا لما تخلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عَن اخباره بعد هَذَا الالحاح الْكثير من هَذَا الصاحب الْكَبِير فَدلَّ على أَنه لَيْسَ فِي كل علم صَلَاح الْعباد وَأَن قَدرنَا أَنه يحصل من غير خطأ وَلَا تَعب وَلَا خطر فَكيف مَعَ خوف الْفَوْت والخطر الْعَظِيم والتعب الشَّديد بل هُوَ مَعَ تحقق ذَلِك فِي حق الْأَكْثَرين بالتجارب الضرورية وَمن ذَلِك قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رفع علم لَيْلَة الْقدر وَسُئِلَ عَنْهَا وَعَسَى أَن يكون خيرا لكم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَقَوله فِي حَدِيث معَاذ دعهم يعملوا مُتَّفق على صِحَّته وشواهده جمة كَثِيرَة صَحِيحَة وَمن ذَلِك وَهُوَ أعظمه وأشهره قصَّة الْخضر ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَهِي شافية كَافِيَة وَهِي صَرِيحَة فِي اخْتِلَاف الْمصَالح فِي الْعُلُوم وَمِنْه قَوْله تَعَالَى بعد حِكَايَة الإختلاف بَين دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام {وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} وَذكر الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي فِي مقالاته الْمَشْهُورَة الْعَامَّة فَقَالَ هَنِيئًا لَهُم السَّلامَة مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَفِي شعر الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد المعتزلي وَقد حكى كَثْرَة بَحثه فِي علم الْكَلَام حَتَّى قَالَ (وأسائل الْملَل الَّتِي اخْتلفت ... فِي الدّين حَتَّى عَابِد الوثن) (وحسبت أَنِّي بَالغ أملي ... فِيمَا طلبت ومبريء شجني) (فاذا الَّذِي استكثرت مِنْهُ هُوَ ... الْجَانِي على عظائم المحن) (فضللت فِي تيه بِلَا علم ... وغرقت فِي يم بِلَا سفن) وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي ذَلِك (الْعلم للرحمن جلّ جَلَاله ... وسواه فِي جهلاته يتغمغم) (مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا ... يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم) وَقَالَ صَاحب نِهَايَة الاقدام (قد طفت فِي تِلْكَ الْمعَاهد كلهَا ... وسيرت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم) (فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر ... على ذقن أَو قارعا سنّ نادم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فَهَذَا كَلَام سلاطين أَئِمَّة المعارف الْعَقْلِيَّة من فريقي الْملَّة الإسلامية وَسَيَأْتِي هَذَا مَبْسُوطا فِي مَوْضِعه فَأَما بعض الطّلبَة من أَتبَاع أهل الْكَلَام الَّذين قلدوا فِي تِلْكَ الْقَوَاعِد وهم يحسبون أَنهم من الْمُحَقِّقين فهم أبلد وَأبْعد من أَن يعرفوا مَا أوجب اعْتِرَاف هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة بِالْجَهْلِ وَالْعجز وَإِنَّمَا هم بِمَنْزِلَة من سمع أَخْبَار الحروب والشجعان وَهَؤُلَاء الْأَئِمَّة بِمَنْزِلَة من مارس مقارعة الْأَبْطَال ومنازلة الأقران وَلَا يلْزم من التزهيد فِي طلب مَا لَا يحصل والاشتغال بِمَا يضر من عُلُوم الفلاسفة والمبتدعة التزهيد فِي الْعلم النافع وَسَيَأْتِي اشباع القَوْل فِي عظم فَضله والحث عَلَيْهِ بعد تَقْرِير صِحَّته وَالرَّدّ الشافي على من نَفَاهُ وَمن هَا هُنَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم بالإقتصاد فِي الْأُمُور وَقَالَ إِن المنبت لَا أَرضًا قطع وَلَا ظهرا أبقى وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله تَعَالَى معلما للأميين وَرَحْمَة للْعَالمين وَعلم بِالضَّرُورَةِ لَا بأخبار الْآحَاد إِن ذَلِك كَانَ خلقه وَدينه عِنْد الْعلمَاء النقاد فَتعين حِينَئِذٍ طلب الطَّرِيق الْقَرِيبَة الممكنة الَّتِي هِيَ فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا كَمَا نَص على ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَسنة رَسُوله عَلَيْهِ أفضل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَوْلَا مَا وَقع فِيهَا من التَّغْيِير لما احْتَاجَت إِلَى طلب وَلكنه قد وَقع فِيهَا التَّغْيِير كَمَا أخبر بذلك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته عِنْد أهل النَّقْل وَفِيه تَفْسِير الْفطْرَة وتقريرها من الْمبلغ الْمُبين لما أنزل عَلَيْهِ من الْهدى والنور حَيْثُ قَالَ (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه) وَفِي ذَلِك يَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام فِي ممادح ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي أودعها خطبه فِي محافل الْمُسلمين وَأما العارفين وَعلمهَا من حَضَره من خِيَار الْمُؤمنِينَ حَيْثُ قَالَ فِي محامد رب الْعَالمين لم يطلع الْعُقُول على تَحْدِيد صفته وَلم يحجبها عَن وَاجِب مَعْرفَته فَهُوَ الَّذِي يشْهد لَهُ أَعْلَام الْوُجُود على إِقْرَار قلب ذِي الْجُحُود وَقد جود فِي شَرحه ونصرته الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد وَعَزاهُ إِلَى قَاضِي الْقُضَاة وَفرق بَينه وَبَين قَول الجاحظ فَقَالَ أَنا مَا ادعينا فِي هَذَا الْمقَام إِلَّا أَن الْعلم بِإِثْبَات الصَّانِع هُوَ الضَّرُورِيّ والجاحظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ادّعى فِي جَمِيع المعارف أَنَّهَا ضَرُورِيَّة وَأَيْنَ أحد الْقَوْلَيْنِ من الآخر انْتهى كَلَام الشَّيْخ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ} وَقَوله {الم تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ} وَقَوله تَعَالَى {قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَلذَلِك كَانَ الْمُخْتَار فِي حَقِيقَة النّظر إِنَّه تَجْرِيد الْقلب عَن الغفلات لَا تَرْتِيب الْمُقدمَات كَمَا ذكره الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فَتَأمل ذَلِك قلت وَبَيَان هَذِه الْجُمْلَة فِي أَمريْن أَحدهمَا بَيَان الْمُحْتَاج إِلَيْهِ من المعارف الإسلامية فِي الْأُصُول وَهِي سَبْعَة أُمُور كلهَا فطرية جلية كَمَا يَأْتِي وَعَلَيْهَا مدَار خلاف الْعَالمين أَجْمَعِينَ وَإِنَّمَا تدْرك بالفطرة قبل التَّغْيِير أَو مَعَ الشُّعُور بذلك التَّغْيِير فَإِن مداواته بعد الشُّعُور بِهِ سهلة وَذَلِكَ لِأَن البصيرة فِي المعلومات كالبصر فِي المحسوسات كِلَاهُمَا مخلوقان فِي الأَصْل على الْكَمَال مَا لم يغيرا فَمَتَى وَقع فيهمَا التَّغْيِير وَلم يشْعر بِهِ صَاحبه فحش جَهله وَخَطأَهُ وَمَتى شعر بذلك سهل علاجه واستداركه وَالْحكم عَلَيْهِ بِحكم العميان وَالله الْمُسْتَعَان الْأَمر الثَّانِي بَيَان أَن خوض جَمِيع الْمُتَكَلِّمين فِي عقائدهم الخلافية بَين الْفرق الإسلامية يتَوَقَّف دَائِما أَو غَالِبا على الْخَوْض فِي مُقَدمَات لتِلْك العقائد وَجَمِيع تِلْكَ الْمُقدمَات مُخْتَلف فِيهَا أَشد الِاخْتِلَاف بَين أذكياء الْعَالم وفحول علم المعقولات من عُلَمَاء الْإِسْلَام دع عَنْك غَيرهم وَمن شَرط الْمُقدمَات أَن تكون أجلى وَأَن لَا تكون بِالشَّكِّ والإختلاف أولى فَلْينْظر بإنصاف من كَانَ من أهل النّظر من عُلَمَاء الْكَلَام فِي تِلْكَ الْقَوَاعِد الدقيقة والمباحث العميقة والمعارضات الشَّدِيدَة والمناقشات اللطيفة فِي أَحْكَام الْقدَم وَمَتى يَصح من الله تَعَالَى إِيجَاد الْحَوَادِث وَمَا لزم كل خائض فِي ذَلِك حَتَّى الْتزم بعض شُيُوخ الْكَلَام نفي الْقُدْرَة على تَقْدِيم الْخلق عَن وقته وَبَعْضهمْ أَن الْحَوَادِث لَا نِهَايَة لَهَا فِي الِابْتِدَاء كَمَا لَا نِهَايَة لَهَا فِي الإنتهاء وَقَالَ جمهورهم أَنه قَادر فِي الْقدَم وَلَا يَصح مِنْهُ الْفِعْل فِيهِ مَعَ قدرته وَكَذَلِكَ اخْتلَافهمْ فِيمَا تعلق بِهِ الْعلم فِي الْقدَم وَفِي أَحْكَام الْوُجُود وَالْمَوْجُود وَهل هما شَيْء وَاحِد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 التَّحْقِيق أَو بَينهمَا فرق دَقِيق وَفِي دَعْوَى أبي هَاشم وَأَصْحَابه أَن الثُّبُوت غير الْوُجُود حَتَّى جمعُوا بَين الثُّبُوت والعدم دون الْوُجُود والعدم وقضوا بِأَن الله تَعَالَى لَا يدْخل فِي قدرته سُبْحَانَهُ أَن يكون هُوَ الْمُثبت للأشياء الثَّابِتَة فِي الْعَدَم مَعَ قضائهم بِثُبُوت جَمِيع الْأَشْيَاء فِي الْعَدَم بِغَيْر مُؤثر وَإِنَّمَا تَفْسِير خلق الله للأشياء عِنْدهم أَن يكسبها بعد ثُبُوتهَا صفة الْوُجُود مَعَ مُخَالفَة جُمْهُور الْعُقَلَاء لَهُم فِي ذَلِك وَفِي أدلتهم عَلَيْهِ كَمَا أوضحه صَاحبهمْ أَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وأوضحوا أَيْضا مخالفتهم فِي اثبات الأكوان والإستدلال بهَا إِلَى أَمْثَال لذَلِك كَثِيرَة مِمَّا اشْتَمَلت عَلَيْهِ التَّذْكِرَة لِابْنِ متويه والملخص للرازي وَشَرحه والصحائف الإلهية لبَعض الْحَنَفِيَّة وَنَحْوهَا من جَوَامِع هَذَا الْفَنّ فعلى قدر مَا فِي تِلْكَ الْقَوَاعِد من الشكوك والإحتمالات تعرف ضعف مَا تفرع عَنْهَا وَلَعَلَّ كثيرا من النظار الْمُتَأَخِّرين يعْتَرف بِأَنَّهَا محارات ومجاهل لَا هِدَايَة للعقول فِيهَا إِلَى الْيَقِين ثمَّ يعْتَقد أَن عقائده المبنية عَلَيْهَا صَحِيحَة قَطْعِيَّة وَهَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِن الْفَرْع لَا يكون أقوى من الأَصْل لَا فِي عُلُوم السّمع وَلَا فِي عُلُوم الْعقل ثمَّ أَن الْمُتَكَلِّمين كثيرا مَا يقفون المعارف الجليلة الْوَاضِحَة على أَدِلَّة دقيقة خُفْيَة فيتولد من ذَلِك مفاسد مِنْهَا إِيجَاب مَا لَا يجب من الإستدلال وتكلفه وتكليفه الْمُسلمين وَمِنْهَا تَكْفِير من لَا يعرف ذَلِك أَو تأثيمه ومعاداته وَمَعَ ذَلِك تَحْرِيمه يُؤَدِّي إِلَى حرَام آخر وَهُوَ التَّفَرُّق الَّذِي نَص الْقُرْآن الْكَرِيم على النَّهْي عَنهُ وَمِنْهَا تَمْكِين أَعدَاء الْإِسْلَام من التشكيك على الْمُسلمين فِيهِ وَفِي أَمْثَاله وَمِنْهَا الإبتداع وتوسيع دائرته وَمَا أحسن قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي مثل ذَلِك الْعلم نُكْتَة يسيرَة كثرها أهل الْجَهْل ولنذكر شَيْئا من ذَلِك نخرج بِهِ عَن التُّهْمَة بِدَعْوَى مَا لم يكن مِنْهُم فَنَقُول انا لَا نحتاج إِلَى دَلِيل على وجوب الله تَعَالَى بعد علمنَا بِالضَّرُورَةِ الفطرية أَنه الَّذِي أوجد الموجودات وَخلق العوالم ودبرها وَاسْتحق المحامد جَمِيعهَا والأسماء الْحسنى كلهَا وَأَنه على كل شَيْء قدير وَبِكُل شَيْء عليم خَبِير وَهَذَا هُوَ قَول الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَأكْثر الْعُقَلَاء وجماهير الْأمة وَذهب الشَّيْخ أَبُو هَاشم الجبائي وَأَتْبَاعه إِلَى أَنا بعد علمنَا بذلك كُله نشك هَل هُوَ سُبْحَانَهُ مَوْجُود أَو مَعْدُوم بعد علمنَا بِأَنَّهُ موجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الموجودات ومدبرها القيوم بهَا وَأَنا بعد الْعلم بذلك وَمَعَهُ نحتاج إِلَى النّظر الدَّقِيق فِي دَلِيل يدل على أَن خالقنا الْكَامِل الْأَسْمَاء والنعوت غير مَعْدُوم وَلَا يكفينا الْعلم بِأَنَّهُ خالقنا ومدبرنا دَلِيلا على وجوده قطّ وغفلوا عَن كَون وجود الْخَالِق القيوم بخلقه أقوى فِي التَّعْرِيف بِوُجُودِهِ من الدَّلِيل الَّذِي يتكلفونه على ذَلِك فِي فطر الْعُقَلَاء وَأَنه إِن أمكن الشَّك فِي هَذِه الْفطْرَة أمكن الشَّك فِي دليلهم عَلَيْهَا إِذْ لَا يُمكن أَن يكون أقوى مِنْهَا بل هُوَ أخْفى بِغَيْر شكّ كَمَا يعلم ذَلِك من وقف على أدلتهم فِي ذَلِك وَقد كنت أوردتها هُنَا وَبَيَان مَا فِيهَا من الشكوك ثمَّ صنت ديباجة هَذَا الْمُخْتَصر من ذَلِك وَنَحْوه من علم الجدل وَرَأَيْت أَن أورد ذَلِك فِي فصل مُفْرد فِي آخر هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِلَّا فَهِيَ فِي العواصم مَجْمُوعَة وَفِي كتب الْكَلَام مفرقة وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك مَعًا ليسلم أَولا من كدورته أهل الاثر ثمَّ ينْتَفع ثَانِيًا بِالنّظرِ فِي الشكوك الْوَارِدَة عَلَيْهِ أهل الْكَلَام وَالنَّظَر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا اضْطر أَبُو هَاشم وَأَتْبَاعه إِلَى ذَلِك لأَنهم جوزوا للمعدوم تحققا فِي الْخَارِج لَا فِي الذِّهْن على مَا حَقَّقَهُ الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي الْفَصْل الرَّابِع فِي صِفَات الله تَعَالَى وَاعْلَم أَن كَثْرَة التعنت فِي النّظر تُؤدِّي إِلَى طلب تَحْصِيل الْحَاصِل والتشكيك فِيهِ وَقد جربنَا ذَلِك وتأثيره فِي الموسوسين فِي الطَّهَارَة وَفِي النِّيَّة وأمثالهما من الْأُمُور الضرورية فَإِذا صَحَّ مرض الْعُقُول فِي الضروريات بِسَبَب التعنت والغلو فِي تَحْصِيل الْحَاصِل فَكيف إِذا وَقع هَذَا السَّبَب فِي محارات الْعُقُول ودقائق الْكَلَام وتوهم المبتلي بالوسوسة أَنه لَا طَرِيق لَهُ إِلَى معرفَة الله تَعَالَى إِلَّا تِلْكَ الدقائق الْخفية وَالْقَوَاعِد الْمُخْتَلف فِيهَا بَين أذكياء الْبَريَّة وَمن أَمارَة عدم الْيَقِين فِيهَا اسْتِمْرَار الْخلاف بعد طول الْبَحْث من الأذكياء من أهل الْإِنْصَاف وَمن عُلَمَاء أهل الْإِسْلَام وَلَا تحسبن أَن الْعلَّة فِي ذَلِك وَقتهَا بل الْعلَّة عدم الطَّرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا يُوضح هَذَانِ علم الْحساب والفلك وتسيير الشَّمْس وَالْقَمَر وَمَعْرِفَة أَوْقَات الكسوفيين من أدق الْعُلُوم وَمَعَ دقته فَإِن غالبه صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ بَين العارفين لَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ خفِيا ظنيا فَهُوَ مَعْرُوف بذلك بَين أَهله وَعكس ذَلِك علم أَحْكَام النُّجُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فِي حُدُوث الْحَوَادِث فَإِن غالبه بَاطِل لِأَنَّهَا لم تصح مِنْهُ الْمُقدمَات فَدلَّ الضعْف والإختلاف على ضعف الْقَوَاعِد لَا على دقتها وَلذَلِك لَا يخْتَلف أهل الْحساب الدَّقِيق فِي الْفَرَائِض وَقِسْمَة الْمَوَارِيث فِي المناسخات وَنَحْوهَا مَعَ دقته وَلذَلِك لَا تخْتَلف عُلَمَاء الْعَرَبيَّة والمعاني وَالْبَيَان فِي كل دَقِيق بل يتفقون حَيْثُ تكون الْمُقدمَات صَحِيحَة وَإِن دقَّتْ وَلَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا حَيْثُ تكون الْمُقدمَات ظنية بل المتكلمون فِي الْحَقِيقَة كَذَلِك لكِنهمْ إِنَّمَا يتفقون فِي أُمُور يسْتَغْنى فِي مَعْرفَتهَا عَن علم الْكَلَام وَعَن مَعْرفَتهَا فِي علم الْكَلَام ثمَّ يختصون من بَين أهل الْعُلُوم بِدَعْوَى الْقطع فِي مَوَاضِع الظنون وتركيب التعادي والتأثيم والتكفير على تِلْكَ الدَّعَاوَى إِلَّا أفرادا من أئمتهم وأذكيائهم توغلوا حَتَّى فَهموا أَنهم انْتَهوا إِلَى محارات مُنْتَهى الْعُقُول فِيهَا الْميل إِلَى إمارات ظنية فَرَجَعُوا إِلَى التَّسْلِيم وَترك التَّكْفِير كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك عَنْهُم ونصوصهم فِيهِ وَمن العبر الجلية فِي هَذَا للمتأملين أَن أهل الدُّنْيَا الموصوفة بِأَنَّهَا لعب وَلَهو ومتاع قد اتقنوا مَوَازِين معرفَة الْحق من الْبَاطِل فِيمَا بَينهم وتمييز يسير الحيف فِي ذَلِك حَتَّى لَا يَسْتَطِيع أحد تَدْلِيس الْبَاطِل مَعَ وزنهم وتمييزهم لذَلِك بِتِلْكَ الموازين الموصلة إِلَى الْعلم الْيَقِين الْقَاطِع لَا مَكَان اللجاج وَالْخلاف من الْمُخَالفين فَلَو اسْتَطَاعَ أهل الْكَلَام أَن يضعوا فِي أُمُور الدّين المهمة مَوَازِين حق تميز الْحق من الْبَاطِل على وَجه وَاضح يقطع الْخلاف ويشفي الصُّدُور مثل مَوَازِين أهل الدُّنْيَا مَا كَرهُوا ذَلِك وهم لَا يتهمون بالتقصير فِي ذَلِك وَإِنَّمَا أَتَوا من أَنهم تركُوا الإعتماد على تعلم الْحق من الْكتاب الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه الَّذِي أنزلهُ من أنزل الْمِيزَان ليتعرف بِهِ الْحق بعد دلَالَة الإعجاز على صدقه كَمَا يعرف الْحق فِي الْأَمْوَال بالميزان بعد دلَالَة الْعقل على صِحَّته وَلذَلِك جَمعهمَا الله تَعَالَى فِي قَوْله {الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} أنزل الْكتاب لتعريف الْحق الديني وَالْمِيزَان لتعريف الْحق الدنيوي فَترك الْأَكْثَرُونَ الإعتماد عَلَيْهِ لما سَنذكرُهُ من الْأَسْبَاب الَّتِي ظَهرت فِي أعذار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الْمُخَالفين وان كَانَ السَّبَب الْأَكْبَر الَّذِي أخبر عَنهُ علام الغيوب حَيْثُ يَقُول {لقد جئناكم بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون} وتعرضوا لما لَا يُمكن من ايضاح المحارات الَّتِي لَا تتضح وَالسير فِي الطّرق الَّتِي لَا توصل وَالْوَزْن بِالْمَوَازِينِ الَّتِي لم ينزلها الله تَعَالَى وَلَا علمتها رسله وَلَا اجْتمعت عَلَيْهَا عقول الْعُقَلَاء وفطن الأذكياء وَمَا خرج عَن ذَلِك كُله فَمن أَيْن لَهُ الوضوح حَتَّى يكون لَهُ ميزَان يُمَيّز بِهِ الْحق من الْبَاطِل عِنْد الدقة والخفاء والإختلاف الشَّديد فَتَأمل ذَلِك بإنصاف وأعجب من كل عَجِيب تَكْفِير بَعضهم لبَعض بِسَبَب الإختلاف فِي هَذِه المحارات الخالية من ذَلِك كُله وَقد قَالَ الله تَعَالَى بعد الْأَمر بوفاء الْكَيْل وَالْوَزْن {لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} مَعَ وضوح الْوَفَاء فيهمَا وامكان الإحتياط فَكيف حَيْثُ يدق ويتعذر فِيهِ الإحتياط لَكِن قد يُمكن أَن لَا يسامحوا فِي ذَلِك من جِهَة أَن الضَّرُورَة بل الْحَاجة لم تدع إِلَيْهِ كالوزن هَذَا مَعَ مَا فِي التَّكْفِير للمخطئ فِي هَذِه الدقائق من الْمفْسدَة وَذَلِكَ عدم جسرة النَّاظر على الْمُخَالفَة لِأَنَّهَا صَارَت مثل الرِّدَّة من الدّين وَلَوْلَا ذَلِك لاتضح كثير من الدقائق فَإِن أَوَائِل أهل علم الْكَلَام لابد أَن يقصروا كَمَا هُوَ الْعَادة الدائمة فِي كل من ابْتَدَأَ مَا لم يسْبق إِلَيْهِ فَلَمَّا كفرُوا الْمُخَالف كتم بَعضهم الْمُخَالفَة وتكلف بَعضهم الْمُوَافقَة بالتأويل الْبعيد وَفَسَد الاكثرون وَقد ذكر نَحْو هَذَا فِي دَلَائِل اعجاز الْقُرْآن أَنه أسلوب مُبْتَدأ جَاءَ على الْكَمَال فَحرق الْعَادَات بذلك على أَن فِي علم الْكَلَام من الْخطر مَا لَا يتَعَرَّض لَهُ حَازِم بعد مَعْرفَته وَذَلِكَ مَا ذكره السَّيِّد الْمُؤَيد بِاللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه ذكر فِي أَوَاخِر كِتَابه مَا ذكره فِي الزِّيَادَات مَا لَفظه فصل فِيمَا يجب على الْعَاميّ والمستفتي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأولَى عِنْدِي ترك الْخَوْض فِيمَا لَا تمس الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته من علم الْكَلَام لِأَن الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الْجَهْل قَبِيح وَيجوز أَن يصيره إِلَى حَالَة يسْتَحق صَاحبهَا الخلود فِي النَّار وَهَذَا غير مَأْمُون لَو نظر فِي مَسْأَلَة من الْكَلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَأَخْطَأ وَلَو لم يشْتَغل بهَا وَترك النّظر فِيهَا أَمن ذَلِك وَلَو أصَاب كَانَ مَا يسْتَحق من الثَّوَاب على الْإِصَابَة يَسِيرا والعاقل إِذا اخْتَار الحزم اخْتَار الاعراض عَنْهَا دون النّظر فِيهَا إِلَى آخر كَلَامه فِي ذَلِك وَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجَهْلِ الْقَبِيح الْجَهْل الاصطلاحي عِنْد أهل الْكَلَام وَهُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا الْجَهْل اللّغَوِيّ الَّذِي هُوَ التَّوَقُّف فِي مَوْضِعه فَهُوَ الَّذِي أَمر بِهِ وَحكم بنجاة صَاحبه وَمن عُيُوب علم الْكَلَام تعرضهم لما لَا نفع فِي الْخَوْض فِيهِ مَعَ عدم الامان من الْمضرَّة فِيهِ كالخوض فِي الرّوح وَالنَّفس وانهما شَيْء وَاحِد أَو شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ فان أدلتهم فِي ذَلِك كُله ضَعِيفَة ظنية وَأحسن مَا يستدلون بِهِ فِي ذَلِك هُوَ التلازم وَلَيْسَ من الْأَدِلَّة القاطعة وَقد اخْتَار ابْن متويه وَالْحَاكِم مِنْهُم وَغَيرهمَا أَن الرّوح هُوَ النَّفس الْجَارِي بِفَتْح الْفَاء لأجل التلازم فوهموا وهما فَاحِشا فان الْجَنِين فِي بطن أمه لَا يتنفس بعد حَيَاته وَنفخ الرّوح فِيهِ بِالنَّصِّ والحس بل حَيَوَان المَاء لَا يتنفس فِيهِ وَلَو سلم لَهُم جَوَاز دوَام التلازم لم يكن حجَّة قَاطِعَة على اتِّحَاد النَّفس وَالروح فليحذر الْخَوْض فِي أَمْثَال ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلما تقدم من كَلَام الْمُؤَيد بِاللَّه فِي ذَلِك وَقد وَافق الْمُؤَيد بِاللَّه على ذَلِك خلائق من أَئِمَّة العترة والامة كَمَا ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي كتاب الْجُمْلَة والالفة وَحكى الْحَاكِم المعتزلي فِي مُخْتَصر لَهُ جلي فِي معرفَة الله أَن جَعْفَر بن مُبشر وجعفر بن حَرْب من أَئِمَّة الْكَلَام رجعا عَن الْخَوْض فِي دقيقه وَقد بَالغ الْغَزالِيّ فِي احياء عُلُوم الدّين وَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بِذكر ذَلِك وَهُوَ مَعْرُوف فِي موَاضعه وَإِنِّي لما رَأَيْت طَرِيق النجَاة من علم الْكَلَام مِمَّا لَا يجْتَمع عَلَيْهَا أهل الْكَلَام دع غَيرهم ورأيتها ان كَانَت طَرِيقا صَحِيحَة فانها متوقفة وَلَا بُد على التَّحْقِيق فِيهِ والبحث العميق عَن الطَّائِفَة وخوافيه المودعة فِي علم اللَّطِيف الَّذِي تذكره ابْن متويه من مختصراته وجلياته وَمُلَخَّص الرَّازِيّ من موجزاته ومتوسطاته وأئمة أَهله أعي علم الْكَلَام فِي غَايَة المباعدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والمنافاة حَتَّى أَن الشَّيْخ أَبَا الْحُسَيْن ذكر أَنه يَكْفِي فِي معرفَة بطلَان مَذَاهِب أَصْحَابه البهاشمة من الْمُعْتَزلَة مُجَرّد معرفَة مقاصدهم مَعَ أَنهم الْجَمِيع من أَئِمَّة الاعتزال هَذَا مَعَ وُقُوع كثير من أَئِمَّة الْكَلَام فِي الشَّك والحيرة فَلَمَّا عرفت ذَلِك كُله علمت من غير شكّ صعوبة معرفَة طَرِيق النجَاة من هَذَا الْفَنّ على الاكثرين وَقد ألهم الله تَعَالَى وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء إِلَى أسهل طَرِيق وأخصره فِي علمي إِلَى الْيَقِين والنجاة ونصرة طَرِيق الصَّحَابَة وَالسَّلَف الَّتِي علم تقريرهم عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَهِي فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا وَإِنَّمَا عنيت فِي توضيحها وتجديدها بعد درسها ومداواة مَا قد وَقع من تَغْيِير المغيرين لَهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الحَدِيث فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ) كَمَا تقدم وَبَيَان ذَلِك أَنِّي تَأَمَّلت جَمِيع الِاخْتِلَاف الْوَاقِع بَين النَّاس من الْملَل الكفرية وَالْفرق الاسلامية فَإِذا هُوَ على كثرته وتشعبه يرجع فِي الْجُمْلَة إِلَى سَبْعَة أَشْيَاء مدركها بالفطرة قريب بعون الله تَعَالَى بل هِيَ فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا أَولهَا اثبات الْعُلُوم الضرورية الَّتِي يبتني الاسلام على ثُبُوتهَا وَثَانِيها ثُبُوت الرب عز وَجل وَثَالِثهَا توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَابِعهَا كَمَاله بأسمائه الْحسنى وخامسها ثُبُوت النبوات وصحتها فِي الْجُمْلَة وسادسها الايمان بجميعهم وَعدم التَّفْرِيق بَينهم وسابعها ترك الابتداع فِي دينهم بِالزِّيَادَةِ على مَا جاؤا بِهِ وَالنَّقْص مِنْهُ فاذا تَأَمَّلت هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة بالفطرة الأولى السليمة من التَّغْيِير بالعادات والطوارئ الْمُغيرَات لم تشك أَن الْخطر الْمخوف من عِقَاب الْآخِرَة مَأْمُون فِي جَمِيعهَا وَأما السِّتَّة الأولى فمجموعها هُوَ دين الاسلام الَّذِي فطر الله عباده على مَعْرفَته وَالْخلاف فِي كل وَاحِد مِنْهَا كفر يجمع عَلَيْهِ والأدلة عَلَيْهَا جلية وفاقية بَين الْمُسلمين وَلَا يُمكن وجود أحوط مِنْهَا وَلَا أولى وَأَحْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا} وَأما السَّابِع وَهُوَ عدم الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الدّين فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الْعِصْمَة من الْبدع المفرقة بَين الْمُسلمين وَهُوَ لَاحق بِمَا قبله فِي ثُبُوته فِي الْفطْرَة مَعَ اضطرار كَارِه الْبِدْعَة اليه لَكِن لَا يثبت فِيهِ التَّكْفِير غَالِبا كَمَا ياتي شَرحه فِي مَوْضِعه وسر هَذَا الْكَلَام أَن الْعَذَاب الْأَكْبَر مخوف فِي الْمُخَالفَة لأحد هَذِه الْقَوَاعِد السَّبْعَة الجليلة وَالْعقل والسمع مجتمعان على حسن السَّعْي فِي دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز لمستوى الطَّرفَيْنِ وَوُجُوب السَّعْي فِي دفع المضار الْمَطْلُوبَة وَوُجُوب السَّعْي فِي الِاحْتِيَاط فِي ذَلِك وَهَذَا مَعْلُوم فِي فطر الْعُقَلَاء وَمَعَ كَونه معقولا فقد ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمُبين وَذكر الْعُقَلَاء بِهِ إِن كَانُوا عَنهُ غافلين فَقَالَ فِي ذَلِك رب الْعَالمين {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي شقَاق بعيد} وَقَالَ عز وَجل فِي آيَة أُخْرَى {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله فَآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقَالَ سُبْحَانَهُ حِكَايَة عَن خَلِيله إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ} {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم} وَمِنْه مَا حَكَاهُ الله تَعَالَى عَن مُؤمن آل فِرْعَوْن من قَوْله {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} وَفِي مَعْنَاهُ قَوْله تَعَالَى أَيْضا {وَيَا قوم مَا لي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار} الْآيَات وَهُوَ بَين فِي هَذَا الْمَعْنى لِأَن السَّلامَة متحققة فِي الايمان والخطر مَأْمُون فِيهِ والمهالك مخوفة فِي مُخَالفَته وَقد أحسن كل الاحسان فِي دُعَاء قومه وَلذَلِك حكى الله تَعَالَى حسن احتجاجه عَلَيْهِم فَيَنْبَغِي تَأمله وَالِانْتِفَاع بِهِ وَلذَلِك أتبع الله الْبُرْهَان بالتخويف بِالْمَوْتِ الضَّرُورِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والمعاد إِلَيْهِ النظري فِي قَوْله تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} فان الْكفْر مَعَ مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور أنكر الْكفْر وأفحشه فان الْبَرَاهِين تَكْفِي العارفين والمخاوف توقظ نيام الغافلين وتلين قساوة العاتين الماردين وَمَعَ ذَلِك تقوى دواعي العارفين وتقاوم وساوس الشَّيَاطِين وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وماذا عَلَيْهِم لَو آمنُوا بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَهَذَا الْقدر أَعنِي الدُّخُول فِي الاسلام على جِهَة الِاحْتِيَاط من غير علم بِصِحَّتِهِ بالأدلة يحصل أدنى مَرَاتِب الاسلام عِنْد كثير من عُلَمَاء الاسلام كمن لَا يكفر المقلدين لأهل الْحق وَمن يَقُول المعارف ضَرُورِيَّة وَغَيرهم وحجتهم على ذَلِك أُمُور مِنْهَا تَقْرِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للعامة وَقبُول الشَّهَادَة مِنْهُم وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم} وَآخر الْآيَة حجَّة حَسَنَة على ذَلِك وَمِنْهَا مَا صَحَّ واشتهر وتواتر فِي أَحَادِيث الشَّفَاعَة من تَقْرِير إِيمَان الْمَشْفُوع لَهُم بمثاقيل الذَّر وَأدنى أدنى أدنى من ذَلِك أَلا ترى أَنَّك تخَاف الْعَذَاب على الْمُخَالفَة فِي كل وَاحِد من هَذِه السَّبْعَة الْأُمُور وَلَا تخَاف الْعَذَاب بالْقَوْل بِوَاحِد مِنْهَا وَلَا تَجِد أحوط مِنْهَا وَلَا أنجى فَحِينَئِذٍ علمت بالفطرة علما قَرِيبا جليا تطمئِن بِهِ الْقُلُوب وتؤمن مَعَه من الْمخوف الْأَعْظَم إِنَّه لَا يُمكن أَن يُوجد أصح وَلَا أنجى من المخاوف من دين الاسلام ومتابعة مُحَمَّد أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلاحظت فِي هَذَا الْمُخْتَصر هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة وأشبعت الْكَلَام فِيهَا ونصرتها بجهدي وَغَايَة مَا فِي قدرتي من الْعبارَات الْوَاضِحَة وَضرب الْأَمْثَال الْبَيِّنَة ثمَّ الْآيَات والْآثَار وَإِن تَكَلَّمت فِي نصرتها من عِنْدِي متميزة بأنفسها غير ملتبسة بكلامي فَمَا أَخْطَأت فِيهِ من كَلَامي وخالفها فعلى كل مُسلم رده واجتنابه ومتابعتها دونه فانما قصدي نصرتها لَا مخالفتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فَمَا أصبت فِيهِ فَمن الله سُبْحَانَهُ وَله فِيهِ الْمِنَّة وَالْحَمْد وَالشُّكْر وَالثنَاء وَمَا أَخْطَأت فِيهِ فالذنب مني وَعلي فِيهِ الْبَرَاءَة مِنْهُ وَالتَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار والتحذير وَأَشد الْكَرَاهَة لَا فرق بَين كَرَاهَة مَا صدر مني من الْبدع وَمَا صدر من غَيْرِي بل يجب أَن أكون أَشد كَرَاهِيَة لما صدر مني لِأَن الصَّادِر مني ذَنبي يضرني وأآخذ بِسَبَبِهِ وَالله تَعَالَى يسلمني من الْبدع والذنُوب وَيغْفر لي مَا أَخْطَأت فِيهِ إِنَّه وَاسع الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل لَكِن المحامي عَن السّنة الذاب عَن حماها كالمجاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى يعد للْجِهَاد مَا اسْتَطَاعَ من الْآلَات وَالْعدة وَالْقُوَّة كَمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَعَ حسان بن ثَابت يُؤَيّدهُ مَا نافح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أشعاره فَكَذَلِك من ذب عَن دينه وسنته من بعده إِيمَانًا بِهِ وحبا وَنصحا لَهُ ورجاء أَن يكون من الْخلف الصَّالح الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عَدو لَهُ ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وَالْجهَاد بِاللِّسَانِ أحد أَنْوَاع الْجِهَاد وسبله فِي الحَدِيث (أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر) وَقد أحسن من قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى شعرًا (جاهدت فِيك بِقَوْلِي يَوْم يخْتَصم الْأَبْطَال ... أذفات سَيفي يَوْم يمتصع) (إِن اللِّسَان لوصال إِلَى طرق ... فِي الْحق لَا تهتديها الذبل السرع) وَقد ذكر الْغَزالِيّ فِي المنقذ من الضلال أَن الطالبين لليقين ثَلَاث طوائف مِنْهُم أهل الرياضة للقلوب بتصفيتها بالاقبال على الله تَعَالَى وَترك مَا عداهُ والتخلق بالأخلاق الْمجمع على حسنها من الزّهْد وَالصَّبْر والتوكل وَالرِّضَا وَالْعَفو وَوضع النَّفس قلت إِلَى سَائِر مَا ذَكرُوهُ من أَخْلَاقهم وأحوالهم ومقاماتهم فِي عوارف المعارف وَغَيره وَهَذَا لَا يُمكن اكتسابه بالتصنيف إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ فَمن عمل على مُوَافقَة السّنة وَاجْتنَاب الْبِدْعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كَانَ هَذَا الْمُخْتَصر وَأَمْثَاله من بداياته الَّتِي تعينه على مقْصده وتوصله إِلَى مُرَاده لأَنهم أَجمعُوا على أَن الشَّرِيعَة لمعارفهم كاللبن للزبد وَمن لَا لبن لَهُ لَا زبد لَهُ وَهَذِه الْمُقدمَة للشريعة وتصفية الْقُلُوب المشبهين بِاللَّبنِ والزبد بِمَنْزِلَة الرّوح الَّذِي لولاها لما كَانَ الْحَيَوَان وَلَا الزّبد وَلَا اللَّبن وَلكنهَا حَاصِلَة فِي الِابْتِدَاء بالفطرة من الله سُبْحَانَهُ وَله الْحَمد فَمن كملت فِيهِ وسلمت من التَّغْيِير لم يحْتَج إِلَى شَيْء من هَذَا وان نظر فِيهِ قوي مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْفطْرَة بِمَنْزِلَة السَّقْي لما يشرب بعروقه من الْبَحْر فانه لَا يحْتَاج السَّقْي فان سقِِي زَاده قُوَّة وريا والطائفة الثَّانِيَة مِمَّن ذكر الْغَزالِيّ أهل التَّعْلِيم من الامامية وَغَيرهم فانهم زَعَمُوا أَن الْعُقُول لَا تفي بالمعرفة من غير تَعْلِيم الامام الْمَعْصُوم وَلذَلِك تَجِد طالبي المعارف النظرية الْعَقْلِيَّة يتعلمون ذَلِك من شيوخهم وَلَا يُمكن بالتجارب أَن يسْتَقلّ أحدهم بنظره وعقله من غير شيخ ثمَّ يَأْتِي بِتِلْكَ القوانين المتقنة مجودة سَالِمَة من المطاعن وَعِنْدهم أَن هَذَا من التجريبات الضروريات وَقد جود الْغَزالِيّ الرَّد عَلَيْهِم فِي المنقذ من الضلال وَكفى وشفى ثمَّ قَالَ وعَلى تَسْلِيم مَا ذَكرُوهُ فَنحْن نلتزمه وَلَا يضرنا لَكِن امامنا الْمَعْصُوم هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَوته لَا يضرنا كَمَا أَن غيبَة امامهم لَا تضر عِنْدهم بل حَالنَا أولى فان امامنا الْمَعْصُوم مَاتَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد كَمَال التَّعْلِيم وامامهم غَابَ عَنْهُم قبل ذَلِك وَفِي هَذَا الْمُخْتَصر من التَّعْلِيم النَّبَوِيّ الصَّحِيح الْمُتَوَاتر وَالصَّحِيح الْمَشْهُور مَا لَا يُوجد فِي أَمْثَاله والطائفة الثَّالِثَة أهل النّظر وَقد جمعت فِي هَذَا الْمُخْتَصر صفوة أنظارهم وخلاصة أدلتهم ونقاوتها وقصدت تقويتها ورسوخ الْيَقِين فِيهَا بِجمع شواهدها وبراهينها الجلية الْقَرِيبَة الغاسلة لأدران الشكوك والريبة النَّازِلَة من أهل الايمان بِمَنْزِلَة المَاء القراح من العطشان الْمَشْهُورَة بَين أهل الْبَيْت الطيبين وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر السّلف الصَّالِحين الَّتِي لَا يجر الْخَوْض فِيهَا إِلَى شَيْء من الْبِدْعَة وَلَا المخاطرة فِي الدّين وَلَا يُمكن أَن يكون فِيهَا شَيْء غَيره أحوط مِنْهُ فِي علمي وَالله الْمُسْتَعَان والمستغاث وَالْهَادِي سُبْحَانَهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وَاعْلَم أَنِّي بنيت هَذَا الْمُخْتَصر على بَيَان الْحق وَتَقْرِيره فِي هَذِه الْأُمُور السَّبْعَة لَا سواهَا وَمَا زَاد على ذَلِك من مواهب الله وعوارفه ومعارفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وبدائع لطائفه فَلَيْسَ بمقصود لي الْكَلَام عَلَيْهِ وَلَا أَعتب على من خالفني فِي شَيْء مِنْهُ وَلَا يعاب التَّقْصِير فِيهِ فان التَّطْوِيل فِي الْأُمُور الْعَارِضَة يخرج عَن الْمَقْصُود كَمَا ذَلِك مَعْرُوف وَإِنَّمَا قصرت الاهتمام على هَذِه الامور السَّبْعَة لِأَنَّهَا الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا كَمَا تطابق عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالسّنة وَفِي ذَلِك دلَالَة على أَنَّهَا تَكْفِي الْعَاميّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل المعارف مَا لم تعرض لَهُ شُبْهَة قادحة فيتمكن من حلهَا على طَرِيق السّلف الْقَرِيبَة الجلية كَمَا نذكرهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَعَ الدُّعَاء واللجأ إِلَى الله تَعَالَى وَمَا أقرب نفع هَذَا مَعَ خلق الله الْقُلُوب على الْفطْرَة وَكَثْرَة مواد هدايته كَمَا ذكره فِي آيَة النُّور وَقَالَ الله تَعَالَى {إِن علينا للهدى} فأكد ذَلِك بمؤكدين اثْنَيْنِ كَمَا تَقول أَن زيدا لقائم وَقَالَ {وعَلى الله قصد السَّبِيل} هَذَا لِلْخلقِ عُمُوما وَلِلْمُؤْمنِينَ خُصُوصا {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا يُؤْتى أَكثر الْخلق من كفرهم بآيَات الله الْبَيِّنَة وبطلبهم غَيرهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} فليحذر ذَلِك كل الحذر من عدم القنوع بِمَا قنع بِهِ السّلف من حجج الله تَعَالَى وياله من تخويف شَدِيد ووعيد عَظِيم ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا الْمُخْتَصر لَا يصلح إِلَّا لمن وضع لَهُ كَمَا أَن الدَّوَاء الْخَاص بألم خَاص لَا يصلح لكل ألم وَلَا لكل أَلِيم فَمن كَانَ يحْتَاج الْبسط إِلَّا الحوافل الْكِبَار من مصنفات المصنفين من أذكياء النظار وَقد يكون فِي هَذَا الْمُخْتَصر الاشارة إِلَى تِلْكَ الْكتب الحافلة والتنبيه عَلَيْهَا لمن يحْتَاج إِلَى ذَلِك وَالدَّال على الْخَيْر كفاعله وَلَكِن لكل مقَام مقَال وَلكُل مجَال رجال والكتب البسيطة فِي علم اللَّطِيف لَا تصلح لمن يخَاف عَلَيْهِ من السبه كَمَا أَن السباحة فِي لجج الْبحار لَا تصلح إِلَّا لأهل الرياضة التَّامَّة فِي ذَلِك بعد طول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 التجارب وَأَرْجُو إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن لَا يَخْلُو هَذَا الْمُخْتَصر من أحد الْمعَانِي الثَّمَانِية الَّتِي تصنف لَهَا الْعلمَاء بل من كل وَاحِد مِنْهَا وَهِي اختراع مَعْدُوم أَو جمع مفترق أَو تَكْمِيل نَاقص أَو تَفْصِيل مُجمل أَو تَهْذِيب مطول أَو تَرْتِيب مخلط أَو تعْيين مُبْهَم أَو تَبْيِين خطأ كَذَا عدهَا أَبُو حَيَّان وَتمكن الزِّيَادَة فِيهَا وَإِنَّمَا جمعت هَذَا الْمُخْتَصر الْمُبَارك إِن شَاءَ الله تَعَالَى لمن صنفت لَهُم التصانيف وعنيت بهدايتهم الْعلمَاء وهم من جمع خَمْسَة أَوْصَاف معظمها الاخلاص والفهم والانصاف وَرَابِعهَا وَهُوَ أقلهَا وجودا فِي هَذِه الاعصار الْحِرْص على معرفَة الْحق من أَقْوَال الْمُخْتَلِفين وَشدَّة الدَّاعِي إِلَى ذَلِك الْحَامِل على الصَّبْر والطلب كثيرا وبذل الْجهد فِي النّظر على الانصاف ومفارقة العوائد وَطلب الاوابد فان الْحق فِي مثل هَذِه الاعصار قَلما يعرفهُ إِلَّا وَاحِدًا بعد وَاحِد وَإِذا عظم الْمَطْلُوب قل المساعد فان الْبدع قد كثرت وَكَثُرت الدعاة اليها والتعويل عَلَيْهَا وطالب الْحق الْيَوْم شَبيه بطلابه فِي أَيَّام الفترة وهم سلمَان الْفَارِسِي وَزيد بن عَمْرو بن نفَيْل وأضرابهما رحمهمَا الله تَعَالَى فانهم قدوة الطَّالِب للحق وَفِيهِمْ لَهُ أعظم أُسْوَة فانهم لما حرصوا على الْحق وبذلوا الْجهد فِي طلبه بَلغهُمْ الله إِلَيْهِ وأوقفهم عَلَيْهِ وفازوا من بَين العوالم الجمة فكم أدْرك الْحق طَالبه فِي زمن الفترة وَكم عمي عَنهُ الْمَطْلُوب لَهُ فِي زمن النُّبُوَّة فَاعْتبر بذلك واقتد بأولئك فان الْحق مَا زَالَ مصونا عَزِيزًا نفيسا كَرِيمًا لَا ينَال مَعَ الاضراب عَن طلبه وَعدم التشوف والتشوق إِلَى سَببه وَلَا يهجم على المبطلين المعرضين وَلَا يفاجئ أشباه الانعام الغافلين وَلَو كَانَ كَذَلِك مَا كَانَ على وَجه الأَرْض مُبْطل وَلَا جَاهِل وَلَا بطال وَلَا غافل وَقد أخبر الله تَعَالَى أَن ذَرْء جَهَنَّم هم الغافلون فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مَا أعظم الْمُصَاب بالغفلة والمغتر بطول المهلة وَمن أعجب الْعَجَائِب دَعْوَى المقلدين للمعارف وَدَعوى المتعصبين للانصاف وأمارة ذَلِك أَنَّك تَجِد العوالم الْكَثِيرَة فِي لطائف المعارف الْمُخْتَلف فِيهَا على رَأْي رجل وَاحِد من القدماء فِي الامصار العديدة والاعصار المديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فَلَو كَانُوا فِي ترك التَّقْلِيد كالأوائل لاشتد اخْتلَافهمْ فِي الدقائق وَلم يتفقوا على كثرتهم وَطول أزمانهم وتباعد بلدانهم وَاخْتِلَاف فطنهم كَمَا قَضَت بذلك العوائد الْعَقْلِيَّة الدائمة وَلَو كَانَ الْجَامِع لفرقتهم مَعَ كثرتهم هُوَ الْوُقُوف على الْحَقَائِق فِي تِلْكَ الدقائق لكانوا أَكثر من مشايخهم الاقدمين علما وتحقيقا وانصافا وتجويدا لَكِن الْمَعْلُوم خلاف ذَلِك فاياك أَن تسلك هَذِه المسالك فان نشأة الانسان على مَا عَلَيْهِ أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صَنِيع أسقط النَّاس همة وأدناهم مرتبَة فَلم يعجز عَن ذَلِك صبيان النَّصَارَى وَالْيَهُود وَلَا ربات القدود والنهود المستغرقات فِي تمهيد المهود وَهَذِه هَذِه فأعطها حَقّهَا وَانْظُر لنَفسك وانج بهَا وطالع قصَّة سلمَان الْفَارِسِي وَأَضْرَابه وَانْظُر كَيفَ كَانَ صبرهم واعرف قدر مَا أَنْت طَالب فانك طَالب لأعلى الْمَرَاتِب قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} وَقَالَ فِي الْأُخْرَى {وسعى لَهَا سعيها} وَقَالَ {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ} وَلَيْسَ فِي الْوُجُود بأسره أعز وَلَا أفضل من الْإِيمَان بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله ومتابعتهم وَمَعْرِفَة مَا جاؤا بِهِ فَلَا تطلب ذَلِك أَهْون الطّلب فَإِنِّي أرى الْأَكْثَرين لَا يرضون بِالْغبنِ وَالنَّقْص فِي بيع بعض السّلع وَأرى طَالب الأرباح الدُّنْيَوِيَّة يطْلبهَا أَشد الطّلب من أبعد الأقطار بأشق الْأَسْفَار وَأما طَالب الكيمياء والسيمياء فَإِنَّهُ يبْذل فِي طلبهما مَا دون الرّوح بل يرتكب بعض الأخطار والمتالف الْكِبَار مَعَ أدنى تَجْوِيز للسلامة بل عدم التجويز أَيْضا عِنْد ملكة هَوَاهُ لَهُ وَغَلَبَة ظَنّه بِأَنَّهُ يدْرك مَا أَرَادَ ويبلغ مَا قَصده ويصل إِلَى مَا إِلَيْهِ سعى وَلكم من منفق غضارة عمره ونضارة شبابه وَأَبَان أَيَّامه فِي ذَلِك وَإِنَّمَا طولت القَوْل فِي هَذَا لِأَنِّي علمت بالتجربة الضرورية فِي نَفسِي وغيري أَن أَكثر جهل الْحَقَائِق إِنَّمَا سَببه عدم الاهتمام بتعرفها على الْإِنْصَاف لَا عدم الْفَهم فَإِن الله وَله الْحَمد قد أكمل الْحجَّة بالتمكين من الْفَهم وَإِنَّمَا أَتَى الْأَكْثَر من التَّقْصِير فِي الإهتمام أَلا ترى أَن المهتمين بمقاصد المنطقيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والمتكلمين يفهمونها وَإِن دقَّتْ مَعَ الصَّبْر وَطول الطّلب فَكيف لَا يفهم طَالب الْحق مَقَاصِد الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالسَّلَف الصَّالِحين مَعَ الاهتمام بذلك وبذل الْجهد فِي طلبه وَحسن الْقَصْد ولطف أرْحم الرَّاحِمِينَ لمن هُوَ كَذَلِك بالنصوص والاتفاق وَلَا يَنْبَغِي أَن يصغي إِلَى من يصده عَن كتب الله وَمَا أنزل فِيهَا من الْهدى والنور رَحْمَة للْمُؤْمِنين ونعمة على الشَّاكِرِينَ وليحذر كل الحذر من زخرفتهم للعبارات فِي ذَلِك وترغيبهم بأنواع المرغبات فِي تِلْكَ المسالك وليعتبر فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى لرَسُوله الْمَعْصُوم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لتفتري علينا غَيره وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا} ويالها من موعظة موقظة لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولتعرف أهل الزيغ بذلك وَأهل الْحق بحلافه فَإِنَّهُم كَمَا وَصفهم رَبهم عز وَجل فِي قَوْله {وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} وَلَا يَنْبَغِي أَن يستوحش الظافر بِالْحَقِّ من كَثْرَة الْمُخَالفين لَهُ كَمَا لَا يستوحش الزَّاهِد من كَثْرَة الراغبين وَلَا المتقي من كَثْرَة العاصين وَلَا الذاكر من كثر الغافلين بل يَنْبَغِي مِنْهُ أَن يستعظم الْمِنَّة باختصاصه بذلك مَعَ كَثْرَة الْجَاهِلين لَهُ الغافلين عَنهُ وليوطن نَفسه على ذَلِك فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إِن هَذَا الدّين بدا غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا بَدَأَ فطوبى للغرباء) رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَعبد الله بن أَحْمد من حَدِيث أنس وروى البُخَارِيّ نَحوه بِغَيْر لَفظه من حَدِيث ابْن عمر وَعَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ أفضل السَّلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (طلب الْحق غربَة) رَوَاهُ الْحَافِظ الْأنْصَارِيّ فِي أول كِتَابه منَازِل السائرين إِلَى الله من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه عَن جده وَقَالَ هَذَا حَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 غَرِيب لم أكتبه عَالِيا إِلَّا من رِوَايَة عَلان وَلذَلِك شَوَاهِد قَوِيَّة عَن تِسْعَة من الصَّحَابَة ذكرهَا الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد فنسأل الله أَن يرحم غربتنا فِي الْحق وَيهْدِي ضالنا وَلَا يردنا من أَبْوَاب رجائه ودعائه وَطَلَبه محرومين إِنَّه مُجيب الداعين وهادي المهتدين وأرحم الرَّاحِمِينَ فَإِن قيل قد دلّ السّمع كتابا وَسنة على أَن دين الاسلام هُوَ الْفطْرَة المخلوقة وَطلب ذَلِك هُوَ تَحْصِيل الْحَاصِل فَمَا هَذَا التهويل قلت لِأَنَّهُ قد اشْتَدَّ تغييرها وصلاحها بعد شدَّة التَّغْيِير عسير فَهِيَ كالعافية والتغيير كالأمراض الَّتِي اخترنا أَسبَابهَا فاشتدت وتمكنت حَتَّى عسر علاجها وَهَذَا الْمُخْتَصر وَأَمْثَاله كأدوية تَنْفَع من لم يستحكم عَلَيْهِ التَّغْيِير دون من استحكم عَلَيْهِ وَلَا يحتاجها الْمعَافى وَيدل على ذَلِك حَدِيث حزَام بن حَكِيم ابْن حزَام عَن أَبِيه وَعَمه أَن الْعِبَادَة فِي صدر الاسلام أفضل من الْعلم وَأَن الْعلم فِي آخر الْأَمر أفضل من الْعِبَادَة كَمَا سَيَأْتِي قُوَّة اسنادها وموافقتها فِي الْمَعْنى للنَّظَر الْعقلِيّ ياتيان فِي بَيَان فضل الْعلم النافع وخامسها وَهُوَ اصعبها الْمُشَاركَة فِي الْعلم أَو فِي التَّمْيِيز والفهم لأهل الطَّبَقَة الْوُسْطَى وَمن يقاربهم فِي الْمنزلَة حَتَّى يتَمَكَّن بذلك من مَعْرفَته مِقْدَار مَا يقف فِي هَذَا الْمُخْتَصر من الْفَوَائِد من غير تَقْلِيد فيرغب فِيهِ أَو يزهد حِين يقيس على مَا يألف ويعهد لِأَنَّهُ لَا يعرف مِقْدَار الشَّيْء إِلَّا ذُو بَصِيرَة يعرف أَن لَهُ أجناسا كَثِيرَة فيقيسها إِلَيْهِ أَو يقيسه إِلَيْهَا فيفضلها عَلَيْهِ ويفضله عَلَيْهَا وذكي الْقلب يتَمَكَّن من ذَلِك وَإِن لم يسْلك تِلْكَ المسالك لَكِن بِكَثْرَة الْمَسْأَلَة لأهل المعارف والمقايسة بَين المصنفات لعارف عَارِف وَإِلَّا كَانَ الْوَاقِف عَلَيْهِ مثل من لَا يعرف الْجَوَاهِر الثمينة والفصوص النفيسة يجد فصا عَظِيم الْمِقْدَار فيضيعه أَو يَبِيعهُ بِثمن نزر فقد بيع يُوسُف الصّديق بذلك حِين لم يُوقف لَهُ على قدر فَإِن عرضت لطَالب الْحق محنة لم يتطير بِطَلَب الْحق فَيكون من الَّذين يعْبدُونَ الله على حرف وليثق بِقرب الْفرج ويتوكل على الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {فتوكل على الله إِنَّك على الْحق الْمُبين} وَعلم وأيقن أَن الله مَعَ الصابرين وَمَعَ الصَّادِقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَأَن الله نَاصِر من ينصره وذاكر من يذكرهُ وَأَن سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْأُمُور عَائِد على متبعيه وَنَصره شَامِل لناصريه وَلم أقصد بِهَذَا الْمُخْتَصر هِدَايَة أهل الْيَقِين التَّام من الْأَوْلِيَاء الْكِرَام أهل الْكَمَال فِي المعارف من الْعلمَاء الاعلام وَلَا هِدَايَة أَئِمَّة الْكفْر المعاندين لأهل الاسلام أما أهل الْكَمَال فِي الْعلم الَّذين بلغُوا مرتبَة الامامة الْكُبْرَى فِي علمي الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَأهل الْيَقِين التَّام من الْأَوْلِيَاء الْكِرَام نفع الله بهم فَإِن مهْدي هَذَا الْمُخْتَصر إِلَى معارفهم كمهدي الحشف إِلَى هجرأ ونجران بل كمهدي الحضيض إِلَى أهل الدّرّ والعقيان وَإِن كَانَ قد ينزل عِنْد بَعضهم منزلَة فَاكِهَة الْبَادِيَة الطرية الْبَريَّة الَّتِي هِيَ من العلاجات الحضرية بريه فَإِنَّهَا قد تعجب أهل الْحَاضِرَة وَإِن كَانَت عَمَّا لديهم فِي النفاسة قَاصِرَة وَأما أَئِمَّة الْكفْر والسفه والتعلق بمذاهب الفلسفة فهم كمن استحكم الدَّاء عَلَيْهِ فَلَا تَنْفَعهُ الْأَدْوِيَة النافعة فالداعي لَهُم إِلَى حق حقائق الْإِيمَان وَإِن جَاءَ بأعظم برهَان فِي الْيَأْس مِنْهُم وَعدم الطمع فيهم كالداعي للعميان إِلَى النُّور وللأموات إِلَى الْخُرُوج من الْقُبُور وَكَيف الطمع فِي هِدَايَة قوم قد أَقَامَ رَبهم عَلَيْهِم الْحجَّة مرَارًا أَولهَا بخلقهم على الْفطْرَة وَثَانِيها بطول المهلة وَثَالِثهَا ببعثه الرُّسُل بالمعجزات الباهرة والآيات الظَّاهِرَة إِلَى غير ذَلِك من تَجْدِيد الدَّلَائِل بِخلق الْمَخْلُوقَات الْمشَاهد حدوثها من الْغَمَام والأمطار وَالْحَيَوَان وَالْأَشْجَار فجحدوا الْجَمِيع وَكَفرُوا الْكفْر الفظيع مَعَ إِيمَانهم بأبطل البواطل الَّتِي لَا يتَصَوَّر الْإِيمَان بِمِثْلِهَا من عَاقل حَتَّى قَالَ الله تَعَالَى فيهم {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَقَالَ تَعَالَى فيهم {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} الْآيَات وَقَالَ تَعَالَى {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} ثمَّ أخبر عَنْهُم علام الغيوب أَنهم يجادلون فِي الْقِيَامَة بعد بَعثهمْ وعلمهم الضَّرُورِيّ بِصِحَّة الربوبية فيجحدون الْحق حَتَّى تشهد عَلَيْهِم جُلُودهمْ ثمَّ يَقُولُونَ بعد ذَلِك لم شهدتم علينا وَلذَلِك لم نؤمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 بِإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم لِأَن الله قد أَقَامَهَا وَإِنَّمَا أمرنَا بجهادهم ودعائهم قبل قبل الْجِهَاد على خلاف فِي الدُّعَاء قبل الْجِهَاد مَوْضِعه كتب الْفِقْه الفرعية وَلَا قصدت بِهَذَا الْمُخْتَصر تفهيم من لَيْسَ يفهم فَأَكُون كمستولد الْعَقِيم أَو مقوم ظلّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَقِيم وَكَيف يقوم الظل وَالْعود أَعْوَج وَإِنَّمَا قصدت نفع الأوساط وامتثال أَمر الله تَعَالَى فقد أَمر الله تَعَالَى بالمعاونة على الْبر وَالتَّقوى وَصَحَّ التَّرْغِيب فِي الدُّعَاء إِلَى الْحق وَالْخَيْر وَإِن الدَّاعِي إِلَى ذَلِك يُؤْتى مثل أجور من اتبعهُ وَمن أَحْيَا نفسا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا وَإِن من أَمر بالصلاح ابْتِغَاء مرضات الله وَإِن لم يطع فَسَوف يؤتيه الله أجرا عَظِيما وَفِي حَدِيث أنس عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من رجل ينعش بِلِسَانِهِ حَقًا يعْمل بِهِ إِلَّا جرى عَلَيْهِ أجره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ وفاه الله ثَوَابه يَوْم الْقِيَامَة) رَوَاهُ أَحْمد وَسَنَده جيد وَهُوَ من مُسْند أنس من جَامع المسانيد بل قد أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سُورَة الْعَصْر وَقصر السَّلامَة من الخسر على الَّذين آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين ثمَّ إِنِّي غير مُدع للعصمة من الْخَطَأ والمناقضة وَلَا أَدعِي ذَلِك من هُوَ أجل مني وأكمل وَأعلم وَأفهم من جَمِيع الْعلمَاء بل الْعُقَلَاء وَقد قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْكَرِيم {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَدلَّ على لُزُوم ذَلِك لما كَانَ من عِنْد غير الله فَمن وجد خطأ فلينبه عَلَيْهِ مأجورا وَالْقَصْد المعاونة على الْخَيْر وفْق الله الْجَمِيع على مَا يحب ويرضى وَاعْلَم أَنِّي رَأَيْت المصنفين فِي علم العقيدة الدِّينِيَّة قد سلكوا مَسْلَك سَبِيل مصنفي كتب الْمذَاهب الَّتِي ينتصر فِيهَا المُصَنّف لمَذْهَب وَاحِد فِي الْقوي والضعيف والدقيق والجلي وَلم يسْلك أحد مِنْهُم مَسْلَك مصنفي كتب الْإِسْلَام الَّتِي تذكر فِيهَا مَذَاهِب أهل الْملَّة الإسلامية وَيُقَوِّي فِيهَا مَا قوته الدَّلَائِل البرهانية سَوَاء كَانَ لقريب أَو بعيد أَو صديق أَو بغيض وَكتب العقائد أَحَق بسلوك هَذَا المسلك من كتب الْفُرُوع فَأَما كَون الْحق فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 مَعَ وَاحِد فَصَحِيح وَلَكِن لَا يسْتَلْزم أَن يكون الصَّوَاب فِي جَمِيع الْمَوَاضِع المتفرقة قد اجْتمع لبَعض الْفرق إِلَّا مَا حصل فِيهِ أحد الاجماعات القاطعة من الْأَئِمَّة والعترة فَيجب التَّرْجِيح لَهُ والنصرة فاستخرت الله تَعَالَى وقصدت احياء هَذِه السّنة الْميتَة الَّتِي هِيَ ترك العصبية وَلذَلِك سميته إِيثَار الْحق على الْخلق جعله الله اسْما مُوَافقا لمسماه ولفظا مطابقا لمعناه وجدير أَن يكون فِيهِ مَا يسْتَدرك عَليّ فَإِن كل أسلوب ابتدئ لَا يكمل إِلَّا بمعاونة جمَاعَة وتتابعهم عَلَيْهِ وتكميل الْمُتَأَخر لما أهمل الْمُتَقَدّم وَلذَلِك كَانَت أَوَائِل كل علم وأسلوب قَليلَة أَو نَاقِصَة فليبسط الْعذر الْوَاقِف على مَا يسْتَدرك فِيهِ لما كَانَ أسلوبا غَرِيبا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الازمنة الْمُتَأَخِّرَة وَاعْلَم أَنه لَيْسَ بِصَرْف الاكثرين عَن هَذِه الطَّرِيقَة إِلَّا أحد أُمُور أَولهَا عدم الْحِرْص وَقُوَّة الدَّاعِي إِلَى هَذَا كَمَا تقدم مَبْسُوطا قَرِيبا فِي الْوَصْف الرَّابِع من صِفَات من تصنف لَهُم التصانيف وَثَانِيها الْخَوْف من شَرّ الأشرار مَعَ الترخيص فِي التقية باجماع الْأمة فقد أثنى الله على مُؤمن آل فِرْعَوْن مَعَ كتم إيمَانه وَسميت بِهِ سُورَة الْمُؤمن وَصَحَّ أَمر عمار بن يَاسر بذلك وَتَقْرِيره عَلَيْهِ وَنزلت فِيهِ {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} وَقد قيل من عرف الْخلق جدير أَن يتحامى وَلَكِن من عرف الْحق فعسير أَن يتعامى وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وَثَالِثهَا خوف الشذوذ من الجماهير والإنفراد من الْمَشَاهِير وَهَذَا يحْتَاج إِلَى نظر فَإِن كَانَ جُمْهُور السّلف القدماء مَعَ القَوْل الشاذ الْمُتَأَخر فَلَا يبالى بذلك الشذوذ فقد شهِدت الْأَخْبَار الجمة الصَّحِيحَة بِأَن الدّين سيعود غَرِيبا كَمَا بَدَأَ وَكَذَلِكَ كَانَ الْحق فِي أَوَاخِر أهل الْكتاب فِي شذوذ من الصَّالِحين كَمَا شهد بذلك حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي حَتَّى قَالَت طَائِفَة إِن إِجْمَاع الْمُتَأَخِّرين لَيْسَ بِحجَّة وَإِنَّمَا الْحجَّة إِجْمَاع الصَّحَابَة لما ورد فِي الْأَحَادِيث من ذمّ أهل الْمُتَأَخر حَكَاهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ وَإِن كَانَت الشُّهْرَة لِلْقَوْلِ فِي الْمُتَأَخِّرين وَهُوَ لَا يعرف عَن أحد من السّلف أَو يذكر شذوذ عَن بَعضهم فهده عَن الْبدع وَإِيَّاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فصل يَنْبَغِي من كل مُكَلّف أَن يطْرَح العصبية ويصحح النِّيَّة وَيسْتَعْمل النّظر بالفطرة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا وَلَا يقدم عَلَيْهَا مَا لقنه أهل مذْهبه فَإِنَّهُ إِذا نظر كَذَلِك فِي كل أَمريْن متضادين فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ يجد تَرْجِيح الْحق مِنْهُمَا على الْبَاطِل بَينا لَا يدْفع مكشوفا لَا يتقنع فاقسم الْأُمُور أَولا إِلَى قسمَيْنِ قسم لَا يحْتَاج إِلَى مَعْرفَته فِي الدّين الَّذِي تسئل عَنهُ فِي الْآخِرَة كعلم الْفلك ودقائقه وَعلم الطبائع وَعلم الطِّبّ وَعلم الفراسة الدَّالَّة على الْأَخْلَاق الْبَاطِنَة وَعلم النُّجُوم وَعلم السحر وَعلم الطلسمات وَعلم السيمياء وَعلم الكيمياء وَعلم الرياضة وَعلم الفلاحة وَعلم الهندسة وَعلم المرايا المحرقة وَعلم المساحة وَعلم الْهَيْئَة وَعلم الارصاد وَعلم الْحساب وَعلم الشّعْر وَعلم الْعرُوض وَعلم تجويد الْكِتَابَة وقوانينها وَعلم اللَّطِيف وَعلم الزيجات من الْفلك والتقاويم إِلَى سَائِر مَا ذكر من عُلُوم الأذكياء وَأهل الرياضات وَقد صنفت كتب فِي ذكر أعداد الْعُلُوم وأسمائها فبلغت مبلغا كثيرا وَمن أحسن من صنف فِي ذَلِك الشَّيْخ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن ساعد الْأنْصَارِيّ فانه صنف فِي ذَلِك كتابا مُفِيدا سَمَّاهُ ارشاد القاصد إِلَى أَسْنَى الْمَقَاصِد وَذكر من هَذِه الْفُنُون الَّتِي لم يرد الشَّرْع بِوُجُوب مَعْرفَتهَا وَلَا ندب إِلَيْهَا قدر أَرْبَعِينَ فَنًّا أَو تزيد من هَذِه الْعُلُوم وَإِنَّمَا أَشرت إِلَيْهَا ونبهتك عَلَيْهَا لتعرف سهولة مَا بَقِي عَلَيْك بعد تَركهَا وتيقن صدق قَول الله عز وَجل {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وتحمد الْحَمد تَعَالَى على ذَلِك وأنفعها علم الطِّبّ وَعلم اللَّطِيف أما علم الطِّبّ فنفعه بَين لَكِن التَّوَكُّل أفضل مِنْهُ بِالنَّصِّ الْمُتَّفق على صِحَّته وَالْأَجْر فِي الْأَلَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 لمن صَبر عَظِيم وَأعظم مصائب الدُّنْيَا الْمَوْت والطب لَا يمْنَع مِنْهُ وَهُوَ مهون لما دونه كَمَا قيل فِي ذَلِك الْمَعْنى شعرًا (سَلِي عَن الْعَيْش أَنا لَا ندوم لَهُ ... وهون الْمَوْت مَا نلقى من الْعِلَل) لَكِن الصَّبْر قَلِيل فنسأل الله الْعَافِيَة وَلَا بَأْس بتَعَلُّم الْجَلِيّ من الطِّبّ وَأما علم اللَّطِيف فَهُوَ أساس علم الْكَلَام وَتَحْقِيق بعض فَوَائده يكْشف عوار كثير من الْبدع كَمَا تَأتي إِلَيْهِ الْإِشَارَة وَالْقسم الثَّانِي من الْعلم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الدّين وَهُوَ قِسْمَانِ قسم لم يخْتَلف فِي حسنه مثل النُّصُوص فِي الحَدِيث وَالْإِجْمَاع من تَفْسِير الْإِسْلَام وَالْإِيمَان الْوَاجِب على الْجَمِيع دون مَا عداهُ وَعلم الزّهْد بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ كتبه مِمَّا أجمع عَلَيْهِ دون مَا اخْتلف فِيهِ وَمن أنفس كتبه رياض الصَّالِحين للنووي لاقتصاره على الحَدِيث الْقوي وأنفس مِنْهُ التَّرْهِيب وَالتَّرْغِيب لِلْمُنْذِرِيِّ وَنَحْوهمَا من الْكتب الخالية من الْبدع فَهَذَا الْقسم الأول لَا نتعرض لذكره فِي هَذَا الْمُخْتَصر لعدم الاشكال فِيهِ وَإِنَّمَا نتعرض لإيضاح مَا فِيهِ اشكال بأقرب الطّرق أَو أبعدها من الشّبَه وَمن هَذَا الْقسم كتب الْفُرُوع الَّتِي كل مُجْتَهد فِيهَا مُصِيب أَو مأجور وَكتب الْعَرَبيَّة وَنَحْو ذَلِك إِذْ لَا يُمكن رفع الإختلاف فِيمَا اخْتلف فِي مثله مُوسَى وَالْخضر وَسليمَان وَدَاوُد واختصم فِي مثله الْمَلأ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ مُرَاد الله بِالْإِجْمَاع وَالْقسم الثَّانِي الْمُخْتَلف فِيهِ اخْتِلَافا تخَاف مضرته فِي الْآخِرَة فَمَا كَانَ لَا يجب شرعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الْخَوْض فِيهِ مَعَ عظم الْخطر فِي الْخَوْض فِيهِ فَاضْرب عَنهُ وطالب من دعَاك إِلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِح على الْوُجُوب وَأعْرض مَا أورد عَلَيْك فِيهِ من الْأَدِلَّة على النصحاء والأذكياء من الْعلمَاء حَتَّى تعرف الْوُجُوب يَقِينا من غير تَقْلِيد ثمَّ حرر النِّيَّة الصَّحِيحَة بعد ذَلِك فِي معرفَة الْحق وَمَا أوجب الله مَعْرفَته طَاعَة لله لَا لمباهاة وَلَا مراآة وَلَا مماراة ثمَّ اسْتَعِنْ بِاللَّه واستغث بِهِ وَانْظُر فِي الخلوات خالطا للنَّظَر بِالدُّعَاءِ والتضرع والاستعاذة من الْفِتَن فَإنَّك ترى بذلك من العون والسهولة مَا وعد الله بِهِ الداعين لَهُ الراجعين إِلَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى إِذا أوجب أمرا أعَان عَلَيْهِ من أَرَادَ الْأَدِلَّة بنية صَحِيحَة كَمَا ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} وَإنَّهُ قَالَ لَو صَبَرُوا عَلَيْهَا لطوقوها فَلَمَّا نقص من تكليفهم نقص من صبرهم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَله شَوَاهِد وَالْعقل يشْهد لذَلِك أَيْضا وَمِنْه كَلَام معَاذ رَضِي الله عَنهُ حِين احْتضرَ رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْفِتَن عَن يزِيد بن عميرَة عَنهُ وَسَيَأْتِي وَلَا تستعن فِي ذَلِك إِلَّا بِمن يوثق بورعه ونصحه وتقواه وَمَا أقلهم وَلَكِن أستعن بِالنّظرِ فِي تآليف الْعلمَاء الحافلة الجامعة لأدلة الْفرق فَإِن لم تَجِد كتابا كافلا جَامعا لأدلة الْفرق طالعت الْمَسْأَلَة فِي كتب الْفرق وَرَأَيْت حجَّة كل فرقة فِي كتبهمْ لَا فِي كتب خصومهم الَّذين يسمون أَدِلَّة من خالفهم شبها ويوردونها غير مستوفاة ويجيبون عَنْهَا بأجوبة مُحْتَملَة للنقض وَلَا يذكرُونَ مَا يرد على أجوبتهم وَهَذَا عِنْد الإضطرار إِلَى ذَلِك وَمن الْقَوَاعِد المقربة لَك إِلَى النجَاة أَن تنظر كل قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين يخَاف الْكفْر وَالْعَذَاب الأخروي فِي أَحدهمَا دون الآخر فابعد عَنهُ واحذره أَلا تراك تخَاف الْكفْر فِي جحد الْعُلُوم لَا فِي ثُبُوتهَا وَفِي جحد الرب لَا فِي الْإِيمَان وَفِي جحد النبوات لَا فِي إِثْبَاتهَا وَفِي التَّفْرِيق بَين الرُّسُل كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا فِي الْإِيمَان بجميعهم وَفِي عدم الْإِيمَان بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة لِأَن خلاف السّمع الْمَعْلُوم كفر اجماعا لَا فِي خلاف الْعقل الْمَعْلُوم لِأَنَّهُ لَيْسَ كفرا بِالْإِجْمَاع فاعرف هَذِه الْقَاعِدَة وَاعْلَم أَن الْفطْرَة الَّتِي خلق الله لَك تدْرك الْقوي من الضَّعِيف فِي تِلْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المباحث وَإِن كثرت إِلَّا مَا دق وغمض جدا كَمَا أَن عَيْنك المبصرة تدْرك جَمِيع المبصرات وَإِن كثرت فَمَا دق على فطرتك فِي الْعُلُوم تركته لَا سِيمَا مَعَ دقته الشّبَه الْمُعَارضَة لَهُ وَلم تكلّف فِيهِ مَا لم تعلم مثل مَا إِن دق على بَصرك من المرئيات تركته كبعض الْأَهِلّة فِي أَوَائِل الشُّهُور سِيمَا مَعَ القتر والغيم الْبَاب الأول إِثْبَات الْعُلُوم فَأول شَيْء اخْتلف الْخلق فِيهِ اثبات الْعُلُوم فِي الْجُمْلَة عقلا مَعَ اجْتِمَاع الشَّرَائِع على ثُبُوتهَا فَانْظُر هَل يخفي عَلَيْك الصَّوَاب فِي ذَلِك فَإِن طوائف من الفلاسفة والاتحادية من الصُّوفِيَّة أَنْكَرُوا صِحَة الْعُلُوم أما الفلاسفة فَرَأَوْا الْبَصَر الصَّحِيح يُخطئ لعوارض نادرة فِي مَوَاضِع كرؤية النَّجْم سَاكِنا وَهُوَ يَتَحَرَّك قطعا بِدَلِيل انْتِقَاله وَكَذَلِكَ رُؤْيَة الظل سَاكِنا ورؤية الْمُسْتَقيم فِي المَاء أَعْوَج ورؤية الْأَحول الْوَاحِد اثْنَيْنِ ورؤية الْقَائِم فَوق المَاء منكوسا فِي المَاء ورؤية السحر وَالنَّوْم والكشف وَالْمَرَض وَإِن كَانَ فِي رُؤْيَة النّوم والكشف صَحِيح وباطل وَالصَّحِيح مِنْهُمَا قد يحْتَاج التَّأْوِيل وَلَا يكون على ظَاهره بِكُل حَال وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} فَالَّذِينَ قصدُوا قتل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام رَأَوْا مثله فاعتقدوا أَنه هُوَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذ يريكموهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَالْجَوَاب أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ أَن هَذِه الْأَشْيَاء كَانَت لعوارض تخْتَص بِهَذِهِ الْمَوَاضِع وَنَحْوهَا وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي جملَة الرُّؤْيَة وجميعها وَلَا يُمكن أَن نشك لذَلِك فِي وجودنا وَوُجُود الْعَالم وشروق النيرات وَإِنَّهَا تجْرِي فَوْقنَا وتضيئنا وَإِن الْأَعْمَى فَاقِد لهَذِهِ النِّعْمَة والأليم مُخَالف للمعافى وَلَا يُمكن دفع شبههم إِلَّا بوجدان هَذَا الْعلم الْمَخْلُوق فِينَا نعْمَة علينا من الله لَا بتحرير دَلِيل لِأَن الدَّلِيل إِنَّمَا يصبح بعد تَسْلِيم الْعُلُوم الضرورية بل نقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 لَيْسَ الْجُنُون أَكثر من اصغائنا إِلَى ذَلِك فَلَو قَالَ أحد مَا يؤمني أَن يقظتي هَذِه نوم أَو سحر أَو كشف أَو أَن وَالِدي وداري وأرضي شبهت لي وَأَن طَعَامي وشرابي سموم قتالة لَكَانَ إِلَى أَن يكوى ويقيد أحْوج مِنْهُ إِلَى أَن يناظر ويجادل فَإِذا عرفت هَذَا بالفطرة مَعَ اعتضادها بِالْقُرْآنِ وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَاعْلَم أَن هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أَتَوا من شدَّة النّظر والتدقيق فِيمَا لَا تعرفه الْعُقُول لِأَن دوَام الفكرة فِي المحاورات يضعف الْفَهم ويمرض صَحِيحه وَمن أَمْثِلَة ذَلِك المجربة بِالضَّرُورَةِ كَثْرَة الشَّك فِي النِّيَّة وَالطَّهَارَة فَإِنَّهُ قد أورث الوسواس الْفَاحِش مَعَ جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء الْفُضَلَاء كالشيخ تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد مِمَّن بلغ الْمرتبَة الْكُبْرَى فِي الْعُلُوم وَقد رَأينَا من أدركنا من كبار أهل الْعلم وَالصَّلَاح من لَا ينْتَفع بذلك بِالْمُشَاهَدَةِ وَشك فِي الضَّرُورَة وَذَلِكَ مُسْتَمر فِي الْعُقَلَاء وَهُوَ عِبْرَة للنظار فَإِن الوسواس إِذا بلغ هَذَا الْمبلغ عِنْد الإصغاء إِلَيْهِ فِيمَا لَا شكّ فِيهِ فَكيف بِمن أصغى إِلَيْهِ فِيمَا يشك فِي مثله وَمَا أحسن قَول الْقَاسِم عَلَيْهِ السَّلَام فِي مثل هَذَا دَوَاء الشَّك الْمُرُور عَلَيْهِ وَلذَلِك ورد فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته الْأَمر بالإستعاذة من الشَّيْطَان عِنْد حُضُور الوسواس أَو سَمَاعه سَمَاعا من بعض النَّاس وَهَذَا الحَدِيث مُنَاسِب لقَوْل الرُّسُل صلوَات الله عَلَيْهِم أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض فِيمَا حَكَاهُ الله عَنْهُم فِي كِتَابه الْكَرِيم وَأما الاتحادية المدعون للتصوف وَلَيْسَ هم مِنْهُ فِي شَيْء فهم الَّذين قَالُوا إِن المكاشفة قد دلّت على صِحَة الْمحَال وَهَذَا غَايَة التغقيل والضلال إِن صَحَّ عَن أحد فانه يُقَال لَهُم إِن كَانَ كذب المكاشفة محالا فقد دلّت على صِحَّته فَيصح أَن تكون كَاذِبَة وَإِذا صَحَّ كذبهَا لم يوثق بهَا وَإِن كَانَ كذبهَا مُمكنا لم يوثق بهَا وَلم يَصح لَهَا اسْم الدّلَالَة فَثَبت أَنه لَوْلَا امْتنَاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الْمحَال مَا صَحَّ سمع وَلَا عقل وَلَا كشف وَلَا نظر وَلَا علم شَيْء أَلْبَتَّة وَكَأن هَؤُلَاءِ الْقَوْم لم يفرقُوا بَين المحارة والمحال فَأَما من عرف مَا هُوَ الْمحَال وَجوزهُ لم يَصح مِنْهُ بعد ذَلِك دَعْوَى أَنه محق وَأَن خَصمه مُبْطل أبدا لِأَنَّهُ لَا يمْنَع من كَون المحق مُبْطلًا والمبطل محقا والتوحيد شركا والشرك توحيدا إِلَّا كَون ذَلِك محالا والمحال لَا يَقع أَلْبَتَّة فَمن فتح بَاب تَجْوِيز الْمحَال لم يمْتَنع شَيْء من ذَلِك وانسد بَاب الانكار على كل كَافِر وجاحد وَلم يبْق فرق بَين أعرف العارفين وأجن المجانين فيا عجبا كَيفَ يَدعِي مثل هَؤُلَاءِ مَرَاتِب العارفين وَلَا تغني عَنْهُم دَعْوَى دقة التَّفْرِقَة بَين الْعلم وَالظَّن فَإِن الْفرق بَينهمَا فِي الضروريات ضَرُورِيّ بل من الضَّرُورَة انقسام جَمِيع مَا يُمكن الْخَبَر عَنهُ والاعتقاد لَهُ إِلَى مَا جمع الْجَزْم والمطابقة والثبات عِنْد التشكيك وَإِلَى مَا لم يجمعها فالجامع لَهَا هُوَ الْعلم وَإِن اخْتَلَّ الثَّبَات فاعتقاد مقلد المحق أَو الْمُطَابقَة فالاعتقاد الْفَاسِد أَو الْجَزْم فَمَعَ الاسْتوَاء الشَّك وَمَعَ الرجحان الرَّاجِح الظَّن والمرجوح الْوَهم فَعلمت كلهَا بِالضَّرُورَةِ وَإِن اخْتلفت الْعبارَات عَنْهَا فَإِن اخْتِلَاف اللُّغَات والعبارات لَا يحِيل الْمعَانِي خَاتِمَة الْمُقدمَة وَاعْلَم أَن منكري الْعُلُوم لم ينازعوا فِي حسن الْعَمَل بهَا بل وَلَا فِي وُجُوبه فَإِنَّهُم انتفعوا بالابصار وتوقوا بِسَبَبِهَا الْوُقُوع فِي المَاء وَالنَّار وَسَائِر المهلكات والأخطار وَمن عجائب مَا يرْوى عَنْهُم أَن بَعضهم صنف كتابا فِي نفي الْعُلُوم وَمَات لَهُ ولد قد قَارب الْحلم فَقَالَ إِنَّه إِنَّمَا أَسف لمَوْت وَلَده قبل أَن يقْرَأ كِتَابه فِي نفي الْعُلُوم فَقيل لَهُ وَمَا يدْريك أَنه كَانَ لَك ولد وَأَنه مَاتَ وَأَنه لم يقْرَأ وَإنَّك مَوْجُود وَإنَّك صنفت كتابا فَلم يدر مَا يَقُول وَمن سخف هَؤُلَاءِ لم يذكر الله سُبْحَانَهُ الرَّد عَلَيْهِم فِي كِتَابه وَلَا رسله صلوَات الله عَلَيْهِم وَإِنَّمَا قدمت ذكرهم عِبْرَة لَك حَتَّى لَا تحتفل بِوُجُود الْمُخَالفين للحق الْجَلِيّ وتظن أَنه لَو كَانَ حَقًا جليا لم يُمكن أَن يكون فِيهِ مُخَالف عَاقل بل مُدع لمرتبة الْكَمَال فِي الاسلام كنفاة جَمِيع الْعُلُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والأدلة عقلا وسمعا إِلَّا من طَرِيق الْكَشْف ونفاة وجوب الرب والخلق إِلَّا الْوُجُود الْمُطلق الَّذِي هُوَ ذَات الْأَحَد والحضرة الأحدية عِنْدهم وَمَا عداهُ من مَرَاتِب وجود الله وأسمائه الْحسنى كلهَا وَهِي الحضرة الواحدية عِنْدهم وَوُجُود خلقه ملائكتهم ورسلهم وكتبهم وجنهم وانسهم وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة كل ذَلِك خيال لَا حَقِيقَة لَهُ أبدا مَا عدا الْوُجُود الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْأَحَد والحضرة الأحدية عِنْدهم هُوَ عدم مَحْض لَا وجود لَهُ إِلَّا فِي اللَّفْظ والذهن عِنْد سَائِر الْمُحَقِّقين من الْعُقَلَاء فَهُوَ الْمَوْجُود على الْحَقِيقَة عِنْدهم وكل مَوْجُود عِنْدهم مَا عداهُ خيال مِنْهُ كطيف الاحلام لَكِن أحب أَن يرى نَفسه فِيهِ وَنسبَة كل شَيْء إِلَيْهِ نِسْبَة صُورَة دحْيَة إِلَى جِبْرِيل فَهُوَ هُوَ من وَجه وَمَا هُوَ هُوَ من وَجه فَكَذَلِك فَلْيَكُن الضلال الْمُبين وَكفى فِي بَيَان ضلالهم فرقهم بَين الاحد وَالْوَاحد وَبَين الْأَحَد وَبَين الله وَلُزُوم قَوْلهم لإلهين اثْنَيْنِ أحد حَقِيقِيّ وَوَاحِد خيالي وَلم يذكر هَؤُلَاءِ الْغَزالِيّ فِي الرَّد على الاتحادية فِي الْمَقْصد الاسنى لتأخر حُدُوث ضلالهم الْفَاحِش نَعُوذ بِاللَّه من الْغرُور فَإِذا تقرر أَن اثبات الْعُلُوم هُوَ الْحق والاحوط وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّرَائِع وَالْفطر وَعمل الْخلق وان الِاضْطِرَار إِلَيْهِ وَإِلَى الْعَمَل بِهِ حَاصِل وَإنَّهُ لَا خطر فِي الْعَمَل بِهَذِهِ الْعُلُوم عِنْد جاحدها أَيْضا ثَبت أَن الْعَمَل بهَا نهج السَّلامَة بِغَيْر شكّ وَلَا خلاف فَهَذَا أولى خلاف تخلصت مِنْهُ بِطيبَة نفس وَأول حق وَاجِب ظَفرت بمعرفته لِأَن مُخَالف الْحق هُنَا يكفر بانكار جَمِيع المعارف الدِّينِيَّة الْمُتَعَلّقَة بِالْقطعِ باثبات الربوبية والنبوات والشرائع الْوَاجِبَات وَهَذَا أَيْضا أول كفر نجوت برحمة الله مِنْهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبعد ثُبُوت الْعلم نذْكر شَيْئا من صَحِيح فضائله وَالتَّرْغِيب فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فصل من فَضَائِل الْعلم النافع وَأَهله فَمن الْعقل أصل النجَاة والسعادة إِذْ هُوَ الدَّاعِي إِلَى أَسبَاب الْخَيْر الصَّارِف عَن أَسبَاب الشَّرّ وَمن خَصَائِصه اجماع الْعُقَلَاء والملل والنحل على فَضله وَإنَّهُ تمدح بِهِ الْخَالِق سُبْحَانَهُ وَأَنه سُبْحَانَهُ مدح عباده بِمَا وهب لَهُم مِنْهُ وَفضل آدم عَلَيْهِ السَّلَام بِعلم الاسماء على الْمَلَائِكَة وَاخْتَارَ تفضيله بِهِ على تفضيله بِالْعَمَلِ بكشف الشُّبْهَة عَن مَلَائكَته وإيضاح الْحجَّة عَلَيْهِم وَلم يزهد فِيهِ بل قَالَ لأعْلم خلقه {وَقل رب زِدْنِي علما} وَحَتَّى فضل الْكلاب المعلمة على غَيرهَا فأحل صيدها وَهُوَ الَّذِي صال بِهِ الهدهد على سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ عَظِيم ملكه وقويت حجَّته مَعَ ضعفه وحقارته حَيْثُ قَالَ {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ وجئتك من سبإ بنبإ يَقِين} وَمن أعظم فضائله القرآنية تَعْلِيل خلق الْعَالم بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {الله الَّذِي خلق سبع سماوات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما} ثمَّ تَعْلِيل الْبَعْث فِي الدَّار الْآخِرَة بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وليعلم الَّذين كفرُوا أَنهم كَانُوا كاذبين} وَلذَلِك ذمّ الله من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار} الْآيَة وَقَالَ {وليعلم الَّذين أُوتُوا الْعلم أَنه الْحق من رَبك فيؤمنوا بِهِ فتخبت لَهُ قُلُوبهم} وَقَالَ {ويعبدون من دون الله مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد وَسليمَان علما وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ وَورث سُلَيْمَان دَاوُد وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس علمنَا منطق الطير وأوتينا من كل شَيْء إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ) وَمِنْه {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة} وَمِنْه قصَّة مُوسَى مَعَ الْخضر وَقَوله على أَن تعلمن ورحلته إِلَيْهِ فِي نَافِلَة الْعلم وعزمه على أَن يمْضِي حقبا فِي طلب نافلته والحقب ثَمَانُون سنة وَذَلِكَ يشْهد بِصِحَّة حَدِيث عبد الله ابْن عمر مَرْفُوعا الْعلم ثَلَاثَة وَمَا سوى ذَلِك فَهُوَ فضل الحَدِيث خرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَمِنْه {قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب} وَمِنْه {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} وَمِنْه {وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} وَمِنْه {ووجدك ضَالًّا فهدى} وَمِنْه {ألم نشرح لَك صدرك} وَمِنْه {فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ} وَمِنْه تَشْبِيه الْعَالم بالحي والنور وَالْجَاهِل بِالْمَيتِ والظلمات وَمِنْه {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} وَمِنْه {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَمِنْه {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} وَمِنْه {الَّذِي علم بالقلم} وَمِنْه {فبشرناه بِغُلَام حَلِيم} وَمِنْه {قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين} وَمِنْه {وأوتينا الْعلم من قبلهَا وَكُنَّا مُسلمين} وَمِنْه {وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم} وَمِنْه {وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ) وَمِنْه {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعلمُونَ} وَمِنْه {بل أَنْتُم قوم تجهلون} وَشرف الشَّيْء يُؤْخَذ من خساسة ضِدّه وَمِنْه فِي مُوسَى {وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} وَمِنْه {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الَّذين لَا يعلمُونَ} وَمِنْه {وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} وَمِنْه {وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم} وَمِنْه {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} وَمِنْه {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ} وَمِنْه قَول أهل النَّار {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَمِنْه {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا} الْآيَة إِلَى قَوْله هم الغافلون وَمِنْه {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله وَلَكِن كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب وَبِمَا كُنْتُم تدرسون} وَمِنْه {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} وَقَالَ حِكَايَة عَن ابراهيم واسماعيل {رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آياتك وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة ويزكيهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} فَهَذِهِ نَيف وَأَرْبَعُونَ آيَة من مُحكم كتاب الله تَعَالَى مَعَ مَا فِي السّنة من ذَلِك فنسأل الله تَعَالَى أَن يجعلنا من أوفر عباده حظا من جَمِيع مواهبه فِي الْعلم وَالْعَمَل وَهَذَا كُله فِي الْعلم أَنه هُوَ الْملك الْوَهَّاب الْمُعْطِي من يَشَاء بِغَيْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حِسَاب وَهَذَا كُله فِي الْعلم النافع دون غَيره كَمَا تقدم بَيَانه بِالْحجَّةِ وَالْحجّة على ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة والمعقول الْبَاب الثَّانِي فِي اثبات الطّرق إِلَى الله تَعَالَى (وَبَيَان أجلاها وأوضحها على سَبِيل الاجمال) اعْلَم أَن هَذَا من أوضح المعارف الَّتِي دلّت عَلَيْهَا الْفطْرَة الَّتِي خلق الْخلق عَلَيْهَا وَلذَلِك قَالَ كثير من الْعُقَلَاء وَالْعُلَمَاء والأولياء أَنه ضَرُورِيّ لَا يحْتَاج إِلَى نظر وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى تذكر يوقظ من سنة الْغَفْلَة كتذكر الْمَوْت الَّذِي تقع الْغَفْلَة عَنهُ وَهُوَ ضَرُورِيّ حَتَّى قَالَ الله تَعَالَى فِي مُخَاطبَة الْعُقَلَاء {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} وَقَالَ {ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون} وَنَحْو ذَلِك مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآن الْحَكِيم حَيْثُ حكى الله عَن الرُّسُل الْكِرَام قَوْلهم {أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقد تقدم قَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك الَّذِي شهد لَهُ أَعْلَام الْوُجُود على اقرار قلب ذِي الْجُحُود وَذكر شرح ابْن أبي الْحَدِيد لذَلِك وتجويده وَقد بسطت أَدِلَّة من قَالَ بذلك وَمَا يرد عَلَيْهِم وَمَا يجيبون بِهِ فِي العواصم وَلذَلِك شَذَّ الْمُخَالف هُنَا وَلم يكد الْخلاف فِي حَاجَة الْعَالم إِلَى مُؤثر وَإِنَّمَا اشْتَدَّ الْخلاف فِي صِفَات ذَلِك الْمُؤثر وَنقل الرَّازِيّ عَن الفلاسفة اعترافهم أَن خوضهم فِي الالهيات بِالظَّنِّ دون الْعلم وَاعْلَم أَن هَذَا الْخلاف الشاذ الْمُسْتَند إِلَى الظَّن باعتراف أَهله إِنَّمَا وَقع مَعَ شذوذه لأَنهم نظرُوا فِي معرفَة الرب جلّ جَلَاله من الْوَجْه الَّذِي بطن مِنْهُ وَلم ينْظرُوا فِي مَعْرفَته من الْوَجْه الَّذِي ظهر مِنْهُ وَذَلِكَ أَنه سُبْحَانَهُ قد تسمى بِالظَّاهِرِ وَتسَمى بالباطن وَثَبت هَذَا فِي كِتَابه الْكَرِيم فَثَبت أَن لَهُ جِهَة يظْهر مِنْهَا وجهة يبطن مِنْهَا لتبقى حكمته فِي قَوْله {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقَوله فِي السَّاعَة {أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى} فَمن نظر فِي مَعْرفَته من الْجِهَة الَّتِي يظْهر مِنْهَا ترادفت مواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 مَعْرفَته وَكَانَت نورا على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء كَمَا وصف الله نور هدايته بِكَثْرَة الْموَاد فِي سُورَة النُّور وَمن نظر فِي مَعْرفَته من غير هَذِه الطَّرِيق كَانَ كمن ضل الطَّرِيق واجتهد فِي السّير بعد الضلال فَلَا يزَال يزْدَاد بعدا بسيره فِي غير طَرِيق على أَنه يحْتَمل أَن الْمَعْنى فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن أَنه هُوَ الْحق فيهمَا مَعًا لَا أَحدهمَا كَمَا قد يكون بعض الْأُمُور حَقًا فِي الْبَاطِن وَلَا حجَّة عَلَيْهِ ظَاهِرَة فَيكون على هَذَا الْوَجْه فِي معنى الْملك الْحق الْمُبين وَيكون ذَلِك أعظم فِي قطع أعذار المعاندين وَالله أعلم والطرق إِلَى الله تَعَالَى كَثِيرَة جدا وَلَكنَّا نقتصر مِنْهَا على أَصَحهَا وأجلاها وأوضحها وأشفاها حَتَّى نَأْمَن بالسلوك فِيهَا من الضلال فِي الطّرق الَّتِي تبعد السائر فِيهَا عَن مَقْصُوده وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَإِلَى تِلْكَ الطّرق الاشارة بقوله تَعَالَى {وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} وَقد يكون فِيهَا مَا يسْتَلْزم رد كثير من الشَّرَائِع فَنَقُول الْبَاب الثَّالِث فِي بَيَان شَيْء من طرق معرفَة الله تَعَالَى على مناهج الرُّسُل وَالسَّلَف على جِهَة التَّفْصِيل للاجمال الْمُتَقَدّم فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا فلنذكر اشارة لَطِيفَة على قدر هَذَا الْمُخْتَصر إِلَى ثَلَاث دلالات دلَالَة الانفس وَدلَالَة الْآفَاق وَدلَالَة المعجزات وَكلهَا دلّ عَلَيْهَا الْقُرْآن الَّذِي وَصفه الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يهدي للَّتِي هِيَ أقوم أما دلَالَة الانفس فَإِنَّهَا بليغة قَالَ الله تَعَالَى {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره من أَي شَيْء خلقه من نُطْفَة خلقه فقدره} الْآيَات وَقَالَ تَعَالَى {وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون} وَقَالَ {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَقَالَ {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم} الْآيَة وأبسط آيَة فِي ذَلِك آيَة الْحَج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 {يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة مخلقة وَغير مخلقة} الْآيَات إِلَى قَوْله {ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق} إِلَى {وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وأبطل شُبْهَة الطبائعية بقوله من تُرَاب لِأَن آدم أَبُو الْبشر وأصلهم بالتواتر الضَّرُورِيّ لَا أَب لَهُ وَلَا أم فلزمت الْحجَّة وَبَانَتْ ووضحت وَللَّه الْحَمد وَالثنَاء والْمنَّة وَكَذَلِكَ الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ من قَوْله {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين} إِلَى قَوْله {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} وَقَالَ {أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه} وَمن ثمَّ قيل فكرك فِيك يَكْفِيك وَقد جمع الله تَعَالَى ذكر دلالتي النُّفُوس والآفاق فِي قَوْله تَعَالَى {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} وَذَلِكَ أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ وجودنا أَحيَاء قَادِرين عَالمين ناطقين سَامِعين مبصرين مدركين بعد أَن لم نَكُنْ شَيْئا وَأَن أول وجودنا كَانَ نُطْفَة قذرة مستوية الْأَجْزَاء والطبيعة غَايَة الاسْتوَاء بِحَيْثُ يمْتَنع فِي عقل كل عَاقل أَن يكون مِنْهَا بِغَيْر صانع حَكِيم مَا يخْتَلف أجناسا وأنواعا وأشخاصا أما الْأَجْنَاس فَكَمَا نبه عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء فَمنهمْ من يمشي على بَطْنه وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ وَمِنْهُم من يمشي على أَربع} وَأما الْأَنْوَاع فنبه عَلَيْهَا بقوله {ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى ثمَّ كَانَ علقَة فخلق فسوى فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} وَمِنْه {ثمَّ سواك رجلا} وَأما الْأَشْخَاص فبقوله تَعَالَى {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره من أَي شَيْء خلقه من نُطْفَة خلقه فقدره ثمَّ السَّبِيل يسره} الْآيَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَبَيَانه أَنه خلق من نُطْفَة فقدره مستوية الطبيعة فَكيف يكون مِنْهَا مَا يبصر وَمِنْهَا مَا يسمع وَمِنْهَا مَا يطعم وَمِنْهَا مَا يشم وَمِنْهَا الصلب وَمِنْهَا الرخو وَمِنْهُم من يمشي على بَطْنه وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ وَمِنْهُم من يمشي على أَربع كَمَا نبه الله عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْكَرِيم ونعلم أَنَّهَا قد تَغَيَّرت بِنَا الْأَحْوَال وتنقلت بِنَا الأطوار تنقلا عجيبا فَكُنَّا نطفا ثمَّ علقا ثمَّ مضغا ثمَّ لَحْمًا ودما ثمَّ عظاما صلبة مُتَفَرِّقَة فِي ذَلِك اللَّحْم وَالدَّم تقويهما وعصبا رابطة بَين تِلْكَ الْعِظَام صَالِحَة لذَلِك الرَّبْط مِمَّا فِيهَا من الْقُوَّة والمتانة ثمَّ تركب من ذَلِك آلَات وحواس حَيَّة مُوَافقَة للْمصَالح مَعَ ضيق ذَلِك الْمَكَان وَشدَّة ظلمته وَإِلَى ذَلِك الاشارة بقوله تَعَالَى {يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق فِي ظلمات ثَلَاث ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تصرفون} والظلمات الثَّلَاث ظلمَة الْبَطن وظلمة المشيمة وظلمة الرَّحِم ثمَّ انْظُر إِلَى مَوضِع الْعَينَيْنِ مَا أشبهه بهما بَعيدا مِمَّا يؤذيها مرتفعا للتمكن من إِدْرَاك المبصرات فِي الْوَجْه الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى تَغْطِيَة باللباس من الْجمال البديع فيهمَا وَفِي جفونهما وَلَو كَانَا فِي الرَّأْس أَو فِي الظّهْر أَو فِي الْبَطن أَو غير ذَلِك مَا تمت الْحِكْمَة وَلَا النِّعْمَة بهما وَكَذَلِكَ كل عُضْو فِي مَكَانَهُ وَانْظُر إِلَى ستر القذر الَّذِي فِي الْبَطن بالسواتر الْعَظِيمَة بِحَيْثُ لَا يحس لَهُ حس وَلَا يظْهر لَهُ ريح وَلَا يخرج إِلَّا باختيارنا فِي مَوضِع خَال وَإِن من عَجِيب صنع الله تَعَالَى استمساك الْبَوْل فِي حَال الْغَفْلَة بل فِي حَال النّوم حَتَّى نَخْتَار خُرُوجه وَنرْضى بِهِ من غير رِبَاط وَلَا سداد فِي مجْرَاه وَلَا مَانع محسوس فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ ثمَّ حياتنا فِي بطُون الْأُمَّهَات من غير نفس وَلَو كَانَ ثمَّ نفس لَكَانَ ثمَّ صَوت وَلَو غم أَحَدنَا بعد الْخُرُوج سَاعَة لمات بل كَثِيرُونَ يموتون فِي المدافن المتخذة للحبوب مَعَ سعتها ثمَّ خروجنا من ذَلِك الْموضع الضّيق من غير اخْتِيَار من الْمَوْلُود والوالدة وَهُوَ فعل مُحكم صَعب لابد لَهُ من فَاعل مُخْتَار وَعدم الْمَوْت لشدَّة الضغطة عِنْد الْخُرُوج وسلامة الْوَلَد وَأمه من الْمَوْت فِي ذَلِك من آيَات الله كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي آيَة الْحَج فِي {وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثمَّ احداث اللَّبن فِي ثدي الْأُم من يَوْمئِذٍ من بَين قرث وَدم وتربية الْمَوْلُود وفهمه للغة أَهله مَا كَانَت فصيحة عَرَبِيَّة أَو عبرية عجمية مَعَ كَثْرَة قَوَاعِد الْعَرَبيَّة وَكَثْرَة اخْتِلَاف عوامل الاعراب والعاقل الْمُمَيز يقف أَضْعَاف تِلْكَ الْمدَّة بَين الْعَرَب والعجم فَلَا يعرف من ذَلِك مَا عرف الصَّغِير وَلَا يدْرِي مَا يَقُولُونَ بِمُجَرَّد المخالطة كالطفل الَّذِي لَا عقل لَهُ وَلَا تَمْيِيز وَكَذَلِكَ العجمي بَين الْعَرَب ثمَّ يترقى إِلَى حَال التَّمْيِيز وتتعاقب عَلَيْهِ الْأَحْوَال من الصغر وَالْكبر والضعف وَالْقُوَّة والشباب والشيب وَالْعقل والذكاء والبلادة وَالْمَرَض وَالصِّحَّة والشهوة والنفرة والدواعي والصوارف والعسر واليسر والغنى والفقر وضده من غير اخْتِيَار مِنْهُ فِي شَيْء من ذَلِك فلابد لهَذِهِ التغيرات من مغير قَادر عليم مُدبر حَكِيم وَقد صنفت فِي هَذَا الْمَعْنى كتب علم التشريح وَبَيَان كَيْفيَّة الْخلقَة وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي الْوُقُوف عَلَيْهِ أَو على شَيْء مِنْهُ وَقد نقل ابْن الْجَوْزِيّ مِنْهُ جملَة شافية فِي أول كِتَابه لقط الْمَنَافِع فِي الطِّبّ فليطالع فِيهِ فَلَو جَازَ أَن يكون مثل هَذَا بِغَيْر صانع لجَاز أَن تصح لنا دور معمورة أَو مصاحف مَكْتُوبَة أَو ثِيَاب محوكة أَو حلى مصوغة بِغَيْر بَان وَلَا كَاتب وَلَا حائك وَلَا صائغ فَمَا خص خير الْخَالِقِينَ بَان يكفر وَلَا يدل عَلَيْهِ أثر صَنعته العجيبة وخلقته البديعة وَلَو كَانَ هَذَا الْأَثر للطبع كَمَا قَالَ كثير من الفلاسفة لَكَانَ أثرا وَاحِدًا كَمَا لَو جمدت النُّطْفَة بطبع الْبرد أَو ذَابَتْ أَو أنتنت قَالَ الامام الْمُؤَيد بِاللَّه فِي الزِّيَادَات أَن الطَّبْع ان سلمنَا وجوده لَا يحصل بِهِ الشَّيْء على قدر الْحَاجة وَإِنَّمَا يكون بِمِقْدَار قوته وَضَعفه أَلا ترى أَن النَّار تحرق لَا على قدر الْحَاجة بل على قدر قوتها وتنقص عَن الْحَاجة إِذا ضعفت وَكَذَلِكَ المَاء الْجَارِي والحكيم يجريه ويقطعه على قدر الْحَاجة اه كَلَامه وَفِيه تَنْبِيه حسن على الْفرق الْجَلِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فَإِذا عرفت هَذَا فَانْظُر كَيفَ يُمكن أَن يتَغَيَّر الْمَنِيّ المستوي إِلَى تِلْكَ الْأُمُور الْمُخْتَلفَة المحكمة البديعة الاحكام العجيبة الصَّنْعَة وَهل ذَلِك إِلَّا بِمَنْزِلَة تَجْوِيز أَن يصير المداد مُصحفا معربا لَا غلط فِيهِ وَلَا لحن بطبع المداد من غير كَاتب عَالم بل احكام الانسان أبلغ وأعجب وَقد رَأَيْت كم جمع فِي الْأُنْمُلَة الْوَاحِدَة من الاصابع من الاشياء الْمُخْتَلفَة فَوضع فِيهَا جلدا وَلَحْمًا وعصبا وشحما وعروقا ودما ومخا وعظما وبلة وظفرا وشعرا وَبضْعَة عشر شَيْئا غير ذَلِك كل وَاحِد مِنْهَا يُخَالف الآخر قدرَة وحياة واستواء وارتفاعا وانحدارا وخشونة ولينا وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وصلابة ورخاوة ثمَّ خلق فِي بَعْضهَا الْحَيَاة دون بعض كالشعر وَالظفر والعظم وَجعلهَا مدركة لأمور شَتَّى كالحرارة والبرودة واللين والخشونة والقلة وَالْكَثْرَة والرطوبة واليبوسة وَمن لطيف الْحِكْمَة فِيهَا اختلافها فِي الطول وَالْقصر حَتَّى تستوي عِنْد الْقَبْض على الْأَشْيَاء فتقوى بالاستواء وَهَذَا مِمَّا تخفى فِيهِ الْحِكْمَة جدا أَعنِي كَون الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك سَبَب الاسْتوَاء عِنْد الْقَبْض وَلذَلِك خصت بِالذكر فِي قَوْله تَعَالَى {بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه} {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} وَقد أَشَارَ الله تَعَالَى إِلَى بطلَان مَذْهَب الطبائعيين بِهَذَا الْمَعْنى وَنبهَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ فِي كَلَامه الْكَرِيم {وَفِي الأَرْض قطع متجاورات وجنات من أعناب وَزرع ونخيل صنْوَان وَغير صنْوَان يسقى بِمَاء وَاحِد ونفضل بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ} وَآخر الْآيَة دَلِيل على أَن الْعقل يدْرك بذلك بطلَان قَول أهل الطبائع وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ عَافِيَة كثير من المرضى بعد غَلَبَة الْعلَّة وقوتها وَضعف أَسبَاب الْعَافِيَة ويأس الطَّبِيب من العلاج فقد ذكر الْأَطِبَّاء أَن الطِّبّ لَا ينفع فِي بعض تِلْكَ الْأَحْوَال فيتأمل ذَلِك كثيرا فَفِيهِ شِفَاء لما فِي الصُّدُور وَقد وَقعت فِي ذَلِك فَقلت فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 (فيا عطسات فرجت كل كربَة ... وَلم يبْق فِي أَيدي الاساة سوى الصفق) (لَهُ الْحَمد منشكين من غير حِيلَة ... وَلَا سَبَب يجْرِي لي الرِّيق فِي حلقي) (بكن علمت الله علم ضَرُورَة ... وَكم مثلهَا يجلو الوساوس فِي الْحق) فَإِنِّي شارفت الْمَوْت من الإسهال فعطست ثَلَاث عطسات فَكَأَنَّمَا نشطت من عقال وَلم يكن للعطاس سَبَب طبيعي قطّ فَكَانَت من الْآيَات العجيبة وَمِمَّا يَنْبَغِي التيقظ لَهُ فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَبُو الْبشر وَذَلِكَ مَعْلُوم ضَرُورَة تَوَاتر وَدلَالَة جلية أما التَّوَاتُر فَوَاضِح وَأما الدّلَالَة فمحال أَن يكون الْبشر من أم وَأب وَإِلَى مَا لَا نِهَايَة لِأَن عدم التناهي فِي الْحَوَادِث الْمَاضِيَة محَال فَوَجَبَ أَن يكون أَوَّلهمْ حَادِثا من غير أم وَلَا أَب وَلَا نُطْفَة وَلَا طبيعة وانه صنع حَكِيم وَإِنَّمَا علمنَا من السّمع أَن اسْمه آدم وَأَنه من طين فَلَو كَانَت الطبيعة تَقْتَضِي ذَلِك بِنَفسِهَا من غير صانع لَكَانَ فِي كل زمَان تظهر صور كَثِيرَة من الطين كصورة آدم ثمَّ النّظر فِي خلق سَائِر الْحَيَوَان كَذَلِك فَإِن انفلاق بعض الطُّيُور عَن فراخها من عَجِيب صنع الله وَكَانَ بعض السّلف يحْتَج بذلك على أَن الله تَعَالَى عليم قدير لَا كعلم الْخلق وقدرتهم لِأَن قدرته أثرت فِيمَا دَاخل الْبَيْضَة من غير كسر لَهَا وَلَا مُبَاشرَة وَعلمه أحكم صنع مَا فِي الْبَيْضَة كَذَلِك وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ الْقُرْآن الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى فِي سُورَة الْحَج {يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب} يَعْنِي أولكم وأوصلكم وَلَيْسَ فِي خلق الْإِنْسَان من التُّرَاب شُبْهَة أَلْبَتَّة لاعتراف الطبائعية بِأَنَّهُ خلاف العوائد الطبيعية وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَخلق مِنْهَا زَوجهَا وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء} وَقد أعظم الله تَعَالَى هَذِه الدّلَالَة فَقَالَ {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ) الْآيَة وَجعل عدم الْإِيمَان بهَا أكفر الْكفْر فَقَالَ سُبْحَانَهُ {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره من أَي شَيْء خلقه من نُطْفَة خلقه فقدره ثمَّ السَّبِيل يسره ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} وَنبهَ بقوله سُبْحَانَهُ على أَن الْمَوْت دع عَنْك الْحَيَاة مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على الله تَعَالَى كَمَا أوضح ذَلِك فِي قَوْله {فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون} إِلَى قَوْله {فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين} وَذَلِكَ أَن الْحَيّ يَمُوت بِإِذن الله تَعَالَى مَعَ اجْتِمَاع أَسبَاب الْحَيَاة فِي هَذَا الْعَالم الْوَاسِع كَمَا يعِيش باذن الله فِي بطن أمه بِغَيْر نفس يجْرِي وَلَا هَوَاء يمد روحه فسبحان من هُوَ على كل شَيْء قدير وَمِنْه المبدأ وَإِلَيْهِ الْمصير وَقد اخْتَار الْمُؤمن هَذِه الْحجَّة فِي قَوْله لصَاحبه الْكَافِر المخاصم لَهُ {أكفرت بِالَّذِي خلقك من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ سواك رجلا} وَأثْنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ بذلك وخلد ذكره فِي أفضل كتبه فَكيف لَا يختاره الْمُؤمن لتقوية يقينه وَدفع وساوس خصومه وشياطينه وَأما دلَالَة الْآفَاق فَمَا يحدث ويتجدد فِي الْعَالم فِي طُلُوع القمرين وَالْكَوَاكِب وغروبها عِنْد دوران الافلاك الدائرات والسفن الْجَارِيَات والرياح الذاريات والنجوم الثوابت مِنْهَا والمعالم والرواجم وَالِاسْتِدْلَال بالرواجم جيد لدلالته الْوَاضِحَة على الْفَاعِل الْمُخْتَار كَمَا يدل على ذَلِك حَرَكَة القمرين الدائمة وَسَائِر النُّجُوم والافلاك وَكَذَلِكَ تغير أَحْوَال الْهَوَاء بالغيوم وَالصَّوَاعِق والبروق العجيبة المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال الحاملة للْمَاء الْكثير المطفئ بطبعه للنار المضادة لَهُ وَمَا فِي الْجمع بَينهَا وانشائها وانزال الأمطار مِنْهَا بالحكمة الْبَالِغَة لَا تختلط قَطْرَة بِأُخْرَى وَلَو اشتدت الرِّيَاح العواصف وصغرت الْقطر وَكَثُرت وتقاربت حَتَّى تقع مُتَفَرِّقَة غير ضارة وَلَو اجْتمعت لعظم ضررها ثمَّ نزُول الْبرد الْقوي الشَّديد المتحجر فِي أَوْقَات الخريف الَّذِي لَا يجمد فِيهِ المَاء مَعَ أَنه لَا يجمد فِي أَيَّام الْغَيْم سَوَاء كَانَت فِي الشتَاء أَو فِي غَيره لرطوبة الْغَيْم فَمن أَيْن جَاءَ الْبرد المتحجر وَالْمَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إِذا جمد لَا يكون على صفة الْبرد أبدا فتأتي هَذِه الامطار فتعم الأَرْض سهولها ووعورها وشعابها وشعافها لينبت العشب الْكثير للنعام وَسَائِر الْهَوَام وتسقي المزروع وتنبت الاشجار والفواكه والازهار وَالثِّمَار وتمد الْبحار والأنهار والآبار ثمَّ مَا فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار والفصول والاحوال وَقد جمع الله تَعَالَى ذَلِك فِي قَوْله {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} إِلَى قَوْله {لآيَات لقوم يعْقلُونَ} فالفكر فِي هَذِه الْأُمُور هُوَ النّظر الْمَأْمُور بِهِ وعَلى ذَلِك درج السّلف من غير تَرْتِيب الْمُقدمَات على قانون أهل الْمنطق بل قد شهد كتاب الله على أَن ذَلِك يُفِيد الْبَيَان حَيْثُ قَالَ {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} ثمَّ توعد من زعم أَن ذَلِك لم يفده بَيَانا بقوله {أولم يكف بِرَبِّك أَنه على كل شَيْء شَهِيد} وعَلى هَذَا قَالَ الشَّيْخ مُخْتَار بن مَحْمُود فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي آخر مَا قيل فِي حقائق النّظر أَنه تَجْرِيد الْفِكر عَن الغفلات وَحكى عَن شَيْخه مَحْمُود بن الملاحي أَنه لَا يشْتَرط فِي الْعلم بِاللَّه أَن يبتني على الْمُقدمَات المنطقيات والأساليب النظريات وَكَيف يُنكر هَذَا أَو يستبعد وَقد حكى الله عَن الهدهد وَهُوَ من الْعَالم البهيمي أَنه وحد الله وَاحْتج على صِحَة توحيده بِهَذَا الدَّلِيل الْمَذْكُور فِي الْآفَاق قَالَ الله سُبْحَانَهُ حاكيا عَنهُ {أَلا يسجدوا لله الَّذِي يخرج الخبء فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي الْمَطَر والنبات فاحتج بحدوث هذَيْن الْأَمريْنِ العجيبين الْمَعْلُوم حدوثهما مَعَ تكررهما بِحَسب حَاجَة الْجَمِيع إِلَيْهِمَا وَكَذَلِكَ قيل لبَعض الاعراب بِمَ عرفت رَبك فَقَالَ البعرة تدل على الْبَعِير وآثار الخطا تدل على الْمسير فسماء ذَات أبراج وَأَرْض ذَات فجاج كَيفَ لَا تدل على الْعلي الْكَبِير وَقد أشارت الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى هَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَمِمَّا أستجيد فِي هَذَا الْمَعْنى وتناقله السّلف الصَّالح قَول زيد بن عَمْرو ابْن نفَيْل رَحمَه الله تَعَالَى (رضيت بك اللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أرى ... أدين إِلَهًا غَيْرك الله ثَانِيًا) (وَأَنت الَّذِي من فضل من وَرَحْمَة ... بعثت إِلَى مُوسَى رَسُولا مناديا) (فَقلت لمُوسَى اذْهَبْ وَهَارُون فَادعوا ... إِلَى الله فِرْعَوْن الَّذِي كَانَ طاغيا) (وقولا لَهُ آأنت سويت هَذِه ... بِلَا وتد حَتَّى اطمأنت كَمَا هيا) (وقولا لَهُ آأنت رفعت هَذِه ... بِلَا عمد أرْفق إِذا بك بانيا) (وقولا لَهُ آأنت سويت وَسطهَا ... منيرا إِذا مَا جنه اللَّيْل هاديا) (وقولا لَهُ من يُرْسل الشَّمْس غدْوَة ... فَيُصْبِح مَا مست من الأَرْض ضاحيا) (وقولا لَهُ من ينْبت الْحبّ فِي الثرى ... فَيُصْبِح مِنْهُ البقل يَهْتَز رابيا) (وَيخرج مِنْهُ حبه فِي رؤسه ... وَفِي ذَاك آيَات لمن كَانَ واعيا) وَله أَيْضا (وَأسْلمت وَجْهي لمن أسلمت ... لَهُ المزن تحمل عذبا زلالا) وَفِيه يَقُول ورقة بن نَوْفَل (رشدت وأنعمت ابْن عَمْرو وَإِنَّمَا ... تجنبت تنورا من النَّار حاميا) وتفكر فِي تبَاين القمرين فِي الْحَرَارَة والبرودة وَبرد الْقَمَر مَعَ استمداده فِي نوره من الشَّمْس وحرارة الشَّمْس الشَّدِيدَة ومم استمدت تِلْكَ الْحَرَارَة الدائمة المتوقدة وَهِي فِي أرفع الاجواء الرّطبَة الْبَارِدَة وَكَيف لم تحترق وتتلاش مَعَ شدَّة حَرَارَتهَا ودوامها وَعدم مَا تحرقه مثل سَائِر الناريات وَقد ذكر صَاحب الْوَظَائِف أَن فِي كتاب الله تَعَالَى من الْآيَات فِي هَذَا الْمَعْنى خَمْسمِائَة آيَة وَقد ذكرت فِي تَكْمِلَة تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن من ذَلِك مَا يشفي وَيَكْفِي ولنختم هَذَا الْمَعْنى بِذكر آيَة وَاحِدَة مِنْهَا وَهِي قَوْله تَعَالَى {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره} وَفِي آيَة أُخْرَى بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 {يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده} وَهَذِه حجَّة أجمع عَلَيْهَا الْكَفَرَة مَعَ الْمُسلمين فَإِن الْجَمِيع اتَّفقُوا على أَن الْعَالم فِي الْهَوَاء أرضه وسماؤه وَمَا فِيهِ من الْبحار وَالْجِبَال وَجَمِيع الاثقال وَقد ثَبت بضرورة الْعقل أَن الثقيل لَا يسْتَمْسك فِي الْهَوَاء إِلَّا بممسك وَأَن هَذَا الامساك الدَّائِم المتقن لَا يكون بِمَا لَا يعقل من الرِّيَاح كَمَا زعمت الفلاسفة على أَن الرِّيَاح تحْتَاج إِلَى خَالق يخلقها ثمَّ إِلَى مُدبر يقدرها مستوية الانفاس موزونة الْقُوَّة لَا يزِيد مِنْهَا شَيْء على شَيْء حَتَّى تعتدل اعتدالا أتم من اعْتِدَال الْفَاعِل الْمُخْتَار فَإِن الْفَاعِل الْمُخْتَار لَو قصد الِاعْتِدَال التَّام حَتَّى يَسْتَوِي على رَأسه حفْنَة مَمْلُوءَة مَاء لم يسْتَطع تَمام الِاعْتِدَال إِلَّا برياضة شَدِيدَة فَكيف تعتدل عواصف الرِّيَاح وَتَقَع موزونة وزن القراريط فِي الصنجات المعدلة حَتَّى يَسْتَوِي عَلَيْهَا ثقل الأَرْض وَالْجِبَال من غير رب عَظِيم قدير عليم مُدبر حَكِيم وَأما دلَالَة المعجزات فَهِيَ من أقوى الدلالات وأوضح الْآيَات لجمعها بَين أَمريْن واضحين لم يكن نزاع المبطلين إِلَّا فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا وهما الْحُدُوث الضَّرُورِيّ والمخالفة للطبائع والعادات وَهَذَا هُوَ الَّذِي أرَاهُ الله خَلِيله عَلَيْهِ السَّلَام حِين سَأَلَ الله طمأنينة قلبه وَالَّذِي احْتج بِهِ مُوسَى الكليم عَلَيْهِ السَّلَام على فِرْعَوْن وَسَماهُ شَيْئا مُبينًا كَمَا حَكَاهُ الله تَعَالَى فِي سُورَة الشُّعَرَاء حَيْثُ قَالَ فِرْعَوْن {لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين} قَالَ مُوسَى {أولو جئْتُك بِشَيْء مُبين قَالَ فأت بِهِ إِن كنت من الصَّادِقين فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} إِلَى قَوْله {فألقي السَّحَرَة ساجدين} وكل مَا تَعَارَضَت فِيهِ أنظار الْعُقَلَاء وقدحت فِيهِ شكوك الأذكياء فَلَا شكّ أَن لأهل الاسلام من ذَلِك الْقدح الْمُعَلَّى فِي اثبات الصَّانِع الْحَكِيم تَعَالَى وعَلى كل حَال فالنبوات وآياتها الْبَيِّنَة ومعجزاتها الباهرة وخوارقها الدامغة أَمر كَبِير وبرهان مُنِير مَا طرق الْعَالم لَهُ معَارض أَلْبَتَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 خُصُوصا مَعَ قدمه وتواتره فَإِن آدم عَلَيْهِ السَّلَام أول الْبشر وأبوهم نَبِي مُرْسل إِلَى أَوْلَاده ثمَّ لم تزل رسل الله عز وَجل لترى مبشرين ومنذرين وعاضدين لفطرة الله الَّتِي فطر الْخلق عَلَيْهَا فَلَا أشفى وَلَا أَنْفَع من النّظر فِي كتبهمْ وآياتهم ومعجزاتهم وأحوالهم ثمَّ اعتضد ذَلِك بأمرين أَحدهمَا اسْتِمْرَار نصر الْأَنْبِيَاء فِي عَاقِبَة أَمرهم وإهلاك أعدائهم بِالْآيَاتِ الرائعة وَثَانِيهمَا سلامتهم واتباعهم ونجاتهم على الدَّوَام من نزُول الْعَذَاب عَلَيْهِم كَمَا نزل على أعدائهم وَلَا مرّة وَاحِدَة وَذَلِكَ بَين فِي الْقُرْآن وَجَمِيع كتب الله تَعَالَى وَجَمِيع تواريخ الْعَالم وَمن غريبها الَّذِي لَا يكَاد أحد ينظر فِيهِ حفظهم مَعَ ضعفهم من الأقوياء الاعداء وَأهل الْقُدْرَة مثل حفظ مُوسَى وَهَارُون من فِرْعَوْن مَعَ ظُهُور قدرته وَلذَلِك قَالَا {إننا نَخَاف أَن يفرط علينا أَو أَن يطغى} فَقَالَ الله تَعَالَى لَهما {لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} وَكَذَلِكَ قَالَ نوح لِقَوْمِهِ {يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون} وَنَحْو ذَا قَالَ هود لِقَوْمِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون} وَلما نزل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} ترك الحرس وَكَانَ يحرس قبل نُزُولهَا وقصة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك أشهر وأبهر بل على هَذَا درج أهل الصّلاح ووضحت حماية الله لأهل الصدْق فِي التَّوَكُّل كَمَا وعد الله تَعَالَى بِهِ والمختصر لَا يحْتَمل إِلَّا الاشارة ثمَّ يفتح الله تَعَالَى على المتأمل وَمِنْهُم من كَفاهُ الله بالاسباب الظَّاهِرَة الحارقة مثل ملك سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام واخدام الْجِنّ مَعَ الانس وتسخير الرّيح لَهُ وَجَمِيع مَا حكى عَنهُ فَهَذَا أَيْضا يدل على الله تَعَالَى أوضح الدّلَالَة حَيْثُ جمعت قدرته الباهرة خرق الْعَادَات فِي نصرتهم بالأسباب الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وَكَذَلِكَ عقوبات أَعدَاء الله الخارقة كمسخ أهل السبت قردة وبمثل ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 يعلم الله ضَرُورَة لِأَن مثل ذَلِك لَا يَصح بالطبع وَهُوَ متواتر مَعَ الْيَهُود مَعَ ثُبُوته فِي كتاب الله وَفِيه مَا يدل على وُقُوعه ضَرُورَة لقَوْله تَعَالَى {وَلَقَد علمْتُم الَّذين اعتدوا مِنْكُم فِي السبت فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ فجعلناها نكالا لما بَين يَديهَا وَمَا خلفهَا وموعظة لِلْمُتقين} فَلَو لم يكن هَذَا حَقًا مَعْلُوما عِنْد خصوم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا خوطبوا بذلك وَلَو خوطبوا بذلك وَعِنْدهم فِيهِ أدنى ريب لبادروا إِلَى التَّكْذِيب والتشنيع وكل هَذَا يعلم ضَرُورَة من العوائد المستمرة وَكَذَلِكَ نتق الْجَبَل وفلق الْبَحْر وقصة أَصْحَاب الْفِيل وَأَصْحَاب الْجنَّة فِي ن وصاحبا الْجنَّة فِي الْكَهْف وشفاء أَيُّوب وإحياء الْمَوْتَى لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام بل مِنْهُ جَمِيع المعجزات والكرامات الخارقات وَمن أعظمه إحْيَاء الْمَوْتَى لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَلَام عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي الطفولة وَهُوَ مَعْلُوم بالتواتر وَسبب غلو النَّصَارَى فِيهِ وهم خلائق يعلم بخبرهم الْعلم الضَّرُورِيّ وَخسف قَارون وداره والخلق ينظرُونَ وَنَحْو ذَلِك وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {وَذكرهمْ بأيام الله} وَقَوله تَعَالَى {وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة لقوم يعْقلُونَ} وَقد نبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هَذِه الدلالات الثَّلَاث فِي أول سُورَة الْأَنْعَام فتأملها لكنه يُسَمِّي المعجزات الْآيَات ثمَّ أتبعهَا بابطال اعتلالهم بِالسحرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي النبوات وَيَنْبَغِي هَهُنَا مطالعة كتب قصَص الْأَنْبِيَاء وَمن أَجودهَا كتاب ابْن كثير الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَكتب المعجزات مثل الشِّفَاء للْقَاضِي عِيَاض والمعجزات النَّبَوِيَّة من جَامع الْأُصُول فِي حرف النُّون ولي فِي ذَلِك كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 مُخْتَصر سميته الْبُرْهَان الْقَاطِع فِي معرفَة الصَّانِع وَمن أحسن مَا أُشير فِيهِ إِلَى المعجزات الْمَذْكُورَة فِي كتاب الله تَعَالَى هَذِه الأبيات (هُوَ الله من أعْطى هداه وَصَحَّ من ... هَوَاهُ أرَاهُ الخارقات بحكمة) (بِذَاكَ على الطوفان نوح وَقد نجا ... بِهِ من نجا من قومه فِي السَّفِينَة) (وغاض على مَا فاض عَنهُ استجابة ... وجد إِلَى الجودي بهَا واستقرت) (وَسَار وَمتْن الرّيح تَحت بساطه ... سُلَيْمَان بالجيشين فَوق البسيطة) (وَقبل ارتداد الطّرف احضر من سباله ... عرش بلقيس بِغَيْر مشقة) (وَأحمد ابراهيم نَار عدوه ... وَمن نوره عَادَتْ لَهُ روض جنَّة) (وَلما دَعَا الاطيار من رَأس شَاهِق ... وَقد ذبحت جَاءَتْهُ غير عصية) (وَمن يَده مُوسَى عَصَاهُ تلقفت ... من السحر أهوالا على النَّفس شقَّتْ) (وَمن حجر أجْرى عيُونا بضربة ... بهَا دَائِما سقت وللبحر شقَّتْ) (ويوسف إِذْ ألْقى البشير قَمِيصه ... على وَجه يَعْقُوب عَلَيْهِ بأوبة) (رَآهُ بِعَين قبل مقدمه بَكَى ... عَلَيْهِ بهَا شوقا إِلَيْهِ فكفت) (وَفِي آل إِسْرَائِيل مائدة من ... السَّمَاء لعيسى أنزلت ثمَّ مدت) (وَمن أكمه أبرى وَمن وضح غَدا ... شفى وَأعَاد الطير طيرا بنفخة) (وَصَحَّ بأخبار التَّوَاتُر أَنه ... أمات وَأَحْيَا بالدعا رب ميت) (وَأبْعد من هَذَا عَن السحر أَنه ... رَضِيع يُنَادي بِاللِّسَانِ الفصيحة) (ينزه عَن ريب الظنون عفيفة ... مبرأة من كل سوء وريبة) (وَقَالَ لأهل السبت كونُوا إلهنا ... قرودا فَكَانُوا عِبْرَة أَي عِبْرَة) (وصرع أهل الْفِيل من دون بَيته ... بطير أبابيل صغَار ضَعِيفَة) (وأحرق روض الجنتين عُقُوبَة ... بكاف وَنون عِبْرَة للبرية) من نبوع الْعُيُون من الْحجر بِضَرْب الْعَصَا دَلِيل سَمْعِي خَاص قَاطع على خلق المَاء وعَلى إِخْرَاج الْمَخْلُوق من الْعَدَم الْمَحْض وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وفار التَّنور} وَكَذَلِكَ خُرُوج المَاء الْكثير من أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَإِنَّمَا ذكرت هَذِه الْآيَات لِأَن بعض النَّاس ذكر أَنه لَيْسَ فِي هَذَا نَص شَرْعِي وَإِنَّمَا يدل عَلَيْهِ الْعقل والعمومات لَا النُّصُوص وَقد روى الْحَاكِم فِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيثا فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى جَمِيعًا مِنْهُ تَكْمِيل ثمَّ يعتضد هَذَا بِمَا يُنَاسِبه من كرامات الصَّالِحين وعقوبات الظَّالِمين الْمَذْكُورَة فِي كتاب الله تَعَالَى والمتواترة والمشاهدة ثمَّ مَا وَقع من تكَرر نصر الله تَعَالَى للحق والمحقين وَإِنَّهُم وان ابتلوا فالعاقبة لَهُم على مَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وَجل {وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} وَكَذَلِكَ قَول الله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} وَقَوله {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} وَقَوله تَعَالَى {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي} وَقد جود الزَّمَخْشَرِيّ هَذَا الْمَعْنى فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} وفسرها بِمَا كَانَ من فتوح الاسلام الخارقة فِي الْآفَاق وفسرها بِبِلَاد الْعَجم وَفِي أنفسهم وفسرها بِبِلَاد الْعَرَب وَفِي ذَلِك حَدِيث ابْن عَبَّاس الطَّوِيل وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء تبتلى ثمَّ تكون لَهُم الْعَاقِبَة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَيشْهد لصِحَّته الاستقراء من التواريخ وَقَوله تَعَالَى {وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} وَفِي الشُّعَرَاء تَنْبِيه على ذَلِك فِي آيَات كَثِيرَة يعقبها بقوله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فَتَأمل ثمَّ مَا قد وَقع للْإنْسَان من إِجَابَة الدَّعْوَات وكشف الكربات وَستر العورات وتيسير الضرورات وَقَضَاء الْحَاجَات وكشف المشكلات والالهام فِي المعارف الخفيات والاشارات المرشدات فِي المنامات الصادقات وَفِي هَذَا يَقُول ابْن الفارض شعرًا (وَقل لي من ألْقى إِلَيْك علومه ... وَقد ركدت مِنْهُ الْحَواس لغفوة) وَقد احْتج بذلك الْغَزالِيّ وعارض بِهِ الفلاسفة فِي إحالتهم لعلم الْغَيْب وَهَذِه الْأَشْيَاء إِذا ضمت إِلَى الْبَرَاهِين حصل من مجموعها قُوَّة بَقينَ كَثِيرَة وَلَقَد قَالَ الْغَزالِيّ أَنه حصل لَهُ يَقِين قوي بالمعاد من مَجْمُوع براهين وقرائن وتجارب ثمَّ الْيَقِين بعد هَذَا كُله من مواهب الله تَعَالَى فَإِن أنعم الله بِهِ عَلَيْك فَكُن من الشَّاكِرِينَ وَإِن عرض لَك الشَّك بعد هَذَا كُله فاحذر أَن يكون ذَلِك عُقُوبَة بذنب كَمَا نبه الله على ذَلِك بقوله {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} وَقَوله {سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} فافزع إِلَى الله تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار والتضرع والتذلل وَطلب أَسبَاب الرقة والتخويف الْعَظِيم لنَفسك من الْوُقُوع فِي الشقوة الْكُبْرَى بِعَذَاب الْآخِرَة فَإِن من طبائع النُّفُوس الْإِيمَان عِنْد شدَّة الْخَوْف وَلذَلِك آمن قوم يُونُس لما رَأَوْا الْعَذَاب وآمن فِرْعَوْن حِين شَاهد الْغَرق وَقد نبه الله على ذَلِك بقوله {بل هم فِي شكّ من ذكري بل لما يَذُوقُوا عَذَاب} وَلذَلِك يرجع كثير من الْعُقَلَاء عِنْد الْمَوْت عَن عقائد وقبائح وشبهات كَانُوا مصرين عَلَيْهَا وَلَيْسَ ذَلِك لتجلي برهَان حِينَئِذٍ بل لِأَن الطَّبْع القاسي كَانَ كالمعارض للبرهان فَلَمَّا لِأَن بَقِي الْبُرْهَان بِلَا معَارض وَكَذَلِكَ لَو شَاهد فِرْعَوْن وَغَيره أعظم برهَان بِغَيْر خوف مَا آمنُوا قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَحكى ابْن خلكان عَن ابْن سينا أَنه لما عرف عِلّة الْمَوْت أقبل على الْقُرْآن وَترك مَا كَانَ عَلَيْهِ فانصح نَفسك وَذكرهَا وَقل لَهَا لَو كَانَ مَعَك يَقِين بارتفاع التَّكْلِيف مَا خفت وَلَكِنَّك عَن قريب إِن لم يَرْحَمك مَوْلَاك تقعين فِي أَشد الْعَذَاب وينكشف عَنْك هَذَا الارتياب وَذكرهَا عَظِيم حسرة المكذبين يَوْم يُقَال {انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} فَإِن النَّفس كَمَا أَنَّهَا بعيدَة الايمان فَإِنَّهَا بعيدَة الامان وخوفها أعظم الاعوان على الايمان قَالَ الله تَعَالَى {وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون} وَقَالَ تَعَالَى {وَتَركنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم} وَقَالَ عز وَجل {وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذْ جَاءَهُم الْهدى ويستغفروا رَبهم إِلَّا أَن تأتيهم سنة الْأَوَّلين أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب قبلا} وَلِأَنَّهَا لوجدان الْخَوْف عِنْد التخويف تنزل من مرتبَة الْقطع بالتكذيب الَّذِي هُوَ أول مَا يروم الشَّيْطَان فَإِذا نزلت من ذَلِك وَجب عَلَيْهَا فِي الْعقل تَصْدِيق الثِّقَة وَالْعَمَل بِالظَّنِّ كَيفَ إِذا جَاءَ الثِّقَة مَعَ ظن صدقه بالمعجز وعضدته الْبَرَاهِين الْمُقدمَة وَإِلَى هَذِه الطَّرِيقَة الاشارة بقوله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ} إِلَى قَوْله {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقَوله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ} وَقَوله {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} وَقَوله تَعَالَى {وبدا لَهُم من الله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 مَا لم يَكُونُوا يحتسبون) فَإِن نفرت النَّفس من الايمان ببعص المحارات وتوهمت أَنه من المحالات كثبوت الْقدَم الَّذِي لَا نعرفه إِلَّا بالتصديق أَو ثُبُوت الْحِكْمَة فِي الْعَذَاب وَخلق أَهله فَسَيَأْتِي الْجَواب فِي ذَلِك فِي اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى وَمن أَنْفَع مَا يدْفع الْحيرَة بِهِ أَنه لابد من لُزُوم المحارة فِي الْعُقُول على كل تَقْدِير والاسلام أقل المحارات من جَمِيع الْملَل الكفرية وبالاسلام تنْدَفع كلهَا وَتخرج الْعُقُول من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَانْظُر إِلَى هَذَا الْعَالم المحسوس بِالضَّرُورَةِ تَجِد المحارة الْعَقْلِيَّة لَازِمَة لوُجُوده لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو بِالضَّرُورَةِ من الْحُدُوث أَو الْقدَم فالقدم من محارات الْعُقُول والحدوث من غير مُحدث من محاراتها بل من محالاتها فالمحارات أقرب من المحالات لِأَن الْمُمكن الْبعيد أقرب من الْمُمْتَنع وَلَا ثَالِث لهذين الْأَمريْنِ إِلَّا الاسلام وَإِلَى هَذَا أَشَارَ من قَالَ (صُورَة الْكَوْن محَال ... وَهِي حق فِي الْحَقِيقَة) لكنه أَخطَأ فِي تَسْمِيَة المحارة محالا فَإِن كَانَت المحارة لَازِمَة لِلْإِسْلَامِ فَهِيَ لما عداهُ ألزم فَإِن كَانَ هَذَا اللُّزُوم حَقًا فالمحارة حق وَالْحق لَا يستوحش مِنْهُ وَإِن كَانَ بَاطِلا فالباطل حقيق لَا يستوحش من خَشيته لِأَنَّهُ لَا شَيْء حَقِيقَة فَكيف الْخَوْف من لَا شَيْء فَمن لم يثبت الرب قَدِيما أثبت الْعَالم قَدِيما وَمن لم يثبت لَهُ أسماءه الْحسنى بِلَا سَبَب أثبت الاحكام العجيب للْعَالم بِلَا سَبَب وَمن لم يثبت الرب بِكَمَالِهِ بِلَا سَبَب أثبت الْعَالم بأحكامه وعجائبه بِلَا سَبَب وَمن لم يقبل الايمان بالبرهان وَالْقُرْآن قبل الْكفْر بِلَا قُرْآن وَلَا برهَان وَإِلَى هَذَا آشار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ (لَا يزَال النَّاس يتساءلون حَتَّى يَقُولُوا هَذَا الله خلق الْخلق فَمن خلق الله) وأمرنا بالاستعاذة والانتهاء حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ يُقَال للْكَافِرِ فَإِذا أمكن وجود الْعَالم بِغَيْر خَالق فَأولى مِنْهُ وجود الرب بِغَيْر خَالق وَدلّ على أَنه لابد من انْتِهَاء الموجودات الممكنة إِلَى وَاجِب الْوُجُود عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَاعْلَم أَن مَادَّة هَذِه الوساوس عجب الانسان بعقله وَعلمه وظنه أَنه إِذا لم يعرف شَيْئا فَهُوَ بَاطِل فاعرف أَنَّك كَمَا قَالَ أصدق الْقَائِلين فِي صفة الانسان {إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} وَيدل على هَذَا من الْمَعْقُول مَعَ الْمَنْقُول أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن الانسان يُؤثر هَوَاهُ فِي الاقبال على دَار الفناء وعَلى شهواتها الضارة الْمضرَّة فِي العاجلة الْمُشَاهدَة وَيقدم الْمَرْجُوح على الرَّاجِح قطعا ويتحمل من الْأَمَانَات الَّتِي هُوَ فِي تحملهَا مُخْتَار مَا يدل على صِحَة مَا رُوِيَ من تحمل آدم عَلَيْهِ السَّلَام لأصلها وجميعها مثل الدُّخُول فِي الدُّيُون والضمانات والحقوق الزَّوْجِيَّة وَغَيرهَا وَحُقُوق المخالطة وَالْفرق بَين الْأَحْكَام عِنْد الرِّضَا وَالْغَضَب والغنى والفقر والامان وَالْخَوْف وَبِذَلِك يعرف الفطين من طبع نَفسه الظُّلم وَجحد الْحق عِنْد رُجْحَان الدَّاعِي إِلَى ذَلِك وَلذَلِك يُوجد الْبُخْل من بعض الاجواد فِي الاحوال وَالْكذب من بعض الصَّادِقين كَذَلِك قَالَ صَالح عَلَيْهِ السَّلَام {يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} فَبين أَن الصَّارِف لَهُم الْهوى الْمَحْض لَا الشُّبْهَة وَمن هُنَا نقم الله على الْكفَّار أَنهم آمنُوا بِالْبَاطِلِ فَلَو كَانَ كفرهم بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الله وَكتبه وَرُسُله من أجل الشُّبْهَة لكانوا لعبادة الْحِجَارَة وَغَيرهَا أَشد كفرا وَذَلِكَ بَين فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفرُوا بِاللَّه أُولَئِكَ هم الخاسرون} وَنَحْوهَا قَوْله فِي قصَّة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام {وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وَقد هدان وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تتذكرون وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم} فَبين الْخَلِيل لَهُم أَن خوفهم وتخويفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 من أصنامهم واعتذارهم بِهِ عَن الايمان شَيْء بَاطِل وَلَو كَانَ من قبيل خوف الْعُقَلَاء الْمُسْتَند إِلَى الامارات الصَّحِيحَة أَو الْأَدِلَّة الْوَاضِحَة لَكَانَ خوفهم من الله تَعَالَى أولى من كل وَجه صَحِيح ولوضوح هَذَا جَاءَ فِيهِ بأدوات الاستنكار والاستبعاد مثل قَوْله {وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم} وَقَوله {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن} وَهَذِه الْمُعَارضَة وأمثالها تفِيد الْقطع بعناد الْخصم فتأملها فِي كتاب الله تَعَالَى وَهِي جَيِّدَة مفحمة نافعة وَلذَلِك سَمَّاهَا الله تَعَالَى حجَّة وَرفع بهَا خَلِيله عَلَيْهِ السَّلَام وَنَحْوهمَا قَوْله تَعَالَى {وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعِي الله وَحده كَفرْتُمْ وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير} وَقَوله تَعَالَى {أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمة الله هم يكفرون} وَقد يَقع من أهل الايمان شَيْء من ذَلِك فِي غير الْكفْر وَلذَلِك لم تقبل شَهَادَة الْمُؤمن الْعدْل لنَفسِهِ وَلَا على عدوه وَكَذَلِكَ حكى الله عَن الْكفَّار جحدهم فِي يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى تشهد عَلَيْهِم جُلُودهمْ وَحَتَّى يَقُولُوا لَهَا لم شهدتم علينا وَذَلِكَ أَنهم رَأَوْا من عدل الله تَعَالَى وَحكمه بِالْبَيِّنَاتِ دون علمه مَا أطْعمهُم فِي نفع ذَلِك لَهُم والطبيعة وَاحِدَة إِلَّا مَا هدى الله وَأصْلح فاحذر من هَذِه الطبيعة أَن تتوهم كفرها وقساوتها وجفاوتها برهانا مُعَارضا لبراهين الْحق بل وَلَا شُبْهَة أبدا وَلذَلِك يَزُول شكها وريبها بمعانية الْأَهْوَال كمعاينة هول المطلع كَمَا حكى ابْن خلكان عَن ابْن سينا رَأس الفلاسفة أَنه لما عرف أَنه ميت أعتق مماليكة وَفعل من الْقرب الَّذِي أمكنه وَأَقْبل على التضرع إِلَى الله تَعَالَى وتلاوة كتاب الله واضمحلت عَنهُ تِلْكَ الوساوس فَهَذِهِ هَذِه وَلذَلِك أَكثر الله تَعَالَى وَرُسُله من الْجمع بَين الْأَدِلَّة والوعيد وقصص الْمُعَذَّبين واعتمدها مُؤمن آل فِرْعَوْن فَأحْسن فِي دُعَاء قومه إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الايمان وتخويفهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى الْمُعَجل فِي الدُّنْيَا ثمَّ من الْعَذَاب الْأَكْبَر فَقَالَ {يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد} الْآيَات وَإِنَّمَا بَدَأَ بِذكر عَذَاب الله للْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُوما لَهُم بِالضَّرُورَةِ فتأثيره فِي النُّفُوس أقوى كَمَا ذكره الْمُؤَيد بِاللَّه فِي قُوَّة النَّفْع بِذكر الْمَوْت وَالْبَلَاء فِي الْقُبُور وتصور ذَلِك وَأَمْثَاله والآن ظهر لَك أَن اثبات الرب والايمان بِهِ هُوَ الْحق والأحوط كَمَا تبين قبل ذَلِك أَن اثبات الْعُلُوم هُوَ الْحق بِحَيْثُ لَا يخَاف فِي هذَيْن الاعتقادين مضرَّة أَلْبَتَّة وَالْخَوْف الْعَظِيم والمضار الْعَظِيمَة فِي عدمهما كَمَا قَالَ الْقَائِل (قَالَ المنجم والطبيب كِلَاهُمَا ... لَا تبْعَث الاموات قلت إلَيْكُمَا) (إِن صَحَّ قولكما فَلَيْسَ بضائري ... أَو صَحَّ قولي فالوبال عَلَيْكُمَا) وَمثل ذَلِك قَول الآخر (ورغبني فِي الدّين أَن دَلِيله ... قوي ويخشى كل شَرّ بجحده) (وكرهني للكفر أَن فَسَاده ... جلي ويخشى كل شَرّ بِقَصْدِهِ) بل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ} الْآيَة كَمَا تقدم وَالْمرَاد ايراده من غير شكّ لمداواة النُّفُوس الجامحة والوساوس الْغَالِبَة والاستعانة على تليينها بالمعارضات النافعة لتسلم الْعُقُول مِمَّا يزاحمها مِمَّا شقّ على الأوهام من الغيوب وتذعن لما يُخَالف الْقيَاس من الْأَحْكَام الْبَاب الرَّابِع فِي اثبات التَّوْحِيد والنبوات وفروعها ثمَّ أَن المثبتين للعلوم والربوبية اخْتلفُوا فِي أُمُور ثَلَاثَة أَحدهَا تَوْحِيد الرب وَقد علم بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَإِن خِلَافه كفر وَدَلِيل السّمع فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 هَذَا الْمقَام صَحِيح بالِاتِّفَاقِ مَعَ مَا عضده من الدَّلِيل الْعقلِيّ الَّذِي نبه الْقُرْآن عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَلَا خَفَاء فِي ذَلِك وَلَا خلاف فِيهِ بَين الْمُسلمين فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى عناية وَلَا شكّ فِي قُوَّة براهينة وَسُقُوط الْمعَارض لَهَا وَأَنه أحوط لما فِي مُخَالفَته من خوف الْعَذَاب الْعَظِيم وَسَيَأْتِي تَمام الْكَلَام فِيهِ فِي فروع النبوات وَأما الْكَلَام فِي النبوات فَاعْلَم أَنه من أوضح المعارف وَقد تطابقت دَلَائِل المعجزات الباهرات عَلَيْهِ وَلَا شكّ مَعَ ذَلِك أَنه الاحوط لِأَن التَّكْذِيب بهَا من الْكفْر الْمَعْلُوم الْمُوجب للعذاب الْأَكْبَر وَلَيْسَ لمنكري النبوات من الشّبَه مَا يُعَارض دَلَائِل ثُبُوتهَا وَلَا مَا ينتهض لإثارة الشكوك فِي هَذَا الْمقَام الْبَين وَإِنَّمَا قدحت البراهمة فِي الشَّرَائِع بِنَحْوِ إِبَاحَة ذبح الْبَهَائِم من غير جرائم وَذَلِكَ جهل فَاحش فَإِن الله الَّذِي خلقهَا هُوَ الَّذِي أحلهَا فِي دَار الفناء الَّتِي كتب فِيهَا الْمَوْت على كل حَيّ لحكمة بَالِغَة وَقد سَاوَى سُبْحَانَهُ بَيْننَا وَبَينهَا بِالْمَوْتِ وَإِن اخْتلفت الْأَسْبَاب وَلَا مَانع فِي الْعقل من ذَلِك قبل وُرُود الشَّرْع على بعض الْوُجُوه فَهَؤُلَاءِ البراهمة لَا يُنكرُونَ تطابق الْعُقَلَاء على سقِِي الْمزَارِع بِالْمَاءِ وَإِن مَاتَ بِسَبَب ذَلِك كثير من الذَّر وَنَحْوهَا من الْحَيَوَانَات الَّتِي تكون فِي مجاري المَاء وعَلى الاسْتِسْقَاء من المناهل وَإِن كَانَ وَسِيلَة إِلَى موت حَيَوَان المَاء وعَلى إِخْرَاج دود الْبَطن بالأدوية وَإِن مَاتَ أُلُوف كَثِيرَة بِسَبَب عَافِيَة انسان وَاحِد من ألم لَا يخَاف مِنْهُ الْمَوْت وَيخرج الانسان الذُّبَاب من منزله وَلَو هلكن من الْبرد وَالْحر وَنَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا أجمع أهل الْعُقُول على مثل هَذَا لما فِي فطر الْعُقُول من تَرْجِيح خير الخيرين وَاحْتِمَال أَهْون الشرين عِنْد التَّعَارُض كَمَا قيل حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض وَمن ذَلِك اسْتحْسنَ الْعُقَلَاء تحمل المضار الْعَظِيمَة فِي الحروب لدفع مَا هُوَ أضرّ مِنْهَا وَقَالَت الْعَرَب (بسفك الدما يَا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل تنجو كل نفس من الْقَتْل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَقد جَاءَ الْقُرْآن بذلك بأفصح عبارَة وأوجزها فَقَالَ تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} وَالْقَصْد أَنه لَا يُنكر فِي الْعُقُول أَن يغذي الْحَيَوَان الشريف بِالْحَيَوَانِ الخسيس فتدفع بالغذاء عَنهُ الْمضرَّة وتكمل بالغذاء لَهُ النِّعْمَة وعَلى تَسْلِيم أَن الْعقل لَا يستحسن ذَلِك فَإِنَّهُ يجوز أَن يحكم بِحسن ذَلِك مَالك الْجَمِيع علام الغيوب الَّذِي لَا معقب لحكمه وَلَا عَالم بغيبه وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وتوهم مُعَارضَة ذَلِك بالتقبيح الْعقلِيّ فِي غَايَة السُّقُوط فَإِن الْعُقَلَاء يَخْتَلِفُونَ فِيمَا دق من هَذَا الْبَاب وَإِنَّمَا يتفقون على الضَّرُورِيّ مِنْهُ الَّذِي لم يرد الشَّرْع بِهِ قطعا مثل تَرْجِيح الْكَذِب على الصدْق مُطلقًا لَا مُقَيّدا بِحَال الضَّرُورَة فَأَي عَاقل يرجح هَذِه الحماقة على الْبَرَاهِين الْوَاضِحَة فِي النبوات وَقد جود الجاحظ الْكَلَام فِي النبوات فِي كتاب مُفْرد فِي ذَلِك وَتَبعهُ فِي ذَلِك الامام الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام فهذب كِتَابه وَحسن ترصيعه وَقرب متباعدة فَيَنْبَغِي للْمُسلمِ الْوُقُوف عَلَيْهِ وَحسن التَّأَمُّل لَهُ فَالْأَمْر فِي ذَلِك جلي فطري وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يذكر هُنَا الفروق بَين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَسَائِر من يَقع مِنْهُ الخوارق من أهل السحر والطلسمات وَسَائِر أهل الرياضات وَاعْلَم أَن الْمُتَكَلِّمين يذكرُونَ هُنَا فروقا كَثِيرَة مِنْهَا أَن السحر فن مَعْرُوف لَهُ شُيُوخ يعرفونه ويعلمونه وَفِيه مصنفات وَمن تولع بِهِ وطالع كتبه وتتلمذ لشيوخه عرفه وَإِنَّمَا اخْتلف فِي تعلمه فَقيل حرَام وَقيل فرض كِفَايَة حَتَّى إِذا ظهر سَاحر عرف سحره وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه لم يكن فِي الصَّحَابَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يعرفهُ وَلَو كَانَ فرضا كَانُوا أقوم النَّاس بِهِ وَثَانِيهمَا أَنه قد ثَبت بِالضَّرُورَةِ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتم الْأَنْبِيَاء وَهَذَا برهَان يُوضح لنا أَن كل مُدع للنبوة بعده كَاذِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَأَن كل خارقة تَأتي على يَد مدعي النُّبُوَّة بعده فَأَنَّهَا غير صَحِيحَة فَإِذا تقرر هَذَا فقد اتَّضَح الْفرق فَإِن النبوات لَا حِيلَة لأحد فِي اكتسابها الْفرق الثَّانِي أَنه لَا حَقِيقَة للسحر وَلَا يبْقى وَفِي المعجزات مَا يبْقى مثل النَّاقة فِي قوم صَالح وَمثل الْقُرْآن الْعَظِيم فِي معجزات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك كَانَ أبهر المعجزات فَإِنَّهُ لَو أمكن فِيهِ السحر لأمكن أَن جَمِيع أشعار الْعَرَب وتواريخ الْعَالم وَجَمِيع كتب الدُّنْيَا سحر وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى فِي أول سُورَة الْأَنْعَام {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَابَ عَلَيْهِم الِاعْتِذَار عَن الْحق بِالسحرِ فِي الْموضع الَّذِي لَا يُمكن فِيهِ السحر قطعا فِي عقول الْعُقَلَاء فَكيف وَقد جَعَلُوهُ سحرًا بَينا لَا سحرًا مشكوكا فِيهِ لشدَّة عنادهم يدل على ذَلِك أَنهم جَعَلُوهُ غَايَة مَا اقترحوا تعجيزا وعنادا وعتوا حَيْثُ قَالُوا {أَو ترقى فِي السَّمَاء وَلنْ نؤمن لرقيك حَتَّى تنزل علينا كتابا نقرؤه} فَتَأمل ذَلِك وَكَذَلِكَ أمثالهم من أَعدَاء الاسلام وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة يُونُس حِكَايَة عَن مُوسَى وَقَومه {فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا إِن هَذَا لسحر مُبين قَالَ مُوسَى أتقولون للحق لما جَاءَكُم أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون} فَاكْتفى مُوسَى بتقريعهم حَيْثُ وضح عنادهم الْفرق الثَّالِث أَنه لَا يكون السحر إِلَّا بِشُرُوط مَخْصُوصَة فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة وَلَا يكون بِحَسب الاقتراح بِخِلَاف المعجزات قلت وَهنا فروق أوضح من هَذِه الفروق بَين الْأَنْبِيَاء وَغَيرهم وَذَلِكَ من وُجُوه الأول اتِّفَاق الْأَنْبِيَاء فِي التَّوْحِيد وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَالتَّرْغِيب فِيمَا لَدَيْهِ والترهيب من عُقُوبَته فَالْأول مِنْهُم يبشر بِالثَّانِي وَالْآخر مِنْهُم يُؤمن بِالْأولِ وَلَيْسَ أحد مِنْهُم يُخطئ أحدا وَلَا ينقم عَلَيْهِ وَلَا ينتقصه بِخِلَاف سَائِر أَرْبَاب الخوارق وَسَائِر الْعلمَاء والأولياء فَإِنَّهُ يجْرِي بَينهم الْمُعَارضَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الدَّالَّة على ارْتِفَاع الْعِصْمَة أَلا ترى أَن أهل الرياضة تكون فيهم المبتدعة بل مِنْهُم الدهرية والبراهمة وَقد ذكر صَاحب العوارف طرفا من ذَلِك فِي الْبَاب السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ وصنف شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية مصنفا فِي ذَلِك سَمَّاهُ الْفرق بَين الْأَحْوَال الربانية وَالْأَحْوَال الشيطانية الْوَجْه الثَّانِي مَا ذكره الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى وَهُوَ أَن صَاحب المعجزات يُفَارق صَاحب الْحِيَل وَالسحر فِي الزي والرواء والهيبة وَالْكَلَام وَالْأَفْعَال وَفِي كَافَّة الْأَحْوَال أنوار التَّقْوَى تلألأ فِي وَجه صَاحب المعجزات وآثار الصّلاح تلوح فِي وُجُوه أهل الْخيرَات تعرفهم بِسِيمَاهُمْ كَمَا قَالَ رَبهم ومولاهم شيمتهم التحلم والاصطبار وَدينهمْ الصفح وَالْعَفو وَالِاسْتِغْفَار والجود فالسخاء والايثار والمصافاة مَعَ الْمَسَاكِين والفقراء والحنو والحدب على الضُّعَفَاء والأعراض عَن زخارف الدُّنْيَا وَعَن اتِّبَاع الشَّهَوَات والهوى وَأما أَصْحَاب السحر والحيل فرذائل التزوير لائحة فِي وُجُوههم ومخايل الختل والغدر وَاضِحَة فِي جباههم قصارى هَمهمْ استمالة الأغبياء وإيثار مَوَاطِن الْمُلُوك والأمراء والأغنياء وَغَايَة أمنيتهم نيل الجاه والعز فِي الدُّنْيَا وَالظفر بِمَا يُوَافق النَّفس والهوى اه وَقد سبقه الرَّازِيّ إِلَى هَذَا الْمَعْنى بأجود من كَلَامه لكنه أطول فآثرت اخْتِصَار مَا ذكره الرَّازِيّ فِي كتاب الْأَرْبَعين ونقلته وزدت عَلَيْهِ كثيرا فِي كتاب الْبُرْهَان الْقَاطِع فِي معرفَة الصَّانِع وَصِحَّة الشَّرَائِع وَإِلَى هَذَا الْوَجْه الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون} وَقَوله {أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون} كَمَا تقدم فِي كَلَام مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَوله تَعَالَى {اتبعُوا من لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون} وأمثالها وَفِي آيَة يسن اشارة إِلَى أَن الْكَذِب على الله وعَلى الْخلق فِي غَايَة الْقبْح ونفرة الْعُقَلَاء عَنهُ متمكنة فَلَا يُمكن صدوره من أهل الْعُقُول الراجحة والزهد المجرب لِامْتِنَاع وُقُوع الْمَرْجُوح عقلا وسمعا وَهَذِه وأضعاف أضعافها صِفَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا أوضحته فِي الْبُرْهَان الْقَاطِع ثمَّ ان الله تَعَالَى جعل فِي بعض أَحْوَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم زيغ وَمرض وعمى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا قبلك من الْمُرْسلين إِلَّا إِنَّهُم ليأكلون الطَّعَام ويمشون فِي الْأَسْوَاق وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبك بَصيرًا} وَذَلِكَ ليبقى الِابْتِلَاء الَّذِي اقتضته الْحِكْمَة حِين كَانَ فِي أَسمَاء الله الْمُبْتَلى وَالْبَاطِن وَالظَّاهِر كَمَا مضى فَمن كَانَ نظره من الْجِهَات الْمُنَاسبَة لاسمه الظَّاهِر رشد وَسعد وَمن كَانَ نظره على الْعَكْس من ذَلِك وَقع فِي المحارات وَبعد من مسالك النجَاة فَكُن من ذَلِك على حذر وافزع إِلَى الله واستعذبه من ذَلِك وَهُوَ الْهَادِي وَلَا يهدى إِلَّا الله الْوَجْه الثَّالِث أَنه يظْهر على كل نَبِي مَا يميزه من السَّحَرَة وَأهل الْحِيَل مِثَال ذَلِك إِيمَان السَّحَرَة بمُوسَى واعترافهم أَن الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ فِي جنس السحر واحياء عِيسَى للموتى وَذَلِكَ ان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي وَقت ظهر فِيهِ علم السحر وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي زمن ظهر فِيهِ علم الطِّبّ فجَاء كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا يعرفهُ أهل عصره وَكَذَلِكَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي زمَان ظَهرت فِيهِ الفصاحة فجَاء بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم الَّذِي لَا يخفى عَلَيْهِم مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من وُجُوه الاعجاز ثمَّ انه ظهر لنا فِي حق نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمُور كَثِيرَة تميزه عَن السَّحَرَة والمحتالين مِنْهَا وُرُود الْبشَارَة بِهِ فِي التَّوْرَاة والانجيل قَالَ الرَّازِيّ فِي كِتَابه الْأَرْبَعين وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه ادّعى أَن ذكره مَوْجُود فيهمَا قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} وَقَالَ حِكَايَة عَن عِيسَى الْمَسِيح {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} وَقَالَ {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} وَمَعْلُوم أَنه لَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 لم يكن صَادِقا فِي ذَلِك لَكَانَ هَذَا من أعظم المنفرات عَنهُ للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَا يُمكن أَن الْعَاقِل يقدم على فعل يمنعهُ من مَطْلُوبه وَيبْطل عَلَيْهِ مَقْصُوده وَلَا نزاع بَين الْعُقَلَاء انه كَانَ أَعقل النَّاس وأحلمهم انْتهى وَمِنْهَا مَا ظهر من كراماته فِي أَيَّام الْحمل بِهِ وَأَيَّام الطفولية مثل مَا روى مُسلم فِي الصَّحِيح وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أنس أَن جِبْرِيل أَتَاهُ وَهُوَ يلْعَب مَعَ الصّبيان فشق بَطْنه واستخرجه وَجَاء الغلمان يسعون إِلَى ظيره فَقَالُوا ان مُحَمَّدًا قد قتل وَهُوَ منتقع اللَّوْن قَالَ انس قد كنت أرى ذَلِك الْمخيط فِي صَدره وَمِنْهَا علم جَمِيع من آمن بِهِ من أَهله وَأَصْحَابه وَأهل بَلَده ببراءته من التُّهْمَة بِالسحرِ وَلَا شكّ ان علمهمْ بذلك ضَرُورِيّ كَمَا يعلم ذَلِك أَحَدنَا فِي كثير من أَهله وخاصته وجيرانه وَأهل زَمَانه وَلذَلِك حصل مَعنا الْعلم الضَّرُورِيّ بذلك عَن خبرهم وَلَو كَانَ خبرهم عَن ظن لم يحصل لنا مِنْهُ علم ضَرُورِيّ وَمن لم يحصل لَهُ هَذَا الْعلم الضَّرُورِيّ فَذَلِك لتَقْصِيره فِي علم الحَدِيث وَالسير والتاريخ على أَنا غير مُحْتَاجين إِلَى شَيْء من هَذَا لما قدمْنَاهُ من انه لَا يُمكن السحر فِي الْقُرْآن لدوامه وعظيم مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من البلاغة والعلوم وَلَو أمكن ذَلِك بِالسحرِ لامكن السَّاحر أَن يكون كَلَامه بليغا مفهوما وَلما حصلت الثِّقَة بِكَلَام وَلَا كتاب على وَجه الأَرْض وَقد بسطت الْقَوْم فِي هَذَا فِي الْبُرْهَان الْقَاطِع وَهَذَا كَاف على قدر هَذ الْمُخْتَصر وَلَيْسَ التآليف الامثل للثمار وَطرح الْبذر فِي الأَرْض الطّيبَة ثمَّ يهب الله من الْبركَة مَا يَشَاء وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم على أَن السحر أحد الدلالات الْبَيِّنَة على الله تَعَالَى لَان علمه من الْعُلُوم الَّتِي لَا تدْرك بِالْعقلِ مثل مَا ذكره الْغَزالِيّ فِي أَمْثَاله مِمَّا يعلم قطعا انه يَنْتَهِي إِلَى تَعْلِيم عَالم الْغَيْب وَلذَلِك جَاءَ النَّص الصَّرِيح فِي كتاب الله تَعَالَى بِأَنَّهُ من تَعْلِيم ملكَيْنِ من مَلَائِكَة الله وَأَن علمه أنزل عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل} الْآيَات ثمَّ فِيهِ دلَالَة على النبوات من جِهَة أُخْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَذَلِكَ ان السَّاحر يعجز عَن مُعَارضَة الانبياء وَعَن بُلُوغ درجتهم فِي الاعجاز الْحق فَتبين بذلك صدقهم وتمييزهم برفيع مقامهم عَن السحر والسحرة كَمَا كَانَ فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ السَّحَرَة فتعرف بذلك قدر النبوات معرفَة مقادير المحاسن بأضدادها وَللَّه الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي كل شَيْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمِمَّا يُقَوي أَمر النبوات والاسلام النّظر فِي معارضها وَضَعفه فان الْمُخَالفين لذَلِك ضَرْبَان أَحدهمَا أهل التجاهل المتدينون بدين الْآبَاء وان كَانَ عبَادَة الاحجار وَنَحْو ذَلِك وَلَا يلْتَفت إِلَى هَؤُلَاءِ مُمَيّز وَثَانِيهمَا أهل الفلسفة وَقد نقل الرَّازِيّ عَنْهُم الِاعْتِرَاف بِأَن خوضهم فِي الربوبيات بِالظَّنِّ وَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ إِلَّا أَحْكَام المشاهدات والمجريات وَلَو لم يقرُّوا بذلك قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع عَلَيْهِم بذلك وَهُوَ اخْتلَافهمْ وتكاذبهم المتباعد المتفاحش الَّذِي تميز الانبياء بالعصمة مِنْهُ عَن جَمِيع أهل الدعاوي الْبَاطِلَة وَالنَّظَر فِي هَذَا نَفِيس جدا فان الشَّيْء انما يزْدَاد شرفا على قدر خساسة ضِدّه وَصِحَّة على قدر ضعف معارضه وَإِلَيْهِ الاشارة بقول يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون خير أم الله الْوَاحِد القهار} إِلَى آخر الْآيَات وَيقرب مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} ثمَّ أَن الله تَعَالَى نبه على عَظِيم عناد المكذبين للانبياء بقوله تَعَالَى {فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك وضائق بِهِ صدرك أَن يَقُولُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ كنز أَو جَاءَ مَعَه ملك إِنَّمَا أَنْت نَذِير وَالله على كل شَيْء وَكيل} فَقَوله إِنَّمَا أَنْت نَذِير وَاضح فِي الرَّد عَلَيْهِم بِأَن أصل الْقَصْد فِي النبوات اقامة الْحجَّة على الغافلين عَن الامر الْجَلِيّ بِمُجَرَّد مَا يُنَبه الغافل من النذارة الْقَائِمَة مقَام الْحَاضِر على الْقلب وَذَلِكَ مَا لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل قَاطع على صدق النذير بل يَكْفِي فِي النذير أَن يكون مُمكن الصدْق غير مَقْطُوع بكذبه فِي الأَصْل وَمثله {فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب} وَلذَلِك ذهب إِلَى ذَلِك كثير من الامامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كَمَا ذكره صَاحب كتاب الدعائم عَنْهُم لَكِن الله زَاد فِي إِقَامَة الْحجَّة ليقوى عدله على الْكَافرين وفضله على الْمُؤمنِينَ فأيدهم بأنواع الْآيَات الخارقة والامارات الصادقة وَفِي الْآيَة دلَالَة على حسن الِاحْتِيَاط فِي الحذر بعد سَماع النّذر كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي النّظر وكما تقدّمت عَلَيْهِ الدّلَالَة فِي كَلَام مُؤمن آل فِرْعَوْن وَغَيره مِمَّا تقدم من الْآيَات الْكَرِيمَة فِي ذَلِك وَللَّه الْحَمد ثمَّ أَن الْأمة أَجمعت على انْقِطَاع الْوَحْي بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه لَا طَرِيق لأحد من بعده إِلَى مُعَارضَة مَا جَاءَ بِهِ فَمن ادّعى ذَلِك وَجوز تَغْيِير شَيْء من الشَّرِيعَة بذلك فكافر بالاجماع خَاتِمَة ثمَّ إِن المثبتين للنبوة اخْتلفُوا فِي الايمان بِجَمِيعِ الانبياء فَمنهمْ من فرق بَين رسل الله فَآمن ببعضهم وَكفر ببعضهم كاليهود وَالنَّصَارَى وَمِنْهُم من آمن بِجَمِيعِ رسل الله وَلم يفرق بَين أحد مِنْهُم كالمسلمين فَلَا شكّ فِي أَن إِثْبَات النبوات أصح دَلِيلا وأحوط ثمَّ أَن الايمان بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء كَذَلِك فان المكذب برَسُول وَاحِد كالمكذب بِجَمِيعِ الرُّسُل وَهل أَشْقَى مِمَّن سلم من جَمِيع المهالك حَتَّى إِذا لم يبْق إِلَّا مهلكة وَاحِدَة وَقع فِيهَا فَانْظُر مَا أوضح الضلال فِي جَمِيع مَا تقدم من انكار الْعُلُوم ثمَّ من إِنْكَار الربوبية ثمَّ من إِنْكَار التَّوْحِيد ثمَّ من إِنْكَار النبوات ثمَّ من إِنْكَار نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة وَمَا أوضح الْحق فِي مُخَالفَة ذَلِك كُله فَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَمن واضحات الدّلَالَة على الْيَهُود أَنهم مقرون برَسُول مُبشر بِهِ فِي التَّوْرَاة لكنه عِنْدهم غير مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال لَهُم تكذيبهم بِمُحَمد يُؤَدِّي إِلَى تكذيبهم بِكُل مُدع أَنه هُوَ لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَأْتِي إِلَّا بمعجزات وَأما حَدِيث تمسكوا بالسبت أبدا فَلَو كَانَ حَقًا لذكروه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُؤمن مِنْهُم أحد لكنه مَوْضُوع فِي زمن الراوندي ذكره صَاحب التَّقْوِيم فِي أصُول الْفِقْه وَلَا حجَّة فِيهِ لَو صَحَّ لِأَن المُرَاد بذلك قد يكون مُدَّة طَوِيلَة وَإِلَى غَايَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فصل فِي تَأْكِيد الْيَقِين بالنبوات زِيَادَة على مَا تقدم وَذَلِكَ أَن كثرتهم عَلَيْهِم السَّلَام قد علمت لأهل الْعلم بتواريخ الْعَالم وأخبار الامم واشتهرت لمن كَانَ أقل بحثا وخبرة بِهَذِهِ الْعُلُوم وَورد فِي الاخبار أَنهم عَلَيْهِم السَّلَام مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَكتب الله الَّتِي جاؤا بهَا مائَة كتاب وَأَرْبَعَة كتب رَوَاهُ ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي ذَر بِسَنَدَيْنِ حسنين وتواترت كثرتهم فِي الْجُمْلَة وَلَا شكّ أَن الْجمع الْعَظِيم مَتى تَفَرَّقت أوطانهم وقبائلهم وأغراضهم وأزمانهم ومذاهبهم وَلم يَكُونُوا من أهل الصناعات النظرية والرياضات الفلسفية والقوانين المنطقية ثمَّ اتَّفقُوا على الْقطع بِصِحَّة أَمر لَا دَاعِي لَهُ وَلَا مَانع مِنْهُ بِحَيْثُ لَو اجْتمع عُيُون الفطناء وحذاق الأذكياء ومهرة الْعلمَاء على وَاحِد مِنْهُم يشككون عَلَيْهِ فِي اعْتِقَاده لم يرفع إِلَيْهِم رَأْسا وَلم يلْتَفت إِلَيْهِم أصلا فَعلمنَا علما تجربيا ضَرُورِيًّا أَنهم مَا تواطئوا على التعمد للمباهتة والتجري على التَّدْلِيس والمغالطة وَأَنه مَا جمع متفرقات عقائدهم وَألف نوافر طباعهم وربط بَين جوامح مختلفات اختياراتهم وعصمهم عَن مُتَابعَة سنة الْعُقَلَاء فِي اخْتِلَاف مذاهبهم مَعَ طول أنظارهم إِلَّا صدق مَا ادعوهُ من شرِيف علمهمْ وحالهم وَصِحَّة مَا بنوا عَلَيْهِ دينهم ويقينهم من استناد هَذِه العوالم وَالْخَلَائِق والْآثَار والحوادث إِلَى رب عَظِيم ومدبر حَكِيم واضطراره لَهُم بالمعجزات والقرائن إِلَى الِاجْتِمَاع على هَذَا الدّين القويم والشأن الْعَظِيم وَحِينَئِذٍ لَا تردد الْعُقُول وَلَا توقف الاذهان عَن الْجَزْم بصدقهم وثلج الصُّدُور لصِحَّة خبرهم فَكيف إِذا عضد هَذَا الْجَمِيع الْعَظِيم من الْبَرَاهِين النيرة والقرائن الْوَاضِحَة والشواهد الصادقة مَا لم يحصره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الاذكياء والعارفون على مُرُور الدهور والقرون حَتَّى قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمكنون {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} فَمن ذَلِك مَا ذكره الامام الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام فِي كِتَابه فِي اثبات النبوات قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنْتُم إِذا تأملتم أَحْوَال الفترات الَّتِي كَانَت بَين آدم ونوح وابراهيم ومُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ازددتم معرفَة بِحسن تَدْبِير الله تَعَالَى لخلقه بابتعاث الرُّسُل وتجديده مَا درس أَو كَاد يدرس من الشَّرَائِع والملل وَأَنه عز وَجل ابتعث حِين علم الصّلاح فِي الابتعاث وَمد الفترة حِين علم اقتران الْمصلحَة بهَا لِأَن الفترة على مَا يَقُوله بعض أهل التواريخ على اخْتِلَاف بَينهم فِيهِ وَالله أعلم بتحقيق ذَلِك كَانَت بَين آدم ونوح صلى الله عَلَيْهِمَا سَبْعمِائة عَام وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك كَذَلِك وَالله أعلم على مِقْدَار مَا يلوح لنا ويبلغه مِقْدَار أفهامنا أَن آدم هَبَط إِلَى الأَرْض وَهُوَ أَبُو الْبشر وَأول الانس وَلم يكن فِي زَمَانه شَيْء من الْكفْر وَعبادَة الاصنام وَلم يكن غَيره وَغير زَوجته حَوَّاء وأولادهما وَكَانُوا يعْرفُونَ حَاله فَلم يكن فِي أمره شكّ عِنْدهم لوضوح أمره وَظُهُور آيَاته وَقلة من بعث اليهم فامتد زمَان الفترة وَكَانَ بَينهمَا مَعَ شِيث ذَلِك وَإِدْرِيس عَلَيْهِمَا السَّلَام فاستحدث النَّاس الْكفْر وَعبادَة الْأَصْنَام وَاتَّخذُوا ودا وسواعا ويغوت ويعوق ونسرا فابتعث الله عز وَجل نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام يَدعُوهُم إِلَى التَّوْحِيد وخلع الْأَصْنَام والأنداد فَلبث فيهم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فغرقهم الله بالطوفان حِين تمت عَلَيْهِم حجَّته وَعلم أَنه لَا يصلح مِنْهُم أحد كَمَا أوحى ذَلِك إِلَى نوح عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ كَانَت الفترة بَين نوح وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام نَحْو سَبْعمِائة عَام وَإِنَّمَا كَانَت هَذِه الْمدَّة نَحْو ذَلِك لِأَن الْغَرق أعَاد حَال نوح إِلَى نَحْو حَال آدم صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم فِي ظُهُور أمره وَابْتِدَاء الْبشر مِنْهُ مَعَ أَنه لم يكن بَقِي من الْكفَّار أحد إِلَّا أَن النَّاس قد كَانُوا عرفُوا عبَادَة الْأَصْنَام واتخاذ الأنداد من دون الله عز وَجل فَأَسْرعُوا بعده إِلَى الْكفْر وَعبادَة الْأَصْنَام وَكَانَ الله تَعَالَى قد بعث هودا إِلَى عَاد لما ازْدَادَ تمردهم وصالحا بعده إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ثَمُود ثمَّ لما ازْدَادَ الْكفْر ظهورا وانتشارا ابتعث الله عز وَجل إِبْرَاهِيم فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَكسر أصنامهم ونبههم على خطأ أفعالهم وجدد لَهُم الذكرى وَأنزل عز وَجل عَلَيْهِ الصُّحُف وَبعث لوطا عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى قوم مخصوصين حِين ازْدَادَ عتوهم واستحدثوا من الْفَاحِشَة مَا لم يكن قبلهم ثمَّ كَانَت الفترة بَينه وَبَين مُوسَى صلى الله عَلَيْهِمَا نَحْو أَرْبَعمِائَة سنة وَإِنَّمَا كَانَت كَذَلِك وَالله أعلم لِأَن ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مضى وَالْكفْر بَاقٍ بَينهم ظَاهر وَلم تكْثر أَتْبَاعه الْكَثْرَة الظَّاهِرَة على مَا بلغنَا وَبعث الله بعده إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب عَلَيْهِم السَّلَام والاسباط وشعيبا قبل مبعث مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقبل أَيُّوب وَكَانَ قد بعث قبل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وتغيرت أَحْوَال بني إِسْرَائِيل وَقل قبُول النَّاس الْحق وَظهر الْكفْر وَبلغ مبلغا لم يكن بلغه من قبل لِأَن فِرْعَوْن ادّعى الربوبية فاستعبد بني إِسْرَائِيل فَعظم الْأَمر وازداد الْكفْر واتسع الْخرق ونسى الْحق فَلذَلِك قصرت مُدَّة هَذِه الفترة حَتَّى بعث مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ تِلْكَ الْآيَات الْعِظَام كالعصا وَالْيَد الْبَيْضَاء ومجاوزة بني إِسْرَائِيل الْبَحْر بعد أَن انْفَلق فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم وتغريق فِرْعَوْن وَمن مَعَه إِلَى غير ذَلِك من الْحجر الَّذِي انفجرت مِنْهُ الْعُيُون وَمَا كَانَ ظهر قبل ذَلِك من الْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَأنزل عَلَيْهِ التَّوْرَاة وَبَين فِيهَا الْأَحْكَام والحلال وَالْحرَام وَظهر أمره أتم الظُّهُور وَإِنَّمَا كَانَت أَعْلَام مُوسَى أَكثر وآياته أظهر لِأَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا وَالله أعلم أَجْهَل الْأُمَم وأغلظهم طبعا وأبعدهم عَن الصَّوَاب وأبلدهم عَن اسْتِدْرَاك الْحق أَلا ترى أَنهم بعد مَا جَاوز الله بهم الْبَحْر وغرق آل فِرْعَوْن وهم ينظرُونَ قَالُوا لمُوسَى حِين مروا على قوم عاكفين على أصنام لَهُم يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة وَاتَّخذُوا الْعجل وعبدوه وظنوا أَنه إلههم وإله مُوسَى وَأَنه نسي فبحسب هَذِه الْأَحْوَال اقْتَضَت الْحِكْمَة إِيضَاح الْآيَات والاعلام وتكثيرها لَهُم ثمَّ بعث يُوشَع وَيُونُس ثمَّ بعث دَاوُد وَأنزل عَلَيْهِ الزبُور وَبعث سُلَيْمَان وآتاه الله الْملك مَعَ تِلْكَ الْآيَات الْعَظِيمَة ثمَّ بعث بعده زَكَرِيَّا وَيحيى صلى الله عَلَيْهِم وَكَانَت الفترة بَين مُوسَى وَعِيسَى نَحْو ألفي سنة لعظم آيَات مُوسَى وَعظم الْكتاب الَّذِي أنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 مَعَه وَلما بعث بَينهمَا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذِه الْمدَّة أطول المدد الَّتِي كَانَت بَين من ذكرنَا عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ لما تزايد الْكفْر وتغيرت أَحْوَال بني إِسْرَائِيل وشاع الْإِلْحَاد فِي الفلاسفة بعث الله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِتِلْكَ الْآيَات الباهرة وَبَقِي فيهم مَا بَقِي ثمَّ أكْرمه الله تَعَالَى وَرَفعه إِلَيْهِ ثمَّ كَانَت الفترة بَينه وَبَين نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو ستمائه عَام وَكَانَت هَذِه الْمدَّة أَوسط المدد وَذَلِكَ وَالله أعلم لِأَن حجج الله تَعَالَى كثرت فِيهَا لبَقَاء التَّوْرَاة وَالزَّبُور والانجيل وَمَعَ ذَلِك كثر الضلال وَقيل فِي الْمَسِيح قَولَانِ عظيمان أَحدهمَا مَا قالته الْيَهُود وَالثَّانِي مَا قالته النَّصَارَى ثمَّ بعث الله تَعَالَى النَّبِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَختم بِهِ الرسَالَة وَنحن من مبعثه على نَحْو من أَرْبَعمِائَة عَام فَدلَّ على قرب السَّاعَة وأزوف الْقِيَامَة وحقق ذَلِك قَوْله تَعَالَى {اقْترب للنَّاس حسابهم وهم فِي غَفلَة معرضون} وَقَوله تَعَالَى {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت أَنا والساعة كهاتين وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ اه قلت وَهَذَا كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَكيف بِنَا الْيَوْم وَقد دَخَلنَا فِي الْمِائَة التَّاسِعَة أَكثر من ثلثهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانظروا رحمكم الله فِي حسن نظر الله عز وَجل لِعِبَادِهِ بِمَا ذكرنَا فاعتبروا بِهِ واستعدوا للدوام والبقاء فَلهُ خلقْتُمْ فَكَأَن الْوَاقِعَة قد وَقعت والحاقة قد حقت فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير فَلَا يصدنكم الشَّيْطَان وَأَتْبَاعه عَنْهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى فَلَا يصدنك عَنْهَا من لَا يُؤمن بهَا وَاتبع هَوَاهُ فتردى} وفقنا الله وَإِيَّاكُم لطاعته وَاتِّبَاع مرضاته قلت وَمَعَ قرب مبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْقِيَامَة فَلم يخل الله عباده من تَجْدِيد الْآيَات وَمَا يقوم مقَام تجديدها وَذَلِكَ بِأُمُور أعظمها إعجاز الْقُرْآن الْعَظِيم وبقاؤه فِي الْأمة وَحفظه لَهُ عَن التَّغْيِير وَقد جود الامام الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام وَمن سبقه من عُلَمَاء الاسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 القَوْل فِي ذَلِك وَقد جمعه عَلَيْهِ السَّلَام فِي كِتَابه فِي النبوات وجوده وَإِن كَانَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم يزدْ على ماقالوه وَإِنَّمَا أوجز من كَلَامهم مَا جعله الْبسط متباعد الْأَطْرَاف أَو بسط مَا جعله الايجاز خَفِي الاغراض فقد أَفَادَ وأجاد وَأحسن وَزَاد فَيَنْبَغِي مُطَالبَة كِتَابه فِي ذَلِك وَكتاب الجاحظ فِيهِ أَيْضا فانه السَّابِق لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى ذَلِك وَالْمَشْهُور بالتجويد فِي هَذِه المسالك وَمن نَفِيس كَلَامه فِي ذَلِك قَوْله وَمن الدَّلِيل على اعجاز الْقُرْآن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَدَأَ الاتيان بِهَذَا الْقُرْآن على غَايَة الاحكام والاتقان وَقد ثَبت جَرَيَان الْعَادة أَن كل أَمر يَقع على وَجه لَا يَصح وُقُوعه عَلَيْهِ إِلَّا بعلوم تحصل للْفَاعِل لَهُ لَا يَصح وُقُوعه ابْتِدَاء على غَايَة الاحكام والاتقان وَأَن بُلُوغه الْغَايَة يتَعَذَّر إِلَّا على مر الدهور والأعصار وتعاطي جمَاعَة فجماعة لَهُ وانه لَا فرق فِي ذَلِك بَين شَيْء وَشَيْء من الْأُمُور فِي منظوم الْكَلَام ومنثوره وَمَا يتَعَلَّق بالتنجيم والطب وَالْفِقْه والنحو والصناعات الَّتِي هِيَ النساجة والصياغة وَالْبناء وَمَا أشبه ذَلِك فَإِذا ثَبت ذَلِك وَثَبت وُقُوع الْقُرْآن على الْوَجْه الَّذِي بَيناهُ ثَبت أَنه وَقع على وَجه انتقضت بِهِ الْعَادة فَجرى مجْرى قلب الْعَصَا حَيَّة واحياء الْمَوْتَى وَالْمَشْي على المَاء والهواء إِلَى آخر مَا ذَكرُوهُ فِي ذَلِك وَلَوْلَا أَن ذكره يُنَاقض مَا قصدت من الِاخْتِصَار لذكرته فَهَذَا أعظم الْآيَات لبَقَائه فِي أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفناء آيَات الْأَنْبِيَاء فِي أعصارهم عَلَيْهِم السَّلَام وَلَكِن الله لما علم أَن النُّبُوَّة قد انْقَطَعت جعل هَذَا المعجز الْجَلِيل بَاقِيا على مر الدهور جَدِيدا على طول العصور الْأَمر الثَّانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ إِن الله يبْعَث لأمتي من يجدد لَهَا دينهَا رَأس كل مائَة عَام وَهَذِه إِشَارَة إِلَى مَا من الله تَعَالَى بِهِ على أهل الاسلام من الْأَئِمَّة الهداة للأنام عَلَيْهِم السَّلَام وَمن سَائِر الْعلمَاء الاعلام وَالصَّالِحِينَ الْكِرَام وَمِمَّا يَجْعَل الله تَعَالَى فيهم من الاسرار ويجدد بهم من الْآثَار ويوضح بهم من المشكلات وَيبين بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من الدلالات وَيرد بعلومهم من الجهالات وَيُؤَيّد بهم من الكرامات وصادق الْمُبَشِّرَات من رُؤْيا الْحق الْوَارِدَة فِي مُحكم الْآيَات وصحيح الرِّوَايَات الْأَمر الثَّالِث نصر الله تَعَالَى لحماة الاسلام الْمُجَاهدين وإنجازه مَا وعدهم بِهِ فِي كِتَابه الْمُبين من نَصره للْمُؤْمِنين وعَلى لِسَان رَسُوله الصَّادِق الْأمين من حفظه لهَذَا الدّين على كَثْرَة الْكَافرين والمفسدين والملاحدة والمتمردين وَلَو نذْكر الْقَلِيل من ذَلِك لطال وَقد اشْتَمَلت عَلَيْهِ تواريخ الاسلام وتواريخ الرِّجَال فَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما مَا يخْتَص بنبينا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْآيَات الباهرة والدلالات الْوَاضِحَة فَأكْثر من أَن يحصر وَأشهر من أَن يذكر وَقد صنفت فِي ذَلِك مصنفات كَثِيرَة مِنْهَا كتاب الشِّفَاء للْقَاضِي عِيَاض الْمَالِكِي وَغَيره لَكِن تقصيها هُنَا مِمَّا لم تدع إِلَيْهِ الْحَاجة إِذْ لَا مُنَازع من أهل الاسلام فِي نبوته وَلَا شَاك وَلَا مشكك فِيهَا وَإِنَّمَا المُرَاد هُنَا ارشاد الْمُخْتَلِفين من أمته إِلَى أوضح الطّرق وأنصفها وأهداها إِلَى اتِّبَاع سنته والسلامة من مُخَالفَته وَلَكنَّا نتبرك ونتشرف بِذكر شَيْء يسير مِنْهَا على جِهَة الاشارة وَالرَّمْز إِلَى جمل من ذَلِك على حسب مَا يَلِيق بِهَذَا الْمُخْتَصر فَنَقُول كَمَا قَالَ وَاحِد من عُلَمَاء الاسلام إِن معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِسْمَانِ حسية وعقلية أما الحسية فَثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا أُمُور خَارِجَة عَن ذَاته وَثَانِيها أُمُور فِي ذَاته وَثَالِثهَا أُمُور فِي صِفَاته أما الْقسم الأول وَهُوَ الاشياء الْخَارِجَة عَن ذَاته فَمثل انْشِقَاق الْقَمَر وَطَاعَة الشّجر فِي الْمَشْي إِلَيْهِ وَتَسْلِيم الْحجر وحنين الْجذع إِلَيْهِ ونبوع المَاء من بَين أَصَابِعه واشباع الْخلق الْكثير من الطَّعَام الْقَلِيل وشكاة النَّاقة وَشَهَادَة الشَّاة المشوية واظلال السَّحَاب قبل مبعثه وَمَا كَانَ من حَال أبي جهل وصخرته حِين أَرَادَ أَن يضْربهَا على رَأسه وَمَا كَانَ من شَاة أم معبد حِين مسح يَده الْمُبَارَكَة على ضرْعهَا وأمثال ذَلِك وَلَو ذكرت طرق ذَلِك وَأَسَانِيده لمنع عَن الْمَقْصُود بالاختصار وَأخرج عَنهُ إِلَى التآليف الْكِبَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَأما الْقسم الثَّانِي وَهِي الْأُمُور العائدة إِلَى ذَاته فَهُوَ مثل مَا كَانَ من الْخَاتم بَين كَتفيهِ والنور الَّذِي كَانَ ينْتَقل من أَب إِلَى أَب إِلَى أَن خرج إِلَى الدُّنْيَا وَمَا شوهد من خلقته وَصورته الَّتِي يحكم علم الفراسة بِأَنَّهَا دَالَّة على نبوته وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بصفاته فَهِيَ كَثِيرَة وَنحن نشِير إِلَى بَعْضهَا فَمن ذَلِك أَن أحدا مَا سمع مِنْهُ كذبا لَا فِي أُمُور الدّين وَلَا فِي أُمُور الدُّنْيَا وَلَو صدر عَنهُ شَيْء من ذَلِك مرّة وَاحِدَة لاجتهد أعداؤه فِي نشره واظهاره الثَّانِي أَنه مَا فعل قبيحا منفرا عَنهُ لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا الثَّالِث أَنه لم يفر عَن أحد من أعدائه لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا وان عظم الْخَوْف وَاشْتَدَّ الْأَمر مثل يَوْم أحد وَيَوْم الْأَحْزَاب الرَّابِع أَنه كَانَ عَظِيم الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة على أمته كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات} وَقَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} الْخَامِس أَنه كَانَ فِي أعظم الدَّرَجَات فِي الْكَرم والسخاء حَتَّى أَن الله تَعَالَى علمه التَّوَسُّط فِي ذَلِك حَيْثُ قَالَ لَهُ {وَلَا تبسطها كل الْبسط} السَّادِس أَنه مَا كَانَ للدنيا فِي قلبه وَقع السَّابِع أَنه كَانَ فِي غَايَة الفصاحة الثَّامِن أَنه بَقِي على طَرِيقَته المرضية أول عمره إِلَى آخِره والمزور لَا يُمكنهُ ذَلِك وَإِلَيْهِ الاشارة بقوله تَعَالَى {وَمَا أَنا من المتكلفين} التَّاسِع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعَ أهل الْغنى والثروة فِي غَايَة الْبعد عَن المطامع والترفع عَنْهَا وَمَعَ الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فِي غَايَة الْقرب مِنْهُم والتواضع لَهُم واللطف بهم الْعَاشِر أَنه كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل وَاحِدَة من هَذِه الْأَخْلَاق الْكَرِيمَة فِي الْغَايَة القصوى من الْكَمَال وَلَا يتَّفق ذَلِك لأحد من الْخلق غير أهل الْعِصْمَة من الله تَعَالَى فَكَانَ اجْتِمَاع ذَلِك فِي صِفَاته من أعظم المعجزات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَأما المعجزات الْعَقْلِيَّة فَهِيَ سِتَّة أَنْوَاع النَّوْع الأول أَنه ظهر بَين قَبيلَة مَا كَانُوا من أهل الْعلم وَمن بَلْدَة مَا كَانَ فِيهَا أحد من الْعلمَاء فِي ذَلِك الْعَصْر بل كَانَت الْجَهَالَة غالبة عَلَيْهِم وَلم يتَّفق لَهُ سفر من تِلْكَ الْبَلدة إِلَّا مرَّتَيْنِ كِلَاهُمَا إِلَى الشَّام وَكَانَت مُدَّة سفر قَليلَة وَلم يذهب أحد من الْعلمَاء والحكماء إِلَى بَلَده حَتَّى يُقَال أَنه تعلم الْعلم من ذَلِك الْحَكِيم فاذا خرج من مثل هَذِه الْبَلدة وَمثل هَذِه الْقَبِيلَة رجل بارع الْكَمَال فائق على فحول الرِّجَال من غير أَن يمارس شَيْئا من الْعُلُوم وَلَا يخالط أحدا من الْعلمَاء أَلْبَتَّة ثمَّ بلغ فِي معرفَة الله تَعَالَى وَصِفَاته وأسمائه وأفعاله وَأَحْكَامه هَذَا الْمبلغ الْعَظِيم الَّذِي عجز عَنهُ جَمِيع الأذكياء من الْعُقَلَاء بل عجزوا عَن الْقرب مِنْهُ والمداناة لَهُ بل أقرّ الْكل بِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُزَاد فِي تَقْرِير أصُول الدَّلَائِل ومهمات المعارف على مَا ورد فِي الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ ذكر قسس الْأَوَّلين وتواريخ الْمُتَقَدِّمين بِحَيْثُ لم يتَمَكَّن أحد من الاعداء العارفين بذلك أَن يخطئه فِي شَيْء مِنْهَا بل بلغ كَلَامه فِي الْبعد من الريب إِلَى أَن قَالَ بذلك أَن يخطئه فِي شَيْء مِنْهَا بل بلغ كَلَامه فِي الْبعد من الريب إِلَى أَن قَالَ عِنْد مجادلتهم لَهُ {تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنة الله على الْكَاذِبين} فحادوا عَن ذَلِك وَعرفُوا صدقه واجابة دَعوته وَلم يقدر أحد من أعدائه أَن ينْسب إِلَيْهِ أَنه أَخذ ذَلِك من مطالعة كتاب وَلَا صُحْبَة أستاذ وَكَانَت هَذِه الاحوال ظَاهِرَة مَعْلُومَة عِنْد الاصدقاء والأعداء والقرباء والبعداء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون} وَقَالَ {وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك إِذا لارتاب المبطلون} وَقَالَ {فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون} وكل من لَهُ عقل سليم وطبع مُسْتَقِيم علم أَن هَذِه الاحوال لَا تتيسر إِلَّا بالتعليم الالهي والتوفيق الرباني النَّوْع الثَّانِي أَنه عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قبل اظهاره دَعْوَى الرسَالَة غير باحث عَن هَذِه المور وَلَا مَشْغُول بهَا وَلَا جرى على لِسَانه حَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 النُّبُوَّة لنَفسِهِ وَدَعوى الرسَالَة وَالَّذِي يدل على ذَلِك أَنه لَو اتّفق لَهُ خوض فِي هَذِه المطالب لقَالَ الْكفَّار أَنه أفنى عمره فِي ذَلِك وَفِي جمع الْقُرْآن حَتَّى قدر على ذَلِك بعد طول التَّأَمُّل والتدبر وَجَاء بِهِ وَلما لم يذكر هَذَا عَن أحد من الاعداء مَعَ شدَّة حرصهم على الطعْن فِيهِ وَفِي نبوته علمنَا ذَلِك وَمَعْلُوم أَن من انْقَضى من عمره أَرْبَعُونَ سنة وَلم يخض فِي شَيْء من هَذِه المطالب ثمَّ أَنه خَاضَ فِيهَا دفْعَة وَاحِد وأتى بِكَلَام عجز الْأَولونَ وَالْآخرُونَ عَن معارضته فصريح الْعقل يشْهد بِأَن هَذَا لَا يكون إِلَّا على سَبِيل الْوَحْي من الله تَعَالَى النَّوْع الثَّالِث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحمل فِي أَدَاء الرسَالَة أَنْوَاع المتاعب والمشاق فَلم يُغَيِّرهُ ذَلِك عَن الْمنْهَج الأول وَلم يطْمع فِي مَال أحد وَلَا فِي جاهه بل صَبر على تِلْكَ المشاق والمتاعب وَلم يظْهر فِي عزمه فتور وَلَا فِي اصطباره قُصُور ثمَّ أَنه لما قهر الْأَعْدَاء وقويت شوكته ونفذت أوامره فِي الْأَمْوَال والارواح لم يتَغَيَّر عَن منهجه الأول فِي الزّهْد فِي الدُّنْيَا والاقبال على الْآخِرَة وكل من أنصف علم أَن المزور وحاشاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر ذَلِك لَا يكون كَذَلِك فان المزور إِنَّمَا يروج الْكَذِب وَالْبَاطِل على الْحق لكَي يتَمَكَّن من الدُّنْيَا فاذا وجدهَا لم يملك نَفسه عَن الِانْتِفَاع بهَا لكيلا يكون ساعيا فِي تَضْييع مَطْلُوبه بل تَضْييع مَطْلُوبه بل تَضْييع دُنْيَاهُ وآخرته وَذَلِكَ مَا لَا يَفْعَله أحد من الْعُقَلَاء النَّوْع الرَّابِع من معجزاته الْعَقْلِيَّة أَنه كَانَ مستجاب الدعْوَة وَذَلِكَ مَعْلُوم بالتواتر الضَّرُورِيّ لمن عرف سيرته وأخباره وأحواله بل لمن طالع كتب آيَاته واعلامه وَذَلِكَ ثَابت فِي الْكتب السِّت بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَة من حَدِيث جَابر بن عبد الله وَأبي هُرَيْرَة والسائب بن يزِيد وَأبي زيد ابْن أَخطب وَيزِيد ابْن أبي عبيد وَابْن مَسْعُود وَأنس والبراء بن عَازِب وَغَيرهم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم النَّوْع الْخَامِس وُرُود الْبشَارَة بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة والانجيل وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه ادّعى ذَلِك كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم وَمَعْلُوم أَنه لَو لم يكن صَادِقا فِي ذَلِك لَكَانَ هَذَا من أعظم المنفرات لأهل الْكتاب عَنهُ وَلَا يَصح من الْعَاقِل أَن يقدم على فعل مَا يمنعهُ من مَطْلُوبه ويحول بَينه وَبَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 مَا يحاوله وَلَا نزاغ من الْعُقَلَاء أَنه كَانَ من أوفر النَّاس عقلا وَأَحْسَنهمْ تدبيرا وأرجحهم علما قَالَ بعض العارفين فادم كَانَت أوامره بنصرته لأولاده لَا تحصى ونوح عهد إِلَى أَتْبَاعه باتباعه ووصى والخليل كَانَ أَكْثَرهم اجْتِهَادًا فِي ذَلِك وحرصا وَبَنوهُ تواصو بِهِ وَإِسْمَاعِيل أَكْثَرهم فحصا وتوراة مُوسَى نطقت بنعته وَصِفَاته وأبانت عَن مَعَانِيه وآياته وأوضح براهان على ذَلِك وَدَلِيل {أَو لم يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل} وزبور دَاوُد أفْصح بِصدق معجزاته واعرب عَن ظُهُور بيناته وإنجيل عِيسَى شهد بِأَنَّهُ الْخَاتم الَّذِي يشْكر دينه ويحمد وَصرح بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} وَالْأَخْبَار ببعثه من الْأَحْبَار أَكثر من أَن تذكر يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة والانجيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر فاسمع أنباءهم يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَمن صفته فِي التَّوْرَاة على مَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ (يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وحرزا للاميين أَنْت عَبدِي ورسولي سميتك المتَوَكل لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا سخاب فِي الاسواق وَلَا يجزى بِالسَّيِّئَةِ مثلهَا وَلَكِن يعْفُو وَيغْفر وَلنْ يقبضهُ الله تَعَالَى حَتَّى يُقيم بِهِ الْملَّة العوجاء بِأَن يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله يفتح بهَا آذَانا صمًّا وَأَعْيُنًا عميا وَقُلُوبًا غلفًا) ذكر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} كَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرهَا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الله مَا بعث نَبيا إِلَّا وَأخذ عَلَيْهِ الْمِيثَاق لَئِن بعث مُحَمَّد وَهُوَ حَيّ ليُؤْمِنن بِهِ ولينصرنه النَّوْع السَّادِس اخباره عَن الغيوب وَصدقه فِي ذَلِك وَهَذَا بَاب وَاسع مَعْلُوم بالتواتر الضرورى لأهل الْمعرفَة بالأخبار والتقصي فِيهِ يخرجنا عَمَّا قصدناه من الِاخْتِصَار فليطالع فِي مظانه فانما الْقَصْد الاشارة وَفِي الْقُرْآن مِنْهُ الْكثير الطّيب كَمَا ذكره الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام وَغَيره مثل الجاحظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والرازي وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيرهم وَفِي دواوين الاسلام من ذَلِك عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَجَابِر بن سَمُرَة وَأبي هُرَيْرَة وَأبي ذَر وَجَابِر بن عبد الله وَحُذَيْفَة وَعَمْرو بن أَخطب وَأنس وَعَاصِم بن كُلَيْب وَعَائِشَة وَأبي حميد السَّاعِدِيّ وثوبان وعدي بن حَاتِم وَمِمَّا تَوَاتر من ذَلِك حَدِيث (تقتلك يَا عمار الفئة الباغية) كَمَا ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عمار من النبلاء وَاتفقَ البُخَارِيّ وَمُسلم على صِحَّته وتخريجه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَلَفظ البُخَارِيّ (وَيْح عمار يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة ويدعونه إِلَى النَّار) وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي قَتَادَة وَأم سَلمَة وَكلهَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل فِي الْمسند وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث خُزَيْمَة بن ثَابت وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان وعمار وَحُذَيْفَة وَأبي أَيُّوب وَزِيَاد وَعَمْرو بن حزم وَمُعَاوِيَة وَعبد الله بن عَمْرو وَأبي رَافع ومولاة لعمارة وَغَيرهم وَقَالَ ابْن عبد الْبر تَوَاتَرَتْ الاخبار بذلك وَهُوَ من أصح الحَدِيث وَقَالَ ابْن دحْيَة لَا مطْعن فِي صِحَّته وَلَو كَانَ فِيهِ مطْعن لرده مُعَاوِيَة وَأنْكرهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام فِي كِتَابه فِي النبوات وَعَن أَحْمد ابْن حَنْبَل أَنه رُوِيَ من ثَمَانِيَة وَعشْرين طَرِيقا وَإِنَّمَا ذكرت طرفا من أسانيده على طَرِيق الاجمال لوُقُوعه على مَا أخبر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَوْلَا خشيَة الاطالة لذكرت الْأَسَانِيد فِي كل حَدِيث ولنختم هَذَا النَّوْع بِهَذَا الحَدِيث الْجَلِيل وَالْعلم الْكَبِير من أَعْلَام النُّبُوَّة نبوة سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَذْكُر هُنَا حَدِيث هِرقل وَهُوَ قَيْصر ملك الرّوم حِين جَاءَهُ كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجمع من بأرضه من الْعَرَب وَكَانَ فيهم أَبُو سُفْيَان فَسَأَلَهُ عَن حسب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه قبل دَعْوَى النُّبُوَّة وَعَن أَتْبَاعه وثبوتهم على دينه وَعَن حربه كَيفَ هُوَ وَعَن وفائه وَبِمَا يَأْمر الحَدِيث بِطُولِهِ خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الْبَاب الْخَامِس فِي الِاحْتِرَاز من بدع أهل الاسلام وَهُوَ قِسْمَانِ مُقَدمَات عَامَّة جميلَة ومسائل مُبْهمَة تفصيلية الْقسم الأول الْمُقدمَات والآن وَقد تخلصنا من جملَة الشكوك الَّتِي بَين أهل الْملَل الْخَارِجَة عَن الاسلام بأبين طَرِيق وتحققنا بالاضطرار أَنه لَا يُمكن أَن يُوجد فِي الْعَالم أقوم منهجا من مَنْهَج الاسلام الْمُشْتَمل على التَّوْحِيد والايمان بِجَمِيعِ كتب الله وَرُسُله وَلَا أنزه وَلَا أبعد من كل مَكْرُوه فِي الاعمال والاقوال والأخلاق والعقائد وَأَن من فر من الاسلام كَرَاهِيَة لأمر وَقع فِي أعظم مِمَّا فر مِنْهُ من المحارات والمحالات والضلالات والشناعات فَيجب علينا شكر النِّعْمَة بِحسن التَّخَلُّص وَالِاحْتِيَاط والانصاف فِيمَا وَقع بَين أهل الاسلام من الِاخْتِلَاف لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا وجوب النَّصِيحَة للْمُسلمين والتقرب بذلك إِلَى أرْحم الرَّاحِمِينَ فقد ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن الدّين النَّصِيحَة قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولأئمة الْمُسلمين ولعامتهم وَهَذِه كلمة اجماع من الْمُسلمين وَثَانِيهمَا الِاحْتِرَاز من الْهَلَاك بعد طول السَّلامَة مِمَّا تقدم من ضلالات أهل الْملَل الكفرية والحذر من أَن يكون مِمَّن ذمهم الله تَعَالَى بقوله {فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم} فَلَا أشفى مِمَّن فَاتَهُ رضَا ربه والنجاة من عَذَابه بعد أَن لم يبْق بَينه وَبَينه إِلَّا الْيَسِير فنسأل الله تَمام هدايته فانه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَلَا هِدَايَة إِلَّا بِهِ وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَاعْلَم أَنِّي قد أذكر المبتدعة وَأهل السّنة كثيرا فِي كَلَامي فَأَما المبتدعة فانما أَعنِي بهم أهل الْبدع الْكُبْرَى الغلاة مِمَّن كَانُوا فَأَما الْبدع الصُّغْرَى فَلَا تسلم مِنْهَا طَائِفَة غَالِبا وَأما أهل السّنة فقد أُرِيد بهم أَهلهَا على الْحَقِيقَة وَقد أُرِيد بهم من تسمى بهَا وانتسب إِلَيْهَا فَتَأمل مواقع ذَلِك فَأول مَا يُنَبه طَالب الْحق والنجاة عَلَيْهِ أَن يعلم أَنه لَا يَصح أَن يخفى على أهل الاسلام دين رسولهم الَّذِي بعث اليهم وَأقَام بَين أظهرهم يُبينهُ لَهُم حَتَّى تَوَاتَرَتْ شرائعه وَصِفَاته مَعَ قرب الْعَهْد من ابْتِدَاء الِافْتِرَاق واتصال الاخبار وَكَثْرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الْعلمَاء والرواة بل قد تَوَاتر اليهم وَلم يخف عَلَيْهِم مَا لَا تعلق لَهُ بِالدّينِ من صورته فانهم يعلمُونَ ضَرُورَة أَنه لم يكن أَعور وَلَا أعرج وَلَا أسود وَلَا فَاحِشا وَلَا ممارياولا فيلسوفا وَلَا شَاعِرًا وَلَا ساحرا وَلَا منجما فان قيل فَمن أَيْن جَاءَ الِاخْتِلَاف الشَّديد فَاعْلَم أَن منشأ مُعظم الْبدع يرجع إِلَى أَمريْن وَاضح بطلانهما فَتَأمل ذَلِك بانصاف وَشد عَلَيْهِ يَديك وَهَذَانِ الامران الباطلان هما الزِّيَادَة فِي الدّين باثبات مَا لم يذكرهُ الله تَعَالَى وَرُسُله عَلَيْهِم السَّلَام من مهمات الدّين الْوَاجِبَة وَالنَّقْص مِنْهُ بِنَفْي بعض مَا ذكره الله تَعَالَى وَرُسُله من ذَلِك بالتأويل الْبَاطِل ولهذين الْأَمريْنِ الباطلين أصلان عَقْلِي وسمعي أما الأَصْل الأول وَهُوَ الْعقلِيّ فَذَلِك أَنه عرض للمبتدعة بِسَبَب الْخَوْض فِيمَا لَا تُدْرِكهُ الْعُقُول من الخفيات الَّتِي أعرض عَنْهَا السّلف نَحْو مِمَّا عرض للبراهمة الَّذين حكمُوا برد النبوات من إِيجَاب أُمُور سكت الشَّرْع عَن بَعْضهَا وَنهى عَن بَعْضهَا واستقباح أُمُور ورد الشَّرْع بتحسينها لكِنهمْ خالفوا البراهمة فِي أَنهم صدقُوا الشَّرْع فِي الْجُمْلَة وَصَدقُوا هَذِه القوادح فِي تفاصيل الشَّرْع وراموا الْجمع بَينهمَا فوقعوا لذَلِك فِي أَشْيَاء واهية كَمَا ترَاهُ وَاضحا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذَا الْمُخْتَصر ولزمهم مَا التزموا من أَن رسل الله عَلَيْهِم السَّلَام قصروا فِي الْبَيَان عمدا امتحانا للمكلفين وتعريضا للْعُلَمَاء الراسخين للثَّواب الْعَظِيم فِي التَّأْوِيل لكَلَام رب الْعَالمين وَلَا شكّ أَن الْحق فِي خلاف هَذَا فقد نَص الله على أَن الرُّسُل إِنَّمَا أرْسلت لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَأنزل علينا فِي كِتَابه الْمُبين على لِسَان رَسُوله الْأمين {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَصَحَّ التحذير من الْبدع وَمن الله علينا باقرار أهل الْبدع بذلك وانعقاد الاجماع من الْجَمِيع على تَحْرِيم الابتداع فِي الدّين كَمَا يَأْتِي بَيَانه فَوَجَبَ علينا أَن نصْنَع فِي القوادح فِي تفاصيل الاسلام الَّتِي عرضت لبَعض أهل الْكَلَام مثل مَا صنعنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مَعًا فِي الرَّد على البراهمة فِي القوادح الَّتِي قدحت فِي جملَة الاسلام وَذَلِكَ أَن نعتقد أَن الْحق فِي تِلْكَ القوادح التفصيلية هُوَ فِيمَا جَاءَ من عِنْد الله بِدَلِيل المعجزات الباهرات ونعلم أَن للبصائر أوهاما فِي الخفيات من الاحكام مثل مَا ثَبت للابصار فِي الخفيات من الأوهام فَلَا نتبع فِي الخفيات وهم البصائر وَلَا وهم الْأَبْصَار فنكون كمن قدم ضوء النُّجُوم على ضوء النَّهَار بل نتتبع الْجَلِيّ من الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول ونرد اليه الخفيات على الْعُقُول وننتفع بالجلي ونقف فِيمَا دق وخفي ونصنع فِي الِانْتِفَاع بالبصائر كَمَا صنعنَا فِي الِانْتِفَاع بالأبصار وَلَا نقف الْجَلِيّ على الْخَفي وَلَا نرجح الْخَفي على الْجَلِيّ فَهَذَا مَا لَا يخفى تَرْجِيحه عقلا وَلَا سمعا أما الْعقل فَلِأَن الانسان يحسن مَا يُحسنهُ وَمَا لَا يُحسنهُ وَمَا يعرفهُ وَمَا يجهله كَمَا يحسن الْجُوع والظمأ وَالْبَصَر والعمى وَأما السّمع فَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَإِذا أردْت معرفَة هَذَا من غير تَقْلِيد فطالع كتاب الملخص للرازي فِي علم اللَّطِيف وَكتاب التَّذْكِرَة لِابْنِ متويه وَلَا تقتصر على التَّذْكِرَة فانها مختصرة مَعَ أَن كتاب الرَّازِيّ مَعْدُود فِي الوسائط فِي هَذَا الْفَنّ لَا فِي البسائط وَمن البسائط فِيهِ شرح الملخص هَذَا للكاتبي وَشرح التَّنْبِيهَات والاشارات للخواجه ذكر ذَلِك ابْن ساعد الانصاري فِي كِتَابه ارشاد القاصد إِلَى الْمَقَاصِد فِي ذكر أَنْوَاع الْعُلُوم والمصنفات فِيهَا وَأما الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ السمعي فَهُوَ اخْتلَافهمْ فِي أَمريْن أَحدهمَا فِي معرفَة الْمُحكم والمتشابه أَنفسهمَا والتمييز بَينهمَا حَتَّى يرد الْمُتَشَابه إِلَى الْمُحكم وَثَانِيهمَا اخْتلَافهمْ هَل يعلمُونَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه ثمَّ اخْتلَافهمْ فِي تَأْوِيله على تَسْلِيم أَنهم قد عرفُوا الْمُتَشَابه ولنذكر سَبَب وُقُوع الْمُتَشَابه على الْعُقُول من حَيْثُ الْحِكْمَة والدقة فِي كتب الله تَعَالَى أَولا وَالْمَشْهُور أَن سَببه الِابْتِلَاء بِالزِّيَادَةِ فِي مشقة التَّكْلِيف لتعظيم الثَّوَاب وَهَذَا أنسب بالمتشابه من حَيْثُ اللَّفْظ وَأما أَنا فَوَقع لي أَن سَببه زِيَادَة علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الله على علم الْخلق فان العوائد التجريبية والأدلة السمعية دلّت على امْتنَاع الِاتِّفَاق فِي تفاصيل الحكم وتفاصيل التحسين والتقبيح وَلذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف بَين أهل الْعِصْمَة من الْمَلَائِكَة والأنبياء كَمَا قَالَ تَعَالَى حاكيا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} وَحكى الله تَعَالَى اخْتِلَاف سُلَيْمَان وَدَاوُد ومُوسَى وَهَارُون ومُوسَى وَالْخضر وَصَحَّ فِي الحَدِيث اخْتِلَاف مُوسَى وآدَم وَاخْتِلَاف الْمَلَائِكَة فِي حكم قَاتل الْمِائَة نفس إِلَى أَمْثَال لذَلِك قد أفردتها لبَيَان امْتنَاع الِاتِّفَاق فِي نَحْو ذَلِك وَأَن عِلّة الِاخْتِلَاف التَّفَاضُل فِي الْعلم فَوَجَبَ من ذَلِك ان يكون فِي أَحْكَام الله تَعَالَى وَحكمه مَا تستقبحه عقول الْبشر لِأَن الله تَعَالَى لَو ماثلنا فِي جَمِيع الاحكام وَالْحكم دلّ على مماثلته لنا فِي الْعلم الْمُتَعَلّق بذلك وَفِي مؤداه ولطائفة وأصوله وفروعه وَلذَلِك تَجِد الْأَمْثَال والنظراء فِي الْعُلُوم أقل اخْتِلَافا خُصُوصا من المقلدين وَإِنَّمَا عظم الِاخْتِلَاف بَين الْخضر ومُوسَى لما خص بِهِ الْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام وَهَذِه فَائِدَة نفيسة جدا وَبهَا يكون وُرُود الْمُتَشَابه أدل على الله تَعَالَى وعَلى صدق أنبيائه لِأَن الْكَذَّابين إِنَّمَا يأْتونَ بِمَا يُوَافق الطباع كَمَا هُوَ دين القرامطة والزنادقة وَقد أَشَارَ السّمع إِلَى ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} وَقَالَ فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم} وَكَيف يستنكر اخْتِلَاف الانسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الَّذِي جمع معارف العارفين فِي علمه مثل مَا أَخذه العصفور فِي منقاره من الْبَحْر الاعظم بل كَيفَ لَا يخْتَص هَذَا الرب الاعظم بِمَعْرِِفَة مَا لَا نعرفه من الحكم اللطيفة الَّتِي يسْتَلْزم تفرده بمعرفتها أَن يتفرد بِمَعْرِِفَة حسن مَا تعلّقت بِهِ وتأويله وَبِهَذَا ينشرح صدر الْعَارِف للايمان بالمتشابه والايمان بِالْغَيْبِ فِي تَأْوِيله فلنذكر بعد هَذَا كل وَاحِد من الامرين الْمُقدم ذكرهمَا على الايجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أما الْأَمر الأول وَهُوَ اخْتلَافهمْ فِي ماهيتهما فَمنهمْ من قَالَ الْمُحكم مَا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا والمتشابه مَا احْتمل أَكثر من معنى فَهَؤُلَاءِ رجعُوا بالمحكم إِلَى النَّص الْجَلِيّ وَمَا عداهُ متشابه وَعَزاهُ الامام يحيى إِلَى أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَطَوَائِف من الحشوية وَمِنْهُم من قَالَ الْمُحكم مَا كَانَ إِلَى مَعْرفَته سَبِيل والمتشابه مَا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته بِحَال نَحْو قيام السَّاعَة وَالْحكمَة فِي الْعدَد الْمَخْصُوص فِي حَملَة الْعَرْش وخزنة النَّار وَمِنْهُم من قصر الْمُتَشَابه على آيَات مَخْصُوصَة ثمَّ اخْتلفُوا فَمنهمْ من قَالَ هِيَ الْحُرُوف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور وَمِنْهُم من قَالَ آيَات الشقاوة والسعادة وَمِنْهُم من قَالَ الْمَنْسُوخ وَمِنْهُم من قَالَ الْقَصَص والامثال وَمِنْهُم عكس فَقَالَ الْمُحكم آيَات مَخْصُوصَة وَهِي آيَات الْحَلَال وَالْحرَام وَمَا عَداهَا متشابه إِلَى غير ذَلِك حكى الْجَمِيع الامام يحيي فِي الْحَاوِي وَاخْتَارَ أَن الْمُحكم مَا علم المُرَاد بِظَاهِرِهِ بِدَلِيل عَقْلِي أَو نقلي والمتشابه بِهِ مَا لم يعلم المُرَاد مِنْهُ لَا على قرب وَلَا على بعد مثل قيام السَّاعَة والاعداد المبهمة وَقَالَ شيخ الاسلام ابْن تيمة فِي الْقَاعِدَة الْخَامِسَة من جَوَاب الْمَسْأَلَة التدبيرية إِنَّا نعلم مَا أخبرنَا الله تَعَالَى بِهِ من وَجه دون وَجه لقَوْله تَعَالَى {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} وَهَذَا يعم الْمُحكم والمتشابه وَجُمْهُور الْأمة على أَن الْوَقْف عِنْد قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الله} وَهُوَ الْمَأْثُور عَن أبي ابْن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَغَيرهم وَعَن مُجَاهِد وَطَائِفَة أَن الراسخين يعلمُونَ تَأْوِيله وَلَا مُنَافَاة بَين الْقَوْلَيْنِ عِنْد التَّحْقِيق فالتأويل على ثَلَاثَة وُجُوه الأول كَلَام الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ تَرْجِيح الْمَرْجُوح لدَلِيل الثَّانِي أَن التَّأْوِيل هُوَ التَّفْسِير وَهُوَ اصْطِلَاح الْمُفَسّرين كَمَا أَن الأول اصْطِلَاح الاصوليين وَمُجاهد امام التَّفْسِير عِنْد الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم وَالثَّالِث أَن التَّأْوِيل هُوَ الْحقيق الَّتِي يؤول اليها الْكَلَام لقَوْله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله} فَتَأْوِيل أَخْبَار الْمعَاد وُقُوعهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا قَالَ فِي قصَّة يُوسُف لما سجد أَبَوَاهُ وأخوته {هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل} وَمِنْه قَول عَائِشَة رَضِي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 عَنْهَا كَانَ يَقُول فِي رُكُوعه وَسُجُوده سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِر لي يتَأَوَّل الْقُرْآن تعنى قَوْله فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ وَمِنْه قَول ابْن عُيَيْنَة السّنة هِيَ تَأْوِيل الْأَمر وَالنَّهْي فان نفس الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ هُوَ تَأْوِيل الامر بِهِ وَنَفس الْمَوْجُود الْمخبر بِهِ هُوَ تَأْوِيل الْخَبَر وَبِهَذَا يَقُول أَبُو عُبَيْدَة وَغَيره وَالْفُقَهَاء أعلم بالتأويل من أهل اللُّغَة كَمَا ذكرُوا ذَلِك فِي تَفْسِير اشْتِمَال الصماء لِأَن الْفُقَهَاء يعلمُونَ نفس مَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ لعلمهم بمقاصد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعلم اتِّبَاع بقراط وسيبويه من مقاصدهما مَا لَا يعلم بِمُجَرَّد اللُّغَة وَلَكِن تَأْوِيل الْأَمر وَالنَّهْي لابد من مَعْرفَته بِخِلَاف الْخَبَر إِذْ عرفت ذَلِك فَتَأْوِيل مَا أخبر بِهِ الله عَن ذَاته المقدسة بِمَا لَهَا من الْأَسْمَاء وَالصِّفَات هُوَ حَقِيقَة ذَاته المقدسة وَتَأْويل مَا أخبر بِهِ الله من الْوَعْد والوعيد هُوَ نفس الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ مثل المسميات بأسمائه فِي الدُّنْيَا فَكيف بمعاني أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته وَلَكِن الْأَخْبَار عَن الْغَائِب لَا يفهم إِن لم تعبر عَنهُ الاسماء الْمَعْلُوم مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِد وَيعلم بهَا مَا فِي الْغَائِب بِوَاسِطَة الْعلم بِمَا فِي الشَّاهِد مَعَ الْفَارِق الْمُمَيز وَفِي الْغَائِب مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر كَمَا ورد فِي صفة الْجنَّة كَيفَ بِالذَّاتِ المقدسة إِلَى قَوْله وَمِمَّا يُوضح ذَلِك كُله أَن الله تَعَالَى وصف الْقُرْآن كُله بِأَنَّهُ مُحكم وَبِأَنَّهُ متشابه وَفِي آيَة أَن بعضه مُحكم وَبَعضه متشابه فالأحكام الَّذِي يعمه هُوَ الاتقان وَهُوَ تَمْيِيز الصدْق من الْكَذِب فِي اخباره والغي من الرشاد فِي أوامره والتشابه الَّذِي يعمه هُوَ ضد الِاخْتِلَاف المنفى عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَهُوَ الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور فِي قَوْله {إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف يؤفك عَنهُ من أفك} فالتشابه بِهِ هُنَا تماثل الْكَلَام وتناسبه بِحَيْثُ يصدق بعضه بَعْضًا فالاحكام الْعَام فِي معنى التشابه الْعَام بِخِلَاف الاحكام الْخَاص والتشابه الْخَاص فانهما متنافيان فالتشابه الْخَاص مشابهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الشَّيْء لغيره من وَجه ومخالفته من وَجه آخر بِحَيْثُ يشْتَبه على بعض النَّاس إِنَّه هُوَ أَو هُوَ مثله وَلَيْسَ كَذَلِك والاحكام الْخَاص هُوَ الْفَصْل بَينهمَا بِحَيْثُ لَا يشْتَبه أَحدهمَا بِالْآخرِ يَعْنِي على من عرف ذَلِك الْفَصْل وَهَذَا التشابه الْخَاص إِنَّمَا يكون بِقدر مُشْتَرك بَين الشَّيْئَيْنِ مَعَ وجود الْفَاصِل بَينهمَا ثمَّ من النَّاس من لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِك الْفَاصِل فَيكون مشتبها عَلَيْهِ وَمِنْهُم من يَهْتَدِي لَهُ فَيكون محكما فِي حَقه فالتشابه حِينَئِذٍ يكون من الامور الاضافية فاذا تمسك النَّصْرَانِي بقوله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} وَنَحْوه على تعدد الْآلهَة كَانَ الْمُحكم كَقَوْلِه تَعَالَى {وإلهكم إِلَه وَاحِد} وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا يزِيل مَا هُنَالك من الِاشْتِبَاه اه وَقد ترك الامام وَالشَّيْخ وَجها آخر من الْمُتَشَابه الَّذين يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل مِمَّا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله على الصَّحِيح وَذَلِكَ وَجه الحكم الْمعينَة فِيمَا لَا تعرف الْعُقُول وَجه حسنه مثل خلق أهل النَّار وترجيح عَذَابهمْ على الْعَفو عَنْهُم مَعَ سبق الْعلم وسعة الرَّحْمَة وَكَمَال الْقُدْرَة على كل شَيْء وَالدَّلِيل على أَن الْحِكْمَة خُفْيَة فِيهِ تسمى تَأْوِيلا لَهُ مَا ذكره تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى وَالْخضر فان قَوْله {سأنبئك بِتَأْوِيل مَا لم تستطع عَلَيْهِ صبرا} صَرِيح فِي ذَلِك وَهَذَا مُرَاد فِي الْآيَة لِأَن الله وصف الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ بابتغائهم تَأْوِيله وذمهم بذلك وهم لَا يَبْتَغُونَ علم الْعَاقِبَة عَاقِبَة الْخَبَر عَن الْوَعْد والوعيد وَمَا يؤول اليه على مَا فسره الشَّيْخ فهم الْجنَّة وَالنَّار وَالْقِيَامَة وَذَات الرب سُبْحَانَهُ كَمَا يبغيها طَالب العيان إِنَّمَا يستقبحون شَيْئا من الظَّوَاهِر بعقولهم يتكلفون لَهَا مَعَاني كَثِيرَة يَخْتَلِفُونَ فِيهَا وكل مِنْهُم يتفرد بِمَعْنى من غير حجَّة صَحِيحَة إِلَّا مُجَرّد الِاحْتِمَال وَرُبمَا خَالف ذَلِك التَّأْوِيل الْمَعْلُوم من الشَّرْع فتأولوه وَرُبمَا استلزم الْوُقُوع فِي أعظم مِمَّا فروا مِنْهُ وَالَّذِي وضح لي فِي هَذَا وضوحا لَا ريب فِيهِ بِحسن توفيق الله أُمُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أَحدهَا أَن الْكَلَام فِي ذَات الله تَعَالَى على جِهَة التَّصَوُّر وَالتَّفْصِيل أَو على جِهَة الاحاطة على حد علم الله كِلَاهُمَا بَاطِل بل من الْمُتَشَابه الْمَمْنُوع الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وَلقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} وانما تتَصَوَّر الْمَخْلُوقَات وَمَا هُوَ نَحْوهَا وَلما رُوِيَ من النَّهْي عَن التفكر فِي ذَات الله والامر بالتفكر فِي آلَاء الله وَلما اشْتهر عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام أَن ذَلِك مذْهبه حَتَّى رَوَاهُ عَنهُ الْخُصُوم وَمن أشهر مَا حفظ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك قَوْله فِي امْتنَاع معرفَة الله عز وَجل على الْعُقُول امْتنع مِنْهَا بهَا واليها حاكمها وَمن التفكر فِي الله والتحكم فِيهِ وَالدَّعْوَى الْبَاطِلَة على الْعُقُول والتكلف لتعريفها مَا لَا تعرفه حدثت هُنَا الْبدع الْمُتَعَلّقَة بِذَات الله وَصِفَاته وأسمائه فَمن أكبرها قَول البهاشمة من الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى عَن قَوْلهم لَا يعلم من ذَاته غير مَا يعلمونه قَالَ بن أبي الْحَدِيد فِي شرح النهج وَهَذَا مِمَّا يُصَرح بِهِ أَصْحَابنَا وَلَا يتحاشون عَنهُ وَقد كثرت عَلَيْهِم الردود حَتَّى تولى عَلَيْهِم فِي ذَلِك كثير من أَصْحَابهم الْمُعْتَزلَة كَابْن أبي الْحَدِيد وَغَيره حَتَّى قَالَ فِي ذَلِك قصائد كَثِيرَة بليغة مِنْهَا (سَافَرت فِيك الْعُقُول فَمَا ... ربحت إِلَّا عَنَّا السّفر) (رجعت حسري فَمَا وَقعت ... لَا على عين وَلَا أثر) (فلحى الله الأولى زَعَمُوا ... أَنَّك الْمَعْلُوم بِالنّظرِ) (كذبُوا أَن الَّذِي زَعَمُوا ... خَارج عَن قُوَّة الْبشر) فاذا كَانَ هَذَا كَلَام إِمَام معارفهم والحامي عَن حماهم فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ من خصومهم فاعرض على فطراتك الَّتِي فطرك الله عَلَيْهَا هَل تَجِد علمك بِاللَّه مثل علم الله وَأَنت الحكم كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فان الانسان يعرف أَحْوَال نَفسه وَعلمه وجهله مثل عافيته وألمه وَقد بسطت القَوْل فِي الرَّد عَلَيْهِم فِي دَعْوَى الْعلم بِالذَّاتِ كعلمه تَعَالَى فِي تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن على أساليب اليونان وَكفى بقول أَمِير الْمُؤمنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك وَلم يعلم لَهُ مُخَالف فِي الصَّدْر الاول وَكفى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام سلفا وقدوة وإماما وَحجَّة فِي هَذِه المشكلة وَمن أَبْيَات فِي الرَّد عَلَيْهِم كنت قلتهَا وَهِي أَيْضا (لي فِي الْقدَم مقَال غير مبتكر ... سُبْحَانَهُ عَن خيال الْوَهم والفكر) (أَجله أَن يُحِيط الناظرون بِهِ ... ذاتا وَأَيْنَ قوى النظار وَالنَّظَر) (فالعلم قِسْمَانِ تصدق وَمَعْرِفَة ... تخْتَص بِالذَّاتِ والتصديق بالْخبر) وَمِنْهَا (الله أكبر هَذَا قَاطع وَلنَا ... عَلَيْهِ أكبر برهَان من الزبر) (تنزه الرب فِي الذّكر الْمنزل ان ... يُحِيط علما بِهِ خلق من الْبشر) (تمدحا لم يكن فِي الذّكر مُخْتَلفا ... قطعا وَلَا غَلطا من وهم ذِي نظر) (وَفِي الحَدِيث دلالات لنا وَلنَا ... حَدِيث مُوسَى كليم الله وَالْخضر) (وَفِي كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ هدى ... هَذَا وحسبك برهانا لمنتصر) (وَفِي وَصيته ابْن الْمُصْطَفى حسنا ... دَلَائِل لفقيه الْقلب مُعْتَبر) (وَعَن وُجُوه الكراسي قد رَوَاهُ لنا ... عبد الحميد بشرح النهج ذِي العبر) (وجنح القَوْل فِيهِ بالقصائد أَمْثَالًا ... تسير مسير الشَّمْس وَالْقَمَر) (تِلْكَ الأولى حكمت بِالْمَنْعِ قد حكمت ... بهَا الملائك أهل الْقرب وَالنَّظَر) (والراسخين وَأدنى من لَهُ أدب ... وكل متعظ لله منكسر) (فَلَا ترجح عَلَيْهِم غير محتفل ... شُيُوخ جُبَّة إِن جاوزوا فَلَا تجر) (وَالْفرق كالصبح لَا يخفى على أحد ... وَالْخَبَر تميز فَلَيْسَ الْخَبَر كالخبر) ولبعض الاصحاب أَبْيَات فِي هَذَا الْمَعْنى جَيِّدَة وَمن الْبدع فِي هَذَا الْموضع بدع المشبهة على اخْتِلَاف أنواعهم وبدع المعطلة على اخْتلَافهمْ أَيْضا فغلاتهم يعطلون الذَّات وَالصِّفَات والاسماء الْجَمِيع وَمِنْهُم الباطنية ودونهم الْجَهْمِية وَمن النَّاس من يوافقهم فِي بعض ذَلِك دون بعض وَقد بسطت القَوْل فِي ذَلِك فِي الْوَهم الْخَامِس عشر من العواصم فِي نَحْو مُجَلد وَيَأْتِي إِلَى ذَلِك إِشَارَة فِي هَذَا الْمُخْتَصر كَافِيَة إِن شَاءَ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 تَعَالَى فالفريقان المشبهة والمعطلة إِنَّمَا أَتَوا من تعَاطِي علم مَا لَا يعلمُونَ وَلَو أَنهم سلكوا مسالك السّلف فِي الايمان بِمَا ورد من غير تَشْبِيه لسلموا فقد أَجمعُوا على أَن طَريقَة السّلف أسلم وَلَكنهُمْ ادعوا أَن طَريقَة الْخلف أعلم فطلبوا الْعلم من غير مظانه بل طلبُوا علم مَا لَا يعلم فتعارضت أنظارهم الْعَقْلِيَّة وعارض بَعضهم بَعْضًا فِي الْأَدِلَّة السمعية فالمشبهة ينسبون خصومهم إِلَى رد آيَات الصِّفَات وَيدعونَ فِيهَا مَا لَيْسَ من التَّشْبِيه والمعطلة ينسبون خصومهم وَسَائِر أَئِمَّة الاسلام جَمِيعًا إِلَى التَّشْبِيه وَيدعونَ فِي تَفْسِيره مَا لَا تقوم عَلَيْهِ حجَّة وَالْكل حرمُوا طَرِيق الْجمع بَين الْآيَات والْآثَار والاقتداء بالسلف الاخيار والاقتصار على جليات الابصار وصحاح الْآثَار وَقد روى الامام أَبُو طَالب عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَمَالِيهِ باسناده من حَدِيث زيد بن أسلم أَن رجلا سَأَلَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَسْجِد الْكُوفَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَل تصف لنا رَبنَا فنزداد لَهُ حبا فَغَضب عَلَيْهِ السَّلَام ونادى الصَّلَاة جَامِعَة فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ إِلَى قَوْله فَكيف يُوصف الَّذِي عجزت الْمَلَائِكَة مَعَ قربهم من كرْسِي كرامته وَطول وَلَهُم إِلَيْهِ وتعظيم جلال عزته وقربهم من غيب ملكوت قدرته أَن يعلمُوا من علمه إِلَّا مَا علمهمْ وهم من ملكوت الْقُدس كلهم وَمن مَعْرفَته على مَا فطرهم عَلَيْهِ فَقَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم فَعَلَيْك أَيهَا السَّائِل بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن من صفته وتقدمك فِيهِ الرُّسُل بَيْنك وَبَين مَعْرفَته فَأَتمَّ بِهِ وأستضيء بِنور هدايته فانما هِيَ نعْمَة وَحِكْمَة أوتيتها فَخذ مَا أُوتيت وَكن من الشَّاكِرِينَ وَمَا كلفك الشَّيْطَان علمه مِمَّا لَيْسَ عَلَيْك فِي الْكتاب فَرْضه وَلَا فِي سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أَئِمَّة الْهدى أَثَره فَكل علمه إِلَى الله سُبْحَانَهُ فانه مُنْتَهى حق الله عَلَيْك وَقد روى السَّيِّد فِي الأمالي أَيْضا الحَدِيث الْمَشْهُور فِي كتاب التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (سَتَكُون فتْنَة قلت فَمَا الْمخْرج مِنْهَا قَالَ كتاب الله فِيهِ نبأ مَا قبلكُمْ وَخبر مَا بعدكم وَفصل مَا بَيْنكُم فَهُوَ الْفَاصِل بَين الْحق وَالْبَاطِل من ابْتغى الْهدى من غَيره أضلّهُ الله إِلَى قَوْله من قَالَ بِهِ صدق وَمن عمل بِهِ أجر وَمن حكم بِهِ عدل وَمن دَعَا إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَرَوَاهُ فِي أَمَالِيهِ بِسَنَد آخر عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ وَرَوَاهُ ابْن الْأَثِير فِي الْجَامِع عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ مَعَ شهرته فِي شَرط أهل الحَدِيث متلقى بِالْقبُولِ عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول وَلَكِن المبتدعة يرَوْنَ تصانيفهم أهْدى مِنْهُ لبيانهم فِيهَا على زعمهم الْمُحكم من الْمُتَشَابه فَمنهمْ من صرح بذلك وَقَالَ أَن كَلَامه أَنْفَع من كَلَام الله تَعَالَى وَكتبه أهْدى من كتب الله وهم الحسينية أَصْحَاب الْحُسَيْن بن الْقَاسِم العناني وَقد حمله الامام المطهر بن يحيى على الحنون وَقيل لم يَصح عَنهُ وَمِنْهُم من يلْزمه ذَلِك وَإِن لم يُصَرح بِهِ فَهَذَا الْأَمر الاول من الْمُتَشَابه وَهُوَ التحكم بِالنّظرِ فِي ذَات الله تَعَالَى وَمَا يُؤَدِّي اليه الْأَمر الثَّانِي من الْمُتَشَابه الْوَاضِح تشابهه وَالْمَنْع مِنْهُ هُوَ النّظر فِي سر الْقدر السَّابِق فِي الشرور مَعَ عَظِيم رَحْمَة الله تَعَالَى وَقدرته على مَا يَشَاء وَقد ثَبت فِي كتاب الله تَعَالَى تحير الْمَلَائِكَة الْكِرَام عَلَيْهِم السَّلَام فِي ذَلِك وسؤالهم عَنهُ بقَوْلهمْ {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك قَالَ إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} ثمَّ سَاق خبر آدم وتعليمه الاسماء وتفضيله فِي ذَلِك عَلَيْهِم إِلَى قَوْله {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون} وَفِي ذَلِك إِشَارَة وَاضِحَة إِلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانه من أَن مُرَاد الله بالخلق هم أهل الْخَيْر فالخلق كلهم كالشجرة وَأهل الْخَيْر ثَمَرَة تِلْكَ الشَّجَرَة واليه الاشارة بقوله {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَفِي حَدِيث الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين دَعَا على العصاة قَالَ الله لَهُ كف عَن عبَادي إِن مصير عَبدِي مني احدى ثَلَاث إِمَّا أَن يَتُوب فأتوب عَلَيْهِ أَو يستغفرني فَأغْفِر لَهُ أَو أخرج من صلبه من يعبدني رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي كتاب الْعلم فِي الاحياء فِي أَقسَام الْعُلُوم الْبَاطِنَة وَلَا يبعد أَن يكون ذكر بعض الْحَقَائِق مضرا بِبَعْض الْخلق كَمَا يضر نور الشَّمْس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أبصار الخفافيش وكما يضر ريح الْورْد بالجعل وَكَيف يبعد هَذَا وَقَوْلنَا أَن كل شَيْء بِقَضَاء من الله وَقدر حق فِي نَفسه وَقد أضرّ سَمَاعه بِقوم حَيْثُ أوهم ذَلِك عِنْدهم دلَالَة على السَّفه ونقيض الْحِكْمَة وَالرِّضَا بالقبيح وَالظُّلم وألحد ابْن الراوندي وَطَائِفَة من المخذولين بِمثل ذَلِك وَكَذَلِكَ سر الْقدر لَو أفشي أَو هم عِنْد أَكثر الْخلق عَجزا إِذْ تقصر أفهامهم عَن ادراك مَا يزِيل هَذَا الْوَهم عَنْهُم وَقَالَ فِي شرح اسماء الله الْحسنى فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم والآن أَن خطر لَك نوع من الشَّرّ لَا ترى فِيهِ خيرا أَو أَن تَحْصِيل ذَلِك الْخَيْر من غير شَرّ أولى فاتهم عقلك الْقَاصِر فِي كلا الطَّرفَيْنِ فانك مثل أم الصَّبِي الَّتِي ترى الْحجامَة شرا مَحْضا والغبي الَّذِي يرى الْقصاص شرا مَحْضا لِأَنَّهُ ينظر إِلَى خُصُوص شخص الْمَقْتُول وانه فِي حَقه شَرّ مَحْض وَيذْهل عَن الْخَيْر الْعَام الْحَاصِل للنَّاس كَافَّة وَلَا يدْرِي أَن التواصل بِالشَّرِّ الْخَاص إِلَى الْخَيْر الْعَام خير مَحْض لَا يَنْبَغِي حَكِيم أَن يهمله هَذَا أَو قريب من هَذَا وَفِي بعض كَلَامه نظر قد أوضحته فِي العواصم والسر فِي ذَلِك أَن الله تَعَالَى لَا يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا قطعا وَإِنَّمَا يُريدهُ وَسِيلَة إِلَى الْخَيْر الرَّاجِح كَمَا قَالَ {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} وكما صَحَّ فِي الْحُدُود والمصائب أَنَّهَا كَفَّارَات فَهَذَا هُوَ سر الْقدر فِي الْجُمْلَة وَإِنَّمَا الَّذِي خَفِي تَفْصِيله ومعرفته فِي عَذَاب الْآخِرَة وشقاوة الاشقياء فَمن النَّاس من كبر ذَلِك عَلَيْهِ وَأَدَّاهُ إِلَى الحكم بِنَفْي التحسين والتقبيح فصرحوا بِنَفْي حِكْمَة الله تَعَالَى وهم غلاة الاشعرية إِلَّا بِمَعْنى إحكام المصنوعات فِي تصويرها لَا سواهُ وَمن النَّاس من أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى القَوْل بالجبر وَنفي قدرَة الْعباد واختيارهم وَمِنْهُم من جمع بَينهمَا وَمن النَّاس من جعل الْوَجْه فِي تَحْسِين ذَلِك من الله عدم قدرته سُبْحَانَهُ على هدايتهم وهم جُمْهُور الْمُعْتَزلَة لكِنهمْ يَعْتَذِرُونَ عَن تَسْمِيَته عَجزا ويسمونه غير مَقْدُور كَمَا سَيَأْتِي وَمِنْهُم من جعل الْعذر فِي ذَلِك أَن الله لَا يعلم الْغَيْب وهم غلاة الْقَدَرِيَّة نفاة الاقدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقد تقصيت الردود الْوَاضِحَة عَلَيْهِم والبراهين الفاضحة لَهُم فِي العواصم وجمعت فِي ذَلِك مَا لم أسبق إِلَيْهِ وَلَا إِلَى قريب مِنْهُ فِي علمي فتمت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مُجَلد ضخم وَبَلغت أَحَادِيث وجوب الايمان بِالْقدرِ اثْنَيْنِ وَسبعين وَأَحَادِيث صِحَّته مائَة وَخَمْسَة وَخمسين الْجُمْلَة مِائَتَان وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا من غير الْآيَات القرآنية والأدلة البرهانية وصنف ابْن تَيْمِية فِي بَيَان الْحِكْمَة فِي الْعَذَاب الأخروي وَتَبعهُ تِلْمِيذه ابْن الْقيم الجوزية وَبسط ذَلِك فِي كِتَابه حادي الارواح إِلَى ديار الافراح فافردت ذَلِك من جُزْء لطيف وزدت عَلَيْهِ ومضمون كَلَامهم أَنه لَا يجوز اعْتِقَاد أَن الله يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا بِلَا لابد من خير رَاجِح يكون ذَلِك الشَّرّ وَسِيلَة اليه وَذَلِكَ الْخَيْر هُوَ تَأْوِيل ذَلِك الشَّرّ السَّابِق لَهُ على نَحْو تَأْوِيل الْخضر لمُوسَى وطردوا ذَلِك فِي شرور الدَّاريْنِ مَعًا وَنصر ذَلِك الْغَزالِيّ فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم ولنورد فِي ذَلِك حَدِيثا وَاحِدًا مِمَّا يدل على الْمَنْع من الْخَوْض فِي تعْيين الْحِكْمَة فِي ذَلِك فَنَقُول قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه الاسماء وَالصِّفَات عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن ابْن عَبَّاس لما بعث الله مُوسَى وَكلمَة قَالَ اللَّهُمَّ أَنْت رب عَظِيم وَلَو شِئْت أَن تطاع لأطعت وَلَو شِئْت أَن لَا تعصى لما عصيت وَأَنت تحب أَن تطاع وَأَنت فِي ذَلِك تعصى فَكيف هَذَا يارب فَأوحى الله اليه لَا أسأَل عَمَّا أفعل وهم يسئلون فَانْتهى مُوسَى وَرَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَعَزاهُ إِلَى الطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ فَلَمَّا بعث الله عَزِيزًا سَأَلَ الله مثل مَا سَأَلَ مُوسَى ثَلَاث مَرَّات فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ أتستطيع أَن تصر صرة من الشَّمْس قَالَ لَا قَالَ أفتستطيع أَن تَجِيء بِمِكْيَال من الرّيح قَالَ لَا قَالَ أفتستطيع أَن تَجِيء بمثقال أَو بقيراط من نور قَالَ لَا قَالَ فَهَكَذَا لَا تقدر على الَّذِي سَأَلت عَنهُ أما أَنِّي لَا أجعَل عُقُوبَتك إِلَّا أَنِّي أمحو اسْمك من الْأَنْبِيَاء فَلَا تذكر فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فَلَمَّا بعث الله عِيسَى وَرَأى مَنْزِلَته سَأَلَ عَن ذَلِك كموسى وَأجِيب عَلَيْهِ بِمثل ذَلِك وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ لَئِن لم تَنْتَهِ لَأَفْعَلَنَّ بك كَمَا فعلت بصاحبك بَين يَديك فَجمع عِيسَى من مَعَه فَقَالَ الْقدر سر الله تَعَالَى فَلَا تكلفوه وروى الطَّبَرَانِيّ عَن وهب عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن الْقدر فَقَالَ وجدت أطول النَّاس فِيهِ حَدِيثا أجهلهم بِهِ وأضعفهم فِيهِ حَدِيثا أعلمهم بِهِ وَوجدت النَّاظر فِيهِ كالناظر فِي شُعَاع الشَّمْس كلما ازاد فِيهِ نظرا ازْدَادَ قلت وَيشْهد لهَذِهِ الْآيَات مَا جَاءَ فِي كتاب الله من قَول الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} وَالْجَوَاب الْجملِي عَلَيْهِم كَمَا مر وَأما أَحَادِيث النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْقدر فعشرة أَحَادِيث رجال بَعْضهَا ثِقَات وَبَعضهَا شَوَاهِد لبَعض كَمَا أوضحته فِي العواصم وَأَقل من هَذَا مَعَ شَهَادَة الْقُرْآن والبرهان لذَلِك يَكْفِي الْمنصف وَمَا حدث بِسَبَب الْخَوْض من الضلالات زِيَادَة عِبْرَة وحيرة الْأَمر الثَّالِث من الْمُتَشَابه الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور فان الْجَهْل بالمراد بهَا مَعْلُوم كالألم وَالصِّحَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين أقِيمُوا الصَّلَاة وَنَحْو ذَلِك ضَرُورِيّ وَدَعوى التَّمَكُّن من معرفَة مَعَانِيهَا تَسْتَلْزِم جَوَاز أَن ينزل الله سُورَة كلهَا كَذَلِك أَو كتابا من كتبه الْكَرِيمَة ويستلزم جَوَاز أَن يتخاطب الْعُقَلَاء بِمثل ذَلِك ويلوموا من طلب مِنْهُم بَيَان مقاصدهم وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا هُوَ اخْتِيَار زيد بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَالقَاسِم وَالْهَادِي عَلَيْهِمَا السَّلَام وَهُوَ نَص فِي تفسيرهما الْمَجْمُوع وَكَذَلِكَ الامام يحيى عَلَيْهِ السَّلَام ذكره فِي الْحَاوِي وَقَوْلهمْ أَنا مخاطبون بهَا فَيجب أَن نفهمها مقلوب وَصَوَابه أَنا لَا نفهمها فَيجب أَن لَا نَكُون مخاطبين بفهمها وَقد ذكرت فِي الْحجَّة على أَنَّهَا غير مَعْلُومَة أَكثر من عشْرين حجَّة فِي تَكْمِلَة تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن الامر الرَّابِع من الْمُتَشَابه الْمُجْمل الَّذِي لَا يظْهر مَعْنَاهُ بِعلم وَلَا ظن سَوَاء كَانَ بِسَبَب الِاشْتِرَاك فِي مَعْنَاهُ أَو لغرابته أَن عدم صِحَة تَفْسِيره فِي اللُّغَة وَالشَّرْع أَو غير ذَلِك وَقد وَقع الْوَهم فِي الْمُجْمل لنوح عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فَلَمَّا بعث الله عِيسَى وَرَأى مَنْزِلَته سَأَلَ عَن ذَلِك كموسى وَأجِيب عَلَيْهِ بِمثل ذَلِك وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ لَئِن لم تَنْتَهِ لَأَفْعَلَنَّ بك كَمَا فعلت بصاحبك بَين يَديك فَجمع عِيسَى من مَعَه فَقَالَ الْقدر سر الله تَعَالَى فَلَا تكلفوه وروى الطَّبَرَانِيّ عَن وهب عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن الْقدر فَقَالَ وجدت أطول النَّاس فِيهِ حَدِيثا أجهلهم بِهِ وأضعفهم فِيهِ حَدِيثا أعلمهم بِهِ وجدت النَّاظر فِيهِ كالناظر فِي شُعَاع الشَّمْس كلما ازاد فِيهِ نظرا ازْدَادَ اقلت وَيشْهد لهَذِهِ الْآيَات مَا جَاءَ فِي كتاب الله من قَول الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} وَالْجَوَاب الْجملِي عَلَيْهِم كَمَا مر وَأما أَحَادِيث النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْقدر فعشرة أَحَادِيث رجال بَعْضهَا ثِقَات وَبَعضهَا شَوَاهِد لبَعض كَمَا أوضحته فِي العواصم وَأَقل من هَذَا مَعَ شَهَادَة الْقُرْآن والبرهان لذَلِك يَكْفِي الْمنصف وَمَا حدث بِسَبَب الْخَوْض من الضلالات زِيَادَة عِبْرَة وحيرة الامر الثَّالِث من الْمُتَشَابه الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور فان الْجَهْل بالمراد بهَا مَعْلُوم كالألم وَالصِّحَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين أقِيمُوا الصَّلَاة وَنَحْو ذَلِك ضَرُورِيّ وَدَعوى التَّمَكُّن من معرفَة مَعَانِيهَا تَسْتَلْزِم جَوَاز أَن ينزل الله سُورَة كلهَا كَذَلِك أَو كتابا من كتبه الْكَرِيمَة ويستلزم جَوَاز أَن يتخاطب الْعُقَلَاء بِمثل ذَلِك ويلوموا من طلب مِنْهُم بَيَان مقاصدهم وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا هُوَ اخْتِيَار زيد بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَالقَاسِم وَالْهَادِي عَلَيْهِمَا السَّلَام وَهُوَ نَص فِي تفسيرهما الْمَجْمُوع وَكَذَلِكَ الامام يحيى عَلَيْهِ السَّلَام ذكره فِي الْحَاوِي وَقَوْلهمْ انا مخاطبون بهَا فَيجب أَن نفهمها مقلوب وَصَوَابه انا لَا نفهمها فَيجب أَن لَا نَكُون مخاطبين بفهمها وَقد ذكرت فِي الْحجَّة على أَنَّهَا غير مَعْلُومَة أَكثر من عشْرين حجَّة فِي تَكْمِلَة تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن الْأَمر الرَّابِع من الْمُتَشَابه الْمُجْمل الَّذِي لَا يظْهر مَعْنَاهُ بِعلم وَلَا ظن سَوَاء كَانَ بِسَبَب الِاشْتِرَاك فِي مَعْنَاهُ أَو لغرابته أَو عدم صِحَة تَفْسِيره فِي اللُّغَة وَالشَّرْع أَو غير ذَلِك وَقد وَقع الْوَهم فِي الْمُجْمل لنوح عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كَيفَ لغيره وَذَلِكَ قَوْله {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} {قَالَ يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك} وَأما الْمُحكم فَهُوَ مَا عدا الْمُتَشَابه وغالبه النَّص الْجَلِيّ وَالظَّاهِر الَّذِي لم يُعَارض وَالْمَفْهُوم الصَّحِيح الَّذِي لم يُعَارض وَالْخَاص والمقيد وَإِن عارضهما الْعَالم وَالْمُطلق وَيلْحق بِهَذَا فَوَائِد الاولى الصَّحِيح فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} الْوَقْف على الله بِدَلِيل ذمّ مبتغى تَأْوِيل الْمُتَشَابه فِي الْآيَة وَهُوَ اخْتِيَار الامام يحيى فِي الْحَاوِي وَاحْتج بِأَن أما للتفصيل على بَابهَا وَالتَّقْدِير وَأما الراسخون بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ} كَمَا تَقول أما زيد فعالم وَعَمْرو جَاهِل أَي وَأما عَمْرو فجاهل يُوضحهُ أَن الْمُخَالف مُسلم ان هَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْهَا لكنه يَقُول أَنه يجب تَأْوِيلهَا على أَن المُرَاد ذمهم بابتغاء تَأْوِيله الْبَاطِل فيقيد اطلاق الْآيَة بِغَيْر حجَّة ويجعلها من الْمُتَشَابه مَعَ أَنَّهَا الفارقة بَين الْمُحكم والمتشابه وَهَذَا خلف وَقد روى الْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ وَيَقُول الراسخون وَقَالَ صَحِيح وَرَوَاهُ الزمحشري فِي كشافه قِرَاءَة عَن أبي وَغَيره وَرَوَاهُ الامام أَبُو طَالب فِي أَمَالِيهِ عَن عَليّ عَليّ السَّلَام وَلم يتأوله وَلم يطعن فِيهِ وَهُوَ فِي النهج أَيْضا وَهُوَ نَص لَا يُمكن تَأْوِيله فان لَفظه عَلَيْهِ السَّلَام أعلم أَيهَا السَّائِل أَن الراسخين فِي الْعلم هم الَّذين أغناهم عَن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة مَا جهلوا تَفْسِيره من الْغَيْب المحجوب فمدح الله اعترافهم بِالْعَجزِ عَن تنَاول مَا لم يحيطوا بِهِ علما وسمى تَركهم التعمق فِيمَا لم يكلفهم الْبَحْث عَنهُ رسوخا فاقتصر على ذَلِك اه بِحُرُوفِهِ وَأَيْضًا فَلَا يجب علم جَمِيع الْمُكَلّفين بذلك عِنْد الْخُصُوم إِذْ فِي المتكلفين الامي والعجمي وَنَحْوهم وَإِذا كَانَ علم الْبَعْض يَكْفِي وَيخرج الْخطاب بذلك عَن الْعَبَث جَازَ أَن يكون ذَلِك الْبَعْض هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن شَاءَ الله من مَلَائكَته وخواص عباده وَالله سُبْحَانَهُ أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الْفَائِدَة الثَّانِيَة إِذا تعَارض الْعَام وَالْخَاص فالمحكم هُوَ الْخَاص وَالْبناء عَلَيْهِ وَاجِب وَفِيه الْجمع بَينهمَا وَفِي الْعَكْس طرح الْخَاص مَعَ رجحانه بالنصوصية وَهِي قَاعِدَة كَبِيرَة فاحفظها وَلَا خلاف فِيهَا فِي الِاعْتِقَاد لعدم الْفَائِدَة فِي التَّارِيخ فِيهِ وَلذَلِك أَجمعُوا على اثبات الْخلَّة لِلْمُتقين وَتَأْويل نفي الْخلَّة الْمُطلق فَتَأمل ذَلِك الْفَائِدَة الثَّالِثَة إِذا كَانَ التحسين الْعقلِيّ مَعَ بعض السّمع فَهُوَ الْمُحكم والمتشابه مخالفه لما وضح من تَأْوِيل الْخضر بموافقة الْعقل وَفِي مُخَالفَة هَذِه الْقَاعِدَة عناد بَين وضلال كَبِير فاعرفها وَاعْتبر موَاضعهَا ترشد إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فصل إِذا عرفت مَا قدمت لَك بِمَا عَرفته فِي هَذَا الْمُخْتَصر أَو بِهِ رُبمَا أرشدك إِلَى مطالعته مِمَّا هُوَ أبسط مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنى مثل تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن وتكملته فَاعْلَم أَن مُعظم ابتداع المبتدعين من أهل الاسلام رَاجع إِلَى هذَيْن الامرين الباطلين الْوَاضِح بطلانهما كَمَا تقدم وهما لزِيَادَة فِي الدّين وَالنَّقْص مِنْهُ ثمَّ يلْحق بهما التَّصَرُّف فِيهِ بالعبارات المبتدعة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ بِأَمْر ثَالِث لِأَنَّهُ من الزِّيَادَة فِي الدّين لكنه تفرد بالْكلَام وَحده لطول القَوْل فِيهِ وَعظم الْمفْسدَة المتولدة عَنهُ فَمن الزِّيَادَة فِي الدّين أَن يرفع المظنون فِي العقليات أَو الشرعيات إِلَى مرتبَة الْمَعْلُوم وَهَذَا حرَام بالاجماع وَإِنَّمَا يخْتَلف النَّاس فِي التفطن لأسبابه وَسَيَأْتِي ذكر أَسبَابه فِي آخر الْكَلَام فِي الزِّيَادَة فِي الدّين مقسوما موضحا فِي صور أَربع يَأْتِي بَيَانهَا بعون الله تَعَالَى وَمن الزِّيَادَة فِي الدّين أَن يدْخل فِيهِ مَا لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعهد أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم مثل القَوْل بِأَنَّهُ لَا مَوْجُود إِلَّا الله كَمَا هُوَ قَول الاتحادية وَأَنه لَا فَاعل وَلَا قَادر إِلَّا الله كَمَا هُوَ قَول الجبرية وأمثال ذَلِك من الغلو فِي الدّين وَإِنَّمَا وَردت الشَّرَائِع بتوحيد الله فِي الربوبية وَذَلِكَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله لَهُ الاسماء الْحسنى وتوابع ذَلِك المنصوصة وَالْمجْمَع عَلَيْهَا كتوحيده بِالْعبَادَة وَمن ذَلِك القَوْل بِأَن الله تَعَالَى صفة لم ترد فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا هِيَ من أَسْمَائِهِ الْحسنى وَلَا من مفهوماتها ولوازمها وان معرفَة هَذِه الصّفة وَاجِبَة واختراع اسْم لَهَا وَهِي الصّفة الاخص عِنْد بعض الْمُعْتَزلَة ويسمونها صفة الْمُخَالفَة أَيْضا وانها المؤثرة فِي سَائِر صِفَات الْكَمَال الذاتية الاربع وَهِي كَونه حَيا قَدِيما عَالما قَادِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَبهَا تخَالف ذَات الله سَائِر الذوات وَقد كفى فِي رد ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه كَمَا ذكره مُخْتَار فِي الْبَاب السَّادِس من خَاتِمَة أَبْوَاب الْعدْل من كِتَابه الْمُجْتَبى وَمن ذَلِك اثبات أهل الِاتِّحَاد لمثل ذَلِك أَو نَحوه فانهم يفرقون بَين الله تَعَالَى وَبَين اسْمه الاحد فيجعلون الْأَحَد مؤثرا فِي الله الْوَاحِد وَفِي سَائِر أَسْمَائِهِ ويجعلون الْأَحَد سَابِقًا فِي رُتْبَة الْوُجُود على الله ويجعلون الله فِي الرُّتْبَة الثَّانِيَة والاحد فِي الأولى ويسمون الثَّانِيَة هم والفلاسفة باسماء مبتدعة مِنْهَا الحضرة العمائية والواحدية والأحدية وَمِنْهَا حَضْرَة الارتسام وَمِنْهَا مرتبَة الربوبية والألوهية وَمِنْهَا الْحَقِيقَة الانسانية الكمالية وَمِنْهَا مرتبَة الامكان كَمَا حَقَّقَهُ الفرغاني فِي شرح نظم السلوك وَكَثِيرًا مَا يكررون الْفرق بَين الحضرة الأحدية والحضرة الواحدية ويعنون بالأحدية الْوُجُود الْمُطلق وَهُوَ عِنْدهم الْحق الَّذِي لَا نعت لَهُ وَلَا وصف كَقَوْل الْمَلَاحِدَة سَوَاء فِي نفي أَسْمَائِهِ تَعَالَى لكِنهمْ يثبتون الاسماء الْحسنى للْوَاحِد لَا للأحد وَهَذَا يلْزمهُم قَول الثنوية لكِنهمْ يَعْتَذِرُونَ عَنهُ بِأَن الله وأسماءه الْحسنى كلهَا خيالية لَا حَقِيقَة لَهَا وَلَا لشَيْء بعْدهَا وَلَا وجود لَهَا فَكل مَا عدا الْوُجُود الْمُطلق عِنْدهم خيال كطيف الخيال فِي الأحلام من الْأَنْبِيَاء وَالْجنَّة وَالنَّار وَمن صَحَّ هَذَا مِنْهُ فَهُوَ كفر بَين وَجَهل فَاحش فانه لَا ثُبُوت للوجود الْمُطلق فِي الْخَارِج أَلْبَتَّة وَإِنَّمَا الْمَعْلُوم وجوده عقلا وَشرعا هُوَ مَا نفوا وجوده من الله الْوَاحِد الرب الَّذِي لَهُ الاسماء الْحسنى والمثل الْأَعْلَى وَمَا نفوه من حَقِيقَة وجود جَمِيع كتبه وَرُسُله وخلقه ومعاده فَالله الْمُسْتَعَان وَمن ذَلِك مَا انْفَرَدت بِهِ الأشعرية من دوَام وصف الله تَعَالَى بالْكلَام وَوُجُود ذَلِك فِي الْقدَم والأبد وَجعله مثل صفة الْعلم لَا يجوز خلوه عَنهُ طرفَة عين وَقد أوضح الْجُوَيْنِيّ الْقدح فِي ذَلِك فِي مُقَدّمَة كِتَابه الْبُرْهَان فِي أصُول الْفِقْه كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقه فالشرع لم يرد إِلَّا بِأَن الله تَعَالَى مُتَكَلم وَأَنه كلم مُوسَى تكليما وَنَحْو ذَلِك وَمَا زَاد على هَذَا فبدعة فِي الدّين قد أدَّت إِلَى التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ وَإِلَى الزامات قبيحة كَمَا سَيَأْتِي وَمن ذَلِك مَا اتّفقت عَلَيْهِ الاتحادية وَبَعض الْمُعْتَزلَة بل جمهورهم وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 اثبات الذوات فِي الْقدَم وَالْأَزَلُ بل اثبات الْعَالم كُله فيهمَا وَدَعوى الْفرق بَين ثُبُوته فِي الْعَدَم ووجوده فِيهِ فانهم يَقُولُونَ هُوَ ثَابت غير مَوْجُود وَقد جود الرَّد عَلَيْهِم فِي ذَلِك صَاحبهمْ الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه مثل مَحْمُود ان الملاحمي فِي كِتَابه الْفَائِق وَالشَّيْخ مُخْتَار فِي كِتَابه الْمُجْتَبى وكشفوا الغطاء عَن بطلَان ذَلِك وَكفوا الْمُؤْنَة وَمن نظر فِي كَلَامهم فِي ذَلِك مَا يلْزم مِنْهُ من الالزامات الصعبة الْفَاحِشَة تَيَقّن مضرَّة الزِّيَادَة فِي الدّين على مَا جَاءَ بِهِ سيد الْمُرْسلين وَمِثَال النَّقْص من الدّين قَول من يَقُول ان الله تَعَالَى لَيْسَ برحمن وَلَا رَحِيم وَلَا حَلِيم بِاللَّامِ على الْحَقِيقَة بل على الْمجَاز وَقَول من يَقُول أَنه سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِحَكِيم على الْحَقِيقَة بل بِمَعْنى مُحكم لمصنوعاته لَا أَن لَهُ فِي ذَلِك الاحكام حِكْمَة أصلا وَالْمَقْصُود معرفَة طَرِيق النجَاة بِأَمْر وَاضح وَلَا يخفى على من لَهُ أدنى عقل وتمييز من الْمُسلمين أَن نجاة أهل الاسلام فِي اتِّبَاع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلُزُوم مَا جَاءَ بِهِ من غير تصرف فِيهِ بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَلَا ابتداع عبارَة لم تكن وَسَوَاء كَانَت تِلْكَ الزِّيَادَة أَو النَّقْص حَقًا أَو بَاطِلا فان زِيَادَة الْحق المبتدع فِي الدّين قد يجر إِلَى الفضول وَالْبَاطِل ويوقع فِي التَّفَرُّق الْمحرم فِي كتاب الله تَعَالَى بل قد صَار ادخاله فِي الدّين والمراء فِيهِ بِدعَة من الْبدع الْمُحرمَة فالحزم فِي ترك هَذِه الْأُمُور كلهَا وَترك التعادي عَلَيْهَا وَفِي الْوَقْف فِي حكم من زَاد أَو نقص وَتَأْخِير الْفَصْل مَعَه إِلَى يَوْم الْفَصْل لِأَن غير ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّق الْمحرم بِنَصّ كتاب الله تَعَالَى إِلَّا من رد الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَهُوَ يُعلمهُ وَنحن نعلم أَنه يُعلمهُ فانه كَافِر حَتَّى كَانَ الْمُكَلّفين وَلَا يجوز الْوَقْف فِي أمره مَعَ تَوَاتر ذَلِك عَنهُ وتحققه مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابه وَقد نزل قَوْله تَعَالَى {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق} فِي رغبتهم إِلَى غير الْقُرْآن من مَحْض الْخَيْر كَيفَ بالرغبة فِيمَا لَا يُؤمن شَره كَيفَ مَا تحقق شَره وَفِي نَحْو ذَلِك حَدِيث معَاذ الَّذِي خرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَذكر الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى فِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من خَاتِمَة أَبْوَاب الْعدْل مَا لَفظه اعْلَم أَن شُيُوخ الْمُعْتَزلَة إِلَى زمن الشَّيْخ أبي هَاشم لم ينصوا على اثبات الصِّفَات وَلَا على نَفيهَا إِلَى أَن صرح باثباتها أَبُو هَاشم وَصرح بنفيها أَبُو عَليّ وَأَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي والاخشيد وَأَبُو الْحُسَيْن قلت وَقد علم تَعْظِيم خَلفهم لسلفهم وَعلم أَن الِاقْتِدَاء بسلفهم خير من الِاقْتِدَاء بخلفهم بِالنَّصِّ فِي خير الْقُرُون ان ادعوا مِنْهُم أحدا وباقرارهم هَذَا لَو اجْتمع خَلفهم على أَمر وَأما مَعَ اخْتِلَاف خَلفهم واجتماع سلفهم على ترك الْخَوْض فِيمَا خَاضَ فِيهِ خَلفهم فَأدى خوضهم فِيهِ إِلَى الِاخْتِلَاف والتأثيم فَلَا يشك منصف أَن الِاقْتِدَاء بسلفهم أرجح فان نفاة الصِّفَات ألزموا المثبتين تركيب الذَّات وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ بل ألزموهم ذَلِك فِي مُجَرّد قَوْلهم أَن الْوُجُود غير الْمَوْجُود وَمن أثبت الصِّفَات ألزم النفاة تَعْطِيل الاسماء الْحسنى وَمُخَالفَة الاجماع فَلَزِمَ التَّمَسُّك بِمَا اعْتَرَفُوا بِأَن السّلف كَانُوا مُجْتَمعين عَلَيْهِ سلفهم وَسلف سَائِر الْفرق الاسلامية وَترك مَا اخْتلفُوا فِيهِ ويسعنا مَا وسع السّلف الصَّالح للاجماع على صَلَاحهمْ فاذا عرفت هَذَا فِي الْجُمْلَة فلنعد إِلَى ذكر الدَّلِيل الثَّانِي على بطلَان هذَيْن الامرين المضلين للاكثرين وهما الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي الدّين ثمَّ نتبع ذَلِك زِيَادَة بَيَان فِي الْمَنْع من التَّصَرُّف فِي الْكتاب وَالسّنة بِدَعْوَى التَّعْبِير عَنْهُمَا وَترك عباراتهما فَنَقُول أما الْأَمر الأول وَهُوَ الزِّيَادَة فِي الدّين فسببه تَجْوِيز خلو كتب الله تَعَالَى وَسنَن رسله الْكِرَام عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن بَيَان بعض مهمات الدّين اكْتِفَاء بدرك الْعُقُول لَهَا وَلَو بِالنّظرِ الدَّقِيق ليَكُون ثُبُوتهَا بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق النّظر الْعقلِيّ هَذَا مَذْهَب أهل الْكَلَام وَمذهب أهل الْأَثر أَنه مَمْنُوع وَالدَّلِيل على مَنعه وُجُوه الْوَجْه الأول قَوْله تَعَالَى {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} فاذا قُلْنَا بِوُجُوب مَا أوجبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أهل الْكَلَام لزم أَنه بَقِي أهل الدّين وأوجبه من تَقْرِير الْقَوَاعِد الَّتِي يجب بهَا تَأْوِيل السّمع وَبَيَان التَّأْوِيل على التَّفْصِيل فِي آيَات الصِّفَات وَكثير من الاسماء الْحسنى كالرحمن الرَّحِيم الْحَكِيم وَمَا يُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّق الْمَنْصُوص على تَحْرِيمه لِأَنَّهُ خوض فِي دقائق يَسْتَحِيل اتِّفَاق الأذكياء عَلَيْهَا بالعادات المستمرة فانها استمرت العوائد على اخْتِلَاف الْعُقَلَاء مَتى خَاضُوا فِي نَحْو ذَلِك حَتَّى الطَّائِفَة الْوَاحِدَة وَلذَلِك كَانَت الْمُعْتَزلَة عشر فَوق وَأهل السّنة كَذَلِك أَو قَرِيبا مِنْهُ وَكَذَلِكَ سَائِر الْفرق حَتَّى قيل إِن الِاتِّفَاق فِي الضروريات فاذا كَانَ الِاتِّفَاق فِي الخفيات مُمْتَنعا كالافتراق فِي الضروريات وَقد ثَبت تَحْرِيم الِافْتِرَاق لزم من ذَلِك تَحْرِيم الْخَوْض فِي الخفيات مَا لم يدل على وُجُوبه دَلِيل صَحِيح الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَا نزاع أَنه لَا يجوز اثبات الْعُقُول لزِيَادَة فِي الشَّرِيعَة لَا يدكها الْعقل وَإِنَّمَا النزاع فِيمَا تُدْرِكهُ الْعُقُول مثل نفي الْوَلَد عَن الله تَعَالَى وَنفي الثَّانِي لَكِن السّمع دلّ على أَنه لَا يجوز خلو كتب الله تَعَالَى عَن بَيَان مثل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى فِي نفي الْوَلَد عَنهُ جلّ جَلَاله {قل هاتوا برهانكم هَذَا ذكر من معي وَذكر من قبلي} وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي نفي الثَّانِي {قل أَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله} إِلَى قَوْله تَعَالَى {ائْتُونِي بِكِتَاب من قبل هَذَا أَو أثارة من علم إِن كُنْتُم صَادِقين} فهاتان الْآيَتَانِ تدلان على أَنه لَا يجوز خلو كتب الله تَعَالَى وَسنَن أنبيائه عَن أَمر كَبِير من مهمات الدّين الْعَقْلِيَّة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} فَثَبت أَن مَا خلت عَنهُ كتب الله تَعَالَى فَلَيْسَ من مهمات الدّين وَإِن زِيَادَته فِي الدّين مُحرمَة أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حذر أمته من فتْنَة الرِّجَال وعظمها وَأخْبر عَن الْأَنْبِيَاء كلهم أَنهم حذروا أممهم مِنْهَا مَعَ أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بطلَان دَعْوَاهُ مَعْلُوم بِالْعقلِ لِأَنَّهُ يَدعِي الربوبية وَهُوَ بشر يحْتَاج إِلَى الْأكل وَالشرب وينام ويعجز ويجهل ويمرض ويبول ويتغوط وينكح دع عَنْك كَونه جسما مركبا من لحم وَدم وَعِظَام وَعصب فَلم يكلنا رَبنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى معرفَة عقولنا بحدوث مَا كَانَ على هَذِه الصِّفَات واستحالة ربوبية الْحَادِث بل زَاد فِي الْبَيَان على لِسَان رَسُوله حَتَّى أبان لنا أَنه أَعور وَأَنه مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ كَافِر يقرأه من يكْتب وَمن لَا يكْتب فَلَو كَانَ يجوز عَلَيْهِ الاهمال لَكَانَ ذَلِك أَحَق مَا يهمل لقَوْله فِي الاحاديث الصَّحِيحَة مَا خَفِي عَلَيْكُم من شَيْء فَلَا يخفى عَلَيْكُم إِن ربكُم لَيْسَ بأعور لِأَنَّهُ قد تقرر أَنه لَيْسَ كمثله شَيْء عقلا وسمعا فَيجب أَن لَا يكون بشرا كَامِلا فَكيف يكون بشرا نَاقِصا معيبا فَدلَّ الحَدِيث على تَأْكِيد مَا دلّ الْقُرْآن عَلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ المتقدمتين الْوَجْه الثَّالِث قَوْله {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَلَا معنى للارسال إِلَّا الْبَيَان وَإِلَّا لصَحَّ أَن يُرْسل الله تَعَالَى رَسُولا أبكم غير نَاطِق وَقد ورد الْقُرْآن بتقبيح ارسال الاعجمي إِلَى الْعَرَبِيّ لذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {أأعجمي وعربي} بل نَص الله تَعَالَى على أَنه أرسل كل رَسُول بِلِسَان قومه ليتم لَهُم الْبَيَان وَقد أَجمعت الامة على أَنه لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة فَكل مَا لم يبين من العقائد فِي عصر النُّبُوَّة فَلَا حَاجَة إِلَى اعْتِقَاده وَلَا الْخَوْض فِيهِ والجدال وَالْمرَاد سَوَاء كَانَ إِلَى مَعْرفَته سَبِيل أَو لَا وَسَوَاء كَانَ حَقًا أَو لَا وخصوصا مَتى أدّى الْخَوْض فِيهِ إِلَى التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ فَيكون فِي إِيجَابه إِيجَاب مَا لم ينص على وُجُوبه وان أدّى إِلَى الْمَنْصُوص على تَحْرِيمه وَهَذَا عين الْفساد قَالَت الْخُصُوم الْعقل يَكْفِي بَيَانا فِي العقليات فَلَا يجب الْبَيَان فِيهَا من الشَّرْع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قلت إِن أردتم الجليات الَّتِي لَا يَقع فِي مثلهَا التَّنَازُع أَو لَا يحْتَاج فِي الدّين إِلَى مَعْرفَتهَا أَو لَا يحْتَاج البليد فِيهَا إِلَى تفهيم الذكي أَو الظنية الَّتِي لَا إِثْم فِيهَا على الْمُخطئ فَمُسلم وَلَا يضر تَسْلِيمه وَمن الْقسم الأول من هَذَا علم الْحساب وَإِن دق بعضه فان طرقه مَعْلُومَة الصِّحَّة عِنْد الْجَمِيع وَلذَلِك لم تمنع دقته من الْوِفَاق فِيهِ وَكَذَلِكَ كثير من علم الغربية والمعاني وَالْبَيَان والبلاغة وَإِن أردتم الْقسم الآخر وَهُوَ مَا يحْتَاج اليه فِي الدّين وَيكون مَفْرُوضًا على جَمِيع الْمُسلمين من الْخَاصَّة والعامة أَجْمَعِينَ وَيَقَع فِي مثله الخفاء والنزاع وَالِاخْتِلَاف الْكثير وَيَأْثَم الْمُخطئ فِيهِ وَلَا يسامح فَغير مُسلم لكم أَن مثل هَذَا يُوكل إِلَى عقول الْعُقَلَاء وتترك الرُّسُل بَيَانه لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَلم يكتف سُبْحَانَهُ بِحجَّة الْعقل حَتَّى ضم اليها حجَّة الرسَالَة مَعَ أَن مَعْرفَته سُبْحَانَهُ وَنفي الشُّرَكَاء عَنهُ من أوضح المعارف الْعَقْلِيَّة وَلذَلِك قَالَت الرُّسُل فِيمَا حكى الله عَنْهُم {أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقد مر بَيَان ذَلِك فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر وَفِي هَذِه الْآيَة وَمَا فِي مَعْنَاهَا من السّمع حجَّة على أَن مَا لم يُبينهُ الله تَعَالَى سمعا لم يعذب الْمُخطئ فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَكِن يخْشَى على من خَاضَ فيا لم يُبينهُ الله أَن يعذب على الابتداع وَقد بَين الله تَحْرِيمه وَبَيَان تَحْرِيم ذَلِك فِي قَوْله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ حاججتم فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} فنسأل الله السَّلامَة الْوَجْه الرَّابِع قَوْله تَعَالَى فِي وصف الْقُرْآن {تبيانا لكل شَيْء} وَقَوله سُبْحَانَهُ {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَلَا شكّ أَنه يدْخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فِي ذَلِك بَيَان مهمات الدّين الاعتقادية وَإِن كَانَت عقلية وَيدخل فِيهِ مَا بنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَلقَوْله تَعَالَى فِي خطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَهَذَا بَيَان جملي وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنِّي أُوتيت الْقُرْآن وَمثله مَعَه الحَدِيث) وَمِمَّا يصلح الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي هَذَا الْمقَام قَوْله تَعَالَى {وَترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إِلَى كتابها} فلولا أَن كتابها هُوَ مَوضِع الْحجَّة عَلَيْهَا فِي أُمُور الدّين ومهماته مَا اخْتصَّ بِالدُّعَاءِ اليه وَنَحْوهَا قَوْله تَعَالَى {الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} فَجعل الْكتاب فِي بَيَان الدّين وَحفظه وتمييز الْحق من الْبَاطِل كالميزان فِي بَيَان الْحُقُوق الدُّنْيَوِيَّة وحفظها بل جعل الْحق مُخْتَصًّا بِهِ بِالنَّصِّ وَالْمِيزَان مَعْطُوفًا عَلَيْهِ بِالْمَفْهُومِ أَي وَالْمِيزَان بِالْحَقِّ وَقَالَ بعد الامر بوفاء الْكَيْل وَالْوَزْن {لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا} لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى الْمُعَامَلَة بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن وَإِن وَقع التظالم الْخَفي فِي مقادير مَثَاقِيل الذَّر أَو أقل مِنْهُ وَلم يقل ذَلِك بعد الْأَمر بِلُزُوم كِتَابه وَاتِّبَاع رسله لِأَنَّهُ لَا حَاجَة وَلَا ضَرُورَة إِلَى الْبِدْعَة فِي الِاعْتِقَاد وَأما الْفُرُوع العملية فَلَمَّا وَقعت الضَّرُورَة إِلَى الْخَوْض فِيهَا بالظنون لم يكن فِيهَا حرج بِالنَّصِّ والاجماع فَتَأمل ذَلِك فانه مُفِيد وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَاتفقَ أهل الاسلام على أَن المُرَاد بِالرَّدِّ إِلَى الله وَرَسُوله الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله وَلَو لم يَكُونَا وافيين بِبَيَان مهمات الدّين مَا أَمرهم الله بِالرُّجُوعِ اليهما عِنْد الِاخْتِلَاف الْوَجْه الْخَامِس فِي الدَّلِيل على مَنعه أَيْضا الاجماع على تحري الْبِدْعَة فِي الدّين وَمَا زَالَ الصَّحَابَة والتابعون لَهُم باحسان يحذرون من ذَلِك حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ثمت النِّعْمَة وَقَامَت الْحجَّة بموافقة الْمُتَكَلِّمين والغلاة على ذَلِك فِي الْجُمْلَة حَتَّى رمى بعض الْمُتَكَلِّمين بَعْضًا بذلك عِنْد الضجر من الْخَوْض فِي تِلْكَ المباحث والشناعات فَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الْأمة خَاتِمَة أهل الاصول العجالي المعتزلي فِي آخر الرَّد على أَصْحَابه الْمُعْتَزلَة حَيْثُ حكمُوا بِثُبُوت الْعَالم قبل خلقه فِي الْعَدَم الْمَحْض والازل الَّذِي لَا أول لَهُ مَا لَفظه إِن كل من سمع ذَلِك من الْعُقَلَاء قبل أَن يتلوث خاطره بالاعتقادات التقليدية فانه يقطع بِبُطْلَان هَذِه الْمذَاهب ويتعجب أَن يكون فِي الْوُجُود عَاقل تسمح نَفسه بِمثل هَذِه الاعتقادات ويلزمهم أَن يجوزوا فِيمَا نشاهده من هَذِه الْأَجْسَام والاعراض أَن تكون كلهَا مَعْدُومَة لِأَن الْوُجُود غير مدرك عِنْدهم وَإِلَّا لزم أَن يرى الله تَعَالَى لوُجُوده بل إِنَّمَا تنَاوله الادراك للصفة المقتضاة عِنْدهم وَهِي صفة التحيز وهيئة السوَاد وَالْبَيَاض فيهمَا غَايَة الامر أَن الجوهرية عِنْد بَعضهم تَقْتَضِي التحيز بِشَرْط الْوُجُود لَكِن التَّرْتِيب فِي أَن الْوُجُود لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيب فِي الْعلم كَمَا فِي صفة الْحَيَاة وَالْعلم فيلزمهم أَن يشكوا بعد هَذِه الْمُشَاهدَة فِي وجودهما وكل مَذْهَب يُؤَدِّي إِلَى هَذِه التمحلات والخصم مَعَ هَذَا يزْدَاد سفاهة ولجاجا فَالْوَاجِب على الْعَاقِل الفطن الاعراض عَنهُ والتمسك بقوله تَعَالَى {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} وَمن ذمّ من السّلف الْكَلَام والمتكلمين إِنَّمَا عنوا أَمْثَال هَؤُلَاءِ ظَاهرا وَالله الْمُوفق اه بِحُرُوفِهِ ذكره عَلامَة الْمُعْتَزلَة الشَّيْخ مُخْتَار بن مَحْمُود فِي كِتَابه الْمُجْتَبى عاضدا لَهُ ومنتصرا بِهِ فَهَذَا كَلَام الْمُتَكَلِّمين بَعضهم فِي بعض بل كَلَام الطَّائِفَة الْوَاحِدَة مِنْهُم بَعضهم فِي بعض وَفِيه الِاعْتِرَاف بذم الْبِدْعَة وَأَهْلهَا وصدور ذللك من السّلف الصَّالح فسبحان من أنطقهم بِالْحجَّةِ عَلَيْهِم كَمَا أنطق جُلُود الجاحدين يَوْم الْقِيَامَة بِمثل ذَلِك وَلَا شكّ أَن إِيجَاب أَمر كَبِير يجب من أَجله التعسف فِي تَأْوِيل مَا لَا يُحْصى من آيَات كتاب الله وتقبيح ظواهره بل تقبيح ممادحه مثل الحكم بِأَن الرَّحْمَن اسْم ذمّ الله تَعَالَى فِي الظاهرالسابق إِلَى الافهام إِن لم يتَأَوَّل وان نَفْيه عَن الله مدح لَائِق بِجلَال الله من غير قرينَة وَالْقَوْل بتكفير من لم يعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 هَذَا وَاسْتِحْلَال سفك دَمه وَوُجُوب دوَام عَذَابه فِي الْآخِرَة من غير أَن يجْرِي لذَلِك ذكر فِي زمن النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة هُوَ من أعظم الْبدع وأفحشها وأنكرها الْوَجْه السَّادِس الاحاديث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن الْبِدْعَة وَلَا حَاجَة إِلَى سردها بِجَمِيعِ ألفاظها وأسانيدها مَعَ الاجماع على صِحَة هَذَا الْمَعْنى كَمَا مر فِي الْوَجْه الَّذِي قبله الْوَجْه السَّابِع مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اتركوني مَا تركتكم فانما أهلك من كَانَ قبلكُمْ كَثْرَة مسائلهم وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ) وَمَا فِي معنى ذَلِك مثل حَدِيث إِن الله حد حدودا فَلَا تعتدوها وَفرض فَرَائض فَلَا تضيعوها وَسكت عَن أَشْيَاء رَحْمَة لكم من غير بَيَان فَلَا تتعرضوا لَهَا وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَحَادِيث جمة مجموعها يُفِيد الْعلم بِأَن الشَّرْع ورد بحصر الْوَاجِبَات والمحرمات وَأَن السُّؤَال عَمَّا لم يرد بِهِ حرَام حَتَّى ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أَن من أعظم الْمُسلمين إِثْمًا فِي الْمُسلمين من سَأَلَ عَن شَيْء فَحرم من أجل مَسْأَلته وَلَقَد علمهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كَيْفيَّة قَضَاء الْحَاجة وَفِي ذَلِك يَقُول السَّيِّد الامام يحيى بن مَنْصُور الهاروي المفضلي عَلَيْهِ السَّلَام (مَا باله حَتَّى السِّوَاك أبانه ... وقواعد الاسلام لم تتقرر) فِي أَبْيَات لَهُ طَوِيلَة فِي تَقْرِير هَذَا الْمَعْنى وَقد كتبتها فِي تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن هِيَ وأمثالها فان قيل هَذَا فِي غير العقائد قُلْنَا العقائد أولى بذلك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَتَجَدَّد فِيهَا للخلف مَا لم يكن وَاجِبا على السّلف بِخِلَاف الْفُرُوع فقد تجدّد الْحَوَادِث وَيَقَع للمتأخر فِيهَا مَا لم يَقع للمتقدم الْوَجْه الثَّامِن إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا زَالَ يُوصي أمته بِالرُّجُوعِ إِلَى كتاب الله عِنْد الِاخْتِلَاف والتمسك بِهِ عِنْد الِافْتِرَاق وَكَانَ ذَلِك هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 صيته عِنْد مَوته وَجَاء ذَلِك عَنهُ على كل لِسَان حَتَّى اعْترفت بِهِ المبتدعة كَمَا اعْترفت بورود النَّهْي عَن الْبدع وَصِحَّته وَللَّه الْحَمد والْمنَّة بل قد جَاءَ ذَلِك صَرِيحًا فِي كتاب الله تَعَالَى على أبلغ صِيغ التَّأْكِيد قَالَ الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} إِلَى قَوْله {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا} ويؤكده قَوْله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} وَلَا شكّ أَن الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم مَا قضى بِهِ ودعا إِلَيْهِ ثمَّ سنته الَّتِي هِيَ تَفْسِير الْقُرْآن وَبَيَانه كَمَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة فِي تفاصيل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَسَائِر أَرْكَان الاسلام وَفِي الْمَوَارِيث وَغَيرهَا وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِيمَن لم يحكم بِمَا أنزل الله من الْآيَات الْكَرِيمَة فِي آيَة {فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَفِي آيَة {الظَّالِمُونَ} وَفِي آيَة {الْفَاسِقُونَ} وَقَوله تَعَالَى {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَقَوله {وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} وَقَوله {وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب فصلناه على علم هدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} وَمَا أبلغ قَوْله فصلناه على علم وَأعظم موقعه عِنْد المتأملين لِأَن الْعُلُوم تقل وتتلاشى فِي جنب علم الله تَعَالَى بِمَا ينفع وَيصْلح من الْبَرَاهِين والأساليب وَمَا يضر وَيفْسد من ذَلِك بل قد جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن علم الْخَلَائق فِي علم الله تَعَالَى كَمَا يَأْخُذهُ الطَّائِر من الْبَحْر بمنقاره وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِك من طَرِيق أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم فِيهِ نبأ مَا قبلكُمْ وَخبر مَا بعدكم وَحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مَا بَيْنكُم من ابْتغى الْهدى من غَيره أضلّهُ الله إِلَى قَوْله من قَالَ بِهِ صدق وَمن حكم بِهِ عدل وَمن دعى اليه هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم الحَدِيث بِطُولِهِ كَمَا تقدم الْوَجْه التَّاسِع إِن الدّين قد جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفرغ مِنْهُ بِهِ وَلم يبْق بعد تَصْدِيقه بِهِ بِدلَالَة المعجزات الباهرات إِلَّا اتِّبَاع الدّين الْمَعْلُوم الَّذِي جَاءَ بِهِ لَا استنباطه بدقيق النّظر كَمَا صنعت الفلاسفة الَّذين لم يتبعوا الرُّسُل وعَلى هَذَا درج السّلف وَلذَلِك قَالَ مَالك لمن جادله كلما جَاءَنَا رجل أجدل من رجل تركنَا لجدله مَا أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ (أَيهَا النَّاس قد سنت لكم السّنَن وفرضت لكم الْفَرَائِض وتركتم على السّنة الْوَاضِحَة لَيْلهَا كنهارها إِلَّا أَن تضلوا بِالنَّاسِ يَمِينا وَشمَالًا وروى ابْن مَاجَه نَحْو هَذَا مَرْفُوعا من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء يُوضحهُ أَنه لَو كَانَ الدّين مأخوذا من النّظر لَكنا قبل النّظر غير عَالمين مَا هُوَ دين الاسلام وَإِنَّمَا نخترعه نَحن وَهَذَا بَاطِل ضَرُورَة يزِيدهُ وضوحا وَجْهَان أَحدهمَا الاحاديث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة بل المتواترة فِي حصر أَرْكَان الاسلام والايمان والتنصيص عَلَيْهَا وتداول الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ لَهَا يَرْوِيهَا سلفهم لخلفهم وخلفهم عَن سلفهم وَاضِحَة جَامِعَة لشرائط الاسلام والايمان واحترام أَهلهَا وَأَنه لَا يحل دم امْرِئ جمعهَا ودان بهَا وَفِي مَعْنَاهَا من كتاب الله تَعَالَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَثَانِيهمَا اجماع الامة على تَكْفِير من خَالف الدّين الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَالْحكم بردته إِن كَانَ قد دخل فِيهِ قبل خُرُوجه مِنْهُ وَلَو كَانَ الدّين مستنبطا بِالنّظرِ لم يكن جاحده كَافِرًا فَثَبت أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جَاءَ بِالدّينِ الْقيم تَاما كَامِلا وَأَنه لَيْسَ لأحد أَن يسْتَدرك عَلَيْهِ ويكمل لَهُ دينه من بعده الْوَجْه الْعَاشِر إِن الله ذمّ التَّفَرُّق بعد مَجِيء الرُّسُل والكتب من قبلنَا وَلَوْلَا أَن فِي مَا جَاءَت بِهِ يُوجب الْوِفَاق مَا خص ذمهم بِتِلْكَ الْحَال قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} وَقبلهَا {حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة رَسُول من الله يَتْلُو صحفا مطهرة فِيهَا كتب قيمَة} الْآيَات إِلَى {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} ففسر الْبَيِّنَة بقوله رَسُول من الله إِلَى آخر الْآيَة وَقَالَ {وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} وَقَالَ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} الْوَجْه الْحَادِي عشر وَهُوَ أعجبها أَن الْعُقُول بريئة أصح الْبَرَاءَة وأوضحها عَمَّا ادعوا عَلَيْهَا من معرفَة وجوب مَا لم يرد بِهِ كتاب من الله تَعَالَى وَمن معرفَة صِحَة مَا يُنَاقض الْآيَات القرآنية فانه قد وضح للمحققين من نظار الْعُقَلَاء وأذكيائهم أَنه لَا تعَارض بَين صَحِيح السّمع وصحيح الْعقل وَأَن أصل الْبدع كلهَا يُوهم التَّعَارُض بَينهمَا فِي صور أَربع الصُّورَة الأولى أَن جمَاعَة من المشتغلين بِعلم الْمَعْقُول لم يتقنوه فيتوهمون فِي بعض الْأُمُور أَنه صَحِيح فِي دَلِيل عَقْلِي توهموه قَاطعا وَلَيْسَ بقاطع وَفِي معرفَة الْقَاطِع وشروطه اخْتِلَاف بَين المنطقيين وَبَعض الْمُتَكَلِّمين وَمن مَوَاضِع بَيَان ذَلِك مُقَدّمَة التَّمْهِيد للامام ي بن حَمْزَة عَلَيْهِ السَّلَام وَسَبقه إِلَى ذَلِك الرَّازِيّ فِي مُقَدّمَة نِهَايَة الْعُقُول وَبسط أَكثر مِنْهُ فَمن أَرَادَ معرفَة صعوبة هَذَا القام وَقلة وجود رِجَاله فليطالع مَا ذكرته فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ مطالعة شافية وَلَو بحث عَمَّا لم يعرف من ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَمن أشهر مَا لَهُم فِي ذَلِك خمس قَوَاعِد أَحدهَا أَن الجسمية أَمر ثبوتي مُشْتَرك بَين الْأَجْسَام زَائِد عَلَيْهَا وَثَانِيها تماثل الْأَجْسَام وجواهرها وَثَالِثهَا أَن كَون المتحيز فِي الْمَكَان أَمر ثبوتي زَائِد عَلَيْهِ لَا وصف عدمي وَسَوَاء كَانَ حَرَكَة أَو سكونا أَو اجتماعا أَو افتراقا ويسمونه دَلِيل الاكوان وَرَابِعهَا قِيَاس وَاجِب الْوُجُود عز وَجل على مُمكن الْوُجُود فِي أَشْيَاء كَثِيرَة مثل قَول الْمَلَاحِدَة نفاة الاسماء الْحسنى أَن كَونه تَعَالَى على صفة دون أُخْرَى يَقْتَضِي أَن يجْرِي مجْرى الممكنات الحادثات الَّتِي تحْتَاج فِي مثل ذَلِك إِلَى تَخْصِيص مُخَصص وَقد أوضحت مَا أورد بَعضهم على بعض من الاشكالات الصعبة فِي ذَلِك فِي مَسْأَلَة الرُّؤْيَة من العواصم وَرُبمَا نقلته مُفردا فِي مَوْضِعه من هَذَا الْمُخْتَصر لينْظر فِيهِ من يفهمهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وخامسها أَن كل مَوْجُود فِي الْخَلَاء العدمي حَتَّى الظلمَة والنور فانه جسم أَو حَال فِيهِ مُحْتَاج اليه وَخَالفهُم فِي الْقَاعِدَة الأولى أَكثر الْعُقَلَاء من الْمُسلمين وَغَيرهم على مَا نَقله ابْن تَيْمِية فَقَالُوا أَن الْمَاهِيّة الْمُشْتَركَة الْمَعْرُوفَة بالمجردات لَا وجود لَهَا أَلْبَتَّة إِلَّا فِي الاذهان وَلم يقم على وجودهَا برهَان فِي الْخَارِج كَمَا بسط فِي مَوْضِعه وَخَالفهُم فِي الثَّانِيَة الرَّازِيّ وَالشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي الكعبي وَأَصْحَابه معتزلة بَغْدَاد وَخَالفهُم فِي الثَّالِث الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَخلق كثير ذكرهم الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى وَخَالف أهل الْقَاعِدَة الرَّابِعَة جُمْهُور أهل الاسلام وَخَالفهُم فِي الْخَامِسَة أهل اللُّغَة وَأهل الْأَثر وَبَعض أهل الْكَلَام والمعقولات وَالسَّلَف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ظَاهرا لَا رِوَايَة ومستند الظُّهُور نقل أهل اللُّغَة وهم من أَهلهَا بِلَا ريب وَخَالفهُم فِي الْقَوَاعِد الْخمس كلهَا جَمِيع أهل الْآثَار وسلفهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ظَاهرا مَعَ من ذكرنَا مَعَهم من ذَلِك من أهل المعقولات والمتكلمين كَمَا بسط فِي موَاضعه وَالْحَمْد لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ هَل يجب بِنَاء الدَّلِيل على الضَّرُورَة فِيمَا انْتهى اليه النّظر أَو على سُكُون النَّفس فَعِنْدَ المنطقيين وَأبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة وَأكْثر الْمُحَقِّقين أَنه لابد من الِانْتِهَاء إِلَى الضَّرُورَة وَإِلَّا أدّى إِلَى التسلسل أَو التحكم وَعند جُمْهُور الْمُعْتَزلَة أَنه يَكْفِي أَن يَنْتَهِي إِلَى سُكُون النَّفس وَيرد عَلَيْهِم سُكُون نفوس المبطلين ببواطلهم وَهَذَا مَا عَارض وَالْقَصْد بِذكرِهِ بَيَان أَن كَون الدَّلِيل الْعقلِيّ قَاطعا من الْمَوَاضِع الدقيقة الَّتِي اخْتلف فِيهَا أهل الدَّعْوَى للذكاء والكمال فِي التدقيق فَيجوز أَن يَقع الْخَطَأ على الْمُحَقق فِي مثل هَذَا وَيَنْبَغِي أَن يحذرهُ الْمنصف فان كثيرا من أهل الْعُقُول يقصر فِي هَذَا الْموضع فيظن فِي بعض العقليات أَن دَلِيله قَاطع وَلَيْسَ بقاطع فِي نفس الامر ثمَّ يُعَارضهُ السّمع فَيرى فِي نَفسه أَن التَّأْوِيل يتَطَرَّق إِلَى السّمع لاحْتِمَال اللَّفْظ اللّغَوِيّ لَهُ دون الادلة الْعَقْلِيَّة القاطعة فِي ظَنّه وزعمه أَنَّهَا قَاطِعَة وَلَا يدْرِي أَن قطعه بِأَنَّهَا قَاطِعَة قطع بِغَيْر تَقْرِير وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير وانه مقَام صَعب خطير وَأَنه بطول النّظر والمراجعة فِيهِ جدير وَلَو لم يكن فِي ذَلِك عِبْرَة للمعتبرين إِلَّا مَا جرى لمُوسَى الكليم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَوَات وَالتَّسْلِيم حَيْثُ قطع بِالنّظرِ الْعقلِيّ على قبح مَا فعله الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام فانكشف لَهُ خلاف مَا قطع عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ نوح عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام حَيْثُ قطع على أَن وَلَده من أَهله فَبَان لَهُ خلاف ذَلِك فاذا كَانَ هَذَا فِي حق أرفع الْبشر مرتبَة فَمن النَّاس بعدهمْ فليتفطن طَالب النجَاة لذَلِك وليحذر أَشد الحذر وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك ابْن عبد السَّلَام فِي قَوَاعِده فِي حُقُوق الْقُلُوب وَمَا يجب من معرفَة الله وَتَقْرِير الْعَامَّة على مَا علم أَنهم لم ينفكوا عَنهُ لدقة الْأَمر الْمَانِع مِمَّا هم عَلَيْهِ وصعوبة مَعْرفَته عَلَيْهِم وَذَلِكَ كغلاة الاشعرية فِي نفي حِكْمَة الله تَعَالَى وتقبيح اسْم الْحَكِيم فِي الظَّاهِر وَإِيجَاب تَأْوِيله بالمحكم لصنعه من غير حِكْمَة لَهُ فِي ذَلِك الاحكام وغلاة الْمُعْتَزلَة فِي نفي السَّمِيع الْبَصِير والمريد وتقبيحها فِي الظَّاهِر وَإِيجَاب تَأْوِيلهَا بالعليم لَا سواهُ وَذَلِكَ يضعف فِي مثل {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} وَقَول الْخَلِيل لِأَبِيهِ {يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَكَذَلِكَ الْجَمِيع من الاشعرية والمعتزلة فِي نفي حَقِيقَة الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا من الرؤوف والودود وأرحم الرَّاحِمِينَ وحكمهم بِأَنَّهَا أَسمَاء قبيحة الظَّوَاهِر فِي حق الله تَعَالَى وَأَنَّهَا لَا تلِيق بجلاله إِلَّا بصرفها عَن ظواهرها وتعطيلها عَن حقائقها إِلَى الْمجَاز الْمَحْض وَأَن نِسْبَة الرَّحْمَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ كنسبة إِرَادَة الانقضاض إِلَى الْجِدَار والجناح إِلَى الذل وكل ذَلِك بِمُجَرَّد ظن أَن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة القاطعة دلّت على ذَلِك وَسَتَأْتِي الاشارة إِلَى تِلْكَ الْأَدِلَّة وَمَا يرد عَلَيْهَا على قَوَاعِد أَئِمَّة المعقولات على حسب هَذَا الْمُخْتَصر مَعَ الارشاد إِلَى مَوَاضِع الْبسط فَأَما لَوَازِم رَحْمَة المخلوقين المستلزمة للنقص فَوَاجِب تَنْزِيه الله تَعَالَى عَنْهَا قطعا وفَاقا كلوازم علمهمْ وارادتهم وَنَحْو ذَلِك كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقه وَمن مظان بطلَان ذَلِك النّظر فِي كَيْفيَّة بعض صِفَات الله تَعَالَى اللائقة بِهِ بل الْوَاجِبَة لَهُ على التَّفْصِيل الْمُؤَدِّي إِلَى الْقطع بِتَسْمِيَة تِلْكَ الصِّفَات مَعَاني وَإِلَى الْقطع بِالْفرقِ بَينهمَا وَإِلَى الْقطع بِأَن ذَات الله تَعَالَى لَا يَصح وجود الْمعَانِي فِيهَا ومجموع ذَلِك هُوَ الَّذِي اضْطر البهاشمة إِلَى أَنه تَعَالَى مُرِيد بارادة حَادِثَة لَا فِيهِ وَلَا فِي غَيره وَلَا يحْتَاج فِي خلقهَا إِلَى ارادة والحازم يوازن بَين الممتنعات فَيرد أَشدّهَا امتناعا فِي الْفطر وَلَعَلَّ وجود الْعرض لَا فِي مَحل بل لَا فِي الْعَالم وَلَا خَارجه وتأثيره لمن لم يُوجد فِيهِ أبعد مِمَّا فروا مِنْهُ وَقد جود ابْن تَيْمِية وَغَيره من أَئِمَّة الْعلم الجامعين بَين التَّحْقِيق فِي هذَيْن العلمين الْعقلِيّ والسمعي الْكَلَام فِي ذَلِك وَفِي المختصرات من ذَلِك مَا يَكْفِي المقتصد وَأما من أَرَادَ الْغَايَة فِي الْبَحْث فَلَا تكفيه المختصرات وَلَا النّظر فِي كتب بعض الْخُصُوم بل يحْتَاج إِلَى النّظر فِي الْكتب البسيطة للمعتزلة والاشعرية ومتكلمي أهل السّنة وكتبهم أقل الْكتب وجودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَمن مشاهيرها منهاج السّنة النَّبَوِيَّة لِابْنِ تَيْمِية على مَا قيل وَلم أَقف عَلَيْهِ وَفِي هَذِه الصُّورَة يتَكَلَّف المتكلمون كلهم التأويلات الْبَعِيدَة تَارَة لما يُمكن تَأْوِيله لَو دلّ دَلِيل قَاطع على امْتنَاع ظَاهره وَلَكِن لَا قَاطع مُحَقّق إِلَّا مُجَرّد دَعْوَى وَتارَة لما لَا يُمكن تَأْوِيله إِلَّا بتعسف شابه تَأْوِيل القرامطة وَرُبمَا استلزم بعض التأويلات مُخَالفَة الضَّرُورَة الدِّينِيَّة وهم لَا يعلمُونَ وَلَا يُؤمن الْكفْر فِي هَذَا الْمقَام فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى وَأَحْكَام الْآخِرَة وَإِن لم نعلمهُ نَحن وتوقفنا لشُبْهَة التَّأْوِيل وَعدم علمنَا بعلمهم بِمَا أنكروه فانه لَا يُؤمن فِي حكم الله وَالله الْمُسْتَعَان فسبب الِاخْتِلَاف فِي هَذِه الصُّورَة وَمَا يتركب عَلَيْهَا وَهُوَ مُعظم التَّأْوِيل هُوَ الِاخْتِلَاف فِي أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة الْمُوجبَة للتأويل عِنْد المتأولين قَطْعِيَّة أم لَا أما من علم بطلَان الْقطع إِمَّا بِالْعقلِ أَو بِالسَّمْعِ الْقَاطِع أَو بهما مَعًا فَعَلَيهِ الْبَيَان لذَلِك فاذا سَطَعَ الْحق وَجب اتِّبَاعه من أَي الْجَانِبَيْنِ كَانَ وَأما من لم يعلم ذَلِك لَكِن علم أَن أذكياء الْعُقَلَاء مَا زَالُوا يغلطون فِي اعْتِقَاد الْقطع فِي مثل هَذِه الدقائق وان خوضه فِيهَا أشبه شَيْء بركوب الْبَحْر عِنْد هيجه واضطرابه وان الْجَمِيع قد انْعَقَد اجماعهم على أَن مُخَالفَة الْعقل إِذا تجرد عَن السّمع لَيست بِكفْر وَلَا فسق وَإِن كَانَ فِيهَا مُخَالفَة ضَرُورَة الْعقل فان من اعْتقد فِي حَنْظَلَة مرّة أَنَّهَا حُلْو يكون قد خَالف ضَرُورَة الْعقل وَلَا يكفر بل وَلَا يفسق لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن كذبا عَليّ لَيْسَ ككذب على غَيْرِي أَنه من يكذب عَليّ يلج النَّار وَإِنَّمَا هَذَا كَاذِب على نَفسه وَلم يكذب على الله وَلَا رَسُوله فَكيف من قَالَ بِغَيْر الْحق فِي دقائق الْكَلَام متأولا وَكَذَلِكَ انْعَقَد إِجْمَاعهم على أَن مُخَالفَة السّمع الضَّرُورِيّ كفر وَخُرُوج عَن الاسلام وَأَن ذَلِك لَا يُؤمن فِي القَوْل بِأَن الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَكِيم السَّمِيع الْبَصِير لَيست بأسماء مدح الله تَعَالَى بل أَسمَاء ذمّ قبيحة يجب تَأْوِيلهَا وتحذير عوام الْمُسلمين من الاغترار باطلاقها وَأَنَّهَا لَيست أَسمَاء حسنى لِأَن الْحسنى جمع الاحسن لَا جمع الْحسن وَهَذِه لم تدخل فِي الْحسن كَيفَ فِي أحسن الْحسن فان عَامَّة أهل الاثر رجحوا الِاعْتِقَاد الاسلم على الاعلم لِأَن الْمُتَكَلِّمين قد اعْتَرَفُوا بِأَن طَريقَة السّلف أسلم لَكِن ادعوا أَن طريقهم أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَوجه التَّرْجِيح عِنْدهم أَنهم علمُوا من كَثْرَة نُصُوص الْكتاب وَالسّنة فِي هَذِه الْأَسْمَاء أَنَّهَا على جِهَة التمدح كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعه وَظُهُور ذَلِك فِي عصر النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ من غير تحذير لأحد من الاغترار بظاهرها مَعَ اعْتِقَاد الْجَمِيع أَن الله لَيْسَ كمثله شَيْء فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته يَقْتَضِي عَادَة الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَنَّهَا أَسمَاء مدح وَأَنَّهَا من الاسماء الْحسنى الَّتِي لَا قبح فِيهَا وخافوا الْكفْر فِي مُخَالفَة هَذَا الْعلم وَأما الادلة الْمُوجبَة للتأويل فَسَوف يَأْتِي الْبَيَان الْوَاضِح أَنَّهَا قد انْتَهَت إِلَى غَايَة الدقة ووردت عَلَيْهَا الشكوك الصعبة حَتَّى اخْتلف فِي صِحَّتهَا أَئِمَّة الْمَعْقُول فمخالفة الْحق فِيهَا على جِهَة التَّأْوِيل لَا يكون كفرا وَلَا فسقا على جَمِيع قَوَاعِد الْعُقَلَاء قَالُوا وَلَا شكّ أَن الْفَوْز بالامان من الْكفْر الْمُوجب الخلود فِي النَّار أرجح من الْفَوْز بالظفر بِالْحَقِّ فِي دقائق الْجَوَاهِر والاعراض كَمَا نَص عَلَيْهِ الْمُؤَيد بِاللَّه فِي الزِّيَادَات من أَئِمَّة العترة وَغَيره مِنْهُم عَلَيْهِم السَّلَام فَشد على هَذِه يَديك وَلَا تغفل النّظر فِيهَا فان قلت فَمَا يعْتَقد أهل الاثر فِي رَحْمَة الله وَهل يجوزون أَنَّهَا رَحْمَة مثل رَحْمَة المخلوقين قلت كلا فان رَحْمَة المخلوقين ممتزجة بجهلهم وعجزهم فيدخلها الْحَسْرَة والاسف والبكاء والاماني الْبَاطِلَة فتغلبهم فتصرفهم عَن الْعدْل وَالْحق وَقد أجمعنا على أَن الْعَلِيم الْقَدِير محكمان لَا يجب تأويلهما وَلَو قَالَ قَائِل أَنَّهُمَا فِي حق الله مثلهَا فِينَا لَكَانَ كَافِرًا بالاجماع فاذا وَجب نفي التَّشْبِيه فِي المحكمات بالاجماع فَكيف لَا ننفيه فِي غَيرهَا وَسَيَأْتِي إِيضَاح ذَلِك وَإِنَّمَا بسطت القَوْل هُنَا لِأَن أَكثر التَّأْوِيل يَدُور على هَذِه الصُّورَة فان قيل تَقْدِيم الْعقل على السّمع أولى عِنْد التَّعَارُض لِأَن السّمع علم بِالْعقلِ فَهُوَ أَصله وَلَو بَطل الْعقل بَطل السّمع وَالْعقل مَعًا وَهَذِه من قَوَاعِد الْمُتَكَلِّمين قُلْنَا قد اعْتَرَضَهُمْ فِي ذَلِك الْمُحَقِّقُونَ بِأَن الْعُلُوم يَسْتَحِيل تعارضها فِي الْعقل والسمع فتعارضها تَقْدِير محَال فانه لَو بَطل السّمع أَيْضا بعد أَن دلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الْعقل على صِحَّته لبطلا مَعًا أَيْضا لِأَن الْعقل قد كَانَ حكم بِصِحَّة السّمع وَأَنه لَا يبطل فحين بَطل السّمع علمنَا بِبُطْلَانِهِ بطلَان الاحكام الْعَقْلِيَّة وَمِمَّنْ ذكر ذَلِك ابْن تَيْمِية وَابْن دَقِيق الْعِيد وَالزَّرْكَشِيّ فِي شرح جمع الْجَوَامِع الصُّورَة الثَّانِيَة أَن يتَيَقَّن الْمُتَكَلّم بعض الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة حَتَّى لَا يشك فِي صِحَّتهَا وَهِي كَذَلِك ثمَّ يعْتَقد لتَقْصِيره فِي علم السّمع أَن السّمع ورد بنقيض ذَلِك الْأَمر الْمَعْلُوم عِنْده فَيَقَع فِي الْكفْر الصَّرِيح كَابْن الراوندي وَسَائِر من صرح بِالرّدَّةِ لذَلِك وَمن هَؤُلَاءِ بعض الفلاسفة وَأكْثر البراهمة أَعنِي أَن بَعضهم كفر من هَذِه الْجِهَة وَبَعْضهمْ كفر من جِهَة أُخْرَى وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ اجْتمعت كلمتهم على أَن عَذَاب الْآخِرَة خَال عَن الْمصلحَة وَالْحكمَة وَأَن ذَلِك لَا يجوز على مُخْتَار عليم حَكِيم فَقَوْلهم أَن التعذيب لغير حِكْمَة لَا يجوز على الْمُخْتَار الْعَلِيم الْحَكِيم حق وصواب لكِنهمْ قصروا فِي علم السّمع فظنوا أَنه ورد بِأَن ذَلِك الْعَذَاب خَال عَن الْحِكْمَة وَدَعوى هَذَا على السّمع بَاطِلَة وَقد جود ابْن تَيْمِية غاليا فِي الرَّد عَلَيْهِم على التَّفْصِيل كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي حادي الارواح وَأَشَارَ إِلَى مثل قولة الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسنى فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم مِنْهُ وَلم يُصَرح وَجعل ذَلِك من الاسرار الَّتِي لَا تفشى وَسَيَأْتِي طرف من ذَلِك وَبَيَان الْمُخْتَار مِنْهُ فِي مَسْأَلَة اثبات الْحِكْمَة قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى الصُّورَة الثَّالِثَة قوم أَسْرفُوا فِي التَّقْصِير فِي علم السّمع تَارَة فِي طلب معرفَة نصوصه وَأَلْفَاظه وطرق صِحَّتهَا وَتارَة فِي مَعَانِيهَا وَتارَة فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين المتعارض فيقدمون الْعُمُوم على الْخُصُوص والظواهر على النُّصُوص وَنَحْو ذَلِك حَتَّى ظنُّوا فِي بعض الْأُمُور أَن السّمع ورد بِهِ ورودا ضَرُورِيًّا أَو قَطْعِيا وَلم يرد بِهِ السّمع أصلا لَا ضَرُورَة وَلَا قطعا وَلَا ظنا ثمَّ عارضته أَدِلَّة كَثِيرَة جلية عقلية أَو سمعية أَو كِلَاهُمَا كالنواصب وَالرَّوَافِض وَكثير من الوعيدية والمبالغين فِي التَّكْفِير والتفسيق والتقنيط والتبري من كثير من أهل الاسلام والمبتدعة الَّذين لَهُم ذنُوب وهفوات لَا تخرج عَن الاسلام وَمن ذَلِك خبط كثير من النَّاس فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن وتكفير كل مِنْهُم لمن خَالفه بِغَيْر برهَان حَتَّى اعْتقد بعض الْمُحدثين قدم التِّلَاوَة وَجحد حُدُوث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 صَوت التَّالِي مَعَ اعترافه بحدوث التَّالِي وحدوث لِسَانه ووجودهما قبل التِّلَاوَة وَقد قَالَ الْغَزالِيّ إِن هَذَا مَا درى مَا الْقَدِيم وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَن من عرف معنى هَذَا رَجَعَ عَنهُ وَإِنَّمَا كَانَت هفوة مِمَّن لم يتعقل هَذَا وَحَتَّى قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ الجبائي أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم مَعَ التَّالِي وَأَن الصَّوْت كامن فِي الْحُرُوف فِي الْمَصَاحِف وكل ذَلِك لاعتقادهم أَن السّمع ورد بَان كَلَام الله هُوَ المسموع فِي المحاريب الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف وان مُنكر هَذَا كَافِر وَمَا قَالُوهُ من أَن ذَلِك كَلَام الله فِي الْجُمْلَة حق وَلَكِن لابد من الْفرق بَين التِّلَاوَة والمتلو والحكاية والمحكى وَهُوَ فرق ضَرُورِيّ فان المتلو المحكي كَلَام الله بِغَيْر شكّ والتلاوة والحكاية فعل لنا مَقْدُور اخْتِيَاري بِغَيْر شكّ وَلَا شكّ أَن مَا هُوَ مَقْدُور لنا وَاقع باختيارنا غير المعجز الَّذِي لم يقدر عَلَيْهِ أحد فالشيخ أَبُو عَليّ خَافَ مَا خَافَ أهل الْأَثر فِي الْمرتبَة الأولى من الْكفْر فِي مُخَالفَة السّمع فتكلف مُخَالفَة الْمَعْقُول فِي كمون الصَّوْت فِي الْحُرُوف الْمَكْتُوبَة وَفِي احداث صَوت من الله مَعَ صَوت كل قَارِئ حَتَّى يكون السَّامع لكل قَارِئ سَامِعًا لكَلَام الله على الْحَقِيقَة كَمَا سَمعه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كل هَذَا حَتَّى لَا يُخَالف الاجماع وَالنَّص حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} فَأَي حرج على أهل الْأَثر إِذا تابعوا سَائِر السّمع وخالفوا من المعقولات مَا هُوَ أدق من الْمَعْقُول الَّذِي خَالفه أَبُو عَليّ فِي هَذِه الْمذَاهب الَّتِي لَوْلَا رَوَاهَا عَنهُ أَصْحَابه لعدت من تشنيع الاعداء عَلَيْهِ وَأما أُولَئِكَ المحدثون فَلم يفرقُوا بَين إِنْكَار السّلف كَون الْقُرْآن مخلوقا وَبَين كَونه قَدِيما فظنوا مَا ظن أَبُو عَليّ من الاجماع من السّلف على قدمه وسوف يَأْتِي الْفرق بَينهمَا فِي بَابه وَأما الروافض والنواصب والخوارج وغلاة الوعيدية فظنوا أَن السّمع ورد بعقائدهم فجحدوا كل مَا خَالف ذَلِك مِمَّا لم يعلموه وتأولوا مَا علموه ففحش جهلهم حَيْثُ قدمُوا الاكاذيب الْمَعْلُوم عِنْد أهل السّمع بُطْلَانهَا على المتواترات وَهَؤُلَاء لَا دَوَاء لَهُم لِأَن اعْتِقَادهم تَقْلِيد مَحْض لاسلافهم وَهُوَ غير منكشف لَهُم إِلَّا بَان يشكوا فِيهِ ويقبلوا على تعلم السّمع وَقِرَاءَة كتب الرِّجَال والتواريخ والمساند حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يَكُونُوا من أَئِمَّة السّمع وينكشف لَهُم جهل أسلافهم أَو عنادهم وهم غير ملتفتين إِلَى شَيْء من هَذَا بل هم فِي غَايَة الْعجب بعلمهم واتقانهم وَغَايَة السخرية بخصومهم فهم أفحش الاقسام الاربعة الْمَشْهُورَة وهم من الَّذين لَا يَدْرُونَ أَنهم لَا يَدْرُونَ وَقد رَأَيْت لبَعض حذاق الباطنية فِي كتاب الْملَل والنحل الْقدح فِي الاخبار بذلك فانه لم يفرق بَين التَّوَاتُر الْحق وَدَعوى التَّوَاتُر فَقَالَ أما التَّمَسُّك بالاخبار فانه متعارض لِأَن كل طَائِفَة قد تَوَاتر لَهُم مَا هم عَلَيْهِ عَن أسلافهم الَّذين يثقون بهم وَلم يعلم الْمُغَفَّل أَن هَذَا مثل دَعْوَى الْيَهُود لقَوْل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام تمسكوا بالسبت أبدا وَدَعوى تَوَاتر ذَلِك عَنهُ وَأَنه لَا فرق بَين تِلْكَ الدَّعْوَى وَبَين مَا صَحَّ عَن نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا نَبِي بعدِي وَأَنه خَاتم الْأَنْبِيَاء وَكم بَين تَوَاتر صِفَات الْكَمَال فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتواتر معجزاته وفضائله للعارفين وَبَين تلقي صبيان الْيَهُود لما يُعَارض ذَلِك كُله عَن آبَائِهِم الْقَوْم البهت وَهل يَقُول مميزان الامرين فِي التَّوَاتُر سَوَاء فجهال هَذِه الصُّورَة مثل صبيان الْيَهُود حِين نشؤا على ظن السوء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه لَا دَوَاء لَهُم إِلَّا أَن يتْركُوا تَقْلِيد آبَائِهِم فِي ذَلِك الظَّن السيء ويطالعوا كتب الاسلام الَّتِي فِيهَا سيرته وأخلاقه ومعجزاته وَسَائِر مناقبه والتواتر مِمَّا لَا يُمكن تَعْرِيف الْجَاهِل بِهِ أَلْبَتَّة وَلذَلِك يَقُول الْعلمَاء فِي ذَلِك أَنه مَعْلُوم لمن طالع كتب الاخبار وَإِلَّا فَكل مُبْطل مُعْتَقد لصِحَّة باطله وَلَوْلَا الْفرق بَين الاعتقادات الْبَاطِلَة والعلوم الصَّحِيحَة مَا تميز كفر من اسلام وَلَا شرك من تَوْحِيد وَلَا عَالم من جَاهِل فالعلم الْحق مَا جمع الْجَزْم والمطابقة والثبات عِنْد التشكيك فالظنون تَلْتَبِس بالعلوم الجازمة عِنْد كثير من الْعَامَّة والاعتقادات الْبَاطِلَة وَإِن كَانَت جازمة فِي نفوس أَهلهَا فَهِيَ غير مُطَابقَة فِي الْخَارِج واعتقادات عوام الْمُسلمين وَإِن كَانَت جازمة فِي نُفُوسهم مُطَابقَة للحق فانها لَا تثبت فِي نُفُوسهم عِنْد التشكيك وَالْعلم الْحق هُوَ مَا جمع هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة وَالله سُبْحَانَهُ قد خص بالهداية لَهُ من علم مِنْهُ الْقبُول والانصاف والاهلية لذَلِك كَمَا قَالَ فِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {وَكُنَّا بِهِ عَالمين} وَقَالَ معَاذ إِن الْعلم وَالْإِيمَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مكانهما من طلبهما وجدهما فَاطْلُبُوا ذَلِك من حَيْثُ طلبه إِبْرَاهِيم حَيْثُ قَالَ {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} وَقد تقدم الارشاد إِلَى طَرِيق الظفر بِالْحَقِّ فِي هَذِه الْمُقدمَة من هَذَا الْمُخْتَصر الصُّورَة الرَّابِعَة طَائِفَة من أهل السّمع أتقنوا علم السّمع وَعَلمُوا مِنْهُ بعض الْقَوَاعِد علما صَحِيحا وتواتر لَهُم مَا لم يتواتر لغَيرهم لشدَّة بحثهم وقطعهم أعمارهم فِي ذَلِك ثمَّ نازعهم فِي ذَلِك جمَاعَة من عُلَمَاء المعقولات الْمُقَصِّرِينَ فِي علم السّمع كبعض الْمُعْتَزلَة خُصُوصا الْمُتَأَخِّرين فِي نفي الشَّفَاعَة للموحدين وَنفي الرَّجَاء للمذنبين مِنْهُم وإيجابب خلودهم فِي النَّار مَعَ الْمُشْركين فَظن أُولَئِكَ الَّذين أتقنوا مَا علمُوا من السّمع أَن الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة هِيَ الْمُعَارضَة لما عرفوه من السّمع الْحق فِي ذَلِك لشُبْهَة أَن المعارضين لَهُم فِيهِ يدعونَ التَّحْقِيق فِي المعقولات فيعادون علم الْمَعْقُول وَمن خَاضَ فِيهِ حَتَّى من أهل السّنة وظنوا أَن الاصغاء اليه وَالنَّظَر فِيهِ يسْتَلْزم الْبِدْعَة من غير بُد وَلَو نظرُوا بِعَين التَّحْقِيق لعلموا أَن خصومهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا أَتَوا من التَّقْصِير فِي علم السّمع وإقلال الْبَحْث عَنهُ وَمَا شابوا بِهِ جدا لَهُم من المعقولات فانما ادعوا فِيهِ على الْعقل مَا هُوَ بَرِيء مِنْهُ كَمَا يدعونَ على الْعقل تقبيح خطاب الله لنا بِالْعُمُومِ الْمَخْصُوص فِي العقائد من غير بَيَان مقترن بِهِ وَلم يعلمُوا أَنه يرد عَلَيْهِم هَذَا بِعَيْنِه فِي عمومات الْوَعْد كعمومات الْوَعيد فَلَو حرم تَخْصِيص الْوَعيد بالأدلة الْمُنْفَصِلَة عَنهُ لحرم تَخْصِيص الْوَعْد كَذَلِك بل أولى وَأَحْرَى وَحِينَئِذٍ يحصل بطلَان مقصودهم فان قَالُوا فِي عمومات الْوَعْد يُمكن أَن تخصيصها قد كَانَ تقدمها وَعلم قُلْنَا وَكَذَلِكَ يُمكن فِي عمومات الْوَعيد فان قَالُوا فِي تَخْصِيص الْوَعيد أَنه ظَنِّي قُلْنَا صَدقْتُمْ أَنه ظَنِّي عنْدكُمْ لَكِن قد علم غَيْركُمْ مَا لم تعلموه من تواتره كَمَا أوضحته فِي العواصم وَلَئِن سلمنَا أَنه ظَنِّي فان حكم الظني أَن لَا يقطع بصدقه وَلَا كذبه لَا أَنه يقطع يكذبهُ لِأَنَّهُ لَا طَرِيق إِلَى ذَلِك وَأَنْتُم لم تتوقفوا فِي صدقه بل قطعْتُمْ بكذبه وَهَذَا هُوَ الْقطع بِغَيْر تَقْدِير والخبط الَّذِي لَيْسَ من الْعلم الْعقلِيّ فِي قبيل وَلَا دبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَاعْلَم أَنه لَا يكَاد يسلم من هَذِه الاغلاط إِلَّا أحد رجلَيْنِ إِمَّا رجل ترك الْبِدْعَة كلهَا والتمذهب والتقاليد والاعتزاء إِلَى الْمذَاهب وَالْأَخْذ من التعصب بِنَصِيب وَبَقِي مَعَ الْكتاب وَالسّنة كَرجل نَشأ قبل حُدُوث الْمذَاهب وَلم يعبر عَن الْكتاب وَالسّنة بِعِبَارَة مِنْهُ مبتدعة واستعان الله وأنصف ووقف فِي مَوَاضِع التَّعَارُض والاشتباه وَلم يدع علم مَا لم يعلم وَلَا تكلّف مَا لَا يحسن وَهَذَا هُوَ مَسْلَك البُخَارِيّ وأئمة السّنة غَالِبا فِي تَرْجَمَة تصدير الْأَبْوَاب وَفِي العقائد بالآيت القرآنية والاخبار النَّبَوِيَّة كَمَا صنع فِي أَبْوَاب الْقدر وَكتاب التَّوْحِيد وَالرَّدّ على الْجَهْمِية وأبواب الْمَشِيئَة وَرجل أتقن العلمين الْعقلِيّ والسمعي وَكَانَ من أئمتهما مَعًا بِحَيْثُ يرجع اليه أئمتهما فِي وقائعهما ومشكلاتهما مَعَ حسن قصد وورع وانصاف وَنحر للحق فَهَذَا لَا تخلف عَنهُ هِدَايَة الله واعانته وَأما من عادى أحد هذَيْن العلمين وعادى أَهله وَلم يكن على الصّفة الأولى من لُزُوم مَا يعرف وَترك مَا لَا يعرف فانه لابد أَن تدخل عَلَيْهِ الْبدع والاغلاط والشناعات وَمن أَنْوَاع الزِّيَادَة فِي الدّين الْكَذِب فِيهِ عمدا وَهَذَا الْفَنّ يضر من لم يكن من أَئِمَّة الحَدِيث وَالسير والتواريخ وَلَا يتَوَقَّف على نقدهم فِيهِ بِحَيْثُ لَا يفرق بَين مَا يتواتر عِنْد أهل التَّحْقِيق وَبَين مَا يزوره غَيرهم وَلَيْسَ لَهُ دَوَاء إِلَّا اتقان هَذَا الْفَنّ والرسوخ فِيهِ وَعدم الْمُعَارضَة لأَهله بِمُجَرَّد الدَّعَاوَى الفارغة وَهُوَ علم صَعب يحْتَاج إِلَى طول الْمدَّة وَمَعْرِفَة عُلُوم الحَدِيث وَعدم العجلة بِالدَّعْوَى وَإِن كَانَ جليا فِي مَعْنَاهُ فان الرسوخ فِيهِ بعيد عَن حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ بأحوال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحوال السّلف بِحَيْثُ يعلم دينهم بِالضَّرُورَةِ مثل مَا يعلم مَذْهَب الْمُعْتَزلَة والأشعرية كَذَلِك يطول الْبَحْث فِي علم الْكَلَام وَيعلم مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَمَا يُمكن الْقدح فِيهِ من المنقولات الْمَشْهُورَة وَمَا لَا يُمكن من غير تَقْلِيد وَلَا أقل من معرفَة مثل عُلُوم الحَدِيث للْحَاكِم فِي ذَلِك وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْفَائِدَة الْعُظْمَى فِي الرسوخ فِي علم الحَدِيث وَلَيْسَ الْفَائِدَة الْعُظْمَى فِيهِ معرفَة أَحَادِيث الاحكام فِي فروع الْحَلَال وَالْحرَام كَمَا يظنّ ذَلِك من يقْتَصر على قِرَاءَة بعض المختصرات فِي ذَلِك ويكتفي بِهِ فِي هَذَا الْعلم الْجَلِيل ولأمر مَا كَانَ أَئِمَّة الحَدِيث الراسخون أَرْكَان الايمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فِي الثُّبُوت عِنْد الْفِتَن والامتحان وَقد ذكرت أُمُور كَثِيرَة يقْدَح بهَا على الْمُحدثين وأئمة المنقولات وَقد ذكرتها وَالْجَوَاب عَنْهَا فِي المجلد الأول من العواصم واشتمل ذَلِك على فَوَائِد ومعارف مهمة يحْتَاج اليها من يهتم بالمعارف المنقولة وَللَّه الْحَمد وَهَذَا آخر مَا حصر من التحذير من الزِّيَادَة فِي الدّين وَالْكَلَام فِي بطلَان ذَلِك وتحريمه وَهُوَ الامر الأول وَأما الْأَمر الثَّانِي وَهُوَ النَّقْص فِي الدّين برد النُّصُوص والظواهر ورد حقائقها إِلَى الْمجَاز من غير طَرِيق قَاطِعَة تدل على ثُبُوت الْمُوجب للتأويل إِلَّا مُجَرّد التَّقْلِيد لبَعض أهل الْكَلَام فِي قَوَاعِد لم يتفقوا عَلَيْهَا أَيْضا وأفحش ذَلِك وأشهره مَذْهَب القرامطة الباطنية فِي تَأْوِيل الاسماء الْحسنى كلهَا أَو نَفيهَا عَن الله على سَبِيل التَّنْزِيه لَهُ عَنْهَا وَتَحْقِيق التَّوْحِيد بذلك وَدَعوى أَن اطلاقها عَلَيْهِ يَقْتَضِي التَّشْبِيه وَقد غلوا فِي ذَلِك وبالغوا حَتَّى قَالُوا أَنه لَا يُقَال أَنه مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم بل قَالُوا أَنه لَا يعبر عَنهُ بالحروف وَقد جعلُوا تَأْوِيلهَا أَن المُرَاد بهَا كلهَا أَمَام الزَّمَان عِنْدهم وَهُوَ عِنْدهم الْمُسَمّى الله وَالْمرَاد بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَقد تَوَاتر هَذَا عَنْهُم وَأَنا مِمَّن وقف عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُحْصى من كتبهمْ الَّتِي فِي أَيْديهم وخزائنهم ومعاقلهم الَّتِي دخلت عَلَيْهِم عنْوَة أَو فتحت بعد طول محاصرة وَأخذ بَعْضهَا عَلَيْهِم من بعض الطرقات وَقد هربوا بِهِ وَوجد بَعْضهَا فِي مَوَاضِع خُفْيَة قد أخفوه فِيهَا فَكَمَا أَن كل مُسلم يعلم أَن هَذَا كفر صَرِيح وَأَنه لَيْسَ من التَّأْوِيل الْمُسَمّى بِحَذْف الْمُضَاف الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا} أَي أهل الْقرْيَة وَأهل العير وَإِنَّمَا علم هَذَا كل مُسلم تطول صحبته لأهل الاسلام وَسَمَاع أخبارهم والباطني النَّاشِئ بَين الباطنية لَا يعلم مثل هَذَا فَكَذَلِك الْمُحدث الَّذِي قد طَالَتْ مطالعته للآثار قد يعلم فِي تَأْوِيل بعض الْمُتَكَلِّمين مثل هَذَا الْعلم وَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم لبعده عَن أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحواله وأحوال السّلف قد بعد عَن علم الْمُحدث كَمَا بعد الباطني عَن علم الْمُسلم فالمتكلم يرى أَن التَّأْوِيل مُمكن بِالنّظرِ إِلَى وضع عُلَمَاء الْأَدَب فِي شُرُوط الْمجَاز وَذَلِكَ صَحِيح وَلَكِن مَعَ الْمُحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 من الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن السّلف مَا تأولوا ذَلِك مثل مَا مَعَ الْمُتَكَلّم من الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن السّلف مَا تأولوا الاسماء الْحسنى بامام الزَّمَان وان كَانَ مجَاز الْحَذف الَّذِي تأولت بِهِ الباطنية صَحِيحا فِي اللُّغَة عِنْد الْجَمِيع لَكِن لَهُ مَوضِع مَخْصُوص وهم وضعوه فِي غير مَوْضِعه كَذَلِك الْمُتَكَلّم فِي بعض أَسمَاء الله الْحسنى كالسميع والبصير والحكيم والرحمن والرحيم فانها من الاسماء الْحسنى الْمَعْلُوم وُرُودهَا فِي كتاب الله على سَبِيل التمدح بهَا وَالثنَاء الْعَظِيم وَنَصّ الله تَعَالَى وَرَسُوله على أَنَّهَا ثَنَاء على الله تَعَالَى فِي حَدِيث قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي وَفِيه فاذا قَالَ الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الله تَعَالَى أثنى عَليّ عَبدِي مَعَ تكريرها فِي عهد النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم يشْعر أحد مِنْهُم فِي تِلْكَ الاعصار كلهَا بتقبيح شَيْء من ظواهرها أَلا ترى أَن الرَّحْمَن الرَّحِيم ثابتان فِي السَّبع المثاني المعظمة متلوان فِي جَمِيع الصَّلَوَات الْخمس مجهور بهما فِي أَكْثَرهَا فِي محافل الْمُسلمين مُجْمِعِينَ على أَنَّهُمَا من أحسن الثَّنَاء على الله تَعَالَى وأجمله وأفضله متقربين إِلَى الله بمدحه بذلك مظهر من أَنه أحب الْحَمد اليه وَلذَلِك كرر تَكْرَارا كثيرا فِي كتاب الله سُبْحَانَهُ وَفِي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم المكرر فِي أول كل سُورَة المتبرك بِهِ فِي أول كل عبَادَة وجمعا مَعًا ومرجعهما إِلَى معنى وَاحِد وَلم يجمع اسمان فِي معنى وَاحِد فِي مَوضِع وَاحِد قطّ كالغفار الغفور وَنَحْو ذَلِك بِخِلَاف الرَّحْمَن الرَّحِيم فَتَأمل ذَلِك فهما الْغرَّة والمقدمة فِي ممادح رب الْعِزَّة فِي خطب الْمُسلمين وجمعهم وجماعتهم وحوائجهم ومجامعهم ورسائلهم ومكاتباتهم وتصانيفهم وتصرفاتهم وكل أَمر ذِي بَال كَانَ مِنْهُم فِي مصادرهم ومواردهم وتضرعهم إِلَى رَبهم ودعائهم وَعند رقتهم وخضوعهم وجدهم واجتهادهم يلقنها سلف الْمُسلمين خَلفهم ويتلقنهما خَلفهم عَن سلفهم ويعلمهما الْآبَاء أَبْنَاءَهُم ويتعلمهما الابناء من آبَائِهِم ويتردد التشفي بذكرهما بَين أصاغرهم وأكابرهم وبدوهم وحضرهم وخاصتهم وعامتهم وذكرانهم وإناثهم وبلدائهم وأذكيائهم فَأَي مَعْلُوم من الدّين أبين من كَونهمَا من ممادح الله تَعَالَى وَأشهر وأوضح وَأظْهر وَأكْثر استفاضة وشهرة وتواترا وعظمت الشناعة فِي إِنْكَار حقيقتهما ومدحتهما حِين وَافق ذَلِك مَذْهَب القرامطة وَمذهب أسلافهم من الْمُشْركين فِي انكارهم الرَّحْمَن وَنَصّ الْقُرْآن على الرَّد عَلَيْهِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فِي ذَلِك والصدع بِالْحَقِّ فِيهِ حَيْثُ حكى عَنْهُم قَوْلهم وَمَا الرَّحْمَن أنسجد لما تَأْمُرنَا فَقَالَ عز من قَائِل {الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش الرَّحْمَن فاسأل بِهِ خَبِيرا وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن أنسجد لما تَأْمُرنَا وَزَادَهُمْ نفورا} وَحَيْثُ قَالَ {وهم يكفرون بالرحمن قل هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَحَيْثُ قَالَ {وهم بِذكر الرَّحْمَن هم كافرون} وَعظم الله تَعَالَى هَذَا الِاسْم الشريف وَبَالغ فِي تَعْظِيمه حَيْثُ قَالَ {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ حاكيا عَن خِيَار عباده {هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا} وَجَاءَت الصوادع القرآنية مادحة لله تَعَالَى بأعظم صِيغ المبالغات فِي هَذِه الصّفة الشَّرِيفَة الحميدة بِأَن الله عز وَجل خير الرَّاحِمِينَ وأرحم الرَّاحِمِينَ وَكرر هَذِه الْمُبَالغَة فِي مَوَاضِع من كِتَابه الْكَرِيم الَّذِي قَالَ فِيهِ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَجَاءَت فِي كَلَام مُوسَى وَأَيوب وَيَعْقُوب ويوسف عَلَيْهِم السَّلَام وَكرر الله تَعَالَى التمدح بِالرَّحْمَةِ مرَارًا جمة أَكثر من خَمْسمِائَة مرّة من كِتَابه الْكَرِيم مِنْهَا باسمه الرَّحْمَن أَكثر من مائَة وَسِتِّينَ مرّة وباسمه الرَّحِيم أَكثر من مِائَتي مرّة وجمعهما للتَّأْكِيد مائَة وست عشرَة مرّة وأكد الرَّحِيم فَجَمعه مرَارًا مَعَ التواب ومرارا مَعَ الرؤوف والرأفة أَشد الرَّحْمَة ومرارا مَعَ الغفور وَهِي أَكثر عرفت مِنْهَا سَبْعَة وَسِتِّينَ موضعا وَأخْبر أَنه كتب على نَفسه الرَّحْمَة مرَّتَيْنِ وَأَنه لَا عَاصِم من أمره إِلَّا من رحم وَأَن من لم يرحمه يكن من الخاسرين وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم وَإِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم وَأَنه ذُو رَحْمَة وَاسِعَة إِلَى غير ذَلِك من صِيغ المبالغات القاضية بِأَن ذَلِك من أحب الثَّنَاء والممادح والمحامد اليه عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وبالغت الْمَلَائِكَة الْكِرَام فِي ممادح الرب سُبْحَانَهُ بذلك فأوردت أبلغ صِيغ المبالغات فَقَالَت {رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما} ومدح الله ذَاته الْكَرِيمَة بِهَذِهِ الصِّيغَة البليغة فَقَالَ {ورحمتي وسعت كل شَيْء} وَفِي كتاب سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي حَكَاهُ الله عَنهُ فِي كِتَابه الْكَرِيم لشرفه الْعَظِيم {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} وَحكى الله نَحْو ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم عَن إِبْرَاهِيم وَيَعْقُوب ومُوسَى وَأَيوب وَصَالح وَعِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِم السَّلَام للدلالة على اتِّفَاق الْأَدْيَان النَّبَوِيَّة الأولى وَالْآخِرَة على مدح الله تَعَالَى بذلك وخاطب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام بذلك الجفاة الاجلاف من الْمُشْركين وَنَحْوهم مِمَّن لَا يفهم دقائق الْكَلَام الصارفة إِلَى مَقَاصِد أَهله فَقَالَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي خطاب أَبِيه {يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف أَن يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن فَتكون للشَّيْطَان وليا} وَقَالَ هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام لعباد الْعجل مَا ذكره الله عَنهُ ومدحه بِهِ حَيْثُ قَالَ {وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني} وَكتب ذَلِك سُلَيْمَان إِلَى بلقيس وقومها وَأمر الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم بالفرح برحمته والفرح بهَا فرع التَّصْدِيق بهَا فَقَالَ تَعَالَى {قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} وَفِي عطفها على فَضله دلَالَة على الْمُغَايرَة بَينهمَا وَذَلِكَ خلاف مَا يَقُول من تأولها وَفِي الصِّحَاح من ذَلِك الْكثير الطّيب وَمَا لَا تتسع لَهُ هَذِه التَّذْكِرَة المختصرة مِنْهُ حَدِيث سلمَان وَأبي هُرَيْرَة وجندب وَابْن عَبَّاس وَعبادَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن حيدة وخلاس وَالْحسن وَابْن سِيرِين فِي الْمِائَة الرَّحْمَة الَّتِي لله تَعَالَى وَإِنَّهَا وسعت الْخَلَائق مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة وَأَن هَذِه الرَّحْمَة الَّتِي يتراحم بهَا الْخَلَائق وَالسِّبَاع وَالدَّوَاب الْبَريَّة والبحرية هِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 جُزْء من مائَة جُزْء من رَحْمَة الله وَظَهَرت محبَّة الله تَعَالَى للثناء عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصّفة وَمَا يشتق لَهُ مِنْهَا من الاسماء الشَّرِيفَة حَتَّى كَانَ أحب الاسماء اليه عبد الله وَعبد الرَّحْمَن كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح فَكيف يُقَال أَن ظَاهرهَا نقص وذم وَكفر وتشبيه وَسَب للْملك الحميد الْمجِيد الَّذِي لَا أحد أحب اليه الْحَمد والمدح مِنْهُ وَلَا أعرف بِمَا يَلِيق بجلاله مِنْهُ ثمَّ من رسله وَلَا يُحْصى عَلَيْهِ ثَنَاء هُوَ كَمَا أثنى على نَفسه لأهليته لذَلِك وَلذَلِك مدح نَفسه وَعلمنَا مدحه ودعانا اليه وأثابنا عَلَيْهِ فَكيف يفْتَتح كتبه الْكَرِيمَة ويشحنها بِمَا ظَاهره السب والذم وَالْكفْر والتشبيه وَبِمَا نسبته اليه كنسبة الارادة إِلَى الْجِدَار والجناح إِلَى الذل بل أَشد بعدا من ذَلِك فان الْجِدَار لَا يذم بالارادة والذل لَا يذم بالجناح فَصَارَ لَا يُوجد لذَلِك مِثَال لِأَنَّهُ يسْتَلْزم اسْتِعَارَة اسْم الذَّم لارادة الْمَدْح كَمَا لَو مدحت بالظلم الْملك الْعَادِل وبالنقص الرجل الْكَامِل مجَازًا وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يحسن فِي البلاغة بل لَا يَصح فِي اللُّغَة وَلَا يُوجد فِي كَلَام الْعَامَّة والعجم وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على حسن اطلاق الرَّحْمَة على الله من غير قرينَة تشعر بالتأويل وَلَا توقف على عبارَة التَّنْزِيل وَلَو كَانَ ظَاهرهَا الْقبْح والذم والانتقاص لله عز وَجل لم يحسن ذَلِك من الْعباد وان ورد فِي كَلَام الله أقرّ فِي مَوْضِعه على قَوَاعِد عُلَمَاء الْكَلَام على أَن فطر الْعُقُول تعرف رَحْمَة الله تَعَالَى وسعة علمه وَكَمَال قدرته فان الْعلم بِضعْف الْعباد مَعَ تَمام الْقُدْرَة والممادح والمحامد وَعدم الْمعَارض يسْتَلْزم الرَّحْمَة عقلا أَيْضا فَهِيَ من المحكمات لامن المتشابهات على أَن الله سُبْحَانَهُ أعلم وَأحكم وَأجل وَأعظم وأعز فِي كبريائه عَن أَن يتَخَيَّر مَا ظَاهره الانتقاص والذم غرَّة شادخة لاسمائه الْحسنى مُقَدّمَة فِي مثاني كِتَابه الْعُظْمَى وَهُوَ الَّذِي بلغ كَلَامه أَعلَى دَرَجَات الاعجاز فِي البلاغة الَّتِي هِيَ الْبلُوغ إِلَى المُرَاد الْمَقْصُود بأوضح الْعبارَات وأجزلها وأبينها وأجملها وَأَيْضًا فقد ثَبت أَن الرَّحْمَن مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى وَحده وَيحرم إِطْلَاقه على غَيره وَلَو كَانَت الرَّحْمَة لَهُ مجَازًا وَلغيره حَقِيقَة كَانَ الْعَكْس أوجب وَأولى وَمَا الْمَانِع للْمُسلمِ من اثباتها صفة حمد ومدح وثناء كَمَا علمنَا رَبنَا مَعَ نفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 صِفَات النَّقْص الْمُتَعَلّقَة برحمة المخلوقين عَنهُ تَعَالَى كَمَا أثبتنا لَهُ اسْم الْحَيّ الْعَلِيم الْخَبِير المريد مَعَ نفي نقائص المخلوقين فِي حياتهم المستمرة لجَوَاز التألم بأنواع الآلام ثمَّ للْمَوْت الَّذِي لابد مِنْهُ لجَمِيع الاحياء من الانام وَكَذَلِكَ ينزه سُبْحَانَهُ عَمَّا فِي علمهمْ النَّاقِص بِدُخُول الْكسْب وَالنَّظَر فِي مباديه وَالِاسْتِدْلَال والاضطرار فِي منتهاه الَّذِي يسْتَلْزم الجسمية وَالْبَيِّنَة الْمَخْصُوصَة والحدوث ويعرض لَهُ التَّغَيُّر وَالنِّسْيَان وَالْخَطَأ والشغل بِبَعْض المعلومات عَن بعض وَكَذَلِكَ تنزه ارادته عَمَّا فِي ارادتنا من استلزام الْحَاجة إِلَى جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ كل صفة يُوصف بهَا الرب سُبْحَانَهُ ويوصف بهَا العَبْد وان الرب يُوصف بهَا على أتم الْوَصْف مُجَرّدَة عَن جَمِيع النقائص وَالْعَبْد يُوصف بهَا محفوفة بِالنَّقْصِ وَبِهَذَا فسر أهل السّنة نفي التَّشْبِيه وَلم يفسروه بِنَفْي الصِّفَات وتعطيلها كَمَا صنعت الباطنية الْمَلَاحِدَة ويدلك على قبح تَأْوِيل هَذِه الاسماء الشَّرِيفَة فِي الْفطر كلهَا إِنَّك تَجِد المعتزلي يستقبح تَأْوِيل الاشعرية للحكيم غَايَة الاستقباح والاشعري يستقبح تَأْوِيل الْمُعْتَزلَة البغدادية للسميع الْبَصِير المريد غَايَة الاستقباح والسني يستقبح تَأْوِيل الْمُعْتَزلَة والاشعرية للرحمن الرَّحِيم الْحَكِيم غَايَة الاستقباح وَالْكل يستقبحون تَأْوِيل القرامطة لجَمِيع الاسماء الْحسنى غَايَة الاستقباح وَمَتى نظرت بِعَين الانصاف وَجَدتهمْ فِي ذَلِك كَمَا قيل (وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة ... وَلَكِن عين السخط تبدي المساويا) وَكَذَلِكَ نجد كل وَاحِد مِنْهُم يلْزم الْمُنكر عَلَيْهِ مثل مَا ألزمهُ فان الْمُعْتَزلَة والاشعرية إِذا كفرُوا الباطني بانكار الاسماء الْحسنى وَالْجنَّة وَالنَّار يَقُول لَهُم الباطني لم أجحدها إِنَّمَا قلت هِيَ مجَاز مثل مَا انكم لم تجحدوا الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَكِيم وَإِنَّمَا قُلْتُمْ إِنَّهَا مجَاز وَكَيف كفاكم الْمجَاز فِي الايمان بالرحمن الرَّحِيم وهما أشهر الاسماء الْحسنى أَو من أشهرها وَلم يكفني فِي سائرها وَفِي الْجنَّة وَالنَّار مَعَ أَنَّهُمَا دون أَسمَاء الله بِكَثِير وَكم بَين الايمان بِاللَّه وبأسمائه والايمان بمخلوقاته فاذا كفاكم الايمان الْمجَازِي بأشهر الاسماء الْحسنى فَكيف لم يكفني مثله فِي الايمان بِالْجنَّةِ وَالنَّار والمعاد يُوضحهُ أَن الاجماع مُنْعَقد على كفر من قَالَ أَن الله يَأْمر بِالْفِسْقِ والمعاصي حَقِيقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ بذلك مجَازًا فِي تَفْسِيره {أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا} وَلم يكفر بذلك وَكَذَلِكَ قَالَ بعض الاشعرية أَن الله تَعَالَى يحب الْمعاصِي مجَازًا وَلم يكفروه بذلك وَلَو قَالُوهُ حَقِيقَة كفرُوا فَدلَّ على أَن الايمان الْمجَازِي فِي مَوضِع الْحَقَائِق كلا شَيْء فَكَمَا لم يضرّهُ من آمن بالامر بالقبائح مجَازًا فَكَذَلِك لَا ينفع من آمن بالرحمن الرَّحِيم الْحَكِيم مجَازًا لأَنهم بِمَنْزِلَة الزَّمَخْشَرِيّ فِي إيمَانه بِأَمْر الله بِالْفِسْقِ مجَازًا مَعَ نَفْيه لذَلِك أَشد النَّفْي واعتقاده أَنه كَالْعدمِ يُوضحهُ أَنه لَا شكّ وَلَا خلاف فِي كفر من آمن بالنبوات مجَازًا ونفاها حَقِيقَة فأسماء الله الْحسنى الْمَعْلُوم تمدحه بهَا فِي جَمِيع كتبه أجل وَأعظم من جنته وناره وأنبيائه فَلَا يَكْفِي الايمان بِشَيْء مِنْهَا مجَازًا إِلَّا أَن يَصح فِي ذَلِك اجماع قَاطع وبرهان الله أقطع فِي بعض الْمَوَاضِع يُؤمن مَعَه من الْوُقُوع فِي الْبِدْعَة والفرقة الْمنْهِي عَنْهُمَا بالنصوص والاجماع وَكَذَلِكَ يَقُول بَعضهم لبَعض فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ كَمَا يَقُول لَهُم الباطني وَكَذَلِكَ محبَّة الله تَعَالَى لأنبيائه وأوليائه الَّتِي هِيَ أعظم فضل الله الْعَظِيم عَلَيْهِم وأشرف مَا يرجونه من مواهبه الْعِظَام وَقد نَص الله تَعَالَى على ذَلِك فِي غير آيَة من كِتَابه الْكَرِيم كَقَوْلِه تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَوله تَعَالَى {وَالله يحب الصابرين} وَكَذَلِكَ كَون الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين وأكبر من ذَلِك أَن الله تَعَالَى اتخذ ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وعَلى نَبينَا وَسلم خَلِيلًا بِالنَّصِّ القرآني وَاتخذ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلِيلًا بِالنَّصِّ النَّبَوِيّ والحلة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة أرفع مَرَاتِب الْمحبَّة وَلم تزل هَذِه النُّصُوص مقررة مُجَللَة معتقدة مَعَ تَنْزِيه الله تَعَالَى من نقائصها مثل تنزيهه من نقائص علم المخلوقين وارادتهم فِي الْعَلِيم المريد وَغَيرهمَا حَتَّى فَشَتْ الْبِدْعَة وَاجْتمعت كلمة الْمُعْتَزلَة والأشعرية على تقبيح نِسْبَة الرَّحْمَة والحلم والمحبة والخلة إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا بِتَأْوِيل مُوجب لنفي هَذِه الْأَشْيَاء عَن الله بِغَيْر قرينَة وَمُوجب تَحْرِيم اطلاقها إِلَّا مَعَ الْقَرِينَة فَيجوز عِنْدهم أَن تَقول إِن الله غير رَحِيم وَلَا رَحْمَن وَلَا حَلِيم وَلَا يحب الْمُؤمنِينَ وَلَا الصابرين وَلَا المتطهرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَلَا اتخذ ابراهيم خَلِيلًا بِغَيْر قرينَة وَلَا تَأْوِيل كَمَا يجوز أَن تَقول فِي الْجِدَار أَنه لَيْسَ بمريد وَلَا يجوز ذَلِك الاثبات إِلَّا بالتأويل والقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ وَالْمُسلم بالفطرة يُنكر هَذِه الْبدع وبالرسوخ فِي علم الحَدِيث يعلم بِالضَّرُورَةِ حدوثها وَأَن عصر النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة بَرِيء مِنْهَا مثل مَا يعلم أَن الْمُعْتَزلَة أبرياء من مَذْهَب الأشعرية وَأَن الأشعرية أبرياء من مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَأَن النُّحَاة أبرياء من مَذْهَب الشعوبية وأمثال ذَلِك فَيجب تَقْرِير ذَلِك وَأَمْثَاله مِمَّا وصف الله تَعَالَى بِهِ ذَاته الْكَرِيمَة على جِهَة التمدح وَالْحَمْد وَالثنَاء وَسَيَأْتِي الْجَواب عَن سَبَب تخلف الرَّحْمَة لكثير من أهل الْبلَاء كَمَا يتَخَلَّف الْعَطاء عَن كثير من الْفُقَرَاء وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي مدح الله بالجود وَالْكَرم حَقِيقَة باجماع الْمُسلمين لمعارضة الْحِكْمَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاء وَقد جود الْغَزالِيّ القَوْل فِي هَذَا الْمَعْنى فِي الْمَقْصد الامنى فَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بِنَقْل كَلَامه وموضعه مَعْرُوف وَالدَّلِيل على أَنه لَا يجوز القَوْل بِأَن ظَاهر هَذِه الاسماء كفر وضلال وَأَن الصَّحَابَة وَالسَّلَف الصَّالح لم يفهموا ذَلِك أَو فَهموا وَلم يقومُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِم من نصح الْمُسلمين وَبَيَان التَّأْوِيل الْحق لَهُم أَمْرَانِ الأول قَاطع ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن الْعَادة توجب فِي كل مَا كَانَ كَذَلِك أَن يظْهر التحذير مِنْهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أَصْحَابه يتواتر أعظم مِمَّا حذروا من الدَّجَّال الْأَعْوَر الْكذَّاب وَلَا يجوز عَلَيْهِم مَعَ كَمَال عُقُولهمْ وأديانهم أَن يتْركُوا صبيانهم ونساءهم وعامتهم يسمعُونَ ذَلِك مَنْسُوبا إِلَى الله وَإِلَى كِتَابه وَرَسُوله وَظَاهره الْكفْر وهم سكُوت عَلَيْهِ مَعَ بلادة الْأَكْثَرين وَلَو تركُوا بَيَان ذَلِك ثِقَة بِنَظَر الْعُقُول الدَّقِيق لتركوا التحذير من فتْنَة الدَّجَّال فان بطلَان ربوبيته أجلى فِي الْعُقُول من ذَلِك أَلا ترى أَن الْمُتَكَلِّمين لما اعتقدوا قبح هَذِه الظَّوَاهِر تَوَاتر عَنْهُم التحذير عَنْهَا والتأويل لَهَا وصنفوا فِي ذَلِك وأيقظوا الغافلين وَعَلمُوا الْجَاهِلين وَكَفرُوا الْمُخَالفين وأشاعوا ذَلِك بَين الْمُسلمين بل بَين الْعَالمين فَكَانَ أَحَق مِنْهُم بذلك سيد الْمُرْسلين وقدماء السَّابِقين وأنصار الدّين الثَّانِي أَنه قد ثَبت فِي تَحْرِيم الزِّيَادَة فِي الدّين أَنه لَا يَصح سكُوت الشَّرْع عَن النَّص على مَا يحْتَاج اليه من مهمات الدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَثَبت أَن الاسلام مُتبع لَا مخترع وَلذَلِك كفر من أنكر شَيْئا من أَرْكَانه لِأَنَّهَا مَعْلُومَة ضَرُورَة فَأولى وَأَحْرَى أَن لَا يَجِيء الشَّرْع بِالْبَاطِلِ منطوقا متكررا من غير تَنْبِيه على ذَلِك لَا سِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك الَّذِي سموهُ بَاطِلا هُوَ الْمَعْرُوف فِي جَمِيع آيَات كتاب الله وَجَمِيع كتب الله وَلم يَأْتِ مَا يناقضه فِي كتاب الله حَتَّى يُنَبه على وجوب التَّأْوِيل وَالْجمع أَو يُوجب الْوَقْف بل لم يَأْتِ التَّصْرِيح بِالْحَقِّ الْمَحْض عِنْد كثير مِنْهُم قطّ فِي آيَة وَاحِدَة تكون هِيَ المحكمة وَيرد اليها جَمِيع الْمُتَشَابه فان الله ذكر أَنه نزل فِي كتاب آيَات محكمات ترد اليها المتشابهات وَلم يقل أَن جَمِيع كِتَابه متشابه فَأَيْنَ الْآيَة المحكمة الَّتِي دلّت على مَا يَقُولُونَ وَقد اعْترف الرَّازِيّ فِي كِتَابه الاربعين وَهُوَ من أكبر خصوم أهل الْأَثر أَن جَمِيع الْكتب السماوية جَاءَت بذلك وَلم ينص الله تَعَالَى فِي آيَة وَاحِدَة على أَنه منزه من الْوَصْف بِالرَّحْمَةِ والحلم وَالْحكمَة وَأَنه لَيْسَ برحيم وَلَا رَحْمَن وَلَا حَلِيم وَلَا حَكِيم وَلَا سميع وَلَا بَصِير وَهَذَا خَلِيل الله تَعَالَى الَّذِي مدح نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمتابعته يَقُول لِأَبِيهِ {يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} إِلَى قَوْله {إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا} فَكيف يحسن تَقْرِير الْخلاف فِي ذَلِك كُله بَين المعظمين من عُلَمَاء الاسلام من غير تحذير مِنْهُ وَلَا زجر عَنهُ وأمثال ذَلِك على مَا ادَّعَاهُ عُلَمَاء الاثر وَهُوَ كَذَلِك وَإِن لم يعْتَرف بِهِ وَهَذِه الْكتب السماوية مَوْجُودَة كلهَا (وهبك تَقول هَذَا الصُّبْح ليل ... أيعمى الْعَالمُونَ عَن الضياء) فان قيل وُرُود الْمُتَشَابه فِي الْقُرْآن مَعْلُوم مجمع عَلَيْهِ ولابد أَن يكون ظَاهر الْمُتَشَابه بَاطِلا وَإِلَّا لما وَجب التَّأْوِيل فَمَا هَذَا التهويل قُلْنَا أما وُرُوده فمعلوم لَا يُنكر وَأما تَفْسِيره بِمَا يُوجب أَن يكون ظَاهره بَاطِلا فَغير صَحِيح لقَوْل الراسخين فِي الْعلم آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا ولذم الله الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ بابتغاء تَأْوِيله وَقد تقدم هَذَا فَلَا نسلم قبح ظَاهره بل هُوَ مَحل النزاع بل نقُول هُوَ قِسْمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أَحدهمَا لَا ظَاهر لَهُ وَلَا يفهم مِنْهُ شَيْء فَلَا يضل بِهِ أحد وَذَلِكَ مثل حُرُوف التهجي فِي أَوَائِل السُّور على الصَّحِيح كَمَا تقدم فَحكمه الْوَقْف فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرك الَّذِي تجرد عَن الْقَرَائِن فِي حق من لم يعرف قرينه مرجحة لَاحَدَّ مَعَانِيه وَمَا جري هَذَا المجرى وَقد تقدم الْوَجْه فِي جَوَاز وُرُود السّمع بِمثل هَذَا وَلَا يجوز الْقطع على خلوه عَن الْحِكْمَة لجَوَاز فهم الْبَعْض لَهُ وَلَو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده أَو لجَوَاز أَن تكون الْحِكْمَة فِيهِ غير فهم مَعْنَاهُ وَلعدم الدَّلِيل الْقَاطِع على أَنا مخاطبون بِهَذَا الْجِنْس النَّوْع الثَّانِي من الْمُتَشَابه مَا كَانَ لَهُ ظَاهر يسْبق إِلَى افهام أهل اللُّغَة وَلَكِن خفيت الْحِكْمَة فِيهِ على الْعُقُول مثل عدم الْعَفو عَن الْمُشْركين فِي الْآخِرَة وَعَمن شَاءَ الله من المذنبين مَعَ أَن الْعَفو أرجح وَأحب إِلَى الله تَعَالَى فِي جَمِيع كتبه وشرائعه وَأَحْكَامه وأوامره فَهَذَا نؤمن بِظَاهِرِهِ وَلَا نقُول أَن ظَاهره بَاطِل بل نقُول أَن الْحِكْمَة فِيهِ خُفْيَة وَلَو أَنا علمناها لعرفنا حسنه بل نقطع أَنا أَجْهَل من أَن نعلم جَمِيع حكم الله فِي جَمِيع أَحْكَامه وَلَو علمنَا الله تَعَالَى نصف مَا يُعلمهُ لجَاز أَن تكون الْحِكْمَة فِي هَذَا النّصْف الَّذِي لم يعلمناه كَيفَ وَقد صَحَّ أَن جَمِيع علم الْخَلَائق فِي علم الله مثل مَا يَأْخُذهُ الطَّائِر بمنقاره من الْبَحْر الْأَعْظَم وَأما الْمجَاز الْمَعْلُوم أَنه مجَاز مثل {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} فَلَيْسَ من الْمُتَشَابه فان هَذَا يعرف مَعْنَاهُ جَمِيع أجلاف الْعَرَب وَلَا يَصح دُخُول اللّبْس وَالِاخْتِلَاف فِي مَعْنَاهُ وَلذَلِك لم يقل بِنَفْي عمى الابصار لِأَن معنى الْآيَة نفي عمي الْقُلُوب عَن الابصار وَأَن عمي الْقُلُوب هُوَ الْحَقِيقِيّ الْعَظِيم الْمضرَّة والابصار لَا تعمى عَنهُ إِنَّمَا تعمى الْقُلُوب وَكَذَلِكَ الْأَمر بخفض جنَاح الذل مَعْلُوم أَن المُرَاد بِهِ الخضوع للْوَالِدين واللطف بهما وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ كلما وضحت فِيهِ احدى الْقَرَائِن المجازية الثَّلَاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الْمَعْرُوفَة اللفظية والعقلية والعرفية وَلم تكن الْقَرِينَة خُفْيَة مُخْتَلفا فِيهَا كَمَا سيأتى بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد تمّ الْكَلَام فِي بَيَان تَحْرِيم الزِّيَادَة فِي الدّين وَالنَّقْص مِنْهُ وقلما تدخل الْبِدْعَة على السّني من هذَيْن الامرين وَأكْثر مَا تدخل عَلَيْهِ من التَّصَرُّف فِي الْعبارَات وَهُوَ الامر الثَّالِث الَّذِي وعدت بِذكرِهِ مُفردا لِكَثْرَة مضرته وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة رَاجعا إِلَى الزِّيَادَة فِي الدّين فَأَقُول الامر الثَّالِث التَّصَرُّف فِي عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وَالرِّوَايَة بِظَنّ الترادف فِي الْأَلْفَاظ واعتقاد الترادف من غير يَقِين وَقد تفاحش الْأَمر فِي ذَلِك وَنَصّ الْقُرْآن على النَّهْي عَن التَّفَرُّق فَوَجَبَ تَحْرِيم مَا أدّى اليه وَالِاخْتِلَاف فِي مَعَاني كتاب الله تَعَالَى وَرِوَايَة مَا قَالَ الله وَرَسُوله بِالْمَعْنَى قد أدّى ذَلِك إِلَى الْحَرَام الْمَنْصُوص وَلم يكن من الانصاف أَن نقُول الْحق مُتَعَيّن منحصر فِي عِبَارَات بعض فرق الاسلام دون بعض غير مَا ثَبت فِي إِجْمَاع الامة والعترة فَوَجَبَ أَن يعدل إِلَى أَمر عدل بَين الْجَمِيع فَتتْرك كل عبارَة مبتدعة من عِبَارَات فرق الاسلام كلهَا سَوَاء علمنَا بِالْعقلِ أَنَّهَا حق أَو بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجب الِاشْتِغَال بِكُل حق فقد نعلم من أُمُور الدُّنْيَا مَا لَا يُحْصى وَلَا تجب علينا مَعْرفَته وتعريفه مثل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ التواريخ من حوادث الزَّمَان وعجائب أَخْبَار الْبلدَانِ بل مَا تضمن الْمَفَاسِد من الْحق حرم فَلذَلِك قد يكون من الْحق مَا هُوَ حرَام بالاجماع وَالنَّص كالغيبة والنميمة مَتى أردنَا بِالْحَقِّ مُجَرّد الصدْق والمطابقة فَلذَلِك لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَال بِبَعْض الْعُلُوم وَغَيرهَا لمُجَرّد كَونهَا حَقًا حَتَّى يرد الشَّرْع بِالْأَمر بذلك ليعلم بِالشَّرْعِ أَنه حق مُتَضَمّن لمفسدة راجحة أَو مُسَاوِيَة وَالله أعلم وَكَذَلِكَ مَا كَانَ من أُمُور الدّين الَّتِي لم ينص فرض مَعْرفَتهَا فِي كتاب الله وَلَا السّنة الْمُتَّفق على صِحَّتهَا فان قلت هَذَا صَحِيح مَتى ثَبت أَنه يجوز على الْعلمَاء والثقات الْخَطَأ فِي فهم الْمَعْنى أَو فِي التَّعْبِير عَمَّا فَهموا أَو فيهمَا مَعًا فَمَا الدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك على الْعلمَاء حَيْثُ لم يَصح إِجْمَاعهم قلت الدَّلِيل على ذَلِك أُمُور كَثِيرَة أذكر مِنْهَا مَا حضر وَالله الهادى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 مِنْهَا أَنه ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (نضر الله أمرأ سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ) وَفِي رِوَايَة فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَثَبت أَن الْفِتْنَة وَقعت بَين الصَّحَابَة مَا لَهَا سَبَب إِلَّا اخْتلَافهمْ فِي الْفَهم وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن عدي بن حَاتِم الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ غلط فِي معنى قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} وَجعل تَحت وسادته عِقَالَيْنِ أسود وأبيض فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا أَو عريض الوساد وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لما روى حَدِيث الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله قَالَت عَائِشَة مَا كذب وَلكنه وَهل أَي أَخطَأ فِي فهم مَا سمع وَفِي الصَّحِيح عَنهُ أَيْضا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فان على رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ الْيَوْم على ظهر الأَرْض أحدا) خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَزَاد فِيهِ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد قَالَ ابْن عمر فوهل النَّاس فِي مقَالَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتحدثونه من هَذِه الْأَحَادِيث يَعْنِي حسبوه أَرَادَ الْقِيَامَة وَفِي الْمُسْتَدْرك عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام نَحْو هَذَا وأوضح من هَذَا كُله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرط التعمد فَقَالَ (من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) وَهُوَ حَدِيث متواتر فلولا جَوَاز الْخَطَأ مَا كَانَ لذَلِك فَائِدَة وَثَبت أَيْضا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ شكّ فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لمثل ذَلِك بل شكّ فِي حَدِيث عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنهُ فِي التَّيَمُّم لخوف الْوَهم فان عمارا لَا يتهم بتعمد الْكَذِب وَلذَلِك أذن لَهُ فِي رِوَايَته مَعَ شكه فِي صِحَّته وَثَبت عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ (مَا عندنَا إِلَّا كتاب الله وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) أَو فهم أوتيه رجل فَدلَّ على التَّفَاوُت فِي الْفَهم وَيدل عَلَيْهِ من كتاب الله قَوْله سُبْحَانَهُ {ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} يُوضح ذَلِك أَنه قد اشْتَدَّ اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَمريْن أَحدهمَا رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى حَيْثُ يستيقن الترادف والاستواء الْمُحَقق فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والخفاء والجلاء وَأَن لَا تنقل اللَّفْظَة الْمُشْتَركَة إِلَى لَفْظَة غير مُشْتَركَة وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الْعَكْس وَلَا لَفْظَة لَهَا مجَاز إِلَى لَفْظَة لَا مجَاز لَهَا وَلَا الْعَكْس وَلَا يعبر بِالْحَقِيقَةِ عَن الْمجَاز وَلَا الْعَكْس وَلَا بالمنطوق عَن الْمَفْهُوم وَلَا الْعَكْس وَلَا بالمطابقة عَن التضمن وَلَا الِالْتِزَام وَلَا الْعَكْس وأمثال ذَلِك فاذا اجْتمعت هَذِه الشَّرَائِط وَعلم اجتماعها فَهُوَ مَحل الِاخْتِلَاف الشَّديد فِي الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فَمنهمْ من أجَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للضَّرُورَة وَمِنْهُم من منعهَا خوفًا من الْمفْسدَة وَمِنْهُم من فصل فَقَالَ أَن كَانَ اللَّفْظ النَّبَوِيّ مَحْفُوظًا لم يجز سواهُ وَمِنْهُم من عكس وَقَالَ إِن كَانَ مَحْفُوظًا جَازَ لِأَن معنى اللَّفْظ الْمَحْفُوظ مَعْرُوف يتَمَكَّن من تبديله بِمثلِهِ وَمعنى اللَّفْظ المنسي غير مَعْرُوف إِلَى غير ذَلِك من الْأَقْوَال وَلَوْلَا ضَرُورَة التَّرْجَمَة للعجم مَا شكّ منصف أَن الأولى منع هَذَا سدا للذريعة إِلَى تَحْرِيف الْمعَانِي النَّبَوِيَّة لِأَن كل أحد حسن الظَّن بِنَفسِهِ وَقد يظنّ بل يقطع أَن الْمَعْنى وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك يُوضحهُ أَن الدَّلِيل على أَن الْمَعْنى وَاحِد لَيْسَ الا عدم الوجدان لِمَعْنى آخر لجَوَاز الِاشْتِرَاك أَو لتجوز وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي وَالظَّن هُنَا غير مُفِيد فَثَبت أَنه لَا يجوز إِلَّا للضَّرُورَة الْمجمع عَلَيْهَا كالترجمة للعجمي وَلذَلِك كَانَ بَيَان الْمَوْقُوف على الصَّحَابِيّ من الْمَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبا وَلم يحل رفع الْمَوْقُوف الَّذِي لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِي مَعْرفَته وَإِن جَازَ الْعَمَل بِهِ لحسن الظَّن بالصحابي فَلَا يحل رَفعه وَثَبت عَن ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ إِذا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استقبلته الرعدة وَقَالَ هَكَذَا إِن شَاءَ تَعَالَى أَو أَو ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمته من التَّذْكِرَة وسمى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ تَفْسِيره للكلالة رَأيا لأجل هَذَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره وَغَيره وَإِلَّا فَمَا فَسرهَا إِلَّا بِمُقْتَضى اللُّغَة الْعَرَبيَّة فان قلت لابد من الْعَمَل بِدلَالَة التضمن والالتزام فَكيف منعت مِنْهُمَا قلت لم أمنع من الْعَمَل بهما فِي العمليات الظنيات وَإِنَّمَا منعت من أَمريْن أَحدهمَا تَبْدِيل الْمُطَابقَة بهما فَكَمَا أَنه لَا يجوز لَك أَن تَقول أَن الله حرم عِظَام الْخِنْزِير وشعره أَعنِي لَا يجوز أَن تنْسب ذَلِك إِلَى قَول الله وَنَصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بِدلَالَة التضمن وَهِي أَن هَذِه الْأَشْيَاء بعض الْخِنْزِير الَّذِي حرمه الله تَعَالَى وَهُوَ مُتَضَمّن لَهَا وان كَانَ لَك أَن تذْهب إِلَى ذَلِك وتعمل فِيهِ بِمُقْتَضى مَا تضمنه على أَن الْمَنْصُوص من تَحْرِيمه هُوَ لَحْمه لَا جملَته وَثَانِيهمَا الْعَمَل بالتضمن والالتزام فِي الِاعْتِقَاد الْقَاطِع لِأَنَّهُمَا غير قاطعين وَلَا ضَرُورَة اليهما فِيهِ ولخوف الْفِتْنَة وَفتح أَبْوَاب الِاخْتِلَاف والتفرق الْمنْهِي عَنهُ وَقد روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ حَدِيث ابْن عمرَان الْجونِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقرأوا الْقُرْآن مَا أئتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ فاذا اختلفتم فَقومُوا عَنهُ وشواهده كَثِيرَة فَهَذَا فِي الْقُرْآن الْمَأْمُور بالاعتصام بِهِ كَيفَ بِمَا سواهُ الامر الثَّانِي مِمَّا يدل على جَوَاز الْخَطَأ على أهل الْعلم فِي الْفَهم وَالتَّعْبِير أَنه اشْتَدَّ اخْتِلَاف فطنائهم وأذكيائهم فِي تَعْرِيف الامور الظَّاهِرَة بالحدود الجامعة الْمَانِعَة وَقد تسمى الْحَقَائِق فانه قد علم شدَّة اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك وقدح بَعضهم على بعض وَعلم اجتهادهم فِي تحريرها وندور الْحَد الَّذِي لَا يعْتَرض مَعَ أَن كثيرا من الامور الَّتِي يتعرضون لحدها يكون جليا وَاضحا كَالْعلمِ وَالْخَبَر وَقد اشْتَدَّ الْخلاف فِي تحديدهما كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى وشراح كِتَابه وَغَيرهم وَكَذَلِكَ يخْتَلف المتكلمون والنحاة وَالْفُقَهَاء فِي نَحْو ذَلِك فَثَبت أَن المعبرين عَن الْمعَانى كالرماة للاغراض يقل مِنْهُم الْمُصِيب وَمن يفوز من الاجادة بِنَصِيب بل قد وضح فِي كتاب الله عز وَجل اخْتِلَاف سُلَيْمَان وَدَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي الْفَهم كَمَا مضى وَنَصّ مُوسَى على أَن أَخَاهُ هَارُون أفْصح مِنْهُ لِسَانا فاذا ثَبت جَوَاز الْخَطَأ على الْعلمَاء فِي الْفَهم أَولا ثمَّ فِي التَّعْبِير عَمَّا فَهموا ثَانِيًا وَكَانُوا قد اخْتلفُوا فِي كثير من الْقُرْآن وَالسّنة وَعبر كل مِنْهُم بِعِبَارَة محدثة مبتدعة وَقد رأيناهم متباعدي الْفَهم والاجادة فِي التَّعْبِير عَن الجليات كَالْعلمِ وَالْخَبَر مَعَ جمع الخواطر على تَنْقِيح الْعبارَة فِي الْحُدُود وَحذف الفضلات وَاجْتنَاب الْمجَاز وَقصد صِحَة الْجمع لأوصاف الْمَحْدُود وَالْمَنْع من دُخُول غَيره فِيهِ والعناية التَّامَّة فِي تَحْرِير الْحَد على جَمِيع شَرَائِطه الْمَعْرُوفَة والحذر من قدح الاذكياء فِيهِ بِأَدْنَى أَمر يلمحه فطنهم الوقادة وقرائحهم النقادة فَمَعَ هَذَا الِاحْتِرَاز الْكثير وَقع الْخلَل الْكَبِير فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 تَعْرِيف كثير من الجليات الَّتِي هِيَ أفعالنا كالخبر أَو صفاتنا الوجدانية كَالْعلمِ والوجود فَكيف إِذا وَقع التَّعْبِير عَن محارات الْعُقُول ومواقفها من أَحْكَام الْقدَم وَالْقَدِيم سُبْحَانَهُ ونعوت جَلَاله الاكبر الاعز الاعظم وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بِهِ من الاسماء والاحكام ثمَّ سَائِر دقائق الْجَوَاهِر والاعراض وغوامض علم الْكَلَام وَمَا لم تعرف الْعُقُول مِنْهُ إِلَّا مُجَرّد الْعبارَات الرائعة والاشارات الغامضة فِي أسرار الاقدار وَالْحكم الْخفية وَتَأْويل المتشابهات الَّتِي تفرد الرب سُبْحَانَهُ بعلمها على الصَّحِيح وَالْجمع بَين المتعارضات والخوض فِي الممنوعات مثل كَلَامهم فِي الرّوح مَعَ توقف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ ونزول الْقُرْآن بِمَا يَقْتَضِي الْكَفّ عَنهُ ورعا وأدبا وحياء من الله وَرَسُوله حَتَّى تجاسروا على تَأْوِيل الرّوح بِغَيْر دَلِيل ومنتهى الامر أَن مَا قَالُوهُ مُحْتَمل فمجرد الِاحْتِمَال لَا يُبِيح الْمَمْنُوع من غير يَقِين مَعَ التساهل وَعدم الِاحْتِرَاز الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْحُدُود وَمَعَ اعْتِمَاد الْمجَاز والاستعارات والتورية والاشارات فِي كثير من الْمَوَاضِع على أَن الله تَعَالَى قد حكى فِي كِتَابه من زجر الْمَلَائِكَة عَن الْخَوْض فِي بعض ذَلِك مَا كَانَ فِيهِ كِفَايَة وعبرة حَيْثُ تعرضوا عَلَيْهِم السَّلَام لمعْرِفَة سر الْقدر فِي أَمر وَاحِد وَهُوَ خلق آدم وَذريته بقَوْلهمْ للْملك الْعَزِيز الْعَلِيم الْحَكِيم {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك} فقوبلوا من الْخطاب بِمَا لم يكن لَهُم فِي حِسَاب حَتَّى قيل لَهُم {إِن كُنْتُم صَادِقين} فِيمَا خاطبهم بِهِ رب الْعَالمين وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا لآدَم ساجدين وَكَانَ إِبْلِيس بِسَبَب تكبره عَن ذَلِك من الْكَافرين وَهَذَا كُله بِسَبَب خوضهم فِي السِّرّ الْمَمْنُوع والامر المحجوب وَكَذَلِكَ مُوسَى الكليم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَهُوَ المقرب نجيا والوجيه عِنْد الله نصا جليا لما تعرض لما لَيْسَ من شَأْنه من علم السِّرّ الَّذِي هُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه نزل إِلَى مقَام السَّائِل المحروم والمخطئ المكظوم وَقطع على خطا الْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي مَوضِع كَانَ يجب عَلَيْهِ الْقطع فِيهِ بتصويبه لما تقدم من أَخْبَار الله تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهُ أعلم مِنْهُ وسؤاله لقاءه وإجابته دَعوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وتبليغه بِفضل الله إِلَى ذَلِك كل ذَلِك لما تعرض لسر التَّأْوِيل وَفِي مثل ذَلِك قيل (وَإِن مقَاما حَار فِيهِ كليمه ... وَلم يسْتَطع صبرا لخير العوالم) (جدير بتحقيق عَظِيم وريبة ... من الْوَهم عِنْد الْجَزْم من كل عَالم) وَفِي الْبَيْت الثَّانِي تَنْبِيه للمتكلمين وَغَيرهم على مَا لم يزل الاكابر يقعون فِيهِ من دَعْوَى الْقطع واعتقاده من غير تَحْقِيق فان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَوْلَا اعْتقد الْقطع بخطإ الْخضر مَا أنكر عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قطع كثير من عُلَمَاء الْكَلَام على صِحَة أدلتهم الْمُوجبَة لتأويل كَلَام علام الغيوب بل هم دون الكليم المقرب الْوَجِيه الْمَعْصُوم بمسافات لَا تدركها الخواطر وَنسبَة علم الله تَعَالَى إِلَى علم جَمِيع الْعَالمين كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح مثل مَا أَخذه الطَّائِر من الْبَحْر الزاخر وَمَا أحسن أدب الْبونِي فِي قَوْله علم الْخَلَائق فِي علم الله مثل لَا شَيْء فِي جنب مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَالْقَصْد أَن من عرف مِنْهُ الْخَطَأ فِي الجليات فَكيف يكون حَاله مَتى خَاضَ فِي هَذِه الخفيات وَترك عِبَارَات الْحق الَّذِي نَص على أَنَّهَا لَا تبدل كَلِمَاته وانه لَا معقب لحكمه وان كِتَابه لَو كَانَ من عِنْد غَيره لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا وانه نور وشفاء وَهدى لَا ريب فِيهِ فَكيف تتْرك عِبَارَات هَذَا المعجز الباهر وتبدل بعبارات من لَا عصمَة لَهُ عَن الْخَطَأ بل عَن القبائح وَالْكفْر أعاذنا الله تَعَالَى مِنْهُ وَلَقَد تفاحش جهل أَتبَاع الْمُتَكَلِّمين ومقلديهم وغلوا فِي الدَّعَاوَى غلوا لم يسبقهم اليه غلاة قدمائهم وسباق كبرائهم فَهَذَا أَبُو الْقَاسِم الْبَلْخِي الكعبي إِمَام الْمُعْتَزلَة يَقُول فِي حق الْعَامَّة هَنِيئًا لَهُم السَّلامَة هَنِيئًا لَهُم السَّلامَة ذكره فِي كِتَابه المقالات وَقد عد الْعَامَّة فرقة وحدهم فَأصَاب وصنف مُحَمَّد بن مَنْصُور كتاب الْجُمْلَة والألفة فِي النَّهْي عَن تَكْفِير الْمُخْتَلِفين فِي أصُول الدّين وَهُوَ إِمَام التَّشَيُّع للعترة وَحَتَّى أَقْوَالهم وأفعالهم عَلَيْهِم السَّلَام على ذَلِك وَأَنه مَذْهَب من أدْرك من الْمُعْتَزلَة كالجعفرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَطول فِي ذَلِك ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي فِي آخر الْجُزْء السَّادِس وَهَذَا الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد المعتزلي مَعَ توغله فِي علم الْكَلَام يَقُول (تاه الانام بأسرهم ... فاليوم صاحي الْقَوْم عربد) (وَالله مَا مُوسَى وَلَا ... عِيسَى الْمَسِيح وَلَا مُحَمَّد) (عرفُوا وَلَا جِبْرِيل وَهُوَ إِلَى مَحل الْقُدس يصعد) (من كنه ذاتك غير أَنَّك وَاحِد فِي الذَّات سرمد) (عرفُوا اضافات ونفيا والحقيقة لَيْسَ تُوجد) (فليخسأ الْحُكَمَاء عَن ... حرم لَهُ الاملاك لَهُ سجد) (من أَنْت يَا رسطو وَمن ... أفلاط مثلك يَا مبلد) (وَمن ابْن سينا حَيْثُ قرر مَا هذيت بِهِ وشيد) (هَل أَنْتُم إِلَّا الْفراش ... رأى السراج وَقد توقد) (فَدَنَا فَأحرق نَفسه ... وَلَو اهْتَدَى رشدا لأبعد) وَفِي ذَلِك يَقُول أَيْضا (فِيك يَا أغلوطة الْفِكر ... تاه عَقْلِي وانقضى عمري) (سَافَرت فِيك الْعُقُول فَمَا ... ربحت الا عَنَّا السّفر) (رجعت حسرى وَمَا وقفت ... لَا على عين وَلَا أثر) (فلحى الله الاولى زَعَمُوا ... إِنَّك الْمَعْلُوم بِالنّظرِ) (كذبُوا إِن الَّذِي زَعَمُوا ... خَارج عَن قُوَّة الْبشر) وَله فِي هَذَا الْمَعْنى أَشْيَاء بليغة كَثِيرَة ذكرهَا فِي شرح نهج البلاغة فِي شرح قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام وَقد ذكر عجز الْعُقُول عَن معرفَة ذَات الرب جلّ جَلَاله فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك امْتنع مِنْهَا بهَا واليها حاكمها قَالَ ابْن أبي الْحَدِيد وَهُوَ قَول لم تزل فضلاء الْعُقَلَاء مائلين اليه ومعولين عَلَيْهِ أَو كَمَا قَالَ وَقد استكثرت من كَلَامه على قدر تركي الْبَسِيط فِي هَذَا الْمُخْتَصر لمعارضة أَصْحَابه الْمُعْتَزلَة بِكَلَامِهِ فانهم يعترفون بعلو مرتبته فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فَأَما أهل السّنة وَمن ينْسب إِلَى نصرتهم من الْمُتَكَلِّمين فهم بذلك أشهر وَمِمَّا قَالَه الْفَخر الرَّازِيّ (الْعلم للرحمن جلّ جَلَاله ... وسواه فِي جهلاته يتغمغم) (مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا ... يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم) وَأنْشد الشهرستاني فِي ذَلِك فِي أول كِتَابه نِهَايَة الاقدام فِي علم الْكَلَام (لقد طفت فِي تِلْكَ الْمعَاهد كلهَا ... وسيرت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم) (فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر ... على ذقن أَو قارعا سنّ نادم) وَصرح الْغَزالِيّ بذلك فِي الاحياء وصنف فِيهِ وَلابْن دَقِيق الْعِيد فِيهِ أَبْيَات جَيِّدَة مَعَ علو مرتبته فِي المعقولات والمنقولات واشتهر عَن الْجُنَيْد نفع الله بِهِ على علو مرتبته انه كَانَ يَقُول مَا يعرف الله إِلَّا الله وجود الْغَزالِيّ تَفْسِير ذَلِك فِي مُقَدمَات الْمَقْصد الاسنى وجود ذَلِك أَيْضا الزَّرْكَشِيّ فِي شَرحه جمع الْجَوَامِع للسبكي ودع عَنْك هَؤُلَاءِ كلهم فقد كفانا كتاب الله تَعَالَى حَيْثُ يَقُول سُبْحَانَهُ {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وَلَا أوضح من نَص الْقُرْآن إِذا أجِير من التَّأْوِيل بِغَيْر برهَان وَكَيف نتأول ذَلِك وَهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم وَهُوَ الْمُبين لكتاب الله الْوَاسِطَة المختارة بَين الله وَبَين عباد الله يَقُول فِي هَذَا الْمقَام سُبْحَانَكَ لَا أحصى ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك وَقَالَ فِي حَدِيث آخر تطاع رَبنَا فتشكر وتعصى فتغفر وتجيب الْمُضْطَر وَتكشف الضّر وَلَا يجزى بآلائك أحد وَلَا يبلغ مدحك قَائِل هَذَا وَهُوَ أفْصح وَأعلم من ترْجم عَن ممادح ربه سُبْحَانَهُ وَهُوَ المؤتى فِي ذَلِك لجوامع الْكَلم وحسناها وأنفسها عِنْد الله تَعَالَى وأسناها وَهُوَ الْمُخَاطب بقول الله تَعَالَى {وعلمك} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما) فاعترف عَلَيْهِ السَّلَام بقصور عِبَارَته عَن بُلُوغ المرام فِي هَذَا الْمقَام فَكيف سَائِر الانام (مرام شط مرمي الْوَصْف فِيهِ ... فدون مداه بيد لَا تبيد) فان قيل كَيفَ السَّبِيل إِلَى الْمَنْع من التَّعْبِير بِغَيْر عبارَة الْكتاب وَالسّنة وَقد وَقع التَّعْبِير فِي هَذَا الْكتاب وَغَيره بذلك قُلْنَا لم نمْنَع ذَلِك مُطلقًا إِنَّمَا منعنَا ذَلِك فِي مهمات الدّين الَّتِي وضحت فِيهَا عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة ودلت الادلة على انها منحصرة كَمَا تقدم وَلم تلجيء اليها ضَرُورَة وَلَا اجْتمعت شَرَائِط الْيَقِين فِي مُطَابقَة الْعبارَات عَنْهَا والنكتة فِي ذَلِك منع مَا يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَاف الْمحرم وتمييز مَا يجب قبُوله وَهُوَ عِبَارَات الْقُرْآن وَالسّنة عَمَّا لَا يجب قبُوله على الْجَمِيع وَهُوَ عِبَارَات من لَيْسَ بمعصوم وَلَيْسَ يُخَالف فِي حسن هَذَا الِاخْتِيَار مُمَيّز بعد فهم مَعْنَاهُ وَالْمَقْصُود بِهِ وَقد يجمع بَين عبارَة الْكتاب وَالسّنة وَعبارَة أهل المعقولات إِذا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا جليا لَا يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة وَلَا إِلَى اخْتِلَاف وَلَكِن ليَكُون الْجمع بَينهمَا أظهر فِي وضوح الْمَعْنى وتجليه لاهل الْعُلُوم المعقولات والمنقولات جَمِيعًا وآنس لَهُم حَيْثُ اجْتمعت عباراتهم على معنى متداول مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل المعارف من أَئِمَّة الْفُنُون كلهَا كَمَا نذكرهُ فِي مَسْأَلَة الارادة من التَّعْبِير عَن حِكْمَة الله تَعَالَى فِي الْمُتَشَابه لغَرَض الْعرض تَارَة وبالمراد الأول تَارَة وبالخير الْمَحْض تَارَة وبالغايات الحميدة تَارَة وَتَأْويل الْمُتَشَابه والداعي وَالْحكمَة وداعي الْحِكْمَة وأمثال ذَلِك وَالله الْهَادِي فَهَذَا الْكَلَام انسحب على من التهى عَن ترك عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وَتَوَلَّى من لم يعْصم للتعبير عَنْهُمَا وَمَا يجر ذَلِك من الْخَطَأ وتوسيع دَائِرَة الِاخْتِلَاف الْمحرم وان ذَلِك أدّى إِلَى غموض الْحق وخفائه وَزَاد الْحق غموضا وخفاء أَمْرَانِ أَحدهمَا خوف العارفين مَعَ قلتهم من عُلَمَاء السوء وسلاطين الْجور وشياطين الْخلق مَعَ جَوَاز التقية عِنْد ذَلِك بِنَصّ الْقُرْآن واجماع أهل الاسلام وَمَا زَالَ الْخَوْف مَانِعا من اظهار الْحق وَلَا برح المحق عدوا لاكثر الْخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَقد صَحَّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي ذَلِك الْعَصْر الأول حفظت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاءين أما أَحدهمَا فبثثته فِي النَّاس وَأما الآخر فَلَو أبثه لقطع هَذَا البلعوم وَمَا زَالَ الْأَمر فِي ذَلِك يتفاحش وَقد صرح الْغَزالِيّ بذلك فِي خطْبَة الْمَقْصد الاسنى ولوح بمخالفته أَصْحَابه فِيهَا كَمَا صرح بذلك فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم فَأثْبت حِكْمَة الله وَرَحمته وجود الْكَلَام فِي ذَلِك وَظن أَنهم لَا يفهمون الْمُخَالفَة لَان شرح هذَيْن الاسمين لَيْسَ هُوَ مَوضِع هَذِه الْمَسْأَلَة وَلذَلِك طوى ذَلِك وَاضْرِبْ عَنهُ فِي مَوْضِعه وَهُوَ اسْم الضار كَمَا يعرف ذَلِك أذكياء النظار وَأَشَارَ إِلَى التقية الْجُوَيْنِيّ فِي مُقَدمَات الْبُرْهَان فِي مَسْأَلَة قدم الْقُرْآن والرازي فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالاربعين فِي أصُول الدّين فِي الْكَلَام على تَأْثِير الْوَصْف العدمي فِي دَلِيل الاكوان وَصرح بالمخالفة فِي ذَلِك فِي الْمَحْصُول فِي بَاب الْقيَاس لأَنهم يتسامحون فِي الْمُخَالفَة فِي الاصول الْفِقْهِيَّة دون الاصول الدِّينِيَّة وتراه يُشِير فِي نِهَايَة الْعُقُول الاشارة الْخفية الى مخالفتهم كَمَا صنع فِي دَلِيل الاكوان بعد الِاحْتِجَاج فِي تماثيل الاجسام على ان الجسمية أَمر مُشْتَرك حَيْثُ قَالَ وَفِي هَذَا الْكَلَام نظر لم يزدْ على هَذَا وَقد أَشَارَ الى انه رَاجع الى أَن مَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ يجب نَفْيه وَقد بَالغ فِي بُطْلَانه كَمَا أوضحته فِي العواصم وَقد طول فِي مُقَدمَات النِّهَايَة فِي ابطال هَذِه الطَّرِيقَة فَتَأمل أَمْثَال ذَلِك مِنْهُ وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ بَاب كَيفَ يقبض الْعلم وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي بكر بن حزم انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكتبه فانى أَخَاف دروس الْعلم وَذَهَاب الْعلمَاء وَلَا يقبل إِلَّا حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وليفشوا الْعلم وليجلسوا حَتَّى يعلم من لَا يعلم فان الْعلم لَا يهْلك حَتَّى يكون سرا وَأورد فِيهِ حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا ان الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من الْعباد وَإِنَّمَا يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا قَالَ ابْن بطال معنى قَوْله ان الله لَا ينتزع الْعلم من الْعباد انه لَا يهب لَهُم الْعلم ثمَّ ينتزعه بعد أَن تفضل بِهِ عَلَيْهِم وانه يتعالى عَن ان يسترجع مَا وهب لَهُم من علمه الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى مَعْرفَته والايمان بِهِ وانما يكون قبض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الْعلم بتضييع الْعلم فَلَا يُوجد فِيمَن يبْقى من يخلف من مضى وَقد أنذر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِنَقص الْخَيْر كُله وَمَا ينْطق عَن الْهوى وَثَانِيهمَا الِاعْتِمَاد على الْكِتَابَة فِي حفظ الْعلم فانه أدّى إِلَى كتم أهل الْعلم لكثير من مصونه فِي أول الْأَمر ثمَّ لمهمات الدّين فِي آخِره وَكَانَ الْعلم فِي أول الْأَمر يبْذل من أَهله لأَهله مشافهة وَلَو سرا وَذَلِكَ النَّقْص وَهُوَ مَحْفُوظ فِي الصُّدُور غير مبذول لأهل الشرور فِي السطور فَلَمَّا قل الْحِفْظ وَطَالَ الْأَمر وَكتب ليحفظ وتعذرت الصيانة وَخيف الْعدوان من أَعدَاء أهل الايمان كتم بَعضهم فَلم يظْهر علمه فازداد النَّقْص واتقي بَعضهم فَتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفًا على نَفسه ورمز بَعضهم فغلط عَلَيْهِ فِيمَا قَصده فِي رمزه فتفاحش الْجَهْل وَقد أوضحت كَثْرَة الْغَلَط فِيمَا أُرِيد بَيَانه كَيفَ لَا فِيمَا أُرِيد كِتْمَانه وَمَا لَا يجوز تَفْسِيره إِلَّا لمن علم من صَاحبه مُرَاده بِالنَّصِّ فَلَمَّا كثرت أَسبَاب غموض الْحق وَجب الرُّجُوع فِي أَصله الَّذِي ضمن الله حفظه حَيْثُ قَالَ {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وان يَبْتَغِي من حَيْثُ ابتغاه خَلِيل الله عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} كَمَا نَص على ذَلِك معَاذ رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ وَأوصى بِهِ عِنْد مَوته كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ معافى المناقب وَالْحَاكِم فِي الْفِتَن من الْمُسْتَدْرك وَصَححهُ على شَرط مُسلم وَهَذَا لَفظه مُخْتَصرا عَن زيد بن عُمَيْر أَنه كَانَ عِنْد معَاذ حِين احْتضرَ فَكَانَ يغشي عَلَيْهِ ثمَّ يفِيق حَتَّى غشي عَلَيْهِ غشية ظننا انه قد قبض فِيهَا ثمَّ أَفَاق وَأَنا مُقَابِله أبكى فَقَالَ مَا يبكيك قلت أبْكِي على الْعلم والحلم الَّذِي أسمع مِنْك يذهب قَالَ فَلَا تبك فان الْعلم والايمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فابتغه حَيْثُ ابتغاه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فانه سَأَلَ الله وَهُوَ لَا يعلم وتلا {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} أه وَنَحْو ذَلِك مَا وهب الله من الْيَقِين والفوز الْعَظِيم لأهل الْكَهْف وَكَذَلِكَ السَّحَرَة الَّذين آمنُوا بمُوسَى من غير طول نظر وَقد غلل الله قبُول النَّصَارَى للحق بَان مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فَمن أَرَادَ احياء هَذِه السّنة واتباعها خلع قيود عصبيات الْمذَاهب ورسوم عوائدهم وَترك التَّقْلِيد فِي تَكْفِير الْخُصُوم وَترك جَمِيع الْعبارَات المبتدعة وأخلص لله والتجأ اليه وتضرع وتورع وتذلل وتواضع واستأنف طلب الْعلم النافع من الله بِوَاسِطَة أهل الْوَرع والتواضع والانصاف من عُلَمَاء الطوائف كلهَا وَلم يقلدهم فِي دعاوي التَّفْسِير لكتاب الله تَعَالَى وصحيح السّنة حَيْثُ يَخْتَلِفُونَ حَتَّى ينظر بتفهم وانصاف أَيهمْ أقوى دَلِيلا وأوضح سَبِيلا مُؤمنا بِاللَّه موقنا بمعونته وهدايته وَصدق وعده حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} وَحَيْثُ قَالَ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أَتَانِي يمشي أَتَيْته أسعى وَمن تقرب إِلَيّ شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا وَمن تقرب إِلَيّ ذِرَاعا تقربت اليه باعا فاذا علمنَا على ذَلِك لوجه الله وتعاونا عَلَيْهِ لله وَبِاللَّهِ نَظرنَا فِي نُصُوص كتاب الله وصحيح سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان وضح الْحق من غير دقة وغموض وَلَا تعَارض بَين النُّصُوص وَلم يجب التَّأْوِيل بامر بَين جلي مَأْمُون الْخطر باجماع أَو ضَرُورَة فَلَا معدل عَن كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وان وَقع التَّعَارُض الْمُحَقق وسعنا الْوَقْف فِي ذَلِك ووكلنا علمه إِلَى الله تَعَالَى امتثالا لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وان كَانَ التَّعَارُض غير مُحَقّق وانما هُوَ اخْتِلَاف يُمكن فِيهِ الْجمع جرينا على الْقَوَاعِد الصَّحِيحَة الْمجمع عَلَيْهَا فِي الْجمع بَين المختلفات وَتَركنَا من حاد عَنْهَا بالمعاذير الْخفية وَهَذِه الْقَوَاعِد هِيَ مثل تَقْدِيم النَّص على الظَّاهِر الْمُحْتَمل وَالْخَاص على الْعَام والمبين على الْمُجْمل والمعلوم على المظنون والمتواتر على الْآحَاد والناسخ على الْمَنْسُوخ وَالْمَشْهُور على الْغَرِيب وَالصَّحِيح على الضَّعِيف والمتفق على صِحَّته على الْمُخْتَلف فِي صِحَّته وَكَلَام أَئِمَّة كل فن على من خالفهم مِمَّن لَا يعرف ذَلِك الْفَنّ أَو يعرف مِنْهُ الْيَسِير وَلَا يعرف مَا عرفوه فان الْأَمر فِي ذَلِك كَمَا قيل لَيْسَ الْعَارِف كالبارع فِي الْمعرفَة وشتان مَا بَين لَيْلَة الْمزْدَلِفَة وَلَيْلَة عَرَفَة وَكَذَلِكَ نرْجِع فِي شُرُوط ذَلِك كُله إِلَى الْأَدِلَّة المقبولة فان قيل لابد من تَفْسِير الْكتاب وَالسّنة بِغَيْر الفاظهما وَقد منعتم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الْعبارَات المبتدعة قُلْنَا لم نمْنَع من ذَلِك مُطلقًا إِنَّمَا منعنَا مِنْهُ حَيْثُ يضر ويستغني عَنهُ بعبارات الْكتاب وَالسّنة الجليلة الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى تَفْسِير كَمَا تقدم وَأما التَّفْسِير فَمَا كَانَ من المعلومات بِالضَّرُورَةِ من أَرْكَان الاسلام واسماء الله تَعَالَى منعنَا تَفْسِيره لِأَنَّهُ جلي صَحِيح الْمَعْنى وَإِنَّمَا يفسره من يُرِيد تحريفه كالباطنية الْمَلَاحِدَة وَمَا لم يكن مَعْلُوما ودخلته الدقة والغموض فان دخله بعد ذَلِك الْخطر وَخَوف الاثم فِي الْخَطَأ مِمَّا يتَعَلَّق بالعقائد تركنَا الْعبارَات المبتدعة وسلكنا طَرِيق الْوَقْف وَالِاحْتِيَاط إِذْ لَا عمل يُوجب معرفَة مَعْنَاهُ الْمعِين وان لم يدْخل فِيهِ الْخطر عَملنَا فِيهِ بِالظَّنِّ الْمُعْتَبر الْمجمع على وجوب الْعلم بِهِ أَو جَوَازه وَالله الْهَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فصل فِي الارشاد إِلَى طَرِيق الْمعرفَة لصحيح التَّفْسِير وَأَصَح التفاسير عِنْد الِاخْتِلَاف بطرِيق وَاضح لَا يشك أهل الانصاف فِي حسن التَّنْبِيه عَلَيْهِ والاشاد اليه اعْلَم ان كتاب الله تَعَالَى لما كَانَ مفزع الطَّالِب للحق بعد الايمان وَكَانَ مَحْفُوظًا كَمَا وعد بِهِ الرَّحْمَن وَدخل الشَّيْطَان على كثير من طَرِيق تَفْسِيره وَعدم الْفرق بَين التَّفْسِير والتحريف والتأويل والتبديل وَلَو كَانَ لكل مُبْتَدع ان يحملهُ على مَا يُوَافق هَوَاهُ بَطل كَونه فرقا بَين الْحق وَالْبَاطِل وَقد ثَبت انه يقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فاذا هُوَ زاهق وَهَذَا لَا يتم إِلَّا بحراسته من دعاوى المبطلين فِي تصرفاتهم واحتيالهم على التشويش فِيهِ وَلبس صوادعه وقواطعه بخوافيه وَهَذِه هَذِه فليهتم الْمُعظم لَهُ بمعرفتها ويتأملها حق التَّأَمُّل ويتعرف على أَسبَابهَا مِمَّن قد مارسها وَقد أوضحتها فِيمَا تقدم من هَذَا الْمُخْتَصر وَذكرت الصُّور الابع الَّتِي يغلط فِيهَا كثير من الْمُتَكَلِّمين فِي اعْتِقَاد وجوب التَّأْوِيل بِسَبَبِهَا أَو بَعْضهَا فتأملها وجود النّظر فِي ذَلِك الْفَصْل الَّذِي ذكرتها فِيهِ فاذا عرفت ذَلِك فَلَا غنى عَن معرفَة مَرَاتِب الْمُفَسّرين حَيْثُ يكون التَّفْسِير رَاجعا إِلَى الرِّوَايَة ثمَّ مَرَاتِب التَّفْسِير حَيْثُ يكون التَّفْسِير رَاجعا إِلَى الدِّرَايَة أما مَرَاتِب الْمُفَسّرين فَخَيرهمْ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لما ثَبت من الثَّنَاء عَلَيْهِم فِي الْكتاب وَالسّنة ولان الْقُرْآن أنزل على لغتهم فالغلط أبعد عَنْهُم من غَيرهم ولانهم سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله عَمَّا أشكل عَلَيْهِم وَأَكْثَرهم تَفْسِيرا حبر الامة وبحرها عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَقد جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عَنهُ تَفْسِير كَامِل وَلم يتَّفق مثل ذَلِك لغيره من الصَّدْر الأول الَّذين عَلَيْهِم فِي مثل ذَلِك الْمعول وَمَتى صَحَّ الاسناد اليه كَانَ تَفْسِيره من أصح التفاسير مقدما على كثير من الائمة الجماهير وَذَلِكَ لوجوه أَولهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله دَعَا لَهُ بالفقه فِي الدّين وَتَعْلِيم التَّأْوِيل أَي التَّفْسِير كَمَا تقدم تَقْرِيره فِي الْكَلَام على الْمُتَشَابه وَصَحَّ ذَلِك واشتهر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَله طرق فِي مجمع الزَّوَائِد وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مَسْعُود فِي أَطْرَافه انه مِمَّا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم بِكَمَالِهِ وَفِيهِمَا من غير طَرِيق أبي مَسْعُود عِنْد سَائِر الروَاة اللَّهُمَّ علمه الْكتاب وَالْحكمَة وَفِي رِوَايَة اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ أَنه رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مرَّتَيْنِ ودعا لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحكمة مرَّتَيْنِ وَيَنْبَغِي معرفَة سَائِر مناقبه مَعَ ذَلِك فِي موَاضعهَا وَلَوْلَا خوف الاطالة لذكرتها وَثَانِيها أَن الصَّحَابَة اتَّفقُوا على تَعْظِيمه فِي الْعلم عُمُوما وَفِي التَّفْسِير خُصُوصا وسموه الْبَحْر والحبر وشاع ذَلِك فيهم من غير نَكِير وَظَهَرت إِجَابَة الدعْوَة النَّبَوِيَّة فِيهِ وقصة عمر مَعَه رَضِي الله عَنْهُمَا مَشْهُورَة فِي سَبَب تَقْدِيمه وتفضيله على من هُوَ أكبر مِنْهُ من الصَّحَابَة وامتحانه فِي ذَلِك وثالثهما كَونه من أهل بَيت النُّبُوَّة ومعدن الرسَالَة وَسَتَأْتِي الاشارة إِلَى مناقبهم الغزيرة فِي آخر الْمُخْتَصر فَيكون الْمُعظم لَهُ والموفى لَهُ حَقه فِي ذَلِك قد قَامَ بِحَق الثقلَيْن وَعمل بِالْوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّة فيهمَا ورابعهما أَنه ثَبت عَنهُ إِن كَانَ لَا يَسْتَحِيل التَّأْوِيل بِالرَّأْيِ روى عَنهُ أَنه قَالَ من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَفِي رِوَايَة بِغَيْر علم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْعلم وَالنَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن وَالتِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير وَقَالَ حَدِيث حسن وَشَرطه فِيمَا قَالَ فِيهِ حَدِيث حسن ان يَأْتِي من غير طَرِيق وخامسها أَن الطّرق اليه مَحْفُوظَة مُتَّصِلَة غير مُنْقَطِعَة فصح مِنْهَا تَفْسِير نَافِع ممتع وَلذَلِك خصصته بِالذكر وَإِن كَانَ غَيره أكبر مِنْهُ وأقدم وَأعلم وَأفضل مثل عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام من جنسه وَأَهله وَغَيره من أكَابِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَكِن ثُبُوت التَّفْسِير عَنْهُم قَلِيل بِالنّظرِ اليه رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ثمَّ الْمرتبَة الثَّانِيَة من الْمُفَسّرين التابعون وَمن أشهر ثقاتهم المصنفين فِي التَّفْسِير مُجَاهِد بن جبر الْمَكِّيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة بن دعامة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَزيد بن أسلم وَكلهمْ مخرج عَنْهُم الحَدِيث فِي دواوين الاسلام السِّتَّة وَغَيرهَا والاسانيد اليهم بتفاسيرهم مُتَّصِلَة كَمَا ذكره الْبَغَوِيّ فِي أول تَفْسِيره وَغَيره وَقد نقم على بَعضهم أَشْيَاء سهلة لَكِن يَنْبَغِي التيقظ لَهَا عِنْد التَّعَارُض وَالِاخْتِلَاف فان مثلهَا يُؤثر فِي التَّرْجِيح فَينْظر تراجمهم فِي تذكرة الذَّهَبِيّ وميزانه وأبسط مِنْهُمَا تَهْذِيب شَيْخه الْمزي وَكتابه النبلاء وأمثالها من كتب الرِّجَال وتواريخ عُلَمَاء الاسلام وَيلْحق بهؤلاء عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس وَهُوَ دونهم لوُقُوع الْخلاف فِيهِ فان الْخلاف فِيهِ كثير بَين الصَّدْر الأول لَكِن أَكْثَره رَاجع إِلَى اعْتِقَاده لِأَنَّهُ كَانَ ينْسب إِلَى رَأْي الْخَوَارِج فَيكون على مَا يدل على مَذْهَب الْخَوَارِج أَضْعَف وَقد صنف جمَاعَة فِي الذب عَنهُ وجود ابْن حجر فِي ذَلِك فِي مُقَدّمَة شرح البُخَارِيّ لِأَن البُخَارِيّ احْتج بِهِ وَأهل السّنَن وَالْأَكْثَرُونَ وتجنبه الامام مَالك وَمُسلم فِي صَحِيحه ثمَّ بعده مقَاتل بن حَيَّان وَمُحَمّد بن زيد مهَاجر احْتج بهما مُسلم وَأهل السّنَن دون البُخَارِيّ وَتكلم فيهمَا بَعضهم بِغَيْر حجَّة بَيِّنَة ثمَّ عَليّ بن أبي طَلْحَة وَهُوَ قريب مِنْهُ احْتج بِهِ مُسلم وَأهل السّنَن لَكِن قَالَ أَحْمد لَهُ أَشْيَاء مُنكرَات وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس تَفْسِيرا كثيرا ممتعا وَالصَّحِيح عِنْدهم أَن رِوَايَته عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس وَإِن كَانَ يرسلها عَن ابْن عَبَّاس فمجاهد ثِقَة يقبل وَقد يعضد تَفْسِيره وَتَفْسِير أَمْثَاله بمفهومات من الْقُرْآن مثل تَفْسِيره لتقدير يَوْم الْقِيَامَة بِخَمْسِينَ الف سنة عَن ابْن عَبَّاس أَنه فِي حق الْكَافِر وَذَلِكَ يعتضد بقوله تَعَالَى {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {على الْكَافرين غير يسير} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وبأحاديث مَرْفُوعَة فِي ذَلِك مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ من طَرِيق ابْن ابي لَهِيعَة عَن أبي السَّمْح عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد وَمِنْهَا مَا يَأْتِي الْآن فِي النَّوْع الثَّالِث من مَرَاتِب التَّفْسِير ثمَّ السّديّ الْكَبِير يرْوى عَن ابْن عَبَّاس وطبقته بعد هَؤُلَاءِ وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ وَهُوَ اسماعيل بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي الْكُوفِي وَحَدِيثه عِنْد مُسلم وَأهل السّنَن الْأَرْبَعَة وَهُوَ تَابِعِيّ شيعي وَرُبمَا كَانَ الْكَلَام فِيهِ لمذهبه عِنْد من يُخَالِفهُ وَأما السّديّ الصَّغِير مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن الاعمش فواه جدا وَمِنْهُم مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الانباري أحد مَشَايِخ أبي دَاوُد ورواة سنَنه وَمِنْهُم عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أبي سعيد فِيهِ ضعف وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان واهيان لَا سِيمَا مقَاتل بن سُلَيْمَان فقد كذبه غير وَاحِد وَلم يوثقه أحد واشتهر عَنهُ التجسيم والتشبيه وَلذَلِك لم يرو عَنهُ من أهل الْكتب السِّتَّة إِلَّا النَّسَائِيّ قَالَ كَانَ لَا يكذب يَعْنِي لَا يتَعَمَّد الْكَذِب وَأثْنى عَلَيْهِ بَعضهم بِمَعْرِِفَة التَّفْسِير وَأما الْكَلْبِيّ فروى عَنهُ التِّرْمِذِيّ وَحده وَلم يوثقه أحد وَكَذَلِكَ تنبغي معرفَة من جرح وَكذب من متأخري الْمُفَسّرين مثل أبي بكر مُحَمَّد بن الْحسن النقاش توفّي عَام 351 وَإِنَّمَا سقت لَك ذكرهم لما قيل أَن الْمُفَسّرين أَكْثرُوا من حِكَايَة الاقوال الْمُخْتَلفَة وَالْحق يضيع بَين قَوْلَيْنِ فَصَاعِدا فأرشدت إِلَى طرف من التَّرْجِيح عِنْد الِاخْتِلَاف وَبَقِيَّة الْمُفَسّرين مذكورون فِي كتب الرِّجَال وَلَكِن الْمدَار على من ذكرت فِي الْأَكْثَر فَهَذِهِ مَرَاتِب الْمُفَسّرين فِيمَا يرجع من التَّفْسِير إِلَى الرِّوَايَة وَأما مَرَاتِب التَّفْسِير فِيمَا يرجع مِنْهُ إِلَى الدِّرَايَة فَهِيَ ترجع إِلَى سَبْعَة أَنْوَاع النَّوْع الأول تَفْسِير المتكررات تكريرا كثيرا مثل آيَات الاسماء الربانية وَالصِّفَات والمشيئة والاسماء الْمَعْرُوفَة بالدينية وَهِي الاسلام وَالْإِيمَان والاحسان والمسلمون والمؤمنون والمحسنون وَكَذَلِكَ أَسمَاء الظَّالِمين والفاسقين والكافرين وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بالاعتقاد وَيحْتَاج إِلَى مزِيد بحث وانتقاد مِمَّا تورد فِيهِ الادلة والشبه والورود والمعارضات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وَهَذَا الْقسم يَنْبَغِي أَن يكون مُفردا فِي مُقَدمَات التَّفْسِير حَتَّى يشْبع فِيهِ الْكَلَام من غير تَكْرِير أَو يُؤْخَذ من مظانه من كتب الِاعْتِقَاد على الصّفة الَّتِي أَشرت اليها فِي أول هَذَا الْمُخْتَصر فِي الانصاف وَمَعْرِفَة أَدِلَّة الْجَمِيع وَفِي هَذَا الْمُخْتَصر من ذَلِك كِفَايَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمَا هُوَ إِلَّا كالمقدمة للتفسير فان اشْتبهَ الصَّوَاب على أحد فِي هَذَا الْقسم أَو خَافَ وُقُوع فتْنَة من الْخَوْض فِيهِ والبحث عَنهُ والمناظرة ترك ذَلِك وَكَفاهُ الايمان الْجملِي لما ثَبت فِي حَدِيث جُنْدُب بن عبد الله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (اقرأوا الْقُرْآن مَا أتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ فاذا اختلفتم فَقومُوا عَنهُ) رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا وَله شَوَاهِد قدر خَمْسَة عشر حَدِيثا وَالْمرَاد الِاخْتِلَاف مَعَ التعادي والتفرق كَمَا هُوَ عَادَة أهل الْكَلَام دون الِاخْتِلَاف مَعَ التوالي والتصويب كَمَا هُوَ عَادَة الْفُقَهَاء وَسَائِر أهل الْعُلُوم وَذَلِكَ لما فِي حَدِيث عمر مَعَ هِشَام ابْن حَكِيم فِي اخْتِلَافهمَا فِي الْقِرَاءَة وَتَقْرِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما على الِاخْتِلَاف فِي الْقِرَاءَة ونهيهما عَن الِاخْتِلَاف فِي التخطئة والمناكرة خرجه الْجَمَاعَة وَهُوَ متواتر أَو مَشْهُور عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث فقد رَوَاهُ ثَمَانِيَة عشر صحابيا وَمَا تقدم من حَدِيث جُنْدُب وشواهده مِمَّا هُوَ زِيَادَة بَيَان بعد قَوْله تَعَالَى {وَلَا تفَرقُوا} وأمثالها وَهِي كَافِيَة شافية مغنية عَن الاحاديث لَكِن فِي اجْتِمَاع الْكتاب وَالسّنة قُرَّة عُيُون الْمُؤمنِينَ وطمأنينة قُلُوب الموقنين وَفِي البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن ابْن مَسْعُود نَحوه وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي وصنف فِيهِ كتاب الْجُمْلَة والالفة وَذكره عَن الكبراء من عُلَمَاء العترة وَغَيرهم وَأنكر على أهل الْكَلَام مَا اختصوا بِهِ من التعادي عِنْد الِاخْتِلَاف فِي الدقائق الْخفية وَهَذَا عَارض هُنَا وَلَيْسَ هُوَ مَوْضِعه النَّوْع الثَّانِي تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ حَيْثُ يتَكَرَّر فِي كتاب الله تَعَالَى ذكر الشَّيْء وَيكون بعض الْآيَات أَكثر بَيَانا وتفصيلا وَقد جمع من هَذَا الْقَبِيل تَفْسِير مُفْرد ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة وَلم اقف عَلَيْهِ وَقد يذكر الْمُفَسِّرُونَ مِنْهُ أَشْيَاء مُتَفَرِّقَة فَمِنْهُ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْمُؤمن {وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بِأَنَّهُ الْعَذَاب الْأَدْنَى الْمُعَجل فِي الدُّنْيَا لقَوْله سُبْحَانَهُ فِي آخر هَذِه السُّورَة {فإمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فإلينا يرجعُونَ} وَقد تكَرر هَذَا فِي كتاب الله تَعَالَى وَمِنْه تَفْسِير {فصل لِرَبِّك وانحر} بقوله تَعَالَى {إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي} وَنَحْو ذَلِك وَمِنْه تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلًا عَظِيما} بِأَهْل الْكتاب كَقَوْل مُجَاهِد لقَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يشْتَرونَ الضَّلَالَة ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل} ويقويه ان عصاة الْمُسلمين لَا يُرِيدُونَ فجور صالحيهم وَالْآيَة وَردت بضمير الْغَائِب فِي المريدين وَضمير الْخطاب فِي المائلين فقوى ذَلِك وَمِنْه تَفْسِير {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} بقوله {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} فَقَوله فِيهَا وَيَعْفُو عَن كثير مُخَصص لعُمُوم من يعْمل سوءا يجز بِهِ ومقيد لاطلاقها كَأَنَّهُ قَالَ الا أَن يعْفُو بِدَلِيل هَذِه الْآيَة مثل مَا انها مخصصة بآيَات التَّوْبَة فانه مُقَدّر فِيهَا إِلَّا أَن يتوبوا بالاجماع وبالنصوص فِي التائبين وَهَذِه الْآيَة دَالَّة على اشْتِرَاط عدم الْعَفو وعَلى اعْتِبَار مصائب الدُّنْيَا فِي عَذَاب الْمُسلمين ووعيدهم كَمَا دلّ على ذَلِك حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي تَفْسِيرهَا وَحَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فِي تَفْسِير {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} وَلذَلِك طرق شَتَّى وَفِيه أَحَادِيث كَثِيرَة مجمع على مَعْنَاهَا وَأَحَادِيث الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو وطرقه صَحِيحَة كَثِيرَة كَمَا يَأْتِي فِي مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد وَمِنْه حمل الْمُطلق على الْمُقَيد وَالْعَام على الْخَاص كنفي الْخلَّة والشفاعة فِي آيَة مُطلقًا وَقد اسْتثْنى الله الْمُتَّقِينَ من نفي الْخلَّة فِي قَوْله تَعَالَى {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ) وَاسْتثنى مَا أذن فِيهِ من الشَّفَاعَة بقوله فِي آيَة {من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى} وَمِنْه الْجمع بَين مَا يتَوَهَّم أَنه مُخْتَلف كخلق بني آدم من تُرَاب كَمَا فِي الْكَهْف وَمن طين فِي غير آيَة وَهُوَ تُرَاب مختلط بِالْمَاءِ فَفِيهِ زِيَادَة على التُّرَاب الْمُطلق وَكَذَلِكَ خلقه من صلصال فانه أخص من الْجَمِيع لِأَنَّهُ طين مَخْصُوص وَمِنْه تَقْدِيم الْمَنْطُوق على الْمَفْهُوم وَأوجب مِنْهُ تَقْدِيم تَفْصِيل القَوْل الْمَنْطُوق على عُمُوم الْمَفْهُوم لِأَن الْخَاص يقدم على الْعَام الْمَنْطُوق فَكيف لَا يقدم على عُمُوم الْمَفْهُوم النَّوْع الثَّالِث التَّفْسِير النَّبَوِيّ وَهُوَ مَقْبُول بِالنَّصِّ والاجماع قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَقَالَ {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَفِي الحَدِيث لَا يَأْتِي رجل مترف متكئ على أريكته يَقُول لَا أعرف إِلَّا هَذَا الْقُرْآن مَا أحله أحللته وَمَا حرمه حرمته إِلَّا واني أُوتيت الْقُرْآن وَمثله مَعَه أَلا وان الله حرم كل ذِي نَاب من السبَاع ومخلب من الطير وَيدل على ذَلِك أَن الاجماع قد انْعَقَد على نسخ وجوب الْوَصِيَّة للوارثين بِحَدِيث لَا وَصِيَّة لوَارث وَهُوَ حَدِيث حسن وَإِذا وَجب قبُول ذَلِك فِي نسخ فَرِيضَة منصوصة فِيهِ فَكيف بِسَائِر الْبَيَان والتخصيص وقبوله فِي نسخ وجوب الْوَصِيَّة اجماع العترة وَالْأمة وَقد اشْتَمَلت على ذَلِك الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد وَجمع بِحَمْد الله تَعَالَى وجمعت مِنْهُ الَّذِي فِي جَامع الاصول وَمجمع الزَّوَائِد ومستدرك الْحَاكِم أبي عبد الله وَيلْحق بذلك أَسبَاب النُّزُول وَقد أفرده الواحدي وَغَيره بالتأليف وَهُوَ مُفِيد جدا لِأَن الْعُمُوم الْوَارِد على سَبَب مُخْتَلف فِي تعديه عَن سَببه وَهُوَ نَص فِي سَببه ظَنِّي فِي غَيره وَقد يقصر عَلَيْهِ بالاجماع كَمَا ثَبت فِي قَوْله تَعَالَى فِي ذمّ الَّذين يفرحون بِمَا أَتَوا عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا نزلت فِي الْيَهُود وفرحهم بِمَا أَتَوا من التَّكْذِيب بِالْحَقِّ فلولا ذَلِك أشكلت وتناولت من فَرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بِمَا عمله من الْخَيْر وَقد صَحَّ أَن الْمُؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته والفرح بِالْخَيرِ وَالطَّاعَة من ضروريات الطباع والعقول وَمِنْه تَفْسِير {والفتنة أَشد من الْقَتْل} سَببهَا وَهُوَ فتْنَة من أسلم حَتَّى يعود إِلَى الشّرك وَلَوْلَا ذَلِك وَقع الْغَلَط الْفَاحِش فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وَمِنْه تَخْصِيص العمومات مثل تَحْرِيم الصَّلَاة على الْحَائِض وَسَائِر مَا فِي السّنَن من أَحْكَام الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وشروط قطع السَّارِق وَنَحْو ذَلِك واستيعابه فِي التفاسير غير مُعْتَاد وَمِنْه تَقْدِيم ذَوي السِّهَام على الْعَصَبَات وَمنع الْكَافِر من مِيرَاث الْمُسلم وَعَكسه واسقاط الْأَقْرَب للأبعد من الْعَصَبَات والاقوى للأضعف وَمِنْه الْجمع بَين آيتي الْكَلَالَة فان الاولى فِي الاخوة من الام والاخرى فِيمَن عداهم وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا غنى عَنهُ ولابد وَلَا خلاف فِيهِ وَمِنْه الزِّيَادَة فِي الْبَيَان كَصَلَاة الْخَوْف وَالْبَغوِيّ مكثر من هَذَا وَهُوَ أَمر مجمع عَلَيْهِ وَدَلِيل على المبتدعة حَيْثُ يمْنَعُونَ من بَيَان السّنة لِلْقُرْآنِ وَمِنْه مَا يتقوى بالشواهد ومفهومات من الْقُرْآن كَحَدِيث أبي سعيد فِي تَخْفيف طول يَوْم الْقِيَامَة على الْمُؤمن كَمَا تقدم الان من رِوَايَة الْبَغَوِيّ وَقد أخرجه أَحْمد وَأَبُو يعلى بِسَنَد الْبَغَوِيّ الْمُقدم وَحسنه الهيثمي لشواهده وَذكر مثله عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وبسندين جَيِّدين وَعَن ابْن عَمْرو أَيْضا باسناد فِيهِ رجل لم يعرف وَقد تقدّمت شواهده من الْقُرْآن النَّوْع الرَّابِع الْآثَار الصحابية الْمَوْقُوفَة عَلَيْهِم وأجودها مَا لَا تمكن مَعْرفَته بِالرَّأْيِ سَوَاء رَجعْنَا بِالرَّأْيِ إِلَى الْعقل أَو إِلَى الاستنباط من اللُّغَة وَقد كَانَت عَادَتهم الاشعار بِالرَّأْيِ فِي ذَلِك وَأَمْثَاله كَمَا ذكره أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ حِين فسر الْكَلَالَة بِرَأْيهِ ذكره الْبَغَوِيّ وَغَيره وَقد ذكر السَّيِّد أَبُو طَالب عَلَيْهِ السَّلَام فِي المجزى ان عَادَتهم الاشعار بِالرَّأْيِ فاذا جزموا بِالتَّحْرِيمِ وَنَحْوه كَانَ دَلِيلا على رَفعه وَكَذَلِكَ ذهب كثير من الْمُفَسّرين إِلَى مثل ذَلِك فِي تفاسيرهم المجزومة لَا سِيمَا من ثَبت عَنهُ تَحْرِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 التَّفْسِير بِالرَّأْيِ كَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَلذَلِك اشْتَمَلت على هَذَا النَّوْع من تفاسيرهم تفاسير أهل السّنة لَكِن يحْتَاج إِلَى معرفَة الاسناد اليهم فِيمَا لم يكن مصححا عَنْهُم فِي دواوين الاسلام الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة وَمن مظان ذَلِك الْمُسْتَدْرك للْحَاكِم فَفِيهِ من ذَلِك الْكثير الطّيب وَقد نقلته بِحَمْد الله مَعَ التَّفْسِير النَّبَوِيّ النَّوْع الْخَامِس مَا يتَعَلَّق باللغة والعربية على جِهَة الْحَقِيقَة فَأَما المتعلقات اللُّغَوِيَّة فَهِيَ جلية وَقد صنف فِيهَا مصنفات مختصرة على جِهَة التَّقْرِيب مثل كتاب العزيزي وَلَيْسَ فِيهِ تَنْقِيح كثير وأوضح مِنْهُ وأخصر كتاب أبي حَيَّان فِي ذَلِك لكنه رُبمَا أهمل بعض مَا يحْتَاج اليه وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك كتب اللُّغَة البسيطة دون مَا يُؤْخَذ من كثير من الْمُفَسّرين كَمَا ذكره أَبُو حَيَّان فِي أول كِتَابه وَنبهَ عَلَيْهِ وَأما الْعَرَبيَّة فقد جود أَبُو حَيَّان فِي ذَلِك وَجمع الَّذِي فِي تَفْسِيره فجَاء كتابا جيدا مُسْتقِلّا وَهُوَ الْمَعْرُوف بالمجيد فِي اعراب الْقُرْآن الْمجِيد وَقد اشْتَمَل على مَا فِي الْكَشَّاف مَعَ زِيَادَة أضعافه وَيَنْبَغِي التَّنْبِيه فِي هَذَا النَّوْع لتقديم الْمَعْرُوف الْمَشْهُور على الشاذ وَتَقْدِيم الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة ثمَّ الْعُرْفِيَّة ثمَّ اللُّغَوِيَّة وَمَعْرِفَة الْمُشْتَرك لما فِيهِ من الاجمال وَأخذ بَيَانه من غَيره كتفسير عسعس بادبر لَان عسعس مُشْتَرك بَين اقبال اللَّيْل وادباره وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَاللَّيْل إِذْ أدبر} وَفِي قِرَاءَة إِذا أدبر فَدلَّ على ان أفضل اللَّيْل السحر كَمَا دلّت على هَذَا أَشْيَاء كَثِيرَة فيفسر بذلك عسعس وان كَانَ مُشْتَركا ويتفطن هُنَا لامور أَحدهَا الحذر من تَفْسِير الْمُشْتَرك بكلا معنييه كتفسير عسعس بِأول اللَّيْل وَآخره كَمَا توهم مثل ذَلِك فِي الالفاظ الْعَامَّة فانه لم يتَحَقَّق وُرُود اللُّغَة بذلك وَلذَلِك لم يقل أحد بِاعْتِبَار ثَلَاث حيض وَثَلَاثَة أطهار جَمِيعًا فِي الْعدة لما كَانَت القروء مُشْتَركَة وَثَانِيها معرفَة مَا يظنّ انه حَقِيقَة وَهُوَ مجاوز من مظانه كتاب أساس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 البلاغة للزمخشري فانه جود القَوْل فِيهِ بل لَا أعلم أحدا بَين ذَلِك كَمَا بَينه وَلذَلِك قيل انه من روائع مصنفاته وبدائع مخترعاته فاذا عرفت حَقِيقَة الْكَلِمَة ومجازها لم يُفَسر فيهمَا مَعًا أَيْضا وَثَالِثهَا الْفرق بَين دلَالَة الْمُطَابقَة والتضمن والالتزام فالمطابقة هِيَ اللُّغَوِيَّة دونهمَا وَهِي دلَالَة اللَّفْظ على مَعْنَاهُ الْمَوْضُوع لَهُ كدلالة غسل أَعْضَاء الْوضُوء عَلَيْهَا جملَة وان دلّ اللَّفْظ على جُزْء الْمَعْنى فَهُوَ التضمن كدلالة آيَة الْوضُوء على غسل الْعين لانها بعض الْوَجْه وَمَا تَحت الاظفار والخاتم لانه بعض الْيَد وان دلّ اللَّفْظ على لَازم مَا وضع لَهُ فدلالة الِالْتِزَام كدلالة آيَة الْوضُوء على وُجُوبه وهما عقليتان فَيقدم عَلَيْهِمَا مَا عارضهما مِمَّا هُوَ أرجح مِنْهُمَا من الدَّلَائِل اللفظية على حسب الْقُوَّة أَلا تراهم رجحوا دَلَائِل رفع السِّرّ والحرج على دلَالَة غسل الْعين من الْوَجْه وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِيمَا تَحت الاظفار والخاتم لذَلِك النَّوْع السَّادِس الْمجَازِي وَتعْتَبر فِيهِ قَرَائِن الْمجَاز الثَّلَاث الموجبات للعدول اليه وَلَا حرم القَوْل بِهِ والعدول اليه الاولى الْعَقْلِيَّة الَّتِي يعرفهَا الْمُخَاطب والمخاطب كَقَوْلِه {واسأل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا} أَي أهملهما وَمِنْه {جنَاح الذل} و {جدارا يُرِيد أَن ينْقض} وَهُوَ كثير وَلَيْسَ هُوَ من الْمُتَشَابه بل تعرفه أجلاف الْعَرَب الثَّانِيَة الْعُرْفِيَّة مثل {يَا هامان ابْن لي صرحا} أَي مر من يَبْنِي لَان مثله فِي الْعرف لَا يَبْنِي الثَّالِثَة اللفظية نَحْو {مثل نوره} فانها دَلِيل على أَن الله غير النُّور {يهدي الله لنوره من يَشَاء} فانها دَلِيل على أَن المُرَاد نور الْهدى ويتيقظ هُنَا لما كَانَ من جنس تَأْوِيل الباطنية فَيرد وان صدر من غَيرهم فقد كثر جدا وَأما الدَّعْوَى الْبَاطِلَة تجردها عَن أحد هَذِه الْقَرَائِن وَأما مَا يَدعِيهِ أهل الْكَلَام من الادلة الَّتِي لم يتفقوا على صِحَة دَلِيل وَاحِد مِنْهَا فَلَا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تقليدهم فِي ذَلِك لَا عِنْدهم وَلَا عِنْد غَيرهم بل يجب الْبَحْث التَّام أَو الامساك عَن التَّأْوِيل حَتَّى يَقع الاجماع كَمَا مر موضحا وَمن الْعقلِيّ الْجَلِيّ الْمجمع عَلَيْهِ تَخْصِيص {وَأُوتِيت من كل شَيْء} على مَا يُنَاسب مُلُوك الْبشر من الْمُعْتَاد فِي الدُّنْيَا دون الْعَالم الْعلوِي وَأُمُور الْآخِرَة وَالْمَلَائِكَة والنبوة وَنَحْو ذَلِك النَّوْع السَّابِع مَا لم يَصح فِيهِ شَيْء من جَمِيع مَا تقدم وَيخْتَلف فِيهِ أهل التَّفْسِير وَأهل الْعلم مثل تَفْسِير الْحُرُوف الَّتِي فِي فواتح السُّور وَتَفْسِير الرّوح وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لم يَصح دَلِيل لنا على تَفْسِيره وَلَا مَعنا ضَرُورَة عملية تلجئ إِلَى وجوب الْبَحْث عَنهُ وَقد يرتكب فِيهِ مُخَالفَة الظَّوَاهِر ويبتني على أَسبَاب مُخْتَلف فِي صِحَّتهَا فالحزم الْوَقْف فِيهِ لما تقدم من حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي وَعِيد من فسر الْقُرْآن بِرَأْيهِ وَعَن جُنْدُب مثله رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وأوضح مِنْهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَهَذَا النَّوْع السَّابِع قِسْمَانِ قسم فِيهِ مخاطرة كَبِيرَة وَخَوف الْبِدْعَة وَالْعَذَاب وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِذَات الله تَعَالَى وَنَحْوه من المتشابهات وَقد تقدم القَوْل فِيهِ فِي هَذَا الْمُخْتَصر وَقد بسطته فِي تَرْجِيح أَسبَاب الْقُرْآن على أساليب اليونان وَقسم دونه مثل تعْيين الشَّجَرَة الَّتِي أكل مِنْهَا آدم وَاسْمهَا وَأَسْمَاء أهل الْكَهْف وَأَسْمَاء سَائِر المبهمات وَتَطْوِيل الْقَصَص والحكايات فَهَذَا لَا بَأْس بنقله مَعَ بَيَان انه لم يَصح فِيهِ شَيْء وَعدم تعلق مفْسدَة بِهِ وَلَا دُخُول شُبْهَة فِي تَحْلِيل أَو تَحْرِيم وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَأما التأويلات الَّتِي يدعى الاجماع على وُجُوبهَا سَوَاء كَانَت من اجماع الامة أَو العترة فَاعْلَم أَن الاجماعات نَوْعَانِ أَحدهمَا تعلم صِحَّته بِالضَّرُورَةِ من الدّين بِحَيْثُ يكفر مخالفه فَهَذَا اجماع صَحِيح وَلكنه مُسْتَغْنى عَنهُ بِالْعلمِ الضَّرُورِيّ من الدّين وَثَانِيهمَا مَا نزل عَن هَذِه الْمرتبَة وَلَا يكون الا ظنا لانه لَيْسَ بعد التَّوَاتُر الا الظَّن وَلَيْسَ بَينهمَا فِي النَّقْل مرتبَة قَطْعِيَّة بالاجماع وَهَذَا هُوَ حجَّة من يمْنَع الْعلم بِحُصُول الاجماعات بعد انتشار الاسلام كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 نَص عَلَيْهِ الامام الْمَنْصُور بِاللَّه فِي مَجْمُوعه والامام يحيى بن حَمْزَة فِي المعيار والرازي وَغَيرهم بسطته فِي غير هَذَا الْموضع وَهَذَا آخر القَوْل فِي الْقسم الاول من هَذَا الْمُخْتَصر وَهُوَ فِي ذكر الْمُقدمَات الْعَامَّة الجميلة وَلَو أفرد لاستقل بِنَفسِهِ كتابا مُفِيدا ويتلوه الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الْكَلَام فِي الْمُبْهم من الْمسَائِل التفصيلية الْمُخْتَلف فِيهَا بَين أهل الاسلام وَذكر طرف صَالح مِمَّا فِيهَا من المباحث السمعية الْقَرِيبَة الَّتِي لَا خطر فِي النّظر فِيهَا وَلَا غنى لاهل الْمرتبَة الْوُسْطَى عَن معرفَة مثلهَا لتقر عقائدهم إِذْ يَسْتَحِيل من أهل هَذِه الْمرتبَة أَن يطمأنوا إِلَى التَّقْلِيد الْمَحْض وَإِنَّمَا يطمئن اليه من لم يدر قطّ مَا لتقليد وَلَا دري انه مقلد ومعظمها مهان المهم الأول مقَام معرفَة كَمَال هَذَا الرب الْكَرِيم وَمَا يجب لَهُ من نعوته وأسمائه الْحسنى وَذَلِكَ من تَمام التَّوْحِيد الَّذِي لابد مِنْهُ لَان كَمَال الذَّات باسمائها الْحسنى ونعوتها الشَّرِيفَة وَلَا كَمَال لذات لَا نعت لَهَا وَلَا اسْم وَلذَلِك عد مَذْهَب الْمَلَاحِدَة فِي مدح الرب بنفيها من أعظم مكائدهم للاسلام فانهم عكسوا الْمَعْلُوم عقلا وسمعا فذموا الامر الْمَحْمُود ومدحوا الامر المذموم الْقَائِم مقَام النَّفْي والجحد الْمَحْض وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة قَالَ الله جلّ جَلَاله {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} فَمَا كَانَ مِنْهَا مَنْصُوصا فِي كتاب الله وَجب الايمان بِهِ على الْجَمِيع والانكار على من جَحده أَو زعم ان ظَاهره اسْم ذمّ لله سُبْحَانَهُ وَمَا كَانَ فِي الحَدِيث وَجب الايمان بِهِ على من عرف صِحَّته وَمَا نزل عَن هَذِه الْمرتبَة أَو كَانَ مُخْتَلفا فِي صِحَّته لم يَصح اسْتِعْمَاله فان الله أجل من ان يُسمى باسم لم يتَحَقَّق انه تسمى بِهِ وَعَادَة الْمُتَكَلِّمين أَن يقتصروا هُنَا على الْيَسِير من الْأَسْمَاء وَلَا يَنْبَغِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ترك شَيْء مِنْهَا وَلَا اختصاره فان ذَلِك كالاختصار لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم وَلَو كَانَ مِنْهَا شَيْء لَا يَنْبَغِي اعْتِقَاده وَلَا ذكره مَا ذكره الله تعالي فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وَعَادَة بعض الْمُحدثين أَن يوردوا جَمِيع مَا ورد فِي الحَدِيث الْمَشْهُور فِي تعدادها مَعَ الِاخْتِلَاف الشهير فِي صِحَّته وحسبك ان البُخَارِيّ وَمُسلمًا تركا تَخْرِيجه مَعَ رِوَايَة أَوله واتفاقهما عَليّ ذَلِك يشْعر بِقُوَّة الْعلَّة فِيهِ كَمَا أوضحته فِي العواصم وَلَكِن الاكثرين اعتمدوا ذَلِك تعرضا لفضل الله الْعَظِيم فِي وعده من أحصاها بِالْجنَّةِ كَمَا اتّفق عَليّ صِحَّته وَلَيْسَ يستيقن احصاؤها بذلك الا لَو لم يكن لله سُبْحَانَهُ اسْم غير تِلْكَ الاسماء فَأَما إِذا كَانَت أسماؤه سُبْحَانَهُ أَكثر من أَن تحصي بَطل الْيَقِين بذلك وَكَانَ الاحسن الِاقْتِصَار عَليّ مَا فِي كتاب الله وَمَا اتّفق عَليّ صِحَّته بعد ذَلِك وَهُوَ النَّادِر كَمَا يَأْتِي وَقد ثَبت أَن أَسمَاء الله تعالي أَكثر من ذَلِك الْمَرْوِيّ بِالضَّرُورَةِ وَالنَّص أما الضَّرُورَة فان فِي كتاب الله أَكثر من ذَلِك كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه ان شَاءَ الله تعالي وَأما النَّص فَحَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم أَنه قَالَ مَا قَالَ عبد أَصَابَهُ هم أَو حزن (اللَّهُمَّ اني عَبدك وَابْن عَبدك وَابْن امتك ناصيتي بِيَدِك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك هُوَ لَك سميت بِهِ نَفسك أَو أنزلته فِي كتابك أَو عَلمته أحدا من خلقك أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وجلاء حزني وَذَهَاب همي وغمي) الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مَكَان حزنه فَرحا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه وَهَذَا اسناد أَحْمد قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الحَدِيث الاربعين من مُسْند ابْن مَسْعُود من جَامع المسانيد أخبرنَا يزِيد ابْن هَارُون انا فُضَيْل بن مَرْزُوق أَنا أَبُو سَلمَة الْجُهَنِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله ابْن مَسْعُود بِالْحَدِيثِ وَقَالَ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلا والبرار وَرِجَال أَحْمد وَأبي يعلا رجال الصَّحِيح غير أبي سَلمَة الْجُهَنِيّ وَقد وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَالقَاسِم هَذَا هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن مَسْعُود وَلَيْسَ هُوَ الدِّمَشْقِي الْمُخْتَلف فِيهِ بل هُوَ ثِقَة لم يتَكَلَّم عَلَيْهِ وَهُوَ من رجال البُخَارِيّ وَأهل السّنَن وَلم يذكرهُ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان إِلَّا للتمييز بَينه وَبَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الْمُخْتَلف فِيهِ وَكَذَلِكَ لم يذكرهُ ابْن حجر فِيمَن انتقد على البُخَارِيّ وَأَبوهُ عبد الرَّحْمَن من رجال الْجَمَاعَة مُتَّفق عَلَيْهِ الا أَن سَمَاعه من أَبِيه لَيْسَ بِمَشْهُور فَحَدِيثه عَنهُ فِي السّنَن الْأَرْبَع وَقَالَ ابْن معِين والمزي قد سمع من أَبِيه وَمن علم حجَّة على من لم يعلم وَأَبُو سَلمَة هُوَ الْجُهَنِيّ وثقة ابْن حبَان وَلم يذكرهُ فِي الْمِيزَان وَعدم ذكره فِي الْمِيزَان دَلِيل على ثقته لَا سِيمَا مَعَ تَصْحِيح أبي عوَانَة للْحَدِيث وبقيتهم رجال الصِّحَاح فَثَبت هَذَا الحَدِيث وَثَبت ان حصر الاسماء التِّسْعَة وَالتسْعين لَا ينَال الا بِتَوْفِيق الله تَعَالَى كساعة الاجابة يَوْم الْجُمُعَة لانها مجملة فِي أَسمَاء الله فلنذكر هُنَا مَا وَجَدْنَاهُ مَنْصُوصا من الْأَسْمَاء فِي كتاب الله بِالْيَقِينِ من غير تقليلد فانها أصح الْأَسْمَاء وأحبها إِلَى الله تَعَالَى حَيْثُ اخْتَارَهَا فِي أفضل كتبه لَا فضل أنبيائه وَالَّذِي عرفت مِنْهَا إِلَى الْآن بِالنَّصِّ صَرِيحًا دون الِاشْتِقَاق فِي الْقُرْآن مائَة وَخَمْسَة وَخَمْسُونَ غير الممادح السلبية كَمَا سَيَأْتِي وفيهَا اسْم وَاحِد بِالْمَفْهُومِ الْمَعْلُوم وَهُوَ الاعز ذكره ابْن حجر فِي تلخيصه وَلم أَجِدهُ بنصه فَذَكرته فِيهَا وَلم أَحْسبهُ فِي الْعدَد الْمَذْكُور وَهُوَ أَخذه من قَوْله تَعَالَى {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} جَوَابا على قَول الْمُنَافِقين ليخرجن الاعز مِنْهَا الْأَذَل وَهِي هَذِه وَهِي الِاعْتِقَاد مَتى سَأَلَ عَنهُ سَائل هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الا لَهُ الصَّمد الْوَاحِد الاحد الرَّحْمَن الرَّحِيم ذُو الرَّحْمَة الواسعة أرْحم الرَّاحِمِينَ خير الرَّاحِمِينَ الْعَفو الغفور الغافر الْغفار وَاسع الْمَغْفِرَة أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة خير الغافرين الْحَاكِم الحكم الْحَكِيم الاحكم أحكم الْحَاكِمين خير الْحَاكِمين الْعَالم الْعَلِيم الاعلم علام الغيوب الرب الْبر الْوَاسِع الموسع الْملك المليك الْمَالِك مَالك الْملك الرازق الرَّزَّاق خير الرازقين الْخَالِق الخلاق أحسن الْخَالِقِينَ النَّاصِر نعم النصير خير الناصرين الْحَافِظ الحفيظ خير الحافظين النَّاصِر نعم النصير خير الناصرين الْحَافِظ الحفيظ خير الحافظين الْقوي الاقوى ذُو الْقُوَّة المتين الْعلي الاعلى المتعال الْقَادِر الْقَدِير المقتدر نعم الْقَادِر الْعَزِيز الاعز الشاكر الشكُور قَابل التوب التواب الْمُجيب الْقَرِيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الاقرب الْحَيّ القيوم الْقَائِم على كل نفس بِمَا كسبت الْفَاعِل الفعال لما يُرِيد الْوَارِث خير الْوَارِثين الْكَرِيم الاكرم فالق الاصباح فالق الْحبّ والنوى الْعَظِيم الاعظم الْوَلِيّ نعم الْمولى الشَّاهِد الشَّهِيد الْكَبِير الاكبر القاهر القهار نعم الْقَادِر نعم الماهد الْكَفِيل نعم الْوَكِيل المستمع السَّمِيع الْبَصِير البديع الرؤوف الْحَلِيم الرشيد السَّرِيع الْمُبين الْخَبِير المبرم الْغَنِيّ الحميد الْمجِيد الْوَهَّاب الْجَامِع الْمُحِيط الْكَافِي الحسيب الحاسب المقيت الرَّقِيب كاشف الضّر الفاطر الْكَاتِب المبتلي اللَّطِيف الصَّادِق الْحق الْوَدُود الحفي الْمُسْتَعَان الفاتح الفتاح نور السَّمَوَات وَالْأَرْض الْهَادِي رفيع الدَّرَجَات الرافع المنتقم الزَّارِع الْمنزل المنشئ الاول الآخر الظَّاهِر الْبَاطِن القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْجَبَّار المتكبر البارئ المصور مخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ جَاعل اللَّيْل سكنا الْمُنْذر الْمُرْسل خير الفاصلين أسْرع الحاسبين خير المنزلين عَدو للْكَافِرِينَ ولي الْمُؤمنِينَ خير الماكرين المتم نوره الْغَالِب على أمره الْبَالِغ أمره ذُو الطول ذُو المعارج ذُو الْفضل الْعَظِيم ذُو الْعَرْش الْعَظِيم ذُو الانتقام ذُو الْجلَال والاكرام انْتهى مَا عَرفته من الاسماء الْحسنى نفعنا الله بهَا وببركاتها وَهِي مائَة ونيف وَخَمْسُونَ وَقد تركت التّكْرَار فاكتفت باسم الرب عَن رب كل شَيْء وَرب الْعَالمين وَرب الْعِزَّة وَرب الْعَرْش الْعَظِيم وَرب الْمَلَائِكَة وَالروح واكتفيت بالواسع عَن وَاسع الْمَغْفِرَة وواسع كل شَيْء رَحْمَة وعلما وَنَحْو ذَلِك وَتركت مَا كَانَ من صِفَات أَفعاله وأسمائه مثل شَدِيد الْعقَاب وسريع الْحساب وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ لم يسم نَفسه بهَا وَلَا علمت أحدا عدهَا فِي أَسْمَائِهِ بل عدت فِي أَفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْمَعْنى بَين قَوْله إِن الله شَدِيد الْعقَاب وَبَين قَوْله إِن عَذَاب الله لشديد فَتَأمل ذَلِك وَذكر الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسى أَن مَا كَانَ يُطلق على الْعباد من أَسْمَائِهِ تَعَالَى على جِهَة الْحَقِيقَة مثل الزَّارِع وَالْكَاتِب لم يُطلق على الله مُجَرّد بل يُطلق حَيْثُ أطلقهُ على لَفظه مَعَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من السِّيَاق وَهَذَا حَيْثُ يخَاف اللّبْس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والتشبيه وَاجِب وَحَيْثُ يُؤمن أدب حسن واحتياط جيد وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَقد يدق على بعض النَّاس كَون بَعْضهَا فِي الْقُرْآن كالكفيل لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من قَوْله {وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا} وكالرافع من قَوْله {ورافعك إِلَيّ} وَالْهَادِي من قَوْله {لهاد الَّذين آمنُوا} وَنَحْو ذَلِك وكالمبرم لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ مُفردا إِنَّمَا ذكر بِصِيغَة الْجمع فِي قَوْله {أم أبرموا أمرا فَإنَّا مبرمون} وَكَذَلِكَ الموسع والمنزل قَالَ تعالي {وَإِنَّا لموسعون} وَقَالَ {أأنتم أنزلتموه من المزن أم نَحن المنزلون} وَكَذَلِكَ الزَّارِع فِي قَوْله تعالي {أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} والمبتلي فِي قَوْله تعالي {وَإِن كُنَّا لمبتلين} وَنَحْو ذَلِك {وَكفى بِنَا حاسبين} {وَإِنَّا لصادقون} {إِنَّا مَعكُمْ مستمعون} {وَإِنَّا لَهُ كاتبون} {وَهُوَ وليهم} {أَنْت ولينا} وَكَذَلِكَ الاقرب إِنَّمَا وجدته فِي قَوْله تعالي {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَقد ذكرت الْقَادِر مرَّتَيْنِ وَلَيْسَ تَكْرَارا بل الْقَادِر الاول من الْقُدْرَة وَلذَلِك ذكرته مَعَ الْقَدِير والمقتدر والقادر الثَّانِي من التَّقْدِير وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تعالي {فَنعم القادرون} وَقد ذكرت فِيهَا مخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَهُوَ فِي الْقُرْآن بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت لوَجْهَيْنِ احدهما إِنِّي ذكرت مخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وَهُوَ فِي الْقُرْآن بِالْمِيم وَلم أستحسن فرقة من صَاحبه وملازمة خَاصَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَهُوَ أبهر مِنْهُ وأكبر وَأعظم مدحا وَأكْثر وَثَانِيهمَا أَن لفظ مخرج قد ثَبت فِي الْقُرْآن وَلم أرد الا اضافته إِلَيّ ذَلِك الْمَدْح الباهر وَالثنَاء الفاخر وَيَنْبَغِي أَن يختمها الدَّاعِي بهَا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُقدم لعمومه لما لم يذكر وَمِمَّا يَنْبَغِي تِلَاوَته لمن تعرض لرحمة الله سُبْحَانَهُ فِي فضل احصاء التِّسْعَة وَالتسْعين اسْما الْحُرُوف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ قد قيل أَنَّهَا أَسمَاء الله تعالي أَو رمز إِلَيّ اسماء شريفة وَلم يَصح وَلَيْسَ هَذَا موضعهَا لعدم صِحَة ذَلِك وَإِنَّمَا ذكرت ذَلِك ارشادا لمن يحب الْفَائِدَة وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا لَيْسَ فِي كتاب الله تعالي إِلَّا الْمُقدم والمؤخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين يقوم من اللَّيْل وَالْوتر ومنهما من حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي سردت الاسماء الحسني فِي آخِره وَزَاد ابْن حزم مِمَّا ادعِي صِحَّته السَّيِّد السبوح الْحق الْوتر الدَّهْر المسعر المحسن المحسان الْجَمِيل الرفيق الشافي الْمُعْطِي وَلم ينسبها إِلَيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَكِن تتبعها من أَحَادِيث مُتَفَرِّقَة وَكَذَلِكَ الطَّبِيب خرجه دوت وس باسناد عَليّ شَرط الشَّيْخَيْنِ لَكِن قَالَ التِّرْمِذِيّ أَنه غَرِيب من حَدِيث عبد الله بن اياد عَن أبي رمثة الصَّحَابِيّ مَرْفُوعا وَمِنْهَا مُقَلِّب الْقُلُوب لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقسم بِهِ وَزَاد التِّرْمِذِيّ فِي الحَدِيث الْمُخْتَلف فِيهِ مِمَّا لم أَجِدهُ بنصه فِي الْقُرْآن خَمْسَة وَعشْرين اسْما وَهِي الْقَابِض الباسط الْخَافِض الْمعز المذل الْعدْل الْجَلِيل المحصي المبديء المعيد المحيي المميت الْوَاجِد بِالْجِيم الْمَاجِد الْمُقدم الْمُؤخر الْوَالِي المقسط الْمُغنِي الْمَانِع الضار النافع الْبَاقِي الرشيد الصبور وَزَاد ابْن مَاجَه عَليّ التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا الراشد الْبُرْهَان الواقي الْقَائِم النَّاظر السَّامع الابد الْعَالم الْمُنِير التَّام الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد فِي اطلاق بعض هَذِه نظر مَعَ عدم صِحَة الاسناد وَزَاد الْحَاكِم عَليّ التِّرْمِذِيّ فِي الْمُسْتَدْرك فِي هَذَا الحَدِيث الْمُخْتَلف فِيهِ بِعَيْنِه الحنان المنان الدَّائِم الْجَمِيل الْقَدِيم الْوتر الْمُدبر الشاكر الرافع وَزَاد عَلَيْهِ أَيْضا بِمَا فِي الْقُرْآن الاله الرب الفاطر المليك الْمَالِك الاكرم وَذكرت الرفيع فِيهَا إِذْ لم يَجعله مثل رفيع الدَّرَجَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَفِي حَدِيث آخر ان الله المسعر رَوَاهُ الْخَمْسَة إِلَّا النَّسَائِيّ وَصَحِيحه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس ذكره صَاحب المنتقي فِي التسعين وَفِي البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهَا الْوتر الْمُقدم الْمُؤخر وَفِي مُسلم مِنْهَا الرفيق وَصحح ابْن مَاجَه مِنْهَا السَّيِّد السبوح الْجَمِيل المحسان المسعر الْقَابِض الباسط الشافي الْمُعْطِي الدَّهْر قَالَ ابْن مَاجَه بعد سردها ثمَّ قَالَ زُهَيْر وبلغنا عَن غير وَاحِد من أهل الْعلم أَن راويها يفْتَتح بقول لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير لَا اله الا الله لَهُ الاسماء الْحسنى وَأكْثر هَذِه أَو كثير مِنْهَا صَحِيح الْمَعْنى بالاجماع فَلَا بَأْس بالحاق الْمجمع عَلَيْهِ مِنْهَا بِمَا فِي الْقُرْآن لما تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عَلمته أحدا من خلقك وَأما المشتقات من الافعال الربانية الحميدة فَلَا تحصى وَقد جمع بَعضهم مِنْهَا ألف اسْم مثل كَاتب الرَّحْمَة على نَفسه الْمَحْمُود الْعَادِل المعبود الْمُحكم الْمُنعم متم النِّعْمَة الْمطعم الْمُقدر القَاضِي الْمُدبر الْحق الشافي الْبَارِي الماحي الْمُثبت الْمُؤَيد الْكَافِي الْقَاسِم العاصم القاصم الدَّافِع المدافع المملي الْآخِذ المجير الْمُزَكي الْمُوفق الْمصرف الْمُمكن مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار الصَّانِع الواقي الْمُتَكَلّم المريد المرجو الْمخوف المخشى المرهوب السَّابِق الديَّان المستجار المستعاذ المعاذ الملجأ المنجا المنجي وَلَو ذكر مِنْهَا مَا كَانَ من خَواص الربوبية كَانَ حميدا وَذَلِكَ مثل المحيي المميت خَاصَّة مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن صلَة للَّذي وَنَحْوه كَقَوْل الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام (وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين) لِأَن الْمَوْصُول وصلته فِي حكم الْوَاحِد وَالله أعلم وَأما أَنْوَاع الثَّنَاء من غير اشتقاق من أَلْفَاظ الْقُرْآن فَلَا تحصى مثل قديم الاحسان دَائِم الْمَعْرُوف المستغاث المأمول وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا منع لما أجمع عَلَيْهِ مِنْهُ وَالظَّاهِر جَوَاز هذَيْن النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُمَا من الاخبار الصادقة وَالله أعلم وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ مجمعا عَلَيْهِ على أَنه حسن لَا قبح فِيهِ وثناء جميل لَا ذمّ فِيهِ وَلَا تَمْثِيل وَلَا تَشْبِيه والا فالاقتصار على المنصوصات عِنْد الِاخْتِلَاف لَازم وَهُوَ مَوْضُوع الْكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 واما الممادح السلبية فِي كتاب الله تَعَالَى فاعتقادها لَازم وان لم تكن أَسمَاء فِي عرف أهل الْعَرَبيَّة لَكِنَّهَا نعوت حق وَاجِبَة بِنَصّ الْقُرْآن لله تَعَالَى وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} وَلَيْسَ لَهُ سمي فانه مَعْلُوم من قَوْله تَعَالَى {هَل تعلم لَهُ سميا} وان الْعباد لَا يحيطون بِهِ علما كَمَا قَالَ فِي سُورَة طه بل لَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وَإِنَّمَا اسْتثْنى فِي معلوماته المخلوقة وَإِمَّا فِي ذَاته المقدسة العزيزة فاطلق النَّفْي وَلم يسْتَثْن أحدا وَلَا شَيْئا وَلَو كَانَ يُرِيد أَن يخْتَص أحدا بذلك لاستثناه كَمَا اسْتثْنى من الاحاطة بِعِلْمِهِ عز وَجل وَمن ذَلِك أَنه لَا تُدْرِكهُ الابصار وَهُوَ يُدْرِكهُ الابصار وَأَنه لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم وَأَنه وسع كرسيه السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا يؤده حفظهما وانه خلقهما فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مَسّه من لغوب وَإنَّهُ لَيْسَ بظلام للعبيد وَإنَّهُ لَا يُكَلف نفسا إِلَّا وسعهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا يُرِيد بِنَا الْعسر وَمَا جعل علينا فِي الدّين من حرج وَأَنه لَا يجوز عَلَيْهِ اللّعب والعبث وخلو أَفعاله عَن الْحِكْمَة لقَوْله تَعَالَى {وَمَا بَينهمَا لاعبين} وَقَوله {رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فقنا عَذَاب النَّار} وأمثال هَذِه الْآيَات فِي حكمته فِي خلق الارضين وَالسَّمَوَات وَأَنه تَعَالَى لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَلَا يحب الْفساد وَلَا يُبدل القَوْل لَدَيْهِ تبديلا قبيحا بِخِلَاف التبديل الْحسن لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل} ولآيات النّسخ وانه لَا يخلف الميعاد وَأَنه تَعَالَى يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ وَيطْعم وَلَا يطعم وَأَنه لَا شريك لَهُ فِي الْملك وَلَا ولي لَهُ من الذل وان هَذِه الْآيَات دلّت على مَا أَجمعت عَلَيْهِ الامة اجماعا ضَرُورِيًّا وَعلم من الدّين علما ضَرُورِيًّا انه تَعَالَى منزه عَن كل نقص وعيب مِمَّا يَقع فِي أَسمَاء المخلوقين سَوَاء كَانَ من أَسمَاء الذَّم لَهُم كالظلم واللعب وَالْجهل أَو من أَسمَاء النَّقْص فيهم كالفقر والضعف وَالْعجز وَسَائِر مَا يجوز على الانبياء الاولياء وَأهل الصّلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَأما أَسمَاء الْمَدْح الَّتِي تطلق على الْعباد على وُجُوه تَسْتَلْزِم النَّقْص وَتطلق على الله تَعَالَى على وُجُوه تَسْتَلْزِم الْكَمَال وَهِي صِفَات الْعلم وَالْقُدْرَة وَالرَّحْمَة والحياة وَنَحْو ذَلِك فانها تطلق على الله تَعَالَى على جِهَة الْكَمَال كَمَا اطلقها مُجَرّدَة عَن نقائص المخلوقين الَّتِي تعرض فِيهَا بِأَسْبَاب تخصهم دونه تَعَالَى فَهَذَا هُوَ اعتقادنا واعتقاد أهل الْحق وَالْحَمْد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فصل فِي مَعَانِيهَا اعْلَم أَنه قد تكلم على مَعَانِيهَا جمَاعَة من أهل الْعلم وَالتَّفْسِير وأكثرها وَاضح والعصمة فِيهَا عدم التَّشْبِيه واعتقاد أَن المُرَاد بهَا أكمل مَعَانِيهَا الْكَمَال الَّذِي لَا يُحِيط بحقيقته إِلَّا الله تَعَالَى كَمَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى ولابد من الاشارة هُنَا إِلَى أَمر جملي وَهُوَ أصل عَظِيم وَبَيَان نفع مَعْرفَته فِي تَفْسِير اسْمَيْنِ مِمَّا ورد مِنْهَا اسْم من صحيحها وَاسم من الْمُخْتَلف فِي صِحَّته مِنْهَا أما الاصل الْعَظِيم فَهُوَ تَفْسِير الْحسنى جملَة وَذَلِكَ أَنَّهَا جمع الاحسن لَا جمع الْحسن وَتَحْت هَذَا سر نَفِيس وَذَلِكَ أَن الْحسن من صِفَات الالفاظ وَمن صِفَات الْمعَانِي فَكل لفظ لَهُ مَعْنيانِ حسن وَأحسن فَالْمُرَاد الاحسن مِنْهُمَا حَتَّى يَصح جمعه على حسنى وَلَا يُفَسر بالْحسنِ مِنْهُمَا إِلَّا الاحسن لهَذَا الْوَجْه مِثَال الاول وَهُوَ اللَّفْظ الَّذِي لَهُ مَعْنيانِ اسْم النُّور وَقد ثَبت فِي سُورَة النُّور {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قيام اللَّيْل وَلَك الْحَمد أَنْت نور السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَهَذَا الِاسْم الشريف لَهُ مَعْنيانِ معلومان لَا خلاف فيهمَا وهما نور الابصار وَنور البصائر وَلَا خلاف بَين الْعُقَلَاء أَجْمَعِينَ دع عَنْك الْمُسلمين ان نور البصائر هُوَ أشرفهما وأكرمهما وخيرهما وأحسنهما وَذَلِكَ مَعْلُوم من ضَرُورَة الْعقل وَالدّين وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى فِي بَيَان تَعْظِيمه وتشريفه وتكريمه {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} أَي لَا تعمي الابصار الْعمي الضار الضّر المذموم المستعاذ مِنْهُ المهلك لمن وَقع فِيهِ وَإِنَّمَا تعمي هَذَا الْعمي الْعَظِيم الْمضرَّة الْقُلُوب الَّتِي هِيَ مَحل نور البصائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فاذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن الْقُرْآن الْكَرِيم قد دلّ على تَفْسِير هَذَا الِاسْم الشريف فِي حق الله تَعَالَى بذلك أوضح دلَالَة وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى بعد قَوْله {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء} فَدلَّ على أَنه نور الْهدى لِأَن نور الابصار مبذول مُشْتَرك بَين الْكفَّار وَالْمُسْلِمين بل بَين جَمِيع الْحَيَوَانَات الانسانية والبهيمية وَكَذَلِكَ ثَبت فِي الحَدِيث هَذَا الْمَعْنى فَخرج الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك فِي تَفْسِير سُورَة النُّور من حَدِيث سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {مثل نوره كمشكاة} يَقُول مثل نور من آمن بِاللَّه كمشكاة وَقَالَ صَحِيح الاسناد قلت الْوَجْه فِيهِ أَنه مَعْلُوم أَن الله لم يرد تَشْبِيه النُّور بالمشكاة نَفسهَا وان هُنَا محذوفا فاما ان يكون الْمَحْذُوف نور الْمشكاة حَتَّى يشبه النُّور بِالنورِ أَو يكون الْمَحْذُوف مَحل النُّور الَّذِي يَصح تشبيهه بالمشكاة نَفسهَا حَتَّى يشبه مَحل النُّور الَّذِي هُوَ الْمُؤمن أَو قلبه بالمشكاة نَفسهَا الَّتِي هِيَ مَحل تِلْكَ الْأَنْوَار الموصوفة فِي الْآيَة وَقد كنت أتوقف فِي أَي التَّقْدِيرَيْنِ أولى حَتَّى وقفت على كَلَام ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فاتبعته لِأَنَّهُ مَنْصُوص على تَقْدِيمه فِي الْقُرْآن وتعليمه التَّأْوِيل بالدعوة النَّبَوِيَّة ثمَّ جَاءَ من طَرِيقه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحْرِيم تَفْسِير الْقُرْآن بِالرَّأْيِ ثمَّ ظهر لي بِالنّظرِ صِحَّته وَتبين أَنه لَا يُمكن سواهُ وَذَلِكَ أَنا لَو جعلنَا الْمَحْذُوف نور الْمشكاة لَكَانَ الْمُشبه بنورها هُوَ نور الله الْكُلِّي الاعظم وَهُوَ أجل من أَن يشبه بِنور الْمشكاة وَيدل على ذَلِك أَن الله تَعَالَى شبه ذَلِك النُّور الَّذِي شرفه باضافته اليه بالمشكاة المترادفة الانوار وَهَذَا التَّشْبِيه لَا يَلِيق إِلَّا مَتى كَانَ الْمُشبه قلب الْمُؤمن لِأَن النُّور الَّذِي فِيهِ من مواهب الله تَعَالَى هُوَ نصيب الْوَاحِد من الْمُؤمنِينَ الْمَخْصُوص بِهِ وَلذَلِك جَازَ تشبيهه يُوضحهُ أَنه لَا يجوز تَشْبِيه الله وَلَا تَشْبِيه شَيْء من صِفَاته بِشَيْء من مخلوقاته وَأما أَن هَذَا النُّور هُوَ نور البصائر لَا نور الابصار فبدل عَلَيْهِ فِي هَذِه الْآيَات أَمْرَانِ أَحدهمَا قَوْله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة {يهدي الله لنوره من يَشَاء} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ) كَمَا تقدم وَثَانِيهمَا مُقَابلَته لذَلِك بتشبيه أَعمال الْكفَّار بالظلمات المترادفة ومقابلته لقَوْله {نور على نور} فِي حق الْمُؤمنِينَ بقوله {ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض} فِي حق الْكَافرين ومقابلته لقَوْله تَعَالَى {يهدي الله لنوره من يَشَاء} فِي حق الْمُؤمنِينَ بقوله (وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور) فِي حق الْكَافرين وَيدل على ذَلِك أَيْضا فِي هَذِه الْآيَات قَوْله تَعَالَى {فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه} فان فِيهَا بَيَان أَن هَذَا النُّور هُوَ نور الْهِدَايَة والاعمال الصَّالِحَة الَّتِي محلهَا فِي هَذِه الْبيُوت الشَّرِيفَة على الْخُصُوص وَلَيْسَ بِنور الْكَوَاكِب والابصار الَّتِي هِيَ تعم كل مَحل شرِيف وخسيس وكل مبصر مُؤمن وَكَافِر وَيدل على ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة الْمُنْفَصِلَة عَن هَذِه الْآيَات مَا لَا يكَاد يُحْصى مثل قَوْله تَعَالَى {الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} وَقَوله تَعَالَى {قل من أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس} وَقَالَ فِي حق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون} وَمن أوضحه {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} وَقَوله فِيهِ بافواههم من ترشيح الإستعارة أما نور الابصار وَالشَّمْس وَنَحْو ذَلِك فَلم يُنكر ذَلِك الْكفَّار وَلَا يُمكن أَن يهموا باطفائه وَقَوله تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا} وَقَوله تَعَالَى فِي صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وسراجا منيرا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَمن الاحاديث الصَّحِيحَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة نور وَالصَّدَََقَة برهَان خرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ وَذَلِكَ يُنَاسب كَونهَا تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَهَذَا معنى نور الْهَدْي وَالله أعلم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ عِنْد أَن يقوم من اللَّيْل (اللَّهُمَّ اجْعَل فِي قلبِي نورا وَفِي سَمْعِي نورا وَفِي بَصرِي نورا وَفِي لساني نورا إِلَى قَوْله وَاجعَل لي نورا) قَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة أَرَادَ ضِيَاء الْحق وَبَيَانه كَأَنَّهُ قَالَ اللَّهُمَّ اسْتعْمل هَذِه الْأَعْضَاء مني فِي الْحق وَفِي حَدِيث آخر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ تمّ نورك فهديت فلك الْحَمد رَوَاهُ الْجَزرِي فِي الْعدة وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُقدم من رِوَايَة أَحْمد وَأبي عوَانَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي ذَلِك الدُّعَاء (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك إِلَى قَوْله أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وَفِي رِوَايَة وَنور بَصرِي فكون الْقُرْآن نور الْبَصَر هُنَا يدل على أَن المُرَاد بصر الْهدى وَالْحق أَيْضا كَمَا فسرته الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي قَوْله وَنور صَدْرِي وكل هَذَا دَلِيل على أَن الْهدى أصيل فِي التَّسْمِيَة بِهَذَا الِاسْم الشريف وَأَنه أشرف مَعَانِيه فَظهر أَن معنى النُّور فِي أَسمَاء الله تَعَالَى هُوَ الْهَادِي لكل شَيْء إِلَى مَصَالِحه والمرشد لكل حَيّ إِلَى مَنَافِعه الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى حَتَّى هدى الطِّفْل الْمَوْلُود إِلَى الالتقام من الثدي وامتصاص اللَّبن وأعجب من ذَلِك هِدَايَة أَوْلَاد الْبَهَائِم الَّتِي لَا تحسن أمهاتها شَيْئا من مُقَدمَات المعاونة على تَعْلِيم الرَّضَاع وَالْهِدَايَة إِلَى مَوضِع اللَّبن فَهَذَا من أَوَائِل هِدَايَة الله سُبْحَانَهُ لمن لَا هِدَايَة لَهُ وَلَا تمكن الاشارة إِلَى نهايات هداياته وَاخْتِلَاف أَنْوَاعهَا ومقاديرها وَفِي كتاب العبر وَالِاعْتِبَار للجاحظ وَكتاب حَيَاة الْحَيَوَان من ذَلِك الْكثير الطّيب وَالْمُكثر من ذَلِك مقل فالهداية من الله تَعَالَى وَهُوَ الْهَادِي باجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الْمُسلمين وَقد خرج اسْم الْهَادِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَغَيرهم فِي حَدِيث الاسماء الْحسنى فالتفسير بهَا صَحِيح وان كَانَ الله تَعَالَى هُوَ رب الانوار كلهَا أنوار الابصار وأنوار البصائر فاللفظة لَا يُرَاد بهَا إِلَّا أحد مَعَانِيهَا على الصَّحِيح وَلم أتبع فِي هَذَا التَّفْسِير الرَّأْي وَإِنَّمَا اتبعت فِيهِ الْقُرْآن وَالسّنة كَمَا تقدم بَيَانه قَالَ ابْن الْأَثِير فِي نهايته هُوَ الَّذِي يبصر بنوره ذُو العماية ويرشد بهداه ذُو الغواية وَأما حَدِيث نور أَنِّي أرَاهُ فانه حَدِيث معل مُتَكَلم فِيهِ عِنْد أَكثر أَئِمَّة الحَدِيث وَهُوَ من رِوَايَة يزِيد بن ابراهيم التسترِي عَن قَتَادَة عَن عبد الله ابْن شَقِيق عَن أبي ذرانة سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل رَأَيْت رَبك فَقَالَ نور أَنى أرَاهُ والقدح فِيهِ من وُجُوه الأول قدح أَئِمَّة الحَدِيث فِيهِ وَقد سُئِلَ إِمَام الحَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ مَا زلت مُنْكرا لَهُ روى ذَلِك عَن أَحْمد الْخلال فِي الْعِلَل وَابْن الْأَثِير فِي تَفْسِيره النُّور من النِّهَايَة وَابْن الْجَوْزِيّ بعد رِوَايَة الحَدِيث فِي جَامع المسانيد وَهُوَ الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ وَكَذَلِكَ روى ابْن الْجَوْزِيّ وَابْن الْأَثِير كِلَاهُمَا عَن امام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة أَنه قَالَ فِي الْقلب من صِحَة هَذَا الحَدِيث شَيْء وَأَن الله شَقِيق لم يكن يثبت أَبَا ذَر ذكره ابْن الْأَثِير زَاد ابْن الْجَوْزِيّ لِأَنَّهُ قَالَ أتيت فاذا رجل قَائِم فَقَالُوا هَذَا أَبُو ذَر فَسَأَلته الحَدِيث الثَّانِي أَن ابْن شَقِيق كَانَ ناصيا يبغض عليا رَضِي الله عَنهُ كَمَا ذكره الذَّهَبِيّ وَذكر أَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ كَانَ سيء الرَّأْي فِيهِ قلت وَكَانَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ أحد أَئِمَّة الاسلام الْكِبَار وَرِجَال الْجَمَاعَة وَأهل المناقب الْمَشْهُورَة من سَادَات التَّابِعين معاصرا لِابْنِ شَقِيق خَبِيرا بِهِ فَقَوله فِيهِ مَقْبُول وَإِنَّمَا قبله من قبله على قاعدتهم فِي قبُول أهل الصدْق من الْخَوَارِج مَتى ظنُّوا صدقهم بالتجربة فِي مَوَاضِع سهلة يكون فِي قبولهم فِيهَا احْتِيَاط والمرجح آخر على مَا هُوَ مَبْسُوط فِي الْأُصُول وعلوم الحَدِيث وَهَذَا مقَام عَزِيز وَمحل رفيع لَا يقبل فِي مثله حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الثَّالِث أَن يزِيد بن إِبْرَاهِيم الرَّاوِي لَهُ عَن قَتَادَة ضَعِيف فِي قَتَادَة ضعفه فِيهِ يحيى بن معِين وَابْن عدي وهما من أجل أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن وَقد حكى ابْن حجر فِي عُلُوم الحَدِيث عَن الذَّهَبِيّ أَنه مَا اجْتمع اثْنَان من أَئِمَّة هَذَا الْعلم على جرح أَو تَوْثِيق إِلَّا كَانَ كَمَا قَالَا قَالَ ابْن حجر بعد ذَلِك والذهبي من أهل التتبع التَّام قلت لَعَلَّه يُرِيد حَيْثُ لم يعارضهما أحد مثل هَذَا الْموضع على أَن ابْن عدي قَالَ أَنهم أَنْكَرُوا على يزِيد هَذَا أَحَادِيث رَوَاهَا عَن قَتَادَة وَكَلَامه هَذَا يدل على أَنَّهُمَا لم ينفردا بتضعيفه فِي قَتَادَة بل فِيهِ نِسْبَة ذَلِك إِلَى أهل الحَدِيث وَأما أهل الصَّحِيح فَلم يخرجُوا حَدِيثه عَن قَتَادَة وَسَيَأْتِي عذر مُسلم فِي ذَلِك الرَّابِع أَن الحَدِيث معل بِالِاضْطِرَابِ فانه رَوَاهُ تَارَة كَمَا تقدم وَتارَة رَأَيْت نورا وَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ متضادتان فِي احداهما اثبات الرُّؤْيَة للنور وَفِي الْأُخْرَى انكار ذَلِك بِصِيغَة الِاسْتِفْهَام وَهِي فِي هَذَا الْمقَام أَشد فِي الانكار وَالْعلَّة تقدح فِي حَدِيث الثِّقَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ فَاجْتمع فِيهِ الضعْف والاعلال وَأَحَدهمَا يَكْفِي فِي عدم تَصْحِيحه الْخَامِس أَن أصح روايتي الحَدِيث إِن قَدرنَا صِحَّته هِيَ رِوَايَة رَأَيْت نورا وَلَيْسَ فِيهَا أَن ذَلِك النُّور هُوَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن ذَلِك وَإِنَّمَا كَانَت أصح الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّهَا رِوَايَة هِشَام وَهَمَّام كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة الَّذِي هُوَ شيخ يزِيد بن ابراهيم المضعف فِي قَتَادَة وهما أوثق مِنْهُ مُطلقًا فَكيف فِي قَتَادَة فَلم يبْق لتصحيح رِوَايَته وَجه فان قلت فَكيف خرج مُسلم الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا فِي الصَّحِيح قلت الَّذِي عِنْدِي أَنه إِنَّمَا خرجهما شَاهِدين على قُوَّة حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي نفي رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله سُبْحَانَهُ لَيْلَة الاسراء فانه خرج حَدِيثهَا وَطول فِي ذكر طرقه ثمَّ أردفه بِمَا يُنَاسِبه ويقوى مَعْنَاهُ فَذكر هَذَا الحَدِيث من طريقيه مَعًا أردفه بِمَا يُنَاسِبه وَذكر بعده حَدِيث حجابه النُّور كَمَا جَاءَ صَرِيحًا فِي حَدِيث أبي مُوسَى شَاهدا لهَذَا الْمَعْنى وَمُسلم يتساهل فِي الشواهد هُوَ وَغَيره من أَئِمَّة الحَدِيث وَقد تَأَوَّلَه غير وَاحِد على تَقْدِير صِحَّته بِأَن المُرَاد حجابه النُّور كَمَا جَاءَ صَرِيحًا فِي حَدِيث أبي مُوسَى مِمَّن تَأَوَّلَه ابْن الْأَثِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فِي نهايته وَابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامعه بعد رِوَايَته وَذكر الْحجاب قرآني صَحِيح كَمَا يَأْتِي فِي آيَات الصِّفَات قَالَ الله تَعَالَى {أَو من وَرَاء حجاب} وَقَالَ فِي الْكَافرين {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} والحجاب حَاجِب للعباد لَا لله سُبْحَانَهُ كَمَا نبهت عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة فانه بَين فِيهَا انهم المحجبوبون لَا هُوَ وَهَذِه نُكْتَة شريفة فتأملها وَقد طَال الْكَلَام فِي هَذَا الِاسْم الشريف وَهُوَ مَوْضِعه لِأَن الْخطر من أَسمَاء الله سُبْحَانَهُ جليل وَالْكثير من الْبَحْث وَالتَّحْقِيق فِيهَا قَلِيل وَمِثَال الثَّانِي اسْم الضار وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما ثَبت بالأدلة أَنه لَا يَصح أَن يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا بل إِنَّمَا يُريدهُ لما علم من الْخَيْر كَمَا بَينه الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى وسوف نبين أدلته فِي اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى فِي جَمِيع أَفعاله من هَذَا الْمُخْتَصر ثَبت أَن كل ضرّ من الله تَعَالَى هُوَ خير ونفع بِالنّظرِ إِلَى الْحِكْمَة فِيهِ وَبِذَلِك فسر النَّوَوِيّ الحَدِيث الصَّحِيح فِي التَّوَجُّه الْخَيْر بيديك وَالشَّر لَيْسَ اليك أَي لَيْسَ بشر بِالنّظرِ إِلَى حكمتك فِيهِ وَمن هُنَا سمى الله تَعَالَى الْقصاص حَيَاة وَهُوَ قتل وَقطع وَنَحْو ذَلِك وَمن هُنَا لم يسْتَحق الطَّبِيب الَّذِي يكوي وَيقطع اسْم الضار فَثَبت أَن كل ضرّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يسْتَحق أَن يُسَمِّي الله مِنْهُ أَسمَاء حَسَنَة مثل الديَّان والمنتقم والمبتلى وَهَذِه خير من اسْم الضار لِأَنَّهُ يفهم مِنْهَا المجازاة على أَفعَال مُتَقَدّمَة يسْتَحق أَهلهَا ذَلِك لأَجلهَا بِخِلَاف الضار وَكَذَلِكَ عَذَاب الله فِي الْآخِرَة فانه مُشْتَمل على ذَلِك وَإِلَى ذَلِك الاشارة بقوله {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} وَقَالَ تَعَالَى {قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ فاتخذتموهم سخريا حَتَّى أنسوكم ذكري وكنتم مِنْهُم تضحكون} وَقَالَ تَعَالَى {جَزَاء لمن كَانَ كفر} بِضَم الْكَاف وَكسر الْفَاء وأمثال ذَلِك كثير مِمَّا يدل على نفع الْمُؤمنِينَ بِعَذَاب الْكَافرين والانتصاف لَهُم فَيجب أَن يكون فِي الِاسْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الْمُشْتَقّ لله تَعَالَى من ذَلِك مَا يدل على حكمته بل هُنَا سر لطيف أنفس من ذَلِك وَهُوَ أَن كل ضرّ وَشر فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فانما هُوَ بذنوب الْعباد وَمَا تستوجبه وتستدعيه من الْعُقُوبَات أما شرور الدُّنْيَا فَلقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَفِي قِرَاءَة بِمَا كسبت أَيْدِيكُم وَقَوله تَعَالَى {وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم فَإِن الْإِنْسَان كفور} وَفِي آيَة {إِذا هم يقنطون} وَفِي قَوْله {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ} مَعَ مَا فِي الحَدِيث من ذَلِك وَأما عَذَاب الْآخِرَة فَلقَوْله تَعَالَى {وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون} وَقَوله {وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَسَماهُ كسبا لَهُم وَعَملا وَمِنْه قَول أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام {أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} لما كَانَ عُقُوبَة ذَنبه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} فنسب الاخراج إِلَى الشَّيْطَان لذَلِك وَمن أجل ذَلِك صَحَّ أَن يُقَال أَن الْعَذَاب ظلم وضر من الْعباد لأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَأما من الله تَعَالَى فانما هُوَ مِنْهُ عدل وَحِكْمَة أما الْعدْل فلوقوعه جَزَاء وفَاقا بعد التَّمَكُّن والانذار وَقطع الاعذار والاشهاد وَالْكِتَابَة وَالْوَزْن بموازين الْحق وأمثال ذَلِك وَأما الْحِكْمَة فللنص على حَاجَة الْمُتَشَابه إِلَى التَّأْوِيل وَفِي قصَّة مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام بَيَان أَن التَّأْوِيل بَيَان وُجُوه خُفْيَة تناسب عقول الْعُقَلَاء وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنى مَبْسُوطا وَاضحا فِي مَسْأَلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الْحِكْمَة من هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَة الافعال بَيَان أَن الْمعاصِي من الْعباد وَمَا ورد فِي ذَلِك من نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنة الجمة الَّتِي لَا نزاع فِيهَا وَلَا معَارض لَهَا ومجموع ذَلِك يَقْتَضِي نسبتها وَنسبَة جَمِيع مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا وَيتَفَرَّع عَنْهَا من شرور الدَّاريْنِ إِلَى الْعباد الْمُسْتَحقّين للذم وَالْعَذَاب عَلَيْهَا بالنصوص والاجماع وَأما تَقْدِير الله تَعَالَى لوقوعها بِاخْتِيَار الْعباد لحكمة فَهُوَ مثل سبق علمه بذلك لَا يُوجب لله تَعَالَى إِلَّا وصف الْقُدْرَة والعزة كَمَا يَأْتِي أَيْضا مَبْسُوطا فِي مَوْضِعه من هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى فان قيل فَكيف جَازَ اطلاق الضار عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن اسْم الضار لم يرد فِي الْقُرْآن وَلَا فِي حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته فَمن لم يتَحَقَّق الاذن فِيهِ وَلم يَصح لَهُ كالبخاري وَمُسلم وَمن شَرط فِي الصِّحَّة شَرطهمَا لم يجب عَلَيْهِ ادخاله فِي الاسماء الْحسنى وَقد بسطت القَوْل فِيهِ فِي العواصم فِي آخر مَسْأَلَة الْعباد وَذكرت فَوَائِد تسْتَحقّ الرحلة اليها إِلَى أبعد مَكَان فلتطلب من مَكَانهَا وَثَانِيهمَا على تَقْدِير صِحَة أَن اسْم الضار لَا يجوز افراده عَن النافع فحين لم يجز افراده لم يكن مُفردا من أَسمَاء الله تَعَالَى وَإِذا وَجب ضمه إِلَى النافع كَانَا مَعًا كالاسم الْوَاحِد الْمركب من كَلِمَتَيْنِ مثل عبد الله وبعلبك فَلَو نطقت بالضار وَحده لم يكن اسْما لذَلِك الْمُسَمّى بِهِ وَمَتى كَانَ الِاسْم هُوَ الضار النافع مَعًا كَانَ فِي معنى مَالك الضّر والنفع وَذَلِكَ فِي معنى مَالك الْأَمر كُله وَمَالك الْملك وَهَذَا الْمَعْنى من الْأَسْمَاء الْحسنى وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر} الْآيَة وَهُوَ فِي معنى الْقَدِير على كل شَيْء وميزان الاسماء الْحسنى يَدُور على الْمَدْح بِالْملكِ والاستقلال وَمَا يعود إِلَى هَذَا الْمَعْنى وعَلى الْمَدْح بِالْحَمْد وَالثنَاء وَمَا يعود إِلَى ذَلِك وكل اسْم دلّ هذَيْن الْأَمريْنِ فَهُوَ صَالح دُخُوله فِيهَا والضار النافع يرجع إِلَى ذَلِك مَعَ على الْجمع وَعدم الْفرق وَمَعَ الْقَصْد فَيلْزم من أطلقهُ قصد ذَلِك مَعَ الْجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَقد ذكر غير وَاحِد من الْعلمَاء أَنه لَا يجوز افراد الضار وَلم يلخصوا هَذَا التَّلْخِيص وَقد وفْق الله لَهُ من كره الشذوذ عَن الْجُمْهُور فِي قبُوله وَإِن لم يكن من الاسماء القرآنية وَلَا مِمَّا صَحَّ سَنَده وَالله الْمُسْتَعَان وَالْهَادِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَائِدَة هَل يجوز تَسْمِيَة محامد الرب تَعَالَى وأسمائه الْحسنى صِفَات لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى} وَذكر أهل التَّفْسِير واللغة أَنه الْوَصْف الا على وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي كَلَام عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فَعَلَيْك أَيهَا السَّائِل بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن من صفته ذكره السَّيِّد أَبُو طَالب فِي الأمالي باسناده وَالسَّيِّد الرضي فِي النهج كِلَاهُمَا فِي جَوَابه عَلَيْهِ السَّلَام على الَّذِي قَالَ لَهُ صف لنا رَبنَا وَهَذَا لَا يُعَارض قَوْله عز وَجل {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ} لِأَنَّهُ لم ينزه ذَاته عَن الْوَصْف مُطلقًا حَتَّى يعم الْوَصْف الْحسن وَإِنَّمَا ينزه عَن وَصفهم لَهُ بِالْبَاطِلِ الْقَبِيح وَمِمَّا يحْتَاج إِلَى ذكر الشَّاهِد فِي هَذِه الاسماء الْمُخْتَلف فِي صِحَة سندها اسْم الصبور لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى وَقد خرج البُخَارِيّ وَمُسلم فِي حَدِيث أبي مُوسَى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا أحد أَصْبِر على أَذَى سَمعه من الله عز وَجل إِنَّه ليشرك بِهِ وَيجْعَل لَهُ الْوَلَد ثمَّ يعافيهم ويرزقهم ذكره ابْن الْأَثِير فِي آخر كتاب الصَّبْر من حرف الصَّاد من جَامعه وَيشْهد لذَلِك مَا ورد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم من نِسْبَة الْغَضَب فعلا لَا اسْما إِلَى الله تَعَالَى وكل ذَلِك مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء نقائص المخلوقين اللَّازِمَة لهَذِهِ الامور عَن جلال الله عز وَجل باجماع الْمُسلمين فِي الْمَعْنى وَإِن اخْتلفت عباراتهم وَالَّذِي فِي كتاب الله تَعَالَى اسْم الْحَلِيم وهما فِي الْمَعْنى متقاربان قَالَ ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة هُوَ الَّذِي لَا يعاجل العصاة وَمَعْنَاهُ قريب من معنى الْحَلِيم وَالْفرق بَينهمَا أَن المذنب لَا يَأْمَن الْعقُوبَة كَمَا يأمنها فِي صفة الْحَلِيم كَذَا قَالَ وَفِيه نظر فانه لَا أَمَان لمذنب من الْعقُوبَة بالاجماع من الوعيدية وَأهل الرَّجَاء واهل الارجاء لجهل الْخَوَاتِم والنصوص كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} وَفِي آيَة {إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَلقَوْله تَعَالَى {وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا} وَغير ذَلِك وَالله أعلم وَلذَلِك قَالَت المرجئة بِبَقَاء الْخَوْف فِي حَال التَّكْلِيف وَأما المنان فَقَالَ ابْن الاثير فِي النِّهَايَة وَغَيره أَنه الْمُنعم من الْمَنّ وَهُوَ الاحسان الَّذِي لَا يطْلب عَلَيْهِ جَزَاء لَا من الْمِنَّة وَهُوَ من تَفْسِير اللَّفْظ الْمُشْتَرك بِأَحْسَن مَعَانِيه لما قَدمته وَإِن كَانَت الْمِنَّة حَسَنَة من الله تَعَالَى كَمَا قَالَ {بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان} وَلَكِن الاسماء الْحسنى جمع الاحسن لَا جمع الْحسن كَمَا تقدم فَتَأمل ذَلِك يفتح لَك بَاب الْفِقْه فِي أَسمَاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فصل فِي التَّعْرِيف بالقصور عَن الاحاطة بِحَقِيقَة معرفَة الله تَعَالَى وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ ونعوته الجليلة من جَمِيع الْوُجُوه على مُقْتَضى مَا أرشدنا اليه رَبنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْله عز وَجل {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وكما اشْتهر عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ ابْن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى روته الْخُصُوم عَنهُ وَكفى بِهِ أُسْوَة وسلفا صَالحا فِي ذَلِك كَيفَ وَلَا يعرف لَهُ مُخَالف من أهل عصره وَمن بعدهمْ بل اعْترف الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد المعتزلي أَنه قَول لم تزل فضلاء الْعُقَلَاء مائلين اليه وَقد اخْتَرْت ايراد كَلَام الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى فِي شرح اسماء الله الْحسنى لحسن عِبَارَته ووضوح أَمْثَاله فِي ذَلِك فَأَقُول قَالَ الْغَزالِيّ فِي الْفَصْل الرَّابِع من مُقَدمَات الْمَقْصد الْأَسْنَى وَقد حث على الترقي فِي الْمَرَاتِب الشَّرِيفَة الكمالية من الْعلم وَالرَّحْمَة وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ تخلق بِبَعْض أَسمَاء الله عز وَجل فان قلت ظَاهر هَذَا الْكَلَام يُشِير إِلَى مشابهة بَين العَبْد وَبَين الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى لَيْسَ كمثله شَيْء فَأَقُول مهما عرفت معنى الْمُمَاثلَة المنفية عَن الله تَعَالَى عرفت أَنه لَا مثل لَهُ وَيَنْبَغِي أَن لَا تظن أَن الْمُشَاركَة بِأَيّ لفظ توجب الْمُمَاثلَة أَلا ترى أَن الضدين بَينهمَا غَايَة الْبعد الَّذِي لَا يتَصَوَّر أَن يكون فَوْقه بعد وهما متشاركان فِي أَوْصَاف كَثِيرَة فالسواد يُشَارك الْبيَاض فِي كَونه عرضا وَفِي كَونه مدْركا وَفِي كَونه لونا فِي كَونه مَوْجُودا ومرئيا ومعلوما وَفِي أُمُور أخر إِلَى قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَلَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لَكَانَ الْخلق كلهم مشبهة إِذْ لَا أقل من إِثْبَات الْمُشَاركَة فِي الْوُجُود بل الْمُمَاثلَة عبارَة عَن الْمُشَاركَة فِي النَّوْع والماهية فالفرس وَإِن كَانَ بَالغا فِي الكياسة لَا يكون مثلا للانسان لِأَنَّهُ مُخَالف لَهُ بالنوع وَإِنَّمَا يشابهه بالكياسة الَّتِي هِيَ عارضة خَارِجَة عَن الْمَاهِيّة المقومة للذات الانسانية والخاصية الالهية أَنه سُبْحَانَهُ الْمَوْجُود الْوَاجِب الْوُجُود بِذَاتِهِ الَّتِي عَنْهَا يُوجد مَا فِي الامكان وجوده على أحسن الْوُجُوه فِي النظام والكمال وَهَذِه الْخَاصَّة لَا يتَصَوَّر فِيهَا مُشَاركَة أَلْبَتَّة والمماثلة لَا تحصل إِلَّا بهَا فكون العَبْد صبورا شكُورًا لَا يُوجب الْمُمَاثلَة كَكَوْنِهِ سمعيا بَصيرًا عَالما قَادِرًا حَيا فَاعِلا بل أَقُول خاصية الالهية لَيْسَ إِلَّا لله عز وَجل وَلَا يعرفهَا إِلَّا الله وَلَا يتَصَوَّر أَن يعرفهَا إِلَّا هُوَ أَو مثله لَو كَانَ لَهُ مثل فحين لم يكن لَهُ مثل فَلَا يعرفهَا غَيره فاذا الْحق مَا قَالَه الْجُنَيْد رَحمَه الله تَعَالَى لَا يعرف الله إِلَّا الله إِلَى قَوْله بل أَزِيد فَأَقُول لَا يعرف أحد حَقِيقَة الْمَوْت وَالْجنَّة وَالنَّار إِلَّا بعد الْمَوْت وَدخُول الْجنَّة وَالنَّار لِأَن الْجنَّة عبارَة عَن أَسبَاب ملذة وَلَو فَرضنَا شخصا لم يدْرك قطّ لَذَّة لم يمكننا أصلا أَن نفهمه الْجنَّة تفهيما يرغبه فِيهَا وَكَذَلِكَ إِذا أدْرك شَيْئا من اللَّذَّات فغايتنا أَن نفهمه الْجنَّة بأعظم مَا ناله من تِلْكَ اللَّذَّات فان كَانَ فِي الْجنَّة لَذَّة مُخَالفَة لهَذِهِ اللَّذَّات فَلَا سَبِيل إِلَى تفهيمها أصلا إِلَّا بالتشبيه بِهَذِهِ الْمُخَالفَة لَهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي تَشْبِيه لَذَّة النِّكَاح بحلاوة السكر مَتى طالبنا الصَّغِير وَمن لَا يَشْتَهِي النِّكَاح أَن نعرفه ذَلِك بل الْعبارَة الصَّحِيحَة عَن الْجنَّة أَنَّهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فَكيف يتعجب من قَوْلنَا لم يحصل أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض من معرفَة الله تَعَالَى إِلَّا على الاسماء إِلَى قَوْله فان قلت فاذا لم يعرف حَقِيقَة ذَاته فَهَل تعرف حقائق الاسماء قُلْنَا هَيْهَات ذَلِك لَا يعرفهُ بالكمال إِلَّا هُوَ لأَنا إِذا علمنَا ذاتا عَالِمَة فقد علمنَا شَيْئا مُجملا لَا نَدْرِي مَا حَقِيقَته لَكِن نَدْرِي أَن لَهُ صفة الْعلم فان كَانَت صفة الْعلم مَعْلُومَة لنا حَقِيقَة كَانَ علمنَا بهَا علما تَاما وَإِلَّا فَلَا وَلكنه لَا يعرف أحد حَقِيقَة علم الله إِلَّا من لَهُ مثل علمه وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا لَهُ وَإِنَّمَا يعرفهُ غَيره بالتشبيه بِعلم نَفسه وَعلم الله لَا يُشبههُ علم الْخلق أَلْبَتَّة فَلَا يكون معرفتهم بِعِلْمِهِ معرفَة تَامَّة بل إلهامية تشبيهية فَلَا تعجبن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 هَذَا بل أَقُول لَا يعرف السَّاحر إِلَّا السَّاحر نَفسه أَو سَاحر مثله أَو فَوْقه انْتهى كَلَامه وَالْقَصْد تقريب الافهام من معنى قَول الله سُبْحَانَهُ {وَلَا يحيطون بِهِ علما} وَعَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي عجز الْعُقُول عَن ذَلِك امْتنع عَنْهَا بهَا واليها حاكمها وَقد ذكرت كَلَام الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد المعتزلي عَنْهَا فِي ذَلِك وأشعاره ومبالغته فِي نصرته قَرِيبا وَكَذَلِكَ نض الامام الْمُؤَيد بِاللَّه يحيى بن حَمْزَة فِي شَرحه لنهج البلاغة وَاحْتج بِكَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَام على ضعف كَلَام أبي هَاشم وَحكى الرَّازِيّ قَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عَن جُمْهُور الْمُحَقِّقين وَابْن أبي الْحَدِيد عَن فضلاء الْعُقَلَاء وَهُوَ قَول الباقلاتي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ والكيا الهراسي وَالْغَزالِيّ والصوفية حكى ذَلِك الزَّرْكَشِيّ فِي شرح جمع الْجَوَامِع وجود الْكَلَام احتجاجا وجوابا وَقد نقلته وزدت عَلَيْهِ فِي تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن وَيدخل فِيمَا ذكرته مَسْأَلَة الْقُرْآن وَمَسْأَلَة الرُّؤْيَة وَقد بسطت القَوْل فيهمَا فِي العواصم فِي المجلد الثَّانِي فِي مِقْدَار ثَمَانِينَ ورقة وجودت القَوْل فِي أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ على الانصاف وَللَّه الْحَمد وتقصيت كَلَام أهل المعقولات ومعارضة بَعضهم بَعْضًا ونقلته من كتبهمْ الحافلة الَّتِي هِيَ النِّهَايَة فِي ذَلِك ليخرج الْوَاقِف على ذَلِك من ظلمات التَّقْلِيد والعصبية وَهُوَ يَأْتِي جُزْءا مُفردا لمن أحب أَن يضمه إِلَى هَذَا أَو مجلدا وَاحِدًا مَعَ هَذَا لمن أحب وَيلْحق بِهَذَا الاشارة إِلَى مَذْهَب أهل السّنة فِي معنى قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} قَالُوا المُرَاد نفي التَّشْبِيه بتعظيم الاسماء الْحسنى واثباتها لَا بنفيها كَمَا قَالَت القرامطة مِثَاله أَنه عليم لَا يعرب عَن علمه شَيْء وَلَا يَزُول علمه وَلَا يتَغَيَّر وَلَا يكْتَسب بِالنّظرِ الَّذِي يجوز فِيهِ الْخَطَأ وَيتَعَلَّق بالماضي والمستقبل والغيب وَالشَّهَادَة وَيعلم خَائِنَة الاعين وَمَا تخفي الصُّدُور وَلَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم وأمثال ذَلِك فِي كل اسْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وَيدل على قَوْلهم وُجُوه الأول قَوْله فِي آخر الْآيَة {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} وَهُوَ أوضح دَلِيل على ذَلِك الثَّانِي تمدحه تَعَالَى بِكُل اسْم على انْفِرَاده الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} وَقَوله تَعَالَى {وَله الْمثل الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي الْوَصْف الاعلى على أَلْسِنَة أهل السَّمَوَات والارض وَهُوَ كَمَال الثَّنَاء بأسمائه الْحسنى كَمَا ذكره الْمُفَسِّرُونَ وَالْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا وَأما نفي الاسماء عَنهُ وتأويلها فَلَا يدل عَلَيْهِ عقل وَلَا سمع بل هُوَ خلاف الْمَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وَلَيْسَ فِيهِ من الشُّبْهَة غير تسميتهم لَهُ تَنْزِيها وَهُوَ اسْم حسن على مُسَمّى قَبِيح فَالْوَاجِب تَنْزِيه الله تَعَالَى مِنْهُ الرَّابِع اجماع أهل الاسلام على مدحه تَعَالَى باثبات الاسماء الْحسنى لَا بنفيها فان تَسْمِيَة الْمَلَاحِدَة نَفيهَا تَنْزِيها لله تَعَالَى من مكائدهم للاسلام وَالْمُسْلِمين وَكم فعلت الزَّنَادِقَة فِي الاسلام من نَحْو ذَلِك يسترون قبائح عقائدهم بتحسين الْعبارَات قَاتلهم الله تَعَالَى وَبِذَلِك تمّ الْكَلَام فِي الذَّات والاسماء الْحسنى وَالله الْهَادِي وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل ويتلوه الْكَلَام فِي الْحِكْمَة والمشيئة وَالْقَضَاء وَالْقدر وأفعال الْعِبَادَة وتمكينهم والاسماء الدِّينِيَّة والوعد والوعيد والتكفير والتفسيق وَمَا يجب من حب الْقَرَابَة وَالصَّحَابَة وَسَائِر الْمُؤمنِينَ تمّ الْجُزْء الْمُبَارك من إِيثَار الْحق على الْخلق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله وَحده المهم الثَّانِي الْكَلَام فِي حِكْمَة الله تَعَالَى تمّ فِي مَشِيئَته ومحبته وأفعال الْعباد وَمَا يتَعَلَّق بهَا من الْكفْر وَالْفِسْق والوعد والوعيد وَهَذَا المهم يخْتَص بِمن قد عرف من علم الْكَلَام وَالِاخْتِلَاف مَا أمرض قلبه أَو منع يقينه بالاعتقاد الْجملِي أَو من رسخت فِي قلبه العصبية وَلم يسْتَطع دَفعهَا من غير حجَّة حِين بقيت بِلَا معَارض أَو من ضل بالتقليد وَمن كَانَ فِي عَافِيَة من ذَلِك فَلَا يحْتَاج اليه وَالله أعلم ولنبدأ بالْقَوْل فِي الْحِكْمَة لِأَنَّهَا الاساس فانها نوع مَخْصُوص من علم الله تَعَالَى بالمنافع الْخفية والعقول الحميدة والمصالح الراجحة وَبهَا تبرز أَفعاله تَعَالَى من الْقُدْرَة إِلَى الْوُجُود ويتبين عجز الْعُقُول عَن مدارك جَمِيع مَا لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الْحِكْمَة وَالْكَرم والجود فَنَقُول وَبِاللَّهِ نستعين وَهُوَ حسيبنا وَنعم الْوَكِيل الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى فِي جَمِيع أَفعاله وَأَن ذَلِك أحوط وَمَعْنَاهَا هَهُنَا الْعلم بِأَفْضَل الاعمال وَالْعَمَل بِمُقْتَضى ذَلِك الْعلم مِثَاله الْعلم بِأَن الصدْق أولى من الْكَذِب وَالْعدْل أولى من الْجور والجود أولى من الْبُخْل والاحسان أولى من الاساءة وَلَا خلاف فِي تَسْمِيَة هَذَا الَّذِي ذكرته حِكْمَة فِي حق الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء من الْخلق وَإِنَّمَا ادّعى بعض الغلاة أَن مثل ذَلِك مِنْهَا محَال فِي حق الرب عز وَجل كَمَا يَأْتِي فَسَاده وتختلف الْعبارَات عَمَّا ذكرنَا وَالْمعْنَى وَاحِد وَقد ذكر ابْن الاثير فِي النِّهَايَة فِي غَرِيب الحَدِيث أَن الْحِكْمَة الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بِأَفْضَل الاعمال وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة} فان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يعلمهُمْ الصناعات بالاجماع وَإِنَّمَا كَانَ يعلمهُمْ أفضل الْأَعْمَال من أحسن الْأَخْلَاق وعَلى هَذَا التَّفْسِير قَوْله تَعَالَى {حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر} وَقَوله تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن اشكر لله وَمن يشْكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب وَالْحكمَة يعظكم بِهِ} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} وَقَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} فانه لَا يَصح تَأْوِيل الْحَكِيم فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ وَغَيرهمَا بالمحكم لعدم الْمُنَاسبَة كَمَا سَيَأْتِي وَعبارَة أهل الْكَلَام فِي تَفْسِير الْحِكْمَة أَنَّهَا اثبات دَاع رَاجِح إِلَى جَمِيع مَا فعله الله وأراده وان خَفِي على خلقه أَو كثير مِنْهُم والمرجع بِهَذَا الدَّاعِي إِلَى علم الله تَعَالَى بالمصالح والغايات الحميدة وَسبب وُقُوع الْخلاف فِي ذَلِك أَن قوما مِمَّن أثبت الْحِكْمَة غلوا فِي ذَلِك فأوجبوا معرفَة الْعُقُول للحكمة بِعَينهَا على جِهَة التَّفْصِيل فجاؤا بأَشْيَاء ركيكة فَرد عَلَيْهِم ذَلِك طَائِفَة من الاشعرية وغلوا فِي الرَّد وَأَرَادُوا حسم مواد الِاعْتِرَاض بِنَفْي التحسين الْعقلِيّ واستلزم ذَلِك نفي الْحِكْمَة فتجاوزوا الْحَد فِي الرَّد فوقعوا فِي أبعد مِمَّا ردُّوهُ وَأَشد وَخير الامور أوسطها وَالْقَوْل بحكمة الله تَعَالَى أوضح من أَن يرْوى عَن صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ أَو مُسلم سَالم من تَغْيِير الْفطْرَة الَّتِي فطر الله خلقه عَلَيْهَا وَلذَلِك تقر بِهِ الْعَوام من كل فرقة ويقر بِهِ كل من لم يَتَلَقَّن خِلَافه من اتِّبَاع غلاة بعض الْمُتَكَلِّمين على مَا فيهم من الشذوذ وَقد اجتهدوا واحتالوا فِي تَحْسِين مَذْهَبهم بِمُجَرَّد عِبَارَات مزخرفة لَيْسَ تحتهَا أثارة من علم مثل تَسْمِيَة الْحِكْمَة الْعلَّة وإبهام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أَن القَوْل بالحكمة يقْدَح فِي كَون الله غَنِيا وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل وَلَو كَانَ ذَلِك يقْدَح فِي غناهُ وَجب أَن يقْدَح فِي غناهُ وجوب وَصفه بِكَوْنِهِ عليما قَدِيرًا سميعا بَصيرًا إِلَى سَائِر أَسْمَائِهِ الْحسنى خُصُوصا كَونه تَعَالَى مرِيدا وَلزِمَ مَذْهَب الْمَلَاحِدَة فِي نفي جَمِيع أَسْمَائِهِ وَكَانَ الْمَعْدُوم والجماد أغْنى الْأَغْنِيَاء وَقد تقرر فِي قَوَاعِد أهل الاسلام نفي التَّشْبِيه عَن ذَات الله تَعَالَى وصفات وأفعاله وتقرر أَن المُرَاد بِنَفْي التَّشْبِيه تَعْظِيم الرب جلّ وَعز فِي ذَاته وَصِفَاته وأفعاله لَا نفي الصِّفَات والاسماء والممادح فَمن الْوَاجِب فِي نفي التَّشْبِيه عَن أَفعاله أَن تكون أكمل من أَفعَال المخلوقين من جَمِيع الْوُجُوه لَا أَنَّهَا تكون أخس وَلَا أنقص فِي وَجه وَاحِد من الْوُجُوه المحمودة وَلَا ريب وَلَا شُبْهَة أَن قَاعِدَة الْكَمَال فِي الافعال أَن يكون صدورها عَن الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي توجيهها إِلَى الْمصَالح الراجحة والعواقب الحميدة فَكلما ظهر ذَلِك فِيهَا كَانَت أدل على حِكْمَة فاعلها وَعلمه وَحسن اخْتِيَاره ومحامده وَكلما بَعدت عَن ذَلِك كَانَت أشبه بالآثار الاتفاقية وَمَا يتَوَلَّد عَن الْعِلَل الْمُوجبَة وأشبهت أَفعَال الصّبيان فِي ملاعبهم والمجانين فِي خيالاتهم فَلَا يُوجد فِي أَفعَال المخلوقين أخس وَلَا أنقص من أَفعَال الصّبيان والمجانين لخلوها عَن الْحِكْمَة مَعَ أَنَّهَا لم تخل من مُوَافقَة شهواتهم وَلم تجرد عَن كل دَاع فَمن نفي عَن أَفعَال الله كل دَاع وَحِكْمَة فقد جعلهَا من هَذِه الْجِهَة أنقص قدرا من أَفعَال الصّبيان والمجانين فِي ملاعبهم وجنونهم وأصل أهل الاسلام تَحْرِيم تَشْبِيه أَفعَال الله بِأَفْعَال الْعُقَلَاء والحكماء فِي كمالها وَعدم مداناتهم لَهَا فِي ذَلِك لزيادتها فِي الْكَمَال فِي ذَلِك وبلوغها فِي الزِّيَادَة إِلَى منزلَة لَا تبلغها عقول الاذكياء والحكماء كَمَا أَن الْحَيَوَان البهيمي لَا يبلغ بِمَا لَهُ من الالهام إِلَى تعرف حِكْمَة الْحُكَمَاء وتصانيف الأذكياء ومعارف الفطناء وَلَا يتَمَكَّن من معرفَة مِقْدَار زيادتهم عَلَيْهِ فَكَذَلِك الْحُكَمَاء لَا يعْرفُونَ جَمِيع حِكْمَة الله تَعَالَى وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يعرفوا مِقْدَار زيادتها على حكمتهم كَمَا وضح فِي قصَّة مُوسَى مَعَ الْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام وَللَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الْمثل الْأَعْلَى وَكَيف تجْعَل أَفعَال أحكم الْحَاكِمين أنقص رُتْبَة فِي خلوها عَن الْحِكْمَة وَأبْعد عَنْهَا من مرتبَة أَفعَال الصّبيان والمجانين والساهين وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنهم جعلوها أنقص فِي ذَلِك لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنهم قطعُوا بخلوها كلهَا عَن كل حِكْمَة وداع وَسبب وَمنعُوا أَن تكون أَفعاله كلهَا أرجح من أضدادها إِلَّا فِي الاقوال فأوجبوا الصدْق فِي أَقْوَال الله تَعَالَى وَمنعُوا ضِدّه وَهُوَ الْكَذِب ولزمهم بذلك الْمُوَافقَة على ثُبُوت مثل ذَلِك فِي الافعال إِذْ لم يفرقُوا بَين الْأَفْعَال والأقوال بِحجَّة بَيِّنَة وَلَكِن خَافُوا من تَجْوِيز الْكَذِب على الله صَرِيح الْكفْر وَإِنَّمَا الاقوال نوع من الْأَعْمَال وَقد أَجمعت الامة على دُخُول الاقوال والاعمال فِي الْوَعْد والوعيد على الاعمال وَفِي الصَّحِيح أَن أفضل الْعلم شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة أَنه لَا تردد فِي دُخُول الاقوال فِي حَدِيث (الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وأمثال ذَلِك كَثِيرَة جدا هَذَا فِي اللُّغَة وَالنَّص والاجماع وَأما الْعقل فَلَا ريب فِي تساويهما فِي ذَلِك فَمَا بالهم أوجبوا صِيَانة الاقوال الربانية عَن النقائص وَأما فِي الْأَفْعَال الربانية فحكموا بِأَنَّهُ تَعَالَى لَو عكس الحكم فِي جَمِيع أوامره العادلة الْمصلحَة الحكيمة فِي شرائعه وَأَحْكَامه فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ فِي يَوْم الْقِيَامَة أَو عذب الْأَنْبِيَاء والأولياء وأهانهم وأخزاهم بذنوب غَيرهم ثمَّ أَدخل أعداءه وأعداءهم الْجنَّة بحسناتهم واكرامهم وعظمهم مَا كَانَ هَذَا الْحَال عَلَيْهِ بأبعد عَن حكمته ومحامدة فِي الْعقل والسمع مِمَّا هُوَ فَاعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا تمدح بِهِ وَسَماهُ حَقًا وعدلا وَحِكْمَة وصوابا وتمدح لذَلِك بِأَنَّهُ لَا معقب لحكمه وَلَا مبدل لكلماته وَبِأَنَّهُ إِذا بدل آيَة مَكَان آيَة لَا يبدلها إِلَّا بِمَا هُوَ خير مِنْهَا أَو مثلهَا فزعموا أَن التَّسْوِيَة بَين أَحْكَامه وأضدادها هُوَ مُقْتَضى الْعُقُول والشرائع لَكِن الشَّرَائِع وَردت بالْخبر عَن وُقُوع أحد الجائزين المتماثلين فِي الْحِكْمَة مثل تماثلهما فِي الْقُدْرَة بل المتماثلين فِي الْقُدْرَة بِلَا حِكْمَة عِنْدهم إِلَّا الصدْق فِي الْخَبَر فَوَاجِب وَحده فانا لله إِن كَانَت ذهبت الْعُقُول فَأَيْنَ الْحيَاء من الله تَعَالَى وَكتبه وَرُسُله وَالْمُسْلِمين وَمن الْعجب ظنهم أَن هَذَا كُله جَائِز عَلَيْهِ فِي أَفعاله عقلا وَلَا يجوز فِي أَقْوَاله عقلا أدنى نقص وَلَا لغب وَهُوَ كَمَا قَالُوا فِي الْأَقْوَال لَكِن الصَّوَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 صِيَانة أَفعاله كأقواله من الاهمال بل إهمال الافعال من الْحِكْمَة أضرّ وأقبح من إهمال الْأَقْوَال وَكم بَين التخليد فِي عَذَاب جَهَنَّم بِلَا ذَنْب بل بذنب الْغَيْر وَبَين الْخلف فِي وعد بمثوبة عِنْد جَمِيع الْعُقَلَاء فَمن لم يجز عَلَيْهِ هَذَا الْخلف كَيفَ يجوز عَلَيْهِ ذَلِك التعسف وَثَانِيهمَا أَنهم جعلُوا صُدُور الافعال مِنْهُ تَعَالَى عَن حِكْمَة محالا عَلَيْهِ غير مُمكن لَهُ وَلَا دَاخل فِي مقدوره كاحالة الْأكل وَالشرب عَلَيْهِ وصدورها عَن حِكْمَة غير محَال فِي حق الصّبيان والمجانين والغافلين والنائمين والمفسدين عِنْد الْجَمِيع بل يلْزمهُم أَن الله تَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا لَو عكس الصدْق وَالْحق وَبعث الْكَاذِبين المفسدين وأيدهم بالمعجزات مَا كَانَ أولى من عكس ذَلِك وَلم ينفصلوا عَن هَذَا الالزام بِوَجْه بَين وَإِنَّمَا خرموا قاعدتهم فِيهِ خوفًا من صَرِيح الْكفْر فَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا يمْتَنع الْكَذِب فِي كَلَام الله تَعَالَى لِأَنَّهُ قديم وَهَذَا قد جوز أَن الْكَذِب من حَيْثُ هُوَ كذب قَبِيح لكنه مَعَ ذَلِك نسب إِلَى الله تَعَالَى عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَجمع بَين تجويزه نقصين نقص الْكَذِب لَو دخل فِي قدرَة الله تَعَالَى وَنقص الْعَجز عَنهُ تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلذَلِك أبْطلهُ الرَّازِيّ بِأَن الْقدَم يخْتَص الْكَلَام النَّفْسِيّ لَا الْأَصْوَات عِنْدهم وَقَالَ الرَّازِيّ إِنَّمَا يمْتَنع الْكَذِب على الله تَعَالَى لِأَن صفة النَّقْص لَا تجوز على الله تَعَالَى وَهَذَا كَلَام صَحِيح لَكِن كَون الْكَذِب صفة نقص اعْتِرَاف بالتحسين والتقبيح وَثُبُوت الْحِكْمَة عقلا وَإِذا وَقع الاجماع على أَن الْكَذِب صفة نقص وعَلى أَنه إِنَّمَا امْتنع على الله لكَونه صفة نقص فَكَذَلِك تَعْذِيب الانبياء بذنوب أعدائهم وإثابة أعدائهم بحسناتهم فِي يَوْم الْقِيَامَة وَيَوْم الدّين وَالْحق وَالْعدْل فانه محَال على الله تَعَالَى عقلا وسمعا من الْجِهَة الَّتِي اسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْكَذِب مِنْهَا وَمن زعم أَن بَينهمَا فرقا فِي النَّقْص على الْعدْل الْحَكِيم فقد أبطل وَالله يحب الانصاف على أَن بعثة الرُّسُل الصَّادِقين دون الْكَذَّابين من محسنات الافعال الَّتِي نازعوا فِيهَا وَلَيْسَت من صدق الاقوال الَّذِي أوجبوه فلزمهم تَجْوِيز بعثة الْكَذَّابين وتأييدهم بالمعجزات وَلذَلِك لما قرر هَذَا بعض أَئِمَّة المعقولات مِنْهُم لم ينْفَصل عَنهُ إِلَّا بالزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 خصومهم مثله وَترك ذَلِك كَذَلِك غنيمَة بَارِدَة للزنادقة والملاحدة مَتى وقفُوا عَلَيْهِ أَو ظفروا بِهِ وَالله الْمُسْتَعَان وَقد أَجمعت الامة وَعلم من الدّين ضَرُورَة أَن الله تَعَالَى تمدح بِأَنَّهُ الْملك الحميد وَإِلَى هذَيْن الاسمين الشريفين ترجع متفرقات أَسْمَائِهِ الْحسنى فَمَا كَانَ مِنْهَا يَقْتَضِي كَمَال الْعِزَّة وَالْقُدْرَة والجبروت والاستقلال والجلال دخل فِي اسْم الْملك وَعَاد اليه وَمَا كَانَ مِنْهَا يَقْتَضِي الْجُود وَالرَّحْمَة واللطف والصدق وَالْعدْل وكشف الضّر وأمثال ذَلِك من الممادح دخل فِي اسْم الحميد وَعَاد اليه وَرُبمَا عبر عَنْهُمَا بِمَا رادفهما أَو أَحدهمَا مثل قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الثَّنَاء وَالْمجد وَقَوله إِنَّك حميد مجيد فان الْمجد هُوَ الْملك وَالثنَاء هُوَ الْحَمد فَمن النَّاس من نظر إِلَى اسْم الْملك فَعَظمهُ ووفاه حَقه بِالنّظرِ إِلَى معارف الْبشر وَقصر فِي اسْم الحميد وَمَعْنَاهُ بِنَفْي الْحِكْمَة عَن أَفعاله كلهَا كَمَا أَن من النَّاس من عكس فَبَالغ فِي اسْم الحميد وَقصر فِي تَعْظِيم ملكه وَقدرته وعزته فَلم يَجْعَل لَهُ قدرَة على اللطف بِعَبْد وَاحِد من جَمِيع عباده العصاة كَمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة وَجَمِيع أَئِمَّة الاسلام العارفين جمعُوا بَين تَعْظِيم هذَيْن الاسمين الشريفين ووفوا كل وَاحِد مِنْهُمَا حَقه على حسب قوى الْبشر فِي ذَلِك وَمِمَّا قلته فِي ذَلِك فِي الاجادة (فَمن قَاصد تنزيهه لَو رعى لَهُ ... من الجبروت الْحق عز التعاظم) (وَمن قَاصد تَعْظِيمه لَو رعى لَهُ ... محامد ممدوح بِأَحْكَم حَاكم) (وحافظ كل العارفين عَلَيْهِمَا ... وَهَذَا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم لقائم) ذَلِك أَن اسْم الْملك يَقْتَضِي تفرده بالخلق والامر والعزة وَعلم الغيوب وَالْقُدْرَة على كل شَيْء ثمَّ أَن الْكَمَال الاعظم فِي ذَلِك كُله يَقْتَضِي نُفُوذ الْمَشِيئَة وَسبق الْقَضَاء من غير جبر كَيْلا يفوت عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مُرَاد واسْمه الحميد يَقْتَضِي كَمَال الْحَمد وَالْعدْل وَالْحكمَة وَالْفضل والصدق والجود وَالثنَاء وَالتَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس ثمَّ أَن الْكَمَال الْأَعْظَم فِي ذَلِك كُله يَقْتَضِي أوفر نصيب لأفعاله الحميدة وَأَحْكَامه العادلة من التَّنْزِيه عَن اللّعب والعبث والخلو عَن الْحِكْمَة والمساواة بَينهَا وَبَين أضدادها وَهَذَا مَا لَا شُبْهَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فِيهِ وَلذَلِك نَص عَلَيْهِ كثير من أَئِمَّة الْآثَار بل من عُلَمَاء الْكَلَام الَّذين رُبمَا اتهمهم خصومهم أَنهم من نفاة الْحِكْمَة وَأَنا أورد من ذَلِك الْيَسِير على قدر هَذَا الْمُخْتَصر فَمن ذَلِك أَن ابْن الْحَاجِب جزم فِي كِتَابه مُخْتَصر مُنْتَهى السؤل والامل باجماع الْفُقَهَاء على أَن أَفعَال الله تَعَالَى فِي الشَّرَائِع معللة ذكره فِي دَلِيل الْعَمَل بالسير وَتَخْرِيج المناط من الْقيَاس وَذكر فِي مسالك الْعلَّة أَنَّهَا صَرِيح وتنبيه وإيماء فالصريح مثل لعِلَّة كَذَا أَو بِسَبَب أَو لاجل أَو لكَي أَو اذن أَو مثل لكذا أَو ان كَانَ كَذَا أَو بِكَذَا أَو مثل فانهم يحشرون أَو فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا وَمثل سَهَا فَسجدَ ثمَّ ذكر أَقسَام التَّنْبِيه والايماء بعد ذَلِك وَجَمِيع الاشعرية يتابعونه على ذَلِك فِي أصُول الْفِقْه كالرازي فِي الْمَحْصُول وَالْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى وَجَمِيع من أثبت الْقيَاس فِي الْفُرُوع وَكَذَلِكَ شرَّاح كِتَابه مِنْهُم وَمن غَيرهم مَعَ كثرتهم وَأَكْثَرهم أشعرية قرروا ذَلِك وَلم يعترضوه وَقد قيل أَنه شرح بسبعين شرحا وَأما قَول عضد الدّين فِي شَرحه وجوبا عِنْد الْمُعْتَزلَة وتفضلا عِنْد غَيرهم فانما أَرَادَ ارسال الرُّسُل لَا تَعْلِيل الاحكام الشَّرْعِيَّة وَإِلَّا بَطل الْقيَاس وَلِأَن هَذَا النَّقْل عَن الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم بَاطِل فِي تَعْلِيل الاحكام الشَّرْعِيَّة وَكَذَلِكَ ذكر الْحَافِظ أسعد بن عَليّ الْمَعْرُوف بالزنجاني أَن ذَلِك مَذْهَب أهل السّنة وَهُوَ من أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة ذكره فِي شرح قصيدته الشهيرة فِي الْحَث على السّنة وَهِي الَّتِي أَولهَا (تمسك بِحَبل الله وَاتبع الْخَبَر) وَذكر الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عِكْرِمَة من الْمِيزَان مَا يدل على ذَلِك وَكَذَلِكَ الامام الْخطابِيّ والعلامة الدَّمِيرِيّ من أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة وَأهل السّنة ذكرا حِكْمَة الله تَعَالَى فِي خلق الدَّاء والدواء فِي جناحي الذُّبَاب والهامة تَقْدِيم مَا فِيهِ الدَّاء وَتَأْخِير مَا فِيهِ الدَّوَاء ردا على من من طعن فِي الحَدِيث بذلك ونصا على أَن لله حِكْمَة فِي كل شَيْء وطولا فِي ذَلِك ذكره الدَّمِيرِيّ فِي كِتَابه حَيَاة الْحَيَوَان فِي ذكر الذُّبَاب من حرف الذَّال وَشرح ابْن الْأَثِير الْحَكِيم بالحاكم وبذى الْحِكْمَة مَعًا وَلم يُنكر تَفْسِيره بِذِي الْحِكْمَة ويجعله من الْبدع وَفسّر الْحِكْمَة بِمَعْرِِفَة أفضل الْأَشْيَاء بِأَفْضَل الْعُلُوم فَجعل الاشياء متفاضلة فِي أَنْفسهَا وَالْحكمَة معرفَة ذَلِك وَهَذَا هُوَ المُرَاد وَإِذا كَانَ للاسم الشريف مَعْنيانِ صَحِيحَانِ مشتملان على الْحَمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَالثنَاء لم يَصح منع أَحدهمَا على أَن تَفْسِير الْحَكِيم بالحاكم مُطلقًا مِمَّا لم أره فِي كتب اللُّغَة وَلَعَلَّ ابْن الْأَثِير قلد فِيهِ بعض الْمُتَكَلِّمين وَهَذِه كتب اللُّغَة مَوْجُودَة وَالله يحب الانصاف وَذكر ابْن كثير فِي الأول من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون} قَالَ ابْن كثير أَي من يرد الله فتنته فَلَنْ يملك أحد هدايته هُوَ الَّذِي يهدي من يَشَاء ويضل من يَشَاء وَهُوَ الفعال لما يُرِيد وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم بِمن يسْتَحق الْهِدَايَة مِمَّن يسْتَحق الغواية وَله الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحجّة الدامغة اه بِحُرُوفِهِ هُوَ إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} كَمَا ذكره الذَّهَبِيّ فالزنجاني والذهبي وَابْن كثير من أَئِمَّة الاثر وأئمة الشَّافِعِيَّة وَأهل السّنة وَقد تطابقوا على تَعْلِيل أَفعَال الله بالحكمة من غير حِكَايَة خلاف فِي ذَلِك بل ذكر ذَلِك الْغَزالِيّ مَعَ توغله فِي علم الْكَلَام ذكره فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى فِي شرح أَسمَاء الله الْحسنى فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم وَكَذَلِكَ ذكر مثل ذَلِك فِي الاحياء فِي سر الْقدر كَمَا تقدم وَمن كَلَامه فِي الْمَقْصد الاسنى مَا لَفظه وَلذَلِك قَالَ الله سبقت رَحْمَتي غَضَبي فغضبه ارادته الشَّرّ وَالشَّر بارادته وَرَحمته ارادته الْخَيْر وَالْخَيْر بارادته وَلَكِن أَرَادَ الْخَيْر للخير نَفسه وَأَرَادَ الشَّرّ لَا لذاته بل لما تضمنه من الْخَيْر إِلَى قَوْله فَلَا تشكن أصلا فِي أَن الله أرْحم الرَّاحِمِينَ وانه سبقت رَحمته غَضَبه وَلَا تستريبن فِي أَن مُرِيد الشَّرّ للشر لَا للخير غير مُسْتَحقّ اسْم الرَّحْمَة إِلَى آخر مَا ذكره وَهُوَ كَلَام طَوِيل متداول بَين أهل السّنة وَكَذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم فِي حَدِيث وَالشَّر لَيْسَ اليك أَي لَيْسَ بشر بِالنّظرِ إِلَى حكمتك فِيهِ وَإنَّك لَا تفعل الْعَبَث وَذكره فِي الاذكار أَيْضا وَذكر ذَلِك الْفَقِيه ابْن الْعَرَبِيّ الْمَالِكِي فِي شرح التِّرْمِذِيّ وَمن كَلَامه فِيهِ مَا لَفظه فان البارى لَا يجوز عَلَيْهِ الاهمال بِحَال وَلَا بِوَجْه قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَقد وهم فِي ذَلِك المتكلمون من عُلَمَائِنَا فِي بعض الاطلاقات على الله وَذَلِكَ قَبِيح فَلَا تلتفتوا اليه ذكره فِي أول كتاب الصّيام بل قَالَ الرَّازِيّ فِي مَفَاتِيح الْغَيْب إِن مَسْأَلَة الافعال وَقعت فِي حيّز التَّعَارُض بِحَسب تَعْظِيم الله تَعَالَى نظرا إِلَى قدرته وبحسب تَعْظِيمه سُبْحَانَهُ نظرا إِلَى حكمته إِلَى آخر كَلَامه كَمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَة الافعال ويعضده كَلَامه فِي وَصيته وَفِي أصُول الْفِقْه وَقَالَ الامام الْعَلامَة مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ إِمَام السّنة مَا لَفظه (فان قَالَ قَائِل) فَمَا معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ إِن كَانَ الامر كَمَا وصفت من أَن الَّذِي سبق لأهل السَّعَادَة والشقاء لم يضْطَر وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الَّذِي كَانَ يعْمل وَلم يجْبرهُ عَلَيْهِ (قيل) هُوَ أَن أهل كل فريق من هذَيْن مسهل لَهُ الْعَمَل الَّذِي اخْتَارَهُ لنَفسِهِ مزين لَهُ ذَلِك كَمَا قَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَالله عليم حَكِيم} وَأما أهل الشقاوة فانه زين لَهُم أَعْمَالهم لإيثارهم لَهَا على الْعَمَل بِطَاعَتِهِ كَمَا قَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ {إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة زينا لَهُم أَعْمَالهم فهم يعمهون} إِلَى قَوْله لِأَن الْمُضْطَر إِلَى الشَّيْء لَا شكّ أَنه مكره عَلَيْهِ لَا محب لَهُ بل هُوَ لَهُ كَارِه وَمِنْه هارب وَالْكَافِر يُقَاتل دون كفره إِلَى آخر مَا ذكره وَهُوَ كَلَام جيد مطول ذكره بِكَمَالِهِ الْعَلامَة ابْن بطال فِي أَبْوَاب الْقدر من شرح صَحِيح البُخَارِيّ محتجا بِهِ على بطلَان قَول الجبرية الْجَهْمِية وموضحا لبراءة أهل السّنة مِنْهُم وَالْحجّة فِيهِ هُنَا قَوْله لإيثارهم لَهَا على طَاعَته وَفِي الواحدي فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وأضله الله على علم} عَن سعيد بن جُبَير على علمه فِيهِ وَهُوَ من هَذَا الْقَبِيل وَإِلَّا لم يكن مناسبا وَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِير آخر وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي مواعظه بَث الحكم فَلم يُعَارض بلم وَقَالَ ابْن قيم الْجَوْزِيّ الْحَنْبَلِيّ فِي حادي الْأَرْوَاح مَا لَفظه محَال على أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالمين أَن تكون أَفعاله معطلة عَن الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 والمصالح والغايات الحميدة وَالْقُرْآن وَالسّنة والعقول وَالْفطر والآيات شاهدة بِبُطْلَان ذَلِك وَقَالَ فِي الْجَواب الْكَافِي وَمَا قدرُوا الله حق قدره من نفي حَقِيقَة حكمته الَّتِي هِيَ الغايات المحمودة الْمَقْصُودَة بِفِعْلِهِ وَكَذَلِكَ نصر ذَلِك شَيْخه ابْن تَيْمِية وَبَالغ فِي نصرته وَذكر الزَّرْكَشِيّ فِي شرح جمع الْجَوَامِع نَحْو ذَلِك عَن الْحَنَفِيَّة وَأَنَّهُمْ رَوَوْهُ عَن ح قَالَ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الزنجاني من أَصْحَابنَا وَأَبُو الْخطاب من الْحَنَابِلَة وَهُوَ الْمَنْصُور لقُوته من حَيْثُ الْفطْرَة وآيات الْقُرْآن الْمجِيد وسلامته من الوهن والتعارض فَهَؤُلَاءِ سَبْعَة عشر من أكَابِر الاشعرية وَأهل الْكَلَام وَأهل السّنَن والْآثَار من الْمُتَأَخِّرين تيَسّر لي النَّقْل عَنْهُم الْآن مَعَ بعدِي عَن دِيَارهمْ دع عَنْك قدماء السّلف الَّذين صانهم الله وصان أزمنتهم عَن الْبدع فَلَو ادّعى مُدع اجماع الْمُتَأَخِّرين مَعَ اجماع الْمُتَقَدِّمين من الْمُسلمين على ذَلِك لما بعد عَن الصَّوَاب وَالله الْهَادِي أما القدماء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فقد علم ضَرُورَة أَنهم لم يتأولوا اسْم الله الْحَكِيم وَأما الْمُتَأَخّرُونَ فَأَما طوائف الْفُقَهَاء وَأهل الْأَثر والشيعة والمعتزلة على كَثْرَة فرقهم فقد اتَّفقُوا على ذَلِك أما أهل الْأَثر فقد تقدم نَقله عَنْهُم من غير مُعَارضَة وَأما طوائف الْفُقَهَاء فقد نَقله عَنْهُم ابْن الْحَاجِب عُمُوما وَادّعى اجماعهم وَأما كل طَائِفَة مِنْهُم خُصُوصا فقد تقدم نَقله عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَأما الشَّافِعِيَّة فَذكر مِنْهُم جمَاعَة عرفت مِنْهُم وَقت هَذَا التَّعْلِيق عشرَة الْخطابِيّ وَعلي بن خلف بن بطال والزنجاني وَابْن كثير والذهبي وَالْغَزالِيّ وَالنَّوَوِيّ وَابْن الْأَثِير وَالزَّرْكَشِيّ والدميري وَتركت الرَّازِيّ لتعارض كَلَامه فِي ذَلِك وَأما الْمَالِكِيَّة فَذكر مِنْهُم ابْن الْحَاجِب وَابْن الْعَرَبِيّ وصدع بِالْحَقِّ فِي هَذَا الْموضع وَنَصّ على قبح ذَلِك مِمَّن قَالَ بِهِ من متكلميهم وَأما الْحَنَابِلَة فَذكر مِنْهُم أَرْبَعَة ابْن الْجَوْزِيّ وَأَبُو الْخطاب وَابْن قيم الجوزيه وَشَيْخه ابْن تَيْمِية وبالغا فِي نصرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فصل فِي ذكر الادلة على ذَلِك وَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة الجليلة وَإِن كَانَت جلية فقد أحْوج أهل اللجاج والتمسك بالمتشابهات إِلَى التَّطْوِيل فِيهَا لما يتَفَرَّع عَنْهَا ويبتني عَلَيْهَا من الْقَوَاعِد وَقد بسطت الادلة عَلَيْهَا فِي العواصم وَلَكِن لابد من التَّبَرُّك بِذكر طرف صَالح غير الْمَشْهُور فِي علم الْكَلَام يدْفع الله بِهِ فِي نَحْو الْمُخَالفين فَمن ذَلِك مَا ورد فِي تَعْلِيل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأجل مُسَمّى} وَفِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة دلَالَة على أَن الفكرة الْعَقْلِيَّة الصَّحِيحَة تثمر الْمعرفَة بحكمة الله وَالْقطع على تَنْزِيه الله من الْعَبَث واللعب كَمَا أَن الادلة الشَّرْعِيَّة جَاءَت بذلك وَذَلِكَ وَاضح فِي قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم} فَهِيَ حجَّة على إِثْبَات التحسين الْعقلِيّ كَقَوْلِه {أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم بِهَذَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار} وَقَالَ {هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} إِلَى غير ذَلِك وَبَوَّبَ البُخَارِيّ بَابا فِي ذَلِك فَقَالَ فِي التَّوْحِيد وَالرَّدّ على الْجَهْمِية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بَاب قَول الله عز وَجل وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ثمَّ روى حَدِيث ابْن عَبَّاس كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو من اللَّيْل وَذكر دعاءه وَفِيه أَنْت الْحق وقولك الْحق وَوَعدك الْحق وَالْجنَّة حق وَالنَّار حق والساعة حق وَذَلِكَ من البُخَارِيّ إِشَارَة إِلَى مَذْهَب أهل السّنة فِي إِثْبَات الْحِكْمَة وَمن ذَلِك مَا ورد فِي تَعْلِيل الْعَذَاب بالاعمال والاستحقاق مثل {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَهُوَ أصرح وَأكْثر وَأشهر من أَن يذكر بل هُوَ من المعلومات من ضَرُورَة الدّين وَكَذَلِكَ جَاءَ صَرِيح التَّعْلِيل فِي الْأَحْكَام كَقَوْلِه تَعَالَى {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل} الْآيَة وَقد ذكرت فِي العواصم فِي هَذِه أَكثر من مائَة آيَة من كتاب الله مِمَّا تقشعر الْجُلُود لمُخَالفَة آيَة وَاحِدَة مِنْهَا وَإِنَّمَا اقتصرت على مَا هُنَالك خوفًا من الاملال وَقد ذكر ابْن قيم الجوزية فِي الْجَواب الْكَافِي أَن فِي ذَلِك قدر ألف آيَة من كتاب الله ذكره فِي فَائِدَة الْعَمَل مَعَ الْقدر فِي تَرْتِيب الاشياء على الاسباب فِي حِكْمَة الله تَعَالَى وَمن ذَلِك قَول نوح عَلَيْهِ أفضل السَّلَام {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق وَأَنت أحكم الْحَاكِمين} فان لَفْظَة أحكم هُنَا مُبَالغَة فِي الْحِكْمَة الَّتِي هَذَا موضعهَا لما فِي كَلَامه من التلطف بتنزيه الله عَن الْخلف فِي الميعاد وَلَا يَصح أَن يكون أحكم هُنَا مُبَالغَة فِي الاحكام إِذْ لَا مُنَاسبَة لذَلِك بِهَذَا الْمقَام وَلذَلِك كَانَ الْجَواب على نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ عمل غير صَالح فبينت لَهُ الْحِكْمَة على التَّعْيِين لتقرير اعْتِقَاده الْجملِي لَهَا فكشف لَهُ بهَا أَن الْوَعْد سبق لَهُ مُتَعَلق بأَهْله الصَّالِحين وَقد روى أت الْوَجْه فِي اشْتِبَاه ذَلِك على نوح أَن ابْنه كَانَ منافقا وَكَانَ علم نفَاقه من علم الْغَيْب الَّذِي يخْتَص الله بِهِ وَلَو كَانَ عدم صَلَاحه بِأَمْر بَين لم يخف ذَلِك عَلَيْهِ وَهَذَا وَجه جيد وَالله أعلم وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم بِهَذَا أم هم قوم طاغون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى حاكيا عَن الأشقياء {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَقَوله فِي غير آيَة {أَفلا تعقلون} {وَأَنْتُم تعلمُونَ} فانها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم قبح مَا هم عَلَيْهِ وبطلانه مَعًا إِذْ لَو عرفُوا بُطْلَانه بهَا دون قبحه لم تقم عَلَيْهِم الْحجَّة وَإِنَّمَا أرْسلت الرُّسُل لقطع عذرهمْ لكيلا يَقُولُوا مَا حكى الله تَعَالَى عَنْهُم وَذَلِكَ لزِيَادَة الاعذار لِأَنَّهُ لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله تَعَالَى لَا لِأَنَّهُ لَا حجَّة عَلَيْهِم قبل الرُّسُل أصلا وَلذَلِك صَحَّ عِنْد أهل السّنة أَن تقوم حجَّة الله بالخلق الاول فِي عَالم الذَّر على مَا سَيَأْتِي بَيَانه وَذَلِكَ قبل الرُّسُل وَلم يَخْتَلِفُوا فِي صِحَّته وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي وُقُوعه وَمن ذَلِك سُؤال الْمَلَائِكَة عَن وَجه الْحِكْمَة فِي خلق آدم وَذريته وَلَوْلَا اعْتِقَادهم للْقطع بالحكمة مَا استغربوا ذَلِك وَلَا سَأَلُوا عَنهُ وَلذَلِك كَانَ الْجَواب عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} وَلم يقل اني يصدر مني مَا يفعل المفسدون وأوضح من هَذَا كُله مَا جرى بَين مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام فانه مُنَاد نِدَاء صَرِيحًا على اشْتِمَال أَفعَال الله تَعَالَى على الْمصَالح والغايات المحمودة وَلَوْلَا اعتقادهما لذَلِك مَا استنكر مُوسَى وَلَا أجَاب الْخضر بِوُجُوه الْحِكْمَة الراجعة إِلَى الْمصَالح وَلَا قنع مُوسَى بذلك الْجَواب والخصم يعْتَقد أَن الْمفْسدَة الْبَيِّنَة الْفساد فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة الخالية عَن الْحِكْمَة والمصلحة بَاطِنا وظاهرا جَائِزَة على اتعالى بل مُسَاوِيَة للْمصْلحَة الْبَيِّنَة الصّلاح بَاطِنا وظاهرا بل لَا يجوز أَن يُعلل شَيْء من أَفعاله بحكمة بل يجب الْقطع بخلوهاعن ذَلِك بل يجب الْقطع بِأَن ذَلِك هُوَ الأولى فِي ممادح الرب تَعَالَى حَتَّى صرخوا بِتَأْوِيل اسْمه الْحَكِيم بِمَعْنى الْمُحكم لخلق الْمَخْلُوقَات لَا سواهُ لَا أَن لَهُ فِي ذَلِك الْأَحْكَام حِكْمَة أَلْبَتَّة وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يَقع مِنْهُ الاحكام لِأَنَّهُ لَا يكون أولى بِهِ من عَدمه وَإِن لم يكن أولى بِهِ فَلَا وَلَا أَكثر وقوعا فِي مخلوقاته بل لَو كَانَ كَذَلِك لارتفع التحسين والتقبيح فِي الشَّرْع وَلم يكن الامر بالشَّيْء أولى من النَّهْي عَنهُ وَلَا الْعَكْس لِأَن الْمُمكن لَا يتَرَجَّح وجوده على عَدمه إِلَّا بمرجح وَلَا مُرَجّح فِي ذَلِك كُله إِلَّا دَاعِي الْحِكْمَة وَالْعلم بِفضل بعض الْأُمُور على بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ثمَّ إِنَّا قد علمنَا أَن الشَّيْطَان مُحكم لأسباب فَسَاده ووسواسه أَشد الاحكام مَعَ أَنه فِي غَايَة الْقبْح لخلوه عَن الْحِكْمَة وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ أحكموا حربهم وسبهم للأنبياء وَقَالُوا فِي ذَلِك القصائد المحكمة وَإِنَّمَا قبح ذَلِك كُله وسخف قَائِله لِخُرُوجِهِ عَن الْحِكْمَة فَكيف يرد اسْم الْحَكِيم إِلَى مثل ذَلِك وَقد نقل تَفْسِير الْحَكِيم بالمحكم من لم يفهم هَذِه الغائلة من شرَّاح الاسماء الْحسنى حَتَّى نَقله الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره ومصنف سلَاح الْمُؤمن وَأما ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فَنقل التفسيرين مَعًا وَأما الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى فانه اتَّقى فِيهِ من الْمُخَالفين بِغَيْر شكّ لِأَنَّهُ صرح بمخالفتهم فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم لكنه تلطف فِي إخفاء الْمُخَالفَة على الْأَكْثَرين بِكَوْنِهِ جعلهَا فِي الْموضع الَّذِي لم يشْتَهر فِيهِ الْخلاف بَينهم وَبَين خصومهم وَهُوَ تَعْظِيم رَحْمَة الله تَعَالَى وسعتها وَقد أَشَارَ إِلَى مُخَالفَة الْأَكْثَرين للحق فِي خطْبَة هَذَا الْكتاب بل صرح بذلك وَأَيْضًا فَيلْزم أَن لَا يكون الْجُود وَنَحْوه أولى بِاللَّه من أضدادها وَأَيْضًا كل مَقْدُور مُمكن الْوُجُود والبقاء على الْعَدَم وَلَا يتَرَجَّح أحد الممكنين إِلَّا بمرجح وَلَا مُرَجّح إِلَّا الدعي وَأَيْضًا فَيلْزم أَن لَا يحْتَاج الْمُتَشَابه إِلَى تَأْوِيل وَمن ذَلِك أَنه يتَعَذَّر على من نفى حِكْمَة الله تَعَالَى أَن يقطع على صدقه سُبْحَانَهُ وَصدق رسله الْكِرَام عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا تقدّمت الاشارة اليه وَهَذَا مَبْسُوط فِي كتب الْكَلَام وَلَا يَصح لَهُم عَنهُ جَوَاب إِلَّا مَا يلْزمهُم مَعَه ثُبُوت الْحِكْمَة فِي الافعال والاقوال مَعًا كَمَا تقدم وَمن ذَلِك أَنهم إِنَّمَا أَن يحسنوا نفي الْحِكْمَة بِغَيْر حجَّة أَو لَا يحسنوه إِلَّا بِحجَّة إِن حسنوه بِغَيْر حجَّة أكذبهم قَوْله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَإِن لم يحسنوه إِلَّا بِحجَّة اعْتَرَفُوا بالتحسين الْعقلِيّ وَمن ذَلِك أَنهم اعْتَرَفُوا بِأَن الْعقل يعرف الْحق من الْبَاطِل فَيُقَال لَهُم فاذا تقرر ذَلِك فالمعلوم فِي الْفطر تَرْجِيح الْحق على الْبَاطِل وَقد اجْتَمَعنَا فِي الاقوال على تَرْجِيح الصدْق على الْكَذِب بِخُصُوصِهِ وَالصَّوَاب تَرْجِيح الْحق على الْبَاطِل بِعُمُومِهِ فِي الافعال كالأقوال وَالله يحب الانصاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فصل فِي الْجَواب عَمَّا اغتروا بِهِ فِي ذَلِك فَمن ذَلِك أَنه ورد فِي السّمع مَا يتَوَهَّم الْجُهَّال مِنْهُ إِن الله تَعَالَى يُرِيد الشَّرّ الْمَحْض لكَونه شرا لَا لحكمة فِيهِ وَلَا غَايَة محمودة وَهَذِه هِيَ مُعظم مَا جرأهم على ذَلِك بل لَيْسَ لَهُم كَبِير شَيْء سواهَا وَهِي شُبْهَة الْمَلَاحِدَة الَّتِي يصولون بهَا على السُّفَهَاء والضعفاء وَذَلِكَ مثل آلام الاطفال والبهائم وَعَذَاب الْآخِرَة الدَّائِم وَالْجَوَاب عَن ذَلِك يَتَّضِح بِذكر أُمُور الامر الأول أَن الاستقباح الَّذِي يُوجد فِي الْعُقُول لذَلِك إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَا يعلم تَأْوِيلهَا تَفْصِيلًا وَلَا جملَة لَكِن الله تَعَالَى قد أعلمنَا جملَة أَن لَهَا تَأْوِيلا أَو أَن لَهَا تَأْوِيلا لَا يُعلمهُ سواهُ وَهُوَ الصَّحِيح على مَا مضى تَقْرِيره فِي هَذَا الْمُخْتَصر فاذا ذَلِك الاستقباح الْمَوْجُود فِي عقول الْبشر صَحِيح بِالنّظرِ إِلَى علومهم القاصرة وعقولهم الحائرة لَكِن الراكن اليه غفل عَن كَون مَا أنكر صدر عَمَّن ثبتَتْ حكمته وَثَبت استبداده بِعلم الغيوب وَالْحكم وانه يعلم مَا لَا نعلم من الغيوب وَالْحكم وَقد أخبرنَا فِي كَلَامه الْحق أَن للمتشابه تَأْوِيلا لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ وَلَو كَانَ مَا تشابه علينا حسنا فِي عقولنا لم يحْتَج إِلَى تَأْوِيل وَلَو لم تكن أَفعاله مَوْقُوفَة على الْحِكْمَة لم يرد بذلك التَّنْزِيل بل ورد السّمع بِمَا يدل على أَن الله تَعَالَى فعل ذَلِك للابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَحْويل الْقبْلَة {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ} إِلَى قَوْله {وَإِن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله} وَفِي نَحْو هَذَا يَقُول عز وَجل {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} فَبين سُبْحَانَهُ أَن التَّكْذِيب بِمَا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يعلم تَأْوِيله هُوَ عَادَة جَمِيع الْكَافرين الاولين والآخرين وان سَبَب كفرهم وتكذيبهم بِهِ إِنَّمَا هُوَ جهلهم وَعدم احاطتهم بِعِلْمِهِ فليحذر ذَلِك كل الحذر فان طباع الْخلق وَاحِدَة إِلَّا مَا سلم الله تَعَالَى نسْأَل الله الْهِدَايَة والسلامة فعلى هَذَا يكون الايمان بِهِ أفضل الايمان بل محك أهل الْيَقِين والاحسان وَيكون الْخَوْف على المرتابين بِسَبَبِهِ من مكر الله خوفًا عَظِيما نسْأَل الله أَن يثبتنا وَلذَلِك خص الله الراسخين بالاستعاذة من الزيغ بعد ذكر إِيمَانهم بالمتشابه كَأَن ذكره ذكرهم ذَلِك فليطلب الْعَاقِل من طبعه اللجوج وَنَفسه الجاهلة المهلة الْيَسِيرَة حَتَّى ينْكَشف فِي الْآخِرَة ذَلِك التَّأْوِيل كَمَا انْكَشَفَ لمُوسَى تَأْوِيل الْخضر بعد الْقطع على بُطْلَانه أَلا ترى إِذا رَأَيْت رجلا مطيقا يضْرب ولدا ضَعِيفا ضربا مؤلما أَنه أول مَا يسْبق إِلَى طبعك رَحْمَة الصَّغِير والانكار على الْكَبِير حَتَّى تعلم أَن الْكَبِير أَبُو ذَلِك الْمَضْرُوب وَأَنه ساع فِي صَلَاحه وخبير بِهِ فيزول عَنْك مَا كَانَ سبق إِلَى طبعك وَقد جود هَذَا الْوَجْه الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى وَفِي الْبَحْث السَّادِس من مَسْأَلَة الارادة تَمام لهَذَا فِيهِ تَقْرِير وُرُود السّمع بِأَن الله تَعَالَى فِي جَزَاء الاشقياء حجَّتَيْنِ حجَّة ظَاهِرَة وَهِي الْعَمَل وَحجَّة خُفْيَة وَهِي الْحِكْمَة الباعثة على الْجَزَاء دون الْعَفو ثمَّ أَن تَأْوِيل الْخضر لمُوسَى دلّ على أَن تَأْوِيل الْمُتَشَابه يرجع إِلَى رده إِلَى الْمُحكم الَّذِي تُحسنهُ الْعُقُول وَلَا تنكره وَهُوَ جلب الْمَنَافِع والمصالح وَدفع المضار والمفاسد وَيدل على لُزُوم هَذَا فِي التَّأْوِيل أَنه لَو ورد بِخِلَافِهِ كَانَ متشابها آخر يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل وَلم يسْتَحق اسْم التَّأْوِيل وَهَذِه حجَّة قَاطِعَة وَللَّه الْحَمد وَاعْلَم أَن الطَّبْع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة غَالب بقوته على من لم يُعَارضهُ بتذكر كَمَال الربوبية وَنقص الْعُبُودِيَّة ويتضرع إِلَى الله فِي امداده بهدايته أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى بعد ذكره لتحويل الْقبْلَة {وَإِن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله} نسْأَل الله هدايته وَإِن لَا يكلنا إِلَى نفوسنا طرفَة عين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الْوَجْه الثَّانِي أَن يتَذَكَّر الانسان مَا يُعلمهُ من نَفسه من شدَّة الْجَهْل وَقلة الْعلم وتردده فِي الامور وحيرته فِي أَشْيَاء سهلة ورجوعه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مرَارًا ووجدانه للشَّيْء بعد الطّلب الشَّديد الطَّوِيل واليأس من وجدانه فان علم الانسان بأحوال نَفسه ضَرُورِيّ وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة وَلَو ألْقى معاذيره} وَقد وَصفه ربه الْعَلِيم الْخَبِير بِأَنَّهُ ظلوم جهول فِي كِتَابه الْحق وَيعلم من التجربة المستمرة وَمن قصَّة مُوسَى وَالْخضر التَّفَاوُت الْعَظِيم بَين الْخلق فِي البلادة والذكاء وَمَعْرِفَة الدقائق وخفيات الحكم ومحكمات الآراء وحدس عواقب الامور فَكيف التَّفَاوُت بَين الْخلق وخالقهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَو وهب الله عز وَجل لبَعض خلقه نصف علمه سُبْحَانَهُ لجَاز أَن يكون ذَلِك التَّأْوِيل فِي النّصْف الآخر كَيفَ وَقد صَحَّ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْخضر قَالَ لمُوسَى مَا علمي وعلمك وَعلم جَمِيع الْخَلَائق فِي علم الله إِلَّا مثل مَا أَخذ هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر وَالْفرق بَين هَذَا الْوَجْه وَالَّذِي قبله إِن هَذَا رَاجع إِلَى كَسره لعجبه بِنَفسِهِ فان الِاعْتِرَاض على الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ينشأ من ذَلِك وَالْوَجْه الأول مَبْنِيّ على تَسْلِيم صِحَة إِنْكَاره فِي المتشابهات لَكِن بِالنِّسْبَةِ إِلَى عقولنا ومعارفنا وَالْغَرَض بِهِ اقناع الْخصم كَيْلا يعْتَقد فِينَا العناد بانكار المدارك الْعَقْلِيَّة فانا لَا ننكرها لَكِن ندعي أَنه قد ينْكَشف خلاف السَّابِق إِلَى الْوَهم الْعقلِيّ والحسي كَمَا أَن الانسان أول مَا يرى النُّجُوم يعْتَقد أَنَّهَا سَاكِنة حَتَّى تنكشف لَهُ حركتها بالبرهان لَا بالبصر وَقد يَرَاهَا متحركة حَرَكَة سريعة مَعَ حَرَكَة السَّحَاب الرَّقِيق وينكشف لَهُ بالبرهان عدم ذَلِك الوجد الثَّالِث وَهُوَ القالع لآثار هَذِه الوساوس أَن يعلم الانسان أَنه مَا زَالَ الِاخْتِلَاف بَين أهل الفطن والعلوم من الْمُسلمين فِيمَا بَينهم والفلاسفة فِيمَا بَينهم وَسَائِر الْخَلَائق حَتَّى حكى الله تَعَالَى الِاخْتِلَاف الْيَسِير الَّذِي لَا يضر فِيمَا عَن الْمَلَائِكَة وَبَعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ) وَحكى سُبْحَانَهُ مَا جرى بَين دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام من الِاخْتِلَاف فِي حكم الْغنم إِذْ نفشت فِي زرع قوم إِلَى قَوْله تَعَالَى {ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} وَحكى مَا جرى بَين مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام حَتَّى حكى قَول هَارُون لمُوسَى {لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي} و {فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء} وَثَبت فِي الحَدِيث اختصام مَلَائِكَة الرَّحْمَة وملائكة الْعَذَاب فِي حكم الَّذِي قتل مائَة نفس ثمَّ تَابَ وَبعث الله ملكا يحكم بَينهم فَحكم لملائكة الرَّحْمَة وَثَبت أَيْضا مُحَاجَّة آدم ومُوسَى فِي الْخُرُوج من الْجنَّة لَا فِي الْمعْصِيَة كَمَا يَظُنّهُ كثير من النَّاس كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَصَارَ مَجْمُوع ذَلِك دَلِيلا قَاطعا على أَن الْعَادة قد استمرت على وجوب الِاخْتِلَاف فِي الاحكام عِنْد التَّفَاضُل فِي الْعلم وَالْحكمَة وَذَلِكَ يُوجب استقباح الْجَاهِل لبَعض أَفعَال الأعلم على قدر مَا بَينهمَا من التَّفَاوُت فَأولى وَأَحْرَى أَن يُوجب استقباح الْجَاهِل لبَعض أَفعَال الاعلم وَلما كَانَ التَّفَاوُت بَين علم المخلوقين وَعلم خالقهم عز وَجل لَا يقدر بِمِقْدَار وَلَا يتَوَهَّم بِقِيَاس وَجب أَن يكون بَينهم فِي التحسين والتقبيح لتفاصيل الاحكام أعظم الِاخْتِلَاف وجوبا عاديا يَسْتَحِيل خِلَافه حَتَّى لَو قَدرنَا مَا لَا يتَقَدَّر من موافقتهم لجَمِيع أَحْكَام الله تَعَالَى على جِهَة التَّفْصِيل لَكَانَ هَذَا محارة عظمى لعقول جَمِيع الْعُقَلَاء والأذكياء بل محالا مُمْتَنعا فِي معارف الفطناء وَالْعُلَمَاء ولكان ذَلِك الِاتِّفَاق أعظم شُبْهَة قادحة فِي زِيَادَة علم الله عَلَيْهِم وَمن أدق الْمُتَشَابه المحير لفطنائهم فَلَمَّا جَاءَ السّمع بالمتشابه عَلَيْهِم على الْقَاعِدَة المألوفة وَالْعَادَة الْمَعْرُوفَة فِي أَن الاعلم إِذا تميز شَيْئا قَلِيلا عَن أجناسه وأشباهه لم يكن بُد من أَن يَأْتِي بِمَا لَا يعْرفُونَ وَيفْعل مَا لَا يَقُولُونَ ويستحسن بعض مَا يستقبحون حَتَّى قيلت فِي هَذَا الاشعار وَضربت فِيهِ الامثال وَحَتَّى قيل أَن الِاجْتِمَاع فِي الخفيات محَال مِثْلَمَا أَن الِاخْتِلَاف فِي الجليات محَال وَقد أَجَاد فِي هَذَا الْمَعْنى من قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 (تسل عَن الْوِفَاق فَمر بِنَا قد ... حكى بَين الْمَلَائِكَة الخصاما) (كَذَا الْخضر المكرم والوجيه المكلم ... إِذْ ألم بِهِ لماما) (تكدر صفو جَمعهمَا مرَارًا ... وَعجل صَاحب السِّرّ الصراما) (ففارقه الكليم كليم قلب ... وَقد ثَنَا على الْخضر الملاما) (فَدلَّ على اتساع الامر فِيمَا الْكِرَام فِيهِ خَالَفت الكراما) (وَمَا سَبَب الْخلاف سوى اخْتِلَاف الْعُلُوم هُنَاكَ بَعْضًا أَو تَمامًا) (فَكَانَ من اللوازم أَن يكون الاله ... مُخَالفا فِيهَا الاناما) (فَلَو لم نجهل الاسرار عَنْهَا ... بلغنَا مثله فِيهَا المراما) (فَصَارَ تشابه الاحكام مِنْهُ ... عَلَيْهِ شَاهدا وَلنَا لزاما) (فَلَا تجْهَل لَهَا قدرا وخذها ... شكُورًا للَّذي يحيى العظاما) (وحاذر أَن تكون لَهَا نسيا ... وَتنظر فِي المواقف أَو تراما) (فَلَو لم ينسها مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قضى من الْخضر المراما) (وَلَو لم تنسها الاملاك فِي آدم كَانُوا بهَا اعتصموا اعتصاما) (وَإِن محارة قد حَار فِيهَا الملائك والكليم وَلنْ يسامى) (لقاطعة الْقُلُوب حريَّة أَن ... يكون الابتداع بهَا حَرَامًا) (وَلَا تعجب بِفضل الله يَوْمًا ... فان الْعجب يورثك السقاما) (وَكن لنعال خلق الله تربا ... إِذا مَا شِئْت للنعمى دواما) الْوَجْه الرَّابِع تدبر كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا سَوف نصليهم نَارا كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما} فعقب ذكر هَذَا الْعَذَاب الْعَظِيم بِذكر مُوجبه من عزته وحكمته الَّتِي هِيَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَكَذَلِكَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَلَا يخفى مَا فِي تَأْوِيل الْحَكِيم بالمحكم هُنَا من التعسف الْبَاطِل وَمَا فِي التَّأْوِيل من غير مُوجب من فتح أَبْوَاب الْبدع والمجاهل وَفِي هَذِه الْآيَات وأمثالها نُكْتَة لَطِيفَة فِي جمعه بَين الْعِزَّة وَالْحكمَة وَذَلِكَ أَن اجْتِمَاعهمَا عَزِيز فِي المخلوقين فان أهل الْعِزَّة من مُلُوك الدُّنْيَا يغلب عَلَيْهِم العسف فِي الاحكام فَبين مُخَالفَته لَهُم فِي ذَلِك فان عَظِيم عزته لم يبطل لطيف حكمته وَرَحمته سُبْحَانَ من لَهُ الْكَمَال الْمُطلق وَالْمجد الْمُحَقق وَبعد فان اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى مَعْلُوم فِي كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين لَا يدْفع مَكْشُوف لَا يتقنع مدحا وثناء كَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ النُّصُوص القرآنية والاسماء الْحسنى وأسئلة وجوابات كَمَا تبين فِي قصَّة مُوسَى وَالْخضر وآدَم وملائكة السَّمَوَات أَلا ترى أَنَّك إِذا تَأَمَّلت سُؤال الْمَلَائِكَة وَمَا أُجِيب عَلَيْهِم بِهِ عرفت فِيهِ مَا اتّفق عَلَيْهِ الْعُقَلَاء من تقبيح الشَّرّ الْمَحْض الَّذِي لَا خير فِيهِ وَلَا فِي عواقبه وغاياته دون الشَّرّ المُرَاد لاجل الْخَيْر وَذَلِكَ بَين فِي اظهار الله تَعَالَى لَهُم صَلَاح آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَعلمه وتقدمه فِي الْقرب من الله تَعَالَى أَلا ترَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول لَهُم بعد بَيَان ذَلِك لَهُم {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون} فَبين لَهُم أَن خلقا فيهم مثل هَذَا العَبْد الصَّالح وَالنَّبِيّ المكلم المقرب الْمُسْتَخْلف الْمعلم لَا يحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ شَرّ مَحْض وَلَا حِكْمَة فِيهِ وَلَا خير يقْصد بِهِ وَإنَّهُ لَا نَكَارَة فِي شَرّ يكون للخير كالصف للدر والترب للبر والفصاد للعافية وَالْقصاص للحياة وأمثال ذَلِك مِمَّا هُوَ صَحِيح شهير فِي حِكْمَة الْحُكَمَاء وعقول الفطناء وَلذَلِك قيل أَن الْعَالم كالشجرة وَأهل الْخَيْر مِنْهُم كالثمرة من تِلْكَ الشَّجَرَة وَهُوَ أحد الْوُجُوه فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} أَي ليعبدني العابدون مِنْهُم وَقد جَاءَ نَحْو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ذَلِك فِي حَدِيث الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين جعل يَدْعُو عَليّ من رَآهُ يَعْصِي الله فوحي الله اليه يَا إِبْرَاهِيم دع عبَادي فان قصر عبدى مني احدي ثَلَاث اما أَن يَتُوب فأتوب عَلَيْهِ أَو يستغفرني فَأغْفِر لَهُ أَو أخرج من صلبه من يعبدني رَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَالطَّبَرَانِيّ فَثَبت أَن الانسان مَا يُؤْتِي فِي توهمه نفي حِكْمَة الله إِلَّا من جِهَة جَهله لقدر علمه وَقدر علم الله تعالي وَإِنَّمَا كره علم الْكَلَام لما يُؤَدِّي اليه الْخَوْض فِيهِ من المحارات وَمُخَالفَة الضرورات أَو المشهورات أَلا تري أَن الْمُتَكَلِّمين لما توغلوا فِي هَذِه المباحث أُدي ذَلِك طَائِفَة مِنْهُم إِلَيّ الْقدح فِي الْحِكْمَة وَطَائِفَة إِلَيّ الْقدح فِي الْقُدْرَة عَليّ هِدَايَة العصاة وَطَائِفَة إِلَيّ الْقدح فِي دوَام الْعَذَاب ورجحت كل طَائِفَة تَأْوِيلهَا أما غلاة الأشعرية الَّذين قَدَحُوا فِي معني الْحِكْمَة فرجحوا ذَلِك لصعوبة النّظر فِي حِكْمَة الله تعالي فِي جَمِيع الشرور الدُّنْيَوِيَّة والأخروية وَعجز الْعُقُول عَن دَرك ذَلِك وَأما غلاة الْمُعْتَزلَة فرجحوا قدحهم فِي الْقُدْرَة على اللطف أَنه قد خَاضَ فِي أَمر معِين يحْتَمل أَنه محَال وَلَا بُد من اخراج الْمحَال من المقدورات بالاجماع وَإِلَّا أُدي إِلَيّ تجوير قلب الْقَدِيم حَادِثا والحادث قَدِيما وَغير ذَلِك مِمَّا يستقبح ذكره وَقد أَشَارَ الْغَزالِيّ إِلَيّ مثل كَلَامهم فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم من الْمَقْصد الأمني وَأما الأشعرية فقدحوا فِي الْحِكْمَة بأسرها فَكَانَ مَا ذهبت اليه الْمُعْتَزلَة أَهْون من هَذِه الْجِهَة وَأما ابْن تَيْمِية وَأَصْحَابه فَرَأَوْا أَن الْقدح فِي الْحِكْمَة وَالْقُدْرَة يتَطَرَّق إِلَيّ النَّقْص فِي كَمَال الربوبية وَذَلِكَ يحْتَمل الْكفْر ويضارعه أَو يقرب مِنْهُ وَأما دوَام الْعَذَاب فالقدح فِيهِ عِنْدهم سهل بعد وُرُود الِاسْتِثْنَاء فِي غير آيَة وَحَدِيث وَأثر ومنتهاه تَخْصِيص عُمُوم بِمَا يَقْتَضِي زِيَادَة الرَّحْمَة وَالْحكمَة وَالْعدْل وَالثنَاء ولي عَليّ الْجَمِيع كَلَام طَوِيل وَقد أَشرت إِلَيّ أَقْوَالهم وشبههم فِي الإجادة بأقصر عبارَة فَقلت فِي ذَلِك شعرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 (تحير أَرْبَاب النَّهْي مَا المُرَاد بالعصاة ... من الْجِنّ وَأَوْلَاد آدم) (أخيرا أَرَادَ الله بالخلق أَولا ... أم الشَّرّ مَقْصُود لَا حكم حَاكم) (فان كَانَ خيرا هَل يجوز فَوَاته ... عَليّ مَالك مَا شَاءَ بِالْغَيْبِ عَالم) (وَإِن كَانَ شرا هَل أُرِيد لنَفسِهِ ... أم الْخَيْر مَقْصُود بِهِ باللوازم) (وَهل سبق قصد الْخَيْر بِالشَّرِّ يَقْتَضِي ... تطابق ذَاك الْقَصْد حكم الْخَوَاتِم) (وَلما أُتِي ذكر الخلود بناره ... عَليّ جوده فِي ذكره والجوازم) (تعاظم شَأْن الْخلد فِي النَّار كل من ... تفكر فِي أَسمَاء رب العوالم) (فَلَا هُوَ مغلوب وَلَا هُوَ جَاهِل ... وَلَا عابث قطعا وَلَا غير رَاحِم) (فَعَاد إِلَيّ التَّسْلِيم كل مُحَقّق ... لما قَالَه فِي الذّكر رب العوالم) (سَوَاء قضي بالخلد بالنَّار أَو قضي ... بِأَن عَذَاب الأشقياء غير دَائِم) (وَلما أُتِي اسْتِثْنَاؤُهُ فِي كِتَابه ... من الْخلد جَهرا فل حد التعاظم) (وَعَاد مجَال القَوْل فِي ذَاك وَاسِعًا ... وَقد كَانَ ضَاقَ الأمرضيق الْخَوَاتِم) (ورد شكوك الْمُلْحِدِينَ خواسئا ... وَمد بحار العارفين الاكارم) (فَمن قَائِل بالخلد من أجل كَثْرَة ... الْوَعيد بِهِ المنزلات القواصم) (وَمن قَائِل أَن الْخُصُوم مقدم ... وساعده أَسمَاء أحكم حَاكم) (وَثَالِثهَا الْمَنْصُور يرجي لمُسلم ... وَمن عاند الاسلام لَيْسَ بسالم) (وَمن لائم من خَاضَ فِي ذَاك حائر ... وَمن وَاقِف فِي ذَاك لَيْسَ بلائم) (وَمن خائض فِيهِ يكفر خَصمه ... عَليّ مثل مَا يَأْتِي فاليس بسالم) (وَلَا كفر فِي الْأَقْوَال بعد تعَارض ... الصوادع فِي تَنْزِيل أعلم عَالم) (وَلكنه يخشي بتكفير غَيره ... يبوء بِهِ أَو باقتراف المآثم) (فلولا أَرَادَ الله توسيع حكمه ... لما خصّه فِي ذكره غير كاتم) (وَفِي الْجنَّة اسْتثْنِي وَعقبَة بِمَا ... يدل عَليّ خلد الْجنان الدوائم) (عَليّ أَن وصف الْجُود لله دَائِم ... ومستلزم قطعا دوَام المكارم) (وَكَيف يَدُوم الْملك والجود والثنا ... وَيَنْقَطِع الْمَعْرُوف فِي قَول عَالم) (وَجَاءَت أَحَادِيث الصِّحَاح توَافق ... الْعُقُول بثنيا الرب أرْحم رَاحِم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 (إِذا وَردت بعد الثَّوَاب فانها ... لما زَاد جودا فِي ثَوَاب الاكارم) (وَإِن وَردت بعد الْوَعيد فانها ... لعفو وصفح عَن عِقَاب الجرائم) (ووافقها فِي الذّكر ذكر زِيَادَة ... وَذكر مزِيد فِي النُّصُوص الجوازم) (وَطول فِي الثَّانِي ايْنَ تيمة فقف ... عَليّ علمه فِي كتبه والتراجم) (وأسنده عَن سِتَّة نَص قَوْلهم ... أكَابِر من صحب النَّبِي الاكارم) (فَلَا تعتقد ان لم يَصح مقالهم ... وَبَان ضَعِيفا سَاقِطا كفر عَالم) (فَمَا هُوَ الا حسن ظن فان يجب ... فَمَا ينقص الرَّحْمَن رجوى المراحم) (وَقَول خَلِيل الله ثمَّ ابْن مَرْيَم ... دَلِيل على بطلَان لوم اللوائم) (وَقد كَاد جلّ الْخلق يكفر ضلة ... بذلك لَوْلَا فضل أرْحم رَاحِم) (فَمن قَاصد تنزيهه لَو رعى لَهُ ... من الجبروت الْحق عز التعاظم) (وَمن قَاصد تَعْظِيمه لَو رعى لَهُ ... محامد ممدوح بِأَحْكَم حَاكم) (وحافظ كل العارفين عَلَيْهِمَا ... وَهَذَا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم لقائم) (وَهَذَا مقَام لَا يخاطر عَاقل ... بِهِ وَله قد كَانَ خلق العوالم) (لتعليل خلق السَّبع والسبع كلهَا ... بتعريف وَصفيه قدير وعالم) (وَإِن مقَاما حَار فِيهِ كليمه ... وَلم يسْتَطع صبرا لخير العوالم) (جدير بتحقيق عَظِيم وريبة ... من الْوَهم عِنْد الْجَزْم من كل عَالم) (ألم تَرَ مَا أدّى اليه الْكَلَام من ... فريقيه لما لججوا فِي الخضارم) (نفوا حِكْمَة الرَّحْمَن فِي الْعدْل والجزا ... وَقدرته عَن هدى أَحْقَر ظَالِم) (فوهى فريق عز أقدر قَادر ... ووهى فريق قدس أحكم حَاكم) (وَذَا عذرهمْ فِي ذِي الْأَقَاوِيل أَنَّهَا ... لمنكرة فِي قَول جلّ الأكارم) (كَأَنَّهُمْ راموا مساعدة النهى ... وثلج نفوس بالغيوب هوائم) (فَلم يَجدوا إِلَّا التأول مخرجا ... لاحدى ثَلَاث فِي الْعُلُوم عظائم) (لحكمة رب الْخلق أَو لاقتداره ... على اللطف أَو تخليد أهل الجرائم) (وَأحسن من ذَا الْوَقْف فِيهِ لقطعنا ... جَمِيعًا بِحسن الحكم من خير حَاكم) (وَذَلِكَ مغن إِذْ سَلامَة جارم ... لَدَى الْخَوْف أولى من اصابة جَازَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 (وأثن وَلَا تستثن شَيْئا من الثنا ... ودع بدعا أضحت كأضغاث حالم) (وَلَا تخش من عجز وَلَا جهل حِكْمَة ... وَلَا غيظ مظلوم وَلَا عسف ظَالِم) (وَلَا أَنه فِي بره غير قَادر ... عَزِيز وَلَا فِي عزه غير رَاحِم) (وَلَا أَنه فِي حكمه غير عَادل ... حَكِيم لما لم يعلم الْخلق عَالم) انْتَهَت على الِاخْتِصَار فِي هَذَا الْمُخْتَصر فَهَذِهِ نبذة مختصرة من أول الاجادة فِي الارادة وَهِي قدر ألف ومائتي بَيت أَو تزيد عَليّ ذَلِك قلتهَا أَيَّام النشاط إِلَيّ الْبَحْث استعظاما لخوف الْوُقُوع فِي الْخَطَأ أَو الْخطر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة العظمي فاسأل الله التَّوْفِيق والعصمة مِمَّا خفت مِنْهُ انه حسبي وَنعم الْوَكِيل وَقد أفردت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مصنفات حافلة مِنْهَا لِابْنِ تَيْمِية وَمِنْهَا لتلميذه شمس الدّين وَمِنْهَا للذهبي وَمِنْهَا لي فَمن أحب الِاسْتِقْصَاء فِي المباحث وقف عَلَيْهَا وَنظر فِيهَا هُنَالك وَالله الْمُوفق وَيَأْتِي فِي الارادة بضعَة عشر وَجها مِمَّا غالبه مَنْصُوص من الحكم الربانية فِي خلق الاشقياء وَكَانَ هَذَا الْموضع يَلِيق بهَا فَلْتنْظرْ هُنَالك فِي الْبَحْث السَّادِس من مبَاحث الارادة فَهَذَا الْمُعظم المهم مِمَّا خدشت بِهِ الْمَلَاحِدَة فِي الاسلام والمبتدعة فِي حكمه الْملك الحميد الْحَكِيم العلام وَلم يبْق إِلَّا أُمُور يسيرَة مِنْهَا تعلقوا بآلام الاطفال والبهائم وَمن لَا ذَنْب لَهُ وكل مَا أُبِيح فِي الشَّرْع من ذبح الْبَهَائِم وتحميلها وَالْعَمَل بهَا وَالْجَوَاب عَن ذَلِك كُله هُوَ مَا تقدم من الْبَرَاهِين الصَّحِيحَة على ان الله تَعَالَى حَكِيم عليم بل على انه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ ولعلماء الاسلام فِي هَذَا الْمقَام أجوبة مُخْتَلفَة على حسب قواعدهم وعقائدهم وفطنهم وقرائحهم وَقد رَأَيْت أَن أقتصر هَهُنَا على كَلَام الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسنى لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا ليعرف الاشعري ان جُمْهُور أَصْحَابه على القَوْل بحكمة الله تَعَالَى ان لم يكن ذَلِك اجماع الْمُسلمين وَثَانِيهمَا لحسن عبارَة الْغَزالِيّ فِي الِاسْتِدْلَال وَضرب الامثال فَأَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قَالَ فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم من الاسماء الْحسنى مَا لَفظه (سُؤال وَجَوَابه) لَعَلَّك تَقول مَا معنى كَونه رحِيما وأرحم الرَّاحِمِينَ وَالدُّنْيَا طافحة بالامراض والمحن والبلايا وَهُوَ قَادر على ازالة جَمِيعهَا وتارك عباده ممتحنين فجوابك ان الطِّفْل الْمَرِيض قد ترثى لَهُ أمه فتمنعه من الْحجامَة وَالْأَب الْعَاقِل يحملهُ عَلَيْهَا قهرا وَالْجَاهِل يظنّ ان الرَّحِيم هُوَ الام دون الاب والعاقل يعلم ان ايلام الاب بالحجامة من كَمَال رَحمته وان الام عدوله فِي صُورَة صديق فان ألم الْحجامَة الْقَلِيل إِذا كَانَ سَببا للذة الْكَثِيرَة لم يكن شرا بل كَانَ خيرا والرحيم يُرِيد الْخَيْر بالمرحوم لَا محَالة وَلَيْسَ فِي الْوُجُود شَرّ إِلَّا وَفِي ضمنه خير وَلَو رفع ذَلِك الشَّرّ لبطل الْخَيْر الَّذِي فِي ضمنه وَحصل بِبُطْلَانِهِ شَرّ أعظم من الشَّرّ الَّذِي يتَضَمَّن ذَلِك الْخَيْر قلت وَمَا أبين هَذَا الْمَعْنى فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَو لم يرد فِيهِ إِلَّا قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ للجوا فِي طغيانهم يعمهون} وَقَوله تَعَالَى {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض} وَقَوله تَعَالَى {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} وَقَوله تَعَالَى {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة} وَقَوله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} وَقَوله تَعَالَى فِي تَعْلِيل أَفعاله بالحكم فِي الْآخِرَة {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} افحاما لسائلي ذَلِك وَمرَّة أجَاب عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَلَا خَفَاء أَن قَوْله حق القَوْل وَاضح فِي مواقفه الْحِكْمَة والا لما كَانَ بَان يحِق أكمل فِي الثَّنَاء على الله تَعَالَى من أَن لَا يحِق فَتَأمل ذَلِك يُوضحهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين} الْآيَة إِلَى سَائِر مَا تقدم فِي هَذَا قَالَ الْغَزالِيّ وَالْيَد المتأكلة قطعهَا فِي الظَّاهِر وَفِي ضمنه الْخَيْر الجزيل وَهُوَ سَلامَة الْبدن وَلَو ترك قطعهَا لحصل هَلَاك الْبدن وَلَكِن قطعهَا لِسَلَامَةِ الْبدن شَرّ وَفِي ضمنه الْخَيْر لَكِن المُرَاد الأول السَّابِق إِلَى نظر الْقَاطِع هُوَ السَّلامَة الَّتِي هِيَ خير مَحْض وَهِي مَطْلُوبَة لذاتها ابْتِدَاء وَالْقطع مَطْلُوب لغيره ثَانِيًا لَا لذاته فهما داخلان تَحت الارادة لَكِن أَحدهمَا يُرَاد لذاته وَالْآخر يُرَاد لغيره فَالْمُرَاد لذاته قبل المُرَاد لغيره ولاجل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {سبقت رَحْمَتي غَضَبي} فغضبه ارادته الشَّرّ وَالشَّر بارادته وَرَحمته ارادته الْخَيْر وَالْخَيْر بارادته وَلَكِن اراد الْخَيْر للخير نَفسه وَأَرَادَ الشَّرّ لَا لذاته فالخير مُقْتَضى بِالذَّاتِ وَالشَّر مُقْتَضى بِالْعرضِ وكل بِقدر وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يُنَافِي الرَّحْمَة أصلا والآن ان خطر لَك نوع من الشَّرّ لَا ترى فِيهِ خيرا أَو خطر لَك انه كَانَ يُمكن حُصُول ذَلِك الْخَيْر لَا فِي ضمن ذَلِك الشَّرّ فاتهم عقلك الْقَاصِر فِي كلا الطَّرفَيْنِ أما قَوْلك ان بعض الشَّرّ لَا خير تَحْتَهُ فان هَذَا مِمَّا تقصر الْعُقُول عَن مَعْرفَته مثل أم الصَّبِي الَّتِي ترى الْحجامَة شرا مَحْضا وَمثل الغبي الَّذِي يرى الْقَتْل قصاصا شرا مَحْضا لانه ينظر إِلَى خُصُوص شخص الْمَقْتُول وَأَن الْقَتْل فِي حَقه شَرّ مَحْض وَيذْهل عَن الْخَيْر الْعَام الْحَاصِل للنَّاس كَافَّة وَلَا يدْرِي ان التَّوَصُّل بِالشَّرِّ الْخَاص إِلَى الْخَيْر الْعَام خير مَحْض لَا يَنْبَغِي لحكيم ان يهمله فاتهم خاطرك وَأما الثَّانِي وَهُوَ قَوْلك انه كَانَ يُمكن تَحْصِيل ذَلِك الْخَيْر لَا فِي ضمن ذَلِك الشَّرّ فان هَذَا أَيْضا دَقِيق فَلَيْسَ كل محَال وممكن مِمَّا يدْرك استحالته وامكانه بالبديهية وَلَا بِالنّظرِ الْقَرِيب بل يعرف ذَلِك بِنَظَر غامض دَقِيق يقصر عَنهُ الاكثرون فاتهم عقلك فِي هذَيْن الطَّرفَيْنِ وَلَا تشكن أصلا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 انه تَعَالَى أرْحم الرَّاحِمِينَ وانه تَعَالَى سبقت رَحمته غَضَبه وَلَا تستريبن فِي أَن مُرِيد الشَّرّ للشر أَي لكَونه شرا فَقَط لَا للخير غير مُسْتَحقّ اسْم الرَّحْمَة وَتَحْت هَذَا سر منع الشَّرْع من افشائه فَلَا تطمع فِي الافشاء وَلَقَد نبهت بالايماء وَالرَّمْز ان كنت من أَهله فَتَأمل ارشدك الله (لقد أسمعت لَو ناديت حَيا ... وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي) انْتهى كَلَامه وللشيخ مُخْتَار قريب مِنْهُ فِي كتاب الْمُجْتَبى لَكِن بِغَيْر عِبَارَته بل للامام الْقَاسِم بن ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام نَحْو هَذَا الْمَعْنى فِي الْجَواب على الملحد الْمَعْرُوف بِابْن المقفع فَهَذَا معنى حسن شهد لَهُ الْقُرْآن وَالْحكمَة وَفِي الحَدِيث النَّص أَن كل مَا قَضَاهُ الله تَعَالَى لِلْمُؤمنِ فَهُوَ خير لَهُ مِمَّا يحب أَو يكره رَوَاهُ أَحْمد وَمُسلم بِنَحْوِهِ واعتقاده هَذَا من حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَفِي الحَدِيث ان حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى هُوَ من حسن الْعِبَادَة وَفِي الصَّحِيح يَقُول الله تَعَالَى انا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ وَذَلِكَ يُنَاسب قَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم} وَهِي الْمُحكم هُنَا وَمَا فِيهِ الْمَدْح من غير ذمّ بالاجماع وَأما السِّرّ الَّذِي ذكر أَن الشَّرْع منع من افشائه فَلَعَلَّهُ أَرَادَ سَعَة الرَّجَاء لرحمة الله تَعَالَى كَمَا جَاءَ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لَوْلَا أَخَاف ان تتكلوا عَن الْعَمَل لاخبرتكم بِمَا لكم من الاجر فِي قَتلهمْ يَعْنِي الْجَوَارِح وَفِي حَدِيث معَاذ لاتخبرهم دعهم يعملوا وَقد تبين ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين ذَلِك مرَارًا وَلم يَكْتُمهُ دَائِما وَكثير مِنْهُ فِي كتاب الله تَعَالَى وَاسْتقر الاجماع بعد على تدوينه فِي كتب الاسلام ثمَّ ان ابْن تَيْمِية وتلميذه ابْن قيم الجوزية قد صنفا فِي هَذَا مصنفات ممتعة وللذهبي مُعَارضَة لَهُم ولي توَسط بَينهم وَالله تَعَالَى يمدنا بهدايته وتوفيقه ولي أَيْضا تَكْمِلَة على كَلَام الْغَزالِيّ هَذَا ومناقشة لَطِيفَة تتَعَلَّق بِآخِرهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فِي أَمر مُحْتَمل وَمَا أَظُنهُ أَرَادَ فِيهِ إِلَّا الصَّوَاب وَقد ذكرته فِي العواصم وَنَفسه فِي هَذَا الْمقَام نفس طيب قرآني أثري فَأَيْنَ هُوَ من قَول بعض الْمُتَأَخِّرين عَنهُ من الْمُتَكَلِّمين من أَصْحَابه وَمِمَّنْ كَانَ يظنّ انه أقرب إِلَى السّنة مِنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي بعض كتبه مَا لَفظه فان قَالَ بعض الأشقياء انما فعل ذَلِك ليثيبهم عَلَيْهِ يَعْنِي الآلام والمصائب الَّتِي تصيب الصّبيان وَمن لَا ذَنْب لَهُ قُلْنَا لَهُ قد ضللت عَن سَوَاء السَّبِيل أما كَانَ فِي قدرَة رب الْعَالمين ان يحسن اليهم عوضا عَن تعذيبهم أه فَانْظُر إِلَى مَا فِي هَذَا الْكَلَام من الْبعد عَن الْقُرْآن وَالسّنة والْآثَار فَأول مَا بَدَأَ بِهِ أَنه سمي الْقَائِل بذلك بعض الأشقياء وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَاتَرَتْ عَنهُ بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي لَا يجهل مثلهَا مُمَيّز وَالَّتِي اتّفق أهل الْبَصَر بِهَذَا الشَّأْن على صِحَة طرقها وتواترها ودونوها فِي الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد وَكتب الزّهْد وَالرَّقَائِق وَلَيْسَ هِيَ من الْآحَاد بل هِيَ بَاب كَبِير من أَبْوَاب الدّين الَّذِي لم تزل الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ من طَبَقَات الْمُسلمين يروونها قرنا بعد قرن يرْوى ذَلِك السّلف للخلف والاكابر للاصاغر ويعزى بِهِ الْعلمَاء أهل المصائب حَتَّى قَالَ الْعَلامَة أَبُو عمر ابْن عبد الْبر فِي هَذَا الْبَاب فِي كِتَابه التَّمْهِيد ان ذَلِك أَمر مجمع عَلَيْهِ وَهِي دَالَّة على حسن التَّعْلِيل بذلك وان لم يرد فِي الْمحل الَّذِي ذكره على انْفِرَاده أَعنِي الصّبيان والبهائم فان الْخصم انما أنكر حسن التَّعْلِيل بذلك وَمَتى صَحَّ التَّعْلِيل بِهِ فِي مَوضِع صَحَّ فِي غَيره وَبَطل قطعه بِبُطْلَانِهِ فَتَأمل ذَلِك فان الْعِلَل الْعَقْلِيَّة لَا تخصص وَلَا تُوجد غير مُؤثرَة مَعَ ان كثيرا من الْأَحَادِيث تعم الصغار والكبار والمكلفين وَغَيرهم ولنذكر من ذَلِك الْيَسِير تَنْبِيها على الْكثير ليعرف الْحَامِل على هَذَا النكير فَمن ذَلِك مَا خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ وَأحمد فِي الْمسند وَغَيرهم من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 لَا تصيب الْمُؤمن شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة وَخط عَنهُ بهَا خَطِيئَة هَذَا لفظ مُسلم وَفِيه رِوَايَات كَثِيرَة وروى البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود قلت يَا رَسُول الله انك توعك وعكا شَدِيدا قَالَ أجل اني أوعك كَمَا يوعك رجلَانِ مِنْكُم قلت ذَلِك بَان لَك أَجْرَيْنِ قَالَ أجل مَا من مُسلم يُصِيبهُ أَذَى من مرض فَمَا سواهُ الا حط الله سيئاته كَمَا تحط الشَّجَرَة وَرقهَا وَلمُسلم نَحْو من ذَلِك من حَدِيث جَابر وللبخاري وَمُسلم هَذَا الْمَعْنى من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي هُرَيْرَة ولمالك عَن يحيى بن سعيد وروى التِّرْمِذِيّ عَن أنس حديثين وَمتْن أَحدهمَا عَن انس ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ان عظم الْجَزَاء مَعَ عظم الْبلَاء وان الله اذا أحب قوما ابْتَلَاهُم فَمن رَضِي فَلهُ الرضى وَمن سخط فَلهُ السخط وَالْآخر لِلتِّرْمِذِي عَن جَابر وَلَفظه يود أهل الْعَافِيَة يَوْم الْقِيَامَة حِين يُعْطي أهل الْبلَاء ثوابهم لَو ان جُلُودهمْ كَانَت قرضت فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ وروى مَالك وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَأَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن خَالِد السّلمِيّ عَن أَبِيه عَن جده وَله صُحْبَة وَالتِّرْمِذِيّ عَن مُصعب بن سعيد وَلَفظه أَشد النَّاس بلَاء الانبياء ثمَّ الامثل فالامثل وَمَالك وَالْبُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه من يرد الله بِهِ خيرا يصب مِنْهُ وَالْبُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه مَا لعبدي الْمُؤمن عِنْدِي جَزَاء إِذا قبضت صَفيه من أهل الدُّنْيَا ثمَّ احتسبه الا الْجنَّة وَلِهَذَا الْمَعْنى ثَلَاثَة شَوَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} عَن أبي بكر وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة وان كَانَت هَذِه تخْتَص بالمذنبين وَهَذَا فِي جنس الآلام كلهَا وَفِي أَنْوَاعهَا الْخَاصَّة أَحَادِيث كَثِيرَة مثل مَا جَاءَ فِيمَن مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا الْحِنْث أَو اثْنَان لم تمسه النَّار الا تَحِلَّة الْقسم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أَبى سعيدو أبي هُرَيْرَة مَعًا وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَالْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن انس وَالنَّسَائِيّ عَن أبي ذَر وَمَالك عَن النَّضر السّلمِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس فَهَذِهِ نَيف وَعِشْرُونَ حَدِيثا من دواوين الاسلام الْمَشْهُورَة وَفِي فضل الْفقر وأجره خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا تركتهَا اختصارا وَفِي سِيَاق الْجَمِيع مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يشْهد بَان ذَلِك تَعْلِيل مُنَاسِب للعقول وَلذَلِك قبله أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم ينكروه وهم أوفر عقولا وَأَصَح اذهانا وَأسلم من تغير الْفطْرَة الَّتِي فطر الله خلقه عَلَيْهَا وَعند الْخصم ان ذَلِك التَّعْلِيل غير مُنَاسِب وَأَنه ونقيضه سَوَاء مثل أَن يؤلمهم الله فِي الدُّنْيَا ليعاقبهم على آلامهم فِي الْآخِرَة فان اعْترف بِالْفرقِ لزمَه مُنَاسبَة الأول الَّذِي جَاءَت بِهِ السّنة وَتَلَقَّتْهُ الصَّحَابَة بِالْقبُولِ وان ادّعى انهما سَوَاء فقد عاند وجنى على المسموع والمعقول فَكيف يتْرك النّظر فِي ذَلِك كُله عَالم من عُلَمَاء الاسلام ويعارضه بقوله أما كَانَ فِي قدرَة رب الْعَالمين ان يحسن اليهم عوضا عَن تعذيبهم وَجَوَاب أهل الْحق على من ابتلى بِهَذِهِ الوساوس هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} وَذَلِكَ أَن الأنظار الْعَقْلِيَّة انما تورد على الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَأما الْعِلَل السمعية فانها صدرت عَمَّن يعلم مَا لَا نعلم وليت شعري اذا أنكر الْخُصُوم هَذَا الْمَعْنى مَا يكون تَفْسِير الْعلم الَّذِي خص الله تَعَالَى بِهِ الْخضر دون مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقد أوضح الله تَعَالَى أَنه علم الْحِكْمَة الْخفية فِي مثل ذَلِك وَقد أجَاب بعض الْمُتَكَلِّمين بِجَوَاب مُنَاسِب فَقَالَ ان الثَّوَاب على هَذِه الاشياء جُزْء من الْحِكْمَة الْمُسَمَّاة بِالْعِلَّةِ فِي عرف الْمُتَكَلِّمين وَلَيْسَ هُوَ كلهَا والجزء الثَّانِي هُوَ الِاعْتِبَار بذلك وَهَذَا معنى مُنَاسِب وَقد ورد مَا يدل عَلَيْهِ من الحَدِيث وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن كثير من طرق فِي خلق آدم من أول الْجُزْء الأول من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ان الله لما أخرج ذُرِّيَّة آدم ورآهم آدم رأى فيهم الْغنى وَالْفَقِير وَالصَّحِيح والسقيم فَقَالَ يَا رب هلا سويت بَين ذريتي فَقَالَ تَعَالَى اني أردْت أَن تشكر نعمتي الى غير ذَلِك وَكفى بقوله تَعَالَى {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} وَفِي آيَة أُخْرَى {فَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَيجْعَل الله فِيهِ خيرا كثيرا} وَهِي شاهدة لقَوْل أهل المعقولات انه لَا يكون فِي مخلوقات الله تَعَالَى مَا هُوَ شَرّ مَحْض من جَمِيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الْوُجُوه لَان مَا كَانَ كَذَلِك لم يُمكن تَجْوِيز أَنه خير وَلَا أَن فِيهِ خيرا فَافْهَم ذَلِك وَفِي الآلام مَا لَا يُحْصى من الالطاف بالمكلفين والتزهيد فِي دَار الْغرُور وَنَعِيمهَا الزائل وَالتَّرْغِيب فِي خير الْآخِرَة الْمَحْض الْخَالِص من المكدرات وتهذيب الاخلاق وَرَحْمَة أهل الْبلَاء والتدريب على الصَّبْر الَّذِي هُوَ أساس الْفَضَائِل وَمَعْرِفَة قدر النعم بالذوق وتخديد الشُّكْر عَلَيْهِ وحسبك فِي ذَلِك قَول الله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} وَفِي ذَلِك من معرفَة الانسان بعجزه وذله وَجمع الْقلب على الله واقباله على الدُّعَاء واللجأ والتضرع ومعرفته باجابة الدُّعَاء وكشف الضّر وَزِيَادَة الْيَقِين بِهِ إِلَى أَمْثَال ذَلِك من الغايات المحمودة والمصالح الْمَقْصُودَة مَا عَرفته الْعُقُول الصَّحِيحَة وقضت بِهِ التجارب الدائمة حَتَّى ذكر صَاحب عوارف المعارف مَا مَعْنَاهُ ان العَبْد مَخْلُوق ليَكُون ملتجئا إِلَى الله سُبْحَانَهُ على الدَّوَام فَمَا دَامَ كَذَلِك فَهُوَ فِي عَافِيَة وَمَتى غفل عَن ذَلِك سَاقه الله إِلَى ذَلِك بِبَعْض المصائب وَذكر فِي مَوضِع آخر أَن سَبَب فَضِيلَة الْفُقَرَاء أَنهم يذوقون الافتقار إِلَى الله تَعَالَى بقلوبهم وان تِلْكَ من أقرب الْمنَازل إِلَى الله تَعَالَى وروى ابْن قيم الجوزية فِي حادي الْأَرْوَاح ان نَبيا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام رأى مبتلى فَقَالَ اللَّهُمَّ ارحمه فَقَالَ الله تَعَالَى {كَيفَ أرحمه مِمَّا بِهِ أرحمه هم عبَادي ان أَحْسنُوا فَأَنا حبيبهم وان أساؤا فَأَنا طبيبهم ابتليتهم بالمصائب لاطهرهم من المعائب وَمن ذَلِك الِابْتِلَاء بالايمان وبالثبات عَلَيْهِ عِنْد رُؤْيَة ذَلِك فان ذَلِك يمير الله بِهِ الْخَبيث من الطّيب كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي ابتلاء الْمُسلمين بتحويلهم من اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس إِلَى اسْتِقْبَال الْكَعْبَة وَنجم عَن ذَلِك نفاق بعض الْمُنَافِقين وَنزل قَوْله تَعَالَى} {سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} الْآيَات وَكم عَسى أَن يكْتب الْكَاتِب ويحسب الحاسب من حكم الله سُبْحَانَهُ وفوائده وفوائد أَفعاله الحكيمة وتقديراته اللطيفة فَهَذَا يخرج عَن الْمَقْصُود وَيمْنَع مِمَّا قصدته من الِاخْتِصَار على ان الْمُعْتَرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 لمناسبة هَذِه الْعلَّة الشَّرْعِيَّة والاحاديث النَّبَوِيَّة أَتَى بِمَا يضْحك السامعين وَيُخَالف الاذكياء والبلداء من الْعُقَلَاء أَجْمَعِينَ فَزعم ان الله عذب من لَا ذَنْب لَهُ من الصغار والبهائم بِغَيْر عِلّة وَلَا سَبَب وَلَا حِكْمَة وَلَا دَاع فيا هَذَا الْمُغَفَّل اذا لم يحز على الله الاحسان الْعَظِيم الدَّائِم على سَبَب وَحِكْمَة لم تعقلهما كَيفَ أجزت عَلَيْهِ التعذيب الْعَظِيم بِغَيْر سَبَب وَحِكْمَة واذا أوجبت تَنْزِيه الله تَعَالَى من الاحسان الْعَظِيم الدَّائِم على سَبَب وَحِكْمَة كَيفَ قبحت على غَيْرك تنزيهه من التعذيب الْعَظِيم الدَّائِم بِغَيْر سَبَب وَحِكْمَة واذا اعْترفت ان من اعْترض على الله تَعَالَى فِي الْعَذَاب بِغَيْر ذَنْب فقد زَاد شقاؤه وَعظم بلاؤه فَمن أَبَاحَ لَك اعتراضه فِي أَسبَاب احسانه حِين لم توَافق فهمك الَّذِي اخْتَار نفي الْحِكْمَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال الربانية وَجعل كَمَال الْحِكْمَة نقصا وعكسها عكسا فَجعل زينها شَيْئا وحمدها ذما فَكيف اتَّسع عقله لتجويز تَعْذِيب من لَا ذَنْب لَهُ فِي طَبَقَات النيرَان إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الْملك الْغَنِيّ الحميد الْمجِيد الْحَكِيم الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَلِيم ثمَّ مَا اتَّسع عقله أَن يعلم ان الله تَعَالَى فِي تَرْتِيب الثَّوَاب على المصائب وَجه حِكْمَة لم يعلمهَا هُوَ ومنتهى مَا فِي الْأَمر أَن تَرْتِيب ذَلِك الثَّوَاب على تِلْكَ المصائب قَبِيح فِي مُنْتَهى معارف الْعُقُول أَو عَبث لَا فِي علم الله تَعَالَى فَهَلا آمَنت بِهِ مَعَ صِحَّته فِي الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول مثل مَا آمَنت بتعذيب ذَنْب من لَا ذَنْب لَهُ مَعَ قبحه فِي الْمَعْقُول وَعدم صِحَّته فِي الْمَنْقُول وَاعْلَم ان من عَادَة بعض الْمُخَالفين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن يوردوا صورا تحسن من الله تَعَالَى وتقبح من عباده ويوهمون بذلك ان هَذَا مَحل النزاع وَلَيْسَ كَذَلِك وَكفى حجَّة على من نَازع فِي هَذَا قصَّة الْخضر ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَلِهَذَا تَجِد كثيرا من أهل السّنة يظنون ان هَذَا الْقدر هُوَ مَحل النزاع فيرجحون قَول من يَنْفِي التحسين الْعقلِيّ وَلَيْسَ مَحل النزاع الا فِي نفي الْحِكْمَة عَن علم الله تَعَالَى لَا عَن معارف عقول الْعُقَلَاء وَمن الْخَطَأ الْبَين مَا يَفْعَله كثير من الْمُخَالفين من تَقْدِير صور فِي غَايَة الْقبْح فِي الشَّاهِد ثمَّ تَقْدِير أَن الله يَفْعَلهَا فَيجب تحسينها مِنْهُ لَو فعلهَا وَمَوْضِع الْقبْح بَين فِي وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي ضرب الْأَمْثَال لله وَالله تَعَالَى يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} وَثَانِيهمَا فِي تَجْوِيز ان الله يفعل تِلْكَ الصُّور الشنيعة الْفَاحِشَة الشناعة وَأَنا أذكر من ذَلِك صُورَة وَاحِدَة قد ختم بهَا هَذَا الشَّيْخ المدقق كَلَامه فَجعل ثَوَاب الله الْعَظِيم على فقر عباده وبلائهم بِمَنْزِلَة رجل يقْلع عَيْني فَقير مِسْكين مجذوم مَقْطُوع الاطراف ليطعمه لقْمَة وَاحِدَة فاساء الْأَدَب وأبطل فِي الْمثل وَللَّه الْمثل الاعلى والأسماء الْحسنى وَالله تَعَالَى جعل ثَوَاب العَبْد على ذهَاب بَصَره الخلود الَّذِي لَا آخر لَهُ فِي نعيم الْجنان الَّذِي لَا مثل لَهُ بِحَيْثُ ان من غمس غمسة وَاحِدَة فِيهِ من أهل الْبلَاء يُقَال لَهُ هَل رَأَيْت بؤسا قطّ فَيَقُول مَا رَأَيْت بؤسا قطّ فَهَذَا فِي أول غمسة كَيفَ فِي الدَّوَام الابدي فِيمَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا وكل عَاقل يشترى هَذَا بَان يقطع إربا أربا فِي كل حِين وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} الْآيَة وَورد فِي البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أنس أَنه لَا يحب الرُّجُوع الى الدُّنْيَا أحد من أهل الْجنَّة الا الشَّهِيد فانه يحب أَن يعود فَيقْتل عشر مَرَّات لما رأى من عَظِيم الْأجر على الشَّهَادَة وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث ولوددت أَنِّي أقتل فِي سَبِيل الله ثمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل ثمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل ثمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل رَوَاهُ البُخَارِيّ وَهَذَا لَفظه وَمُسلم وَمَالك وَغَيرهم وَفِي صَحِيح مُسلم ان الله ليغفر للْعَبد بالشربة يشْربهَا فيشكر عَلَيْهَا والأكلة يأكلها فيشكر عَلَيْهَا وَفِيه ان سُبْحَانَ الله نصف الْمِيزَان وَسُبْحَان الله وَالْحَمْد لله يملآن مَا مَا بَين السَّمَوَات والارض فَهَذَا بعض مَا صَحَّ ويسير من كثير بل قَطْرَة من بحار فضل الله الْعَظِيم الَّذِي لَا يقدر بِمِقْدَار وَلَا تمده لَو كتب الانهار وَلَا الْبحار فَكيف بِقدر لقْمَة وَاحِدَة يطْعمهَا فَقير مِسْكين حيران لقلع عَيْنَيْهِ وَقد أَجَاد الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى حَيْثُ أَشَارَ الى الْفرق بَين الْجَزَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الْعَظِيم وَغَيره فِي تقبيح هَذِه الامور وتحسينها وَلَو كَانَ يقبل مثل ذَلِك الِاعْتِرَاض على الْعِلَل السمعية وَالْحكم الالهية لَو رد على قَوْله تَعَالَى {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} وَقيل أما كَانَ فِي قدرَة رب الْعَالمين أَن يدخلهم الْجنَّة عوضا عَن بذلهم أنفسهم وَأَمْوَالهمْ الحقيرة مَعَ انها من مبادي مواهبه وَلَو كَانَ هَذَا من الْعلم الْمَحْمُود لسبق اليه السّلف الَّذين هم خير أمة أخرجت للنَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَمن ذَلِك احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا ان هَذِه الْآيَة فِي اثبات عزة الله تَعَالَى وَهِي كلمة اجماع بَين الْمُسلمين وَالله أعز من أَن يسئل وَلَيْسَ ذَلِك يَقْتَضِي أَنه غير حَكِيم فقد تمدح بِالْعِزَّةِ بل تمدح بسؤاله وعده الصَّادِق لِلْمُتقين حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه الْمُبين {قل أذلك خير أم جنَّة الْخلد الَّتِي وعد المتقون كَانَت لَهُم جَزَاء ومصيرا لَهُم فِيهَا مَا يشاؤون خَالِدين كَانَ على رَبك وَعدا مسؤولا} فَوَجَبَ الايمان بهما مَعًا فَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم كَمَا جَمعهمَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيرا فِي التمدح بهما معافي غير مَوضِع وَاحِد وَذَلِكَ اشارة الى انهما اخوان لَا يفترقان لَا ضدان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلذَلِك بوب البُخَارِيّ عَلَيْهِمَا مجموعين بَابا فِي كتاب التَّوْحِيد من صَحِيحه وَثَانِيهمَا أَن هَذِه الْآيَة فِي الدّلَالَة على بطلَان الشُّرَكَاء الَّذين عبدهم الْمُشْركُونَ وَالْمرَاد انهم يسئلون يَوْم الْقِيَامَة عَن ذنوبهم ويعذبون عَلَيْهَا كَقَوْلِه {وَلَقَد علمت الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون} وَمن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مربوب لَا رب وانما الرب الْحق الَّذِي يسْأَل عباده يَوْم الْقِيَامَة فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء لَا من يخَاف الْعَذَاب وَيُحَاسب أَشد الْحساب وَسِيَاق الْآيَة من أَولهَا وَاضح فِي ذَلِك فالاحتجاج بهَا على نفي الْحِكْمَة غَفلَة عَظِيمَة وانما هِيَ لنفي شريك مغالب يلْزم اظهار الْحِكْمَة ويعاقب على ترك الْبَيَان لَهَا وَنَحْو ذَلِك وَقد أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان يسْأَله الزِّيَادَة من الْعلم وَلم يعلم مُوسَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 على طلب ذَلِك من الْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام وَالله يحب أَن يسئل وَمن لم يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ فَمن سَأَلَ الله من أنبيائه عَن خَفِي حكمته لم يدْخل فِي الْآيَة كَمَا سَأَلَهُ آدم عَلَيْهِ السَّلَام هلآ سويت بَين ذريتي فَقَالَ فعلت ذَلِك لتشكر نعمتي وانما يلام من سَأَلَ اعتراضا أوشكا أَو استبعادا وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَمن ذَلِك شُبْهَة الثَّلَاثَة الاطفال الَّذين فرضوا أَن أحدهم مَاتَ صَغِيرا فَدخل الْجنَّة وأحدهم كبر ووحد الله وَعَبده وَدخل الْجنَّة وأحدهم كبر وَكفر وَدخل النَّار فَرَأى الصَّغِير منزلَة الْمُؤمن الْكَبِير فَوْقه فِي الْجنَّة فَقَالَ يَا رب هلا بلغتني منزلَة هَذَا فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ اني علمت انك لَو كَبرت كفرت وَدخلت النَّار فَيَقُول الَّذِي فِي النَّار فَهَلا أمتني صَغِيرا وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة خلق الاشقياء بِعَينهَا لَكِن غيروا الْعبارَة فِيهَا وَالْجَوَاب ان هَذَا التَّقْدِير خطأ فَاحش فان الْعلَّة فِي امانة الصَّغِير لَيْسَ هِيَ علم الله بانه لَو كبر كفر وَلَو كَانَت هَذِه هِيَ الْعلَّة لأمات جَمِيع الْكَفَرَة والاشقياء كلهم صغَارًا بل لما خلقهمْ صغَارًا حَتَّى يميتهم فان ترك خلقهمْ أولى من اسْتِدْرَاك الْفساد بموتهم بعد خلقهمْ وَلَو كَانَت هَذِه هِيَ العلبة لصاحت الوحوش والطيور وَجَمِيع أَنْوَاع الدَّوَابّ وَقَالَت يَا رب هلا جعلتنا من بني آدم ولصاح الْمُؤْمِنُونَ كلهم وَقَالُوا رَبنَا هلآ عصمتنا وبلغتنا مَرَاتِب الْأَنْبِيَاء بل جعلتنا كلنا أَنْبيَاء يُوحى الي كل وَاحِد منا ويسري بِنَا الى السَّمَاء وَقَالُوا جَمِيعًا هلا جعلتنا مَلَائِكَة كراما ولقالت الْأَنْبِيَاء هلا ساويت بَيْننَا فانه نَص انه فضل بعض الرُّسُل على بعض ولقالت مثل ذَلِك الْمَلَائِكَة فانه فضل بَينهم وَلَو انْفَتح هَذَا الْبَاب لاعترض تَفْضِيل يَوْم الْجُمُعَة والعيد وَلَيْلَة الْقدر وَلم تكن هَذِه الْأَوْقَات المخصوصات اولى بذلك من غَيرهَا ولاعترض تَخْصِيص السَّمَوَات باماكنها والارضين بسكانها ولاعترض تَخْصِيص ايجاد الْعَالم وكل فَرد مِمَّن فِيهِ بِوَقْت دون وَقت وَتَخْصِيص جَمِيع مَا فِيهِ بِقدر دون قدر فِي جَمِيع أَفعَال الله تَعَالَى ومقادير الاعمال والاجساد والارزاق وَالنعَم والقوى والالوان والتقديم وَالتَّأْخِير والتقليل والتكثير وَلما انْتهى ذَلِك الى حد وَلَا وقف على مِقْدَار الا والاعتراض فِيهِ قَائِم وَالسُّؤَال عَلَيْهِ وَارِد ولقالت القباح هلا جعلتنا حسانا وَالنِّسَاء هلا جعلتنا رجَالًا وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى عَدو وجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 شَيْء من الموجودات بل الى اسْتِحَالَة وجود الممكنات من جَمِيع الْمَخْلُوقَات لعدم رُجْحَان وَقت على وَقت وَمَكَان على مَكَان وَقدر على قدر فَيلْحق الْقَادِر حِينَئِذٍ بالعاجز ويتعذر الِاخْتِيَار على جَمِيع المختارين وانتهينا الى مَسْأَلَة لَا تَنْتَهِي لتعارض الدَّوَاعِي المستدعية للْوَقْف وَترك جَمِيع الْأَفْعَال وَهَذَا خُرُوج من الْمَعْقُول فان العاطش الجيعان لَو حضر عِنْده كيزان كَثِيرَة ورغفان كَثِيرَة وَهُوَ لَا يَأْكُل معتذرا بَان الدَّوَاعِي الى تَخْصِيص كل كوز وكل رغيف تَعَارَضَت عَلَيْهِ حَتَّى لم يتَمَكَّن من الاكل وَالشرب وَدفع الضَّرَر الْعَظِيم لعد من المجانين وَالْجَوَاب عَن هَذِه الوساوس ان الله يخْتَص برحمته من يَشَاء وانه فِي ذَلِك الْعَلِيم الْحَكِيم الْخَبِير الْبَصِير وَمَتى دعت الْحِكْمَة الى أحد الامرين المستويين بَادر جَمِيع الْعُقَلَاء الى تَخْصِيص أَحدهمَا محمودين على ذَلِك غير ملومين سَوَاء كَانَ ذَلِك التَّخْصِيص مُسْتَندا الى مُرَجّح خَفِي أم الى الْحِكْمَة الاولى وَمن ذَلِك الحَدِيث المقلوب الَّذِي خرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد فِي الْبَاب الْخَامِس وَالْعِشْرين فِي قَوْله عز وَجل {إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} فانه خرج فِيهِ عَن عبَادَة حَدِيثا مَرْفُوعا انما يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء وَحَدِيث انس مَرْفُوعا ليصيبن أَقْوَامًا سفع من النَّار بذنوب أصابوها ثمَّ يدخلهم الله الْجنَّة بِفضل رَحمته ثمَّ أَرَادَ تَأْكِيد هذَيْن الْحَدِيثين فِي رَحْمَة الله تَعَالَى بِحَدِيث ثَالِث لابي هُرَيْرَة وَقد رَوَاهُ على الصَّوَاب قبل هَذَا الْموضع من طَرِيق اتّفق على صِحَّتهَا هُوَ وَمُسلم وَغَيرهمَا ثمَّ جَاءَ بِهِ فِي هَذَا الْموضع من طَرِيق أُخْرَى لم يُوَافقهُ عَلَيْهَا مُسلم وَلَا غَيره من أهل السّنَن وانما أَرَادَ تَقْوِيَة أصل الحَدِيث وَمَا فِيهِ من معنى الرَّحْمَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا فَقَالَ حَدثنَا عبيد الله بن سعيد قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي ابْن ابراهيم بن سعد الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنَا أبي عَن صَالح بن كيسَان عَن الاعرج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اختصمت الْجنَّة وَالنَّار الى ربهما فَقَالَت الْجنَّة يَا رب مَالهَا لَا يدخلهَا الا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ وَقَالَت النَّار فَقَالَ للجنة أَنْت رَحْمَتي وَقَالَ للنار أَنْت عَذَابي أُصِيب بك من أَشَاء وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قَالَ فاما الْجنَّة فان الله لَا يظلم من خلقه أحدا وانه ينشئ للنار من يَشَاء فيلقون فِيهَا فَتَقول هَل من مزِيد ثَلَاثًا حَتَّى يضع قدمه فِيهَا فتمتلئ وَيرد بَعْضهَا الى بعض وَتقول قطّ قطّ قطّ فَهَذَا حَدِيث مقلوب انْقَلب على بعض رُوَاته كَمَا خرج مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك السَّبْعَة الَّذين يظلهم الله بِظِل عَرْشه يَوْم الْقِيَامَة يَوْم لَا ظلّ الا ظله فَذكر مِنْهُم رجلا تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله خرجه مُسلم وانما انْقَلب على بعض الروَاة وَصَوَابه مَا خرجاه مَعًا عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه فَحكم كل عَارِف بانقلابه لما اتفقَا عَلَيْهِ فِي ذَلِك ولانه الْمُنَاسب فان الْيَمين هِيَ المنفقة فخرجه مُسلم كَذَلِك لتقوى أصل الحَدِيث بِهَذَا الاسناد لَا لكَونه ظن صِحَة هَذَا الْمَتْن المقلوب مَعَ مُخَالفَته للمنقول والمعقول وَلم يتهم أحد مُسلما بِجَهْل ذَلِك وَكَذَلِكَ حَدِيث الْجنَّة وَالنَّار فانهما اتفقَا على اخراجه على الصَّوَاب من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحَاجَّتْ النَّار وَالْجنَّة فَقَالَت النَّار أُوثِرت بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَت الْجنَّة مَا لي لَا يدخلني الا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ فَقَالَ الله تَعَالَى للجنة انت رَحْمَتي أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي وَقَالَ للنار أَنْت عَذَابي أعذب بك من أَشَاء من عبَادي وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَأَما النَّار فَلَا تمتلئ حَتَّى يضع رجله فَتَقول قطّ قطّ قطّ فهنالك تمتلئ ويزوي بَعْضهَا الى بعض وَلَا يظلم الله من خلقه أحدا وَأما الْجنَّة فان الله ينشئ لَهَا خلقا خرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فِي تَفْسِير ق وَمُسلم فِي صفة النَّار نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا وَفِي صفتهَا خرج مُسلم حَدِيث أنس وَالْبُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد فِي الْبَاب السَّابِع مِنْهُ فِي قَول الله عز وَجل {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} فَخرج مِنْهُ حَدِيث شُعْبَة وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ لَا يزَال يلقى فِيهَا وَهِي تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعَالمين قدمه فيزوي بَعْضهَا الى بعض ثمَّ تَقول قد قد بعزتك وكرمك وَلَا تزَال الْجنَّة تفضل حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا فيسكنهم الله فضل الْجنَّة هَذَا لفظ البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد وَرَوَاهُ مُسلم من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة بِمثلِهِ الا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 انه قَالَ قطّ قطّ ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق أُخْرَى فَقَالَ نازهير بن حَرْب ناعفان ناحماد يَعْنِي ابْن سَلمَة ناثابت قَالَ سَمِعت أنسا يَقُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يبقي من الْجنَّة مَا شَاءَ الله ان يبْقى ثمَّ ينشئ الله لَهَا خلقا مِمَّا يَشَاء وَخرج مُسلم أصل الحَدِيث من طَرِيق أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مُحَاجَّة الْجنَّة وَالنَّار الى قَوْله لكل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَلم يذكر مَا بعده من الزِّيَادَة فقد تبين بِهَذَا ان حَدِيث ابراهيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن الاعرج عَن أبي هُرَيْرَة حَدِيث مُنْقَلب لم يُتَابع عَلَيْهِ فَأَما أَبُو هُرَيْرَة فقد تخلص من الْوَهم بِرِوَايَة الثِّقَات للْحَدِيث عَنهُ على الصَّوَاب وَكَذَلِكَ الاعرج قد خرجه عَنهُ مُسلم من طَرِيق أبي الزِّنَاد عَن أبي هُرَيْرَة بِغَيْر ذكره لتِلْك الزِّيَادَة الْمُنكرَة وَأَبُو الزِّنَاد فِي الْأَعْرَج من ابراهيم فانه رَاوِيه الْمَشْهُور وَفِي كتب الْجَمَاعَة السِّتَّة عَنهُ قدر ثَلَاثمِائَة حَدِيث وَلَيْسَ لابراهيم عَن صَالح عَنهُ الا سَبْعَة أَحَادِيث لم يتَّفقَا على وَاحِد مِنْهَا خرج البُخَارِيّ ثَلَاثَة مِنْهَا أَحدهَا فِي الابراد بِالصَّلَاةِ فِي شدَّة الْحر وَهُوَ مَعْرُوف من غير طَرِيقه وَالثَّانِي لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا التّرْك وَهُوَ كَذَلِك وَالثَّالِث هَذَا الحَدِيث وَغَيره فِيهِ أثبت مِنْهُ وأحفظ لَهُ كَمَا نبين لَك ان شَاءَ الله وَأما مُسلم فَلم يخرج لَهُ عَن صَالح عَن الاعرج الا فِي الْفَضَائِل ثَلَاثَة أَحَادِيث وَالسَّابِع من هَذِه التَّرْجَمَة خرجه ابْن ماجة فِي رفع الْيَدَيْنِ عِنْد التَّكْبِير وَهُوَ مَعْرُوف وَقد ذكر ابْن حجر ابراهيم بن سعد فِيمَن اخْتلف فِيهِ من رجال البُخَارِيّ وَحكى بعد توثيقه عَن ابْن عدي انه رُوِيَ عَن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل عَن أَبِيه انه ذكر ابراهيم بن سعد عِنْد يحيى بن سعيد فَجعل يَقُول ابراهيم بن سعد كَأَنَّهُ يُضعفهُ وَقَالَ ابْن عدي كَلَام من تكلم فِيهِ تحامل فَأفَاد انه قد تكلم فِيهِ وَقَالَ ابْن دارة كَانَ صَغِيرا حِين سمع من الزُّهْرِيّ فَهَذَا مَا ذكره ابْن حجر فِي تَرْجَمته وَلم يذكرهُ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان والاعلال وَالْحكم بالانقلاب والادراج وَنَحْو ذَلِك لَا يخْتَص بالضعفاء بل يجوز الحكم بِهِ بمخالفة الاوثق والاكثر مَعَ الْقَرَائِن وَقد اجْتمع ذَلِك كُله بل ذكر ابْن قيم الجوزية فِي حادي الارواح ان ذَلِك من المقلوب وان البُخَارِيّ قد نبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 على ذَلِك قَالَ وَالرِّوَايَات الصَّحِيحَة وَنَصّ الْقُرْآن يردهُ فان الله تَعَالَى أخبر أَنه يمْلَأ جَهَنَّم من إِبْلِيس وَأَتْبَاعه وَأَنه لَا يعذب الا من قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة وَكذب رسله قَالَ تَعَالَى {كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء} قلت وَيدل على هَذَا وُجُوه مِنْهَا ان رَاوِي هَذَا الحَدِيث المقلوب جعل تَنْزِيه الله تَعَالَى من الظُّلم عِنْد ذكره الْجنَّة فأوهم بذلك ان من أدخلهُ الله تَعَالَى الْجنَّة بِغَيْر عمل كَانَ ظلما وَهَذَا من أفحش الْخَطَأ فان الْحور الْعين فِي الْجنَّة والاطفال بِغَيْر عمل وَهَذَا هُوَ الْموضع الَّذِي لَا يُسمى ظلما عِنْد أحد من الْمُسلمين وَلَا من الْعُقَلَاء أَجْمَعِينَ وَلَا أَشَارَ الى ذَلِك شَيْء من الحَدِيث وَلَا من السّنة وَلَا من اللُّغَة وَلَا من الْعرف وانما ذكر هَذَا فِي النَّار اشارة الى أَن التعذيب بِغَيْر ذَنْب هُوَ شَأْن الظَّالِمين من الْخلق وَالله تَعَالَى حرم الظُّلم على نَفسه وَجعله بَين خلقه محرما كَمَا رَوَاهُ أَبُو ذَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربه عز وَجل فِي الحَدِيث الصَّحِيح بل كَمَا تمدح بذلك رب الْعَالمين فِي كِتَابه الْمُبين الْوَجْه الثَّانِي انه قصر فِي سِيَاقه الْمَتْن فَقَالَ وَقَالَت النَّار وَلم يذكر مَا قَالَت وَلَا سكت من قَوْله قَالَت قَالَ ابْن بطال فِي شَرحه وَهُوَ كَذَلِك فِي جَمِيع النّسخ وَذكر هَذَا الرَّاوِي قَول الله تَعَالَى للجنة أَنْت رَحْمَتي وَلم يتمم قَوْلهَا لَهَا أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي وَالنَّقْص فِي الْحِفْظ والركة فِي الرِّوَايَة بَين على حَدِيثه الْوَجْه الثَّالِث تجنب الْمُحدثين لاخراج هَذِه الرِّوَايَة مثل مُسلم وَالنَّسَائِيّ مَعَ روايتهما الحَدِيث وَمثل أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده مَعَ توسعه فِيهِ وَكَذَلِكَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جمعه أَحَادِيث البُخَارِيّ وَمُسلم ومسند أَحْمد وَكَذَلِكَ ابْن الاثير فِي جَامع الاصول وَهُوَ يعْتَمد الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ للحميدي والْحميدِي انما يتْرك مَا لَيْسَ على شَرط البُخَارِيّ مِمَّا ذكره فِي صَحِيحه مثل حَدِيث الْفَخْذ عَورَة فانه ترك ذكره لذَلِك كَمَا ذكر ابْن الصّلاح فِي عُلُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الحَدِيث والامر أوضح من أَن يطول فِي بَيَانه وانما ذكرت هَذَا لَان صَاحب الْقَوَاعِد احْتج بِهِ وَنسبه الى الصَّحِيح وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا أصلا وَكَذَلِكَ الْمُهلب فَعرفت انهما قد غَلطا فِي ذَلِك كَيفَ من هُوَ أقل معرفَة مِنْهُمَا بِسَبَب ذكره فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَقد رأى ذكره فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَقد ذكر ابْن الصّلاح وَغَيره ان فِي البُخَارِيّ أَحَادِيث كَثِيرَة على غير شَرطه وَلَا شَرط غَيره من أهل الصَّحِيح وان ذَلِك مَعْلُوم وَذكر من ذَلِك حَدِيث بهز بن حَكِيم فِي ان الْفَخْذ عَورَة وَقد ذكر غَيره من ذَلِك شَيْئا كثيرا فقد ذكر ابْن حجر فِي مُقَدّمَة شرح البُخَارِيّ بعض مَا اعْترض على البُخَارِيّ فَذكر مائَة حَدِيث وَعشرَة أَحَادِيث وانما قلت انه الْبَعْض لانه ذكر ان من ذَلِك عنعنة المدلسين الَّتِي فِي الصَّحِيح وَأَحَادِيث الرِّجَال الْمُخْتَلف فيهم وَذَلِكَ شئ كثير الْوَجْه الرَّابِع انه قد ثَبت بالنصوص والاجماع ان سنة الله تَعَالَى انه لَا يعذب أحدا بِغَيْر ذَنْب وَلَا حجَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَقَالَ تَعَالَى {ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله من أجل ذَلِك أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَمن جحدان هَذِه سنة الله فقد جحد الضَّرُورَة وَإِذا تقرر أَنَّهَا سنة الله تَعَالَى فقد قَالَ تَعَالَى {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} {وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا} وَقَالَ تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَأحسن مَا أنزل الله الينا هُوَ الثَّنَاء عَلَيْهِ وتسبيحه وتقديس أَفعاله وأقواله من جَمِيع صِفَات النَّقْص فَكيف يعدل عَن هَذَا كُله مَعَ مُوَافقَة الرِّوَايَة الصَّحِيحَة لَهُ إِلَى رِوَايَة سَاقِطَة مغلوطة مَقْلُوبَة زل بهَا لِسَان بعض الروَاة كَمَا زل لِسَان الَّذِي اراد أَن يَقُول اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك فغلط من شدَّة الْفَرح بِوُجُود رَاحِلَته عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه بعد الْيَأْس كَمَا ورد فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح وَلَو كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الْغَلَط يحكم بِهِ لوَجَبَ كفر ذَلِك الغالط وتكفيرنا لَهُ لأجل غلطه وَعَكسه مَا أَرَادَ ونجعله مذهبا لَهُ الْوَجْه الْخَامِس أَنه لَو قدر مَا لَا يتَقَدَّر من وُرُود حَدِيث صَحِيح بذلك الْغَلَط لم يدل على مُخَالفَة جَمِيع مَا عَارضه من الْأَدِلَّة القاطعة والحجج الساطعة لِأَنَّهُ مُحْتَمل لموافقتها فانه لم يُصَرح فِيهِ بِأَنَّهُ ينشيء للنار خلقا لَا ذنُوب لَهُم وَلَا قَالَ فيدخلهم النَّار قبل أَن يذنبوا ويستحقوا الْعَذَاب وَإِذا لم ينص على ذَلِك وَجب تَقْدِير ذَلِك لموافقة سنة الله تَعَالَى الَّتِي لَا تَبْدِيل لَهَا وَلَا تَحْويل وَذَلِكَ على أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون هَؤُلَاءِ الَّذين أنشأهم الله لَهَا هم قوم من كفار بني آدم الَّذين تقدم كفرهم وَقدم ادخارهم لَهَا بعد كفرهم وسمى اعادتهم لَهَا انشاء لِأَنَّهَا انشاء حَقِيقِيّ لصورهم وردهم على مَا كَانُوا أَو لِأَنَّهُ كَانَ قد أعدمهم وَهَذَا اخْتِيَار كثير من أهل السّنة بل من الأشعرية فقد نَص عَلَيْهِ ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ فِي شرح هَذَا الحَدِيث فَأصَاب فِي وَجه وَأَخْطَأ فِي وَجه أما صَوَابه فَفِي تنزيهه الله تَعَالَى مِمَّا توهمه غَيره جَائِزا على الله سُبْحَانَهُ وَأما خطأه فَفِي إيهامه أَن الحَدِيث صَحِيح وَهُوَ مقلوب بِغَيْر شُبْهَة وَإِنَّمَا خَفِي ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يكن من أَئِمَّة الحَدِيث وَإِنَّمَا كَانَ من عُلَمَاء الْفِقْه وَالْكَلَام وَإِمَّا أَن يكون الله تَعَالَى خلق للنار خلقا مستأنفا فكلفهم بعد خلقهمْ فَكَفرُوا فاستحقوها كَمَا ورد فِي بعض أَحَادِيث الاطفال وَفِي هَذَا مبَاحث قد استوفيت هُنَالك وَإِمَّا أَن يكون خلق لَهَا خلقا لَا يتألم بهَا أَو يتلذذ بهَا أَو من الجمادات كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} وَجَاء فِيهَا بضمير الْعُقَلَاء لأَنهم بدل مِنْهُم كَمَا قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {إِنِّي رَأَيْت أحد عشر كوكبا وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتهمْ لي ساجدين} أَو لغير ذَلِك وَمَعَ الِاحْتِمَال بعض هَذِه الْوُجُوه فِي بَيَان غلط بعض الروَاة الَّذِي قَامَت الْأَدِلَّة على غلطه كَيفَ يعدل إِلَى ظَاهره وَيُسمى صَحِيحا ويحتج بِهِ مثل الْمُهلب وَصَاحب الْقَوَاعِد وَغَيرهمَا فَالله الْمُسْتَعَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَمن ذَلِك قَالُوا الاسباب والدواعي خلق الله فَلَو كَانَ الله لَا يفعل إِلَّا لَهَا لم يخلقها إِلَّا لمثلهَا دَاع وَسبب وَأدّى هَذَا إِلَى التسلسل أَو إِلَى تعجيز الله تَعَالَى من خلق شَيْء بِغَيْر دَاع وَالْجَوَاب أَن هَذَا من أفحش الْوَهم والغلط فان الْمرجع بالأسباب والدواعي وَالْحكم إِلَى الله تَعَالَى بذلك وَمَا كَانَ من الْمَخْلُوقَات خيرا مَحْضا فانه يُرَاد خلقه لنَفسِهِ لَا لِمَعْنى آخر وَلَا لسَبَب ثَان وَمَا كَانَ شرا فانه يُرَاد لخير فِيهِ أَو خير يستلزمه أَو يتعقبه لما اجْتمعت عَلَيْهِ الْفطر وأقرته الشَّرَائِع من قبح ارادة الشَّرّ لكنه شرا وَأما تعجيز الرب عز وَجل فأعظم فحشا فِي الْوَهم وَأَيْنَ نفى الْقُدْرَة من نفي الْفِعْل وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك بقوله تَعَالَى {بِيَدِهِ الْملك وَهُوَ على كل شَيْء قدير} وَلم يقل وَهُوَ لكل شَيْء فَاعل فَنحْن لم نقل أَن الله لَا يقدر على الْعَبَث وَلَا اللّعب وَلَا الظُّلم وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه لَا يَفْعَلهَا ومدحناه بذلك كَمَا مدح بِهِ نَفسه فِي كِتَابه الْكَرِيم وَلَو لم يكن قَادِرًا على ذَلِك لم يكن ممدوحا بِتَرْكِهِ كَمَا أَن الجمادات غير ممدوحة بترك ذَلِك وَهِي لَا تَفْعَلهُ وَإِنَّمَا لم تمدح بِتَرْكِهِ مَعَ عدم فعلهَا لَهُ لعجزها عَن فعله وَتَركه وَهَذَا شَيْء تفهمه الْعَرَب فِي جَاهِلِيَّتهَا والعوام فِي أسواقها وباديتها وَالْعجب من قوم ادعوا كَمَال الْمعرفَة بالحقائق والغوص على لطائف الدقائق ثمَّ عموا أَو تعاموا عَن هَذِه الْأَحْكَام الظَّاهِرَة والأدلة الباهرة نسْأَل الله الْعَافِيَة لنا وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين وَأما بَيَان أَن القَوْل بحكمة الله تَعَالَى أحوط فِي الدّين من النَّفْي لَهَا والتأويلات المتعسفة فَلَا شكّ فِيهِ لوجوه الْوَجْه الأول أَن وصف الله تَعَالَى بالحكيم مَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين متكرر النَّص عَلَيْهِ فِي كتاب الله تَعَالَى تَكْرَارا كثيرا وَمَعْلُوم أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالسَّلَف الْمجمع عَلَيْهِم مَا تأولوه وَمَعْلُوم تمدحه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 بالحكمة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر} وأمثالها وَهِي مَانِعَة من تأويلهم الْحَكِيم بِأَنَّهُ ذُو الْأَحْكَام فِي الْمَخْلُوقَات لَا ذُو الْحِكْمَة فِيهَا وَلَا شكّ أَن إِثْبَات الْحَكِيم بِأَنَّهُ ذُو الْأَحْكَام فِي الْمَخْلُوقَات لَا ذُو الْحِكْمَة فِيهَا وَلَا شكّ أَن إِثْبَات الْأَحْكَام لَهَا وَالْحكمَة فِيهَا أَكثر مدحا وَأَنه تَعَالَى أولى بِكُل مدح الْوَجْه الثَّانِي أَنه لَا بِدعَة فِي إِثْبَات الْحِكْمَة لله تَعَالَى وَعدم تَأْوِيل الْحَكِيم بالاجماع لِأَن الْبِدْعَة احداث مَا لم يعْهَد فِي عصر النُّبُوَّة وَالصَّحَابَة وَمَا كَانَ مَنْصُوصا فِي كتاب الله تعالي فَهُوَ مَوْجُود فِي عصرهم ضَرُورَة وَإِنَّمَا الَّذِي لم يُوجد فِي عصرهم نفي ذَلِك أَو تَأْوِيله وَالْقَوْل بِأَنَّهُ صفة ذمّ أَو يسْتَلْزم ذَلِك الْوَجْه الثَّالِث أَنه يخَاف الْكفْر بجحد ذَلِك لما قَرَّرْنَاهُ من أَنه مَعْلُوم ضَرُورَة وَكَذَلِكَ يخَاف الْكفْر فِي تَأْوِيله وَإِن كُنَّا لَا نكفرهم احْتِيَاطًا للاسلام وَأَهله لما سَيَأْتِي ولمعارضة الْأَدِلَّة الْمُوجبَة لاسلامهم كَمَا تقدم وَلِأَن قصدهم إِنَّمَا هُوَ حسم مواد الِاعْتِرَاض عَليّ الله تعالي لكِنهمْ أساؤا النّظر بِالْتِزَام مثل مَا فروا مِنْهُ وَأما القَوْل بذلك فَلَا وَجه لخوف الْكفْر فِيهِ أبدا حتي عِنْد نفاة الْحِكْمَة لِأَن الْكفْر هُوَ جحد الضرورات من الدّين أَو تَأْوِيلهَا وَلم تأت فِي نَفيهَا آيَة قرآنية وَلَا حَدِيث آحادي فضلا عَن متواتر وَأما مُخَالفَة غلاة الْمُتَكَلِّمين فِي دقائقهم فَلم يقل أحد أَنَّهَا كفر وَإِلَّا لوَجَبَ تَكْفِير أَكثر أهل الاسلام بل خَيرهمْ وَإِنَّمَا أوضحت هَذَا لأتي بنيت هَذَا الْكتاب عَليّ لُزُوم الْأَحْوَط فِي الدّين مهما وجدت اليه سَبِيلا وَترك كل مَا يخَاف من القَوْل بِهِ الْعَذَاب أجارنا الله تعالي مِنْهُ وَعلي تَقْدِيم عبارَة الْقُرْآن وَنَصه وَلَفظه لقَوْله تعالي {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَقَوله تعالي {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} وَلِأَنَّهُ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَلِأَنَّهُ أشرف وأبرك وَأَصَح وأنجي وأولي وأحري وأعلي وأهدي بالاجماع فان قبل تَجْوِيز بعض مَا يستقبح فِي عقول الْعُقَلَاء لحكمة لَا يعلمونها يسْتَلْزم تَجْوِيز بعثة الْكَذَّابين وَالْكذب وَالْخلف فِي الْوَعْد والوعيد وَنَحْو ذَلِك لحكمة لَا يعلمهَا إِلَّا الله تعالي قُلْنَا هَذَا مَمْنُوع لوَجْهَيْنِ الْوَجْه الاول أَن تقبيح الْعُقُول يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ ضَرُورِيّ وظني وَنحن مَا جَوَّزنَا أَن يصدر من الله تَعَالَى كل قَبِيح على الاطلاق لحكمة خُفْيَة إِنَّمَا جَوَّزنَا ذَلِك فِي الْقسم الَّذِي التقبيح فِيهِ ظَنِّي يَقع فِي مثله الِاخْتِلَاف بَين الْجَاهِل والعالم وَبَين الْعَالم والاعلم وَلَا شكّ أَن اخْتِيَار الْكَذِب وَبَعثه الْكَذَّابين بالمعجزات وَالْخلف فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ مِمَّن هُوَ على كل شَيْء قدير وَبِكُل غيب عليم وترجيحه على الصدْق وبعثة الصَّادِقين مَعَ أَن قدرته عَلَيْهِمَا على السوَاء قَبِيح قبحا ضَرُورِيًّا قبحا أَشد الْقبْح فِي عقول الْعُقَلَاء أما أَن لم يجوز فِي ذَلِك خير فَظَاهر وَأما أَن جوز فِيهِ شَيْء من الْخَيْر فَلَا شكّ أَن الصدْق وبعثة الصَّادِقين أَكثر خيرا ودفعا للْفَسَاد والمفاسد وجلبا للصلاح والمصالح وتجويز خلاف ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يوثق لله تَعَالَى بِكَلَام وَلَا لأحد من رسله الْكِرَام فِي دين وَلَا دنيا وَلَا جد وَلَا هزل وَلَا حَلَال وَلَا حرَام وَلَا وعد وَلَا وَعِيد وَلَا عهد وَلَا عقد وَلَا أعظم فَسَادًا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى هَذَا بِحَيْثُ أَن كثيرا من السُّفَهَاء والظلمة والمفسدين لَا يرضون لنفوسهم بِمثل ذَلِك الْوَجْه الثَّانِي إِن الَّذِي يحسن حِينَئِذٍ لبَعض القبائح لبَعض الْعُقَلَاء إِنَّمَا هُوَ الِاضْطِرَار إِلَى عدم الْخَلَاص من أحد قبيحين فيختار حِينَئِذٍ الأهون مِنْهُمَا قبحا كَمَا قيل حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض مِثَاله من لم يسْتَطع حقن دم مَعْصُوم أَو مُسلم مظلوم إِلَّا بكذب أَو خلف وعد أَو نَحْو ذَلِك حسن مِنْهُ دفع الشَّرّ الْأَعْظَم بِالشَّرِّ الْأَقَل وَمثل هَذَا لَا يتَصَوَّر فِي حق الرب جلّ جَلَاله لما ثَبت من أَنه على كل شَيْء قدير وَبِكُل شَيْء عليم وَأما الْخلف فِي الْوَعيد فَلَيْسَ هُوَ فِي مرتبَة الْقَبِيح الضَّرُورِيّ لشهرة الْخلاف فِيهِ بَين الْعُقَلَاء وَصِحَّة تَسْمِيَته فِي اللُّغَة عفوا لَا خلفا كَمَا قَالَ كَعْب بن زُهَيْر فِي قصيدته الْمَعْرُوفَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 (نبئت أَن رَسُول الله أوعدني ... وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مأمول) وَلم يقل وَالْخلف عِنْد رَسُول الله مأمول وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة ابْن عَبَّاس والخدري وَأبي ذَر وَأبي رزين الْعقيلِيّ لَكِن حَدِيثه عِنْد أَحْمد ولقيط بن صبرَة وَحَدِيثه عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَعبد الله بن أَحْمد وَله مسندان مُسْند ومرسل وَرِجَال الْمسند ثِقَات ذكره الهيثمي فِي بَاب جَامع فِي الْبَعْث وَعَن سلمَان عِنْد الْبَزَّار بِرِجَال مُخْتَلف فِي بَعضهم ذكر فِي بَاب حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى من مجمع الزَّوَائِد أَن الله تَعَالَى يَقُول الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو وَيشْهد لذَلِك حَدِيث معَاذ الَّذِي فِيهِ دعهم يعملوا وَعَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام نَحوه فِي فضل قتال الْخَوَارِج وَمثل حَدِيث إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي التَّعَرُّض يَوْم الْقِيَامَة للشفاعة لِأَبِيهِ آزر وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سُئِلَ عَن أمه أَن رَبِّي وَعَدَني مقَاما مَحْمُودًا وأمثال ذَلِك مِمَّا قد جمع فِي غير هَذَا الْموضع وَيشْهد لَهُ من كتاب الله تَعَالَى قَول الْخَلِيل {فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} لَكِن عَارض هَذِه الادلة قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي وَمَا أَنا بظلام للعبيد} وَقَوله تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته} وَللَّه تَعَالَى من كل حسن أحْسنه فَلَمَّا كَانَ الْعَفو بعد الْوَعيد حسنا كَانَ الْعَفو قبل الْوَعيد الْقَاطِع أحسن كَانَ الاحسن أولى بِاللَّه تَعَالَى من الْحسن لَكنا نقُول أَن الله تَعَالَى قد اشْترط عدم الْعَفو فِي الْوَعيد فِي آيَات كَثِيرَة وَفِي أَخْبَار كَثِيرَة وَالشّرط الْوَاحِد فِي آيَة وَاحِدَة وَحَدِيث وَاحِد كَاف فِي الْخُرُوج من ذَلِك مِثَاله قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ الله} وَالْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة وَكَلَام الْخَلِيل والمسيح عَلَيْهِمَا السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَأما المرجئة وَغَيرهم من أهل السّنة فقد أجابوا عَن قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} بِأَنَّهَا عُمُوم مَخْصُوص بقوله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وأمثالها كَمَا أَن قَوْله تَعَالَى {لَا مبدل لكلماته} مَخْصُوص بهَا وعضدوا ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} بِأَنَّهَا فِي خطاب الْكفَّار كَمَا هُوَ مَعْلُوم من الْآيَات الَّتِي قبلهَا قَالُوا وتعدية مَا لَهُ سَبَب إِلَى غير سَببه ظنية بالاجماع لَكِن يُقَوي ويضعف على حسب الْقَرَائِن وَالْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة وَكَلَام الْخَلِيل والمسيح قَرَائِن تقوى عدم التَّعْدِيَة وَالْجمع بذلك بَينهمَا أولى من الطرح وعضدوا ذَلِك بِأَن التبديل لم يقبح لذاته وَلَا لِأَنَّهُ تَبْدِيل قَول مُطلقًا لِأَنَّهُ تَبْدِيل قَول مَخْصُوص فقد قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} وَقَالَ {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} والنسخ من تَبْدِيل القَوْل لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَقد بدل الله ذبح اسماعيل بالكبش وَضرب امْرَأَة أَيُّوب بالضغث وَبدل صُورَة عِيسَى بِمِثْلِهَا مرَّتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَفِي يَوْم الْقِيَامَة وَبدل اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالْكَعْبَةِ وذم من قبح ذَلِك وَسَمَّاهُمْ سُفَهَاء حَيْثُ قَالَ {سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يُوضحهُ النُّصُوص الْمُتَّفق على صِحَّتهَا والاجماع من أهل الْعلم الْمَشَاهِير من جَمِيع الْمذَاهب على أَن من حلف يَمِينا فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فالمستحب لَهُ أَن يفعل الَّذِي هُوَ خير وَيكفر عَن يَمِينه اسْتِحْبَابا لَا وجوبا وَهِي مَسْأَلَة اخلاف الْوَعيد بِعَينهَا فَتَأمل ذَلِك يُوضحهُ أَحَادِيث لم تمسه النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا وَاثْنَانِ بعد قَوْله ثَلَاثَة فَدلَّ على أَن التبديل المذموم تَبْدِيل مَخْصُوص لَا كل تَبْدِيل يُوضحهُ أَنه قد ثَبت أَن عَذَاب الْكفَّار رَاجِح قطعا للاجماع على عدم تَجْوِيز الْعَفو الْمُطلق عَنْهُم وَلما فِيهِ من حُقُوق الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ ونصرهم عَلَيْهِم وشفاء غيظ قُلُوبهم مِنْهُم وَلم يثبت مثل ذَلِك فِي عَذَاب الْمُسلمين لقَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وللاحاديث المخصصة للعمومات المتواترة عِنْد أهل الحَدِيث وَلِأَن الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ شفعاؤهم لَا خصماؤهم وَأما قصَّة قوم يُونُس فتأتي فِي مَسْأَلَة الْوَعيد فان قيل إِنَّمَا يحسن الْخلف فِي الْوَعيد منا للْجَهْل بِالْغَيْبِ مَعَ نِيَّة الصدْق فاما عَالم الْغَيْب فَلَو أخلف لم يَصح ارادة الصدْق عِنْد الْوَعيد لعلمه بالعاقبة فَلَو أخلف كَانَ كذبا قبيحا وَهَذَا السُّؤَال قوي إِلَّا أَن قُوَّة التباسه بالانشاء هُوَ الَّذِي غرهم فَالْأولى ترك تَجْوِيز ذَلِك ولسنا نحتاج فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى تجويزه لَا سِيمَا وَهَذَا الْكتاب مَبْنِيّ على الأسلم والأحوط فقس ذَلِك على هَذِه الْقَاعِدَة وَلَا تعدها فَمن نهج السَّلامَة نَالَ السَّلامَة وَكَثِيرًا مَا يلتبس التَّخْصِيص بالخلف على من بعد عَن تَأمل السّمع فأفرق بَينهمَا فَهُوَ وَاضح وَالْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة طَوِيل وموضعه مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد وَهُوَ يَأْتِي فِي آخر هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمَعَ مَا قَدمته من وُقُوع الشَّرْط فِي الْوَعيد لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا وَلَا يُمكن تقبيح الْعَفو من أكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ عَن أحد من الْمُوَحِّدين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين لكنه لَا سَبِيل إِلَى الْأمان لِأَنَّهُ وَسِيلَة إِلَى الْفساد والطغيان وَالله أحكم من أَن يُؤمن المفسدين من تبوء الْجَزَاء فِي الْآخِرَة كَمَا لم يسمح لَهُم الْحُدُود فِي الدُّنْيَا بل أوجب قطع يَد السَّارِق فِي ربع الدِّينَار لحفظ الْأَمْوَال ومصلحة الْخلق فِي ذَلِك وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم الحميد الْمجِيد الفعال لما يُرِيد وَبِهَذَا السُّؤَال وَجَوَابه تعلم سَبَب الْخلاف فِي دوَام الْعَذَاب فَمن توهمه من المرجوحات الضرورية فِي عقول الْعُقَلَاء وَحِكْمَة الْحُكَمَاء رجح الْخُصُوص الَّذِي هُوَ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} على عمومات الْوَعيد بالخلود وَمن ذهب إِلَى أَنه من المرجوحات الظنية المستندة إِلَى مُجَرّد الاستبعاد رجح العمومات وعضدها بتقرير أَكثر السّلف لَهَا على مَا تكَرر أَن مَا لم يتأولوه فتأويله بِدعَة وَلما كَانَ تأويلهم لذَلِك فِي حق الْمُسلمين متواترا عَنْهُم وأدلته متواترة عِنْد الْبَعْض صَحِيحَة شهيرة عِنْد الْجَمِيع كَانَ هُوَ الْمَنْصُور وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه الْوَجْه فِي أَنه أحوط الْأَقْوَال وَالله سُبْحَانَهُ أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الْكَلَام على مَسْأَلَة الارادة وفيهَا مبَاحث الْبَحْث الأول فِي مَعْنَاهَا وَهِي الْأَمر الَّذِي يَقع بِهِ فعل الْفَاعِل الْمُخْتَار على وُجُوه مُخْتَلفَة فِي الْحسن والقبح وعَلى مقادير مُخْتَلفَة فِي الْكَثْرَة والقلة وَسَائِر الهيئات والأشكال من السرعة والبطؤ وموافقة الْغَرَض ومنافرته فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَهَذَا هُوَ الْقدر الْمجمع عَلَيْهِ فِي مَعْنَاهَا وَبَقِيَّة المباحث فِيهَا فِي علم اللَّطِيف وَكلهَا مِمَّا لَا تَكْلِيف فِي الْخَوْض فِيهِ وَلَا حَاجَة اليه بل هُوَ يُؤَدِّي إِلَى محارات أَو محالات الْبَحْث الثَّانِي فِي معرفَة مَا ورد فِي السّمع مِمَّا يتَعَلَّق بالارادة ويظن فِيهِ أَنه متعارض وَبَيَان أَنه غير متعارض وَأَن اتِّبَاعه أحوط وَهُوَ نَوْعَانِ النَّوْع الأول وَردت النُّصُوص الْمَعْلُومَة بِالضَّرُورَةِ من كتاب الله تَعَالَى أَنه يكره الْمعاصِي وَلَا يُحِبهَا وَذَلِكَ وَاضح قَالَ تَعَالَى بعد ذكر كثير مِنْهَا {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} وَقَالَ {وَالله لَا يحب الْفساد} وَقَالَ {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَالَ {وَإِن تشكروا يرضه لكم} فَهَذَا النَّوْع من السّمع مَعْلُوم وَقد قَالَ بِهِ أهل الْأَثر وجماهير أهل النّظر واتفقت عَلَيْهِ الأشعرية والمعتزلة النَّوْع الثَّانِي مَا ورد من التمدح بِكَمَال قدرَة الله تَعَالَى على هِدَايَة العصاة خُصُوصا وعَلى كل شَيْء عُمُوما والتمدح بنفوذ ارادته كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} {وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} {فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} وَمَا شَاءَ الله كَانَ وجودا وعدما وَهُوَ الْمَعْلُوم من الْقُرْآن وَيلْزم مِنْهُ إِن شَاءَ لم يكن وَهُوَ أصح من قَوْلهم وَمَا لم يَشَأْ لم يكن إِلَّا أَن يَصح الحَدِيث الَّذِي فِيهِ وَفِيه أَحَادِيث لم يخرج البُخَارِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَلَا مُسلم مِنْهَا شَيْئا عَاما وَإِنَّمَا خرجا حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة يَمِين سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي خَاصَّة بِتِلْكَ الْوَاقِعَة وَلذَلِك اخْتَرْت فِي الْعبارَة فِي الِاعْتِقَاد مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا شَاءَ لم يكن ومعناهما مَا شَاءَ أَن يكون كَانَ وَمَا شَاءَ أَن لَا يكون لم يكن وَهَذَا مَعْلُوم من السّمع وَفِيه مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل بِالْإِكْرَاهِ دون غَيره كَقَوْلِه تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} وَقَوله تَعَالَى جَوَابا على من قَالَ ارجعنا نعمل صَالحا {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَغَيرهمَا مِمَّا ذكره يطول وَقد أوضحت الْوَجْه فِي امْتنَاع تأويلهم لهَذِهِ الْآيَات بِمَشِيئَة القسر والالجاء فِي كتاب العواصم وَهُوَ لَا يخفى على النبيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالْعقل يعضد السّمع فِي قدرَة الله تَعَالَى على ذَلِك كَمَا أوضحته هُنَالك وَقد رجعت اليه الْمُعْتَزلَة كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة حَيْثُ نبين أَن الْأمة رجعت إِلَى الاجماع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْعُظْمَى بعد إِيهَام الِاخْتِلَاف الشَّديد وَهُوَ اخْتِيَار الامام الْمُؤَيد بِاللَّه يحيى بن حَمْزَة عَلَيْهِ السَّلَام أَعنِي قدرَة الله على اللطف بالعصاة وَأَنه غير وَاجِب عَلَيْهِ فَتبقى الْآيَات فِي التمدح بذلك على ظَاهرهَا ذكره الامام فِي كتاب التَّمْهِيد فِي أَوَائِل الْبَاب السَّابِع فِي النبوات وَاحْتج عَلَيْهِ وَهُوَ قَول الامام النَّاصِر مُحَمَّد ابْن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام وَهُوَ قَول قدماء العترة كَمَا ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي ويعتضد بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا قَوْله تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} وَحَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَمذهب الْمُعْتَزلَة مَبْنِيّ على أَن اللطف إِنَّمَا تعذر فِي حَقهم لِأَن الله بناهم بنية لَا تقبل اللطف وَثَانِيهمَا أَن تَجْوِيز خلق الله لَهُم على هَذِه البنية يُنَاقض إيجابهم اللطف بل يجوز فعل الْمَفَاسِد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَالْجَوَاب عَن الِاحْتِجَاج بهَا على مَذْهَبهم من وُجُوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الاول أَنَّهَا فِي الْكَافرين الَّذين قد غيروا الْفطْرَة واستحقوا الْعقُوبَة بالخذلان وسلب الالطاف فَهِيَ كَقَوْلِه تَعَالَى {صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ} وَنَحْوهَا وكلامنا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُكَلف فِي أول أَحْوَال تَكْلِيفه وابتلائه وَهَذَا بَين الثَّانِي أَنَّهَا خبر عَن صفتهمْ الَّتِي هم عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِيهَا نفي قدرَة الله تَعَالَى على تَغْيِير صفتهمْ بالطافه الْخفية وَهُوَ اللَّطِيف لما يَشَاء الْقَائِل {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} الْآيَة المتمدح بِأَنَّهُ لَو شَاءَ لجعل مِنْهُم مَلَائِكَة وَجعل النَّاس أمة وَاحِدَة وَنَحْو ذَلِك وَالْآيَة تَقْتَضِي أَن الله مَا علم فيهم خَبرا لَا أَنه مَا علم أَنه يقدر على هدايتهم وَكم بَين الْأَمريْنِ وَأَيْنَ أَحدهمَا من الآخر الثَّالِث أَن الْآيَة لَهُم فَيجب حملهَا على مَا يرجع إِلَى كسبهم الِاخْتِيَارِيّ من الاصرار والعناد الَّذِي يسْتَحقُّونَ الذَّم عَلَيْهِ لَا على مَا يرجع إِلَى خلقتهمْ الَّتِي هِيَ فعل الله تَعَالَى يغيرها كَيفَ يَشَاء وَلَا ذمّ عَلَيْهِم فِيهَا جمعا بَينهمَا وَبَين جَمِيع مَا تقدم من نَحْو قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة} وَقَوله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} وَقد مر مُسْتَوفى الرَّابِع سلمنَا أَن الْآيَة تحْتَمل مَا ظنُّوا وَمَا ذكرنَا يمْتَنع لَكِن مَا ذَكرُوهُ بِسَائِر الْآيَات المبينات لقدرة الله تَعَالَى على كل شَيْء ولكونه مَا يضل إِلَّا الْفَاسِقين ولكونه خلق الْخلق على الْفطْرَة حَتَّى غَيرهم آباؤهم وَلَا يجوز الْعُدُول عَن هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة الْبَيِّنَة بِمُجَرَّد احْتِمَال لَا حجَّة عَلَيْهِ وَالله أعلم وَهنا ظن بعض الأشعرية أَن الْآيَات الَّتِي فِي نُفُوذ الْمَشِيئَة فِي قُوَّة أَن الله تَعَالَى مُرِيد للموجودات بأسرها سَوَاء كَانَت حَسَنَة أَو قبيحة وَأَنه غير مُرِيد لما لم يُوجد سَوَاء كَانَ حسنا أَو قبيحا وَلَيْسَ هُوَ تَحْقِيق مَذْهَبهم كَمَا أَن عدم قدرَة الرب على اللطف بالعصاة لَيْسَ هُوَ تَحْقِيق مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَإِنَّمَا قَالَ بعض الاشعرية الْمعاصِي مُرَادة مجَازًا لَا حَقِيقَة عِنْدهم يَعْنِي أَن أَسبَابهَا الَّتِي هِيَ أَفعَال الله تَعَالَى مُرَادة لله تَعَالَى مثل الْقُدْرَة والدواعي فتنزلت الْمعاصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عِنْدهم منزلَة غَرَض الْغَرَض وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ تَحْقِيق مَذْهَبهم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن كثيرا مِنْهُم لَا يجيزون الاغراض على الله تَعَالَى كَمَا ذكر فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة وَثَانِيهمَا أَن غَرَض الْغَرَض لَا يكون إِلَّا خيرا مَحْضا كالحياة فِي الْقصاص والعافية فِي الفصاد والقبائح أَو وُقُوعهَا لَا يَصح أَن يكون غَرَض الْغَرَض لحكيم قطّ كَيفَ أحكم الْحَاكِمين فلابد أَن يكون غَرَض الْغَرَض فِي عدم اللطف الزَّائِد بالعصاة هُوَ خير مَحْض وَهُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه الَّذِي لَا يُعلمهُ على التَّفْصِيل إِلَّا الله على الصَّحِيح كَمَا تقدم فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر وَمِثَال الْغَرَض الأول قَول الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام فَأَرَدْت أَن أعيبها وغرض الْغَرَض هُوَ سلامتها لأَهْلهَا من أَخذ الْملك لَهَا وَمن أدب الْخضر عَلَيْهِ أفضل السَّلَام إِضَافَة هَذَا الْغَرَض لنَفسِهِ دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمِثَال غَرَض الْغَرَض هُوَ مَا أَضَافَهُ الْخضر إِلَى ربه تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {فَأَرَادَ رَبك أَن يبلغَا أشدهما ويستخرجا كنزهما} ومثاله أَيْضا مَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي أَيُّوب وَأبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون فيستغفرون فَيغْفر لَهُم وَله شَوَاهِد عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فَلم يَجْعَل الذُّنُوب القبيحة غَرَض الْغَرَض بل جعله مغفرتها بالاستغفار وَمن لَا يغْفر لَهُ فقد دلّ الْقُرْآن على أَن غَرَض الْغَرَض فِي عَذَابه الانتصاف للْمُؤْمِنين من أعدائهم الْكَافرين وَنَحْو ذَلِك من الْمصَالح والعواقب الحميدة كَمَا يَأْتِي بَيَانه وَالْمرَاد الْمُحَقق هُوَ غَرَض الْغَرَض وَهُوَ الثَّانِي فِي الْوُقُوع وَالْأول فِي الارادة أَلا ترى أَن أول مَا وَقع فِي همة الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام سَلامَة السَّفِينَة ثمَّ عابها لتسلم فَالْمُرَاد الْمُحَقق هُوَ سلامتها لَا عيبها فَاعْتبر ذَلِك فِي جَمِيع الْمُتَشَابه من هَذَا الْجِنْس تَجدهُ بَينا وَاضحا وَللَّه الْحَمد فَهَذَا كُله إِذا ثَبت أَن شَيْئا من الشَّرّ مُرَاد فانه لَا يجوز أَن يكون الشَّرّ مُرَاد الْحَكِيم لكَونه شرا فَقَط وَأما الْخَيْر فيراد لنَفسِهِ لَا لشَيْء آخر فَلَا يلْزم فِيهِ غَرَض الْغَرَض وَإِن جَازَ من غير لُزُوم لزِيَادَة الْخَيْر مثل أَن يُرَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 خير لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اضعافه من الْخيرَات وَلَو أُرِيد لنَفسِهِ كَانَ صَحِيحا فاذا تقرر هَذَا فَاعْلَم أَن تِلْكَ الْآيَات فِي قُوَّة التمدح بِكَمَال الْقُدْرَة لَا بارادة القبائح ومرادنا بِالْقُوَّةِ هُنَا هُوَ مَا سيقت لافادته وَهُوَ الْمَعْنى اللّغَوِيّ الَّذِي يُسَمِّيه أهل الْمعَانِي دلَالَة الْمُطَابقَة فقد وهم من ظن أَنَّهَا فِي قُوَّة أَن القبائح مُرَادة لله تَعَالَى وأفحش مِنْهُ غَلطا من ظن أَنَّهَا مُرَادة لله تَعَالَى وَأَن المرادة فِي قُوَّة المحبوب فاطلق القَوْل بِأَن الْمعاصِي محبوبة لله تَعَالَى فَأَما أهل الْآثَار فَلَا يَقُول بِهَذَا مِنْهُم أحد لِأَن الْمحبَّة عِنْدهم غير الارادة حَقِيقَة وَلَا يُطلق أَحدهمَا حَيْثُ يُطلق الآخر إِلَّا بِدَلِيل خَاص وَأما بعض الأشعرية فقد أجَاز ذَلِك بِنَاء على أَنه مجَاز لِأَن الْمحبَّة عِنْدهم لَا تجوز على الله تَعَالَى إِلَّا مجَازًا كَمَا تَقوله الْمُعْتَزلَة وَهَذَا وَإِن كَانَ أَهْون فِي الْقبْح إِلَّا أَنه خطأ وقبيح لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن شَرط الْمجَاز هُنَا مَفْقُود وَهُوَ العلاقة المسوغة الْمُقْتَضِيَة للتشابه وَلَوْلَا ذَلِك لصَحَّ تَسْمِيَة الْبَخِيل غيثا وبحرا كالجواد والجبان أسدا كالشجاع يُوضحهُ أَن الْمعاصِي مسخوطة من حَيْثُ كَانَت معاصي بالاجماع وَأَهْلهَا إِنَّمَا يغْضب الله عَلَيْهِم من هَذِه الْجِهَة المسخوطة فَلَا يَصح أَن تكون الْمعاصِي مرضية محبوبة مجَازًا من هَذِه الْجِهَة بِعَينهَا قطعا باجماع من يعرف الْمجَاز وشروطه المخرجة لَهُ عَن الْكَذِب والمناقضة وتجويز ذَلِك خُرُوج عَن قانون اللُّغَة وتجويزه يُؤَدِّي إِلَى تَجْوِيز مجازات الْمَلَاحِدَة وَقد أَخطَأ من روى عَنْهُم ذَلِك على الاطلاق وَلم يُقَيِّدهُ بانه مجَاز عِنْدهم وَمن أَخطَأ فِي رِوَايَة ذَلِك مِنْهُم افحش غَلطا فِي الْخَطَأ والغلط مِمَّن رَوَاهُ من خصومهم وَهَذَا مَعَ دقته قد وَقع فِيهِ بعض الْمُعْتَزلَة بل علامتهم فِي علم البلاغة والادب الزَّمَخْشَرِيّ وَلذَلِك زعم فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا} أَي أمرناهم بِالْفِسْقِ مجَازًا فالامر بِالْفِسْقِ مجَازًا أبعد من الرِّضَا بِهِ مجَازًا وَغلط الزَّمَخْشَرِيّ فِيهِ بَينته فِي العواصم وَالْمُخْتَار فِيهِ أمرناهم بالتكليف على السّنة الرُّسُل كَقَوْلِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَثَانِيهمَا ان قوما من الجهلة الاتحادية قد ظنُّوا قَول بعض الاشعرية ان الْمعاصِي مُرَادة وَالْمرَاد فِي قُوَّة المحبوب فَهِيَ محبوبة مرضية على الْحَقِيقَة فزادوا على هَذَا انه يَسْتَحِيل فِي المُرَاد المحبوب ان يكون مَعْصِيّة لمن أَرَادَهُ وأحبه فزعموا انه لَا يَصح وجود مَعْصِيّة لله وان معنى {سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم} أَي الى الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش لَان الْمَغْفِرَة لَا تتمّ إِلَّا بذلك وَكَانَ بَعضهم يَقُول كفرت بِرَبّ يعْصى وَأنْشد بَعضهم فِي ذَلِك (أَصبَحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كُله طاعات) وَهَذَا إلحاد فِي الدّين صَرِيح وانما وَقع فِيهِ أَهله من ترك عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وتبديلها بِمَا ظنوه مثلهَا وَلَيْسَ مثلهَا والسر فِي ذَلِك أَن المُرَاد الْمُطلق هُوَ المُرَاد لنَفسِهِ من جَمِيع الْوُجُوه الَّذِي لَا يكره من وَجه قطّ والمعاصي لَيست من هَذَا بالاجماع فان كَرَاهَة الْمُكَلّفين لَهَا وَاجِبَة وفَاقا مَعَ وجوب الرضى عَلَيْهِم بِقَضَاء الله تَعَالَى ولان الله تَعَالَى يكره الْمعاصِي بِالنَّصِّ فَلم تكن الْمعاصِي من هَذَا الْجِنْس من المرادات وَلَكِن الَّذين قَالُوا انها مُرَادة وَالْمرَاد بهَا غَيره عنوا نوعا آخر من المرادات الَّتِي يُرَاد لغيره وَيكرهُ لنَفسِهِ فَهُوَ مَكْرُوه حَقِيقَة وَالْمرَاد بِهِ غير كاليمين الْغمُوس كَمَا يَأْتِي وَلما لم يوضحوا ذَلِك دَائِما ويكثروا من ذكره وَبَيَانه أوهموا عَلَيْهِ الْخَطَأ وَلذَلِك لم يرد السّمع بذلك أَلا نصا وَلَا نَص عَلَيْهِ السّلف الصَّالح أَلا ترى ان إِرَادَة الْقَبِيح لَيست صفة مدح بالاجماع بِخِلَاف مَا ورد السّمع بِهِ من نُفُوذ الْمَشِيئَة فِي كل شَيْء وَقد نَص أَئِمَّة الاشعرية أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف بِصفة نقص وَلَا بِصفة لَا مدح فِيهَا وَلَا نقص فارادة الْقَبِيح لغير وَجه حسن ان لم تكن نقصا كَانَت مِمَّا لَا مدح فِيهِ قطعا فَيجب ان لَا يُوصف بهَا الرب عز وَجل على قَوَاعِد الْجَمِيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَقد بنيت هَذَا الْكتاب على الْمَنْع من ذَلِك لَان عبارَة الْكتاب وَالسّنة ان كَانَت وَاضِحَة فَهِيَ أَحَق أَن يعبر بهَا وَأولى وَلَا حَاجَة الى تَركهَا وتبديلها بِعِبَارَة وَاضِحَة مثلهَا وان كَانَت خُفْيَة لم تبدل أَيْضا بِعِبَارَة وَاضِحَة لانه لَا يُؤمن الْغَلَط فِي تبديلها الا ترى أَن بعض الاشعرية لما بدل وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ بَان الْمعاصِي مُرَادة بدل بَعضهم المُرَاد بالمرضى المحبوب مجَازًا ثمَّ جَاءَ من بدل المرضي المحبوب مجَازًا بالمرضي المحبوب حَقِيقَة ثمَّ بِالطَّاعَةِ الْمَأْمُور بهَا فَحرم التبديل هُنَا كَمَا تحرم الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى الْجَلِيّ حَيْثُ يكون الْمَعْنى خفِيا بالاجماع بل هُنَا أولى لانه من مهمات الاسلام وَذَلِكَ فِي فروعه وَأَيْضًا فان الرضاء بِمُرَاد الله وَاجِب كالرضاء بِفِعْلِهِ ولان كَرَاهَة مَا أَرَادَ مضادة لَهُ تَعَالَى ومعارضة وَذَلِكَ خلاف مُقْتَضى الْعُبُودِيَّة والرضاء بِالْمَعَاصِي حرَام بالاجماع الْقَاطِع من الْجَمِيع والنصوص الجمة فَيلْزم من ذَلِك ان لَا تكون الْمعاصِي مُرَادة لله تَعَالَى وَهَذَا معيار صدق وميزان حق فِي مضايق هَذِه الْمسَائِل كَمَا يَأْتِي بَيَانه فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال ان شَاءَ الله تَعَالَى الْبَحْث الثَّالِث فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين السّمع الْوَارِد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَنْوَاع فنوعان تقدما وهما مَا يدل على كَرَاهِيَة الله تَعَالَى للقبائح ومحبته لِلْخَيْرَاتِ وَمَا يدل على قدرته على هِدَايَة العصاة ونوعان نذكرهما هُنَا وهما عَام وخاص أما الْعَام فَهُوَ أَن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ مَعْلُوم كثير وَهُوَ بِمَنْزِلَة يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء فِي انهما مجملان قد علم فِي الْقُرْآن بيانهما بالنصوص الْكَثِيرَة الْبَيِّنَة الْوَاضِحَة فَللَّه الْحَمد وَمن عجائب أهل التَّأْوِيل تكلّف وَجه يحسن ذَلِك من ابائهم وَترك الْوَجْه الْمَنْصُوص وَهُوَ الْعقُوبَة كَمَا نذكرهُ الْآن وتبديل لَفْظَة بِلَفْظَة وهما على سَوَاء فِي الْمَعْنى كتأويل الاضلال بالخذلان لم يبعد ان يبدلوه بِلَفْظ آخر وَلَا أصح من لفظ الْقُرْآن وَلَا أبرك وَلَا أطيب وَأما الْخَاص فَمثل قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} وَمِنْه {كَذَلِك حقت كلمة رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ) وَقَوله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَقَوله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} وَقَوله تَعَالَى {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وَقَوله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وَقد خلقُوا على الْفطْرَة بِدَلِيل الْكتاب وَالسّنة وَفِي الرَّعْد نَحْوهَا وَأَيْضًا فالهدى أعظم النعم وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} مَعَ قَوْله {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} وَقَوله {إِن علينا للهدى} وَقَوله {ثمَّ السَّبِيل يسره} وَقَوله {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَوله {وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر} فالهداية أعظم النعم وَأول الْحجَج على العَبْد وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} وَقَوله تَعَالَى {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} وَقَوله {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} مَعَ حَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَهُوَ مُتَّفق على صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَمَعَهُ حَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد الْمُجَاشِعِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي خطبَته أَلا ان رَبِّي عز وَجل أَمرنِي عَلَيْكُم أَن أعلمكُم مَا جهلتم مِمَّا عَلمنِي الى قَوْله حاكيا عَن الله تَعَالَى وانى خلقت عبَادي حنفَاء كلهم وانهم أَتَتْهُم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا الحَدِيث رَوَاهُ م وس من حَدِيث جمَاعَة عَن قَتَادَة عَن مطرف بن عبد الله الشخير عَنهُ وَمرَّة عَن جمَاعَة ذكر مِنْهُم ثقتين عَن مطرف عَنهُ قَوْله تَعَالَى {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} وَقَوله تَعَالَى {وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} وَقَوله {إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون} وَقَوله {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل كَذَلِك نطبع على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ} وَقَوله {وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} وفيهَا رد قَوْلهم انها غلف فِي أصل الْخلقَة حَتَّى عوقبوا على الْكفْر واستحقوا الْعقُوبَة وَقَوله {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة} وَمَا أحسن هَذِه الْعبارَة وأبلغها مَعَ تقدم التَّمْكِين واقامة الْحجَّة وَقطع الْأَعْذَار وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا قد فصلنا الْآيَات لقوم يذكرُونَ} وَقَوله {فريقا هدى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} وَمِنْه {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} وَمِنْه {قل إِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب} وَمِنْه {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين} وَقَوله بعْدهَا {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} دَلِيل على ان الْمُبين لَا يُنَاقض الْمُجْمل وَهِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 كآية الْحَج بعد السَّجْدَة لَا تقتضى خلاف مَا قبلهَا قَالَ الْبَغَوِيّ مَا يَشَاء من التَّوْفِيق والخذلان والتثبيت وَعَدَمه وَالْوَجْه فِيهِ عِنْدِي أَن يُفَسر اجماله بِالْآيَاتِ الْبَينَات فِي الْقُرْآن مثل {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ} وَمثل {ثمَّ يَتُوب الله من بعد ذَلِك على من يَشَاء} بعد ذكر الْكَافرين وَمِنْه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو والمعني انه لما قَالَ ويضل الله الظَّالِمين اسْتثْنى من ذَلِك من يَشَاء أَن يَتُوب عَلَيْهِ وَهَذَا من تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي يُنَاسب جلال عدله وجمال فَضله وَحسن أَسْمَائِهِ وَلَيْسَ لأحد أَن يفسره بِمَا لم يشْهد لَهُ كتاب الله بل بِمَا صرح بتنزيهه عَنهُ من نفي الْحِكْمَة فِي أَفعاله وَمَا سمى لعبا وعبثا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وأمثال ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَبِذَلِك جَاءَت السّنة كَمَا احْتج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْقدر بِالْآيَةِ فِي سُورَة اللَّيْل الْمُقدمَة وَهِي مصرحة بِتَأْخِير التَّيْسِير لليسرى عَن الْعِصْيَان حَتَّى وَقع التَّيْسِير بعد الْعِصْيَان عُقُوبَة عَلَيْهِ وكما قَالَ فِي حَدِيث الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وكل ذَلِك فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَعند مُسلم من حَدِيث عِيَاض الْمُجَاشِعِي يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء فَجَاءَت الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ الحَدِيث كَمَا مضى وَعِنْده أَيْضا حَدِيث أبي ذَر فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَعند مُسلم أَيْضا من حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام الْخَيْر بيديك وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك وَسَنَده على شَرط الْجَمَاعَة وَله شَاهد آخر أخرجه الْحَاكِم أَحْسبهُ من حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَمعنى ذَلِك لَيْسَ اليك الذَّم عَلَيْهِ واللوم فِيهِ كَقَوْلِه وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه فان الله مكن بِالْقُدْرَةِ وَبَين بِالْعقلِ وَالرسل وأزاح الْعِلَل وَقطع الاعذار وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله تَعَالَى من أجل ذَلِك أنزل الْكتب وَأرْسل الرُّسُل وَهَذَا كُله متطابق تطابقا يُفِيد الْعلم على أَن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 تَعَالَى لَا يُرِيد الشَّرّ لكَونه شرا وانه عدل حَكِيم فِيمَا أَمر وَنهى وَمَا علمنَا وَمَا جهلنا كَمَا مضى فِي مَسْأَلَة حَكِيم فَيجب أَن يبْنى الْعَام على الْخَاص فِي هَذِه الْآيَات كَمَا يَبْنِي فِي آيَات الْوَعْد والوعيد أَلا ترى أَنه قَالَ فِيهَا {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} ثمَّ فسر من يعذبه بالمشركين وَنَحْوهم وَمن يغْفر لَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فَلم يجز بعد تَفْسِيره أَن تخلى الْمَشِيئَة مُطلقَة حَتَّى تخَاف الْعَذَاب على الانبياء وَنَرْجُو الرضْوَان لمن مَاتَ مُشْركًا وَكَذَلِكَ فِي آيَات الضلال وَالْهدى الْخَاص الزَّائِد على الْفطْرَة لما بَينهَا الله تَعَالَى وَبَين أَن هَذَا الْهدى الْخَاص مثل الثَّوَاب يخْتَص أهل الْخَيْر بالوعد الْحق وَمن شَاءَ الله من غَيرهم بمحض الرَّحْمَة وَالْفضل وان الضلال يخْتَص بِمن يسْتَحقّهُ من الأشرار وَجب أَن يحكم بِأَن الله تَعَالَى لَا يضل المهتدين وَلَا يضل أحدا إِلَّا الْفَاسِقين كَمَا دلّ عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْمُبين وَالْعَمَل على هَذَا من قَوَاعِد عُلَمَاء الاسلام الْمَعْلُومَة وَأما كَرَاهَة القبائح فعلى ظَاهرهَا وَأما ارادتها ومحبتها فَلم يرد بِهِ سمع مَنْصُوص جلي وَلَا قُرْآن وَلَا سنة وَلَا متواتر وَلَا آحَاد فَلَا تعَارض هُنَا أَلْبَتَّة بل جَاءَ فِي كتاب الله تَعَالَى أَن الله لَا يُرِيد ظلما للعباد وَفِي آيَة أُخْرَى للْعَالمين وَإِن كَانَ أظهر التفسيرين أَن الْمَعْنى لَا يُرِيد سُبْحَانَهُ ظلما مِنْهُ لَهُم تَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَذَلِكَ مثل تمدحه جلّ جَلَاله بِأَنَّهُ لَيْسَ بظلام للعبيد وَقد أوضحت وَجهه فِي العواصم فِي الْبَحْث الْعَاشِر من هَذِه الْمَسْأَلَة لكنه يُقَال أَنه تَعَالَى إِنَّمَا نفي أَرَادَتْهُ ظلم الْعباد لفبح الظُّلم وقبح ارادته لَا لكَونه محالا فِي قدرته لِأَنَّهُ لَا معنى للتمدح بترك الْمحَال فِي الْقُدْرَة لَان الْمحَال لَا تنبغي ارادته وَصِحَّته وَبِكُل حَال فقواعد أهل السّنة تَقْتَضِي الايمان بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَقَول من يَقُول أَن الله يُرِيد الظُّلم الْوَاقِع وَسَائِر القبائح يُخَالف مفهومهما فَيتَعَيَّن تَركه احْتِيَاطًا ومحاذرة من مُخَالفَة مَفْهُوم كتاب الله تَعَالَى الَّذِي لم يعارضة مَنْطُوق صَرِيح فِي العقائد الَّتِي لَا ضَرُورَة بِنَا إِلَى النَّص فِيهَا على مَا لم ينصه الله تَعَالَى وَرَسُوله وَسَيَأْتِي أَن من ادّعى أَن الْمعاصِي مُرَاده إِنَّمَا أطلق ذَلِك مجَازًا على مَا سَيَأْتِي من نُصُوص الأشعرية عَلَيْهِ وَالْحَاصِل فِي الْجمع وُجُوه الْوَجْه الاول دَعْوَى عدم التَّعَارُض الْمُوجب للْجمع على وَجه دَقِيق وَإِنَّمَا هُوَ من قبيل الْعَام وَالْخَاص وَهُوَ جلي لَا يُسمى متشابها لوضوحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الْوَجْه الثَّانِي التَّعْبِير بِعِبَارَة الْكتاب وَالسّنة عُمُوما وخصوصا وَترك الابتداع بِالنَّصِّ فِي مَوضِع الْعُمُوم مِثَاله تَقول أَن الله تَعَالَى خلق كل شَيْء على الْعُمُوم وتترك مَا اخْتلف فِيهِ من خلق الْقُرْآن وَخلق أَفعَال الْعباد لِأَن الله تَعَالَى لم ينص عَلَيْهِمَا وَقد قَالَ بِكُل مِنْهُمَا طَائِفَة وتمسكوا بِالْعُمُومِ والانصاف إِن تمْتَنع من مساعدة كل من الطَّائِفَتَيْنِ على مَا ابتدع النَّص عَلَيْهِ فان النَّص على جزيئات الْعَام إِنَّمَا يحْتَاج اليه فِي العمليات لضَرُورَة الْعلم وَأما هُنَا فقد نَص عُلَمَاء الْمعَانِي واللغة على أَن دلَالَة الْمُطَابقَة اللُّغَوِيَّة فِي الْعُمُوم لَا تدل على أَبْعَاضه وجزئياته كَمَا تدل على جملَته وَأَن فهم تِلْكَ الأبعاض الْجُزْئِيَّة هُوَ من دلَالَة التضمن وَأَنَّهَا عقلية لَا لغوية فَالْوَاجِب فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد الَّتِي يَقع فِيهَا الِاخْتِلَاف وَتجوز المخصصات الْمَانِعَة لبَعض الْأَجْزَاء من الدُّخُول فِي الْعُمُوم الِاقْتِصَار على دلَالَة الْمُطَابقَة اللُّغَوِيَّة الْعَرَبيَّة الَّتِي قَصدهَا الْمُتَكَلّم قطعا وَكم للنَّاس فِي هَذَا من الأوهام أَلا ترى أَن كثيرا من النَّاس يتَوَهَّم أَن آيَات الْمَشِيئَة تدل على مَذْهَب الجبرية مَا لم تصرف بالتأويل عَن ظَاهرهَا مثل {فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَلَيْسَ كَذَلِك وَكَذَلِكَ قَوْلنَا مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن بَيَان أَن ذَلِك لَا يلْزم إِلَّا لَو تبين بِدَلِيل آخر أَن الله شَاءَ أَن يكون الْعباد مجبورين على أفعالهم لكنه قد ثَبت أَنه شَاءَ أَن يَكُونُوا مختارين فبهما بمشيئتهم لَهَا لقَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَلم يقل وَمَا تشاؤون من غير اسْتثِْنَاء كَمَا قَالَت الجبرية فقد كَانَ الِاخْتِيَار الَّذِي شَاءَ الله أَن يكون الْعباد عَلَيْهِ لَكِن بعد مَشِيئَة الله تَعَالَى لذَلِك وَلم يكن الْجَبْر الَّذِي لم يَشَأْ الله تَعَالَى فَتَأمل غلطهم فِي ذَلِك بل قد وهم نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِسَبَب عدم النّظر إِلَى احْتِمَال الْعُمُوم للتخصيص حَيْثُ قَالَ {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} فَكيف بِغَيْرِهِ وَقد نقم الله تَعَالَى على الْمُشْركين جدالهم لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام حِين نزل {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} وَقَالَ {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ) فليتق طَالب الْحق أَمْثَال ذَلِك وَليكن مِنْهُ على أَشد حذر وَلذَلِك تَجِد هَذَا الْجِنْس متمسك أَكثر أهل الضلالات وَلَا تَجِد صَاحب بَاطِل وَلَا تَجِد فِي العمومات مَا يساعده حَتَّى منكري الضرورات كغلاة الاتحادية فانهم قد تمسكوا بِتَصْدِيق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله لبيد (أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ... وكل نعيم لَا محَالة زائل) وَقد اخْتَار هَذَا صَاحب الْفِقْه الْأَكْبَر وَنسبه إِلَى الشَّافِعِي وَهُوَ على مَذْهَب الأشعرية وَعقد لَهُ فصلا قَالَ فِيهِ لَا يُقَال أَن الله تَعَالَى يُرِيد الْكفْر وَسَائِر الْمعاصِي على الاطلاق لِأَنَّهُ يُوهم الْخَطَأ لَكِن نقُول أَن جَمِيع مَا يجْرِي فِي سُلْطَانه بارادته إِلَى قَوْله وَيجب الِاحْتِرَاز عَمَّا يُوهم الْخَطَأ كَمَا يجب عَن الْخَطَأ نَفسه وَمَا أحسن هَذَا لَو لزم عبارَة الْكتاب وَالسّنة فَقَالَ {وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} مَكَان قَوْله جَمِيع مَا يجْرِي فِي سُلْطَانه بارادته لِأَن كَلَام الله تَعَالَى يسْتَلْزم كَمَال الْعِزَّة وَالْقُدْرَة وَكَلَامه يسْتَلْزم ارادة الْكفْر وَذَلِكَ عين مَا فر مِنْهُ وَهُوَ يسْتَلْزم حب الْكفْر وَالرِّضَا بِهِ أَو يُوهِمهُ وَذَلِكَ يسْتَلْزم الامر بِهِ وإباحته أَو يُوهِمهُ كَمَا مر تَحْقِيقه فِي الْبَحْث الثَّانِي فَرَاجعه مِنْهُ وَقد صرح بِوُجُوب الاجتناب لما يُوهم الْخَطَأ كوجوب الاجتناب للخطأ نَفسه وَلَا شكّ أَن عِبَارَته توهم الَّذِي خافه وفر مِنْهُ بل يستلزمه تحقيقها وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مبتدعة فَلَزِمَ مَا ذَكرْنَاهُ من ترك الْبدع أَلا ترى كَيفَ ورد النَّص والاجماع بِأَنَّهُ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَلم يرد أَنه لَا كفر وَلَا مَعْصِيّة إِلَّا بِاللَّه فَبين الْعبارَات أبعد مِمَّا بَين الارضين وَالسَّمَوَات وَحَدِيث مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن مَحْمُول على مَا تمكن مَشِيئَته لَهُ وَلَا تمْتَنع وَلَفظه يُعْطي ذَلِك وَإِنَّمَا أَحْبَبْت أَن أنبه عَلَيْهِ وعَلى أَنه إِجْمَاع فِي صُورَتَيْنِ احداهما أَنه لَا يدْخل فِي ذَلِك الْمحَال فِي نَفسه كوجود ثَان فِي الربوبية وَجعل أَنه لَا يدْخل فِي ذَلِك الْمحَال الْحَوَادِث بعد حدوثها قديمَة وَنَحْو ذَلِك وَثَانِيهمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أَنه لَا يدْخل فِيهِ مَا تمنع مِنْهُ الْحِكْمَة من قلب صدق الاقوال الربانية إِلَى الْكَذِب وبعثة الرُّسُل كَذَا بَين على مَا مر محققا فِي إِثْبَات الْحِكْمَة وان الامة أَجمعت على امْتنَاع النَّقْص فِي كَلَام الله تَعَالَى وَامْتِنَاع ارادته وَأَن ذَلِك يسْتَلْزم امْتنَاع النَّقْص فِي أَفعاله كامتناعه فِي أَقْوَاله ويوضحه اجْتِمَاع الْكَلِمَة من الأشعرية والمعتزلة على أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف إِلَّا بِمَا يسْتَلْزم الْمَدْح دون مَا يسْتَلْزم الذَّم أَو مَا لَا يسْتَلْزم لَا مدحا وَلَا ذما أما الأشعرية فنصوا على ذَلِك وَأما الْمُعْتَزلَة فنصوا على امْتنَاع الْعَبَث واللعب على الله تَعَالَى وعَلى اعْتِبَار التحسين الْعقلِيّ وهما يستلزمان ذَلِك وَالله سُبْحَانَهُ أعلم الْوَجْه الثَّالِث من وُجُوه الْجمع تَوْجِيه الْجمع إِلَى الْوُقُوع وَالْوَاقِع وَهُوَ مثل الْفرق بَين الْوُقُوع وَالْوَاقِع وَهُوَ مثل الْفرق بَين التِّلَاوَة والمتلو والحكاية والمحكي كَمَا أوضحت بَيَانه فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن وَهُوَ قَول الامام الْمَنْصُور بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين ذَلِك الْفرق بَين الْوُقُوع وَالْوَاقِع أَنه لما ورد الشَّرْع بِجَوَاز ارادة الْيَمين الْغمُوس الْفَاجِرَة من جَاحد الْحُقُوق الْوَاجِبَة عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال والدماء والقسامة وَاللّعان وَنَحْو ذَلِك فانه يجوز لصَاحب الْحق ارادة هَذِه الْيَمين من حَيْثُ أَنَّهَا حق لَهُ وَاجِب وان كَانَ يعلم أَنَّهَا يَمِين فاجرة مَعْصِيّة لله تَعَالَى وَمَعَ ذَلِك فَلَا يجوز لَهُ أَن يُحِبهَا ويرضاها من حَيْثُ أَنَّهَا قبيحة مَعْصِيّة لله تَعَالَى فَتبين أَن هَذِه الْيَمين ذَات وَجْهَيْن وَجه جَازَت مِنْهُ ارادتها وَوجه وَجَبت مِنْهُ كراهتها فَالْوَجْه الَّذِي جَازَت مِنْهُ ارادتها وُقُوعهَا من خَصمه الظَّالِم من حَيْثُ هِيَ حق لَهُ على من ظلمه على جِهَة الْعقُوبَة للظالم وَالْوَجْه الَّذِي وَجَبت مِنْهُ كراهتها هُوَ ذَاتهَا الْوَاقِعَة مَعْصِيّة لله تَعَالَى فافترقت الجهتان اللَّتَان يتَوَهَّم عدم افتراقهما بذلك فَمَتَى وَردت النُّصُوص مُخْتَلفَة فِي نَحْو ذَلِك أمكن حملهَا على مثل ذَلِك مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي الْمُسْتَحقّين للعقوبة دون غَيرهم {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فِي المرحومين من الْعباد لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَجَاء بِقوم يذنبون كي يغْفر لَهُم رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي أَيُّوب وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحوه بِزِيَادَة وَهِي كي يَسْتَغْفِرُوا فَيغْفر لَهُم وَله شَوَاهِد عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة ذكرتها فِي العواصم وَهَذَا الْقسم أوضح الْقسمَيْنِ فِي الْحِكْمَة أَعنِي قسم المرحومين من الْخلق فَهَذِهِ الْآيَة الْمُتَقَدّمَة ظَاهرهَا ارادة وُقُوع الضلال مِنْهُ مَعَ أَنه عبارَة عَن الْمعاصِي الْمَكْرُوهَة بِنَصّ قَوْله تَعَالَى {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} فَجعلُوا معاصي المعاقبين ذَات وَجْهَيْن كاليمين الْغمُوس الْوَاجِبَة فِي الْحُقُوق وَهِي حرَام ووجوبها وتحريمها مجمع عَلَيْهِمَا وَذَلِكَ يُوجب صِحَة اعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ فِي هَذِه الْأُمُور لِأَن الْوُجُوب والقبح ضدان يَسْتَحِيل أَن يتوهما إِلَى جِهَة وَاحِدَة وَالْجَوَاب أَن الْآيَة غير نَص فِيمَا قَالُوا لاحْتِمَال أَن المُرَاد هُوَ جعل صَدره ضيقا حرجا وَذَلِكَ هُوَ فعل الله تَعَالَى وَهُوَ حسن لَا قبح فِيهِ لِأَنَّهُ عُقُوبَة مُسْتَحقَّة بل ذَلِك بَين فان الاضلال غير الْمعاصِي بل سَبَب لَهَا وفاعله غير فاعلها لَكِن ظنُّوا أَنَّهَا غَرَض الْغَرَض وَقد مر بُطْلَانه فِي الْبَحْث الثَّانِي وَسَيَأْتِي أَن مَذْهَب أهل السّنة أَن الارادة لَا تعلق بِفعل الْغَيْر وَإِنَّمَا تتَعَلَّق بِهِ الْمحبَّة وَتسَمى ارادة مجَازًا وَقد بنيت هَذَا الْكتاب على أَنا لَا نبدل الظَّوَاهِر بالنصوص أَلا ترى أَن اضلاله الَّذِي نَص على ارادته لَا يجوز أَن يُفَسر إِلَّا بِفعل أَشْيَاء من أَفعَال الله الْحَسَنَة يَقع عِنْدهَا مِنْهُم معاص قبيحة كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي بسط الرزق فِي آيَات كَثِيرَة وَكَذَلِكَ الحَدِيث النَّبَوِيّ لَيْسَ بِنَصّ فِيمَا ذَكرُوهُ لجَوَاز أَن المُرَاد مثل ذَلِك من أَفعَال الله الْحَسَنَة الَّتِي تكون وَسِيلَة إِلَى أفضل أَخْلَاق الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَهُوَ الْعَفو بعد الاساءة والاحسان إِلَى الْمُسِيء كَمَا أوضحته واستوعبت مَا ذكر فِيهِ فِي العواصم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَمن ذَلِك ارادة خلق الْكفَّار وبقاؤهم مَعَ كَرَاهَته لَهُم فانهما لم يتناقضا لاخْتِلَاف الْجِهَات الَّتِي تعلّقت بهَا وَمن ذَلِك أَنه حسن من المذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الْمُسلم أَن يكره عَذَاب الله تَعَالَى لَهُ مَعَ أَنه يعْتَقد حسنه من الله تَعَالَى وَعدل الله فِيهِ لكنه لم يكرههُ من هَذِه الْجِهَة إِنَّمَا كرهه من حَيْثُ أَنه لَا يصبر عَلَيْهِ وَلَا يقوى لَهُ وَنَحْو ذَلِك فَوجه بعض أهل النّظر كَرَاهَة الله تَعَالَى للمعاصي والقبائح إِلَى ذواتها الْوَاقِعَة من العصاة وارادتها إِن قَدرنَا وُرُود شَيْء من السّمع بهَا إِلَى الْوُقُوع لحكمة من عُقُوبَة وَسخط على من اسْتحق ذَلِك أَو غير ذَلِك وَهَذَا جيد فِي النّظر لَوْلَا أَنا لم نضطر اليه لعدم صِحَة وُرُود السّمع بارادة الْمعاصِي وَلَا شَيْء مِنْهَا وان ظن ذَلِك من لم يكثر النّظر والتأويل التَّام لمعاني الْآيَات القرآنية وَالله الْهَادِي وَأقرب الْآيَات مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا أَنما نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} وَقَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} وَمن الحَدِيث حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ رُوِيَ أَنه جعل يَأْخُذ من حَال الْبَحْر فيدخله فِي فَم فِرْعَوْن خشيَة أَن يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله فَتُدْرِكهُ الرَّحْمَة وَإِذا صَحَّ وُرُود السّمع بِهَذَا فالدليل على من ادّعى قبحه لِأَن قبحه لَيْسَ بضروري بالاجماع وتلخص أَن حسن ذَلِك أَن ورد بِهِ النَّص مَشْرُوط بِثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا أَن يتَعَلَّق بالوقوع دون الْوَاقِع مثل مَا ذكرنَا فِي الْيَمين الْغمُوس وَثَانِيها أَن يكون بعد اسْتِحْقَاق الْعقُوبَة لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَنَحْوهَا مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَثَالِثهَا أَن لَا يَجْعَل ذَلِك غَرَض الْغَرَض الَّذِي هُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه وَإِن لَاحَ لنا مِنْهُ شَيْء لم نقصر عَلَيْهِ التَّأْوِيل الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ المُرَاد على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا أَرَادَ الله تَعَالَى بِمَا قبله أَن يكون سَببا لَهُ لحكمة الله تَعَالَى فِي تَرْتِيب المسببات على أَسبَابهَا فَتَأمل ذَلِك حَتَّى تخلص بِهِ من ارادة القبائح وارادة وُقُوعهَا جَمِيعًا كَمَا تقدم فِي قَول الْخضر فَأَرَدْت أَن أعيبها أَي أجعَل عيبها سَبَب سلامتها من الْملك الظَّالِم وَإِلَّا فَالْمُرَاد الْمُحَقق سلامتها لاعيبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الْوَجْه الرَّابِع أَن قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَمَا فِي مَعْنَاهَا من آيَات هَذَا النَّوْع كلهَا أَدِلَّة خَاصَّة تدل على أَن أول مَا يَقع من الْمُكَلف من الذُّنُوب كَائِن بِالتَّخْلِيَةِ بَينه وَبَين نَفسه لاقامة الْحجَّة حجَّة الْعدْل عَلَيْهِ وَقطع أعذاره الْبَاطِلَة من دون اضلال من الله تَعَالَى فِي هَذِه الْحَال وَلَا تيسير للعسرى وَلم يبْق من الله تَعَالَى فِي مثل هَذَا الْحَال إِلَّا القدرالذي بِمَعْنى الْعلم وَالْكِتَابَة وارادة الْعَاقِبَة الْمُسْتَحقَّة بِالْعَمَلِ وارادة اقامة الْحجَّة على العَبْد فِي تِلْكَ الْعَاقِبَة كَمَا يذكر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فان ارادة الله تَعَالَى عَذَابهمْ لم تعلق بِهِ إِلَّا حِين يكون حَقًا مُسْتَحقّا عَلَيْهِم بذونهم بالاجماع وَإِنَّمَا الْخلاف فِي جَوَاز تقدم الارادة للعقاب الْمُسْتَحق لَا فِي أَنَّهَا تعلّقت بِغَيْر مُسْتَحقّ فَمن فسر الارادة بِالْعلمِ من الْمُعْتَزلَة كالبغدادية وَأبي الْحُسَيْن لَا يُمكنهُم تقبيح تقدمها وَكَذَلِكَ من يَجْعَل تقدمها أمرا وَاجِبا مستحيلا خِلَافه كالأشعرية وَقَوْلنَا أَنه لَا يجوز الاضلال فِي أول أَحْوَال التَّكْلِيف حَتَّى يسْتَحق العَبْد ذَلِك بِالْمَعَاصِي يُنَاسب قَول أبي عَليّ بِالْمَنْعِ من الزِّيَادَة فِي الدَّوَاعِي إِلَى الْقَبِيح الَّتِي يعلم الله تَعَالَى عِنْدهَا أَن الْمُكَلف يخْتَار الْقَبِيح بِخِلَاف أبي هَاشم فانه يُجِيز ذَلِك كالأشعرية لَكِن لَا يُسَمِّيه اضلالا إِنَّمَا يُسَمِّيه امتحانا وابتلاء لَكنا لم نقل ذَلِك بِالنّظرِ الْعقلِيّ وَإِنَّمَا قُلْنَاهُ بتأمل كتاب الله تَعَالَى وقضينا بِأَنَّهُ مُحكم الْقُرْآن لموافقة الْعقل وَالنَّظَر فَهُوَ مُحكم عقلا وسمعا أما الْعقل فَلِأَنَّهُ من قبيل الْجَزَاء وَالْعَذَاب الاخروي وَقد ورد السّمع بِجَوَاز تَقْدِيم بعضه وَهُوَ الْمُسَمّى بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى فِي كتاب الله تَعَالَى وَنَصّ على ذَلِك الامام الْمَنْصُور بِاللَّه من الْأَئِمَّة وَأما أَحْكَامه سمعا فَلِأَنَّهُ الْمَنْصُوص فان قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} نَص فِي ذَلِك والمعارض لَهُ غير صَحِيح فِي ارادة الله تَعَالَى وُقُوع ذَنْب العَبْد قبل اسْتِحْقَاقه الْعقُوبَة بذلك وَهنا تَلْخِيص جيد مُفِيد وَهُوَ أَنه لَا خلاف أَن الله تَعَالَى لَا يُعَاقب إِلَّا بعد الِاسْتِحْقَاق بالمعصية لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَلقَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ) الْآيَة فَمن فهم من الاضلال أَنه من جنس الْعُقُوبَات لم يجزه إِلَّا بعد الذُّنُوب وَمنع أَن يَقع من الله تَعَالَى ابْتِدَاء قبل أول مَعْصِيّة وسمى مَا يَقع فِي ذَلِك الْوَقْت من أَسبَاب الْمعاصِي ابتلاء وامتحانا إِن كَانَ مِمَّن يُجِيزهُ وهم الأشعرية وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَمن فهم من الاضلال معنى الِابْتِلَاء والامتحان اجازه مُطلقًا قبل الذُّنُوب وَبعدهَا لَكِن الْآيَات الْمُتَقَدّمَة ظَاهِرَة فِي الدّلَالَة على أَنه من جنس الْعُقُوبَات مثل قَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَقَوله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} إِلَى سَائِر مَا تقدم وَالله أعلم وَجَمِيع المعارضات لذَلِك نَوْعَانِ أَحدهمَا يخْتَص بِغَيْر الْمعاصِي عِنْد التَّأَمُّل كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى} الْآيَة فانها فِي امْتنَاع الايمان إِلَّا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وعونه ولطفه وَذَلِكَ صَحِيح وَدَلِيل ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي آخرهَا {مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} فانها فِي مَشِيئَة الطَّاعَة لقَوْله تَعَالَى فِي أَولهَا {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم} وَفِي ذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه بل قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَالَ {يخْتَص برحمته من يَشَاء} فان قيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} عَام فِي لَفظه وخصوص أول الْآيَة لَا يسْتَلْزم خُصُوص الْعَام الَّذِي فِي آخرهَا كَمَا أَن خُصُوص السَّبَب لَا يسْتَلْزم خُصُوص الْعُمُوم فِي أحد الْقَوْلَيْنِ فَالْجَوَاب من وُجُوه أَرْبَعَة الأول أَنا لَا نسلم أَن آخرهَا عَام مَنْطُوق لِأَن مفعول يَشَاء الله تَعَالَى مَحْذُوف وَتَقْدِيره الْمَذْكُور فِي أول الْآيَة وَالْمَذْكُور فِي أَولهَا يخْتَص بالطاعات وَهَذَا جيد جدا فَتَأَمّله الثَّانِي أَنا لَو سلمنَا الْعُمُوم اللَّفْظِيّ لما سلمنَا جَوَاز اعْتِقَاد مَعْنَاهُ هُنَا لِأَن فِي الْعَام الْوَارِد على سَبَب خلافًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قَوِيا فِي الظنيات العمليات فَكيف هَذَا وَهُوَ أولى بِالْوَقْفِ فِيهِ لوجوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن هَذَا فِي الِاعْتِقَاد الْقَاطِع فِي أصُول الاديان وَثَانِيها أَن خُصُوص أول الْآيَة أقوى فِي هَذَا من مُجَرّد نُزُولهَا على سَبَب خَاص وَثَالِثهَا أَن هَذَا من عُمُوم الْمَفْهُوم وَفِيه خلاف الثَّالِث من الأَصْل أَنا لَو سلمنَا الْعُمُوم لم يكن لنا اعْتِقَاد هَذَا لما ذكرنَا من أَنه من دلَالَة التضمن لَا من دلَالَة الْمُطَابقَة اللُّغَوِيَّة وَقد مر تَحْقِيقه الرَّابِع أَنه معَارض لقَوْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ أفضل السَّلَام {لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} فَاكْتفى فِي وُقُوع ضلاله بفقد هِدَايَة الله تَعَالَى وَإِن لم تحصل ارادة ضلال وَلَا ارادة قبائح الافعال وَلذَلِك نَظَائِر فِي الْآيَات كَقَوْل آدم عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وَقَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وَمِنْه حَدِيث دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فِي سَبَب ذَنبه وَقَول الرب عز وَجل لَهُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأكلنك إِلَى نَفسك يَوْمًا فأصابته السَّيئَة ذَلِك الْيَوْم رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَصَححهُ فَلم يقف خسراننا على ارادته بل على عدم رَحمته وَنَحْو ذَلِك كثير جدا وَهُوَ بِعُمُومِهِ معَارض بِمَا يسْتَلْزم من استلزام الْآيَات لعمومها لارادة الله القبائح فَوَجَبَ الْوَقْف فِي ذَلِك وَثَمَرَة هَذَا التَّحْقِيق أَن الْقدر الْمُتَيَقن أَن وُقُوع الْمعاصِي مُتَوَقف على عدم الْقُدْرَة امتحان الْفَرد بِعَدَمِ اللطف الزَّائِد لَا بارادة ذنُوبه وَلَا محبتها كَمَا ظن أَنه مُقْتَضى الْآيَات وَظن أَنه قَول أهل السّنة وَلَا مُتَوَقف على عدم الْقُدْرَة وَالْعجز كَمَا ظن أَنه قَول الْمُعْتَزلَة فان قيل ينتفض هَذَا بقوله تَعَالَى {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا وسع رَبنَا كل شَيْء علما على الله توكلنا} لِأَن هَذَا الْكَلَام كَلَام نَبِي مرضِي لَا يسْتَحق الْعقُوبَة بالاضلال وَقد جوز أَن يَشَاء الله ذَلِك فَيَقَع بمشيئته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قُلْنَا لَا نسلم ذَلِك بل هَذَا من شَدِيد خوف الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لأَنهم أعلم الْخلق بِاللَّه تَعَالَى واعلمهم بِهِ أخشاهم لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} أَلا ترى إِلَى قَول الراسخين {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} بل إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون} وَسبب خوف الْعلمَاء أَنه قد أخبرنَا أَنه خلقنَا ليبلونا أَيّنَا أحسن عملا وكل أحد يَبْتَلِي على قدر صبره وحاله وَكَمَال الِابْتِلَاء لَا يحصل إِلَّا بذلك وَلذَلِك ابتلى ابراهيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام بالامر فِي الْمَنَام بِذبح وَلَده فخاف هَذَا النَّبِي الْكَرِيم أَن يكون لَهُ ذَنْب يسْتَحق عَلَيْهِ الْعقُوبَة ببلوى توقعه فِي أعظم الذُّنُوب خوف هَيْبَة وقمع نفس من الْعجب والأمان لَا خوف تَجْوِيز كَمَا فسر بِهِ خوف الْمَلَائِكَة وَيُؤَيّد ذَلِك أَن كَلَامه خرج مخرج التَّعْظِيم لله تَعَالَى فِي عدم الْقطع بالنجاة دون مَشِيئَته وعد الْقطع على بَرَاءَة نَفسه من الذُّنُوب الْمُوجبَة للعقوبة بالخذلان فقد عُوقِبَ آدم وَدَاوُد حِين وثقا بأنفسهما فأذنبا وَلذَلِك أتبع بِذكر التَّوَكُّل النَّوْع الثَّانِي مِمَّا يتَوَهَّم معارضته لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} كُله عمومات مثل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} يُوضحهُ أَنَّهَا نزلت على سَبَب غير قَبِيح وَفِي الْعلمَاء من يقصر الْعُمُوم على سَببه وَتَنَاول الْعُمُوم لغير سَببه ظَنِّي بالاجماع وَأما قَوْله تَعَالَى {إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم} فَلَا يرد علينا هُنَا لِأَنَّهَا فِي كفار بعد الْبعْثَة والتمادي على التَّكْذِيب فهم يسْتَحقُّونَ الاغواء والاضلال وَأما كلامنا هُنَا فِي أول ذَنْب وَأما أَحَادِيث الْقدر وَمَا فِيهَا من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ميسر لما خلق لَهُ فَلَا نَص فِيهَا على أول أَحْوَال التَّكْلِيف بل قد جَاءَ بَعْضهَا صَرِيحًا فِي أَن ذَلِك يكون عِنْد الخاتمة وَهِي وَقت الِاسْتِحْقَاق للجزاء وَحَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ يدل على ذَلِك بل قَوْله تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} فَيحْتَمل أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 يكون أَرَادَ بالتيسير فِي العصاة بعد الْعِصْيَان لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} ولآية سُورَة اللَّيْل الَّتِي احْتج بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْقدر فَيحْتَمل أَن تكون التَّخْلِيَة تيسيرا لما يَقع بعْدهَا بِاخْتِيَار الْمُكَلف وَحده لما كَانَت سَببا فِي اخْتِيَاره فَيكون للقدر تفسيران أَحدهمَا عَام لكل حَال وَلكُل شَيْء وَهُوَ الْعلم وَالْكِتَابَة وَنَحْوهمَا مِمَّا تقدم كمشيئة الْعَاقِبَة الْمُسْتَحقَّة بِالْمَعَاصِي على مَا سَيَأْتِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} وَثَانِيهمَا الاضلال بعد الِاسْتِحْقَاق لَهُ عُقُوبَة من غير اجبار وَلَا سلب للاختيار وَهُوَ خَاص بِمن قد امتحن حَتَّى عصى عِنْد أهل الْجمع بِهَذِهِ الطَّرِيقَة الْوَجْه الْخَامِس أَن الارادة دَائِرَة بَين مَعْنيين إِمَّا أَن تكون حَقِيقَة فيهمَا مَعًا أَو فِي الأول مِنْهُمَا حَقِيقَة وَفِي الآخر مجَازًا الْمَعْنى الأول الارادة الْمُلَازمَة للمحبة للمراد والامر بِهِ والتحسين لَهُ أَو شَيْئا مِمَّا يُقَارب هَذَا الْمَعْنى وَهِي الارادة الشَّرْعِيَّة للواجبات والمستحبات وَهَذِه هِيَ ارادة الشَّيْء لنَفسِهِ من غير مُعَارضَة كَرَاهَة لَهَا بِوَجْه من الْوُجُوه الْمُتَعَلّقَة بذلك الشَّيْء المُرَاد وَهَذِه هِيَ الارادة الْحَقِيقِيَّة بالاجماع فالقبائح لَا تكون مُرَادة بِهَذَا الْمَعْنى وَكَانَ الْمُعْتَزلَة لم يعرفوا أَو لم يعترفوا بِغَيْر هَذَا الْمَعْنى للارادة وَلذَلِك منعُوا تعلقهَا بِجَمِيعِ القبائح وَتقدم فِي الصِّفَات الدَّلِيل على جَوَاز اطلاق الْمحبَّة على الله تَعَالَى من غير تَشْبِيه كالارادة الْمَعْنى الثَّانِي للارادة الارادة الدَّالَّة على نفي مَا يسْتَلْزم الْعَجز من وُقُوع مَا يكره الله تَعَالَى وُقُوعه فِي ملكه من غير سبق قدر مِنْهُ أَو تخلية مُرَادة لحكمة أَو نَحْو ذَلِك وَذَلِكَ لكَمَال قدرته ونفوذ مَشِيئَته وَعُمُوم ربوبيته وكبرياء عَظمته بِحَيْثُ لَا يجوز عَلَيْهِ عدم الْقُدْرَة على اللطف بالعصاة وَلَا البداء وَالرُّجُوع عَمَّا قد قدره وقضاه وانه لَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا ولجعلهم أمة وَاحِدَة كَمَا تمدح بذلك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَلَكِن حكمته اقْتَضَت تَمْكِين الْعباد وتكلفيهم وابتلاءهم كَمَا أخبر فِي كِتَابه وسبقت أقداره بِكُل مَا هُوَ كَائِن عَن علم لَا يتَغَيَّر وَحِكْمَة بَالِغَة وَحجَّة دامغة فوقوع الْمعاصِي بِالنّظرِ إِلَى هَذِه الْمعَانِي هُوَ معنى الْقَضَاء وَالْقدر وَالتَّقْدِير عِنْد الْجَمِيع وَعند طَائِفَة لَا مَانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 من أَن يُسَمِّي ذَلِك الْوُقُوع مرَادا حَقِيقَة أَو مجَازًا وَلَا تسمى الْمعاصِي الْوَاقِعَة مُرَادة مثل وُقُوعهَا بل تسمى مَكْرُوهَة حَقِيقَة وارادة وُقُوع الْمعاصِي الْمَكْرُوهَة هَذِه تسمى عِنْد من يجيزها ارادة ارادة كونية لَا شَرْعِيَّة فِي عرفهم وَإِنَّمَا الشَّرْعِيَّة فِي عرفهم هِيَ النَّوْع الأول الْمُخْتَص بِالطَّاعَةِ وَأعلم أَن تمسيتهم لهَذِهِ ارادة لم يثبت بِالنَّصِّ وَإِنَّمَا ثَبت أَن ذَلِك مُقَدّر وَلم يرد النَّص أَن كل تَقْدِير مُرَاد وَإِن كَانَ ذَلِك هُوَ الظَّاهِر فِي بادئ الرَّأْي فالتحقيق فِي النّظر وَالِاحْتِيَاط يُخَالِفهُ أما التَّحْقِيق فِي النّظر فان الْمعاصِي بالنصوص مَكْرُوهَة لانفسها فَلَا تسمى مُرَادة لأنفسها لتضاد ذَلِك وَعدم الدَّلِيل عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يجوز أَن ترَاد لغَيْرهَا وَمَتى أريدت لغَيْرهَا كَانَت هَذِه الْعبارَة مجازية تحقيقها أَن المُرَاد هُوَ ذَلِك الْغَيْر لَا هِيَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يجوز أَن تسمى مُرَادة مُطلقًا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن ذَلِك يُوهم أَنَّهَا مُرَادة لنَفسهَا محبوبة وَثَانِيهمَا أَنَّهَا مَكْرُوهَة لنَفسهَا حَقِيقَة وَلَا يجوز أَن تسمى مُرَادة إِلَّا لغَيْرهَا وَتَسْمِيَة الشَّيْء بِوَصْف نَفسه أولى من تَسْمِيَته بِوَصْف غَيره فان سمي بِوَصْف غَيره فَمَعَ قرينَة تشعر بذلك وَإِلَّا أدّى إِلَى قلب الْمعاصِي وَأما الِاحْتِيَاط فَلَمَّا بنينَا عَلَيْهِ هَذَا الْكتاب من الْوُقُوف على النُّصُوص كَمَا تقدم وَمن أقرب الْأَمْثِلَة إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ مَا حكى الله عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من قَوْله {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} فكره وُقُوع الايمان مِنْهُم عِنْد الْغَضَب عَلَيْهِم لله تَعَالَى وَهُوَ لَا يتهم فِي محبَّة الايمان بِاللَّه فِي الْجُمْلَة وَابْن تَيْمِية كثير التعويل على الْفرق بَين الارادة الشَّرْعِيَّة وَبَين الارادة الكونية وَكَلَامه فِي هَذَا طَوِيل وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تعلم صِحَّته وَلَا بُطْلَانه بالنصوص الشَّرْعِيَّة وَلَا بالبداية الْعَقْلِيَّة فالاعتصام بالاعتقاد الْجملِي أحوط مِنْهُ وَأولى وَهُوَ أَن الله يكره القبائح وَلَا يُحِبهَا وَأَنه على كل شَيْء قدير فَلَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا وَإِن لَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِيمَا فعل وَترك وَقدر وَقضى وَإِن ذَلِك غير متناقض وَلذَلِك ظهر اعْتِقَاد ذَلِك الْجَمِيع عَن السّلف من غير إِشْكَال فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الْبَحْث الرَّابِع اتّفق أهل السّنة من أهل الاثر وَالنَّظَر والأشعرية على أَن الارادة لَا يَصح أَن تضَاد الْعلم وَلَا يُرِيد الله تَعَالَى وجود مَا قد علم أَنه لَا يُوجد وَهَذِه الارادة الَّتِي الْمَقْصُود بهَا إِيجَاد المُرَاد لَا إِرَادَة الْمحبَّة الَّتِي تعلق بِالذَّاتِ لَا بايجاد الذَّات فَافْهَم ذَلِك وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِوُجُوه مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله} وَلَا وَجه لإنكار هَذِه الارادة إِلَّا تعلقهَا بِمَا لَا يَقع فِي الْعلم وَمِنْهَا أَن امْتنَاع ذَلِك مدرك عَقْلِي جلي يدْرك بالوجدان من النَّفس كَمَا يدْرك الالم واللذة فانا ندرك من أَنْفُسنَا امتناعها مثل أَن نُرِيد من الله تَعَالَى مَا يقدر عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا نعلم أَنه لَا يَفْعَله مثل ان لَا يذيقنا الْمَوْت أبدا وَأَن يدخلنا الْجنَّة من غير موت وَلَا حشر مَعَ قدرَة الله تَعَالَى على ذَلِك ومحبتنا لذَلِك وَإِنَّمَا امْتنع أَن نُرِيد ذَلِك من الله تَعَالَى لعلمنا أَن الله تَعَالَى قد كتب الْمَوْت والحشر على جَمِيع الْعباد وَلَا شكّ أَن هَذَا هُوَ الْفطْرَة وَلذَلِك لَا ترى عَاقِلا فِي الدُّنْيَا يسْعَى فِيمَا يعلم أَنه لَا يحصل فَلَا نرى شَيخا فانيا يطْلب دَوَاء لعود أَيَّام الشَّبَاب وَلَا نَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا خَالَفت الْمُعْتَزلَة لشُبْهَة الامر بِخِلَاف الْمَعْلُوم فان الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا يعلم أَنه لَا يَقع وَصِحَّة هَذَا إِجْمَاع لَكِن ظنت الْمُعْتَزلَة أَن الْأَمر يلازم الارادة وَإِنَّمَا ظنُّوا ذَلِك لِأَنَّهُ الْأَكْثَر فِي الشَّاهِد فِي حق من لَا يعلم الْغَيْب وَالتَّحْقِيق أَن الْأَمر مَعَ الارادة يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام الْقسم الأول الْأَمر الملازم للارادة وَذَلِكَ فِي حق من غَرَضه بِالْأَمر تَحْصِيل الْمَطْلُوب وَشرط هَذَا الْأَمر أَن يصدر مِمَّن يعلم أَن الْمَطْلُوب سيحصل أَو يكون جَاهِلا بِعلم الْغَيْب الْقسم الثَّانِي لَا تصحبه الارادة قطّ وَلَا محبَّة الْمَطْلُوب وَهُوَ أَمر الِاخْتِيَار للْغَيْر بالعزم على الطَّاعَة مثل أَمر الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح وَلَده فان الله تَعَالَى لم يرد مَا أَمر بِهِ من الذّبْح وَلَا أحبه وَإِنَّمَا ابتلى خَلِيله بالعزم كَمَا قَالَ {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الْقسم الثَّالِث لَا تصحبه ارادة الْحُصُول وتصحبه محبَّة الْمَطْلُوب دون ارادة وُقُوعه من الْمَأْمُور وَذَلِكَ مثل أَمر الْكَافِر بالايمان مَعَ علم الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن أبدا مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ} مَعَ أَن الانبعاث مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام مَأْمُور بِهِ لَكِن كره من وَجه آخر لَا من الْوَجْه الْمَأْمُور بِهِ لأَجله وَفِي هَذَا الْمقَام يذكر أهل السّنة علم الْغَيْب وَمَا ورد فِي الْقدر وَالْقَضَاء وأنهما بمعزل عَن الْجَبْر والاكراه وَنفي الِاخْتِيَار وَقد تقصيت مَا ورد فِي ذَلِك فبلغت أَحَادِيث الأقدار وثبوتها مائَة حَدِيث وَخَمْسَة وَخمسين حَدِيثا وَأَحَادِيث وجوب اعْتِقَاد ذَلِك اثْنَيْنِ وَسبعين حَدِيثا صَار الْجَمِيع مِائَتي حَدِيث وَسَبْعَة وَعشْرين حَدِيثا من غير الْآيَات القرآنية والقدرية الْمجمع على ذمهم عِنْد أهل السّنة من يَقُول من قدماء المبتدعة أَن الله لَا يعلم الْغَيْب وَلَا يُوجد الْآن من هَؤُلَاءِ أحد وسياتي الْكَلَام فِي تَفْسِير الْقَدَرِيَّة الْبَحْث الْخَامِس وَهُوَ أنفس هَذِه المباحث ومغن عَنْهَا وَذَلِكَ أَن ظواهر عِبَارَات الْمُعْتَزلَة والأشعرية فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غَايَة المنافرة وَتَحْقِيق مذاهبهم يقْضِي باجتماع كلمتهم على أَن الله تَعَالَى قَادر على هِدَايَة من يَشَاء باللطف والتيسير وعَلى أَن الله تَعَالَى لَا يُرِيد الْمعاصِي والقبائح وَهَذَا عَجِيب لَا يكَاد أحد يصدق بِهِ إِلَّا بعد شدَّة الْبَحْث والتنقير وَسبب اجْتِمَاعهم فِي الْمَعْنى أَن الْخَطَأ مِنْهُم الْجَمِيع لما فحش من الْجَانِبَيْنِ لم يخف عَلَيْهِم وَمَا زَالُوا ينظرُونَ ويناظرون ويعتذرون عَن شنيع الْعبارَات حَتَّى اجْتَمعُوا وهم لَا يقصدون ذَلِك الِاجْتِمَاع وَأَنا أبين ذَلِك من نصوصهم وكتبهم الْمَعْرُوفَة فَأَما الْمُعْتَزلَة فَاعْتَرفُوا بقدرة الله تَعَالَى على ذَلِك عِنْدهم وعَلى أصولهم فِي مَسْأَلَتَيْنِ احدهما أَن اللطف إِنَّمَا امْتنع فِي حق بعض الْمُكَلّفين لأجل البنية الَّتِي خلقهمْ الله تَعَالَى عَلَيْهَا وَهِي بنية مَخْصُوصَة فِيهَا غلظة وقساوة وَهُوَ قَادر عِنْد جَمِيع الْمُعْتَزلَة على تَغْيِير بنيتهم وخلقهم على بنية الانبياء وَالْمَلَائِكَة ذكر ذَلِك ابْن الملاحمي فِي كِتَابه الْفَائِق وَقد ذكرت الْوَجْه فِي لُزُوم ذَلِك على أصُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الْمُعْتَزلَة من الْعقل والسمع وتقصيته فِي العواصم قَالَ تَعَالَى {وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} وَقَالَ تَعَالَى {عَسى الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم مَوَدَّة وَالله قدير وَالله غَفُور رَحِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله إِمَّا يعذبهم وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم} وفيهَا حجَّة على ثُبُوت حِكْمَة الله تَعَالَى فِيمَا تعرف الْعُقُول حسنه من هدايتهم وَمَا لَا تعرفه من تَركهَا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا فانها لَا تعرف حسن ذَلِك كَمَا عَرفْنَاهُ الْآن إِلَّا بتعريف الشَّرْع كَمَا مضى فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة لِأَن كل بنية قَابِلَة للطف أَو غير قَابِلَة فانها عارضة يُمكن تغييرها لَا ذاتية وَلِأَن الاجسام عِنْدهم كلهَا متماثلة فِي ذواتها وَإِنَّمَا تخْتَلف بِالصِّفَاتِ وَالْأَحْوَال الْعَارِضَة وتغيير ذَلِك كُله مُمكن لله تَعَالَى وَلِأَن قدرَة الله تَعَالَى على كل شَيْء عُمُوما وعَلى هِدَايَة كل أحد خُصُوصا منصوصة قَطْعِيَّة مَعْلُومَة من الدّين وَمن إِجْمَاع الْمُسلمين قَالَ ابْن الملاحمي فان قيل فَلم خلقه الله تَعَالَى على هَذِه البنية الَّتِي لَا تقبل اللطف قُلْنَا لحكمة لَا نعلمها وَيَكْفِينَا علمنَا بِأَنَّهُ أَو كَمَا قَالَ وَهنا نعلم أَن الْخلاف لَفْظِي لِأَن تَغْيِير هَذِه البنية يسير على من هُوَ على كل شَيْء قدير وَإِنَّمَا هُوَ تليين تِلْكَ الْقُلُوب القاسية أَو تَعْلِيم تِلْكَ النُّفُوس الْجَاهِلِيَّة وَلَو أَرَادَ الله تَعَالَى قلب جبال حَدِيد مَاء عذبا أَو هباء منثورا لم يزدْ على أَن يَقُول لذَلِك كن فَيكون كَيفَ وَلَيْسَ إِلَّا تقليب الْقُلُوب القاسية وتليين القساوة وترقيق الطَّبْع الغليظ فَثَبت أَن الله تَعَالَى قَادر عِنْدهم على هِدَايَة العصاة عِنْد الْجَمِيع لَكِن الْمُعْتَزلَة شرطُوا أَن تكون هدايتهم بتغيير بنيتهم وَسَائِر النَّاس قَالُوا إِن ذَلِك مُمكن من غير تَغْيِير بنية وثانيتهما قَالَت الْمُعْتَزلَة إِلَّا أَبَا عَليّ الجبائي أَنه يجوز أَن يزِيد الله تَعَالَى فِي شهوات الْمُكَلّفين ويخلق من أَسبَاب الْمعاصِي مَا يعلم أَن الْمعاصِي تقع عِنْده وَلَو لم يخلقه لم تقع وقاسوا ذَلِك على ابْتِدَاء التَّكْلِيف فان الله تَعَالَى كلف أهل النَّار وَهُوَ يعلم أَن تكليفهم يكون سَببا لوُقُوع معاصيهم وَلَو لم يكلفهم لم تقع مِنْهُم الْمعاصِي وعَلى هَذَا يجوز أَن جَمِيع الْمعاصِي مَا وَقعت إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 لزيادات فِي الشَّهَوَات والدواعي وَقع الامتحان بهَا لشدَّة الِابْتِلَاء وَمن ذَلِك خلق الشَّيَاطِين عِنْد هَؤُلَاءِ وَحِينَئِذٍ تَجْوِيز أَن الله تَعَالَى قَادر على هِدَايَة من وَقعت مِنْهُ الْمعاصِي بتسبب هَذِه الزِّيَادَات وَالْقُدْرَة وَوجه الْقُدْرَة على اللطف بِهِ وَاضح وَذَلِكَ أَن يتْرك الله هَذِه الزِّيَادَات وتجويز قدرَة الله تَعَالَى على اللطف بِهَذَا الْمَعْنى بَين فَثَبت أَن تأويلهم لآيَات الْمَشِيئَة بالاكراه ومحافظتهم على ذَلِك وقطعهم بتعينه وَعدم احْتِمَال غَيره مُجَرّد لجاج مَعَ الْخُصُوم وَزِيَادَة فِي المراء المذموم وَالله الْمُسْتَعَان وَأما مُوَافقَة الاشعرية وَأهل الْأَثر لَهُم فِي أَن الله تَعَالَى لَا يُرِيد الْمعاصِي فان ذَلِك ثَبت بِالنَّصِّ مِنْهُم والاقرار لَا بالالزام والاستنباط وَذَلِكَ أَن إِمَام علومهم الْعَقْلِيَّة صَاحب نِهَايَة الاقدام الْمَعْرُوف بالشهرستاني ذكر فِي كِتَابه هَذَا أَن ارادة الله تَعَالَى عِنْدهم لَا يَصح أَن تعلق إِلَّا بأفعاله سُبْحَانَهُ دون كسب الْعباد سَوَاء كَانَ طَاعَة أَو مَعْصِيّة وَأَن معنى قَوْلنَا إِن الطَّاعَات مُرَادة ومحبوبة ومرضية هُوَ أَن الله تَعَالَى يُرِيد أَفعاله الَّتِي تعلق بهَا وَهِي الْأَمر وَالثنَاء فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب وَالثنَاء فِي الْآخِرَة وَمعنى قَوْلنَا أَن الْمعاصِي مَكْرُوهَة ومسخوطة هُوَ أَن الله تَعَالَى يُرِيد أَفعاله الْمُتَعَلّقَة بهَا وَهِي النَّهْي والذم فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَاب والذم فِي الْآخِرَة وَطول فِي هَذَا وَاحْتج عَلَيْهِ بِأَن الارادة هِيَ الَّتِي تخصص الْفِعْل بِوَقْت دون وَقت وَقدر دون قدر وَوجه دون وَجه قَالَ ويستحيل أَن تخصص فعل الْغَيْر وَأَن تقع غير مخصصة فيختلف عَنْهَا أَثَرهَا وَذَلِكَ محَال ثمَّ قَالَ وَأَنت إِذا عرفت هَذَا هَانَتْ عَلَيْك تهويلات الْقَدَرِيَّة وتمويهات الجبرية وَبَين أَيْضا وميز فعل العَبْد الَّذِي هُوَ كَسبه عَن فعل الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ خلقه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي مَسْأَلَة الافعال وَاعْلَم أَن كَلَامه فِي ذَلِك قوي لِأَنَّهُ لَو صَحَّ تعلق الارادة بِفعل الْغَيْر لصَحَّ أَن يَنْوِي للْغَيْر لِأَن النِّيَّة ارادة مُقَارنَة وَكَذَلِكَ كَانَ يلْزم أَن يعزم لَهُ لِأَن الْعَزْم ارادة مُتَقَدّمَة فان قيل فَنحْن نحس ارادة فعل الْغَيْر بِالضَّرُورَةِ قُلْنَا تِلْكَ محبَّة لَا إِرَادَة لَكِن الْمحبَّة قد تسمى ارادة كَمَا قَالَ الشَّاعِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 (يُرِيد الْمَرْء أَن يُعْطي مناه ... ويأبى الله إِلَّا مَا أَرَادَا) وَالْبَيْت عَرَبِيّ فصيح من شعر الحماسة وعَلى الْجُمْلَة أَن هَذَا نقل لمَذْهَب الأشعرية من بَصِير بِهِ بل من إِمَام فِيهِ فقد صَحَّ أَن هَذَا مَذْهَبهم سَوَاء كَانَ صَحِيحا أَو بَاطِلا قَوِيا أَو ضَعِيفا وعبارتهم فِي جَمِيع تصرفاتهم فِي تَأْوِيل الْآيَات وَالْأَحَادِيث مُخَالفَة لهَذَا ومصرحة بارادة الْمعاصِي فحين علمنَا أَن هَذَا حَقِيقَة قَوْلهم وَإِن ذَلِك مجَاز لم نوجب حملهَا على الْحَقِيقَة بل لم نجوز ذَلِك كَمَا أَن الزَّمَخْشَرِيّ قَالَ إِن الله يَأْمر بِالْفِسْقِ مجَازًا فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا} وَمَعَ ذَلِك لَا يحل لمُسلم أَن يحملهُ على الْحَقِيقَة لما كَانَ قد نَص على أَن ذَلِك مجَاز فَكَذَلِك هَؤُلَاءِ وَلَكِن هَذَا مِنْهُم مُجَرّد لجاج وَشدَّة مراء وجدل قابلوا بِهِ مَا وَقع من خصومهم من مثل ذَلِك وَقد نهى الله تَعَالَى عَن التَّفْرِيق بِنَصّ الْقُرْآن وَإِجْمَاع الْمُسلمين فَوَاجِب على كل من عرف هَذَا من الْفَرِيقَيْنِ ترك هَذِه الْعَادة الْمَكْرُوهَة فِي ابتداع الْعبارَات المفرقة بَين الْجَمَاعَة والمخالفة للطاعة وَلذَلِك نهى الامام ابراهيم بن عبد الله بن الْحسن عَن تَسْمِيَة الْفرق بِهَذِهِ الاسماء المبتدعة وَأمر أَن يسموا بِالْمُسْلِمين فانهم إِذا اجْتَمعُوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الاسماء المبتدعة وَأمر أَن يسموا بِالْمُسْلِمين فانهم إِذا اجْتَمعُوا فِي ذَلِك كَانَ أدعى إِلَى محو آثَار الحمية وَترك التعادي والعصبية وَلذَلِك أثنى الله تَعَالَى على الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا ولاخواننا الَّذين سبقُونَا بالايمان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم وَقد كنت هَمَمْت أَن أقتصر على هَذَا الْبَحْث فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثمَّ رَجَوْت أَن يكون فِي ذكر سَائِر المباحث مزِيد فَائِدَة وَإِلَّا فَهَذَا أنفعها وأجلها وَهُوَ يَكْفِي صَاحب الْجمل إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد بَالغ فِي تَحْرِيم التَّفَرُّق وَترك التَّكْفِير بالاختلاف فِي مسَائِل الْكَلَام مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي محب أهل الْبَيْت وصنف فِيهِ كتاب الْجُمْلَة والالفة فأجاد رَحمَه الله تَعَالَى وَنقل فِيهِ القَوْل المفيدة عَن كبراء أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام بِاخْتِيَار ذَلِك وَنقل صَاحب الْجَامِع الْكَافِي مِنْهُ جملَة شافية فِي آخِره يَنْبَغِي مَعْرفَتهَا ذكرهَا فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن ومذاهب النَّاس فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وَهنا تَحْقِيق بَالغ وَهُوَ أَن مُرَاد أهل السّنة فِي مَسْأَلَة الارادة أَن يكون الله تَعَالَى غَالِبا غير مغلوب كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالله غَالب على أمره} وَلم يصادم هَذِه الْقُدْرَة الْمُعْتَزلَة إِنَّمَا خالفوا فِي الْعبارَة حَيْثُ قَالُوا إِن الله تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ مُجَرّد تَعْرِيض الاشقياء للخير فقد حصل مُرَاده الَّذِي هُوَ التَّعْرِيض فَلم يكن مَغْلُوبًا على مُرَاده كَمَا مضى وَمَا يرد عَلَيْهِ قَالُوا وَأَرَادَ تَمْكِين الْعباد مَعَ علمه بِأَنَّهُ يكون وَسِيلَة إِلَى الْمعاصِي فقد أَرَادَ عِنْدهم سَببهَا لعلمه بذلك بل أجَاز جمهورهم أَن يَبْتَلِي الله تَعَالَى الْمُكَلّفين بعد تَمام التَّكْلِيف بِزِيَادَة فِي خلق الشَّهَوَات وَالشَّيَاطِين ومضلات الْفِتَن بِحَيْثُ تقع عِنْدهَا الْمعاصِي وَهُوَ يعلم أَنه لَو لم يفعل ذَلِك أطيع وَمَا عصى وَهَذَا هُوَ الاضلال الَّذِي تجيزه الأشعرية وتظن الْمُعْتَزلَة أَنَّهَا تَمنعهُ وَهُوَ الَّذِي قد يُسَمِّيه بعض الأشعرية ارادة لوُقُوع الْمعاصِي أَولهَا وَإِنَّمَا اخْتلفت عباراتهم فانهم الْجَمِيع قد اتَّفقُوا على نفي الْجَبْر وعَلى ثُبُوت الِاخْتِيَار وعَلى أَن الله تَعَالَى ملك عَزِيز غَالب غير مغلوب وعَلى أَن الاضلال إِن كَانَ من جنس الْعُقُوبَات لَا من جنس الِابْتِلَاء والامتحان لم يكن إِلَّا بعد الِاسْتِحْقَاق بِالذنُوبِ كعقاب الْآخِرَة لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فلولا اللجاج فِي المراء وَتمكن التعادي فِي الْقُلُوب لكانوا فرقة وَاحِدَة واجتمعوا على جِهَاد أعدائهم من الْكفَّار الْمَلَاحِدَة وسر هَذَا التَّحْقِيق أَنه لَا خلاف أَن سَبَب الْمعاصِي مُرَاد وَهُوَ خلق الْقُدْرَة والتمكين والتكليف لكنه لَيْسَ بجبر مَحْض بل الظَّاهِر فِي سَبَب الشَّرّ أَنه شَرّ فَمن نفى الْحِكْمَة قَالَ هُوَ مُرَاد لنَفسِهِ وَمن أثبتها قَالَ لابد من مُرَاد آخر وَهُوَ الْمُسَمّى المُرَاد الأول وغرض الْغَرَض فَمن قَالَ هُوَ الْجنَّة فِي حق الْكفَّار ورد عَلَيْهِ أَن علم الْغَيْب يمْنَع من طلب حُصُول مَا علم أَنه لَا يحصل وَمن قَالَ هُوَ التَّعْرِيض لذَلِك ورد عَلَيْهِ أَن التَّعْرِيض لَيْسَ بِخَير مَحْض مَعَ الْعلم أَنه سَبَب حُصُول نقيض الْمَقْصُود وَمن قَالَ الْمعاصِي فَهُوَ أَجْهَل لِأَن سَببهَا لم يكن شرا إِلَّا لأَجلهَا فَثَبت أَنه اقامة الْحجَّة فِي الظَّاهِر وَتَأْويل الْمُتَشَابه فِي الْبَاطِن وَالْحق أَنه لَا يُعلمهُ إِلَّا الله كَمَا تقدم بدلائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الْبَحْث السَّادِس فِي ذكر الْفَائِدَة فِي التَّكْلِيف بِالْأَعْمَالِ مَعَ سبق الاقتدار وَقد يذكر هَذَا جَوَابا على من قدح فِي صِحَة أَحَادِيث الاقدار من المبتدعة فَيُقَال الْفَائِدَة فِي الْعَمَل مَعَ الْقدر مثل الْفَائِدَة فِي الْعَمَل مَعَ سبق الْعلم إِذْ كل مِنْهُمَا غير مزيل للقدرة وَلَا مُؤثر فِيهَا وَلَو كَانَ شَيْء من ذَلِك يُؤثر فِيهَا لما تعلق جَمِيع ذَلِك بِأَفْعَال الله تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلق بهَا وَهِي اختيارية بِالنَّصِّ والاجماع أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {كَانَ على رَبك حتما مقضيا} وَأَنه سُبْحَانَهُ قد علم وَقت وُقُوع ذَلِك بِعَيْنِه وَهُوَ مَوْصُوف بِالْقُدْرَةِ على تَقْدِيمه وتأخيره بل على تَركه لكنه لَا يتْركهُ وَقد قَالَ الرَّازِيّ أَن القَوْل بِأَن سبق الْعلم وَالْقدر يَنْفِي الِاخْتِيَار يسْتَلْزم ذَلِك فِي حق الله تَعَالَى وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى رفع أثر الْقُدْرَة وَإِلَى أَن تقع الْأَشْيَاء بِالْعلمِ دون الْقُدْرَة فينقلب الْعلم قدرَة وَذَلِكَ محَال وَقد يذكر هَذَا على سَبِيل التقوية للايمان الْجملِي بحكمة الله تَعَالَى وَقد ذكرت فِي ذَلِك وُجُوه كَثِيرَة بسطتها فِي العواصم ولنقتصر على شَيْء يسير من الْوَارِد فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَفِي الْفطْرَة أما الْقُرْآن فورد بَان التَّكْلِيف فِي حق الاشقياء اقامة الْحجَّة وَقطع الْعذر قَالَ الله تَعَالَى {فالملقيات ذكرا عذرا أَو نذرا} وَقَالَ {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَقَالَ {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} وَهَذَا الْمَعْنى كثير وَفِيه سر لم أر أحدا تنبه لَهُ وَذَلِكَ أَن لله تَعَالَى حجَجًا مُنَاسبَة لعرف الْعُقَلَاء وَحِكْمَة مُنَاسبَة لعلمه الْحق الَّذِي تقصر عَنهُ عقول الْعُقَلَاء وَهَذِه الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا من الْقسم الاول وَمِنْه إِقَامَة الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة وإشهاد الْمَلَائِكَة والجوارح وَكِتَابَة الاعمال مَعَ الْغنى عَن ذَلِك كُله بِعلم الله تَعَالَى فَأَما الْحِكْمَة الْمُنَاسبَة لعلمه الْحق فَهِيَ الْحِكْمَة الداعية إِلَى إِظْهَار هَذِه الْحجَج القاطعة للاعذار الباعثة على هَذَا الْعدْل وَهِي الَّتِي لم يعلمهَا سني وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 مُبْتَدع وَلَا أثري وَلَا مُتَكَلم وَمن تعرض لَهَا لم يحظ بطائل وَقد يرد الْقُرْآن بِهَذِهِ الْحجَّة الظَّاهِرَة الْمُنَاسبَة لعرف الْعُقَلَاء وَحدهَا مثل آيَات الْوَعيد وَقد يرد بِمَا يَقْتَضِي التَّعْلِيل بِحِكْمَتِهِ الْحَقِيقِيَّة الْمُنَاسبَة لعلمه الْحق وَحدهَا كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة هود {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا} فانا نعلم أَن هَذِه لم تكن سدى خَالِيَة عَن الْحِكْمَة وَقد يرد الْقُرْآن بهما جَمِيعًا كَقَوْلِه تَعَالَى جَوَابا على من قَالَ {فارجعنا نعمل صَالحا} قَالَ تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا إِنَّا نسيناكم وذوقوا عَذَاب الْخلد بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَجمع بَينهمَا حَيْثُ أجَاب على الْكفَّار قَوْلهم {أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل} استدراكا مِنْهُم لما فَاتَ فَأخْبرهُم أَنه كَانَ قَادِرًا على تَحْصِيل ذَلِك مِنْهُم فِيمَا مضى وَلَو أرادوه لم يفته حَتَّى يحْتَاج إِلَى الملافاة والاستدراك وَحين علمنَا حكمته فِي ذَلِك حسن أَن نشِير اليها فِي الْجُمْلَة من غير بَيَان معِين كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للْمَلَائكَة {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} جَوَابا على قَوْلهم {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} وَأما مَا ورد فِي ذَلِك من السّنة فأنواع مِنْهَا حَدِيث لَا أحد أحب اليه الْعذر من الله تَعَالَى من أجل ذَلِك أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَمِنْهَا عَمَلهم بِمُقْتَضى قَوْله تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} وَقَوله {وخذوا حذركُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَمِنْهَا حَدِيث أبي خزامة قلت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت رقي نسترقي بهَا ودواء نتداوى بِهِ وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا قَالَ هُوَ من قدر الله تَعَالَى رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من طرق عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ قَالَ الْمزي فِي أَطْرَافه وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالك وَيُونُس بن يزِيد وَعَمْرو ابْن الْحَارِث والاوزاعي عَن الزُّهْرِيّ وَمِنْهَا أَن هَذَا السُّؤَال مِمَّا سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَوَلَّى جَوَابه كَمَا ثَبت فِي أَحَادِيث الاقدار فَقَالَ فِي الْجَواب اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} الْآيَتَيْنِ وَالْمعْنَى فِي الْجَواب النَّبَوِيّ أَن الله تَعَالَى قدر الْجَزَاء وأسبابه وَقدر أَن تكونه أَسبَابه اختيارية من أَفعَال العَبْد وَمَا قدره الله لابد أَن يَقع كَمَا قدره فارتفع توهم الاشكال فانا لَو لم نعمل مَعَ سبق الْعلم بعملنا وَسبق الْمَقَادِير لَكَانَ محارة للعقول بل محالا فِيهَا فَوَجَبَ أَن لَا يكون الْعَمَل محارة وَلَا محالا وَلَا مَوضِع شُبْهَة فَلَا اشكال وَأما مَا دلّت عَلَيْهِ الْفطْرَة من ذَلِك فَهُوَ أَن الله تَعَالَى قدر الْجَزَاء فِي الْآخِرَة مُرَتبا على أَسبَاب وَقدر وُقُوع تِلْكَ الْأَسْبَاب على اختيارنا فِي الْأَعْمَال وَتارَة على اخْتِيَاره تَعَالَى فِي أَسبَاب الاعمال وَفِي الآلام وَنَحْوهَا وَذَلِكَ كَمَا قدر السَّبع بِالْأَكْلِ والري بالشرب وهما عملان اختياريان وَكَذَلِكَ قدر الْوَلَد بالوطئ وَحُصُول الزَّرْع بالبذر وَخُرُوج روح الْحَيَوَان بِالذبْحِ ذكر ذَلِك الْغَزالِيّ مُخْتَصرا وَابْن قيم الجوزية وَطوله وجوده هَذَا الْمَعْنى اسماعيل المقرى من عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة فِي قصيدة لَهُ وعظية بليغة فَقَالَ وأجاد (تَقول مَعَ الْعِصْيَان رَبِّي غَافِر ... صدقت وَلَكِن غَافِر بِالْمَشِيئَةِ) (وَرَبك رزاق كَمَا هُوَ غَافِر ... فَلم لم تصدق فيهمَا بِالسَّوِيَّةِ) (فانك ترجو الْعَفو من غير تَوْبَة ... وَلست براجي الرزق إِلَّا بحيلة) (على أَنه بالرزق كفل نَفسه ... لكل وَلم يكفل لكل بجنة) فَثَبت أَنه يلْزم فِي قَضِيَّة الْعقل من احْتج بسبق الْقدر وَسبق الْعلم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ذنُوبه وتفريطه فِي عمل الْخَيْر إِن يتْرك الاكل وَالشرب وَالْبذْر والوطئ والتوقي من الْحر وَالْبرد وَسَائِر المضار وَإِلَّا فقد فضل الدُّنْيَا على الْآخِرَة حَيْثُ توكل فِي الْآخِرَة وَمَا سعى لَهَا سعيها وَترك التَّوَكُّل فِي الدُّنْيَا وسعى لَهَا أَكثر من سعيها ثمَّ احْتج على ضلاله بِالْبَاطِلِ وهيهات ثمَّ أَنه لابد مَعَ التَّوَكُّل من السَّعْي كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر فَإِذا عزمت فتوكل على الله} وَذكر الزَّرْكَشِيّ فِي شرح جمع الْجَوَامِع عَن الْجُنَيْد رَحمَه الله أَنه قَالَ كلمت يَوْمًا رجلا من الْقَدَرِيَّة فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل رَأَيْت فِي النّوم كَأَن قَائِلا يَقُول مَا يُنكر هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَن يكون الله قبل خلقه لِلْخلقِ علم أَنه لَو خلق الْخلق ثمَّ مكنهم أُمُورهم ثمَّ رد الِاخْتِيَار اليهم للَزِمَ كل امْرِئ مِنْهُم بعد أَن خلقهمْ مَا علم أَنهم لَهُ مختارون قلت بل قد أوجب ذَلِك الرَّازِيّ بِنَظَر عَقْلِي مَعْنَاهُ أَن الْعلم تَابع للمعلوم فِي الرُّتْبَة لَا فِي الْوُجُود مثل تبع حَرَكَة الْخَاتم للاصبع فَلَا يتَصَوَّر حُصُول الْعلم مُتَعَلقا بالمعلوم إِلَّا وللمعلوم ثُبُوت فِي الذِّهْن لَا فِي الْخَارِج والنكتة فِي هَذَا أَن الله تَعَالَى غير مُخْتَار فِي علمه إِجْمَاعًا فان كَونه قَادِرًا عَالما من صِفَات الْكَمَال اللَّازِمَة الْوَاجِبَة وَإِنَّمَا يخْتَار سُبْحَانَهُ فِي كَونه فَاعِلا فان شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك وَلَيْسَ يُقَال إِن شَاءَ علم وَإِن شَاءَ جهل فَكَذَلِك لَا يُقَال إِن شَاءَ علم الْمَوْجُود مَعْدُوما والمعدوم مَوْجُودا وَنَحْو ذَلِك إِنَّمَا يُقَال لَو شَاءَ لجعل ذَلِك كَذَلِك لكنه لَا يَشَاء خلاف مَا علم كَمَا سبق تَقْرِيره لكنه يُقَال إِن كَانَ الْمَعْلُوم أسبق فِي الرُّتْبَة فانه رَاجع إِلَى أَفعَال الله تَعَالَى وَهِي اختيارية وَكَانَ الِاخْتِيَار تَابعا للحكمة فَهِيَ أسبق فِي الرُّتْبَة وَهَذَا نَفِيس جدا فَتَأَمّله وَسبق فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة طرف صَالح من الْكَلَام فِي الْحِكْمَة فِي خلق الاشقياء فيراجع من هُنَالك وَمن ذَلِك أَن يُقَال انما يلْزم فِي قَضِيَّة الْعقل قطع أعذار الْخلق فِي الربوبية وتقديسها عَن كل عيب وَنقص وظلم وعبث وَلعب فَمن أنكر شَيْئا من ذَلِك قَامَت عَلَيْهِ الْبَرَاهِين كَمَا تقدم وَمن اعْترف بِهَذَيْنِ الامرين فقد اعْترف بَان الله حَكِيم نَافِذ الْمَشِيئَة غَنِي كريم فَلَا يَصح مِنْهُ بعد هَذَا ان يُنَازع ربه تَعَالَى فِي حِكْمَة خُفْيَة لوَجْهَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أَحدهمَا أَن علمه الْجملِي بحكمة ربه كَاف شاف وَثَانِيها ان علمه بِكَمَال ربه فِي جَمِيع أَسْمَائِهِ الْحسنى مَعَ نقص العَبْد فِي كل معنى وَكَثْرَة جهالاته وظلمه وخبث كثير من طباعه وغلبتها عَلَيْهِ يَكْفِيهِ وازعا عَن اتِّبَاع سنة الشَّيْطَان لَعنه الله تَعَالَى حَيْثُ نَازع ربه تَعَالَى فِي حسن سُجُوده لآدَم وَهَذِه هِيَ سنة السُّفَهَاء من النَّاس الَّذين قَالُوا {مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وَلَو كَانَت تجب ازاحة كل عذر بَاطِل لازاح الله تَعَالَى اعذارهم حَيْثُ قَالُوا {فارجعنا نعمل صَالحا} واقتراحهم على الرَّسُول أَن يكون ملكا وان يفجر لَهُم الْأَنْهَار تفجيرا وَنَحْو ذَلِك على ان الله تَعَالَى لم يخل كِتَابه الْكَرِيم من الاشارة الى مَا تحمله عقول الْبشر ويليق بعلومهم من ذَلِك فَنَقُول بِقدر مَا وهب الله لنا من ذَلِك ان الله تَعَالَى خلق الاشياء لحكم كَثِيرَة شاهدة لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنزاهة من الظُّلم واللعب والعبث بل شاهدة لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالحكمة الْبَالِغَة وَالنعْمَة السابغة وَالْحجّة الدامغة فَمن قَالَ ان الله تَعَالَى مَا خلق الاشقياء الا لعمل القبائح فِي الدُّنْيَا وللعذاب فِي الْآخِرَة أَو كَانَت عِبَارَته توهم ذَلِك فَمَا أصَاب الْحق وَلَا أحسن التَّرْجَمَة عَن الْكتاب وَالسّنة وَمن أَرَادَ اصابة الْحق فِي ذَلِك تتبع متفرقات الْحِكْمَة المنصوصة بألفاظها وأداها بهَا والمعقولة بمعانيها وَجَمعهَا بل جمع مَا يسر الله لَهُ مِنْهَا لَا يُمكن الْبشر الاحاطة بجميعها وَالَّذِي حضرني مِنْهَا سَبْعَة أُمُور تفصيلية لفظية ومعنوية وَأمر جملي يعمها أما الْأَمر الْجملِي فَمَا تقرر بالبراهين الجمة سمعا وعقلا من حِكْمَة الله تَعَالَى كَمَا قَالَ للْمَلَائكَة {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى {أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين} وَأما التفصيلية فانها وان رجعت فِي الْمَعْنى الى أقل من ذَلِك الْعد فقد أدّيت مَا أمكنني تأديته بِلَفْظِهِ عَسى أَن أنال الدعْوَة النَّبَوِيَّة لمن أدّى مَا سمع كَمَا سمع من الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الأول خلق الله تَعَالَى الاشقياء لعبادته بِالنّظرِ إِلَى أوامره اجماعا ونصا وبالنظر الى محبته للخير من حَيْثُ هُوَ خير على الصَّحِيح كَمَا مر فِي اثبات الْحِكْمَة وَقد أوضحت هَذَا فِي العواصم فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور أهل السّنة فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَوله تَعَالَى {وَالله لَا يحب الْفساد} فانهم أقروهما وَفرقُوا بَين الرضى والمحبة وَمعنى الارادة والمشيئة وَلذَلِك قَالَ السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع فِي آخِره فِي الِاعْتِقَاد مَا لَفظه والمحبة غير الْمَشِيئَة والارادة فَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ وَلم يحك خلافًا لشذوذه عِنْده وَمن لم يبْحَث حوافل أهل السّنة يظنّ ان هَذَا يُخَالف قواعدهم الثَّانِي الِابْتِلَاء بِالنّظرِ الى عدله وحجته كَمَا يظْهر من قَوْله تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} كَمَا مر فِي الْحِكْمَة فِي الْعَمَل مَعَ الْقدر الثَّالِث لما يُوجب عَلَيْهِم شكره من احسانه اليهم بعظيم نعمه وسوابع مواهبه بِالنّظرِ الى تكليفهم شكر نعْمَته وَقد ذكر غير وَاحِد من الائمة الأذكياء ان فرار الْحَيَوَانَات من الْمَوْت وحرصها على الْحَيَاة من أعظم الْأَدِلَّة على عظم النِّعْمَة بهَا وعَلى وجوب الشُّكْر عَلَيْهَا ثمَّ نعْمَة الْعَافِيَة والتمكين من الْخَيْر والمعارف باكمال الْعُقُول والاسماع والابصار وَالْأَيْدِي والبنية السوية الصَّحِيحَة والانفاس والارزاق الْجَارِيَة الرَّابِع لما شَاءَ بِالنّظرِ الى عزة ملكه وعظيم سُلْطَانه وقاهر قدرته الْخَامِس لما لم يحط بِجَمِيعِهِ الا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالنّظرِ الى وَاسع علمه وَرَحمته السَّادِس للعذاب الْمُسْتَحق بِكفْر نعْمَته وَجحد حجَّته بِالنّظرِ الى علمه واختياره وَقدرته وقضائه وكتابته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السَّابِع الْحِكْمَة المرجحة فيهم بعقابه على عَفوه وعدله على فَضله الراجعة بعدله الى فَضله الَّتِي هِيَ تَأْوِيل المشابه وَهُوَ الْخَيْر الْمَقْصُود بِمَا ظهر للعقلاء من ارادة وُقُوع مَا قبلهَا من الْمُتَشَابه وَهُوَ الشرور الَّتِي لَا يعلم فِيهَا خير ان سلم وُقُوع ذَلِك وَهَذَا النَّوْع السَّابِع هُوَ بِالنّظرِ الى خَفِي حكمته مُنْتَهى مُتَعَلق ارادته ومشيئته الَّذِي هُوَ المُرَاد الاول وَهُوَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه الَّذِي لَا يُعلمهُ الا هُوَ على الْمُخْتَار كَمَا سبق بَيَانه وَدَلِيله فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر وزادت الْمُعْتَزلَة على هَذِه الامور السَّبْعَة ثَلَاثَة انْفَرَدت بهَا دون أهل السّنة أَحدهَا تَعْرِيض الاشقياء لدرك ثَوَابه الْعَظِيم وَسُكُون جنَّات النَّعيم فان التَّعْرِيض لذَلِك نعْمَة وان لم يقبلوها كَمَا ورد فِي حَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة كل أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة الا من أبي قَالُوا وَمن يَأْبَى ذَلِك يَا رَسُول الله قَالَ من عَصَانِي فقد أَبى وَثَانِيها ارادة وُقُوع الطَّاعَة مِنْهُم لظَاهِر قَوْله تَعَالَى (وَمَا خلقت الْجِنّ والانس الا ليعبدون) ومنعت هذَيْن الاشعرية وَغَيرهم كَمَا تقدم وَثَالِثهَا مصلحَة الْخَوْف لَان الْعُقَلَاء اذا علمُوا ان الله مَا يخلق الا سعيدا غير معذب تجرؤا على الْفساد والفسوق ذكرته البغدادية مِنْهُم وَمَا هُوَ بالضعيف وَلَا بالمخالف للقواعد فقد نَص الله تَعَالَى على أَن بسط الرزق مفْسدَة للعباد فَكيف يرفع الْخَوْف والامان من التَّبعَات فِي الدَّاريْنِ كَذَلِك نَص على أَنه تَخْصِيص الْكَافرين بالتوسيع الْكثير فِي الْغنى مفْسدَة وانه انما تَركه لذَلِك كَمَا فِي سُورَة الزخرف وَلذَلِك قَالَ {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فابهم المغفور لَهُ ليبقى الْخَوْف وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حق الْكفَّار أَيْضا فِي التَّوْفِيق للتَّوْبَة فِي الدُّنْيَا {لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم نعذب طَائِفَة بِأَنَّهُم كَانُوا مجرمين} فَلم يقنطهم الْجَمِيع وَلم يؤمنهم لانهما جَمِيعًا مفسدتان وتركهم فِي مَحل الْخَوْف والرجاء لانهما جنَاحا الدَّوَاعِي الناهضة للعباد الى طَاعَة رَبهم وفيهَا الْحجَّة الدامغة لمن عصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مِنْهُم وَورد فِي السّنة النَّبَوِيَّة مَعَ ذَلِك كُله غَيره مِمَّا لَا غنى عَن ذكره فان الشَّيْء قد يحسن مَعَ غَيره وَلَا يحسن وَحده كَمَا ذكره كثير من أهل الْعلم فِي جَمِيع الآلام والمصائب لعَظيم الْجَزَاء مَعَ عَظِيم الِاعْتِبَار فَمن أحسن مَا ورد فِي ذَلِك فِي السّنة حَدِيث فدَاء كل مُسلم من النَّار بِيَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيّ خرجه مُسلم واسناده على شَرط الْجَمَاعَة كلهم وَله طرق جَيِّدَة كَمَا أوضحته فِي العواصم والاجادة وَغَيرهمَا وأوضحت مَا فِيهِ من الْحِكْمَة وَالْعدْل واجماع الْعُقَلَاء على نَظَائِره فَمن الْعدْل فِي ذَلِك أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَادوا الْمُسلمين فِي الدُّنْيَا وظلموهم وكذبوهم وفعلوا مَا أمكنهم من مضارهم وَمن لم يسْتَطع ذَلِك مِنْهُم ورد انه تمكن مِنْهُ وَأَنه فعله ووالى من فعله من أَصْحَابه وَقد ثَبت وجوب الْقصاص بَين الْمُسلمين بَعضهم من بعض بل بَين الشَّاة الْجَمَّاء وَالشَّاة القرناء فَكيف لَا ينتصف للْمُسلمين من أكفر الْكَافرين المكذبين الْبغضَاء الْمُعْتَدِينَ وَالله تَعَالَى يَقُول {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} وَقد صَحَّ فِي الْأَحَادِيث الثَّابِتَة ان الْقصاص بِالْحَسَنَاتِ والسيئات ان كَانَ للظالم حَسَنَات أَخذ مِنْهَا للمظلوم وان لم يكن حمل الظَّالِم من ذنُوب الْمَظْلُوم بِقدر مظلمته وَهَذَا عدل مَعْقُول وَلَيْسَ فِيهِ مناقضة لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} لَان الْمَعْنى انها تظلم لَا بتحميلها وزر الاخرى لَا انه لَا ينتصف مِنْهَا بِالْحَقِّ وان شقّ فَمَا كَانَ على وَجه الانتصاف من الظَّالِم للمظلوم لم يكن من تحميل الذُّنُوب من لم يَفْعَلهَا ظلما وعدوانا بل هُوَ من الْعدْل الْوَارِد فِي السّمع الْمَعْلُوم لقَوْله تَعَالَى {وأثقالا مَعَ أثقالهم} وَقَول ابْن آدم الصَّالح لِأَخِيهِ الْكَافِر {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك} وَهَذِه أَدِلَّة خَاصَّة مفسرة لما أجمل من قَوْله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَكَذَلِكَ وَردت الْأَحَادِيث الصِّحَاح بِأَن من سنّ سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ اثمها واثم من عمل بهَا من غير أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ينقص من آثامهم وان على ابْن آدم اثم من قتل الى يَوْم الْقِيَامَة لانه أول من سنّ الْقَتْل بل قد أَشَارَ الْقُرْآن الْعَظِيم الى هَذَا الحَدِيث الْعَظِيم الى هَذَا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} وَكَذَلِكَ لَا يُنَاقض هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} لانه عُمُوم مَخْصُوص بالاجر على الآلام والاقتصاص من الظَّالِم وَيجوز أَن يفضل الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على من يَشَاء كَمَا قَالَ {ويزيدهم من فَضله} لَان فَضله لَيْسَ هُوَ مِمَّا هُوَ حق لَهُم حَتَّى يدْخل فِي قَوْله {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} فَهَذَا مَا فِي فدَاء الْمُسلمين بالكافرين من الْعدْل وَأما مَا فِيهِ من الْحِكْمَة فَفِيهِ صدق وَعِيد العصاة من الْمُسلمين بذلك وَعدم الْخلف كَمَا أَشَارَ اليه قَوْله تَعَالَى {وفديناه بِذبح عَظِيم} فانه لَا معنى للْفِدَاء الا انه قد كَانَ لزم ذبحه بالامر لَان البداء لَا يجوز على الله سُبْحَانَهُ وَذبح الْفِدَاء يقوم مقَام ذبح الذَّبِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْه فدَاء وَالِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِائَة من الابل كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل} أَي فديَة لَكِنَّهَا فِي الْكَافرين كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَة الْحَدِيد فِي خطاب الْمُنَافِقين {فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة وَلَا من الَّذين كفرُوا} وَفِي تخصيصهم بِالذكر اشارة الى الْقبُول من الْمُسلمين بمقتضي مَفْهُوم الصّفة والمسلمون أَيْضا باقون على الإصل فِي حسن ذَلِك كَمَا قرر فِي مَوْضِعه وَيَأْتِي مِنْهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَا فِيهِ كِفَايَة وَقد استوفيت مُطَابقَة ذَلِك لعمل الْحُكَمَاء والعقلاء من جَمِيع الْمُسلمين بل من جَمِيع النَّاس أَجْمَعِينَ فِي كتاب العواصم وَمِمَّا جَاءَ فِي السّنة من حِكْمَة الله تَعَالَى فِي خلق الْكَافرين فِي الدُّنْيَا ونفع الْمُسلمين بهم مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث سَلمَة بن نفَيْل الْكِنْدِيّ قَالَ كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 جَالِسا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل أَزَال النَّاس الْخَيل وَوَضَعُوا السِّلَاح وَقَالُوا لَا جِهَاد قد وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا فاقبل رَسُول الله بِوَجْهِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ كذبُوا الْآن جَاءَ الْقِتَال وَلَا تزَال من أمتِي أمة يُقَاتلُون على الْحق ويزيغ الله قُلُوب أَقوام ويرزقهم مِنْهُم حَتَّى تقوم السَّاعَة وَحَتَّى يَأْتِي وعد الله الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر الى يَوْم الْقِيَامَة الحَدِيث قَالَ الْمزي فِي أَطْرَافه رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي الْخَيل باسنادين الى أبي عَلْقَمَة والوليد بن عبد الرَّحْمَن الجرشِي كِلَاهُمَا عَن جُبَير بن نفَيْل عَن سَلمَة قلت واسناد النَّسَائِيّ جيد قوي رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي الْمسند بطرِيق أُخْرَى الى الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن فصح الحَدِيث وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَيشْهد لذَلِك من كتاب الله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا من الْمُجْرمين وَكفى بِرَبِّك هاديا ونصيرا} وَمَا اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِعِلْمِهِ فِي ذَلِك من الحكم والعنايات الحميدة أَكثر وَأعظم وَالله سُبْحَانَهُ أعز وَأعلم وَأجل وَأحكم آمنا بِهِ وبجميع أَسْمَائِهِ ومحامده وَله الْمِنَّة علينا فِي ذَلِك وَله الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء الْبَحْث السَّابِع قد ظهر من جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين استقباح الظَّوَاهِر السمعية مثل قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فأوجبوا تَأْوِيلهَا وأمثالها وشنعوا على من آمن بهَا من غير تَأْوِيل الا التَّأْوِيل الَّذِي اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ على مَا تقدم وَالْعجب من المقبحين لذَلِك من الْمُخَالفين أَنهم قبحوا خلق أهل النَّار لَهَا وارادة ذَلِك لَهُم فِي الِابْتِدَاء مَعَ تحسينهم لفعل ذَلِك بهم فِي الِانْتِهَاء بل أوجبوا ذَلِك على الله تَعَالَى فِي الِانْتِهَاء وأوجبوا عَلَيْهِ تخليدهم فِي النَّار وقبحوا مِنْهُ الْعَفو عَن أحد مِنْهُم فَكيف قبحوا ارادة ذَلِك الْوَاجِب عِنْدهم فِي الِابْتِدَاء مَعَ ان الارادة لَا تزيد على المُرَاد فِي الْحسن والقبح عقلا وَشرعا فان كَانَ عَذَاب الْآخِرَة من الْحق الرَّاجِح الْمُشْتَمل على الْعدْل والمصالح كَمَا هُوَ الْحق عقلا وسمعا كَمَا يَأْتِي فَلَا يَنْبَغِي تقبيح ارادته وَلَا تقبيح خلق أَهله لَهُ فِي الِابْتِدَاء لَان مَا حسن فعله حسنت ارادته فَكيف بِمَا وَجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فعله والارادة أَهْون من التعذيب نَفسه وَأَقل مضرَّة مِنْهُ فَكيف يعقل أَن يكون التعذيب وَاجِبا على الله تَعَالَى وارادته مِنْهُ قبيحة فان قَالُوا انما قبحناها اذا وَقعت مُتَقَدّمَة لمعاصيهم لانهم حِينَئِذٍ غير مستحقين لذَلِك قُلْنَا انها لم تعلق بهم حِينَئِذٍ وانما تعلّقت بهم حِين الِاسْتِحْقَاق لانه لم يرد أَن يُوقع بهم الْعَذَاب قبل ذَلِك بل بعده والعزم على مثل ذَلِك من مثلنَا حسن عقلا فَكَذَلِك الارادة الْمُتَقَدّمَة فِي حَقه تَعَالَى وَقد ورد السّمع بتقدمها وَالدَّلِيل على من ادّعى قبح ذَلِك وَالْقَوْل بَان عَذَاب الْآخِرَة حق رَاجِح مُشْتَمل على الْعدْل والمصالح الَّتِي هِيَ تَأْوِيل الْمُتَشَابه هُوَ قَول البغدادية وَطَائِفَة كَثِيرَة من السّلف وَالْخلف وَمن تَبِعَهُمْ من أهل السّنة كَمَا نَصره ابْن تيمة وَأَصْحَابه وَأَجَازَ ذَلِك الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الاسنى وَاحْتج عَلَيْهِ كَمَا تقدم وَيدل على ذَلِك اقسام الله تَعَالَى فِي غير آيَة على وُقُوعه وتسميته حَقًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم} وانما يخْتَلف هَؤُلَاءِ فِي قدر الْعَذَاب الْمُشْتَمل على الْمصَالح الراجحة فَمنهمْ من جوز ذَلِك فِيهِ مُطلقًا وَلَو مَعَ الخلود والدوام الَّذِي لَا نِهَايَة لَهُ وَمِنْهُم من جوزه فِيهِ مُطلقًا الا فِي الخلود وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل دلَالَة السّمع على الخلود قَاطِعَة أم لَا لوُرُود الِاسْتِثْنَاء فِيهِ فِي الْقُرْآن والْحَدِيث الا تَحِلَّة الْقسم ولغير ذَلِك كَمَا تقدّمت اليه الاشارة فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة وَهُوَ مَبْسُوط فِي موَاضعه فقد صنفت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مصنفات مُسْتَقلَّة وَالْعجب مِنْهُم كَيفَ يمْنَعُونَ تقدم إِرَادَته مَعَ مثل هَذِه الْأَقْسَام الْمُؤَكّدَة السَّابِقَة من الله تَعَالَى على فعله وتسميته حَقًا وَلم يبْق بَينهم خلاف وَبَين أهل السّنة الا فِي تَجْوِيز تقدم ارادته لذَلِك والنصوص شاهدة لاهل السّنة بتقدمها وَكَذَلِكَ الْعُقُول أما النُّصُوص فَمثل قَوْله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميرا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ) وَهِي وَاضِحَة فِي تقدم الارادة قبل وَقت قطع الاعذار وَالْعَذَاب لَا يَقع قبل ذَلِك فِي حكم الله تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَفِي آيَة أُخْرَى {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَفِي آيَة اخرى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا} الاية وَفِي هَذِه الْآيَات الثَّلَاث دلَالَة وَاضِحَة على أَن عَذَاب الاخرة من قبيل الْحق الرَّاجِح المتضمن للْمصَالح وَهَذِه الْعبارَات الْمُؤَكّدَة فِي وُقُوعه كَلَام من قد أَرَادَ ذَلِك فَكيف يقسم عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُريدهُ وَأما دَلِيل الْعُقُول على ذَلِك فلَان الارادة انما تتأخر فِي حَقنا لتأخر الْعلم بالمرجحات وَعدم الْعلم بِانْتِفَاء الْمَوَانِع والمعارضات وَلذَلِك قَالَ أَبُو الْحُسَيْن انها هِيَ الدَّاعِي الرَّاجِح الرَّاجِع الى الْعلم لملازمة الْفِعْل لذَلِك ولملازمة الارادة لَهُ وَذَلِكَ مِنْهُ يُفْضِي الى نَحْو قَول الاشعرية فِي قدم الارادة وَأما الاثري السّني فَلَا حَاجَة لَهُ الى الْخَوْض فِي ذَلِك كَمَا تقدم الْبَحْث الثَّامِن ان ارادة الله تَعَالَى نَافِذَة وانه لَا راد لما أَرَادَ وَقد تقدم كثير مِنْهَا وَلَكِن فِي هَذَا الْبَحْث فَوَائِد مهمة لم تقدم وَلَا بَأْس بِبَعْض التّكْرَار للتَّأْكِيد والفائدة وَلذَلِك ورد بِهِ كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ أَكثر الْكتب حِكْمَة وأحكاما وَهَذَا الْبَحْث مَبْنِيّ على ان الله تَعَالَى على كل شَيْء قدير وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَلَكِن أَكثر الْمُعْتَزلَة زَعَمُوا ان الله تَعَالَى مُرِيد لفعل جَمِيع مَا يقدر عَلَيْهِ من هِدَايَة الْمُكَلّفين واللطف بهم بل اعتقدوا ان ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ ولاجل اعْتِقَادهم وُجُوبه عَلَيْهِ قطعُوا حِين لم يَفْعَله انه غير قَادر عَلَيْهِ تَنْزِيها لَهُ من الاخلال بِالْوَاجِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَقد صرح الامام يحيى بن حَمْزَة بابطال قَوْلهم فِي كِتَابه التَّمْهِيد فِي أَوَائِل الْبَاب السَّابِع من النبوات على ذَلِك وَهُوَ قَول جمَاعَة من قدماء مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي وَالسَّيِّد أَبُو عبد الله الْحُسَيْنِي فِي كِتَابه الْجَامِع الْكَافِي وَهُوَ قَول غير وَاحِد مِمَّن عاصرت من أئمتهم عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذِه الْمَسْأَلَة هفوة الْمُعْتَزلَة الْكُبْرَى فِي مُقَابلَة هفوة الجبرية فِي نفسى الِاخْتِيَار وَبهَا تمكن خصومهم مِنْهُم وَمن سلم مِنْهُم من هَذِه الْمَسْأَلَة قَارب أهل السّنة فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال بل كَانَ مِنْهُم فان أَمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ مَا وَافق أهل السّنة فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال الا فِيهَا فعدوه من أئمتهم وَلم يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِك وَلَا شكّ فِي صِحَة قدرته على هِدَايَة الْخلق أَجْمَعِينَ باللطف وَالِاخْتِيَار عقلا وسمعا وَلَا شكّ انه أحوط وَأولى من قَول الْمُعْتَزلَة فانه يُمكن فِي الْعقل أَن يكون الله تَعَالَى انما ترك ذَلِك لحكمة اسْتَأْثر بعلمها مثل حكمته فِي خلق أهل النَّار والعقول تقصر عَن الاحاطة بِجَمِيعِ حِكْمَة الله تَعَالَى ومعلوماته فَيحسن فِي بعض مَا لَا تعرف الْعُقُول حسنه أَن يكون حسنا عِنْد الله لحكمة اخْتصَّ بعلمها فَيجب قصر استقباح الْعُقُول على من لم يعلم من الحكم فِي الغيوب المحجوبة الا مَا يُعلمهُ وَلَيْسَ يحسن أَن يُقَال ان الله لَا يقدر على شَيْء لوجه حسن اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَلَا نَحْو ذَلِك من الاعذار لَان عدم الْقُدْرَة نقص فِي الربوبية وان مثل الْجَهْل بِبَعْض الامور وَأما التحسين والتقبيح فبابه وَاسع وتفاوت المعارف فِيهِ غير وَاقِف على حد وَلَا نِهَايَة لانه مَوْقُوف على الْوُجُوه والاعتبارات وَمَعْرِفَة العواقب الحميدة والغاية الغيبية الْبَعِيدَة والمرجحات الْخفية عِنْد تعَارض الْمصَالح والمفاسد وَهَذَا بَاب وَاسع يدْخلهُ التَّأْوِيل الْقَرِيب والبعيد بل قد اخْتلفُوا فِي هَذَا أَحْوَال المخلوقين كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام وَلَا يزَال الْعَالم يُنكر على الاعلم كَيفَ الْجَاهِل على الْعَالم كَيفَ الْمَخْلُوق الظلوم الجهول على علام الغيوب كَمَا تقدم فِي الْحِكْمَة فِي خلق الأشقياء فَكَمَا أَن الْحِكْمَة فِي خلق الأشقياء لما خفيت لم يحسن من أحد أَن يَقُول انه تَعَالَى غير مُخْتَار فِي وجودهم ورد أهل الاسلام ذَلِك على الفلاسفة فَكَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ثمَّ ان الْمُعْتَزلَة رجعُوا إِلَى قَول أهل السّنة فِي هَذَا بعد التعسف الشَّديد فِي تَأْوِيل الْقُرْآن وَالسّنة وَاجْتمعت الْكَلِمَة فِي الْحَقِيقَة على ان الله تَعَالَى على كل شَيْء قدير وعَلى مَا يَشَاء لطيف وَمَا بَقِي الا اللجاج فِي المراء بَين أهل الْكَلَام كَمَا أوضحت ذَلِك فِي الْبَحْث الْخَامِس من هَذِه الْمَسْأَلَة أَعنِي مَسْأَلَة الارادة ونزيد هُنَا وَجها لم نذكرهُ هُنَاكَ وَهُوَ ان الله تَعَالَى قد نَص على دين الاسلام انه الْفطْرَة قَالَ تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم} وَاتفقَ أهل الحَدِيث على صِحَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وانما أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه وَقد ذكر الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة عَن أَكثر أهل السّنة أَن الْآيَة على عمومها فِي السُّعَدَاء والاشقياء وَاحْتج لَهُم بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك وَغَيره وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وانما يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه انما هُوَ فِي الاشقياء فَلَزِمَ الْمُعْتَزلَة أَن يَقُولُوا بِهِ ويتركوا قَوْلهم ان الله بني الاشقياء على بنية علم مَعهَا انه لم يبْق لَهُم لطف فِي مقدوره وَلزِمَ أهل السّنة أَن يَقُولُوا بِهِ وَلَا يعتقدوا ان أَحَادِيث الْقَضَاء وَالْقدر مبطلة للاختيار وَلَا لحجة الله تَعَالَى وَفِي الْحَقِيقَة ان الْجَمِيع قد فعلوا بِمُقْتَضَاهُ لَكِن أهل السّنة بالنصوص الصَّرِيحَة الْكَثِيرَة والمعتزلة فِي بعض الْمَوَاضِع كَمَا تقدم فِي الْبَحْث الْخَامِس على ان هَذِه الْآيَة وَهَذَا الحَدِيث عِنْد الْمُعْتَزلَة مِمَّا يصولون بِهِ على أهل السّنة وَلَيْسَ كَذَلِك بل هما على الْمُعْتَزلَة لَا لَهُم وانما ظنُّوا ذَلِك لانهما حجتان على الجبرية وهم يَعْتَقِدُونَ الا العارفين مِنْهُم ان أهل السّنة كلهم جبرية فَهَذَا سَبَب وهمهم وَأما كَونهمَا على الْمُعْتَزلَة فلقولهم ان اللطف غير مَقْدُور لله تَعَالَى وتعليلهم ذَلِك بانه تَعَالَى بنى الاشقياء على بنية لَا تقبل اللطف ثمَّ ان أهل السّنة يلزمونهم تعجيز الرب تَعَالَى بذلك وهم يأبون ذَلِك وَيَقُولُونَ انه غير قَادر على اللطف وَلَا يُوصف بِالْعَجزِ وانما قَالُوا ذَلِك لاعتقادهم أَن اللطف بالاشقياء محَال كوجود ثَان لله تَعَالَى عَن ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والقادر على كل شَيْء لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على المحالات لانها لَيست بِشَيْء والا لزم أَن يُوصف بِالْقُدْرَةِ على لَا شَيْء وَقَوْلهمْ هَذَا ضَعِيف لَان الاحالة لم تبين فِي اللطف بالعصاة وَلَو تبين ذَلِك لقبح تكليفهم على أصُول الْمُعْتَزلَة فان خلقهمْ على تِلْكَ البنية مفْسدَة فِي التَّكْلِيف وهم لَا يجيزون الْمُفْسد فِيهِ وَلَو جوزوها فِيهِ مَا أوجبوا اللطف فِيهِ والا لتناقض انما الْمحَال مَا لَا يُمكن تصَوره مثل كَون الشَّيْء قَدِيما حَادِثا كَمَا فِي تقديرهم ان الله لَو خلق مثله تَعَالَى عَن ذَلِك لم يكن مثله قطّ لَان الْمَخْلُوق حَادث مربوب بِالضَّرُورَةِ وَالله تَعَالَى رب قديم فَقِيَاس هَذَا باللطف بالعصاة واه لَا يرضى فِي الْفُرُوع الظنية وَقد اعتذرت الفلاسفة بِمثل عذرهمْ فِي هَذَا فِي قَول الفلاسفة انه لَيْسَ فِي مقدورالله تَعَالَى أحسن من هَذَا الْعَالم مَعَ انه على كل شَيْء قدير لانهم زَعَمُوا انه لَو كَانَ فِي مقدوره لَا وجده على الْفَوْر والا كَانَ بَخِيلًا تَعَالَى عَن ذَلِك وَأجِيب عَلَيْهِم بِمثل مَا أُجِيب على الْمُعْتَزلَة من ان حِكْمَة الله تَعَالَى أعظم من أَن يُحِيط بهَا خلقه وانه قد بَين مِنْهَا انه يبلو عباده ليميز الْخَبيث من الطّيب كَمَا صرحت بِهِ الْآيَات القرآنية وَاعْلَم ان قَول أهل السّنة فِي الْمَشِيئَة وَالْقَضَاء وَالْقدر وسبقها للاعمال لَا يَقْتَضِي الْجَبْر كَقَوْل الْجَمِيع فِي سبق الْعلم بل كثير من أهل السّنة فسروا الْقَضَاء وَالْقدر بِعلم الْغَيْب السَّابِق مِنْهُم القَاضِي عِيَاض فِي شَرحه لمُسلم وَالنَّوَوِيّ فِي شَرحه لَهُ وَابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ وَغَيرهم وانما وَقع الْخلاف فِيمَا تعلق بِهِ الارادة السَّابِقَة كَمَا تقدم تَحْقِيقه فِي المباحث الْمُتَقَدّمَة وانما مَقْصُود أهل السّنة بذلك نفي الْعَجز والقصور عَن قدرَة الله تَعَالَى فقد وَقع الِاتِّفَاق على نَفْيه فِي الْحَقِيقَة ان شَاءَ الله تَعَالَى وَقد وضح بِذكر هَذِه المباحث للْخلاف هُنَا خمس مَرَاتِب قد بسطتها فِي العواصم وَلَا غنى عَن الرَّمْز اليها على سَبِيل الايجاز الْكثير الْخلاف الأول هُوَ الْخلاف فِي قدرَة الله تَعَالَى على هِدَايَة الله العصاة مَا داموا على بنيتهم الَّتِي خلقُوا عَلَيْهَا حَتَّى يغيرها الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي فَرغْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 من ذكره وَبَيَان الْحجَّة على بُطْلَانه وعَلى ان الْمُخَالف فِيهِ أَخطَأ فِي الْعبارَة وَوَافَقَ فِي الْمَعْنى لَا قدرته تَعَالَى على تَغْيِير البنية هِيَ قدرته على اللطف بِعَينهَا فارتفع الْخلاف وَللَّه الْحَمد الْخلاف الثَّانِي القَوْل بِنَفْي قدرته تَعَالَى على ذَلِك مُطلقًا ادَّعَاهُ بعض أهل الْعَصْر على أَصْحَاب أبي هَاشم المعتزلي وَلم ينصوا عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي ان يصدق عَلَيْهِم حَتَّى ينصوا عَلَيْهِ لمُخَالفَته الْأَدِلَّة الجلية من الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول كَمَا أوضحته فِي العواصم وانما حمل هَذَا على دَعْوَاهُ مَا رأى فِي اعْتِرَاف الْمُعْتَزلَة بِخِلَافِهِ من لُزُوم مُوَافقَة أهل السّنة ففر من مُوَافقَة خصومه الى مَا هُوَ شَرّ مِنْهَا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار وَقد تمدح الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بانه لَو شَاءَ لجعل منا مَلَائِكَة وَقَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَقَالَ {كونُوا حِجَارَة أَو حديدا أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الَّذِي فطركم أول مرّة} وَقد علم من الدّين واجماع الْمُسلمين انه تَعَالَى قَادر على تَغْيِير صِفَات الْأَجْسَام مثل قلب خبث الْحَدِيد فضَّة أَو ذَهَبا وقلب الْبَهَائِم نَاسا وَالنَّاس بهائم مثل مَا خسف باليهود قردة بقوله لَهُم {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} فَكَذَلِك لَو شَاءَ خلق من الاشقياء أَنْبيَاء وملائكة وَمَا السِّرّ فِي تَغْيِير شَيْء مِنْهُم الا تليين قساوة قُلُوبهم كَمَا أوضحته فِي العواصم فَليُرَاجع اذا احْتِيجَ الى ذَلِك الْخلاف الثَّالِث خلاف من منع عُقُوبَة العصاة بالاضلال وَقد توهم كثير مِنْهُم أَن ذَلِك يُؤَدِّي الى الْجَبْر فيتأولونه بالخذلان وَلَا يعلم أَن الاضلال لَيْسَ من الْجَبْر فِي شَيْء انما هُوَ الخذلان وسلب الالطاف أَلا ترى أَن من هداه الله تَعَالَى فَلم يَقْهَرهُ وَلم يجْبرهُ على الْهدى فَكَذَلِك من أضلّهُ فَلم يَقْهَرهُ وَلم يجْبرهُ على الضلال انما هُوَ التَّيْسِير للعسرى عُقُوبَة كَمَا ان الْهدى هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 التَّيْسِير لليسرى مثوبة وَأما من خَالف فِي هَذَا فُلَانُهُ لم يستحسن ارادة وُقُوع الذَّنب عُقُوبَة مَعَ كَرَاهَة الذَّنب نَفسه وَقد تقدم القَوْل فِيهِ مُسْتَوْفِي فِي الْوَجْه الثَّالِث من المبحث الثَّالِث الْخلاف الرَّابِع خلاف من يُخَالف فِي تَجْوِيز ارادة وُقُوع الذَّنب مَعَ كَرَاهَة الْوَاقِع ليظْهر كثير من اسمائه تَعَالَى الْحسنى مثل اسمائه تَعَالَى الْعَفو الغفور التواب الْوَاسِع الْحَلِيم الرَّحْمَن الرَّحِيم وَقد صحت النُّصُوص النَّبَوِيَّة بِمَا يَقْتَضِي هَذَا كَمَا خرجه مُسلم عَن أبي أَيُّوب الانصاري وَعَن أبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون كي يغْفر لَهُم وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة كي يَسْتَغْفِرُوا فَيغْفر لَهُم وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة غَيرهمَا كَمَا ذكرته فِي العواصم وَذكره الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَبعد وُرُود السّمع بِهَذَا فالحجة على من ادّعى قبحه لَان قبحه لَا يعلم بِالضَّرُورَةِ بالاجماع فَإِن الاجماع انما ينْعَقد على مثل قبح الْكَذِب الضار وَحسن الصدْق النافع أما مثل الْكَذِب النافع والصدق الضار فانه استدلالي والسمع فِيهِ مقدم مَقْبُول الْخلاف الْخَامِس قَالَ أهل السّنة وَأَبُو هَاشم وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة يجوز أَن يَبْتَلِي الله تَعَالَى العَبْد فِي أول أَحْوَال تَكْلِيفه قبل أَن يَعْصِي وَيسْتَحق الْعقُوبَة بِمَا يعلم انه يَعْصِي عِنْده مُخْتَارًا لحكمة لَا يعلمهَا الا هُوَ كَمَا يحسن ان يكلفه وَهُوَ يعلم ان يَعْصِي حِينَئِذٍ وَلَو لم تقع مِنْهُ الْمعاصِي وَلم يفرقُوا بَينهمَا وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو عَليّ الجبائي من الْمُعْتَزلَة وَغَيره وَهَذِه مسَائِل الْخلاف بَين أبي عَليّ وَبَين وَلَده أبي هَاشم فانه فِي هَذِه وَأَصْحَابه مَعَ أهل السّنة وَالْمرَاد بِهَذَا التجويز انه لَو ورد بِهِ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَجب قبُوله وَلَو ورد بِهِ ظَاهر يحْتَمل التَّأْوِيل لم يجب تَأْوِيله بل لم يحل وَقيل فِي هَذَا مَا دلّ عَلَيْهِ السّمع والسمع أقوى الادلة فِي مثل هَذِه المحتملات فِي الْعُقُول وَقيل انه لَا يجوز فِي هَذِه الْحَال من الله تَعَالَى الا التَّخْلِيَة بَين العَبْد وَبَين نَفسه بعد التَّمْكِين وَمعنى التَّخْلِيَة ترك اللطف والخذلان مَعًا وَقد دلّ السّمع على ان العَبْد لَا يخْتَار حِينَئِذٍ إِلَّا الْمعْصِيَة وَدلّ على ان فعل اللطف حِينَئِذٍ فضل من الله يؤتيه من يَشَاء كَمَا يخْتَص برحمته من يَشَاء بِالنَّصِّ وَذَلِكَ التَّخْصِيص لحكمة بَالِغَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَيدل على ذَلِك قَول يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} بل قَول الله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {فلولا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لكنتم من الخاسرين} وَأَبُو عَليّ يحمل ذَلِك فِي الِابْتِدَاء على فَضله الْعَام بخلقه وروى الْحَاكِم فِي تَفْسِير سُورَة (ص) من حَدِيث ابْن عَبَّاس ان سَبَب ذَنْب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام انه قَالَ اللَّهُمَّ انك تعلم انه لَا يمْضِي سَاعَة من ليل أَو نَهَار الا وَهُوَ يصعد اليك عمل صَالح من آل دَاوُد يَعْنِي نَفسه فعتب الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ أما علمت انه لَوْلَا اعانتي لَك الحَدِيث وروى نَحْو ذَلِك فِي سَبَب ذَنْب آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَرُوِيَ الْحَاكِم وَأحمد من حَدِيث زيد بن أَرقم مَرْفُوعا وان تَكِلنِي الى نَفسِي تَكِلنِي الى ضَيْعَة وَضعف وذنب وخطيئة وَقَالَ الْحَاكِم فِيهَا كلهَا انها صِحَاح وَالْقُرْآن يدل على ذَلِك ويغني عَنهُ كَمَا تقدم وَهَذِه التَّخْلِيَة فِي الِابْتِدَاء لَا تسمى اضلالا لقَوْله تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} وَلقَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} كَمَا تقدم وانما تسمى ابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَالله تَعَالَى لم يقل انه لَا يَبْتَلِي بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين انما قَالَ {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} كَمَا انه لَا يعذب غَيرهم فالاضلال من جنس الْعقَاب وَقد دلّ السّمع على ان الله خلق الْخلق فِي الِابْتِدَاء على الْفطْرَة نعْمَة وَرَحْمَة للأوليائه ونقمة وَحجَّة على اعدائه كَمَا خلقهمْ كَذَلِك فِي الْخلق الأول فِي عَالم الذَّر كَمَا جَاءَ فِي الاحاديث الَّتِي لَا مَانع من صِحَّتهَا وَقد أوضحتها فِي كتاب العواصم فِي الْوَهم الثَّلَاثِينَ مِنْهُ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَله أسلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} ثمَّ دلّ الْقُرْآن على ان الله تَعَالَى يبْدَأ باللطف ثمَّ يُعَاقب من يَشَاء مِمَّن لم يقبل اللطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} وَقَالَ {ثمَّ السَّبِيل يسره} وَقَالَ {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَان ذَلِك {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يضرعون ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء فأخذناهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ} وَدلّ السّمع أَيْضا على انه تَعَالَى يبتدي بالاحسان من غير اسْتِحْقَاق وَلَا يبتدي بالعقوبة من غير اسْتِحْقَاق بل يُمْهل بعد الِاسْتِحْقَاق وَيحكم ويكرر الْحجَّة ويعذر وَيَعْفُو عَن كثير كَمَا قَالَ تَعَالَى ثمَّ ينْتَقم مِمَّن يَشَاء بالحكمة الْبَالِغَة وَيَعْفُو عَمَّن يَشَاء بِالرَّحْمَةِ الواسعة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} والمصيبة فِي الدّين أعظم المصائب وَقد جَاءَ ذَلِك فِي أُمُور الدّين مَنْصُوصا فِي قَوْله {فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} {وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} وَقَوله {وأضله الله على علم} أَي علم باستحقاقه الاضلال وأصرح من ذَلِك قَوْله {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} فَمَا كَانَ على جِهَة الْعقُوبَة لم يَفْعَله الله بِهِ ابْتِدَاء قبل الِاسْتِحْقَاق وَمَا كَانَ على جِهَة الِابْتِدَاء الَّذِي لَا يَصح التَّكْلِيف إِلَّا بِهِ فعله وَمَا زَاد على ذَلِك مِمَّا يَقع عِنْده الْمعاصِي فَهُوَ مَسْأَلَة الْخلاف فان قيل إِن القَوْل ان العَبْد يضل فِي الِابْتِدَاء بِاخْتِيَارِهِ بِغَيْر اضلال من الله يُؤَدِّي إِلَى أَنه يملك لنَفسِهِ نفعا وضرا على جِهَة الِاسْتِقْلَال وَهَذَا مِمَّا يمنعهُ السّمع فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن الأول أَنه لَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك إِلَّا لَو قُلْنَا أَنه الَّذِي خلق نَفسه فسواها فألهمها فجورها وتقواها وَخلق قدرته وتمكنه وَقدر لنَفسِهِ أَفعاله ومبدأه ومصيره وهداها النجدين ومكنها الْأَمريْنِ وَأما إِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 كَانَ ذَلِك فعل الله فَمن أَيْن لَهُ الِاسْتِقْلَال وَللَّه الْخلق وَالْأَمر واليه يرجع الْأَمر كُله وَلَكِن الله قد اسْتثْنى من تعجيز الْعباد حَيْثُ قَالَ {قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله} وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء هُوَ الَّذِي رددنا بِهِ قَول الجبرية حَيْثُ احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} فانهم تمسكوا بِنَفْي الْمَشِيئَة ونسوا الِاسْتِثْنَاء وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك فَلَا تؤاخذني فِيمَا لَا أملك وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي} وَذَلِكَ مثل كوننا لَا نعلم إِلَّا مَا علمنَا يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وَلم يؤد إِلَى اسْتِقْلَال العَبْد فِي الْعلم فَلَا بِدعَة فِي القَوْل بِأَن العَبْد يملك بعض الامور بِتَمْلِيك الله لَهُ ذَلِك لاقامة حجَّته أَو سَعَة رَحمته أَو خَفِي حكمته وَالْقطع بِأَن ذَلِك محَال غير مُمكن يُؤَدِّي إِلَى تعجيز الله عَنهُ وَرُجُوع الْقَهْقَرِي من مَذْهَب السّنة وَالْمُسْلِمين فَانْظُر إِلَى الغلو فِي الْأُمُور كَيفَ يَنْتَهِي إِلَى الْوُقُوع فِيمَا كَانَ الْفِرَار مِنْهُ فان السّني إِنَّمَا يحاول الْبَقَاء على تَعْظِيم الْقُدْرَة لله عز وَجل فاذا غلا فِي مَذْهَب رَجَعَ إِلَى تعجيز الله الَّذِي كَانَ يشنع بِهِ على المبتدعة فَصَارَ هَذَا التَّمْلِيك من الله تَعَالَى لمن يَشَاء من عباده من جملَة أَحْكَام ملكه وعطاياه الَّتِي لَا مَانع لما أعْطى وَلَا معطى لما منع على معنى مَا كَانَ يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ لنا من أمرنَا مَا شِئْنَا وَإِنَّمَا نَأْخُذ مَا أعطينا فَجعل أَخذهم مَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى من فعلهم ليَكُون فرق بَين الْحَيَوَان الْمُخْتَار والجماد المسخر وَهُوَ فرق مَعْلُوم ضَرُورَة وعقلا وَشرعا مدرك بالفطرة الَّتِي فطر الله الْخلق وَلنْ تَجِد لسنة تبديلا فنسأل الله الِاعْتِدَال وَترك بدع الْجَبْر والاعتزال وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل الْوَجْه الثَّانِي إِن العَبْد لَا يسْتَقلّ فِي الْخَيْر لقَوْل الله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا} وَلِحَدِيث أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ من وجد خيرا فليحمد الله وأمثال ذَلِك كثير وَأما الشَّرّ فَسَيَأْتِي تَحْقِيقه فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال وَالظَّاهِر أَن اللطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 يَنْقَسِم فَمِنْهُ لطف هِدَايَة وَمِنْه لطف حجَّة وازاحة عذر فَمن وضح لَهُ فِي هَذِه الْمرتبَة الْخَامِسَة من مواقع الْخلاف شَيْء قَالَ بِهِ وَإِلَّا فالموقف مَعَ الْقطع بِصِحَّة الْقَوَاعِد الثَّلَاث وَهِي عُمُوم قدرَة الله تَعَالَى ونفوذ مَشِيئَته وَكَمَال حجَّته بالتمكين وَالْبَيَان وَبِالْجُمْلَةِ فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة على العصاة فِي الِابْتِدَاء والانتهاء علمنَا تفاصيلها أَو لم نعلمها مَعَ مَا لَهُ عَلَيْهِم من النعم وَله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمِنَّة الْبَالِغَة على المطيعين فِي الِابْتِدَاء والانتهاء علمنَا تفاصيلها أَو لم نعلمها مَعَ تجاوزه عَنْهُم من الذُّنُوب وكل هَذَا مَعْلُوم من الدّين وَإِنَّمَا نسعى فِي تَقْرِيره فِي الْقُلُوب وَزِيَادَة الْيَقِين بِهِ وَنفي الشُّبُهَات عَنهُ وَرفع الْخُصُومَات فِيهِ وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وَاعْلَم أَن طَرِيق الْمُتَكَلِّمين فِي مثل هَذِه المشكلات المسارعة إِلَى الْقطع بِأحد الِاحْتِمَالَيْنِ وان خَفِي الامر وَالْأولَى عِنْدِي عدم المسارعة إِلَى ذَلِك وَعدم الجراءة عَلَيْهِ لما ذكره الْمُؤَيد عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْخَطَأ فِي ذَلِك قد يَنْتَهِي إِلَى حد الْكفْر وَالْخُلُود فِي الْعَذَاب وَهَذَا خطر عَظِيم لَا يُسَارع إِلَى مَا يحْتَملهُ أدنى احْتِمَال عَاقل فان كَانَ لابد من اخْتِيَار كَانَ القَوْل الْمُخْتَار أَكثر الاقوال ملاءمة للسمع وأكثرها ثَنَاء على الله تَعَالَى وأبعدها من المتشابهات لقَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَقد ذكرت هَذَا غير مرّة الْبَحْث التَّاسِع فِي الْفرق بَين الْمحبَّة والرضى والارادة والمشيئة فَاعْلَم أَن الْفرق بَينهمَا فِي اللُّغَة وَاضح فالمحبة والرضى نقيض الْكَرَاهَة والارادة والمشيئة مَعْنَاهُمَا وَاحِد وَهُوَ مَا يَقع الْفِعْل بِهِ على وَجه دون وَجه كَمَا تقدم فِي أول المباحث بَيَان ذَلِك أَن الصَّائِم العاطش يحب شرب المَاء فِي حَال صَوْمه بالطبيعة وَلَا يُريدهُ بالعزيمة وَنَحْو ذَلِك فاذا عرفت ذَلِك فَاعْلَم أَن الْمحبَّة قد يعبر عَنْهَا بِالْمَشِيئَةِ والارادة كَمَا تقدم قَول الشَّاعِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 (يُرِيد الْمَرْء أَن يُعْطي مناه ... ويأبى الله إِلَّا مَا أَرَادَ) أَي يحب أَن يعْطى مناه فَتَأمل ذَلِك لتعرف موَاضعه حَيْثُ يتعارض السّمع فانه قد تقدم قَول الشهرستاني أَن الارادة الْمَحْضَة الَّتِي لَيست بِمَعْنى الْمحبَّة لَا تعلق بِأَفْعَال الْغَيْر وَإِنَّمَا تعلق من كل مُرِيد بِأَفْعَال نَفسه وَأَن الارادة الَّتِي تعلق بِفعل الْغَيْر هِيَ الْمحبَّة لَكِن أهل الْكَلَام من الأشعرية والمعتزلة لَا يجيزونها على الله تَعَالَى وَأهل السّنة والمتكلمون مِنْهُم كَابْن تَيْمِية وَمن تَابعه يجيزونها مُجَرّدَة من نقائصها المختصة بالمخلوقين كَسَائِر الصِّفَات صِفَات الله تَعَالَى اتبَاعا مِنْهُم لنصوص الْكتاب وَالسّنة وَالسَّلَف وَقد تقدم طَرِيق أهل السّنة فِي هَذَا وَأَمْثَاله عِنْد الْكَلَام على الرَّحْمَن الرَّحِيم وَسَائِر الْأَسْمَاء الْحسنى وَإِن مُجَرّد الِاشْتِرَاك فِي لفظ مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الْمَعْنى لَا يَقْتَضِي التشيبه وَقد تقدم كَلَام الْغَزالِيّ فِي ذَلِك الْمَنْقُول من المعصد الْأَسْنَى وَهُوَ كَلَام مجود وأجود مِنْهُ كَلَام ابْن تَيْمِية فِي ذَلِك وَمِثَال ذَلِك صفة الْوُجُود والحي فانهما يطلقان على الله تَعَالَى على صفة الْكَمَال الَّذِي لَا يسْتَلْزم صفة نقص وعَلى عباده على وُجُوه تَسْتَلْزِم جَوَاز الفناء وَالْمَوْت وَالْمَرَض وَاعْتِرَاض الْآفَات والعلل وَلم يسْتَلْزم ذَلِك تَشْبِيها وَكَذَلِكَ محبَّة الله تَعَالَى وَرَحمته وَسَائِر مَا ورد مَنْصُوصا فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام سلف هَذِه الْأمة الصَّالح وشاع بَينهم وذاع وَكثر وَاسْتمرّ من غير تَأْوِيل وَلَا تحذير من اطلاقه بِغَيْر قرينَة الله سُبْحَانَهُ أعلم وَأما مَوضِع الِاحْتِيَاط فِي هَذِه المباحث فانه مُلَاحظَة إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله تَعَالَى وَنفي صِفَات النَّقْص بتبين وَفِي الْوَقْف حَيْثُ يخفى فَمن صِفَات الْكَمَال الْبَيِّنَة الْمَعْلُومَة من الدّين وَمن إِجْمَاع الْمُسلمين أَن الله على كل شَيْء قدير وَإِن مَا شَاءَ كَانَ وانه يهدي من يَشَاء وَأَن لَهُ الْحجَّة الدامغة وَالْحكمَة الْبَالِغَة وَمن صِفَات النَّقْص المنفية عَنهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم أَنه لَا يحب الْفساد وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَلَيْسَ بظلام للعبيد وَلَا يُرِيد ظلما للعباد وَلَا يُرِيد ظلما للْعَالمين كَمَا قَالَ فِي ذَلِك كُله وانه لم يخلق السَّمَوَات والارض بَاطِلا وَلَا لعبا وَلَا عَبَثا بل خلق ذَلِك وَغَيره بِالْحَقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وللحق وَيَقْضِي الْحق وَلذَلِك تسمى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْحَقِّ وَكَانَ قَوْله الْحق وَحكمه الْحق فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحق اسْما وَمعنى وَقَضَاء وقصصا وفعلا وقولا وخلقا وأمرا وعدلا وفصلا وَابْتِدَاء وانتهاء وَدُنْيا وآخرة كل ذَلِك حَقِيقَة لَا مجَازًا وَلَا تخبيلا وَلَا اسْتِعَارَة وَلَا مُبَالغَة وتفاصيل ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه الحاسبون وَلَا يجمعه الكاتبون وَلَا يُحِيط بِهِ الراسخون وَلَا يبلغهُ العارفون ولايستقصيه الحامدون وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُبْحَانَكَ لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك فَهَذَا كَلَام سيد ولد آدم وَالَّذِي تقدم للشفاعة حِين تَأَخّر من تقدم فَكيف أَيهَا الْعُقَلَاء يكون هَذَا كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ إمامنا وقدوتنا ومعلمنا وَرَسُوله ثمَّ نتأول ممادح الرب الحميد الْمجِيد نَحن ونقول أَنَّهَا تَقْتَضِي بحقائقها الذَّم وَهُوَ الَّذِي لَا أحد أحب اليه الْمَدْح مِنْهُ وَلذَلِك مدح نَفسه فَاتَّقُوا الله وتأدبوا مَعَ كتب الله وَلَا تضربوا بَعْضهَا بِبَعْض وَلَا تبَادرُوا إِلَى الْقدح فِي ظواهرها والتحكم فِي تأويلاتها وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هادينا الْجَمِيع وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَهَذَا آخر الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الارادة ومباحثها على حسب هَذَا الْمُخْتَصر وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَيتَعَلَّق بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة الْكَلَام فِي الْقَضَاء وَالْقدر وَأَنه لَا يدل على الْجَبْر بِالنَّصِّ والاجماع وَقد كثرت الاحاديث فِي وجوب الايمان بِهِ كَثْرَة توجب التَّوَاتُر فقد ذكرت مِنْهَا فِي العواصم أَكثر من سبعين حَدِيثا وَذكرت مَعَ ذَلِك نَحْو مائَة وَخمسين حَدِيثا فِي صِحَة ذَلِك مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذكر وجوب الايمان بِهِ وَذكرت مِمَّا ورد من كتاب الله تَعَالَى نَحْو مائَة آيَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} وَقَوله تَعَالَى {وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار} وَقَوله تَعَالَى {إِلَّا امْرَأَته قدرناها من الغابرين} وَفِي آيَة أُخْرَى {قَدرنَا إِنَّهَا لمن الغابرين} وَقَوله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 {كَانَ على رَبك حتما مقضيا} وَقَوله تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} وَقَوله تَعَالَى {وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَقَوله {قضي الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان} وَقَوله فِي هود وَفِي السَّجْدَة {لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَقَوله {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} وَقَوله {وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء} وَقَوله تَعَالَى {ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} وَقَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم} وأمثال ذَلِك وَإِنَّمَا المهم من ذَلِك معرفَة معنى الْقَضَاء وَالْقدر وَأَن أحدا لم يقل أَن مَعْنَاهُمَا هُوَ الْجَبْر وسلب الِاخْتِيَار وَكَيف يكون كَذَلِك وَقد ثَبت تعلق الْقَضَاء وَالْقدر بِأَفْعَال الله تَعَالَى كَمَا قَالَ {كَانَ على رَبك حتما مقضيا} وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُخْتَار بِغَيْر شكّ وَلَا خلاف وَاعْلَم أَن أَكثر الاخبار وأقوال السّلف تدل على أَن الْقَضَاء يرجع إِلَى كِتَابَة مَا سبق فِي علم الله تَعَالَى وتيسير كل لما خلق لَهُ على مَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} على مَا مضى تَفْصِيله فِي الْخلاف الْخَامِس من المبحث الثَّامِن فِي الارادة وَقد ذكر الطَّبَرِيّ أَن الْجَبْر هُوَ الاكراه على الشَّيْء كالمسحوب على وَجهه وَأَن أهل الْمعاصِي يأتونها برغبتهم اليها وهم مستلذون بهَا بل مِنْهُم من يُقَاتل من دَفعه عَنْهَا وَهَذَا نقيض الْجَبْر فِي اللُّغَة وَبطلَان الْجَبْر مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ على الصَّحِيح وَهُوَ قَول أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة وَأكْثر أهل السّنة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وَسَيَأْتِي فِي مَسْأَلَة الافعال بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 تَعَالَى ثمَّ أَنه ورد النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْقدر وَفِي أَحَادِيث عرفت مِنْهَا عشرَة وَلَيْسَ فِيهَا شَيْء مُتَّفق على صِحَّته وَلَا خرج البُخَارِيّ وَلَا مُسلم مِنْهَا شَيْئا لَكِن خرج أَحْمد بن حَنْبَل مِنْهَا حَدِيثا من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده وَهِي طَرِيق مُخْتَلف فِيهَا اخْتِلَافا كثيرا وَهُوَ يصلح مَعَ الشواهد وَخرج التِّرْمِذِيّ مِنْهَا حَدِيثا عَن أبي هُرَيْرَة وَقَالَ غَرِيب وَفِي سَنَده صَالح الْمزي لَكِن خرج الْبَزَّار لَهُ اسنادين آخَرين قَالَ الهيثمي رجال أَحدهمَا رجال الصَّحِيح غير عمر بن أبي خَليفَة وَهُوَ ثِقَة وَإِن لم يكن من رجال الصَّحِيح وَخرج الطَّبَرَانِيّ فِي المعجمين الاوسط وَالْكَبِير وَالْحَاكِم حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك وَقَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرطهمَا وَلَا نعلم لَهُ عِلّة قلت رَوَاهُ السُّبْكِيّ مَوْقُوفا وَلم يذكر رَفعه وَإِن سلم من الاعلال بذلك كَانَ أصلحها اسنادا وَمعنى ذَلِك إِذا صَحَّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى التحذير من مجاراة المبتدعة فِي الْقدر والمراء بِغَيْر علم على وَجه يُؤَدِّي إِلَى إثارة الشَّرّ وَالشَّكّ كَمَا هُوَ ظَاهر حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأخر الْكَلَام فِي الْقدر لشرار أمتِي فِي آخر الزَّمَان فَالَّذِي أخر هُوَ مَا ذكرته فَأَما الْخَوْض فِيهِ على جِهَة التَّعَلُّم والتعرف لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة ثمَّ الايمان بِهِ بعد مَعْرفَته على الْوَجْه الْمَشْرُوع فان هَذَا لم يُؤَخر لشرار الامة بل قد تَوَاتر أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخاضوا فِي مَعْرفَته وَفِي وجوب الايمان بِهِ فَلم يزجرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك الْقدر وَلم يتْرك الْجَواب عَلَيْهِم بِالْقدرِ الْوَاجِب على بَيَان ذَلِك وَقد احْتج ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد على ذَلِك بمحاجة آدم ومُوسَى وَهُوَ من أثبت الاحاديث وَأَصَح مَا قيل فِي مَعْنَاهُ أَن لوم مُوسَى لآدَم كَانَ على الْخُرُوج من الْجنَّة واخراجه ذُريَّته مِنْهَا على جِهَة الأسف على فَوَات هَذِه النِّعْمَة وَتلك فِي الْحَقِيقَة مُصِيبَة من فعل الله قدرهَا بِسَبَب ذَنْب آدم عَلَيْهِ السَّلَام لحكمته فِي ذَلِك وَلما قد علمه وقضاه من خلَافَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الأَرْض وَإِلَّا فذنب آدم عَلَيْهِ السَّلَام صَغِير لِأَنَّهُ نَبِي مَعْصُوم عَن الْكَبَائِر وَقد تَابَ أَيْضا والمذنب التائب لَا تجب عَلَيْهِ الْعقُوبَة بِالْخرُوجِ من دَاره وَلَا بِغَيْر ذَلِك فاحتج آدم بسبق الْقَضَاء فِي الْخُرُوج الْحسن لِأَنَّهُ من فعل الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَلم يحْتَج بِهِ على حسن ذَنبه أبدا وَهُوَ الَّذِي قَالَ {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وَقد أجمع أهل الاسلام على أَن الْقدر يتعزى بِهِ أهل المصائب وَلَا يحْتَج بِهِ فِي المعائب فَهَذَا معنى الحَدِيث وَوَجهه وَقد بسط فِي مَوْضِعه وَحَدِيث الْقَدَرِيَّة مجوس هَذِه الْأمة ضَعِيف عِنْد الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام وَعند الْمُحدثين وَقَول الْحَاكِم أَنه صَحِيح على شَرطهمَا إِن صَحَّ سَماع أبي حَازِم مَعَ ابْن عمر شَره فِي التَّصْحِيح فانه لم يَصح ذَلِك وَتَصْحِيح كل ضَعِيف على شُرُوطه مَعْدُوم وَإِن فسر الْقدر بِالْعلمِ وَنَحْوه فالمذموم من نَفَاهُ وَإِن فسر بالجبر والاكراه فالمذموم من أثْبته وَقد بسط هَذَا فِي مَوْضِعه القَوْل فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال وَهِي مَسْأَلَة خلية عَن الْآثَار وَإِنَّمَا خلت عَنْهَا لِأَن لَهَا طرفين أَحدهمَا جلي وَكَانُوا لَا يسْأَلُون عَن الْجَلِيّ لجلائه وَالْآخر خَفِي وَكَانُوا لَا يتعرضون لأمثاله تَارَة لعدم الْحَاجة اليه وَتارَة لعدم الْوُقُوف عَلَيْهِ وَلِأَن مَا لَا يُوقف عَلَيْهِ لَا يحْتَاج اليه وهما داخلان فِي الْبِدْعَة الَّتِي نهوا عَنْهَا وَكَانُوا أبعد النَّاس مِنْهَا وَلِأَن الِاشْتِغَال بتقرير قَوَاعِد الاسلام وَجِهَاد أعدائه الطغام وَعبادَة الْملك العلام وأمثال هَذِه الْمُهِمَّات الْعِظَام كَانَت قد استغرقت السّلف رَضِي الله عَنْهُم وَأعَاد علينا من بركاتهم وردنا عَن الزيغ والغلو إِلَى الِاقْتِدَاء بهم وَأَنا أذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى طرفا صَالحا من بَيَان هذَيْن الطَّرفَيْنِ وَبَيَان أَقْوَال النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لفائدتين فِي الدّين احداهما معرفَة مَا ابتدع فِي ذَلِك من الْأَقْوَال حَتَّى يجْتَنب عَن بَصِيرَة فَرُبمَا ظن بعض النَّاس فِي بعض الْبدع أَنَّهَا سنة لعدم اهتمامه بتمييز السّنة من الْبِدْعَة وَعدم تفرغه أَو صلاحيته للبحث عَن ذَلِك وثانيتهما ليترك الْجَاهِل التَّكْفِير من غير بَصِيرَة حِين يعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أَنه لم يحط علما يَقِينا بماهية الاقوال أَو يحكم بِعلم حِين يتَحَقَّق ذَلِك وَالله الْمُوفق وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أفضل النَّاس أفضلهم عملا إِذا فقهوا فِي دينهم وأعلمهم أبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعلم وَإِن كَانَ يزحف على أسته الحَدِيث خرجه النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعَمَل وَإِن كَانَ يزحف على أسته الحَدِيث خرجه الْحَاكِم فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْحَدِيد وَقَالَ صَحِيح الاسناد وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالله سُبْحَانَهُ أعلم فَأَما الطّرف الْجَلِيّ الَّذِي لم يبحثوا عَنهُ لجلاله فَهُوَ أَن لنا أفعالا متوقفة على هَمنَا بهَا ودواعينا اليها واختيارنا لَهَا وَلذَلِك شَذَّ الْمُخَالف لذَلِك من الجبرية وَنسب إِلَى مُخَالفَة الضَّرُورَة وَلم يُخَالف فِي ذَلِك أحد من أهل السّنة وَلَا من طوائف الأشعرية بل نسب الرَّازِيّ الجبرية إِلَى الْبَرَاءَة من ذَلِك وانما أَرَادَ من تسمى باسم الجبرية من الاشعرية وَهُوَ شَيْء يخْتَص بِهِ الرَّازِيّ وَحده فِيمَا علمت فانه يصحح الْجَبْر فِي كثير من عباراته ويعنى بِهِ وجوب وُقُوع الرَّاجِح من الْفَاعِل الْمُخْتَار وَصرح بِبَقَاء الِاخْتِيَار مَعَ تَسْمِيَته جبرا وَأما الْخَفي الَّذِي عظم فِيهِ الِاخْتِلَاف ودق وَكثر فَهُوَ معرفَة حَقِيقَة أَفعَال الْعباد على جِهَة التَّعْيِين والتمييز لَهَا عَن سَائِر الْحَقَائِق وَقد اخْتلف فِي ذَلِك على أَرْبَعَة عشر قولا أَو يزِيد للمعتزلة مِنْهَا ثَمَانِيَة وللسنية والاشعرية أَرْبَعَة وللجبرية قَولَانِ وَهِي هَذِه مسرودة الأول من أَقْوَال الْمُعْتَزلَة أَن الذوات كلهَا ثَابِتَة فِي الْعَدَم أزلية غير مقدورة لله تَعَالَى وَلَا بخلقه الاجسام مِنْهَا والاعراض وَذَوَات أَفعَال الله تَعَالَى وَذَوَات أَفعَال الْعباد أَعنِي ذَوَات الحركات والسكنات وَأَنَّهَا فِي الْعَدَم وَالْأَزَلُ ثَابِتَة ثبوتا حَقِيقِيًّا فِي الْخَارِج ثبوتا يُوجب تماثلها فِيهِ واختلافها عَنهُ وَأَن الْمَقْدُور لله تَعَالَى ولعباده أَمر آخر غير الذَّات وَلَا وجودهَا وَلَا مجموعهما بل جعل الذَّات على صفة الْوُجُود وَقد ادّعى الرَّازِيّ وَغَيره من أَصْحَاب أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة أَنه غير مَعْقُول فانه لَا يتَصَوَّر إِلَّا برده إِلَى أحد الْأُمُور الثَّلَاثَة وَهُوَ أَيْضا يبتني على ثُبُوت الذوات فِي الازل والعدم وعَلى الْفرق بَين الثُّبُوت والوجود وعَلى ثُبُوت الدَّلِيل الْقَاطِع على أَن الْوُجُود أَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 حَقِيقِيّ زَائِد على الْمَوْجُود وعَلى أَن الأكوان من الْحَرَكَة والسكون ذَوَات حَقِيقِيَّة لَا صِفَات اضافية فِي ذَلِك كُله نزاع طَوِيل كثير دَقِيق بَين الْعُقَلَاء جملَة تمّ بَين الْمُسلمين ثمَّ بَين الْمُعْتَزلَة وَقد جود أَبُو الْحُسَيْن مِنْهُم وَأَصْحَابه رد ذَلِك على أَصْحَابهم من البهاشمة فِي كتبهمْ الثَّانِي لَهُم أَيْضا أَن فعل الله تَعَالَى وَفعل الْعباد هُوَ صفة الْوُجُود لَا ذَات الْمَوْجُود وَهَؤُلَاء مثل الْأَوَّلين إِلَّا أَنهم اشْتَركُوا فِي اثبات الامر الرَّابِع الَّذِي عده خصومهم محالا فعينوا مَقْدُور الْقَادِر وَبَقِي عَلَيْهِم سَائِر مَا يرد على أَصْحَابهم وَقد ألزموا جَمِيعًا أَن الله تَعَالَى لَا يخلق شَيْئا قطّ على أصولهم لِأَن الشَّيْء عِنْدهم هُوَ الثَّابِت فِي الْأَزَل والقدم وَصفَة الْوُجُود عِنْدهم لَيست شَيْئا لأَنهم قضوا بالأزلية فِي الْقدَم للشَّيْء وللذات ولصفاتها الذاتية وَلم يبْق إِلَّا صفاتها المقتضاة وَهِي التحيز ثمَّ اخْتلفُوا فِيهِ فَمنهمْ من قضى أَنه ثَابت فِي الْأَزَل أَيْضا حَكَاهُ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى وَابْن متويه فِي التَّذْكِرَة وَلم يقبحه على قَائِله مِنْهُم وَالْقَائِل بِهِ مِنْهُم جرى على مُقْتَضى دليلهم الْعقلِيّ وَذَلِكَ لِأَن الصّفة المقتضاة لَا تخلف عَن مقتضيها وتخلفها عَنهُ محَال أَلا ترى أَن صِفَات القادرية والعالمية وَنَحْوهَا لما كَانَت مقتضاة عِنْدهم من الصّفة الاخص لم تخلف عَنْهَا كَانَت غير حَادِثَة فَكَذَلِك هَذَا لكِنهمْ خَافُوا أَن يتفاحش الامر هُنَا بِلُزُوم قدم الْعَالم جهارا فاعتذروا بِأَن هَذَا التحيز لَا يظْهر إِلَّا بِشَرْط الْوُجُود والوجود بالفاعل وَهُوَ الله تَعَالَى فقد زَعَمُوا أَن التحيز فِي الاجسام لَيْسَ بِهِ تَعَالَى فَلذَلِك لَزِمَهُم أَن الله غير خَالق لشَيْء وَلَا مُؤثر فِيهِ وَقد حاول ابْن متويه الْجَواب عَن هَذَا فِي تَذكرته بِأَن خلق الشَّيْء واحداثه هُوَ إيجاده وَالله هُوَ الَّذِي حصل لَهُ صفة الْوُجُود وَهَذَا الْجَواب غير مخلص لِأَن معنى الالزام ان اتصاف الشَّيْء عِنْدهم بِأَنَّهُ مُحدث ومخلوق على قواعدهم مجَاز لَا حَقِيقَة لِأَن الشَّيْء عِنْدهم ثَابت فِي الازل غير مَقْدُور لله عز وَجل وَإِنَّمَا الْمَخْلُوق الْمَقْدُور حُدُوثه ووجوده وليسا بِشَيْء عِنْدهم لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا شَيْئا كَانَا ثابتين فِي الازل وَذَلِكَ تَصْرِيح بقدم الْعَالم فَلذَلِك قضوا أَنَّهُمَا ليسَا بِشَيْء وَلذَلِك صرح الزَّمَخْشَرِيّ فِي أساس البلاغة أَن الله لَا يُسمى خَالِقًا إِلَّا مجَازًا وكل هَذَا مِمَّا يعترفون بِهِ ويذكرونه فِي مصنفاتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَحكى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ عَنْهُم ابْن المطهر الْحلِيّ فِي شرح مُخْتَصر مُنْتَهى السؤل فِي الْكَلَام على الِاشْتِقَاق لاسم الْفَاعِل مِمَّا لم يقم بِهِ وَأما قَوْلهم ان ثُبُوت الْأَشْيَاء فِي الْأَزَل حَقِيقِيّ فِي الْخَارِج لَا فِي الذِّهْن فَذكره مِنْهُم الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي الْفَصْل الرَّابِع من الصِّفَات الذاتية وَهُوَ عَنْهُم صَحِيح وكلماتهم توافقه لَكِن بِغَيْر هَذِه الْعبارَة الثَّالِث لَهُم أَنه لَا فعل للْعَبد إِلَّا الارادة قَالَه الجاحظ وثمامة بن الأشرس الرَّابِع لَهُم أَن أَفعَال الْعباد حوادث لَا مُحدث لَهَا وَهَذَا وَالَّذِي قبله مَعَ غرابتهما معروفان فِي كتب الْمُعْتَزلَة من روايتهم عَن شيوخهم لَا من رِوَايَة خصومهم الْخَامِس أَن أَفعَال الْعباد لَا تتعدى مَحل الْقُدْرَة والمتعدي فعل الله تَعَالَى وَإِنَّهَا حركات كلهَا وَأَن السّكُون حَرَكَة اعْتِمَاد والعلوم والارادات حَرَكَة النَّفس حَكَاهُ الشهرستاني فِي الْملَل والنحل عَن النظام قَالَ وَلم يرد بالحركة النقلَة وَإِنَّمَا الْحَرَكَة عِنْده مُبْتَدأ كل تغير وَهُوَ قَول المطرفية من الزيدية دون الحركات السَّادِس مثل الَّذِي قبله لَكِن قَالُوا أَن المتولدات أَفعَال لَا فَاعل لَهَا السَّابِع مثل الثَّالِث أَنه لَا فعل للْعَبد إِلَّا الارادة لَكِن قَالُوا فِيمَا عدا الارادة أَنَّهَا حدث لَا مُحدث لَهَا وَأهل الثَّالِث نسبوا ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى فهم كغلاة الاشعرية الَّذين يسميهم الرَّازِيّ جبرية أَعنِي أهل القَوْل الثَّالِث من الْمُعْتَزلَة وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ السَّادِس وَالسَّابِع حَكَاهُمَا الشهرستاني عَن ثُمَامَة أَيْضا فَكَانَ لَهُ أَقْوَال ثَلَاثَة الثَّامِن قَول أبي الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَابْن تَيْمِية وَأَصْحَابه أَن أَفعَال الْعباد هِيَ الاكوان أَعنِي الْحَرَكَة والسكون والاجتماع والافتراق وَأَنَّهَا لَيست أَشْيَاء حَقِيقِيَّة وَأَنَّهَا لَا ثُبُوت لَهَا وَلَا لشَيْء من الاجسام فِي الازل والعدم وَإِن الثُّبُوت والوجود شَيْء وَاحِد وَكَذَلِكَ الازل والقدم وَهُوَ مَذْهَب أَكثر أهل الْبَيْت قَالَ الشَّيْخ مُخْتَار وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْمَشَايِخ وَمِمَّنْ نَص على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 اخْتِيَاره من أهل الْبَيْت الامام يحيى بن حَمْزَة وَهُوَ الَّذِي فِي فطْرَة كل عَاقل لم تغير فطرته بتغيير الْمَشَايِخ وَالله أعلم التَّاسِع وَهُوَ أول أَقْوَال أهل السّنة والأشعرية مثل الَّذِي قبله سَوَاء إِلَّا أَن الأكوان عِنْدهم ذَوَات حَقِيقِيَّة وَهُوَ قَول الْجُوَيْنِيّ وَأَصْحَابه وَهُوَ أقرب فَوق الأشعرية إِلَى الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْعَاشِر القَوْل بمقدور بَين قَادِرين مَعَ عدم تَمْيِيزه إِلَّا بالوجوه والاعتبارات الْحَادِي عشر قَول أهل الْكسْب أَن الأكوان ذَوَات ثبوتية هِيَ فعل الله تَعَالَى وَفعل العَبْد كسب يتَعَلَّق بهَا وَهِي متميزة مِنْهُ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقه الثَّانِي عشر أَنه لَا فعل للْعَبد إِلَّا الِاخْتِيَار فَمَتَى اخْتَار الطَّاعَة خلقهَا الله عقيب اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ الْمعْصِيَة وَسَيَأْتِي بَيَانه أَيْضا الثَّالِث عشر قَول الْجَهْمِية وهم الجبرية وحدهم فانهم زَعَمُوا أَن للْعَبد قدرَة غير أَنه لَا أثر لَهَا أَلْبَتَّة وأفعاله مخلوقة لله وَحده وَلم يثبتوا كسبا للْعَبد وَلَا مَقْدُورًا بَين قَادِرين الرَّابِع عشر أَنه لَا قدرَة للْعَبد وَلَا فعل أَلْبَتَّة وَإِنَّمَا حركته منسوبة اليه مثل نِسْبَة حَرَكَة الشَّجَرَة اليها وَهَذَا مَا حَكَاهُ الشهرستاني فِي الْملَل والنحل عَن غلاة الجبرية وَأما الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى فَأنْكر وجود من يَقُول بذلك فَهَذِهِ الاقوال الَّتِي عرفت فِي تفاصيل هَذِه الْمَسْأَلَة لاهل الْملَّة وَسَيَأْتِي ذكر مَذْهَب الفلاسفة وَأهل القَوْل الْعَاشِر وَمن بعدهمْ يطلقون على أَفعَال الْعباد أَنَّهَا مخلوقات وَإِن اخْتلفُوا فِي تَفْسِير ذَلِك وتفصيله كَمَا يَأْتِي وَقد ظهر أَن تَحْقِيق الْمَقَاصِد فِي أَكْثَرهَا يبتني على مسَائِل صعبة غامضة من مسَائِل علم اللَّطِيف كالفرق بَين الذوات وَالصِّفَات والاحوال وَبَين الْحَقَائِق والاضافات وَبَين الثُّبُوت والوجود وَمَا الَّذِي يَصح مِنْهُمَا فِي الْعَدَم الْفرق بَين الْوُجُود وَالْمَوْجُود وَبَين الارادة وَالِاخْتِيَار وَهُوَ يتَوَقَّف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 معرفَة الارادة وأقسامها وَمَعْرِفَة الاسباب والمسببات وَالْفرق بَين الْأَسْبَاب المؤثرة المولدة وَغَيرهمَا فمدار الْخلاف وَأَصله فِي أَن الافعال هَل هِيَ ذَوَات أَو صِفَات أَو أَحْوَال أَو مَجْمُوع أَمريْن من ذَلِك أَو أَمر رَابِع غير ذَلِك أَو أَسبَاب فَقَط مُؤثرَة كَالْقَتْلِ أَو غير مُؤثرَة كالارادة وَهِي أَسبَاب ومسببات أَو متعدية أَو لَازِمَة أَو هِيَ تسمى مخلوقة أَولا وَإِذا كَانَت تسمى بذلك فَمن الْخَالِق لَهَا وَهل يَصح مَقْدُور بَين قَادِرين أَو هُوَ محَال وَإِذا كَانَ يَصح فَهَل أَفعَال الْعباد مِنْهُ أَو لَا وَإِذا كَانَت مِنْهُ فَهَل أحد الْفِعْلَيْنِ المقدورين متميز عَن الآخر فِي أَفعَال الْعباد وكسبهم مَعَ خلق الله تَعَالَى بِالذَّاتِ أَو بالوجود وَهل يَصح حَادث لَا مُحدث لَهُ أم لَا وَإِذا صَحَّ هَل الْمَوْصُوف بذلك أَفعَال الْعباد كلهَا غير الارادة أم المتولدات فَقَط أم جَمِيع أَفعَال الْعباد من غير اسْتثِْنَاء وَإِذا كَانَت ذَوَات فَمَا هِيَ هَل هِيَ حركات كلهَا أَو أكون مُخْتَلفَة وَإِن كَانَت صِفَات فَهَل هِيَ حَقِيقِيَّة أَو اضافية وَهل الْقُدْرَة مُتَقَدّمَة أَو مُقَارنَة وَتصْلح للضدين أم لَا وَالْقَصْد بذكرها معرفَة الْبِدْعَة مِنْهَا وَمَعْرِفَة بُطْلَانهَا وَذَلِكَ لَا يَصح مِمَّن لم يعرف حقائق مقاصدهم وَمن لم يرسخ فِي علم اللَّطِيف لم يعرف ذَلِك وَمن لم يعرف ذَلِك كَيفَ يتَمَكَّن من معرفَة أَن هَذَا القَوْل كفر أَو غير كفر وَهُوَ لم يتَحَقَّق مَاهِيَّة القَوْل وَمَعْنَاهُ القَوْل فِي بَيَان أَن مُرَاد من قَالَ أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة لله تَعَالَى وانها مَعَ ذَلِك وَاقعَة على اخْتِيَار الْعباد جملَة ثمَّ بَيَان اخْتلَافهمْ فِي الْقدر الْمَخْلُوق مِنْهَا وَفِي تَفْسِير الْخلق وَبَيَان الاحوط فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أما مُرَادهم الاول الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ جملَة فَهُوَ الايمان بِمُقْتَضى مَا تقدم فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة من الْآيَات وَالْأَحَادِيث المصرحة بِأَن مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا شَاءَ أَن لَا يكون لم يكن وَإنَّهُ لَو شَاءَ مَا عصى وَإنَّهُ يهدي من يَشَاء باللطف وَالِاخْتِيَار ثمَّ أَنه تعَارض عِنْد هَؤُلَاءِ السّمع فِي نِسْبَة كسب الافعال إِلَى الْعباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَنسبَة تقديرها إِلَى الله تَعَالَى هَذِه مُعَارضَة خَاصَّة من الْجَانِبَيْنِ ثمَّ مُعَارضَة أُخْرَى وَهِي نِسْبَة أَفعَال الْعباد بخصوصها اليهم ونسبتها إِلَى الله تَعَالَى مدرجة فِي عمومات أَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء وَرُبمَا تتوهم بَعضهم النصوصية فِي قَوْله تَعَالَى {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سَيَأْتِي فتعارضت عِنْدهم الدَّلَائِل السمعية وَكَذَلِكَ الأنظار الْعَقْلِيَّة فان وقُوف الافعال على الدَّوَاعِي مَعْلُوم صَحِيح الْبُرْهَان بل وفاقي على الصَّحِيح وَهُوَ دَلِيل الْمُعْتَزلَة على أَن الله تَعَالَى عدل لَا يفعل الْقَبِيح والدواعي هِيَ الْعُلُوم بالمصالح وَالْمَنَافِع والمضار والظنون لذَلِك والشهوة والنفرة والمرجع بهَا إِلَى فعل الله تَعَالَى تَارَة بِوَاسِطَة وَتارَة بِغَيْر وَاسِطَة ويعارض هَذَا أَن الْفرق بَين حَرَكَة الْمُخْتَار وحركة المفلوج والمسحوب على وَجهه فرق ضَرُورِيّ وَهُوَ يَقْتَضِي اخْتِيَار الْعباد وَبطلَان الْجَبْر بِالضَّرُورَةِ وَزَاد وضوحا أَن الْجَبْر فِي اللُّغَة هُوَ الاكراه الَّذِي يُنَافِي اللَّذَّة والشهوة وَالرِّضَا وَأهل الْمعاصِي يفعلونها متلذذين بهَا مشتهين لَهَا راضين مسرورين وَهَذَا كُله يضاد الْجَبْر والاكراه وينافيه بِالضَّرُورَةِ قَالَ الله تَعَالَى {ائتيا طَوْعًا أَو كرها} فَفرق بَينهمَا والجبر يُؤَدِّي إِلَى عدم ذَلِك فَأَما الجبرية فتركوا الْجمع بَين الظَّوَاهِر وركبوا اللجاج الشَّديد والعناد الْبعيد وجحدوا الضرورات الْعَقْلِيَّة والبينات السمعية وَأجْمع أهل السّنة وَأهل الْكَلَام من الشِّيعَة والأشعرية والمعتزلة على ضلالهم وَالرَّدّ لقَولهم لأَنهم نفوا مَشِيئَة العَبْد وَالله تَعَالَى لم ينفها مُطلقًا لَكِن جعلهَا بعد مَشِيئَته فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} والجبرية نفوها واطرحوا قَوْله إِلَّا أَن يَشَاء الله وَكَذَلِكَ قَوْلنَا مَا شَاءَ الله كَانَ يَقْتَضِي ذَلِك لِأَنَّهُ قد شَاءَ وَكَذَلِكَ نفوا أَن يكون المكلفون مختارين غير مجبورين فَكَانَ مَا شَاءَ من اختيارهم وَأما الأشعرية فراموا الْجمع بَين هَذِه المتعارضات بِنِسْبَة الْفِعْل إِلَى الله تَعَالَى من وَجه وَإِلَى الْعباد من وَجه آخر كالمفسرين بذلك لما ورد السّمع بِهِ وَمن ذَلِك التَّعَارُض الْمُتَقَدّم وَأَمْثَاله مثل قَوْله تَعَالَى {إِنَّه من عبادنَا المخلصين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ) بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا فالفتح نِسْبَة إِلَى الله تَعَالَى وَالْكَسْر نِسْبَة إِلَى العَبْد وَقَوله تَعَالَى {وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} وَقَوله {فأخرجناهم من جنَّات وعيون} مَعَ أَنَّهُمَا فعل قوم فِرْعَوْن حَقِيقَة وَقَوله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم بل الله يُزكي من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَول الله تَعَالَى حاكيا عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} مَعَ قَوْله {لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه} وَقَوله {قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا} وَقَوله تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} وَقَوله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان} مَعَ نِسْبَة الايمان إِلَى فعل الْمُؤمنِينَ فِي آيَات كَثِيرَة وَهَذَا بَاب وَاسع فِي السّمع وَهُوَ صَرِيح فِي الطَّاعَات كَمَا تقدم تَحْقِيقه وَأما فِي الْمعاصِي فَالَّذِي تحقق فِي السّمع أَنه لَو شَاءَ مَا عصى على مَا مر مُلَخصا فِي الارادة وَإِضَافَة أَفعَال الْعباد اليهم أَكثر وأوضح فأرادوا الْجمع بِنِسْبَة مَا يسى خلقا إِلَى الله تَعَالَى وَنسبَة مَا يُسمى كسبا وَطَاعَة ومعصية إِلَى الْعباد وَلم يُرِيدُوا بِكَوْن الافعال خلق الله تَعَالَى نفي كَونهَا أَفعَال الْعباد كَمَا لم يُرِيدُوا بِكَوْنِهَا كسبا للعباد نفي أَنَّهَا خلق الله وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يُرِيدُوا نسبتها إِلَى الله تَعَالَى وَحده من كل جِهَة إِذْ لم تكن كسبا وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة فان الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة من الله تَعَالَى وَحده محالان وَلَا أَرَادوا نسبتها إِلَى الْعباد وحسم لاعتقادهم أَنَّهَا تسمى مخلوقة وَأَن الْخلق من الْعباد محَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قَالَ الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى قَالَ صَاحب الْمُعْتَمد يَعْنِي أَبَا الْحُسَيْن أَن الجهم بن صَفْوَان ذهب إِلَى أَن الله تَعَالَى خَالق لأفعال الْعباد فيهم وَلَيْسوا محدثين لَهَا وَلَا مكتسبين لَهَا وَذهب النجار والاشعري إِلَى أَنه خَالِقهَا وهم يكسبونها وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَبهم وَبِه قَالَ أَكثر أهل السّنة فنفرد لكل طَائِفَة من الجبرية الخالقية والكسبية مَسْأَلَة على حِدة وَالْحَاصِل أَن الْمُخَالفين كلهم قَالُوا بقدرة العَبْد لَكِن الفلاسفة زَعَمُوا أَن الْقُدْرَة هِيَ عِلّة الْفِعْل مَعَ الدَّاعِي والاسفرايني زعم أَنَّهَا جُزْء من عِلّة الْفِعْل الْمَوْجُود بالقدرتين والباقلاني زعم أَنَّهَا عِلّة الْكسْب والجهم زعم أَنَّهَا معنى لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْفِعْل أصلا لكنه يُوجد مُتَعَلقا بِهِ اه وَفِيه تَحْقِيق بَالغ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه وَمثله ذكر ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ فانه يُسَمِّي الجبرية جهمية ويخص الْجَهْمِية بالجبر وَيُوجه الردود اليهم خَاصَّة كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي شَرحه لأبواب الْقدر وَقَالَ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره مفاتح الْغَيْب ان اثبات الاله يلجئ الى القَوْل بالجبر واسال الرُّسُل يلجئ الى القَوْل بِالْقدرِ بل هَهُنَا سر آخر وَهُوَ فَوق الْكل وَهُوَ أَنا لما رَجعْنَا الى الْفطْرَة السليمة وَالْعقل الأول وجدنَا مَا اسْتَوَى الْوُجُود والعدم بِالنِّسْبَةِ اليه لَا يتَرَجَّح أَحدهمَا الا بمرجح وَهَذَا يَقْتَضِي الْجَبْر ونجد أَيْضا تفرقه بديهية بَين الحركات الاختيارية والاضطرارية وجزما بديهيا بِحسن الْمَدْح والذم والامر وَالنَّهْي وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فَكَانَ هَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت فِي حيّز التَّعَارُض بِحَسب الْعُلُوم الضرورية وبحسب الْعُلُوم النظرية وبحسب تَعْظِيم الله تَعَالَى نظرا الى قدرته وبحسب تَعْظِيمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نظرا الى حكمته وبحسب التَّوْحِيد والنبوة وبحسب الدَّلَائِل السمعية فَلهَذَا الَّذِي شرحناه والاسرار الَّتِي كشفنا حقائقها صعبت الْمَسْأَلَة وعظمت فنسأل الله الْعَظِيم أَن يوفقنا للحق وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي كِتَابه طوالع الْأَنْوَار وَقد ذكر احتجاج الْمُعْتَزلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بِالْآيَاتِ الدالات على أَن أَفعَال الله تَعَالَى لَا تُوصَف بِصِفَات أَفعَال الْعباد من الظُّلم وَنَحْوه فَيجب الْفرق بَينهمَا ثمَّ قَالَ مَا لَفظه واجيب بَان كَونه ظلما اعْتِبَار يعرض فِي بعض الْأَحْوَال بِالنِّسْبَةِ الينا لقُصُور ملكنا واستحقاقنا وَذَلِكَ لَا يمْنَع صُدُور أصل الْفِعْل عَن الْبَارِي تَعَالَى مُجَردا عَن هَذَا الِاعْتِبَار وَأعلم أَن أَصْحَابنَا لما وجدوا تَفْرِقَة بديهية بَين مَا نزاوله وَبَين مَا نحسه من الجمادات وَزَادَهُمْ قَائِم الْبُرْهَان عَن اضافة الْفِعْل الى العَبْد مُطلقًا جمعُوا بَينهمَا وَقَالُوا الْأَفْعَال وَاقعَة بقدرة الله تَعَالَى وَكسب العَبْد على معنى أَن العَبْد إِذا صمم الْعَزْم فَالله يخلق الْفِعْل فِيهِ وَهُوَ أَيْضا مُشكل ولصعوبة هَذَا الْمقَام أنكر السّلف على الناظرين فِيهِ اهـ بِحُرُوفِهِ وَأعلم أَن تَسْمِيَة الرَّازِيّ لمَذْهَب الأشعرية جبرا شَيْء تفرد بِهِ دونهم وَدون غَيرهم وَهُوَ خلاف مِنْهُ فِي الْعبارَة فقد صرح فِي نِهَايَة الْعُقُول بِبَقَاء اخْتِيَار العَبْد مَعَ هَذَا الَّذِي يُسَمِّيه جبرا والمرجع بِهِ عِنْده إِلَى وُقُوع الرَّاجِح بالدواعي فانه فِي النِّهَايَة لما ذكر انه يلْزمهُم قبح الْمَدْح والذم والامر وَالنَّهْي أجَاب بَان مَذْهَبهم ان الِاخْتِيَار الى العَبْد فان اخْتَار الطَّاعَة خلقهَا الله فِيهِ عقيب اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ الْمعْصِيَة كَمَا تَقول الْمُعْتَزلَة فِي المسببات كلون المداد وصبغ الثِّيَاب وازهاق الارواح وَالسحر وَنَحْو ذَلِك وَقد تطابق الرَّازِيّ والبيضاوي والشهرستاني على نِسْبَة هَذَا الى الاشعرية قَالَ الرَّازِيّ وَهُوَ الْوَجْه فِي تَوْجِيه الْأَمر وَالنَّهْي اليهم فقد أَجمعُوا بِنَقْل أَئِمَّة مَذْهَبهم هَؤُلَاءِ على ثُبُوت الِاخْتِيَار للْعَبد وان كَانَ الِاخْتِيَار وَاجِبا بالداعي قَالَ الرَّازِيّ مثل مَا أَجمعت الْمُعْتَزلَة على ثُبُوت الِاخْتِيَار لله تَعَالَى وان كَانَت أَفعاله وَاجِبَة بالدواعي فانه لَا يجوز عَلَيْهِ اخلال بِوَاجِب وَلَا فعل لقبيح قطعا مَعَ ثُبُوت الِاخْتِيَار مِنْهُ فِي ذَلِك وَاعْلَم أَن هَذَا الْقدر كَاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة دون زِيَادَة عَلَيْهِ أَعنِي معرفَة اخْتِيَار الْعباد وتمكين الله تَعَالَى لَهُم وَقيام حجَّته بذلك عَلَيْهِم مَعَ سبق قَضَائِهِ وَقدره وَقدرته على هدايتهم أَجْمَعِينَ وحكمته فِي ذَلِك كُله وَأما بَيَان أَقْوَالهم التفصيلية فِي ذَلِك فَاعْلَم انهم اخْتلفُوا فِي الْقدر الْمُقَابل بالجزاء وَالْقدر الْمَخْلُوق على قَوْلَيْنِ القَوْل الأول ان فعل العَبْد الِاخْتِيَارِيّ كسب للْعَبد مَخْلُوق لله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 مَقْدُور بَين قَادِرين وَكَذَلِكَ اخْتِيَاره لذَلِك الْكسْب وَهُوَ مُخَاطب بالامر وَالنَّهْي مجازى على أَفعاله بالثواب وَالْعِقَاب لما لَهُ فِي فعله واختياره من الْكسْب الِاخْتِيَارِيّ لَا لما الله فيهمَا من الْخلق وَالتَّقْدِير السَّابِق من غير تَمْيِيز للقدر المكسوب من الْقدر الْمَخْلُوق الا بالوجوه والاعتبارات فان الْفرق بهَا ضَرُورِيّ لَان معنى ذَلِك ان العَبْد فعل مَا فعله من ذَلِك طَاعَة وعصيانا وَلَوْلَا انه اوقفه على ذَلِك بارادته لذَلِك وَنِيَّته لم يُوصف بذلك وَلَا تميزت الطَّاعَة من الْمعْصِيَة وَالله سُبْحَانَهُ فعل مَا فعل من ذَلِك امتنانا وامتحانا على مَا يَأْتِي وَلَو فعله على الْوَجْه الَّذِي فعله العَبْد لسمى مُطيعًا وعاصيا وَذَلِكَ محَال فِي حَقه وانما يُسمى بأفعاله خَالِقًا ومحسنا ومبتليا وحكيما وانما قَالُوا ذَلِك وَتركُوا التَّمْيِيز جمعا بَين الْأَدِلَّة المتعارضة الْمُتَقَدّمَة وفرارا من الْخَوْض فِيمَا لم يخض فِيهِ السّلف من الفروق الدقيقة بَين هَذِه الْمعَانِي على نَحْو قَول أبي عَليّ الجبائي فِي تلاوتنا لِلْقُرْآنِ انه كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة وكلامنا حَقِيقَة وَأَن الله يتَكَلَّم مَعَ كل قَارِئ سَوَاء كَانَ صَادِق النِّيَّة مُطيعًا أَو مرائيا عَاصِيا قَالَ بذلك جمعا بَين الادلة أَدِلَّة الْعقل على ان التِّلَاوَة فعلنَا وكلامنا وَدلَالَة الاجماع على ان كَلَام الله تَعَالَى هُوَ المتلو فِي المحاريب الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف وَلذَلِك الْتزم أَن كَلَام الله فِي الْمَصَاحِف حَقِيقَة وان الصَّوْت كامن فِي الْحُرُوف كَمَا نَقله عَنهُ ابْن متوية فِي التَّذْكِرَة وَغَيره فَلم تلْزمهُ الْمُعْتَزلَة الْجَبْر بذلك وَلَا الضلال وَالْكفْر فَكَذَلِك كثير من أهل الحَدِيث والاثر اعتقدوا مثل ذَلِك فِي سَائِر أَفعَال الْعباد على جِهَة الايمان بِأَن الله خَالق كل شَيْء وَاخْتَارَ هَذَا من متكلميهم جمَاعَة وَهُوَ ظَاهر عبارَة الْبَيْضَاوِيّ فِي الطوالع والسبكي فِي جمع الْجَوَامِع وَالْغَزالِيّ فِي الاحياء فانه نَص فِيهِ على بطلَان الْجَبْر بِالضَّرُورَةِ وعَلى خلق الِاخْتِيَار وَالْفِعْل وروى هَذَا صَاحب الْجَامِع الْكَافِي من عُلَمَاء أهل الْبَيْت الْمُتَقَدِّمين عَن الامام أَحْمد بن عِيسَى بن زيد بن عَليّ عَلَيْهِم السَّلَام وروى فِيهِ عَن أَحْمد بن عِيسَى انه روى عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ ان رجلا سَأَلَهُ عَن أَفعَال الْعباد فَقَالَ هِيَ من الله خلق وَمن الْعباد فعل لَا تسْأَل عَنْهَا أحدا بعدِي قَالَ أَحْمد بن عِيسَى بعد رِوَايَته انما يعذب الله الْعباد على فعلهم لَا على خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قلت رَوَاهُ مُنْقَطِعًا بِغَيْر اسناد وَلَو صَحَّ مثل هَذَا عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَو عَن غَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم مَا غفل عَن تدوينه أهل الحَدِيث قاطبة وَظَاهر كَلَام السَّيِّد أبي عبد الله الحسني فِي الْجَامِع الْكَافِي ان هَذَا مَذْهَب أهل ذَلِك الْعَصْر من أهل الْبَيْت وشيعتهم فانه ذكر ذَلِك عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن أَحْمد ابْن عِيسَى وَلم يذكر خلافًا لأحد فاما الطَّاعَة وَالْخَيْر فَلَا نَكَارَة فِي مُشَاركَة الرب لعَبْدِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَلَكِن لَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك على عدم تَمْيِيز فعل العَبْد من فعل الله أصلا بل ظَاهر الْآيَات يُعْطي التَّمْيِيز بَينهمَا وَأكْثر مَا يلتبس مثل قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله} وَلَا شكّ ان الَّذِي من عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام انما هُوَ الدُّعَاء الى الله تَعَالَى أَو الْأَمر لَهُنَّ بذلك كَمَا قَالَ لابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام {ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا} بل كَمَا قَالَ عِيسَى فانفخ فِيهِ طائرا باذن الله فميز فعله الَّذِي هُوَ النفخ فِي الصُّورَة فَقَط وَأما فِي الْمعاصِي فَهُوَ الْمُشكل وَالَّذِي وجهوا فِيهِ انه يُمكن من طَرِيق الِابْتِلَاء ان يفعل الله من ذَلِك مَا يتم بِهِ تَمْكِين العَبْد من فعل الْقَبِيح كخلقه للقدرة عِنْد الْجَمِيع لَكِن عِنْد هَؤُلَاءِ انه لَا يتم التَّمْكِين بهَا وَحدهَا لِاسْتِحَالَة ذَلِك عِنْدهم عقلا وسمعا فلابد من أَمر زَائِد على خلق الْقُدْرَة لحكمة الله تَعَالَى فِي تَمام الِابْتِلَاء وَمِثَال ذَلِك قَوْله فِي السحر {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله} وَقَوله {وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} وَقَوله تَعَالَى {فأخرجناهم من جنَّات وعيون} وَتسَمى فِي الْمعاصِي ابتلاء وامتحانا وَفِي الطَّاعَات لطفا ومعونة وَمِثَال ذَلِك عِنْد الْجَمِيع فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 السَّبَب بِالنّظرِ الى المسببات الَّتِي هِيَ غير مقدورة لنا كالمداد وَنَحْوه وَقد يكون عمله قبيحا كالمغصوب وَعَمله للظلمة وَسَيَأْتِي الْفرق بَين قَول هَؤُلَاءِ وَبَين قَول الاشعرية الكسبية فِي آخر الْمَذْهَب الثَّالِث من القَوْل الثَّانِي بعد هَذَا وَهَذَا القَوْل على انه أقل أَفْوَاههم تكلفا لم يَصح فِيهِ نَص من كتاب وَلَا سنة وَلَا اجماع الصَّحَابَة وَلَا قَول وَاحِد مِنْهُم وَقد ادّعى فِيهِ اجماع الْمُتَأَخِّرين وَذَلِكَ أبعد فقد خالفهم أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ امام الْحَرَمَيْنِ وَأَصْحَابه وَالشَّيْخ أَبُو اسحاق وَكِلَاهُمَا من أجل ائمتهم فَكيف غَيرهم وَسَيَأْتِي كَلَام ابْن الْحَاجِب الدَّال على تفرد الاشعري بذلك وعَلى انه أول من قَالَ بِهِ فَلَا يسلم هَذَا الْمَذْهَب من تَسْمِيَته بِدعَة لانه لَا معنى للبدعة الا مَا حدث من العقائد بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلم يَصح عَنْهُم فِيهِ نَص وَأما الِاسْتِنَاد الى العمومات وَنَحْوهَا فَلَا يَكْفِي فِي ثُبُوت السّنَن والا لاكتفت الْمُعْتَزلَة بقوله {خَالق كل شَيْء} على ان الْقُرْآن مَخْلُوق وان القَوْل بذلك سنة فَافْهَم هَذِه النُّكْتَة فانها نفيسة جدا فان السّنة مَا اشْتهر عَن السّلف وَصَحَّ بطرِيق النصوصية وَلَوْلَا هَذَا لكَانَتْ الْبدع كلهَا من السّنَن لانه مَا من بِدعَة الا ولأهلها شبه من العمومات والمحتملات والاستخراجات الا ترى أَن الاتحادية أبعد المبتدعة من السّنة واشنعهم بِدعَة وافحشهم مقَالا وهم مَعَ ذَلِك يحتجون بقوله تَعَالَى {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وَبقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان أصدق كلمة قَالَهَا لبيد الشَّاعِر أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل مُتَّفق على صِحَّته وَنَحْو ذَلِك كثير وَلَو كَانَ فِي اعْتِقَاد خلق الافعال خير مَا سكت عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَأَصْحَابه ولاسبقهم الْمُتَأَخّرُونَ الى اشاعته والزام الْمُسلمين باعتقاده وتعريفهم بِوُجُوبِهِ وَكَانَ معدودا فِي أَرْكَان الدّين والاسلام المعدودة المنصوصة وَالله يحب الانصاف وَسَيَأْتِي بَقِيَّة ادلتهم وَالْجَوَاب عَنْهَا قَرِيبا ان شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 القَوْل الثَّانِي للاشعرية من أهل الْكَلَام ان فعل العَبْد الْمُقَابل بالجزاء متميز عَن الْقدر الْمَخْلُوق لله تَعَالَى ومغاير لَهُ وَهُوَ قَول الاشعرية وَأكْثر متكلميهم ذَكرُوهُ كَمَا ذكره الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي وَرَوَاهُ عَن شيخ الاعتزال ابي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي كَيْفيَّة تَمْيِيز كسب العَبْد عَن خلق الرب على مَذَاهِب الْمَذْهَب الأول مُقَابل لِلْقَوْلِ الأول هُوَ مَا ذكره الشهرستاني فِي نِهَايَة الاقدام والرازي فِي نِهَايَة الْعُقُول وَغَيرهمَا عَن امام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ انه أثبت لقدرة العَبْد أثرا هُوَ الْوُجُود يَعْنِي ايجاد الْحَرَكَة والسكون مَعَ اعْتِقَاد الْجُوَيْنِيّ انهما شَيْء حَقِيقِيّ وَهَذَا لفظ الشَّهْر ستاني قَالَ وغلا امام الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ أثبت للقدرة الْحَادِثَة أثرا هُوَ الْوُجُود الا انه لم يثبت للْعَبد اسْتِقْلَالا بالوجود مَا لم يسْتَند الى سَبَب آخر يَعْنِي الدَّوَاعِي قَالَ وانما حمله على تَقْدِير ذَلِك الِاحْتِرَاز عَن ركاكة الْجَبْر وَقَالَ الرَّازِيّ فِي نِهَايَة الْعُقُول ان الْجُوَيْنِيّ صرح بذلك فِي كِتَابَة النظامي وَنسبه الرَّازِيّ أَيْضا الى الشَّيْخ أبي اسحق وَقَالَ أَبُو نصر السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع عَن الْجُوَيْنِيّ انه يَقُول الطَّاعَة مخلوقة وَالرِّوَايَة الاولى أصح وَأشهر وَهِي المنصوصة فِي مصنفاته فَفِي مُقَدمَات كِتَابه الْبُرْهَان التَّصْرِيح بَان الْكسْب تمويه لَان الْمُكَلف هُوَ المتمكن وان التَّكْلِيف لَا يكون الا بالممكن وان تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق بَاطِل وأمثال هَذَا والجويني مَعَ هَذَا لَا يُخَالف فِي ان أَفعَال الْعباد مخلوقة بِمَعْنى آخر أَي مقدرَة فان الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير حَقِيقَة لغوية صَحِيحَة وَمَعَ خلاف الْجُوَيْنِيّ هَذَا لم يكن خَارِجا من أهل السّنة وَكَذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو اسحق بل هما معدودان من أجل أئمتهم والدعاة الى السّنة والحماة عَنْهَا وَذَلِكَ لما قدمت فِي مَسْأَلَة الارادة ان مدَار الْخلاف بَين الْمُعْتَزلَة وَأهل السّنة عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَة الافعال فَمن قَالَ ان مَشِيئَة الله تَعَالَى نَافِذَة وَقدرته عَامَّة وَلَو شَاءَ لهدى النَّاس جَمِيعًا فَهُوَ على السّنة وان خَالف فِي مَسْأَلَة خلق الافعال لَان الْقدر الْمجمع عَلَيْهِ بَين أهل السّنة أَن العَبْد فَاعل مُخْتَار مستعين بِاللَّه غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ طرفَة عين على مَا يَقْتَضِيهِ قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وأمثالها كَمَا تقدم وتكرر ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الْمَذْهَب الثَّانِي لأهل السّنة مَذْهَب شيخ الاسلام ومتكلم أهل الْآثَار أَحْمد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي وَهُوَ مثل مَذْهَب الْجُوَيْنِيّ سَوَاء الا أَنه لَا يرى الاكوان أمورا حَقِيقِيَّة بل يَرَاهَا صِفَات اضافية كَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ والامام يحيى بن حَمْزَة عَلَيْهِ السَّلَام على مَا مضى فِي أول الْمَسْأَلَة وَهَذَا أقوى من قَول الْجُوَيْنِيّ أَدِلَّة لما يرد على مثبتي الاكوان من الاشكالات الصعبة وَهُوَ أنسب لمَذْهَب أهل السّنة لَان صَاحبه لم يَجْعَل للقدرة الْحَادِثَة أثرا فِي اخراج شَيْء حَقِيقِيّ من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود وَالْقَوْل بَان الاكوان صِفَات اضافية قَول جمَاعَة من الْمُحَقِّقين وَعَزاهُ الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى الى الْمُحَقِّقين وَهُوَ يُوَافق قَول الاشعرية كُله فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الا قَوْلهم ان الاكوان أَشْيَاء حَقِيقِيَّة وَهُوَ أقوى هَذِه التفاصيل وأقربها الى الْفطْرَة وأسلمها من الْبِدْعَة لانه لَا بِدعَة فِي اثبات الْحَرَكَة والسكون وَلَا فِي انهما صفتان للاجسام وَلَا فِي انهما فعلان للعباد مقدران لَهُم وَنَحْو ذَلِك وَلم يتَوَقَّف شئ من هَذَا على النّظر الدَّقِيق والبحث العميق الْمَذْهَب الثَّالِث قَول الأشعرية الكسبية وَقد اجْمَعُوا على ان الْقدر الْمُقَابل بالجزاء من فعل العَبْد غير مَخْلُوق لله تَعَالَى وَقد جود بَيَان هَذَا مِنْهُم الشهرستاني فِي نِهَايَة الاقدام ونقلت كَلَامه على طول الى العواصم لنفاسته وَحسن سِيَاقه وَبَيَانه وهم مَعَ هَذَا يطلقون القَوْل بَان أَفعَال الْعباد مخلوقة وانما يُرِيدُونَ ذَوَات الاكوان الَّتِي هِيَ الْحَرَكَة والسكون مجردين عَن الْوُجُوه والاعتبارات وَسَائِر الاحوال الَّتِي هِيَ أثر قدرَة الْعباد عِنْدهم والاحوال عبارَة عَمَّا تخْتَلف بِهِ الاكوان المتماثلة أَلا ترى أَن الحركات متماثلة من حَيْثُ أَنَّهَا حركات وحوادث ثمَّ هِيَ مُخْتَلفَة فِي الْحسن والقبح والاصابة وَالْخَطَأ والسرعة والبطئ متمايزة فِي أَنه بَعْضهَا حَرَكَة كِتَابَة وَبَعضهَا حَرَكَة صياغة وَبَعضهَا حَرَكَة غياصة ولاختلاف أحوالها وتمايزها كَانَ بَعْضهَا مجونا مضحكا وَبَعضهَا هائلا مفزعا وَبَعضهَا خارقا معجزا وَبَعضهَا محكما متقنا إِلَى غير ذَلِك وَلَا شكّ أَن الْقدر الَّذِي اخْتلفت فِيهِ غير الْقدر الَّذِي اتّفقت فِيهِ وَهُوَ مُجَرّد الِانْتِقَال والحدوث فاضافوا هَذِه الاحوال المقدورة للعباد اليهم وأضافوا ذَات الْحَرَكَة وحدوثها إِلَى الله تَعَالَى وَالَّذِي ألجأهم إِلَى ذَلِك أَن الْحَرَكَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 والسكون عِنْدهم من الاشياء الْحَقِيقِيَّة مثل الْأَجْسَام وَأَنه لَا يقدر على إِيجَاد الْأَشْيَاء الْحَقِيقِيَّة إِلَّا الله وتأولوا على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {هَل من خَالق غير الله} أَي للاشياء الْحَقِيقِيَّة وَلم يجْعَلُوا من ذَلِك الْأَشْيَاء اللُّغَوِيَّة الْمُسَمَّاة فِي عرفهم بالاحوال وبالوجوه وبالاعتبارات وبالاضافات وبالمعاصي والطاعات وَلَا خلاف بَين عُلَمَاء اللَّطِيف أَن الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة ليسَا بِشَيْء حَقِيقِيّ كالاجسام بل هما معقولان حَتَّى فِي التروك الَّتِي هِيَ عدم الافعال على الصَّحِيح فانا نعقل قبح التّرْك لقَضَاء الدّين وَترك رد الْوَدِيعَة وَترك الصَّلَاة ونعقل حسن ترك الْمَظَالِم وَترك الْعدوان على الْمَسَاكِين قبل أَن نعقل أَن التّرْك كف النَّفس عَن الْفِعْل أَو عدم مَحْض فالواقع عِنْدهم بقدرة الله تَعَالَى هُوَ الْحَرَكَة من حَيْثُ هِيَ حَرَكَة مُجَرّدَة وَلَا قبح فِيهَا من هَذِه الْجِهَة إِجْمَاعًا وَكَذَلِكَ لَا قبح فِيهَا من حَيْثُ هِيَ حَادِثَة فَلذَلِك نسبوا الْحَرَكَة وحدوثها إِلَى الله تَعَالَى وَالْوَاقِع بقدرة العَبْد هُوَ كَون الْحَرَكَة طَاعَة أَو مَعْصِيّة أَو حجا أَو صَلَاة أَو ظلما أَو قتلا أَو نَحْو ذَلِك من الْأَحْوَال قَالُوا وَلذَلِك يشتق من هَذِه الْأَشْيَاء أَسمَاء الفاعلين لَهَا دون الله تَعَالَى فقد بَالغ الشهرستاني فِي نِهَايَة الاقدام فِي رد مَذْهَب الْمُعْتَزلَة الْمُتَقَدّم فِي حِكَايَة الْأَقْوَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وعارضهم بمعارضات جدلية مُعَارضَة عَارِف لمذهبهم مُحَقّق لمقاصدهم من ذَلِك قَالَ ان الْحُدُوث والوجود صفة غير مَطْلُوبَة من العَبْد وَلَا مَمْنُوعَة وَلَا محمودة وَلَا مذمومة من هَذِه الْجِهَة لِأَنَّهَا مُشْتَركَة بَين الْحسن والقبيح إِذْ كل مِنْهُمَا حَادث مَوْجُود قَالَ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُضَاف إِلَى العَبْد مَا طلب مِنْهُ أَو نهي عَنهُ وَهُوَ أَمر أخص من ذَلِك وَهُوَ كَون ذَلِك الْحُدُوث طَاعَة أَو مَعْصِيّة وهما أثر قدرَة العَبْد عِنْد الأشعرية وهما المقابلان بالجزاء قَالَ وَعند الْمُعْتَزلَة أثر قدرَة العَبْد من أثر قدرَة الرب عز وَجل عِنْد من يُطلق أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة وَمن الْأَمْثِلَة الَّتِي يظْهر فِيهَا الْمَقْدُور بَين قَادِرين حمل الْعَرْش فان الله تَعَالَى قد نسبه إِلَى حَملته من الْمَلَائِكَة من أَن الله تَعَالَى حَامِل لَهُم وَلما استقروا عَلَيْهِ من سَمَاء وَأَرْض وَالْحَامِل للقرار حَامِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لما عَلَيْهِ قطعا فَثَبت أَن الْعَرْش مَحْمُول لله تَعَالَى مَعَ أَنه مَحْمُول لحملته عَلَيْهِم السَّلَام وَالْفرق بَين قَول هَؤُلَاءِ وَبَين أهل القَوْل الأول أَن هَؤُلَاءِ يجْعَلُونَ ذَات الْحَرَكَة خلقا لله تَعَالَى وَحده وَعِنْدهم تَأْثِير قدرَة العَبْد فِيهَا محَال مُطلقًا وَعند الطَّائِفَة الأولى أَن قدرَة العَبْد تُؤثر فِي ذَات الْحَرَكَة مَعَ خلق الله تَعَالَى للحركة لَا مُسْتقِلّا مُنْفَردا فَالْفرق أَن الَّذِي اخْتصَّ الله تَعَالَى بِهِ عِنْد هَؤُلَاءِ هُوَ عدم الِاسْتِقْلَال بالايجاد وَعند الأشعرية الكسبية هُوَ الايجاد مُطلقًا وَأما الْوُجُوه والاعتبارات فاتفقوا كلهم على أَنَّهَا من أثر قدرَة الْعباد فَلَا يُسمى العَبْد خَالِقًا عِنْد الْأَوَّلين لعدم استقلاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فصل فِي بطلَان القَوْل بِأَن الْمعاصِي من الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك على جَمِيع هَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة عشر مذهبا إِلَّا على مَذْهَب الْجَهْمِية الجبرية وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَج عَلَيْهِ ويوضح الاجماع عَلَيْهِ أَنه لَا خلاف بَين أحد من أهل الاسلام فِي وجوب كَرَاهَة معاصي الله تَعَالَى ومساخطة من الاعمال وَلَا فِي وجوب الرضى والتحسين لجَمِيع مَا كَانَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَذَلِكَ يُوجب أَن القبائح كلهَا لَيست مِنْهُ عز وَجل كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه بعون الله تَعَالَى وَلَكِن فرق أهل السّنة الاربع لما كَانُوا يحتجون مَعَ فرقة الجبرية الْجَهْمِية فِي رد كثير من مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة الْمُقدمَة فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَخذ بَعضهم من عِبَارَات بعض وَقل من يدْرك التَّفَاوُت بَين الْعبارَات كَمَا قدمت ذكره مطولا فِي مُقَدمَات هَذَا الْمُخْتَصر وَكَانَت هَذِه الْعبارَة من عِبَارَات الجبرية الْجَهْمِية وَرُبمَا يُوجد فِي كَلَام بعض السّلف أَن الْخَيْر وَالشَّر من الله يعنون بِهِ الصِّحَّة والسقم والغنى والفقر وَنَحْو ذَلِك فجَاء من بدل ذَلِك من الجهلة بالطاعات والمعاصي كَمَا يدل {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} بِأَنَّهُ مُرِيد للشرك وَبدل مرِيدا براض محب وبدلت الاتحادية رَاض محب بآمر مثيب كَمَا تقدم وَكم وَقع من الضلال الْعَظِيم من تَبْدِيل الْعبارَات وَظن تماثلها وَلذَلِك بنيت هَذَا الْمُخْتَصر على منع ذَلِك بالمرة فَلَمَّا كثر القَوْل من الْجَهْمِية بِأَن الْمعاصِي من الله تَعَالَى ظن كثير من متكلمي السّنة أَنَّهَا فِي قُوَّة أَن الْمعاصِي مقضية مقدرَة سَابِقَة فِي علم الله تَعَالَى وقضائه وَقدره الَّذِي لَا مرد لَهُ مَعَ اخْتِيَار الْعباد فِي فعلهَا وقدرتهم عَلَيْهَا خُصُوصا من لم يكن مِنْهُم من أَئِمَّة علم الْعَرَبيَّة الَّذين رُبمَا زادهم رسوخهم فِيهِ عَن مثل هَذَا الْوَهم الْفَاحِش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مثل الْغَزالِيّ فانه اعْترف أَنه لم يعرف من الْعَرَبيَّة إِلَّا الْقدر الَّذِي يُمَيّز بِهِ شنيع اللّحن وَلذَلِك أَكثر من التَّصْرِيح بِأَن جَمِيع الْمعاصِي وَالْكفْر وَالْفَوَاحِش من الله تَعَالَى وَلَوْلَا أَنه صرح مَعَ ذَلِك القَوْل بِالْكَسْبِ وَأَن الْجَبْر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ مَا استربت فِي أَنه جبري وَأكْثر المغترون بِهِ من أهل السّنة وعوامهم من ذَلِك حَتَّى حَملَنِي ذَلِك على جمع شَيْء كثير فِي التَّعْرِيف بِبُطْلَان ذَلِك وَقد أودعته العواصم وَإِنَّمَا اختصرت مِنْهُ الْيَسِير واذكره هُنَا لَعَلَّ الله ينفع بِهِ من بقيت فِيهِ بَقِيَّة من التَّمْيِيز ولبيان الْخَطَأ فِي هَذِه الْعبارَة ذكرت الْمذَاهب والفروق بَينهَا وعنيت فِي تَمْيِيز بَعْضهَا من بعض وطولت فِي تَلْخِيص ذَلِك ليتضح الْحق من الْبَاطِل لِأَنَّهُ أعظم مَا طلبه الله تَعَالَى من عباده وَأكْثر مَا بعثت لَهُ الرُّسُل الْكِرَام كَمَا أقسم الله عَلَيْهِ فِي سُورَة الْعَصْر {إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} وكما قَالَ تَعَالَى {بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق} وكما قَالَ الله تَعَالَى {الَّذِي خلق سبع سماوات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما} وَلَو لم ينزل فِي شرف الْعلم سواهَا لكَانَتْ كَافِيَة أَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الدَّلِيل على بطلَان ذَلِك الْعقل والسمع أما الْعقل فَلِأَن القبائح عِنْده إِمَّا أَن تكون من الله تَعَالَى وَحده تَعَالَى عَن عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَا أثر فِيهَا من الْعباد فَهَذَا مَحْض الْجَبْر وَقد اعْترف أَن الْجَبْر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ وَلَوْلَا ذَلِك لذكرنا هُنَا مَا يخزي الجبرية ويفضحهم وَيعرف بِأَنَّهُم من سقط الْمَتَاع الَّذين لَا يسْتَحقُّونَ مناظرة الْعلمَاء العارفين والاذكياء البارعين وَإِنَّمَا حَقهم أَن يجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام أَئِمَّة الْعدْل على حسب آرائهم من تنكيل وتطريد أَو قتل فحين اعْترف بِالْحَقِّ وناقضه فِي عِبَارَته لم يكن لَهُ بُد من أَن يَجْعَل لقدرة العَبْد نَصِيبا وأثرا وَهُوَ قَوْله فاما أَن يَجعله الْكسْب الْقَبِيح دون الْخلق الْحسن الَّذِي هُوَ من الله تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابه الاشعرية وَصَحَّ الامر فِي غلطه فِي قبح عِبَارَته أَو يَجْعَل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 نصيب العَبْد من الْفِعْل وحظه وَأثر قدرته أمرا آخر غير الْمعاصِي والقبائح وَغير الْخلق والايجاد فَهَذَا شَيْء لَا يعقل وَلَا يتَصَوَّر فان ظن أَن ذَلِك يَصح على الْمَذْهَب الأول من مَذَاهِب أهل السّنة وَهُوَ مَذْهَب من لَا يُمَيّز أثر قدرَة العَبْد بِالذَّاتِ فقد غلط وأفحش فِي الْجَهْل فقد ذكرنَا قبل أَنهم يميزون بَينهمَا بالوجوه والاعتبارات وَأَنَّهُمْ لَا يميزون بَينهمَا بِالذَّاتِ وَمعنى ذَلِك أَنهم يَقُولُونَ أَن العَبْد فعل مقدوره على جِهَة الْمُخَالفَة لمَوْلَاهُ غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فَكَانَ من هَذَا الْوَجْه مَعْصِيّة والرب عز وَجل فعل ذَلِك الْمَقْدُور بِعَيْنِه مُسْتقِلّا على وَجه الامتحان والابتلاء لحكمته الْبَالِغَة وحجته الدامغة فَلذَلِك يشتق لَهُ تَعَالَى من فعله ذَلِك من الاسماء مَا لَا يشتق لعَبْدِهِ من نَحْو الْخَالِق الْمُبْدع الْحَكِيم المبتلي فِي الْمعاصِي الْمعِين فِي غَيرهَا ويشتق للْعَبد من ذَلِك الْمَقْدُور بِعَيْنِه مَا يَسْتَحِيل على الله تَعَالَى من الظَّالِم الْفَاسِق العَاصِي الْخَبيث الْعَاجِز المفتقر وَنَحْو ذَلِك فَلَو لم تفترق الافعال بالوجوه والاعتبارات لم تفترق الاسماء المشتقات مَعَ فرض اتِّحَاد الْوُجُوه والذات جَمِيعًا فان كَانَ أَرَادَ بذلك التَّرْجَمَة عَن كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصول الْأَشْيَاء فَكَانَ يلْزمه الِاقْتِصَار على عبارتهما فانها أصح وأشرف وأبرك وَأسلم وَإِن كَانَ أَرَادَ التَّرْجَمَة عَن مَذْهَب الأشعرية فقد عظمت جِنَايَته عَلَيْهِم فان الرِّجَال صَرَّحُوا بِأَن الْأَفْعَال لَا تُضَاف إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا خلقا وإيجادا وابداعا وذواتا وأعيانا مُجَرّدَة عَن الْوُجُوه الَّتِي تعلق بهَا قدر الْعباد ويوقعونها عَلَيْهَا فَتكون لأَجلهَا معاصي قبيحة مستلزمة للذم وَالنَّقْص فِي المنهيات وللذلة والخضوع فِي الْعِبَادَات وللافتقار وَالْحَاجة إِلَى الله تَعَالَى فِي التَّمام وَقَضَاء الْحَاجَات وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يجوز على بارئ البريات فَكيف نَجْعَلهَا من الله تَعَالَى حَيْثُ تكون وَاقعَة على هَذِه الْوُجُوه والاعتبارات وَلَوْلَا تنزيههم لله تَعَالَى مَا تكلفوا القَوْل بِالْكَسْبِ وَلَا فارقوا أهل الْجَبْر وردوا عَلَيْهِم وترفعوا عَن خسيس مقامهم وشنيع ضلالهم وَلَو كَانَت الْمعاصِي من الله تَعَالَى كَانَ عَاصِيا وَقد تمدح بالمغفرة وَلَا تصح الْمَغْفِرَة مِنْهُ لنَفسِهِ وَلَا لمن لَيست الذُّنُوب مِنْهُ قطعا وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فمدحهم بذلك وَصَحَّ فِي سيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الاسْتِغْفَار أَبُوء لَك بنعمتك على وأبوء بذنبي وَأجْمع أهل اللُّغَة والغريب أَن الْمَعْنى أقرّ واعترف بذنبي وَمن الْمحَال أَن يكون الْمَعْنى أقرّ واعترف أَنه لَيْسَ مني فان هَذَا مناقضة للاقرار وَالِاعْتِرَاف وَمن زعم أَن المفر الْمُعْتَرف بالذنب هُوَ المتبرئ أَن يكون مِنْهُ أَلْبَتَّة لم يكن أَهلا للمناظرة أَلا ترى أَن المستغفرين إِذا قَالُوا اللَّهُمَّ اغْفِر لنا مَا كَانَ منا كَانَت عبارَة صَحِيحَة بالاجماع بل بِالضَّرُورَةِ وَلَو قَالُوا اللَّهُمَّ اغْفِر لنا مَا كَانَ مِنْك كَانَت عبارَة بَاطِلَة بالاجماع بل بِالضَّرُورَةِ بل قد صرح الْقُرْآن بذلك فِي الطَّاعَات الَّتِي تحسن اضافتها إِلَى الله تَعَالَى كَمَا يحسن مِنْهُ تَعَالَى أَن يتفضل بالهداية اليها قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْخَلِيل والذبيح عَلَيْهَا السَّلَام {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} وَلم يقل رَبنَا تقبل مِنْك وأمثال هَذَا كثير فَكيف باضافة الْفَوَاحِش والمخازي إِلَى السبوح القدوس بِهَذِهِ الْعبارَة جلّ وَعز وتبارك وَتَعَالَى عَن ذَلِك وتقدست أسماؤه الْحسنى وَله الْمثل الْأَعْلَى وَقد تتبعت الْقُرْآن وَالسّنة النَّبَوِيَّة والْآثَار الصحابية فَلم أجد لما أَدْعُوهُ فِي ذَلِك أصلا بل وجدت النُّصُوص فِي جَمِيع هَذِه الاصول رادة لهَذِهِ الْبِدْعَة فَمن الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا أحس عِيسَى مِنْهُم الْكفْر} {فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا} {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله} {وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} {قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} {وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} وَأما قَوْله تَعَالَى قبلهَا {قل كل من عِنْد الله} فَلِأَن المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ عُقُوبَة الذَّنب وبالحسنة المثوبة على الْحَسَنَة وَلذَلِك قَالَ {مَا أَصَابَك} وَلم يقل مَا اصبت وَلكنهَا تُضَاف إِلَى العَبْد اضافة الْمُسَبّب إِلَى فَاعل السَّبَب كَقَوْل أَيُّوب {أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} لما كَانَ عُقُوبَة على ذَنبه وَقَوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 تَعَالَى {ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَفِي آيَة {تكسبون} فالسيئة الَّتِي هِيَ كسب العَبْد لَا تُضَاف إِلَّا اليه والسيئة الَّتِي هِيَ عُقُوبَة تجوز اضافتها الله تَعَالَى وَإِلَى فاعلها وَإِنَّمَا رد عَلَيْهِم بقوله {قل كل من عِنْد الله} اضافتهم الْعقُوبَة على الشّرك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين تشَاء مؤابة فَلم يضيفوها إِلَى خَالِقهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا إِلَى فَاعل سَببهَا وَمن الْآيَات فِي الْبَاب الَّذِي نَحن فِيهِ {حسدا من عِنْد أنفسهم} {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} {إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس} فَفرق بَين مَا هُوَ من الله وَمَا هُوَ من النَّاس {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} وَهَذَا الْحَلَال كَيفَ الْحَرَام {وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم} {وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة} {وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم} {فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} {فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم} {لَا نُرِيد مِنْكُم جَزَاء وَلَا شكُورًا} {ونري فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون} {هَذَا من عمل الشَّيْطَان إِنَّه عَدو مضل مُبين} {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان} {إِنَّمَا النَّجْوَى من الشَّيْطَان ليحزن الَّذين آمنُوا} وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ الاخيرتان مصدرتان بأنما الَّتِي تفِيد الْحصْر وَقصر هَذَا على أَنه من الشَّيْطَان دون غَيره على جِهَة الذَّم لما كَانَ مِنْهُ وَالْكَرَاهَة لَهُ والبراءة مِنْهُ من ذمه وخبثه وشرعه والامر بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بل من كل وَجه إِلَّا مَا اقتضته الْحِكْمَة من خلق المختارين لَهُ واقدارهم عَلَيْهِ وَتَقْدِير وُقُوعه مِنْهُم للحكمة الْبَالِغَة وَالْحجّة الدامغة وَفِي الْقُرْآن الْكثير مِمَّا يقوم مقَام هَذَا لَكِن بِغَيْر لفظ من كَقَوْلِه تَعَالَى {فَإِنَّهُ فسوق بكم} {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَقد ذكرت فِي العواصم من ذَلِك خَمْسَة وَعشْرين نوعا وَذكرت هُنَاكَ من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الشهيرة قدر خَمْسَة عشر حَدِيثا ونسبتها إِلَى رواتها من الصَّحَابَة وَمن خرجها من الْأَئِمَّة مثل حَدِيث التثاؤب من الشَّيْطَان وَحَدِيث إِن تقليب الْحَصَى وَقت الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة من الشَّيْطَان وَحَدِيث إِن تفرقكم فِي الشعاب والأودية إِنَّمَا ذَلِكُم من الشَّيْطَان وَحَدِيث الاناة من الله والعجلة من الشَّيْطَان وَحَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه وَحَدِيث الرُّؤْيَا الصَّالِحَة من الله تَعَالَى والحلم من الشَّيْطَان رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن أبي قَتَادَة وَلمُسلم مثله بل أبين عَن أبي هُرَيْرَة وروى البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ مثل ذَلِك عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَقَالَ إِنَّمَا هِيَ من الشَّيْطَان بالحصر وَخرج ابْن ماجة وَابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن عَوْف بن مَالك وَكلهَا مَرْفُوعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا تَوَاتَرَتْ النُّصُوص فِي الرُّؤْيَا أَكثر من غَيرهَا لِأَن الْأَمر يشْتَبه فِيهَا هَل هِيَ من الله تَعَالَى أَو من الشَّيْطَان وَلَا يتَمَيَّز إِلَّا بِالنَّصِّ وَأما الْفَوَاحِش والقبائح الصادرة من المنهيين عَنْهَا المذمومين عَلَيْهَا فَلم يشْتَبه الامر فِي ذَلِك حَتَّى يرْتَفع الِاشْتِبَاه فِيهِ بالنصوص وَلَو وَقع فِي ذَلِك غلط فِي ذَلِك الْعَصْر لتواترت النُّصُوص فِي الرَّد على صَاحبه وَإِنَّمَا أوضحت رُوَاة أَحَادِيث الرُّؤْيَا وَحدهَا كَيْلا يتَوَهَّم أَنه حَدِيث وَاحِد وَمن ذَلِك حَدِيث الْمُسْتَحَاضَة وَقَوله فِيهِ إِنَّمَا ذَلِك ركضة من الشَّيْطَان قَالَ ابْن الْأَثِير فِي نهايته وَالْمعْنَى أَن الشَّيْطَان قد وجد سَبِيلا إِلَى التلبيس عَلَيْهَا فِي أَمر دينهَا ذكره فِي خرف الرَّاء مَعَ الْكَاف وَعِنْدِي فِيمَا قَالَه نظر لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ إِنَّمَا ذَلِك من الشَّيْطَان وَلم يذكر أَنه ركضة من وَلَا مَانع من تَمْكِينه من ركضته بعض الْعُرُوق حَتَّى تَنْقَطِع ليلبس بذلك عَلَيْهَا أَمر دينهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فانه يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم مثل مَا جَاءَ أَنه ينْفخ فِي الدبر فَلَا ينْصَرف أحدكُم حَتَّى من صلَاته حَتَّى يجد ريحًا أَو يسمع صَوتا فَكَمَا لَا يتَأَوَّل نفخه فَكَذَلِك لَا يتَأَوَّل ركضه وَمن ذَلِك لَا تَأْكُل الشريقة فانها ذَبِيحَة الشَّيْطَان فِيهِ حديثان حَدِيث عَن ابْن عَبَّاس وَحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا فِي مُسْند أَحْمد وَفِي حَدِيث لِابْنِ عَبَّاس مَاتَت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَكَتْ النِّسَاء فَجعل عمر يضربهن بِسَوْطِهِ فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ وَقَالَ مهلا يَا عمر إِنَّه مَا كَانَ من الْعين وَالْقلب فَمن الله تَعَالَى وَمَا كَانَ من الْيَد وَاللِّسَان فَمن الشَّيْطَان رَوَاهُ أَحْمد وَابْن تَيْمِية فِي الْمُنْتَقى فَهَذِهِ نَحْو خَمْسَة عشر حَدِيثا عَن أبي هُرَيْرَة مِنْهَا سِتَّة وَعَن ابْن عَبَّاس حديثان وبقيتها عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب وَعَائِشَة وَأبي ثَعْلَبَة وَسَهل ابْن سعد وَأبي قَتَادَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وعَوْف بن مَالك وَحمْنَة بنت جحش من غير الْآثَار الْمَوْقُوفَة على أكَابِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم كَمَا نوضح الْآن طرفا مِنْهُ فَمن ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن سِيرِين لم يكن أحد أهيب لما لَا يعلم من أبي بكر وَإِنَّهَا نزلت بِهِ فَرِيضَة لم يجد لَهَا فِي كتاب الله أصلا وَلَا فِي السّنة أثرا فَقَالَ أَقُول فِيهَا برأيي فان يكن صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَإِن يكن خطأ فمني وَأَسْتَغْفِر الله رَوَاهُ الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر الشَّافِعِي فِي الْقَضَاء من كِتَابه التَّلْخِيص الْكَبِير فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الرَّافِعِيّ الْكَبِير وَذكر سَنَده عَن عبد الله بن مهْدي عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين بِهِ كَمَا تقدم قَالَ وَأخرجه قَاسم بن مُحَمَّد فِي كِتَابه الْحجَّة وَالرَّدّ على المقلدين قلت وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره فِي آيَة الْكَلَالَة وَجعل كَلَام أبي بكر رَضِي الله عَنهُ الَّذِي قَالَه هُوَ القَوْل عِنْده فِي الْكَلَالَة وَجَاء بذلك الْبَغَوِيّ من طَرِيق الشّعبِيّ عَن أبي بكر فازداد قُوَّة لاخْتِلَاف طرقه وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّامغَانِي فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة فِي الْمذَاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أصرح من ذَلِك وَأبين وأوضح وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْن حجر فِي كِتَابه الْمَذْكُور وأسنده إِلَى الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ أَنه رَوَاهُ من طَرِيق الثَّوْريّ عَن السفياني عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق قَالَ كتب كَاتب لعمر هَذَا مَا أرَاهُ الله تَعَالَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فانتهره عمر وَقَالَ بل أكتب هَذَا مَا رَآهُ عمر فان كَانَ صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَإِن كَانَ خطأ فَمن عمر قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر اسناده صَحِيح وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عمار بن يَاسر من كتاب النبلاء مَا لَفظه الاعمش عَن حبيب بن أبي ثَابت قَالَ سَأَلَهُمْ عمر عَن عمار فَأَثْنوا عَلَيْهِ وَقَالُوا وَالله مَا أَنْت أَمرته علينا وَلَكِن الله أمره فَقَالَ عمر اتَّقوا الله وَقُولُوا كَمَا يُقَال فوَاللَّه لأَنا أَمرته عَلَيْكُم فان كَانَ صَوَابا فَمن قبل الله وَإِن كَانَ خطأ أَنه لمن قبلى اه بِحُرُوفِهِ والاعمش وحبِيب من رجال البُخَارِيّ وَمُسلم وَسَائِر الْجَمَاعَة قلت رَضِي الله عَن عمر مَا كَانَ أصدعه بِالْحَقِّ وأخشنه فِيهِ وأغيظه للشَّيْطَان وأعرفه بِمَا يُنَافِيهِ وَعَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه نَحْو ذَلِك ذكره ابْن حجر فِي كِتَابه وأحال أَلْفَاظه الشَّرِيفَة إِلَى كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام فِي حكم أم الْوَلَد وَلم أجد أَلْفَاظه فِي ذَلِك وَلَو وَجدتهَا لسطرتها وصدرتها فَمن وجدهَا فيلحقها وَهَذَا الْمَعْنى عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَشْهُور كثيرا وَعَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا بِجهْد رَأْي فان كَانَ صَوَابا فَمن الله وَحده لَا شريك لَهُ وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ برَاء رَوَاهُ إِمَام أهل السّنة أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْند الْجراح بن أبي الْجراح من الْمسند وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَهَذَا لَفظه وَلَفظ أبي دَاوُد بريئان وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَابْن الْأَثِير فِي جَامعه فِي كتاب الصَدَاق والحافظ أَبُو الْحجَّاج الْمزي الشَّافِعِي فِي أَطْرَافه فِي مُسْند معقل بن سِنَان وَإِمَام الشَّافِعِيَّة ابْن النَّحْوِيّ فِي كِتَابه الشهير الْمُسَمّى بالبدر الْمُنِير وَقَالَ صَحِيح وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْأَرْبَعَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَالَ الْحَاكِم على شَرط مُسلم وَقَالَ ابْن حزم لَا مغمز فِيهِ لصِحَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 قلت وَهَذَا الْكَلَام كُله فِي الْمَرْفُوع أما كَلَام ابْن مَسْعُود الْمُقدم فِي أَن الْخَطَأ من الشَّيْطَان فَهُوَ صَحِيح بالِاتِّفَاقِ على شَرط الْجَمَاعَة كلهم رَوَاهُ الكبراء والنبلاء من أَئِمَّة التَّابِعين وَمن بعدهمْ مِنْهُم الشّعبِيّ وابراهيم التَّيْمِيّ وَمَنْصُور ابْن الْمُعْتَمِر وزائدة وَهِشَام وَيحيى الْقطَّان وَيزِيد بن هَارُون وَابْن مهْدي وخلاس بن عَمْرو وَأَبُو حسان وَدَاوُد بن أبي هِنْد وَعلي بن مسْهر وَعلي بن حجر وَعُثْمَان بن أبي شيبَة وغندر وسُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة وَبُنْدَار وَعبد الرَّزَّاق وَكلهمْ رجال البُخَارِيّ وَمُسلم مَعًا إِلَّا اثْنَيْنِ فَانْفَرد مُسلم بهما وكل هَؤُلَاءِ رَوَوْهُ وَلم ينكروه وَلم يشككوا على مَعْنَاهُ وَلم يتأولوه وَلم يحذروا من ظَاهره وَفِي ظُهُور هَذِه الْأَخْبَار والْآثَار بَين السّلف من غير مناكرة أوضح دلَالَة على إِجْمَاعهم رَضِي الله عَنْهُم على ذَلِك هَذَا وَلم يُوجد مُخَالف لَهُم توجب مُخَالفَته الاكثار من صُدُور النُّصُوص مِنْهُم فِي الرَّد عَلَيْهِ وَذكر الامام الْعَلامَة إِمَام أهل السّنة أَبُو عَمْرو بن الصّلاح عَن أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ أَنه قَالَ وَكَانَ بعض السّلف إِذا أفتى يَقُول إِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني قَالَ وَهَذَا معنى كره فِي هَذَا الزَّمَان لِأَن فِيهِ إضعاف نفس السَّائِل وَإِدْخَال قلبه الشَّك فِي الْجَواب اه بِحُرُوفِهِ وَقَررهُ ابْن الصّلاح فَلم يقل أحد مِنْهُم أَن ذَلِك ترك لِأَن الْحَقِيقَة أَن الْخَطَأ من الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَأَجْمعُوا على نقل ذَلِك عَن بعض السّلف من غير مناكرة بَين السّلف وَالْخلف فِي حسن ذَلِك وَصِحَّته وَلَو كَانَ مُخَالفا فِي ذَلِك مَا تركُوا ذكره وَقد تعرضوا لجَمِيع أَقْوَال عُلَمَاء الاسلام فِي ذَلِك واليهم الْمُنْتَهى فِي معرفَة الْخلاف والوفاق وَالسّنة والبدعة وَلذَلِك لم يتعقبهم أحد وينسبهم إِلَى التَّقْصِير وَالْحَمْد لله ذكره ابْن الصّلاح فِي كِتَابه فِي الْمُفْتى والمستفتى فِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من القَوْل فِي كَيْفيَّة الْفَتْوَى وآدابها وَأَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ شيخ أبي الْحسن الْمَاوَرْدِيّ صَاحب الْحَاوِي ذكره ابْن الصّلاح وتلميذ أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 حَامِد الْمروزِي وَسَماهُ ابْن الصّلاح الامام أَبَا الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ فِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة من هَذَا الْبَاب وَقَالَ فِي مُقَدّمَة الْكتاب أَنه أحد أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة وَأما قَوْلهم أَن ذَلِك كره فِي هَذَا الزَّمَان فانه متعقب من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه لَا يسلم صِحَة الْكَرَاهَة من بعض الْخلف لما فعله بعض السّلف وَسكت عَنهُ بَقِيَّة السّلف لَا سِيمَا إِذا كَانَ الْفَاعِل من قدمنَا من خلفائهم وكبرائهم والاجماعات المروية عَنْهُم مَا تزيد على هَذَا شَيْئا كَمَا تقدم تَقْرِيره وَقَوْلنَا فِيمَا هَذَا حَاله أَنه مَكْرُوه بِدعَة مَكْرُوهَة لما فِيهِ من نسبتهم إِلَى الْمَكْرُوه كَمَا لَو قَالَ أَنه بِدعَة وهم أعرف بالمكروهات والمحذورات وَثَانِيهمَا أَنهم لم يَقُولُوا ذَلِك فِي مواقع النُّصُوص بل فِي مواقع الرَّأْي الَّتِي يَنْبَغِي فِيهَا إِشْعَار المستفتي بهَا ليَأْخُذ لنَفسِهِ بالوثيقة من الِاحْتِيَاط فان ترخص تضرع إِلَى الله تَعَالَى فِي الْمُسَامحَة وَالْقَبُول واستغفر وَيَنْبَغِي اشعار المستفتى بِمَا هَذَا حَاله كَيْلا يكون على ظن ضَعِيف مُخْتَلف فِيهِ وَهُوَ مُعْتَقد أَنه على أثر مَعْلُوم من الدّين فانه طَالب للهداية لَا للعماية وَالله تَعَالَى يحب الانصاف وَكَانَ أقل الْأَحْوَال فِي أدب الْخلف مَعَ السّلف أَن يُقَال فِي فعلهم ثمَّ ترك وَلَا يُقَال كره مَعَ أَن الاولى بالخلف التَّسْلِيم للسلف والمتابعة وَلَا معنى لمَذْهَب أهل السّنة إِلَّا ذَلِك فان قَالَ قَائِل إِن هَذَا كُله مَحْمُول على مُجَرّد الادب فِي حسن الْخطاب كَقَوْل الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين} وكما لَا يُقَال لله تَعَالَى يَا رب الْكلاب والخنازير فَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ مثل ذَلِك لوجوه الْوَجْه الأول إِن خلق الله تَعَالَى للكلاب والخنازير مَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وَمن إِجْمَاع الْمُسلمين وَأَنه لَا نقص فِيهِ على الله تَعَالَى فَلم يكن فِي حسن الْعبارَة مَعَ حسن الِاعْتِقَاد قبح وَلَا مخاطرة وَلَا بِدعَة فِي الدّين لِأَن الْبِدْعَة هُنَاكَ مَأْمُونَة وَيُمكن أَن يكون قبح ذَلِك من أجل مَفْهُوم اللقب فانه يَقْتَضِي نفي الربوبية لما سواهَا حَيْثُ يخصص بِالذكر من غير وَجه ظَاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 للتخصيص وَلذَلِك قَالَ بِهِ الدقاق والصيرفي وَبَعض الْحَنَابِلَة وَغَيرهم وَرُبمَا كَانَ قبح هَذِه الصُّورَة وأمثالها من أدلتهم على ذَلِك بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ وَأَيْضًا فأسماء الله وَصِفَاته توقيفية شَرْعِيَّة وَهُوَ أعز من أَن يُطلق عَلَيْهِ عبيده الجهلة مَا رَأَوْا من ذَلِك فَلَا يجوز تَسْمِيَته رب الْكلاب والخنازير وَنَحْو ذَلِك من غير إِذن شَرْعِي وَإِنَّمَا يُسمى بِمَا سمى بِهِ نَفسه {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} وَأما الآلام فَيمكن أَن تكون عقوبات على ذنُوب فتحسن نسبتها إِلَى المذنب كَقَوْل أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام {أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} وَقَالَ تَعَالَى {وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون} وَفِي آيَة أُخْرَى {وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَسمى عقوباتهم كسبا لَهُم وَعَملا وَقَالَ {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تقدم فِي آخر الْكَلَام فِي الاسماء الْحسنى وَهَذَا يدل عَلَيْهِ كثير من الْكتاب وَالسّنة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَفِي قِرَاءَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَجَاء ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} جَاءَ من وُجُوه شَتَّى قَالَه أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد وَقد طولت فِي هَذَا وجودته فِي العواصم وَهُوَ صَحِيح فقف عَلَيْهِ هُنَالك وعَلى مَا فِيهِ من الْآيَات القرآنية الْكَثِيرَة فلكلام الْخَلِيل حِينَئِذٍ وَجه لطيف غير مُجَرّد حسن الْخطاب وَأما إِضَافَة الْمعاصِي إِلَى الله تَعَالَى وتسميته خَالِقهَا فَهُوَ عكس ذَلِك كُله من كل وَجه وَلَا هُوَ مَعْلُوم من ضَرُورَة الدّين وَلَا من إِجْمَاع الْمُسلمين وَلَا من الْأَدِلَّة القاطعة وَلَا من الْأَدِلَّة الظَّاهِرَة وَلَا الْبِدْعَة فِيهِ مَأْمُونَة بل وَلَا هُوَ من الْمَسْكُوت عَنهُ حَتَّى تكون الْبِدْعَة فِيهِ لغوية وَالدّلَالَة ظنية بل مصادم النُّصُوص كتابا وَسنة وإجماعا من خير الامة وَكَونه نقصا مضادا للمادح الربانية ظَاهر مِنْهُ غير خَافَ فِيهِ فَوَجَبَ فِيهِ لُزُوم عِبَارَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الْكتاب وَالسّنة وَالسَّلَف وَعدم التمحل لتأويلاتها الْبَعِيدَة المتعسفة المشكرهة الْوَجْه الثَّانِي أَن الدّلَالَة على بطلَان الْجَبْر قاضية بِصِحَّة مَا ذكرنَا من إِضَافَة القبائح والفضائح إِلَى فاعلها الرَّاغِب فِيهَا الْمُخْتَار لعارها وَمَا فِيهَا من الذَّم والخزي وقبح اضافتها إِلَى السبوح القدوس الْمحرم لَهَا الناهي عَنْهَا الكاره لَهَا البريء من لومها وذمها ونقصها أصح الْبَرَاءَة ظَاهرا وَبَاطنا وَحقا وصدقا لَا كأكاذيب المداهنين للظلمة المطرين لَهُم بالممادح الكاذبة فان ذَلِك إِلَى الذَّم أقرب مِنْهُ إِلَى الْمَدْح لما فِيهِ من التَّذْكِير بِصَحِيح الْقدح وَلذَلِك قيل شعرًا (إِذا أثنى عَلَيْك المراء يَوْمًا ... بِمَا هُوَ لَيْسَ فِيك فَذَاك هاجي) فَكيف برد تمدح الرب عز وَجل بِالْبَرَاءَةِ من ذَلِك ونسبته إِلَى أعدائه وتسميته بالسبوح القدوس إِلَى نَحْو ذَلِك الْوَجْه الثَّالِث إِنَّا قد قَررنَا غير مرّة أَن الْعَادة تحيل وُقُوع مثل هَذَا وَظَاهره الْخَطَأ والقبح وَلَا يظْهر تَأْوِيله وَلَا تعَارض فِيهِ الاقوال وَذَلِكَ إِن كل مَا كثر وتكرر من كَلَام السّلف وَلم تعَارض فِيهِ الاقوال وَلم ينبهوا على تَأْوِيله وَلم يحذروا من ظَاهره وَمَفْهُومه وَجب أَن يكون على ظَاهره كأحاديث الاقدار وآيات الارادة ونفوذ الْمَشِيئَة وَمن ذَلِك كَون الْمعاصِي والقبائح وَالْفَوَاحِش والفضائح من عبيد السوء المذمومين بهَا فِي الدُّنْيَا والموعودين بالجزاء فِي الْآخِرَة عَلَيْهَا الْوَجْه الرَّابِع إِن فِي مَا ذَكرْنَاهُ عَن السّلف الصَّالح التَّصْرِيح بِنَفْي القبائح عَن الله تَعَالَى فِي قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَإِن كَانَ خطأ فَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان وَذَلِكَ دَلِيل الْحَقِيقَة أَلا ترى أَنه لَا يجوز أَن يُقَال على جِهَة الادب أَن الْكلاب والخنازير لَيست من خلق الله تَعَالَى وَلَا هُوَ رَبهَا وخالقها وَمن قَالَ ذَلِك كفر باجماع الْمُسلمين وَهُوَ نَظِير قَول ابْن مَسْعُود وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان أَتَرَى ابْن مَسْعُود يكون كَافِرًا وَيُصَرح بالْكفْر بَين خير أمة أخرجت للنَّاس وهم سكُوت ثمَّ يدونه أَئِمَّة الْمُسلمين مقررين لَهُ غير منكرين لَهُ وَابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي رَضِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته مَا رَضِي لَهُم وَالَّذِي قَالَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله أجاره من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الشَّيْطَان على أَنا لم نقل أَن الْمعاصِي من الْعباد على جِهَة المغالبة لارادته وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهَا مِنْهُم أَفعَال وذنوب وَسُوء اخْتِيَار كَمَا اجْتمعت عَلَيْهِ كلمة أهل السّنة والمعتزلة كَمَا علمنَا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نقُول فِي حَدِيث أبي ذَر الَّذِي خرجه مُسلم وَغَيره فِي الصِّحَاح فِيهِ فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد شرا فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَلَكنَّا لَا نقُول كَمَا تَقول المبتدعة أَنه لَا يقدر على هِدَايَة أهل الضلال بل نقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} كَمَا تقدم مَبْسُوطا فِي مَسْأَلَة الْمَشِيئَة الْوَجْه الْخَامِس ان ذَلِك ان كَانَ أدبا حسنا وثناء مناسبا لاسماء الله الحسى كَانَ نقيضه حَرَامًا فقد تقرر عِنْد الأشعرية أَنه لَا يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا الْمَدْح وَالثنَاء دون مَا فِيهِ نقص أَو مَا لَيْسَ فِيهِ نقص وَلَا ثَنَاء وَلَيْسَ فِي ذَلِك ثَنَاء وَلذَلِك اعْتَرَفُوا بِأَن الْأَدَب تَركه وتجنبه وكل مَا كَانَ كَذَلِك حرم وَلَا معنى للادب بِاللِّسَانِ دون الْجنان وَقد تقدم أَن ذَلِك خلاف مَذْهَب الأشعرية وَجِنَايَة عَلَيْهِم وَلَا يجوز خلاف ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل صَحِيح بِخلق الْكلاب والخنازير على وَجه لَا يُوهم الْخَطَأ الْوَجْه السَّادِس أَن تَأْوِيل ذَلِك على الادب مَعَ الله تَعَالَى لَا يحْتَمل إِلَّا فِيمَا صدر من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم على أَنا قد ذكرنَا مَا يمْنَع من ذَلِك فِي حَقهم أَيْضا لَكِن على تَسْلِيمه فانا قد ذكرنَا من كَلَام الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم اثْنَتَيْنِ وَعشْرين آيَة وَلَا يجوز حملهَا على ذَلِك لِأَن الادب من خَواص الْعباد وَلذَلِك وَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى أديبا كَمَا لَا يُسمى الادب من خَواص الْعباد وَلذَلِك لَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى أديبا كَمَا لَا يُسمى عَاقِلا وَلَا فَاضلا بالاجماع فانه أرفع وَأَعْلَى من ذَلِك جلّ وَعلا الْوَجْه السَّابِع أَنه انْعَقَد اجماع الْمُسلمين على وجوب الرضى بِمَا كَانَ من الله تَعَالَى وعَلى تَحْرِيم الرضى بِالْمَعَاصِي وَوُجُوب كراهتها وَهَذَا على الْحَقِيقَة لَا يُمكن حمله على الادب وَهَذَا الْوَجْه كَانَ شاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقد اعْترف الْغَزالِيّ بِهِ وَهُوَ أعظم حجَّة عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّمَا يجب الرضى بِالْقضَاءِ بِالْمَعَاصِي لَا بِالْمَعَاصِي وَطول فِيهِ فِي بَاب الرضى بِالْقضَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فصل فِي تَفْسِير خلق الافعال (وَالِاخْتِلَاف فِي ذَلِك وَبَيَان الْأَحْوَط فِيهِ لطَالب السّنة) اعْلَم أَنا قد بَينا فِيمَا تقدم أَن السّنة هِيَ مَا صَحَّ واشتهر واستفاض فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وتابعيهم وبلغنا متواترا أَو مَشْهُورا من غير مُعَارضَة وَلَا شُبْهَة مثل الايمان بالاقدار لتواتره فِي الْأَخْبَار والْآثَار فَلَيْسَ خلق أَفعَال الْعباد من هَذَا وَلَا هُوَ قريب مِنْهُ فَلَا وَجه لكَونه من السّنة لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين علم أَرْكَان الاسلام والايمان والاحسان لم يذكرهُ ثمَّ لم يَصح فِيهِ حَدِيث وَاحِد وَلَا أثر وَأما أَخذه من خَالق كل شَيْء فَهُوَ خلاف الِاحْتِيَاط فِي مَوَاضِع الْخطر حَيْثُ لَا ضَرُورَة وَهُوَ مثل أَخذ المعتزلي من ذَلِك أَن الْقُرْآن مَخْلُوق وأمثال هَذَا مِمَّا لَا يُحْصى ويوضح ذَلِك وُجُوه الْوَجْه الأول إِن الْخلق لَفْظَة مُشْتَركَة وَأشهر مَعَانِيهَا التَّقْدِير وَلَا نزاع فِي ذَلِك والافعال مخلوقة بِهَذَا الْمَعْنى بِلَا نزاع كَمَا هُوَ قَول الامام الْجُوَيْنِيّ وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق واصحابهما من أهل السّنة بل هُوَ قَول الْمُعْتَزلَة والشيعة وَلم يذكر الْجَوْهَرِي فِي صحاحه لِلْخلقِ معنى فِيمَا نَحن فِيهِ إِلَّا التَّقْدِير وَكَذَلِكَ ابْن الْأَثِير فِي نِهَايَة الْغَرِيب فانه قَالَ أصل الْخلق التَّقْدِير ثمَّ فسر خلق الله الاشياء بعد أَن لم تكن وانه تَعَالَى يُسمى الْخَالِق بِاعْتِبَار تَقْدِير وجود الْأَشْيَاء مِنْهُ أَو بِاعْتِبَار الايجاد على وفْق التَّقْدِير هَذَا مَعَ توسعه فِي النَّقْل وَعدم تهمته بعصبية وَلَا جهل فانه نقل كِتَابه من سِتَّة عشر مصنفا لأئمة اللُّغَة وهم أَبُو عُبَيْدَة والمازني والاصمعي وَالقَاسِم بن سَلام وَابْن قُتَيْبَة وثعلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وشمر بِهِ حَمْدَوَيْه والأنباري وَأحمد بن الْحسن الْكِنْدِيّ وَأَبُو عَمْرو الزَّاهِد والخطابي والهروي والأزهري والزمخشري والأصفهاني وَابْن الْجَوْزِيّ قَالَ وَغير هَؤُلَاءِ من أَئِمَّة اللُّغَة والنحو وَالْفِقْه وَلَكِن لَا معنى لتسمية الافعال مخلوقة بِهَذَا الْمَعْنى أَعنِي إِيجَاب اعْتِقَاد ذَلِك على كل مُسلم وإيهام اخْتِصَاص أهل السّنة بِهِ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه لَا ثَمَرَة لَهُ لَا خلافية وَلَا وفاقية وَإِنَّمَا هُوَ مثل تَسْمِيَتهَا مَعْلُومَة ومكتوبة وَثَانِيهمَا أَن عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة هُنَا وَردت بِأَلْفَاظ بَيِّنَة الْمعَانِي غير مُشْتَركَة بَين مَا يَصح وَمَا لَا يَصح وَقد أَجمعت الامة على أَنه لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى والتبديل لألفاظ الْمَعْصُوم إِلَّا عِنْد الاسْتوَاء والمعلوم بِالْيَقِينِ حَتَّى لَا يجوز تَبْدِيل الْخَفي بالجلي وَلَا الْعَكْس وَلَا الظَّاهِر الظني بِالنَّصِّ الْقَاطِع وَلَا مَا لَا اشْتِرَاك فِيهِ بالمشترك وَلَا الْعَكْس الْوَجْه الثَّانِي مَا تقدم الْآن من اعْتِبَار مَا تجب كراهيته وَيحرم الرضى بِهِ فِي دقائق هَذِه الْمَسْأَلَة ومضائقها فانه ميزَان حق ومعيار صدق وَأَنت إِذا اعتبرته هُنَا وضح لَك الصَّوَاب وانكشف لَك الارتياب فانه يجب الرضى بِخلق الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ فعله بالاجماع فَلَو كَانَت الْمعاصِي من حَيْثُ هِيَ معاص خلقا لَهُ وفعلا وَجب الرضى بهَا وفَاقا لَكِن الرضى بهَا حرَام بالنصوص الجمة والاجماع الْمَعْلُوم من الْجَمِيع وَهَذَا وَجه وَاضح لَا غُبَار عَلَيْهِ وَلَا ريب فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْوَجْه الثَّالِث إِن أهل السّنة كلهم قد وافقوا على أَن أفعالنا لَا تسمى مخلوقة من حَيْثُ نسبت الينا وَإِنَّمَا تسمى بذلك من حَيْثُ نسبت إِلَى الله تَعَالَى ففارقوا الجبرية فِي الْمعَانِي مُفَارقَة بعيدَة وقاربوهم فِي الْعبارَات مقاربة كَثِيرَة حَتَّى غلط عَلَيْهِم خصومهم بِسَبَب ذَلِك ونسبوهم إِلَى الْجَبْر فَيَنْبَغِي مِنْهُم وَمِمَّنْ ينصر مَذْهَبهم تجنب الْعبارَات الَّتِي توهم مَذْهَب الجبرية ليتم بذلك نزاهتهم مِنْهُ حَتَّى لَا يحْتَج عَلَيْهِم بِتِلْكَ الْعبارَات جبري وَلَا معتزلي وَلَا يغلط بِسَبَبِهَا عَامي وَلَا سني فقد وَقع بِسَبَبِهَا خبط كثير وَغلط فَاحش وَقد قَالَ الله تَعَالَى {لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا انظرنا} لما وَقع فِي أحد اللَّفْظَيْنِ من الْمفْسدَة دون اللَّفْظ الآخر فلنتكلم مَعَ كل فرقة من فرقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فَأَما إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَمن تَابعهمْ فقد وافقونا بِحَمْد الله تَعَالَى وَأما الجبرية الْجَهْمِية فَلَيْسَ هم من فرق أهل السّنة على الْحَقِيقَة وَلَكِن نتكلم مَعَهم لنستقصي القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَنَقُول لَهُم قَوْلكُم أَن فعل العَبْد مَخْلُوق لله تَعَالَى وَحده لَا يشركهُ العَبْد فِيهِ خلاف الضَّرُورَة الْعَقْلِيَّة والسمعية ويلزمكم على هَذَا أَن لَا تصح تَسْمِيَته فَاعِلا أَلْبَتَّة وَذَلِكَ يسْتَلْزم أَن لَا يكون مُطيعًا وَلَا عَاصِيا لِأَن كَونه مُطيعًا وعاصيا فرع على كَونه فَاعِلا والالزم أَن يكون الْيَهُود الممسوخون قردة مُطِيعِينَ بكونهم كَانُوا قردة هَذَا على جِهَة النَّافِلَة وَإِلَّا فالمختار عدم مناظرة من بلغ فِي الْجَهْل والعناد إِلَى هَذَا الْحَد وَأما الاشعرية الَّذين قَالُوا أَن فعل العَبْد الَّذِي هُوَ كسب متميز من فعل الله الَّذِي هُوَ خلق فان الْحجَّة عَلَيْهِم وَاضِحَة وَذَلِكَ أَن الأَصْل الْمَعْلُوم أَن لَا يُضَاف إِلَى كل فَاعل إِلَّا مَا هُوَ أثر قدرته وَلما كَانَ أثر قدرَة الله تَعَالَى عِنْدهم هُوَ الذوات والأعيان وَأثر قدرَة العَبْد هُوَ الاحوال وَالْوُجُوه والاعتبارات لم يَصح وَلم يحسن أَن يُضَاف فعل العَبْد إِلَى الله وَلَا فعل الله إِلَى العَبْد لِأَنَّهُ من قبيل الْكَذِب الصَّرِيح الْمُتَّفق على تَحْرِيمه وَلَو جَازَ أَن يُضَاف فعل العَبْد الْقَبِيح إِلَى ربه الحميد الْمجِيد لجَاز أَن يُضَاف فعل الله تَعَالَى إِلَى عَبده فيسمى العَبْد خَالِقًا فَأَما تَسْمِيَة أَفعَال الْعباد مخلوقة حَقِيقَة فقد تعذروا واستحال على مَذْهَبهم وَأما تَسْمِيَتهَا مخلوقة مجَازًا فَهُوَ الَّذِي يُمكن أَن يَقع فِيهِ الْغَلَط أَو الغلاط وَالْحق أَنه مَمْنُوع وَدَلِيل مَنعه وُجُوه أَولهَا أَن للمجاز شَرَائِط مَعْلُومَة عِنْد عُلَمَاء الْمعَانِي وَالْبَيَان من أوجبهَا الِاشْتِرَاك فِي أَمر جلي غير خَفِي يُوجب المقاربة أَو المشابهة بَين الْأَمريْنِ كاشتراك الشجاع والاسد فِي قُوَّة الْقلب والكريم وَالْبَحْر فِي كَثْرَة النَّفْع وَنَحْو ذَلِك وَلَا مُنَاسبَة بَين أَفعَال الرب السبوح القدوس الْحَكِيم الْعَلِيم وَبَين أَفعَال الشَّيَاطِين والسفلة والسفهاء وأخبث الْخلق وَثَانِيها أَن جناب الْملك الْعَزِيز أرفع مرتبَة وَأبْعد قدرا من أَن يجوز لنا أَن نتصرف فِيهِ مثل هَذَا التَّصَرُّف من غير إِذن شرِيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وَثَالِثهَا انا متفقون على أَن مثل هَذَا مَمْنُوع وَأَن هَذَا الْمقَام غير مُبَاح وَلَا مسكوت عَنهُ وَذَلِكَ من جِهَتَيْنِ الْجِهَة الأولى أَن الْبِدْعَة مَمْنُوعَة والجهة الثَّانِيَة أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف إِلَّا بِمَا قد تحقق فِيهِ أَنه مدح وثناء دون مَا فِيهِ نقص أَو مَا لَيْسَ فِيهِ نقص وَلَا ثَنَاء وَرَابِعهَا أَن هَذَا من قبيل اثبات اللُّغَة بِالنّظرِ الْعقلِيّ واللغة لَا تثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيح عَن أئمتها عِنْد الْجُمْهُور فِي الْحَقَائِق الوضعية وَعند طَائِفَة فِي الْحَقَائِق وَالْمجَاز مَعًا وَلم ينقلوا فِي ذَلِك شَيْئا وَهَذِه كتب اللُّغَة مَوْجُودَة وَقد ذكرت فِيمَا تقدم قَرِيبا أَن الْجَوْهَرِي لم يذكر فِي صحاحه لِلْخلقِ معنى إِلَّا التَّقْدِير أَعنِي فِي هَذَا الْمَعْنى الَّذِي نَحن فِيهِ وَإِن كَانَ قد ذكر مَعَاني أخر كالخلق بِمَعْنى الْكَذِب فَافْهَم هَذِه النُّكْتَة وخامسها أَن أهل اللُّغَة وَلَو أَجَازُوا شَيْئا فِي أسمائنا وأحوالنا فان أَسمَاء الله تَعَالَى توقيفية وَلذَلِك لَا يُسمى عَاقِلا وَلَا فَاضلا وَلَا يجوز نَحْو ذَلِك لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا بالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّهُمَا من أجل الاسماء وأحمدها وَأَشْرَفهَا فَكيف يُسمى خَالق القبائح وَالْفَوَاحِش والفضائح من غير إِذن سَمْعِي مِمَّن لَا يُجِيز عَلَيْهِ أَن يُوصف بِوَصْف لَا ذمّ فِيهِ وَلَا مدح وَمَا الملجئ إِلَى هَذَا والداعي اليه وَالله تَعَالَى هُوَ الْملك الْعَزِيز الَّذِي لَيْسَ لعبيده أَن يتصرفوا فِي أنفسهم إِلَّا باذنه فَكيف فِي صِفَاته وأسمائه وسادسها أَن هَذَا مَمْنُوع بالبرهان فَلَا يجوز التَّجَوُّز فِيهِ كَمَا لَا يجوز أَن يُسمى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ظَالِما مجَازًا وَذَلِكَ الْبُرْهَان هُوَ إِخْبَار كتاب الله تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه عَن حسن جَمِيع مخلوقات الله وَذَلِكَ قَوْله عز وَجل {ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الرَّحِيم الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه وَبَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين} وَقَالَ تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَكيف يُضَاف إِلَى الحميد الْمجِيد السبوح القدوس الَّذِي تمدح بِأَنَّهُ أحسن الْخَالِقِينَ وَأَنه أحسن كل شَيْء خلقه بِغَيْر إِذن مِنْهُ أَنه خَالق جَمِيع من فِي الْعَالم من كل كذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وظلم وخبث وَكفر وفحش وَقد نَص تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم على أَن أسماءه كلهَا حسنى وَالْحُسْنَى تَأْنِيث الاحسن وَالْحسن الرَّاجِع إِلَى الْحِكْمَة أنسب أولى بِكُل مخلوقات الله الْحَسَنَة من الْحسن الرَّاجِع إِلَى الصُّورَة فَمَا كَانَ من الصُّورَة الْحَسَنَة جمع الحسنين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} وَمَا لم يظْهر فِيهِ حسن الصُّورَة من الْحِجَارَة وَالتُّرَاب وَالْجِبَال لم يخل من حسن الْحِكْمَة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم أَلا ترى أَن جَمِيع عِبَارَات الْكتاب وَالسّنة وَأهل اللُّغَة فِي الْجَاهِلِيَّة والاسلام وَالْمُسْلِمين من أهل السّنة والبدعة من الْعَامَّة والخاصة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بل والجبرية الْجَهْمِية المبتدعة كلهم عبروا عَن أَفعَال الْعباد بأسمائها الْخَاصَّة بهَا ويكسب الْعباد لَهَا وفعلهم واختيارهم دون خلق الله تَعَالَى لَهَا فيهم فَيَقُولُونَ إِذا زنى الزَّانِي مُخْتَارًا غير مكره وَجب عَلَيْهِ الْحَد وَكَذَلِكَ إِذا قتل وَجب عَلَيْهِ الْقصاص وَإِذا كفر وَجب جهاده وَنَحْو ذَلِك وَلَا يَقُول أحد مِنْهُم حَتَّى الجبرية الضلال إِذا خلق الله الزِّنَا فِي الزَّانِي جلد وَإِذا خلق الْقَتْل فِي الْقَاتِل قتل وَإِذا خلق الْكفْر فِي الْكَافِر حورب وَهَذِه كتبهمْ شاهدة بذلك وَلَو أَن أحدا قَالَ ذَلِك وحافظ عَلَيْهِ فَلم ينْطق بِمَعْصِيَة منسوبة إِلَى فاعلها وَبدل نِسْبَة الْمعاصِي إِلَى أَهلهَا بنسبتها إِلَى خلق الله تَعَالَى فِي أَهلهَا فِي جَمِيع كَلَامه أَو كثير مِنْهُ لَكَانَ ذَلِك من أوضح الْبدع وأشنع الشنع وَشر الْأُمُور المحدثات الْبَدَائِع وَأما سَائِر من قَالَ أَن أَفعَال الْعباد مَقْدُور بَين قَادِرين من غير تَمْيِيز بِالذَّاتِ فَالْكَلَام مَعَهم مثل الْكَلَام مَعَ الاشعرية لأَنهم وَإِن لم يفرقُوا بَين فعل الرب عز وَجل وَفعل العَبْد بِالذَّاتِ فانهم يفرقون بَينهمَا بالوجوه والاعتبارات وَذَلِكَ أَمر ضَرُورِيّ فانهم لابد أَن يَقُولُوا أَن العَبْد فعل الطَّاعَة على وَجه الذلة والخضوع والامتثال والتقرب وَالرَّغْبَة والرهبة وَإِن الله تَعَالَى منزه عَن جَمِيع هَذِه الْوُجُوه وَإِن الله تَعَالَى فعل ذَلِك الْفِعْل إِمَّا لغير عِلّة كَمَا هُوَ قَول بَعضهم وَإِمَّا على جِهَة الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالنعْمَة أَو على جِهَة الْحِكْمَة والابتلاء والامتحان فَثَبت بِهَذَا أَن فعل العَبْد مركب من أَمريْن اثْنَيْنِ أَحدهمَا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الذَّات الَّتِي هِيَ مَقْدُور بَين قَادِرين وَثَانِيهمَا من تِلْكَ الْوُجُوه والاعتبارات الَّتِي يكفر من أجازها على الله سُبْحَانَهُ أَو سَمَّاهُ بهَا بالاجماع وَالله تَعَالَى مَا شَارك العَبْد إِلَّا فِي أجمل هذَيْن الامرين وأحمدهما فَكيف ينْسب اليه أخبثهما وشرهما وأقبحهما بِغَيْر إِذن مِنْهُ وهم إِنَّمَا فروا الْجَمِيع من قَول الجبرية لما يلْزم فِيهِ من نَحْو هَذِه الْأَشْيَاء فَيجب عَلَيْهِم أَن يتموا النزاهة عَن خبائث مَذْهَب الجبرية وَمَا يُقَارِبه ويضارعه مِمَّا لم ترد النُّصُوص الشَّرْعِيَّة بِوُجُوبِهِ على الْمُسلمين ودخوله فِي أَرْكَان الدّين وَاعْلَم أَنه قد تقرر بالِاتِّفَاقِ أَن اسْم الْخلق لَا يُطلق على شَيْء كالتخليق قَالَ تَعَالَى فِي المضغة {مخلقة وَغير مخلقة} أَي مصورة وَغير مصورة وَلذَلِك قَالَ أهل السّنة أَن الْقُرْآن لَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} لقَوْله تَعَالَى (أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر) وهما شَيْئَانِ فَدلَّ على أَن قَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} مَخْصُوص بِكُل شَيْء يُسمى مخلوقا وَأَن هَذِه الْآيَة فِي عَالم الْخلق دون عَالم الْأَمر فَثَبت أَنه لَا حجَّة لمن سمى الله خَالِقًا لمعاصي الْعباد فِي قَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} حَتَّى يدل على أَنَّهَا تسمى مخلوقة فِي اللُّغَة وَكَيف وَقد اتفقنا على انها تسمى كسبا وَعَملا وفعلا لَا خلقا أَلا ترى أَن من جعل العَبْد من أهل السّنة مؤثرا فِي الذَّات باعانة الله تَعَالَى لَا يُسَمِّيه خَالِقًا باعانة الله تَعَالَى مَا ذَلِك إِلَّا لِأَن هَذِه الذَّات هِيَ الأكوان وَكَونهَا ذَوَات غير صَحِيح فِي لُغَة الْعَرَب وَفِي النّظر الصَّحِيح عِنْد محققي أهل الْمَعْقُول وَتَسْمِيَة الأشعرية لَهَا خلقا لله تَعَالَى لم تصح لُغَة يُوضحهُ أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ وَالشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وَمن تابعهما من أهل السّنة لم يسموا العَبْد خَالِقًا مَعَ أَنهم يَقُولُونَ أَن قدرته هِيَ الَّتِي أثرت فِي ذَات فعله وَحدهَا بتمكين الله تَعَالَى ومشيئته تَعَالَى من غير زِيَادَة مُشَاركَة بَينه وَبَين قدرَة الله تَعَالَى فِي تِلْكَ الذَّات الَّتِي هِيَ فعله وَكَسبه فَثَبت أَن الْمَعْنى أَن الله خَالق كل شَيْء مَخْلُوق أَي يُسمى مخلوقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي نزل عَلَيْهَا الْقُرْآن وَلم يكن أحد مِنْهُم يَقُول خلقت قيَاما وَلَا كلَاما وَلَا صَلَاة وَلَا صياما وَنَحْو ذَلِك وَلذَلِك ورد الْوَعيد للمصورين المشبهين بِخلق الله تَعَالَى فَلَو كَانَت أفعالنا خلق الله تَعَالَى لم يحرم علينا التَّشْبِيه بِخلق الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ لعن الْوَاشِمَات الْمُغيرَات خلق الله تَعَالَى وَلَا شكّ فِي جَوَاز تغييرنا لكثير من أفعالنا وَوُجُوب ذَلِك فِي كثير مِنْهَا وَكَذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى بعد ذكر مخلوقاته من الاجسام وتصويرها وَسَائِر مَا لَا يقدر الْعباد عَلَيْهِ من الاعراض {هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه} وَإِنَّمَا يعرف الْخلق فِي اللُّغَة لايجاد الاجسام وَيدل على مَا ذكرته مَا حَكَاهُ الله تَعَالَى وذم الشَّيْطَان بِهِ من قَوْله {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} فَدلَّ على أَن التَّغْيِير الَّذِي هُوَ فعلهم لَيْسَ هُوَ خلق الله تَعَالَى بل هُوَ مُغَاير لَهُ وَلذَلِك نَظَائِر كَثِيرَة ذكرتها فِي العواصم وَقد احْتج البُخَارِيّ فِي جَامعه الصَّحِيح بِمثل هَذَا على أَن الْكَلَام لَا يُسمى مخلوقا فَقَالَ فِي بَاب قَول الله عز وَجل {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم} وَلم يقل مَاذَا خلق ربكُم ذكره فِي آخر كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح فِي الْبَاب الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ من أَبْوَاب الرَّد على الْجَهْمِية وَقَالَت البغدادية الْخلق اسْم يخْتَص الايجاد بِغَيْر مُبَاشرَة فان قَالَ جَاهِل حجَّة الاشعرية على أَن أَعمالنَا مخلوقة أَنَّهَا ذَوَات لَا صِفَات وَلَا أَحْوَال وَلَا يقدر على شَيْء من الذوات إِلَّا الله تَعَالَى فَالْجَوَاب من وُجُوه الأول أوضحها وَهُوَ أَنهم لَا يَقُولُونَ بذلك بل يَقُولُونَ أَن أفعالنا هِيَ الاحوال وَالْوُجُوه والاعتبارات الْمُتَعَلّقَة بِتِلْكَ الذوات وَذَلِكَ هُوَ معنى الْكسْب كَمَا تقدم وَثَانِيها أَنهم منازعون فِي أَن الأكوان الَّتِي هِيَ الْحَرَكَة والسكون والاجتماع والافتراق ذَوَات بل هِيَ صِفَات أَو أَحْوَال كَمَا ذهبت اليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الجماهير وَأهل التَّحْقِيق كَابْن تَيْمِية وَأَصْحَابه مِنْهُم وَأَبُو الْحُسَيْن وَأَصْحَابه من الْمُعْتَزلَة وَمن لَا يُحْصى كَثْرَة من سَائِر طوائف الشِّيعَة والمتكلمين وَثَالِثهَا أَنه لَا يسلم لَهُم أَنه لَا يقدر على شَيْء من الذوات إِلَّا الله تَعَالَى بل قد خالفهم فِي ذَلِك امامهم الْكَبِير أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وأصحابهما فَقَالُوا أَنه يقدر على ذَلِك من أقدره الله تَعَالَى عَلَيْهِ ومكنه مِنْهُ وأراده لَهُ كَمَا تقدم إِذا تقرر هَذَا فلنكمل الْفَائِدَة بِمَا بَقِي لَهُم من الْأَدِلَّة الَّتِي يُمكن أَن يغتر بهَا أحد فَمن ذَلِك قَول الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي مجادلة عباد الاصنام وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنهُ {قَالَ أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقد احْتج بهَا أَبُو عبيد لَهُم وَأنكر عَلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة كَمَا ذكره فِي مُشكل الْقُرْآن وَكِلَاهُمَا من أهل السّنة وَقَالَ ابْن كثير الشَّافِعِي فِي أول الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَسَوَاء كَانَت مَا مَصْدَرِيَّة أَو بِمَعْنى الَّذِي فَمُقْتَضى الْكَلَام أَنكُمْ مخلوقون والاصنام مخلوقة فَكيف عبَادَة مَخْلُوق لمخلوق فَأَشَارَ إِلَى مِثَال الْخلاف وَلم يتَعَرَّض لترجيح وَاعْلَم أَن من يتَأَمَّل هَذَا توهم أَن الْآيَة من النُّصُوص على خلق الافعال وَلذَلِك يستروح كثير من الْقَائِلين بذلك اليها ويستأنسون بهَا وَلَو أنصفوا مَا استحلوا ذَلِك فان القَوْل فِي تَفْسِير كتاب الله تَعَالَى بِغَيْر علم حرَام بِالنَّصِّ وَفِيه حديثان معروفان عَن ابْن عَبَّاس وجندب بن عبد الله وَلَا خلاف فِي أَن فِي الْآيَة اجمالا واشتراكا بِالنّظرِ إِلَى لَفْظَة مَا تَعْمَلُونَ فانها مُحْتَملَة أَن تكون بِمَعْنى الَّذِي تَعْمَلُونَ كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة يس {ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم} فَجعل مَا عملته أَيْديهم مَأْكُولا وكل مَأْكُول مَخْلُوق لله وَحده لَا عمل للْعَبد فِيهِ ألبته وَقد سَمَّاهُ مَعْمُولا لأيديهم لمباشرتهم لَهُ وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة بِمَعْنى وعملكم وَلما كَانَ ذَلِك كَذَلِك وَلم يحل أَن يتقول على الله تَعَالَى إِلَّا بِوَجْه صَحِيح وَإِلَّا وَجب الْوَقْف ورد ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى لقَوْله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} لَكِن هُنَا وُجُوه ترجح أَنَّهَا بِمَعْنى الَّذِي تَعْمَلُونَ وَهُوَ الاصنام الَّتِي خلقهَا الله تَعَالَى حِجَارَة وعملونا أصناما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فَهِيَ معمولة مصنوعة حَقِيقَة وَقد يُسمى الْمَعْمُول عملا مجَازًا وَحَقِيقَة عرفية وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذَلِك فكونها معمولة كَاف فِي ذَلِك وأصل ذَلِك أَن فعل العَبْد يَنْقَسِم إِلَى مَا يكون لَازِما فِي مَحل الْقُدْرَة مثل حَرَكَة يَد الصَّانِع وَإِلَى مَا يتَعَدَّى إِلَى مخلوقات الله تَعَالَى مثل تَصْوِير الصَّانِع الَّذِي يبْقى أَثَره فِي الْحِجَارَة وَغَيرهَا وَهُوَ الَّذِي منع ثُمَامَة المعتزلي والمطرفية أَن تكون فعلا للْعَبد فالآية تحْتَمل بِالنّظرِ إِلَى لَفظهَا ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَنه تَعَالَى خلق جَمِيع أَفعَال الْعباد على الْعُمُوم كَمَا قَالَ الْمُخَالف الثَّانِي أَنه خلق الاصنام الَّتِي هِيَ معمولات الْعباد ومصنوعاتهم لما فِيهَا من أثر تصويرهم وتشكيلهم الثَّالِث أَنه خلق الاصنام الَّتِي فِيهَا عَمَلهم وتصويرهم وعَلى هَذَا الثَّالِث يكون التَّقْدِير وَمَا تَعْمَلُونَ فِيهِ وَالثَّانِي من هَذِه الِاحْتِمَالَات هُوَ الرَّاجِح لوجوه الْوَجْه الأول أَن الله تَعَالَى سَاق الْآيَة فِي حجاج الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام للْمُشْرِكين وَأورد حجَّته عَلَيْهِم فِي بطلَان ذَلِك وتقبيحه وَلَيْسَ فِي كَون أَفعَال الْعباد مخلوقة لله تَعَالَى حجَّة على ذَلِك من هَذِه الْجِهَة قطّ وَفِي كَون الاصنام مخلوقة لله تَعَالَى ذواتا وأعيانا معمولة للعباد نحتا وتصويرا أوضح برهَان على بطلَان ربوبيتها الْوَجْه الثَّانِي أَن الله تَعَالَى نَص على هَذَا الْمَعْنى فِي غير هَذِه الْآيَة وَالْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْفرْقَان {وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} وَقَالَ فِي سُورَة النَّحْل {وَالَّذين يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} الْوَجْه الثَّالِث أَنه قد ورد فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَقْتَضِي ذَلِك وَقد أجمع أهل التَّفْسِير وَمن يحْتَج بِهِ من الجماهير إِلَى الرُّجُوع إِلَى مثل ذَلِك فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع المجملة من كتاب الله تَعَالَى وَذَلِكَ مَا أخرجه الْحَاكِم أَو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك فِي أول كتاب الْبر مِنْهُ فَقَالَ أخبرنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الزَّاهِد الاصبهاني أخبرنَا أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن يحيى بن مُحَمَّد الْمدنِي السجْزِي حَدثنِي أبي عَن عبيد بن يحيى عَن معَاذ بن رِفَاعَة بن رَافع الزرقي عَن أَبِيه رِفَاعَة ابْن رَافع وَكَانَ قد شهد بَدْرًا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه خرج وَابْن خَالَته معَاذ بن عفراء حَتَّى قدما مَكَّة فَلَمَّا هبطا من الثَّنية رَأيا رجلا تَحت الشَّجَرَة إِلَى قَوْله قُلْنَا من أَنْت قَالَ انزلوا فنزلنا فَقُلْنَا أَيْن الرجل الَّذِي يَدعِي وَيَقُول مَا يَقُول فَقَالَ أَنا فَقلت لَهُ فاعرض عَليّ فَعرض علينا الاسلام فَقَالَ من خلق السَّمَوَات وَالْجِبَال فَقُلْنَا الله فَقَالَ فَمن خَلقكُم قُلْنَا الله قَالَ فَمن عمل هَذِه الاصنام قُلْنَا نَحن قَالَ فالخالق أَحَق بِالْعبَادَة أم الْمَخْلُوق فَأنْتم عملتوها وَالله أَحَق أَن تَعْبُدُوهُ من شَيْء عملتموه قَالَ الْحَاكِم هَذَا حَدِيث صَحِيح الاسناد فسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخلوقة لله ومعمولة للعباد حَيْثُ قَالَ إِن الْخَالِق أَحَق بِالْعبَادَة من الْمَخْلُوق وَقَالَ إِن الله أَحَق بِالْعبَادَة من شَيْء عملتموه فَنَاسَبَ حجَّة أَبِيه ابراهيم عَلَيْهِمَا السَّلَام وماثلها فَفرق بَين الْخلق وَالْعَمَل وَجعل الاصنام مخلوقة من حَيْثُ هِيَ من الْجبَال الَّتِي قد قرر عَلَيْهِم أَنَّهَا مخلوقة وَجعلهَا معمولة من حَيْثُ أَنَّهَا لَا تسمى أصناما إِلَّا بعد تصويرهم وتشكيلهم لَهَا الْوَجْه الرَّابِع أَن الْمَعْنى إِذا كَانَ على مَا ذكرنَا حصل مِنْهُ تَنْبِيه الْمُشْركين على أَنهم مثل الاصنام فِي كَونهم مخلوقين وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يكون العَبْد والرب من جنس وَاحِد لَا سِيمَا وَالْعَابِد مِنْهُمَا أشرف من المعبود بِالضَّرُورَةِ من جِهَتَيْنِ الْجِهَة الأولى أَنه حَيّ والصنم جماد وَالثَّانيَِة أَنه الَّذِي عمل صُورَة معبودة من الْأَصْنَام ونحته وشابه صورته بِخلق الله تَعَالَى وَهُوَ من هَذِه الْجِهَة يُسمى مَعْمُولا لَهُ ومصنوعا كَمَا يُقَال هَذَا السَّيْف صَنْعَة فلَان وَعَمله وَمَا أشبه ذَلِك من تصرف الصناع فِي خلق الله تَعَالَى فِي الحلى والاصباغ وَسَائِر المسببات وَهِي حقائق عرفية وَلم ينكرها إِلَّا ثُمَامَة والمطرفية على مَا تقدم بَيَانه الْوَجْه الْخَامِس أَن قرينَة الْحَال وَصِيغَة الْبَيَان تَقْتَضِي أَن يكون قَوْله وَمَا تَعْمَلُونَ مُوَافقا فِي الْمَعْنى لقَوْله تَعَالَى {مَا تنحتون} فِي أَولهَا لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 صدر الْآيَة الْكَرِيمَة بانكار عبَادَة المنحوت ثمَّ أكد ذَلِك الانكار بِكَوْن الْعِبَادَة لَهُ وَقعت فِي حَال خلق الله لَهُ لكنه سَمَّاهُ فِي آخر الْآيَة مَعْمُولا وَفِي أَولهَا منحوتا لكَرَاهَة تَكْرِير الْأَلْفَاظ المتقاربة فِي بلاغة بلغاء الْعَرَب كَمَا خَالف اللَّفْظ فِي قَوْله {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} مَعَ أَن الْمُسلمين فِي آخر الْكَلَام هم الْمُؤْمِنُونَ المذكورون فِي أَوله وَالَّذِي يدل على ذَلِك أَن الْوَاو حَالية فِي قَوْله تَعَالَى {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} فَالْمَعْنى كَيفَ غفلتم عَن قبح عبادتكم لَهَا وَالْحَال هَذِه وَأَنت إِذا نظرت فِي طباق الْكَلَام وسياقه لم يحسن قطّ أَن يكون الْمَعْمُول غير المنحوت وَوَجَب أَن يكون هُوَ إِيَّاه أما أَنه لَا يحسن فلَان الْجُمْلَة الحالية تَقْتَضِي شدَّة النكارة فِي مثل هَذَا الْموضع وَلنْ يَصح أَن تقتضيها إِلَّا بذلك كَمَا تَقول أتجفو زيدا وَهُوَ أَبوك فَلَا يجوز أَن يكون الْأَب غير زيد كَمَا لَا يجوز أَن تَقول أتجفو زيدا وَأَبُوك خَالِد حَيْثُ لَا يكون بَينهمَا مَا يُوجب زِيَادَة النكارة وَلَو كَانَ الْمَعْمُول غير المنحوت لم يكن الشّرك مَعَه أقبح إِذا كَانَ الْمَعْمُول هُوَ المنحوت كَانَ الشّرك مَعَه أقبح وَكَذَلِكَ يكون الشّرك أقبح مَعَ عدم خلق الْأَعْمَال بِخِلَاف الشّرك مَعَ خلق الاعمال فانه لَيْسَ بأقبح مِنْهُ مَعَ عدم خلقهَا بل يلْزم أَن لَا يقبح وَأما أَنه يجب أَن يكون الْمَعْمُول هُوَ المنحوت فَلَمَّا فِي ذَلِك من زِيَادَة قبح الشّرك لِأَنَّهُ لَا يخفي على عَاقل أَن أقبح الشّرك أَن يَجْعَل العَبْد الْمَخْلُوق شَرِيكا لرَبه الْخَالِق لَهُ وَذَلِكَ الشَّرِيك مَخْلُوق لرَبه باقرار العَبْد وَلَا سِيمَا وَذَلِكَ الشَّرِيك الْمَخْلُوق جماد مسخر للْعَبد مَصْنُوع لَهُ ينحته ويكسره ويشكله ويطمسه ويضعه وَيَرْفَعهُ ويدنيه ويقصيه ويتصرف أَنْوَاع التَّصَرُّف فِيهِ الْوَجْه السَّادِس أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِي خلق الْمَفْعُول بِهِ الْمُنْفَصِل عَن مَحل قدرَة العَبْد لَا فِي الْفِعْل نَفسه لقَوْله تَعَالَى {ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم} وَلَا خلاف بَين الْمُعْتَزلَة والأشعرية أَنه مَخْلُوق لله تَعَالَى وَكَذَلِكَ صَنْعَة المداد وَسَائِر الاصباغ والمسببات مثل ازهاق الْأَرْوَاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بالجراح والتغريق وَالتَّحْرِيق وَمثل السحر وآثاره وَلذَلِك احْتج الشهرستاني وَغَيره بِهَذِهِ الصُّورَة على الْمُعْتَزلَة حِين أَنْكَرُوا مَقْدُورًا بَين قَادِرين مَعَ اخْتِلَاف الْوُجُوه على أَنه لَا يَصح عَنْهُم انكار مثل ذَلِك وَمَعَ نزُول الْآيَة فِي هَذَا بالاجماع كَمَا ذكره ابْن كثير بل كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَلَا وَجه للْقطع بتعديتها بل لَا يَصح ظُهُور ذَلِك على جِهَة الظَّن لما فِي عُمُوم مَا من الْخلاف وَلما فِي تَعديَة الْعُمُوم على غير مَا نزل فِيهِ من ذَلِك وَلما فِي خلاف ذَلِك من المرجحات وَلذَلِك وَأَمْثَاله لم تكن الْآيَة نصا وَلَا ظَاهرا بَين الظُّهُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْوَجْه السَّابِع أَن النَّص على أَن أَعْمَالهم مخلوقة لله تَعَالَى يُنَافِي توبيخهم عَلَيْهَا والاستنكار الشَّديد لصدورها عَنْهُم لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ورد على مثل الشهرستاني والباقلاني من أَئِمَّة الأشعرية الَّذِي عرفُوا الْكَلَام فِي اللَّطِيف واعتقدوا صِحَة مَقْدُور بَين قَادِرين وَأَن أَفعَال الْعباد لَا تنْسب اليهم وحدهم لنُقْصَان قدرتهم عَن الِاسْتِقْلَال وَلَا إِلَى الله وَحده لكَمَال حجَّته عَلَيْهِم وقدسه عَن نقائصهم فَهَؤُلَاءِ لَو ورد عَلَيْهِم النَّص على خلق الاعمال لم يشكل عَلَيْهِم ظَاهره وَلَكِن يكون ذكره فِي هَذَا الْموضع غير مُنَاسِب للبلاغة لِأَن الْكَلَام البليغ لابد أَن يُنَاسب مُقْتَضى الْحَال وَمُقْتَضى الْحَال هُنَا زِيَادَة التقبيح والتوبيخ وَهُوَ لَا يزِيد على هَذَا التَّقْدِير وَلَكِن هَذَا التَّقْدِير مَعْلُوم الْبطلَان عِنْد الْجَمِيع واما أَن يكون الْخطاب بِهَذَا النَّص على خلق الاعمال ورد على أَجْهَل الْعَوام الطغام الَّذين عبدُوا لشدَّة غباوتهم الاصنام فانهم إِذا خوطبوا بِأَن أَعْمَالهم مخلوقة لله تَعَالَى لَا يسْبق إِلَى أفهامهم إِلَّا أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُسْتَقل بهَا غير مشارك فِيهَا وَحِينَئِذٍ ينقص ذَلِك التقبيح أَو يبطل أَو يتناقض الْكَلَام وينفتح بَاب الِاعْتِرَاض على الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِينَئِذٍ لاعدائه وَيرْفَع الشَّيْطَان رَأسه إِلَى الهامهم الزام الِاحْتِجَاج على الرُّسُل بِالْقدرِ وافحامهم بذلك كَمَا حكى الله تَعَالَى ذَلِك عَنْهُم فِي غير آيَة وكل عَاقل يُرِيد افحام خَصمه أَو ارشاده لَا يُورد عِنْد جداله أعظم شبه الْخصم فِي حَال الصولة عَلَيْهِ بِالْحجَّةِ القاطعة فَلم يكن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام يلقنهم فِي هَذِه الْحَال أعظم شبههم الَّتِي ضل بهَا كثير من الْمُسلمين بعد الاسلام ودق النّظر عَن جوابها على كثير من الْعلمَاء الاعلام مَعَ مَا أُوتِيَ الْخَلِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عَلَيْهِ السَّلَام من حسن الْعبارَة وإيضاح الْحجَّة أَلا ترى إِلَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا حكى عَنهُ من حجاجهم فِي سُورَة العنكبوت {إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا} كَيفَ عقب بطلَان مَا هم عَلَيْهِ مَا يدل على سوء اختيارهم فِي اخْتلَافهمْ الافك افتراء من عِنْد أنفسهم فَهَذَا هُوَ الْمُنَاسب لحَال المناظرة أَلا ترَاهُ لَا يصلح أَن يَقُول عوض قَوْله وتخلقون افكا وَالله الَّذِي خلق هَذَا الافك فِيكُم وأراده مِنْكُم لِأَنَّهُ يكون بذلك كالمعتذر لَهُم فِي حَال النكير عَلَيْهِم فَيكون مناقضا لقصده فَكَذَلِك لَو جعلنَا الْخلق بِمَعْنى انشاء الْعين فِي قَوْله {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَالْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {كتابا متشابها} أَي يشبه بعضه بَعْضًا فِي مَعَانِيه وَأَحْكَامه فَهَذِهِ الْوُجُوه ترجح أَن مَا تَعْمَلُونَ بِمَعْنى لذِي تَعْمَلُونَ على أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن تجْعَل الْأَصْنَام هِيَ المعمولة لِأَنَّهَا لَا تسمى أصناما الا بعد عَمَلهم أَو على أَن تجْعَل مَعْمُولا فِيهَا وَلَوْلَا مَا شهد لذَلِك من الْقُرْآن وَالسّنة والمرجحات الضرورية مَا رضيت أَن أَتكَلّم فِي كتاب الله تَعَالَى بِغَيْر علم وأقصى مَا فِي الْبَاب أَن يكون الَّذِي ذكرته مُحْتملا غير رَاجِح فَكيف يجوز الْقطع بِأَنَّهُ غير مُرَاد الله تَعَالَى وَالْقطع على أَن نقيضه هُوَ المُرَاد والاحتجاج بذلك على مَسْأَلَة كبرى قَطْعِيَّة من مهمات مسَائِل الِاعْتِقَاد الَّتِي أوقعت الْفرْقَة بَين الْمُسلمين والعداوة وَالله تَعَالَى يوفق الْجَمِيع إِلَى مَا أمرنَا بِهِ رَبنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الِاجْتِمَاع ويعصمنا عَمَّا نَهَانَا عَنهُ من التَّفَرُّق وَلنْ يُوجد إِلَى ذَلِك سَبِيل أوضح من ترك مَا لم يَتَّضِح وَالرُّجُوع إِلَى مَا استبان من الْكتاب وَالسّنة والتقديم لَهُ على مَا وَقع فِيهِ الِاحْتِمَال وَالِاخْتِلَاف وَالله عِنْد لِسَان كل قَائِل وَنِيَّته وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَقد أوضحت فِي العواصم بَقِيَّة المباحث وَبطلَان دَعْوَى الاجماع على خلق الْأَعْمَال إِلَّا بِمَعْنى التَّقْدِير وَسبق الْقَضَاء وجفوف الاقلام كَمَا قد ورد فِي كتاب الله تَعَالَى وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واتفقت الامة المرحومة المعصومة على صِحَة مَعْنَاهُ أَنه لَا يَقْتَضِي افحام الرُّسُل وَلَا يُنَاقض كَمَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حجَّة الْحَكِيم الْعَلِيم على مَا عَصَاهُ من عباده وَذكر ذَلِك كُله هُنَا يخرجنا عَن قصد الِاخْتِصَار بالمرة وَلَا نزاع فِي أَن الْأَفْعَال مخلوقة بِمَعْنى مقدرَة وَأما بِغَيْر ذَلِك الْمَعْنى فان سلمنَا أَن ذنوبنا تسمى مخلوقة لله تَعَالَى فِي اللُّغَة بِغَيْر ذَلِك الْمَعْنى مَعَ صدورها منا باختيارنا على وَجه تقوم الْحجَّة بِهِ علينا فَلَا وَجه لادخال ذَلِك فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد وأركان الاسلام وواجبات الايمان وَلَا حجَّة على ذَلِك وَلَا شُبْهَة وَلَا حرج على من لم يُؤمن بذلك لجهله بِهِ فَلَيْسَ كل حق يجب أَن يدْخل ذَلِك من وجود الموجودات وَعدم المعدومات وَقد علمنَا نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ديننَا كَمَا علمه ربه عز وَجل وَحصر لنا أَرْكَان الاسلام وَعلمنَا الايمان والاحسان فَمَا عد فِيهِ خلق الافعال وَإِنَّمَا عد فِيهِ سبق الاقدار كَمَا تَوَاتر فِي الاخبار وَلذَلِك لم يذكرهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ كَمَا ذكر الْقدر وَغَيره فِي أواخره ثمَّ انْظُر مَعَ تَسْلِيم نفي الْجَبْر وَتَسْلِيم قيام الْحجَّة لله تَعَالَى بِخلق الْقُدْرَة وتمكين الْمُكَلّفين أَي ثَمَرَة تبقي لاعتقاد أَن الْأَفْعَال مخلوقة وَإِنَّمَا حَافظ على ذَلِك فِي الأَصْل من يَقُول بالجبر ثمَّ ظن كثير من أهل الْكَلَام والْحَدِيث بعد ذَلِك أَنه من لَوَازِم عقائد السّنة فقالوه مَعَ نفي الْجَبْر وَلذَلِك ذكر ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى أَن الْأَشْعَرِيّ ألزم من قَوْله بذلك القَوْل بتكليف مَا لَا يُطَاق وَفِي كَلَامه هَذَا دلَالَة على أَن القَوْل مِمَّا يخْتَص بالأشعري وَحده فِي أول الْأَمر وَالله أعلم وعَلى تَسْلِيم ذَلِك كُله فاعتقاد أَنَّهَا مخلوقة بِمَعْنى مقدرَة يَكْفِي وَهُوَ صَحِيح بالاجماع كَمَا تقدم وَفِيه الحيطة والعصمة عَن تعديه إِلَى مواقع الْخلاف ومظان الْبِدْعَة وَلَكِن يعبر عَنْهَا بِأَنَّهَا مقدرَة لِأَنَّهَا صَرِيح عبارَة الْكتاب وَالسّنة وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا يعبر عَنْهَا بِأَنَّهَا مخلوقة لِأَنَّهَا توهم خلاف الصَّوَاب وَلِأَنَّهَا عبارَة الجبرية وَأهل الْكَلَام الْمُتَأَخِّرين عَن عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَلِأَنَّهَا مُخْتَلف فِيهَا وَقد نهينَا عَن الِاخْتِلَاف واختياره مَعَ التَّمَكُّن من تَركه وَقد نهى الله تَعَالَى عَن قَوْلهم رَاعنا وَأمر أَن يَقُولُوا مَكَانَهُ انظرنا لمصْلحَة يسيرَة كَيفَ مَا نَحن فِيهِ وَالله الْهَادِي وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف مَا لَا يُطَاق وَهُوَ قَول الجماهير من جَمِيع طوائف الْمُسلمين وَإِجْمَاع العترة والشيعة والمعتزلة وَرَوَاهُ ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ عَن الْفُقَهَاء أَجْمَعِينَ وَنسب السُّبْكِيّ الْمَنْع مِنْهُ إِلَى الْغَزالِيّ وَالشَّيْخ أبي حَامِد وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين الشهير بِابْن دَقِيق الْعِيد وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ والآمدي على تَفْصِيل ذكره فِي الْفرق بَين الْمحَال لذاته وَلغيره وَاعْلَم أَن هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَلَا ريب وَإِنَّمَا يتعجب من وُقُوع الْخلاف الشاذ فِي ذَلِك وَأي شكّ فِي ذَلِك وَالله تَعَالَى قد نَص فِي كِتَابه الْكَرِيم على ذَلِك فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَفِي آيَة أُخْرَى (لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا) بالنُّون وَفِي آيَة أُخْرَى {إِلَّا مَا آتاها} وَمِنْه {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {مكناهم فِي الأَرْض} وَفِي آيَة {وَلَقَد مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وَجَعَلنَا لَهُم سمعا وأبصارا وأفئدة} الْآيَة وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَالْمرَاد بالاحتجاج بِهَذِهِ الْآيَات وَنَحْوهَا أَنَّهَا شاهدة على اعْتِبَار مَا يُسمى حجَّة فِي عرف الْعُقَلَاء وَامْتِنَاع نقيض ذَلِك على أحكم الْحَاكِمين وَأَن هَذَا مَعْلُوم ضَرُورَة من كتب الله تَعَالَى وأديان رسله عَلَيْهِم السَّلَام وَنَصّ على مَا يسْتَلْزم ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى كَثْرَة من سَعَة رَحمته وَظُهُور عدله وعظيم فَضله وَعدل أَحْكَامه وَظُهُور حكمته وشمول نعْمَته وَقَوله من أَتَانِي يمشي أَتَيْته أسعى وَمن تقرب إِلَيّ شبْرًا تقربت اليه ذِرَاعا بل سمح سُبْحَانَهُ من الوسع الْمُمكن الْمَقْدُور مَا لَا يُحْصى وَنَصّ على ذَلِك فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ) فسمح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يُطَاق الْكثير الَّذِي لَا يعلم مِقْدَاره إِلَّا هُوَ وَلم يبْق من التكاليف إِلَّا مَا جعله سَببا لِرَحْمَتِهِ وفضله وكرامته كَمَا جعل الْبذر فِي الدُّنْيَا سَببا للزَّرْع الَّذِي لَا ينميه ويتمه سواهُ وَبشر سُبْحَانَهُ وَيسر وَنهى عَن التعسير والتنفير وَجَاء على لِسَان نبيه نَبِي الرَّحْمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه الْمَبْعُوث بالحنيفية السمحة وتلقى ذَلِك عُلَمَاء الاسلام بالتصديق والاشاعة وَعمِلُوا فِي الاحكام بِحَسب ذَلِك وَاحْتَجُّوا بِهِ وشاع فِيمَا بَينهم وذاع وانعقد على عدم انكاره الاجماع وَلم يُعَارض ذَلِك عقل وَلَا شرع وَلَا نَص وَلَا ظَاهر وناسب هَذَا كُله تمدح أصدق الْقَائِلين بِأَنَّهُ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَخير الرَّاحِمِينَ وَأكْرم الأكرمين وَلَا يخْتَص الْمُؤمنِينَ من رَحمته تَعَالَى إِلَّا كتَابَتهَا ووجوبها لَهُم وَنَحْو ذَلِك دون سعتها فانها لكل شَيْء كَمَا تبين فِي قَوْله تَعَالَى {ورحمتي وسعت كل شَيْء} الْآيَة وَمن حرمهَا فَذَلِك لاستحقاقه ولحكمه بَالِغَة وَهِي تَأْوِيل الْمُتَشَابه على مَا نَص على أَن الْخُصُوم جوزوا تَكْلِيف الْمُؤمنِينَ المرحومين بِمَا لَا يُطَاق عقلا وسمعا بل جوزوا عقلا عقابهم بذنوب أعدائهم الْمُشْركين بل جوزوا ذَلِك فِي حق الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالله تَعَالَى تمدح بضد ذَلِك وَبِأَن لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَله أعظم الْحَمد وَالْمجد وَالشُّكْر وَالثنَاء دع عَنْك الْعدْل فِي الحكم وَالْجَزَاء وعضد ذَلِك الثَّنَاء الْعَظِيم من رَسُوله الْكَرِيم بِأَنَّهُ لَا أحد أحب اليه الْعذر مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أجل ذَلِك أرسل رسله إِلَى الْعَالمين وَأنزل كتبه على الْمُرْسلين وَجعل رسله تترى إِلَى خلقه مبشرين ومنذرين ومعلمين ومحتجين وميسرين غير معسرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَالْعجب مِمَّن يَدعِي الْفِقْه والفهم بل الامامة الْعُظْمَى فِي الْعلم كَيفَ لم يعلم أَن مُرَاد الله تَعَالَى هُوَ أطيب الثَّنَاء وَأحسن الْأَسْمَاء وأجمل الْحَمد وَأتم الْعدْل وَأحمد الْأُمُور كلهَا أَو قد فهم هَذَا كُله وَلَكِن ظن أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَطلب تنجيزه من العَبْد الضَّعِيف وعقوبته عَلَيْهِ أَشد الْعقُوبَة وأدومها هُوَ أنسب بأطيب الثَّنَاء والممادح الربانية والمحامد الرحمانية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 عكس ذَلِك كَأَنَّهُ لم يعرف الْقُرْآن وَالسّنة قطّ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِك {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} وَقَالَ عز وَجل {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَقَالَ فِي الزمر {أَن تَقول نفس يَا حسرتى على مَا فرطت فِي جنب الله وَإِن كنت} الْآيَات إِلَى قَوْله {بلَى قد جاءتك آياتي فَكَذبت بهَا واستكبرت وَكنت من الْكَافرين} وَقَالَ تَعَالَى {ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين} وَقَالَ تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} فَجعل الْقسْط الَّذِي هُوَ الْعدْل مِمَّا هُوَ لَازم لتوحيده فِي الالهية وَمِمَّا هُوَ قَائِم بِهِ وَمِمَّا شهد بِهِ لنَفسِهِ وَشهد لَهُ بِهِ خَواص خلقه وَأهل مَعْرفَته وَالْعدْل هُوَ ضد الْجور والعنف والعسف وَذَلِكَ كُله دون تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فانه قد وصف بذلك كثير من مُلُوك الْجور وَلم يُوصف أحد مِنْهُم قطّ بتكليف مَا لَا يُطَاق كَمَا يَأْتِي تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا أَفلا يخَاف الْمُخَالف أَن لَا يكون من الْعلمَاء الَّذين شهدُوا لله بِهَذِهِ الشَّهَادَة إِلَى غير ذَلِك وأوضح من ذَلِك أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب الاعمال فِي الْكتب وَأشْهد على خلقه مَلَائكَته الْكِرَام ثمَّ نصب الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة وأنطق الْجُلُود والاعضاء بعد شَهَادَة الْمَلَائِكَة وصالحي خلقه بعد رسله عَلَيْهِم السَّلَام كل ذَلِك ليقيم الْحجَّة حجَّة عدله وعظيم فَضله وَيقطع اعذار المعاندين والجاهلين والمتجاهلين وَكم احْتج الله تَعَالَى بذلك وتمدح بِهِ فِي كريم كِتَابه كَقَوْلِه تَعَالَى {ثمَّ السَّبِيل يسره} وَقَوله تَعَالَى {وهديناه النجدين} وَقَوله عز سُلْطَانه {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} بل نفى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يسْتَلْزم ذَلِك أَو يُقَارِبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} فأوضح أَنه لم يبْق لَهُم عذرا يتعللون بِهِ إِذْ لَا معنى لنفي المغرم الثقيل مَعَ وجود التَّكْلِيف الْمُمْتَنع لذاته المستحيل ثمَّ تمدح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقضَاءِ الْحق يَوْم الْقِيَامَة فِي غير آيَة فالعجب مِمَّن لم يفهم أَن ذَلِك يُنَافِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق ويضاده مِمَّن يَدعِي الانصاف وَفهم الدقائق والغوص على غوامض الْحَقَائِق وَأَنه فِي رُتْبَة الذب عَن الاسلام وَنَحْو ذَلِك كثير جدا فِي كتاب الله تَعَالَى فَكيف يقدم على هَذَا كُله مَفْهُوم ظَنِّي مَرْجُوح مُخْتَلف فِي مَعْنَاهُ كَمَا ذكره الْغَزالِيّ فِي قَوْله تَعَالَى حاكيا عَن عباده {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَالله تَعَالَى يَقُول {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَيَقُول {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب} وَلَا شكّ فِي وضوح الْآيَات فِي نفي ذَلِك وحسنها سمعا وعقلا وفضلا وعدلا وَأما الْآيَة الَّتِي احْتج بهَا فقد ذكر الْبَغَوِيّ وَغَيره من هَل السّنة اخْتِلَاف الْمُفَسّرين فِي مَعْنَاهَا وفيهَا احْتِمَالَانِ لَا دَافع لَهما وَأيهمَا كَانَ تَفْسِيرهَا فَالثَّانِي تَفْسِير الَّتِي قبلهَا فَافْهَم أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد التكاليف الشاقة مَعَ دُخُولهَا تَحت الْقُدْرَة وَقد دلّ على ذَلِك حَدِيث أبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح وَغير مُسلم وَفِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَمَّن يَصُوم الدَّهْر فَقَالَ لَا صَامَ وَلَا أفطر فَقيل كَيفَ بِمن يَصُوم يَوْمَيْنِ وَيفْطر يَوْمًا قَالَ أَو يُطيق ذَلِك أحد إِلَى قَوْله فِيمَن يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وددت أَنِّي طوقت ذَلِك وَقد نَص ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعجز عَن ذَلِك لضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَأعظم من ذَلِك نفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُطيق أحد على صَوْم يَوْمَيْنِ وَفطر يَوْم وَذَلِكَ وَاضح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسر الطَّاقَة هُنَا بِمَا لَا مشقة فِيهِ وَلَا حرج فَدلَّ على أَن الشاق يُسمى غير مطاق فِي عرفهم وَلَا أصح من اثبات اللُّغَة بالسند الصَّحِيح بل الْمُتَّفق على صِحَّته من طَرِيق تلقتها الامة بِالْقبُولِ وَادّعى الاجماع على صِحَّتهَا بَاطِنا وظاهرا عدد كثير من أَئِمَّة الاسلام وَعَادَة اللغويين والمفسرين الِاكْتِفَاء فِي مثل ذَلِك بِرِوَايَة بعض أهل اللُّغَة بِغَيْر سَنَد وَلَا تَوْثِيق الِاحْتِمَال الثَّانِي أَن يكون من تحميل عقوبات الذُّنُوب فِي الدَّاريْنِ مثل المصائب فِي الدُّنْيَا وَعَذَاب الْقَبْر فِي البرزخ وَعَذَاب النَّار فِي الْآخِرَة وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى} وَهَذَا صَرِيح فِي هَذَا الْمَعْنى وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء} وَمِنْه حَدِيث عبد الْملك فِي ابْن الزبير وددت أَنِّي تركته وَمَا يحمل من الاثم فِي هدمها وبنائها ذكره ابْن الْأَثِير فِي نِهَايَة الْغَرِيب فِي مَادَّة ح م ل وَهُوَ معنى صَحِيح فصيح وَقد فسر بِهَذَا الْمَعْنى الْعَلامَة الْمُتَّفق على علمه وجلالته عبد الْملك بن جريج فَقَالَ هُوَ مسخ القردة والخنازير رَوَاهُ الْبَغَوِيّ عَنهُ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة فَجعله من قبيل مَا لَا يُطَاق من عقوبات الذُّنُوب وَجعله كثير من الْمُفَسّرين من الاول أَعنِي الشاق فَقَالَ مُجَاهِد هُوَ الغلمة وَقَالَ ابراهيم هُوَ الْحبّ وَقيل شماتة الْأَعْدَاء وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْعِشْق وَقيل هُوَ الْفرْقَة والقطيعة ذكر ذَلِك كُله الْبَغَوِيّ وَلم يذكر قطّ عَن أحد من الْمُفَسّرين أَنه تَكْلِيف الْمحَال وَهُوَ من أهل السّنة فَكيف يرى هَذَا الْمَعْنى المتسع لمثل هَذِه الِاحْتِمَالَات والمعاني الْمُخْتَلفَة يقدم على النَّص الْجَلِيّ الَّذِي أثنى الله تَعَالَى بِهِ على نَفسه وتمدح بِهِ من قَوْله {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمَا فِي معنى ذَلِك من أَسمَاء الله الْحسنى وَمَا ذَكرْنَاهُ من الحَدِيث وَلَا سِيمَا ونزول قَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} كل ذَلِك مَعَ قَوْله تَعَالَى {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ) فِي آيَة وَاحِدَة وَفِي وَقت وَاحِد فَلَا يجوز أَن يتناقض فَيكون أَحدهمَا نَاسِخا وَالْآخر مَنْسُوخا وكونهما نزلا مَعًا أَمر ثَابت فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَن أبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنا لَو سلمنَا لمن احْتج بهَا مَا توهمه من أَن المُرَاد لَا تحملنا مَا لَا نطيقه من التكاليف الْمحَال وُقُوعهَا لما سلمنَا أَن الدُّعَاء بذلك يسْتَلْزم جَوَاز وُقُوعه من الله تَعَالَى فقد دلّ الدَّلِيل على جَوَاز الدُّعَاء بِمَا لَا يجوز على الله تَعَالَى خِلَافه كَقَوْلِه تَعَالَى {قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ} فانه دُعَاء إِلَى الله تَعَالَى بِمَا لَا يَقع سواهُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين} فانه مَعْلُوم أَن الله تَعَالَى لَا يَجْعَل رَسُوله الْكَرِيم عَلَيْهِ الحبيب اليه مَعَ خصومه المكذبين بِهِ المعاندين لَهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ استغفاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذنُوبه فانه مَأْمُور بِهِ فِي سُورَة النَّصْر وَهِي نزلت بعد قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْفَتْح {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَهُوَ سُؤال لما لَا يَقع وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي عَلَيْهِ السَّلَام أَلا أعلمك كَلِمَات إِذا قلتهن غفر الله لَك مَعَ أَنه مغْفُور لَك رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من حَدِيثه عَلَيْهِ السَّلَام فَيكون الدُّعَاء حِينَئِذٍ عبَادَة يحصل بهَا الثَّوَاب والتشريف للْعَبد والتقريب وَتَحْصِيل المسؤول بسببين لما لله تَعَالَى فِي ذَلِك من الْحِكْمَة فَأولى وَأَحْرَى قَوْله تَعَالَى {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَهَذَا أَمر شهير كثير جدا وَمِنْه قَول الْقَائِل (وَهَذَا دُعَاء لَو سكت كفيته ... لِأَنِّي سَأَلت الله مَا هُوَ فَاعل) وأعجب من ذَلِك قَول الْغَزالِيّ فِي الاحياء أَن ذَلِك وَقع جَازِمًا بِهِ محتجا عَلَيْهِ بتكليف أبي لَهب بِالْإِيمَان مَعَ قَوْله تَعَالَى {سيصلى نَارا ذَات لَهب} وَقد رد هَذَا ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى بِأَنَّهُ مثل خبر قوم نوح {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} قلت بل هُوَ وَالْعلم السَّابِق سَوَاء وَالْكل مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي الْمَعْرُوفَة فِي علم الْأُصُول بالممتنع لغيره لَا لذاته والتكليف بذلك جَائِز بالاجماع وَلَا يُسمى محالا وفَاقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وَقد بَين الْحلِيّ المعتزلي الشيعي فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى أَن ذَلِك هُوَ الَّذِي جوزه الْغَزالِيّ وَابْن الْحَاجِب لَا الْمحَال لنَفسِهِ قلت بل ذَلِك جَائِز عِنْد الْمُعْتَزلَة وَجَمِيع الْمُسلمين أَجْمَعِينَ إِلَّا من زعم أَن الله تَعَالَى لَا يعلم الْغَيْب مِمَّن يَدعِي الاسلام من الغلاة فِي نفي الْقدر وَقد بَين ذَلِك الْعَلامَة ابْن أبي الْحَدِيد فِي شرح نهج البلاغة فِي شرح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام اقْتُلُوهُ وَلنْ تقتلوه فَكيف أوهم الْغَزالِيّ فِي الاحياء أَنه يجوز التَّكْلِيف بالمحال مُطلقًا وأوهم أَن ذَلِك وَقع وَقد قَالَ السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع وَالْحق وُقُوع الْمُمْتَنع بِالْغَيْر لَا بِالذَّاتِ وتسميتهم لهَذَا الْجِنْس بالممتنع من قبيل الْمجَاز وَهُوَ مِمَّا لَا يجوز إِلَّا مَعَ الْبَيَان لِأَن الْعلم غير مَانع بِنَفسِهِ عِنْد جَمِيع الْمُحَقِّقين وَقد نَص الشهرستاني من كبار الأشعرية على أَن الْعلم غير مُؤثر بالاجماع وَصحح ذَلِك غير وَاحِد مِنْهُم دع عَنْك الْمُعْتَزلَة وَاحْتج الْجُوَيْنِيّ على ذَلِك بِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلم يُؤثر فِي الْمَعْلُوم لما تعلق الْعلم بالقديم نَفسه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يُؤثر فِي الله تَعَالَى شَيْء وَاحْتج الرَّازِيّ على ذَلِك بِوُجُوه كَثِيرَة مِنْهَا أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى نفي قدرَة الله تَعَالَى وَذَلِكَ كفر بالاجماع وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك لِأَن علم الله تَعَالَى مُتَعَلق بِجَمِيعِ أَفعاله وتروكه فَكَانَ يلْزم أَن مَا علم الله أَنه يَفْعَله فِي وَقت لم يُوصف بِالْقُدْرَةِ على تَركه وَلَا تَقْدِيمه وَلَا تَأْخِيره وَمَا علم أَنه يتْركهُ لم يُوصف بِالْقُدْرَةِ على فعله وَذَلِكَ يسْتَلْزم اسْتِقْلَال الْعلم بالتأثير واستغناء الْعَالم عَن الْقُدْرَة وَذَلِكَ يسْتَلْزم انقلاب الْعلم قدرَة وانقلاب الْفَاعِل الْمُخْتَار غير مُخْتَار وَذَلِكَ محَال وَذكر ابْن الْحَاجِب أَن مثل هَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَن التكاليف كلهَا تَكْلِيف بالمحال قَالَ وَذَلِكَ خلاف الاجماع وَقَالَ أَيْضا أَن الْمُمكن لَا يخرج عَن امكانه بِخَبَر أَو علم انْتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَاعْلَم أَنهم إِنَّمَا أَرَادوا أَن الْعلم لَا يُؤثر تَأْثِير الْقُدْرَة فِي إِيجَاد المعلومات وَفعل المأمورات وَلم يُرِيدُوا نفي كل تَأْثِير للْعلم مُطلقًا فان الْعلم يُؤثر تَأْثِير الدَّوَاعِي والصوارف مِثَاله أَن من علم أَن الْعقَاب يحصل على ترك الصَّلَوَات وَالثَّوَاب الْعَظِيم يحصل على فعلهَا كَانَ علمه ذَلِك مرجحا لفعلها على تَركهَا مؤثرا فِي وُقُوعهَا من الْعَالم بذلك أَلا ترَاهُ لَا يَتْرُكهَا مَعَ أَن تَركهَا أسهل مَا ذَاك إِلَّا لترجيح الْعلم نعم وَقد ذكرت فِي العواصم غير هَذِه الْوُجُوه فِي أَن الْعلم غير مُؤثر تَأْثِير الْقُدْرَة وَكَذَلِكَ الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمُجْتَبى جود الْكَلَام فِي ذَلِك وَذكرت فِي العواصم وَجها حسنا فِي افحام من يحْتَج على الله تَعَالَى بِالْعلمِ من المبتدعة والملاحدة وَذَلِكَ أَنا لَو سلمنَا تَسْلِيم جدل أَنه مُؤثر ومانع من خِلَافه منع اسْتِحَالَة لزم أَن تكون حجَّة الله تَعَالَى على عَذَاب العصاة لِأَن الْعلم بِأَفْعَال الله تَعَالَى كَمَا يتَعَلَّق بِأَفْعَال عباده إِجْمَاعًا فَكَمَا أَنهم لَا يستحسنون من الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة أَن يَقُول إِنَّمَا عذبتكم لسبق علمي بذلك فَكَذَلِك لَا يحسن مِنْهُم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا عصيناك لسبق علمك بذلك وَإِن حسن ذَلِك مِنْهُم كَانَ من الله أحسن وَيلْحق بِهَذِهِ أُمُور يشْتَد تعجب الْعَاقِل مِنْهَا أَحدهَا أَن مَذْهَب الْغَزالِيّ نَفسه أَن التَّكْلِيف بالمحال لذاته لَا يجوز على الله وَهُوَ مَشْهُور عَنهُ فِي شرح الْمُنْتَهى وَجمع الْجَوَامِع وَغَيرهمَا حَتَّى ذكرُوا أَن حجَّته على ذَلِك هِيَ حجَّة ابْن الْحَاجِب وَإِنَّمَا أَرَادَ الْغَزالِيّ بِالْوَصِيَّةِ بذلك فِي إحْيَاء عُلُوم الدّين الْمُوَافقَة لعقيدة الاشعرية على أَن ذَلِك لم يَصح قطّ عَن الاشعري وَلَا لذَلِك عَنهُ أصل صَحِيح كَمَا أوضحته فِي العواصم وَلذَلِك صدر ابْن الْحَاجِب الْمَسْأَلَة بِأَن التَّكْلِيف بالمحال لَا يجوز ثمَّ قَالَ وَنسب خِلَافه إِلَى الاشعري على صِيغَة مَا لم يسم فَاعله ثمَّ ذكر أَن ذَلِك نسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ على جِهَة الالزام لَهُ لَا أَنه نَص على ذَلِك ثمَّ تعصب أَصْحَاب الاشعري لَهُ على توهم أَنه مذْهبه وقدموه على نُصُوص كتاب الله تَعَالَى ونصوص رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَثَانِيهمَا أَن الْغَزالِيّ ذكر فِي كِتَابه الاقتصاد فِي الِاعْتِقَاد تَأْوِيل ذَلِك بِمَا يُخرجهُ عَن مَحل النزاع وَيَقْتَضِي جمع الْكَلِمَة على نَفْيه عَن الله سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وَتَعَالَى فَللَّه الْحَمد وَذَلِكَ أَنه ذكر فِيهِ أَن المُرَاد بذلك مُجَرّد اعْتِقَاد الْمُكَلف أَنه مُخَاطب بذلك لَا أَنه مَطْلُوب مِنْهُ لَكِن خُوطِبَ بِهِ ليعتقد توجه الطّلب اللَّفْظِيّ اليه لَا أَنه أُرِيد مِنْهُ فعله وَلَا يجب عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرّد ذَلِك الِاعْتِقَاد قلت وَهَذَا على نَحْو قَول الله تَعَالَى للمصورين يَوْم الْقِيَامَة أحيوا مَا خلقْتُمْ للتعجيز لَا لطلب ذَلِك مِنْهُم وَمِنْه حَدِيث من كذب فِي حلمه كلف يَوْم الْقِيَامَة عقد شعيرَة وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْجُوَيْنِيّ فِي مُقَدمَات الْبُرْهَان فَقَالَ إِن كَانَ المُرَاد وُرُود صِيغَة الامر لَا حَقِيقَته فَذَلِك جَائِز كَقَوْلِه تَعَالَى {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} فان مَعْنَاهُ كوناهم قردة فَكَانُوا كَمَا شِئْنَا وَإِن كَانَ المُرَاد تَحْصِيل الْمَأْمُور بِهِ فَذَلِك مُمْتَنع قلت قد صرح الْغَزالِيّ فِي الاقتصاد أَن الأول هُوَ المُرَاد وعَلى هَذَا فَلَا يكون اعلام أبي لَهب بِأَنَّهُ سيصلي نَارا ذَات لَهب بعد كفره الْعَظِيم مَحل النزاع لوجوه الْوَجْه الأول إِن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي تَكْلِيف يَقع عَلَيْهِ الْجَزَاء والعقوبة وَحده كَمَا لَو كلف أعمى بنقط مصحف على الصَّوَاب وَلم يكلفه الله تَعَالَى بِغَيْر ذَلِك وَلَا عَاقِبَة على سواهُ وَكَانَ الاعمى يود أَنه تمكن من ذَلِك وامتثل ثمَّ يخلد فِي عَذَاب النَّار بترك ذَلِك فَهَذَا مَا لم ينْسبهُ أحد إِلَى معبوده من جَمِيع الْعُقَلَاء بل هَذَا مَا لم ينْسبهُ إِلَى أحد من رُؤَسَاء المخلوقين حَتَّى تفاحشت الْبدع ورذلت حَتَّى تكلم فِي مهمات قَوَاعِد الْإِسْلَام بالآراء والأوهام وَضربت فِيهَا المقاييس والأمثال وتجارى فِيهَا أهل الاهواء مجاراة المتنافسين وتجاروا على ذَلِك مجاراة المتعادين فَظن بَعضهم أَن هَذَا لَيْسَ بِصفة نقص عقلا مَعَ موافقتهم على أَن الْكَذِب صفة نقص عقلا وَالْكذب دون هَذَا النَّقْص بِكَثِير لَا سِيمَا الْكَذِب النافع ثمَّ تجاسروا بعد ذَلِك على تجويزه على الله تَعَالَى ثمَّ ادعوا وُقُوعه من الله تَعَالَى وَاعْلَم أَنه لَا استبعاد أَن يُعَاقب الله تَعَالَى بذلك فِي الْآخِرَة من جوز عَلَيْهِ التَّكْلِيف بالمحال الَّذِي لَا يُطَاق كَمَا صَحَّ أَن يُقَال للمصورين يَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الْقِيَامَة أحيوا مَا خلقْتُمْ وَأَن الْكفَّار يؤمرون بِالسُّجُود ويحال بَينهم وَبَينه فَلَا يَسْتَطِيعُونَ بل مجوز ذَلِك على الله تَعَالَى فِي دَار التَّكْلِيف أولى بِهَذِهِ الْعقُوبَة لما ثَبت عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا أَن الله تَعَالَى يَقُول أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا يَشَاء وَلما ثَبت من مُنَاسبَة الْعُقُوبَات للمعاصي حَتَّى أَن من تردى من جبل فَهُوَ يتردى فِي النَّار من جبل وَمن طعن نَفسه بحديدة فَهُوَ يطعنها فِي النَّار بحديدة وَحَتَّى رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله امْرَأَة حبست هرة حَتَّى قتلتها والهرة تنهشها فِي النَّار وَحَتَّى ثَبت أَن الله تَعَالَى يَقُول أَلَيْسَ عدلا مني أَن أولى كلَاما تولى فَيَقُول الْخلق بلَى فَيرى كل عَابِد لغير الله معبوده ويأمره باتباعه حَتَّى يوردهم النَّار ويمثل لمن عبد عِيسَى صُورَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَمْثَاله من الصَّالِحين كَذَلِك وَحَتَّى قيل للمصورين أحيوا مَا خلقْتُمْ وَحَتَّى يكفر من قَالَ الآخر يَا كَافِر وَلَيْسَ كَذَلِك ويعفى يَوْم الْخَمِيس والاثنين عَن كل مُسلم إِلَّا المتهاجرين حَتَّى يصطلحا لِأَنَّهُمَا أختارا عدم الْعَفو مذهبا وَنَحْو ذَلِك فليحذر من هَذِه الْعقُوبَة الْخَاصَّة مَعَ سَائِر أَنْوَاع الْعَذَاب صَاحب هَذَا الْمَذْهَب بل يحذر من أَهْون من هَذَا وَهُوَ أَن يناقشه الله تَعَالَى الْحساب على جَمِيع مَا أقدره عَلَيْهِ ومكنه مِنْهُ وَلَا يسامحه فِي قَلِيل وَلَا كثير وَيَقُول لَهُ أَنْت جوزت مني تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وظننت ذَلِك فِي فَلَا أقل من أَن أحاسبك على التَّكْلِيف الَّذِي لَا يُطَاق وَلَا أسامحك بِشَيْء مِنْهُ وَفِي ذَلِك هَلَاكه كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَنه قَالَ (من نُوقِشَ الْحساب عذب وشواهده مَعْلُومَة) وَكفى بقول الله تَعَالَى {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة} وَفِي آيَة أُخْرَى {مَا ترك عَلَيْهَا} الْوَجْه الثَّانِي أَن الله لم يعلم أَبَا لَهب بذلك بِالنَّصِّ وَلَا ظَاهر الْقُرْآن يَقْتَضِي ذَلِك أَيْضا وَإِنَّمَا أعلم رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله بذلك فَمن أَيْن أَن أَبَا لَهب علم ذَلِك يَقِينا وَالله قَادر على أَن لَا يُعلمهُ ذَلِك لتزداد الْحجَّة عَلَيْهِ وَقد ذكر هَذَا ابْن الْحَاجِب وَقَالَ أَنه مثل إِعْلَام نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الْوَجْه الثَّالِث أَنه وَإِن علم ذَلِك فانه خَارج مخرج الْوَعيد لَا مخرج الاخبار الْمَحْض وَالْفرق بَينهمَا وَاضح فان الْوَعيد مَشْرُوط بِعَدَمِ التَّوْبَة مثل وَعِيد جَمِيع الْكَافرين الْوَجْه الرَّابِع أَنه لَا مَانع من أَن يكون الْخَبَر وَالْقَضَاء وَالْقدر وَالْكِتَابَة فِي مثل ذَلِك مَشْرُوطَة وَيكون مِمَّا يجوز أَن يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث لَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء رَوَاهُ الْحَاكِم وَفِي الْبَاب عَن معَاذ وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة ذكرهَا الهيثمي وَرُوِيَ عَن أبي قلَابَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول اللَّهُمَّ إِن كنت كتبتني فِي أهل الشَّقَاء فامحني وأثبتني فِي أهل السَّعَادَة وَقَالَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَرِجَاله رجال الصَّحِيح إِلَّا أَن أَبَا قلَابَة لم يدْرك ابْن مَسْعُود وَهَذَا بَاب وَاسع وَقد ذكره الْغَزالِيّ وَغَيره فِي الْجَواب على مَا من قَالَ مَا فَائِدَة الدُّعَاء وَالْعَمَل مَعَ سبق الاقدار وجوده ابْن قيم الجوزية فِي الْجَواب الْكَافِي ونقلته فِي العواصم وزدت عَلَيْهِ زيادات مفيدة الْوَجْه الْخَامِس أَنه لَيْسَ فِي الْخَبَر أَنه لَا يُؤمن فَيجوز أَبُو لَهب فِي نَفسه حِين يسمعهُ أَن يكون لَو آمن من الْمُؤمنِينَ العصاة وَأَن يدْخل النَّار بذلك ويطمع فِي الْعَفو بعد دُخُولهَا على الاصل فِي حسن ذَلِك عقلا أَو لسماعه أَن السّمع ورد بذلك فانه لَا مَانع من ذَلِك فاذا جوز أَبُو لَهب وَمن فِي حِكْمَة هَذِه الْأُمُور أَو بَعْضهَا قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة والعذر الْحق الَّذِي هُوَ سنة الله تَعَالَى فِي عدله وحكمته يَوْم الْقِيَامَة فَكيف مَعَ هَذِه الْأُمُور واحتمالها يجوز للعاقل أَن يقطع على أَن تَكْلِيف الْمحَال قد وَقع والتقول على الله بِمَا لم يقل كالكذب عَلَيْهِ والتوصل إِلَى ذَلِك بالشبه الواهيات صَنِيع المخذولين من أهل الضلالات فان الاجتراء على الابتداع فِي الدّين ذَنْب عَظِيم وَرُبمَا أدّى صَاحبه إِلَى الْكفْر وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَهل ذَلِك إِلَّا كالاحتجاج على تَجْوِيز الْوَلَد بقوله تَعَالَى {قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين} مَعَ وجود النُّصُوص الجمة على بطلَان ذَلِك وتعظيم تقبيحه بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا تكَاد السَّمَاوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا} الى آخر الْآيَات وَلَو سلمنَا أَن النُّصُوص تَعَارَضَت فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة كَانَ الْوَاجِب على الْعَالم أَن يرجح مِنْهَا الْمُحكم الْمُوَافق الاكثر ثَنَاء على الله تَعَالَى ومدحا لله تَعَالَى ومناسبة لاسمائه الحميدة المحكمة الْحسنى لقَوْله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب} فَمَا الْمُوجب لترجيح تَشْبِيه أَفعَال أحكم الْحَاكِمين بِأَفْعَال المجانين والاطفال حِين لَاحَ لذَلِك أدنى خيال وَتَقْدِيم أَضْعَف الأوهام وَأبْعد الِاحْتِمَالَات والجزم بِوُقُوع ذَلِك دون نقيضه الَّذِي هُوَ مَنْطُوق بِهِ فِي نُصُوص الْقُرْآن الصادعة مَعْلُوم احكامه واثباته فِي الْبَرَاهِين القاطعة دَاخل فِي الْأَسْمَاء الْحسنى غرَّة فِي الْحَمد والمدح وَالثنَاء وأعجب من ذَلِك كُله الْمُحَافظَة من الْغَزالِيّ على الْوَصِيَّة باعتقاد ذَلِك لأهل الْجمل فِي الِاعْتِقَاد من المتعبدين والزهاد وَالَّذين لم يعرفوا الْخلاف فِي دقائق الْكَلَام مَعَ نهي الْغَزالِيّ عَن علم الْكَلَام وَذكر مساويه وَمَا يُؤَدِّي اليه الْخَوْض فِيهِ لِأَنَّهُ ذكر هَذَا فِي الرسَالَة القدسية من مُقَدمَات الاحياء الَّذِي بَالغ فِيهِ فِي ذمّ علم الْكَلَام لما جر اليه من الْبدع فاي بِدعَة بديعة ومحدثة شنيعة أبدع وأشنع من وَصِيَّة الزهاد وَالصَّالِحِينَ من عوام الْمُسلمين باعتقاد ذَلِك فِي أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وإيهامهم أَن اعْتِقَاده من الْفَرَائِض الْمُؤَكّدَة فِي دين الله تَعَالَى وان من لم يعْتَقد ذَلِك كَانَ على أعظم خطر من عَذَاب الله وَلَقَد مضى أَكثر عمر الدُّنْيَا على مَالا يُحْصى من الظلمَة والفجرة والفسقة والكفرة وَالْخُلَفَاء والسفهاء فَمَا علم أَن أحدا مِنْهُم فعل ذَلِك على الْوَجْه الَّذِي جوزه الْمُخَالف على الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَإِنَّمَا كَانُوا يعاقبون من لَا ذَنْب لَهُ لحاجتهم إِلَى تَحْصِيل الاموال أَو لدفع المضار أَو لمجموعهما أَو تشفيا من عَدو مُضر انتصافا مِنْهُ ونقما للثأر وَنَحْو ذَلِك مِمَّا ألف وَعرف من عادات الْفجار وَهَذَا أَيْضا غير تَكْلِيف الْمحَال إِنَّمَا هَذَا أنزل المضار مِمَّن لَا يَسْتَحِقهَا وَأما ان أحدا من جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ من أَنْوَاع الاشرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وجد مَرِيضا لَيْسَ بَينه وَبَينه عَدَاوَة وَلَا لَهُ فِي تعذيبه حَاجَة أَلْبَتَّة وَلَا غَرَض لَهُ وَلَا دَاعِي وَلَا لَهُ ذَنْب وَلَا عَلَيْهِ حجَّة فَأمر بتكليفه حمل الْجبَال أَو مَا لَا يُطيق من الاحمال ومسابقة الرِّيَاح والحيل السَّابِقَة فان لم يفعل مَا لَا يُطيق من ذَلِك عذب أَشد الْعَذَاب وعوقب أفحش الْعقَاب فَمَا كَانَ هَذَا من فَاجر وَلَا كَافِر وَلَا خليع وَلَا سخيف وَلَا يجوز أَن يكون مِنْهُم وَلَو فعل مَخْلُوق لَكَانَ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يشْتَد عَلَيْهِ غَضَبه وَسخطه ويتولى عُقُوبَته وملامته وإذاقته أعظم الخزي الهوان والمقت والفضوح فَكيف ينْسب جَوَاز ذَلِك بل وُقُوعه وتجويز أفحش مَا يكون من جَمِيع أَنْوَاعه الْفَاحِشَة إِلَى الْملك الْعلي الحميد الصَّمد الْمجِيد السبوح القدوس الَّذِي كره ذَلِك وَسخطه وَحرمه ويعادي على أقل مِنْهُ كل جَبَّار عنيد وَقَالَ فِي كِتَابه الْمجِيد {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَقَالَ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي وَجَعَلته محرما بَيْنكُم فَلَا تظلموا كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَن حَدِيث أبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ وَمن الشّبَه فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني} قَالُوا فَحرم عَلَيْهَا الْخَوْف والحزن فِي هَذِه الْحَال وكلفها اعدامهما عَن قَلبهَا وَهِي لَا تَسْتَطِيع ذَلِك وَالْجَوَاب أَن النَّهْي هُنَا لم يرد للتَّحْرِيم فقد ذكر السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع للنَّهْي ثَمَانِيَة معَان أَحدهَا بَيَان الْعَاقِبَة كَمَا فِي هَذِه الْآيَة الشَّرِيفَة وَذَلِكَ أَن النَّهْي فِيهَا إِنَّمَا ورد للبشرى بِوُقُوع مَا لَا يَنْبَغِي عِنْده الْخَوْف والحزن فانه مقَام تكريم لَا مقَام تَكْلِيف وَلذَلِك عقبه بقوله {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} وَهَاتَانِ بشارتان عظيمتان مِمَّن علمت صدقه فِي كل خبر وَقدرته على كل شَيْء واحاطة علمه بِكُل غيب فَهِيَ تقَابل مَا فِي طبعها البشري مَعَ مَا ذكره الله تَعَالَى بعد ذَلِك من ربطه على قَلبهَا يُوضحهُ أَنه مقَام لطف وتشريف لَا مقَام تحريج وتعنيف وَلَو سلمنَا أَنه نهي تَحْرِيم لوَجَبَ فِي حِكْمَة الله تَعَالَى وعوائده مَعَ عباده الْمُؤمنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 أَن يُمكنهَا من مفارقه مَا نهاها عَنهُ كَمَا ذكره وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي تَكْلِيف الْوَاحِد بِقِتَال عشرَة أَنهم لَو صَبَرُوا عَلَيْهَا لطوقوها رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَو سلمنَا أَن ظَاهر التَّحْرِيم توجه إِلَى مَا لَا يُطَاق لوَجَبَ تَأْوِيله لوضوحه لِأَنَّهُ متشابه على مَا يُوَافق الْمُحكم الَّذِي هُوَ أم الْكتاب كَمَا ثَبت فِي تَحْرِيم النِّيَاحَة أَنه لَا يُؤَاخذ بِمَا كَانَ من الْعين وَالْقلب فَثَبت أَن سلمنَا أَنه للتَّحْرِيم أَن المُرَاد النَّهْي عَن الاسترسال مَعَ الطبيعة البشرية ومقابلتها ومدافعتها بِمَا علمنَا الله تَعَالَى من نَحْو قَوْله {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} وتذكير عَظِيم ثَوَابه وخفي ألطافه وَصدق مواعيده وَأَنه كاشف الكروب علام الغيوب وَمَا يحصل بِهِ الرِّضَا لدوّنَ أم مُوسَى وَقد ذكر بعض الْمُفَسّرين نَحْو هَذَا الْوَجْه الثَّالِث فِي تَفْسِير {خلق الْإِنْسَان من عجل سأريكم آياتي فَلَا تَسْتَعْجِلُون} فَقَالَ أَنهم أقدروا ومكنوا من مدافعه الطبيعة المخلوقة فَلذَلِك نهوا عَن الاستعجال وَقد خلقُوا على هَذِه الطبيعة كَمَا أَن الْمَخْلُوق على طبع الشُّح مَأْمُور باخراج الزَّكَاة مُمكن من ذَلِك فانه يتَصَرَّف فِي شهواته أضعافها وَإِنَّمَا ذكرت مثل هَذِه الْأَشْيَاء على جِهَة التَّقَرُّب إِلَى الله وَإِلَّا فجوابها لَا يخفى على أهل الممارسة للْجمع بَين المتعارضات ورد الْفُرُوع الى الْأُصُول والمظنون إِلَى الْمَعْلُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 المختصرات عُمُوم الْمُسلمين فيوهمون أَن ذَلِك من أَرْكَان الاسلام فلولا أَن هَذَا قد وَقع مِنْهُم مَا كَانَ الْعَاقِل يصدق بِوُقُوعِهِ مِمَّن هُوَ دونهم فنسأل الله تَعَالَى الْعَافِيَة وَإِنَّمَا أوضحت هَذَا الْكَلَام أَيهَا السنى لتغتبط بِعلم الْقُرْآن والاثر ولتصونه عَن شوبه بأمثال هَذَا من بدع أهل الدَّعَاوَى للحذق فِي النّظر فقد صَارَت أَقْوَالهم فِي الركة أَمْثَالًا وعبرا لمن اعْتبر وَجَمِيع مَا يرد على هَذَا من الأسئلة وأجوبتها تقدم فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى فَخذه إِن احتجت اليه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين خَاتِمَة تشْتَمل على فَائِدَة نفيسة وَهِي أَن هَذِه الْمَسْأَلَة وأمثالها مِمَّا بالغت فِي نصرته مثل اثبات حِكْمَة الله تَعَالَى وتعظيم قدرته عز وَجل من قبيل الثَّنَاء الْحسن بِحَيْثُ لَو قَدرنَا الْخَطَأ فِي شَيْء مِنْهَا مَا كَانَ يخَاف مِنْهُ الْكفْر وَالْعَذَاب قطعا وَأما أضدادها فانه يخَاف ذَلِك عِنْد تَقْدِير الْخَطَأ فِيهَا لاستلزامها مَا لَا يجوز على الله تَعَالَى من النَّقْص المضاد لاسمائه الْحسنى الَّتِي هِيَ جمع تَأْنِيث الاحسن من كل ثَنَاء لَا جمع تانيث الْحسن كَمَا مر تَقْرِيره فاعرض هَذِه الْفَائِدَة النفيسة على كل عقيدة لَك وَشد عَلَيْهَا يَديك فِي كل مَا لم يُعَارض الْمَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وَالله الْمُوفق وَالْهَادِي إِلَى الصَّوَاب الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الله تَعَالَى لَا يعذب أَطْفَال الْمُشْركين بذنوب آبَائِهِم وَلَا بِغَيْر ذَنْب وَهَذِه من فروع اثبات الْحِكْمَة وَهِي أُخْت الَّتِي قبلهَا وَهُوَ مَذْهَب جَمَاهِير الاسلام بل لم يعرف فِيهِ خلاف بَين السّلف فانهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على عدل الله تَعَالَى وحكمته فِي الْجُمْلَة والاجماع على ذَلِك يتقضي الْمَنْع من كل مَا يضاده وَمِمَّنْ صرح بِاخْتِيَار هَذَا البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَالنَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَقواهُ وَاحْتج عَلَيْهِ وَنسبه إِلَى الْمُحَقِّقين وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ عَليّ بن عبد الْكَافِي الشهير بالسبكي فِي كتاب جمعه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وهما من عُيُون أَئِمَّة السّنة والطائفة الشَّافِعِيَّة وَكَذَلِكَ اخْتَار ذَلِك الْعَلامَة أَبُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 عمر بن عبد الْبر فِي كِتَابه التَّمْهِيد وَهُوَ من أَئِمَّة السّنة وَاخْتَارَهُ غير وَاحِد مِنْهُم دع عَنْك خصومهم فِي ذَلِك من الشِّيعَة والمعتزلة وَاحْتج النَّوَوِيّ وَغَيره على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن سَمُرَة فِي حَدِيثه الطَّوِيل وَفِيه ذكر رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وفيهَا مَا لَفظه وَالشَّيْخ فِي أصل الشَّجَرَة ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام وَالصبيان حوله أَوْلَاد قَالُوا يَا رَسُول الله وَأَوْلَاد الْمُشْركين قَالَ وَأَوْلَاد الْمُشْركين وَهَذَا نَص فِي مَوضِع النزاع من أصح كتب الاسلام عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث وَأما كَونه رُؤْيا فَلَا يضر لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَحي وَحقّ وَلذَلِك عزم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام على ذبح وَلَده بِسَبَبِهَا وَهَذَا إِجْمَاع وَثَانِيهمَا أَن هَذَا السُّؤَال عَن أَوْلَاد الْمُشْركين وَجَوَابه كَانَ فِي الْيَقَظَة لَا فِي الرُّؤْيَا وَقد أوضحت فِي العواصم أَنه لم يَصح فِي تَعْذِيب الْأَطْفَال بِغَيْر ذَنْب مِنْهُم حَدِيث قطّ وَلَا صَحَّ ذَلِك عَمَّن ينظر اليه من أَئِمَّة السّنة وَإِنَّمَا قَالَت طوائف مِنْهُم بأقوال مُحْتَملَة مِنْهَا أَن الله تَعَالَى يكمل عقول الصّبيان ويكلفهم فِي عَرصَة من عرصات يَوْم الْقِيَامَة بتكيلف يُنَاسب ذَلِك الْيَوْم مثل مَا روى أَنه يخرج لَهُم عنقًا من النَّار فيأمرهم بورودها فَمن كَانَ سعيدا فِي علم الله تَعَالَى لَو أدْرك الْعَمَل وردهَا فَكَانَت عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا وَمن كَانَ شقيا فِي علم الله تَعَالَى لَو أدْرك الْعَمَل امْتنع وَعصى فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُم عصيتموني الْيَوْم كَيفَ رُسُلِي لَو أتتكم أَو كَمَا ورد وَسبب مصير من صَار مِنْهُم إِلَى هَذَا القَوْل أَحَادِيث كَثِيرَة وَردت بذلك مِنْهَا عَن أبي سعيد وَأنس ومعاذ والاسود بن سريع وَأبي هُرَيْرَة وثوبان وروى ذَلِك أَيْضا أَحْمد بن عِيسَى بن زيد بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عَن جده زيد بن عَليّ ذكره صَاحب الْجَامِع الْكَافِي وَقَالَ السُّبْكِيّ فِي كِتَابه فِي ذَلِك أَن أَسَانِيد هَذِه الْأَحَادِيث صَالِحَة قلت وفسروا بِهَذِهِ الاحاديث حَدِيث الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين وَهُوَ الَّذِي اتّفق على صِحَّته فِي الْبَاب وَسنة الله فِي إِقَامَة الْحجَج على خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لَا تحيل هَذَا احالة قَاطِعَة كَمَا تحيل تَكْلِيف الْمحَال وَلَا حجَّة وَاضِحَة على أَن هَذِه الاحاديث مَوْضُوعَة يجوز الْجَزْم بتكذيبها وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فَأثْبت تكليفا بذلك السُّجُود يَوْم الْقِيَامَة وَصَحَّ وتواتر أَن الْمَيِّت يمْتَحن فِي قَبره فِي الْمَسْأَلَة عَن الشَّهَادَتَيْنِ وَأَن الْمُؤمن يثبت فيقولهما وَالْكَافِر وَالْمُنَافِق يتلجلج أَو يَقُول لَا أَدْرِي وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث الْبَراء أَن قَوْله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} نزلت فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ أجمع أهل السّنة على أَن للبرزخ حكما بَين حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمِنْه أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي فِي قَبره رَوَاهُ مُسلم وَمِنْه ضمة الْقَبْر وَنَحْوهَا فنكل علم تِلْكَ الاخبار إِلَى الله وَلَا نجوز على الله تَعَالَى ظلما لأحد من عباده وَلَا عَبَثا وَلَا لعبا وَلَا مُبَاحا لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّنَاء وَالْحَمْد وَإِنَّمَا نجوز عَلَيْهِ مَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّنَاء وَالْحَمْد سَوَاء علمنَا وَجهه أم لَا وَكَذَلِكَ لَا نجوز عَلَيْهِ تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء أَهله عَلَيْهِ من غير حِكْمَة وَلَا ذَنْب وَلَا عوض لَكِن قد روى ذَلِك ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وردته عَلَيْهِ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَرَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم غير ابْن عمر فَاحْتمل تَأْوِيله على أحد وُجُوه الْوَجْه الأول أَن يكون الْمَيِّت أوصى بذلك وعَلى ذَلِك حمله البُخَارِيّ وَغَيره لِأَن ذَلِك كَانَ عَادَتهم وَهِي قرينَة قَوِيَّة لهَذَا التَّأْوِيل الْوَجْه الثَّانِي أَن يكون الْعَذَاب مُسْتَحقّا للْمَيت على ذنُوبه لما ثَبت فِي الصَّحِيح أَن من نُوقِشَ الْحساب عذب وَأَن أحدا لَا يدْخل الْجنَّة بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا يدخلهَا برحمة الله تَعَالَى وَإِن الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} بَاء السَّبَب لَا بَاء الثّمن جمعا بَين النُّصُوص وَهُوَ من حمل الْمُشْتَرك على أحد الحقيقتين بِالْحجَّةِ لَا من صرف الظَّاهِر إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الْمجَاز والعقول والفطرة ترجح ذَلِك فان سُبْحَانَ الله تملأ الْمِيزَان وَالله أكبر تملأ مَا بَين السَّمَاء والارض بل قد صحت النُّصُوص قُرْآنًا وَسنة أَن السَّيئَة بِمِثْلِهَا أَو يعْفُو الله عَنْهَا والوحسنة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء وَالصَّبْر وَالصَّوْم بِغَيْر حِسَاب فاذا تقرر ذَلِك جَازَ أَن يكون الْبكاء الْمحرم الْمُغْضب لله عز وَجل سَببا لمؤآخذة الْمَيِّت بِمَا يسْتَحقّهُ من الْعقُوبَة على ذنُوبه الَّتِي قدمهَا وَنسب التعذيب إِلَى الْبكاء لهَذِهِ السَّبَبِيَّة مَعَ حسن تعذيبه لَو لم يبك عَلَيْهِ بذلك وَيكون هَذَا التعذيب والاخبار بِهِ زاجرا عَن الاصرار على سنة الْجَاهِلِيَّة المستحكمة فِي طباعهم المقوية للدواعي إِلَى إِظْهَار الْجزع وَلَطم الخدود وشق الْجُيُوب وَحلق الشُّعُور وَإِن لم يبكوا امتثالا لأمر الله عَفا الله عَن ميتهم وَترك تعذيبه الْمُسْتَحق بذنوبه مَعَ ثوابهم على امتثالهم وَيكون هَذَا الْعَفو والاخبار بِهِ دَاعيا ومرغبا ولطفا فِي فعل هَذِه الطَّاعَة الْوَجْه الثَّالِث أَن يكون عَذَاب الْقَبْر مثل الآلام الدُّنْيَوِيَّة للعوض وَالِاعْتِبَار مثل مَا صَحَّ من ضمة اللَّحْد وَيكون مَعَ بكاء فَقَط وَإِن ترك الْبكاء لم يزدْ على ضمة اللَّحْد وَهَذَا أَشَارَ اليه الذَّهَبِيّ وَذكر أَن للبرزخ حكما بَين حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَنه لَيْسَ مثل الْحَال بعد اقرار أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة وَأهل النَّار فِي النَّار وَالْحجّة فِي ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة كَمَا مضى وَادّعى الاشعري أَنه اجماع أهل السّنة ذكره ابْن كثير فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَالله أعلم الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي التحسين الْعقلِيّ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وَتقدم طرف من ذَلِك فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى ونزيد هُنَا فَنَقُول اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك اخْتِلَافا ظَاهره التباعد الْكثير وَمَعَ تَلْخِيص مَحل النزاع والتوسط يسهل الامر وَيقرب من الِاتِّفَاق فقد ذكر الرَّازِيّ وَغَيره من متكلمي الأشعرية أَنه لَا خلاف فِيهِ باعتبارات ثَلَاثَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أَحدهَا بِاعْتِبَار الشَّهْوَة والنفرة وَثَانِيها بِاعْتِبَار جلب النَّفْع وَدفع الضّر وَثَالِثهَا بِاعْتِبَار صفة النَّقْص كالكذب وَالْجهل وَصفَة الْكَمَال كالصدق وَالْعلم وعنوا بِالْكَذِبِ الَّذِي لم تدع اليه ضَرُورَة وبالصدق الَّذِي لَيْسَ بضار وَمن هُنَا لم يجوزوا وُقُوع الْكَذِب فِي كَلَام الله تَعَالَى لِأَنَّهُ صفة نقص قَالُوا وَإِنَّمَا الْخلاف فِي معرفَة الْعقل لوُجُوب اسْتِحْقَاق الذَّم فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَاب فِي الْآخِرَة على فعل صفة النَّقْص لَا جوزها من غير وجوب وَكَذَلِكَ معرفَة الْعقل لوُجُوب اسْتِحْقَاق الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب وَالثنَاء فِي الْآخِرَة على فعل صفة الْكَمَال لَا جَوَاز ذَلِك من غير وجوب وَلذَلِك حكى الزَّرْكَشِيّ فِي شَرحه لكتاب السُّبْكِيّ الْمُسَمّى جمع الْجَوَامِع أَن قوما توسطوا فَقَالُوا إِن الْقبْح وَاسْتِحْقَاق الذَّم عَلَيْهِ ثَابت بِالْعقلِ وَأما الْعقَاب فمتوقف على الشَّرْع قَالَ وَهُوَ الَّذِي ذكره أسعد بن عَليّ الزنجاني من أَصْحَابنَا الشَّافِعِيَّة وَأَبُو الْخطاب من الْحَنَابِلَة وذكرته الْحَنَفِيَّة وحكوه عَن أبي حنيفَة قَالَ وَهُوَ الْمَنْصُور لقُوته من حَيْثُ الْفطْرَة وآيات الْقُرْآن الْمجِيد وسلامته من الوهن والتناقض اه وَقد تقدم فِي الْمَسْأَلَة الأولى أَن تَسْلِيم هَذَا الْقدر من التحسين الْعقلِيّ يُوجب الْمُوَافقَة على إِثْبَات الْحِكْمَة فِي أَفعَال الله تَعَالَى وَأَنه لَا فرق فِي التحسين بَين الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَقد ثَبت وقُوف الْأَقْوَال على الْحِكْمَة حَيْثُ وَجب الْقطع بِأَن الله تَعَالَى يخْتَار الصدْق على الْكَذِب فِي جَمِيع كَلَامه وَكتبه والموجب ذَلِك هُوَ بِعَيْنِه يُوجب مُرَاعَاة الْحِكْمَة فِي الْأَفْعَال وَهَذِه فَائِدَة مهمة وَحجَّة بَيِّنَة يَنْبَغِي التعويل عَلَيْهَا فِي دُعَاء من يُنكر الْحِكْمَة إِلَى الْحق وَالله الْهَادِي وَقَول الزَّرْكَشِيّ أَن ذَلِك هُوَ الْمَنْصُور لموافقته الْفطْرَة وآيات الْقُرْآن الْمجِيد قَول صَحِيح وَأَرَادَ بآيَات الْقُرْآن الْمجِيد مَا ورد فِي ذَلِك مثل مَا قدمنَا من قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم} الْآيَة وَمثل قصَّة مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام فانها صَرِيحَة فِي ذَلِك وَالْحجّة فِيهَا من وَجْهَيْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أَحدهمَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أنكر ذَلِك بالفطرة الْعَقْلِيَّة بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى قد كَانَ أعلمهُ أَن الْخضر أعلم مِنْهُ والتفاضل إِنَّمَا هُوَ فِي الشرعيات ودقائق العقليات فَلَمَّا كَانَ مَا أنكرهُ مُوسَى من جليات العقليات حسب مُوسَى أَنه لَا مفاضلة فِيهَا إِذْ كَانَت مَعْرفَتهَا بالبصيرة مخلوقة مثل خلق الاسماع والابصار أَو حسب أَن تفضيله لم يكن فِي ذَلِك لِأَن مُوسَى لم يدع أَنه أعلم النَّاس بالعقليات وَالْحجّة من هَذَا الْوَجْه تحْتَمل النزاع الْبعيد وَثَانِيهمَا وَهِي الْحجَّة القاطعة أَن الْخضر لم يحْتَج على مُوسَى بِمُجَرَّد وُرُود أَمر الله تَعَالَى بذلك وان الامر الشَّرْعِيّ هُوَ المحسن بذلك بِمُجَرَّدِهِ وَأَن تقبيح الْعُقُول لما يقبحه بَاطِل بل جعل الْجَواب الشافي عَن ذَلِك الرافع للريب عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ بَيَان الْحِكْمَة الْخفية الْمُنَاسبَة لمقْتَضى الْعُقُول فِي الموازنة بَين المضار والمصالح وَتَقْدِيم مَا ثَبت من ذَلِك أَنه الرَّاجِح وتحسين المضار مَتى اشْتَمَلت على الْمصَالح الراجحة وَأَدت إِلَى الغايات الحميدة وَهَذَا عين مَسْأَلَتنَا وَمحل النزاع وَلَكِن الْعُقُول أقل وأجهل وَأدنى وأحقر من أَن تحيط بِجَمِيعِ حكم الله تَعَالَى وأسراره وغايات ارادته فِي قضاياه وأقداره فَلَا يُمكن الْجَزْم بقبح شَيْء معِين من أَفعَال الله تَعَالَى لِأَن أَفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاضِحَة الْحِكْمَة بَيِّنَة النَّفْع وَالصَّلَاح للمتفكرين فِي ذَلِك وَمَا كَانَ مِنْهَا متشابها وَهُوَ الْقَلِيل فَهُوَ مُحْتَمل للْحكم الْخفية وَلَيْسَ فِي أَفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا هُوَ مَعْلُوم الْقبْح للعقول بِالضَّرُورَةِ أَلْبَتَّة وَبَيَان ذَلِك أَن الْمَعْلُوم قبحه بِالضَّرُورَةِ هِيَ المضار الَّتِي لَا نفع فِيهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا فِيهَا احْتِمَال لذَلِك عَاجلا وَلَا آجلا أَلْبَتَّة وَكَيف يُمكن أَن تحيط الْعُقُول بذلك فِي شَيْء من أَفعَال الْحَكِيم الْعَلِيم وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} وَقد صرح الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا الْمَعْنى فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ) وَمِثَال الْقَبِيح بِالضَّرُورَةِ الَّذِي لَا يجوز على الله بعثة الْكَذَّابين لما فِيهِ من الْفساد المتفاحش وَهُوَ عدم الثِّقَة بِكَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام جَمِيع رسله عَلَيْهِم السَّلَام لَا فِي دين وَلَا فِي دنيا وَلَا فِي حد وَلَا فِي مُهِمّ وَلَا ترغيب وَلَا ترهيب وَهَذَا هدم للْمصَالح كلهَا وَالصَّلَاح أجمع وَلذَلِك كَانَ الله أصدق الْقَائِلين وَكَانَ من أبْغض الْخلق اليه الْملك الْكذَّاب لِأَن الَّذِي قد يهون قبح الْكَذِب فِي بعض الْمَوَاضِع ويعارض مَا فِيهِ من الْفساد هُوَ الضَّرُورَة الملجئة اليه كخوف المضار وَنَحْو ذَلِك والملوك أبعد النَّاس مِنْهَا لقدرتهم على دفع المضار وَإِن كَانَت قدرتهم قَاصِرَة فَكيف بِملك الْمُلُوك الَّذِي هُوَ على كل شَيْء قدير وَعَن كل شَيْء غَنِي وَإِنَّمَا يجوز عَلَيْهِ مَا تخفى فِيهِ الْحِكْمَة على الْخلق لقُصُور علومهم من الامور المحتملة مثل مَا سَأَلت عَنهُ الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام من الْحِكْمَة فِي خلق آدم وَذريته لظنهم أَنهم كلهم أشرار لَا خير فِي أحد مِنْهُم وَالشَّر الْمَحْض الَّذِي لَا خير فِيهِ أَلْبَتَّة لَا عَاجلا وَلَا آجلا قَبِيح فِي الْعُقُول وَأما الشَّرّ الْمُشْتَمل على الْخَيْر والغايات الحميدة أَو المجوز فِيهِ شَيْء من ذَلِك فَلَا مجَال للعقول فِي الْقطع بقبحه وَلذَلِك أجَاب عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} وَلم يقل إِنَّه يحسن مني كل مَا تستقبحون وكل مَا تستقبحه العارفون وَلَو كَانَت أَفعَال الله معطلة من الحكم لم يكن لذكر علمه وزيادته على علمهمْ معنى فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْحِكْمَة على قَول الْخصم ممتنعة الامكان فِي حق الله تَعَالَى فَلم يتَعَلَّق بهَا علمه كَمَا لَا يتَعَلَّق بِرَبّ ثَان مشارك لَهُ فِي الربوبية وَمن ثمَّ أظهر الله تَعَالَى بعد ذَلِك فضل آدم بِعلم الاسماء وَلَو كَانَ كَمَا زَعَمُوا من تَعْطِيل أَفعاله من الحكم لفضله بِغَيْر سَبَب فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِبَيَان شَيْء من الْخَيْر الَّذِي أحَاط بِهِ علمه فِي خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَذريته وَلم يحيطوا بِشَيْء من الْخَيْر فِي ذَلِك فَبين لَهُم أَن فِيهِ خيرا كثيرا وَبَان بذلك أَن الشَّرّ الْمَحْض لَا يكون من أَفعاله تَعَالَى بِخِلَاف الشَّرّ الْمُشْتَمل على الْخَيْر فَيكون فِيهَا وَيكون ذَلِك الْخَيْر هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْمُسَمّى تَأْوِيل المتشابة فِي لِسَان الشَّرْع وغرض الْغَرَض فِي لِسَان الْحُكَمَاء وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى لَهُم بعد ذَلِك إِنَّه يعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا لَا يعلمُونَ وَهَذَا يدل على مَا قيل أَن الْعَالم كُله كالشجرة وَأهل الْخَيْر من الْخلق هم ثَمَرَة تِلْكَ الشَّجَرَة وَيدل عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} أَي ليعبدني العابدون مِنْهُم على أحد التفاسير كَمَا قَرّرته بشواهده فِي العواصم يُوضح ذَلِك حَدِيث الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه نَهْيه عَن الدُّعَاء على من رَآهُ يَعْصِي الله وَفِيه ان الله تَعَالَى قَالَ لَهُ إِن قصر عَبدِي مني إِحْدَى ثَلَاث إِمَّا أَن يَتُوب إِلَيّ فأتوب عَلَيْهِ أَو يستغفرني فَأغْفِر لَهُ أَو أخرج من صلبه من يعبدني رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ ثمَّ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَهَذِه الاشارة مَعَ الْفطْرَة تَكْفِي بِحَسب هَذَا الْمُخْتَصر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَتَقَدَّمت بَقِيَّة المباحث فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي الْوَعْد والوعيد والاسماء الدِّينِيَّة وَلَيْسَ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تَكْفِير وَلَا تفسيق بِاتِّفَاق الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا علمت إِلَّا مَا يَأْتِي ذكره فِي إِحْدَى صُورَتَيْنِ لَا يَقع فيهمَا أحد من أهل الْعلم وَالْخَيْر وهما التَّكْذِيب بعد التَّوَاتُر وتجويز الْخلف على الله تَعَالَى فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ لِأَن الْفَرِيقَيْنِ متفقون على وجوب صدق الله تَعَالَى وَإِنَّمَا اخْتلفُوا عِنْد تعَارض بعض السّمع فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين المتعارضات وَالتَّرْجِيح لبعضها على بعض فِيمَا يَصح فِيهِ التَّرْجِيح أَو الْوَقْف عِنْد عدم التَّمَكُّن من الْجمع وَالتَّرْجِيح وَقد صَحَّ بعض الِاخْتِلَاف بَين الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} كَمَا تقدم شواهده فِي مَسْأَلَة اثبات الْحِكْمَة وَورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح اخْتِلَاف الْمَلَائِكَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا وَذَلِكَ حَيْثُ اخْتلفُوا فِي حكم النادم المُهَاجر بعد قتل مائَة نفس حَتَّى جَاءَهُم ملك فَحكم بَينهم فَكَانَت الاصابة لملائكة الرَّحْمَة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة والْحَدِيث طَوِيل رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَلَا يَصح تأثيم أحد مِنْهُم بالاجماع لِأَن الَّذين أَرَادوا عَذَابه إِنَّمَا اشْتَدَّ غضبهم لله تَعَالَى وَالَّذين أَرَادوا نجاته إِنَّمَا رجوا لَهُ سَعَة رَحْمَة الله تَعَالَى فَكَذَلِك عُلَمَاء الاسلام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا خَافَ بَعضهم من مفاسد الامان وَخَافَ بَعضهم من مفاسد الْقنُوط وَمن مفْسدَة تَكْذِيب الْبُشْرَى ومفسدة ثِقَة الانسان بِنَفسِهِ وَحَوله وقوته وَعلمه وَنَحْو ذَلِك وَمن نظر بِعَين التَّحْقِيق وجد القَوْل الْحق الْوَارِد فِي السّنة خَالِيا من جَمِيع هَذِه الْمَفَاسِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وَلَا شكّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله مُبين لكتاب الله عز وَجل أَمِين على تَأْوِيله وَأَن الْمرجع فِي بَيَان كتاب الله تَعَالَى إِلَى السّنة الصَّحِيحَة فَلَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى من تفاصيل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وأمثالها إِلَّا الْيَسِير وَلَا شكّ أَن الِاسْتِثْنَاء من الْوَعْد والوعيد وَتَخْصِيص العمومات بالأدلة الْمُتَّصِلَة والمنفصلة مَقْبُول إِمَّا على جِهَة الْجمع وَلَا شكّ فِي جَوَازه وَصِحَّته وَحسنه والاجماع على ذَلِك وَكَثْرَة وُقُوعه من سلف الامة وَخَلفهَا بل لَا شكّ فِي تَقْدِيمه فِي الرُّتْبَة والبداية بذلك قبل التَّرْجِيح فان تعذر الْجمع فالترجيح فان وضح عمل بِهِ وَإِن لم يَتَّضِح وَجب الْوَقْف لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلذَلِك اخْتَرْت الْوَقْف فِي حكم قَاتل الْمُؤمن بعد الانتصاف مِنْهُ للمظلوم وَالْقطع على أَنه فَاسق مَلْعُون وَاجِب قَتله والبراءة مِنْهُ وَالْقطع أَن جزاءه جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى على مَا أَرَادَ وَإِنَّمَا وقفت فِي مَحل التَّعَارُض الَّذِي أوضحته فِي العواصم لَا على حسب مَا قيل فِي أَن الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة هَل بَين جزاءه الَّذِي لَهُ أَن يَفْعَله إِن شَاءَ أَو بَين جزاءه الَّذِي تخير لَهُ فِي تنجيزه حِين لم يبْق إِلَّا حَقه بعد اسْتِيفَاء حق الْمَظْلُوم الْمَقْتُول وَالله سُبْحَانَهُ أعلم فَمن رجح الْجمع بَين وَعِيد الْقَاتِل وَبَين قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَسَائِر آيَات الرَّجَاء وَأَحَادِيثه قَالَ بالاول وَمن رجح وَعِيد الْقَاتِل فِي هَذِه الْآيَة وَفِي الاحاديث المخصصة لقتل الْمُؤمن بِقطع الرَّجَاء كَمَا أوضحته فِي العواصم رجح وَعِيد الْقَاتِل وَمن تَعَارَضَت عَلَيْهِ وَلم ير فِي تَنْجِيز الِاعْتِقَاد مصلحَة وَلَا لَهُ مُوجبا وَلَا اليه ضَرُورَة رجح الْوَقْف وَالله عِنْد لِسَان كل قَائِل وَنِيَّته وَلَا شكّ فِي تَرْجِيح النَّص الْخَاص على الْعُمُوم وتقديمه وَعَلِيهِ عمل عُلَمَاء الاسلام فِي أَدِلَّة الشَّرِيعَة وَمن لم يقدمهُ فِي بعض الْمَوَاضِع لم يُمكنهُ الْوَفَاء بذلك فِي كل مَوضِع واضطر إِلَى التحكم والتلون من غير حجَّة بَيِّنَة وَقد أجمع من يعْتد بِهِ من الْمُسلمين على تَخْصِيص الصَّغَائِر من آيَات الْوَعيد الْعَامَّة على جَمِيع الْمعاصِي مَتى كَانَ أهل الصَّغَائِر من الْمُسلمين وَلم يلْزم من ذَلِك خلف فِي آيَات الْوَعيد وَلَا كذب وَلَا تَكْذِيب لشَيْء مِنْهَا فَكَذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 سَائِر مَا صَحَّ من أَحَادِيث الرَّجَاء لَيْسَ فِيهِ مناقضة لعمومات آيَات الْوَعيد وَلَا يسْتَلْزم تَجْوِيز الْخلف على الله تَعَالَى وَذَلِكَ بَاب وَاحِد وَلذَلِك اشتهرت أَحَادِيث الرَّجَاء فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلم ينكرها أحد بل رواتها أكابرهم وأئمتهم وَفِي العواصم من ذَلِك عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام بضعَة عشر أثرا بل المخصصات للعمومات فِي ذَلِك قرآنية وعمومات الْوَعْد مَانِعَة قبل تَخْصِيص الْوَعيد من الْجَزْم على وُقُوع عُمُومه دون عُمُوم الْوَعْد على أَن الْخلف عِنْد جماعات كَثِيرَة لَا يكون إِلَّا عدم الْوَفَاء بالوعد بِالْخَيرِ وَأما الْوَعيد بِالشَّرِّ فقد اخْتلف فِي تَركه وَأَجْمعُوا على أَنه يُسمى عفوا كَمَا قَالَ كَعْب ابْن زُهَيْر (أنبئت أَن رَسُول الله أوعدني ... وَالْعَفو عِنْد رَسُول الله مأمول) وَإِنَّمَا اخْتلفُوا مَعَ تَسْمِيَته عفوا هَل يُسمى خلفا أم لَا وَمن منع من ذَلِك منع صِحَة النَّقْل لَهُ لُغَة وَاحْتج على امْتِنَاعه بِأَنَّهُ لَا يَصح اجْتِمَاع اسْم مدح وَاسم ذمّ على مُسَمّى وَاحِد وَقد تقدم زِيَادَة فِي هَذَا فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة فَلْينْظر هُنَاكَ وَيسْتَثْنى من هَذَا كل وَعِيد جعله الله تَعَالَى نصر للانبياء وَالْمُؤمنِينَ وَوَعدهمْ بِهِ فانه يكون حِينَئِذٍ وَعدا لَا يجوز خَلفه كَمَا قَالَ صَالح عَلَيْهِ السَّلَام لِقَوْمِهِ {تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} وَلذَلِك سَمَّاهُ وَعدا وَأما قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَة الْحِكْمَة وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} هَل هِيَ خَاصَّة فِيمَن نزلت فِيهِ من الْكفَّار وَهل فِيهَا شَيْء من ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أم لَا فَمن قَالَ بعمومها لم ينظر إِلَى سَبَب نُزُولهَا فِي الْكفَّار وَجعلهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وَمن قصرهَا عَلَيْهِم نظر إِلَى الْجمع بَين هَاتين الْآيَتَيْنِ وَبَين قَوْله تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَقَوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وخاصة إِذا جوز أَن نفي التبديل مُقَيّد بِيَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَأَنه ظرف لَهُ فَهَؤُلَاءِ فَهموا من مَجْمُوع الْآيَات أَن التبديل يَنْقَسِم إِلَى مَذْمُوم ومحمود فالمذموم مَا كَانَ من خير إِلَى شَرّ والمحمود مَا كَانَ من شَرّ إِلَى خير أَو من خير إِلَى خير أفضل مِنْهُ أَو مثله وَجعلُوا الْعَفو خيرا من الْعقُوبَة فِي حق الْمُسلمين لما ورد فِي الاحاديث فِي هَذَا بِعَيْنِه وَفِي من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة فِي من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا وَيَنْبَغِي هُنَا تَحْقِيق النّظر فِي الْفرق بَين الْوَعيد وَالْخَبَر الْمَحْض عَن الْوَاقِع فِي الْمُسْتَقْبل وَذَلِكَ أَن الْوَعيد يحسن مِمَّن لَا يعلم الْغَيْب بِخِلَاف الْخَبَر الْمَحْض وَإِذا لم يَفْعَله لتوبة أَو رَحْمَة لم يعد فِي لُغَة الْعَرَب من الْكَذَّابين المذمومين فَكيف إِذا كَانَ إِنَّمَا بَين مُرَاده وَلم يرجع عَنهُ لِأَنَّهُ عِنْد هَؤُلَاءِ فِي خطاب المسخوطين خَاصَّة كَقَوْل يُوسُف {معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون} وَلَو كَانَ لَهُ رَغْبَة فِي رحمتهم وإسعادهم وجد اليه السَّبِيل وَالله سُبْحَانَهُ أعلم وَأحكم وَمن أَمْثِلَة ذَلِك الْحَالِف على أَن لَا يفعل مَا يسْتَحبّ فعله فان كَانَ لَهُ حِكْمَة مرجحة لتَركه وَهُوَ يخفيها كَانَ لَهُ فِي الْيَمين عذر وَإِن أحب أَن يفعل الْمُسْتَحبّ كَانَ لَهُ فِيهِ الْمخْرج وَللَّه تَعَالَى من ذَلِك كُله أجمله وَأحسنه وَأَكْثَره حمدا وثناء وَقد ذكرت فِي العواصم من أَحَادِيث الرَّجَاء المبينة للمراد فِي عمومات الْوَعيد أَكثر من أَرْبَعمِائَة حَدِيث من دواوين الاسلام الْمَعْرُوفَة مَعَ مَا شهد لَهَا من الْآيَات القرآنية وَمن أعظمها بشرى حَدِيث معَاذ الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَفِيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أَنه قَالَ أَفلا أبشر النَّاس قَالَ دعهم يعملوا فَدلَّ على أَنه على ظَاهره وعَلى أَن جَانب الرَّجَاء مَكْتُوم للْمصْلحَة يُوضحهُ حَدِيث من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة لم تمسه النَّار قَالُوا وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ فقد كَانَ أوهمهم بِمَفْهُوم الْعدَد أَن الرَّجَاء يخْتَص بِالثَّلَاثَةِ وَلم يبدأهم بالبشرى بالاثنين لمصْلحَة التخويف وَمِنْه قَوْله فِي ذَلِك لم تسمه النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم فَدلَّ على أَن الْقدر الْوَاجِب الْمقسم عَلَيْهِ مُجَرّد الْوُرُود فِي حق الْمُسلمين وَللَّه الْحَمد وَمن ذَلِك أَحَادِيث خُرُوج من دخل النَّار من الْمُوَحِّدين برحمة الله تَعَالَى ثمَّ بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وشفاعته من رَحْمَة الله تَعَالَى وَالَّذِي حضرني الْآن من الْأَحَادِيث المصرحة بخروجهم من النَّار أَحَادِيث كَثِيرَة جدا عَن أَكثر من عشْرين من كبار أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله من ذَلِك فِي عُلُوم آل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله عَن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام فِي بَاب مَا يُقَال بعد الصَّلَاة وَفِي مُسْند أَحْمد عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة وَفِي البُخَارِيّ وَحده عَن عمرَان بن حُصَيْن وَفِي صَحِيح مُسلم وَحده عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم عَن أبي مُوسَى عشرتهم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله بذلك بِأَلْفَاظ صَرِيحَة ضَرُورِيَّة لَا تحْتَمل التَّأْوِيل وَفِي مجمع الزَّوَائِد مثل ذَلِك عَن عشرَة من الصَّحَابَة غير هَؤُلَاءِ الَّذين ذكرتهم ذكرتهم فِي العواصم والتواتر يحصل بِهَذَا بل بِدُونِ ذَلِك وَلَا يشْتَرط فِي رِجَاله الْعَدَالَة كَيفَ وَقد اجْتمعَا غَالِبا وَمَا زَالُوا يروون ذَلِك فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَبعده لَا يُنكره مُنكر وَلَا يزْجر عَنهُ أحد ثمَّ وافقهم جمَاعَة كَثِيرَة على هَذَا الْمَعْنى لَكِن بِغَيْر لفظ الْخُرُوج من النَّار وَذَلِكَ كثير جدا مِنْهُم من روى أَن الشَّفَاعَة نائلة من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا كَعبد الله بن عمر بن الْخطاب وَأبي ذَر الْغِفَارِيّ وَعبد الله بن عَمْرو وعَوْف بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس ومعاذ وَأبي مُوسَى وَأنس وَأبي أَيُّوب وَأبي سعيد وَمِنْهُم من روى حَدِيث شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي كَمَا ثَبت ذَلِك من حَدِيث جَابر بن عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَأنس بن مَالك وَابْن عَمْرو رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث جَعْفَر ابْن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه الباقر عَن جَابر وَفِي حَدِيث ابْن عمر حَرْب بن شُرَيْح وَثَّقَهُ جمَاعَة وَفِيه خلاف يسير ينجبر بالشواهد وروى عَنهُ نَحْو ذَلِك بِغَيْر لَفظه من طَرِيق النُّعْمَان بن قراد وَهُوَ ثِقَة رَوَاهُمَا الهيثمي فِي مجمعه وَلَفظ حَدِيث النُّعْمَان أَن شَفَاعَتِي لَيست للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ لَكِنَّهَا للمذنبين الخاطئين المتلوثين وروى الهيثمي نَحْو ذَلِك عَن أم سَلمَة وَعبد الله ابْن بسر وَأبي أُمَامَة وَمِنْهُم من روى أَن الله يفْدي كل مُسلم بِكَافِر كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي مُوسَى بأسانيد على شَرط الْجَمَاعَة وَمن ذَلِك مَا ورد فِيمَن كَانَ آخر كَلَامه لَا أَله إِلَّا الله وَقد تقصاها الْحَافِظ ابْن حجر فِي تلخيصه فِي كتاب الْجَنَائِز ثمَّ مَا ورد فِي الرَّجَاء لأهل الْأَمْرَاض والفقر والمصائب وَفِي موت الاولاد والاصفياء وَفِي هَذَا النَّوْع وَحده عَن ثَمَانِيَة عشر صحابيا ثمَّ مَا جَاءَ فِي فَضَائِل الايمان والاسلام وَالْوُضُوء والصلوات وَالصَّدَََقَة والصلة وَالْجهَاد وَالشَّهَادَة والاذكار وَسَائِر الاعمال الصَّالِحَة مَعَ مَا شهد لذَلِك من سَعَة رَحْمَة الله تَعَالَى المنصوصة فِي الْكتاب وَالسّنة وَأَنَّهَا الْمُوجبَة دُخُول الْجنَّة لَا الْعَمَل فِي أَرْبَعَة عشر حَدِيثا وَيشْهد لَهَا أَن الله تَعَالَى سمى الْجنَّة فَضله فِي غير آيَة وَأَن الْمِائَة الرَّحْمَة أعدت ليَوْم الْقِيَامَة فِي عشرَة أَحَادِيث وَيشْهد لَهَا قَوْله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ} وَمَا دلّ على جَوَاز وُرُود ذَلِك من آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم وَهِي أَنْوَاع كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَهِي أبين آيَة فِي الْوَعْد والوعيد وَقد جودت الْكَلَام عَلَيْهَا فِي العواصم بِحَمْد الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى بعد ذكر الْمُتَّقِينَ والفراغ مِنْهُ {ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن} فِي أَربع آيَات فانها أخص وَأبين من وصف الْمُؤمنِينَ بِعَمَل الصَّالِحَات إِذْ لَا يُمكن إحاطة الْوَاحِد مِنْهُم بهَا كلهَا كَمَا اعْترف بهَا الزَّمَخْشَرِيّ وَإِن الْمَعْنى فِي عَملهَا عمل بَعْضهَا فَأَما قَول الْكُوفِيّين إِن من قد تكون زَائِدَة فِي الاثبات فَلَا يقطع الرَّجَاء لَو سلم لِأَن الاكثر أَنَّهَا فِيهِ للتَّبْعِيض عِنْد الْجَمِيع وَمُجَرَّد تَجْوِيز أَنَّهَا للتَّبْعِيض يُوجب الرَّجَاء لَو كَانَ نَادرا كَيفَ وَهُوَ الْأَكْثَر إِذْ لَا يجوز الْقطع فِي مَوضِع الِاشْتِرَاك بِغَيْر قَاطع فَثَبت الرَّجَاء على كل تَقْدِير ويعضده الْوَعْد على الْوَاحِد مِنْهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمن يُوقَ شح نَفسه} و {إِن تقرضوا الله قرضا حسنا} مَعَ شَهَادَة السّنة لذَلِك مثل حَدِيث أَرْبَعِينَ خصْلَة وَحَدِيث اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة وَقد بسط فِي العواصم وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك إِن رَبك فعال لما يُرِيد} وَقد أوضحت هُنَالك وَفِي الاجادة أَن الِاسْتِثْنَاء من الشَّرّ للنقصان وَمن الْخَيْر للزِّيَادَة لقَوْله فِي أهل الْحسنى لَهُم الْحسنى وَزِيَادَة وَفِي آيَة {لَهُم مَا يشاؤون فِيهَا ولدينا مزِيد} وَفِي أُخْرَى {ويزيدهم من فَضله} وَفِي دواوين الاسلام الصِّحَاح من غير طَرِيق يَقُول الله الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو رَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَأَبُو سعيد وَأَبُو ذَر وَأَبُو رزين أربعتهم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى بعد الِاسْتِثْنَاء من خُلُود أهل الْجنَّة {عَطاء غير مجذوذ} فَأَشَارَ إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء فِيهَا للزِّيَادَة كَمَا ثَبت فِي سَائِر الْآيَات وَالْأَحَادِيث وكما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 قَالَ بعد ذكر ثَوَاب الْمُؤمنِينَ بِالْجنَّةِ {ورضوان من الله أكبر} وَيشْهد لذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله} وَلم يقل هُنَا إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ فِي كشف الضّر وَهَذَا من لطف هَذَا الْبَاب وأوضح مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} وَلم يقل ليجزي الصَّادِقين إِن شَاءَ كَمَا قَالَ فِي الْعَذَاب وَفِي سُورَة اللَّيْل تَخْصِيص الْحسنى وَهِي الْجنَّة بالوعد على التَّصْدِيق بهَا والوعيد على التَّكْذِيب بهَا وَفِي الصَّحِيح الْمُتَّفق على صِحَّته حَدِيث لم تمسه النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم وَفِيه مَأْخَذ قوي فِي معرفَة الْقدر الْمقسم عَلَيْهِ مِنْهُ وَالله أعلم وَلِهَذَا شَوَاهِد فِي الْقُرْآن وَالسّنة يحصل بمجموعها قُوَّة كَثِيرَة وَمِمَّا قيل أَنه وَقع من ذَلِك قصَّة يُونُس لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا قوم يُونُس} الْآيَة والوقوع فرع الصِّحَّة وأدل مِنْهَا فكم من مُمكن لم يَقع وَلَا يَقع ويستحيل فِيمَا وَقع أَن يكون غير مُمكن وَقد جود الْقُرْطُبِيّ الْكَلَام فِي قصتهم فِي تَذكرته وَقَالَ إِن تَوْبَة الله عَلَيْهِم مَحْض التفضل لأَنهم قد كَانُوا مضطرين إِلَيْهَا بمشاهدتهم الْعَذَاب الَّذِي وعدهم بِهِ يُونُس صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَالله سُبْحَانَهُ أعلم لَكِن يُعَارض مَا ذكره قصَّة فِرْعَوْن فانه لم يقبل إيمَانه حِينَئِذٍ بل قَالَ الله تَعَالَى لَهُ {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين} وَالْحق أَن الله لَا يخلف الْوَعيد الا أَن يكون اسْتثْنى فِيهِ وَلَيْسَ كل من شَاهد الْعَذَاب اضْطر إِلَى الايمان لِأَنَّهُ قد يشك فِي أَنه عَذَاب من الله أَو من مصائب الدُّنْيَا كَمَا كَانَ من ابْن نوح فانه قَالَ بعد مُشَاهدَة الْغَرق الخارق والوعيد بِهِ {سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء} فَدلَّ عَليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 اخْتِلَاف أَحْوَال الْخلق فِي ذَلِك وَبعد فالاضطرار فعل الله تعالي بالِاتِّفَاقِ فَلَا يُنكر أَنه يَفْعَله لبَعض دون بعض وَأَصَح التَّفْسِير تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ ثمَّ بِالْحَدِيثِ فاذا اجْتمعَا وَكَثُرت الْأَحَادِيث وَصحت كَانَ ذَلِك نورا عَليّ نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وكل ذَلِك رَجَاء مقرون بالخوف مَقْطُوع عَن الامان لجهل الْخَوَاتِم وَلقَوْله تعالي {لمن يَشَاء} بعد قَوْله {وَيغْفر مَا دون ذَلِك} وَلقَوْله فِي الصَّالِحين {وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} وَفِي آيَة {إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا} فَلَا يَقْتَضِي شَيْء من ذَلِك الاغراء وَالْفساد لِأَن الشَّفَاعَة إِنَّمَا هِيَ شَفَاعَة من النَّار بعد دُخُولهَا وَذَلِكَ من أعظم الصوارف عَن الْمعاصِي مَعَ مَا يَقع بِسَبَب الْمعاصِي فِي الدُّنْيَا والقبر وَيَوْم الْقِيَامَة من الْمُؤَاخَذَة عَليّ مَا شهِدت بِهِ الْآيَات وَالْأَخْبَار وكفي بقوله تعالي فِي مصائد الدُّنْيَا {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَفِي قِرَاءَة {فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} وَقد ذكرت فِي العواصم فِي التخويف أَكثر من عشْرين آيَة من كتاب الله تعالي مِمَّا يخْتَص بعصاة الْمُسلمين وَذكرت هُنَالك أَيْضا حَدِيثا كثيرا فِي التحذير من مكر الله وشديد عِقَابه أعاذنا الله مِنْهُ وختمت بذلك الْكَلَام فِي الرَّجَاء كَيْلا يظنّ الْجُهَّال أَن الْمَقْصُود بالرجاء هُوَ الامان والتفريط وتضييع الاعمال واطراح التقوي وَقد جود الْكَلَام فِي هَذَا المعني الشَّيْخ الْعَلامَة الشهير بِابْن قيم الجوزية تلميذ شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية فِي كِتَابه الْجَواب الْكَافِي فليطالع فانه مُفِيد جدا وَالْجمع بَين الْخَوْف والرجاء سنة الله وَسنة رسله عَلَيْهِم السَّلَام وَسنة دين الاسلام والاولي للانسان تَغْلِيب الْخَوْف فِي حق نَفسه إِلَّا عِنْد اقتراب الاجل الاقتراب الْخَاص أَعنِي عِنْد ظُهُور امارات الْمَوْت فِي الْمَرَض الشَّديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَإِلَّا فالموت قريب غير بعيد وَذَلِكَ لما صَحَّ أَن الله تعالي يَقُول أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ وَلِهَذَا الحَدِيث لم يكن تَقْدِيم عمومات الْوَعيد أولي من تَقْدِيم خُصُوص آيَات الرَّجَاء وَأَحَادِيثه مَعَ مَا عضد هَذَا الحَدِيث من نَحْو قَول الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام للخليل عَلَيْهِ السَّلَام {فَلَا تكن من القانطين} وَقَوله فِي جوابهم {وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون} مَعَ مَا ورد فِي كتاب الله تعالي من شَوَاهِد ذَلِك كَقَوْلِه تعالي {يحذر الْآخِرَة ويرجو رَحْمَة ربه قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} هَذِه الْآيَة تَفْسِير قَوْله {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} لِأَنَّهُ قصر الخشية عَلَيْهِم حَيْثُ علمُوا الدَّار الْآخِرَة دون الْكَافرين كَمَا دلّ عَلَيْهِ أول الْآيَة وَلم يقصرهم عَليّ الخشية دون الرَّجَاء كَمَا دلّ عَلَيْهِ وَصفهم برجاء رَحْمَة الله تعالي فِي غير آيَة وَقَوله تعالي {لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} وَقَوله تعالي {أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله وَالله غَفُور رَحِيم} وَقَوله تعالي {يرجون تِجَارَة لن تبور} وَقَوله تعالي {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَقَوله تعالي {وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين} إِلَيّ {بِمَا قَالُوا} وَقَوله تَعَالَى {وادعوه خوفًا وَطَمَعًا إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} فأكد الطمع بقوله إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ وهم المخلصون لإيمانهم من النِّفَاق كَمَا قرر فِي مَوْضِعه وَقَوله تَعَالَى {ويدعوننا رغبا ورهبا وَكَانُوا لنا خاشعين} فأكد الرهب بِذكر الْخُشُوع فَبين أَنه الْمَقْصُود لَا الْقنُوط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَقَول الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَول عيسي عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَفِي الْخَوْف أَكثر من ذَلِك كَقَوْلِه {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} وَقَوله تعالي {ذَلِك لمن خشِي ربه} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} وَقَوله تعالي فِي الْمَلَائِكَة {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} وَقَوله تَعَالَى فِي الصَّالِحين {إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} وَقَوله تَعَالَى {وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَالله إِنِّي لأخشاكم لله وأمثال ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَالْجمع بَين الرَّجَاء وَالْخَوْف من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يَرْجُو حِين يذكر صِفَات ربه وَيخَاف حِين يذكر صِفَات نَفسه لقَوْله تَعَالَى {من خشِي الرَّحْمَن} فَسَماهُ بالرحمن فِي حَال خَوفه وَثَانِيهمَا أَن يخَاف على نَفسه ويرجو لغيره وَتَأمل قَول الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي خَوفه على نَفسه {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَلم يقل وَالَّذِي يغْفر لي كَمَا قَالَ {وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين} وَكَذَا قَوْله {عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حق غَيره {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} فَانْظُر مَا أَشد خَوفه على نَفسه وأوسع رَجَاءَهُ لغيره وَهَذَا عكس مَا عَلَيْهِ الاكثرون وَالله الْمُسْتَعَان فان قيل هَذَا الْكتاب مَبْنِيّ على الِاحْتِيَاط وَمذهب الوعيدية أحوط فَكيف لم تلتزمه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَالْجَوَاب أَن الِاحْتِيَاط بَاقٍ مَعَ الرَّجَاء وَالْخَوْف لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الْمفْسدَة إِنَّمَا هِيَ فِي الْأمان لَكِن من لم يتَأَمَّل لم يفرق بَين الامان والرجاء وَالْفرق بَينهمَا وَاضح وَلذَلِك قيل من رجا خَافَ وَمن خَافَ رجا وَمن قديم مَا قلت فِي هَذَا المعني هَذِه الأبيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 (عذلي عابوا رجائي ... عذلي جاروا وتاهوا) (كَيفَ لَا أَرْجُو الَّذِي لَا ... يغْفر الذَّنب سواهُ) (جَاءَ فِي الْقُرْآن مَنْصُوصا ... وكل قد رَوَاهُ) (وَهُوَ أعلي رتب الْمجد ... بِعَفْو هُوَ مَا هُوَ) (قصر الْمَدْح عَلَيْهِ ... فانظروا ذَا الْمَدْح مَا هُوَ) (هُوَ حق أَو محَال ... أَو صَحِيح أَو سواهُ) (لَا وَمن لَا يغْفر الذَّنب ... وَإِن جلّ سواهُ) (إِنَّه للحق صدقا ... وصدوق من رَوَاهُ) (وَسَعِيد من تلقا ... بِصدق ورجاه) (وظلوم من يُسَمِّيه ... مني خَابَ مناه) (الاماني رده الْحق ... اجْتِهَادًا بهواه) (أَو يري أهدي من ... الْقُرْآن نهجا مَا رَآهُ) (ويري الْبَاطِل فِي ... مَفْهُومه مهما تلاه) (غير أَن الله للْعَبد ... بخوف ابتلاه) (لصلاح فِيهِ لَا يُغني عَن الْخَوْف سواهُ) (نحمد الله عَليّ الْخَوْف ... فمولانا قَضَاهُ) (لَو محا الْخَوْف رجائي ... لمحا الْخَوْف قَضَاهُ) (من رجا خَافَ من الله ... وَمن خَافَ رجاه) (وَلذَا اخْتصَّ أولو الْعلم ... وَمن قد اصطفاه) (بمزيد الْخَوْف لله ... مَعَ وعد رِضَاهُ) (لَو رجا الْكَافِر أوخاف ... وَقَاه وَكَفاهُ) (ذَا رجائي فِيهِ وَإِلَّا ... رَجَاء زور لَا أرَاهُ) (فاعرف الارجاء تعلم ... أَن رجواه سَوَاء) وَثَانِيهمَا أَن الِاحْتِيَاط إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ الصَّالح فان الْعَمَل الصَّالح هُوَ مَوضِع الِاحْتِيَاط فاما مُجَرّد الِاعْتِقَاد فَلَا يُمكن أَن يكون أحد الاعتقادين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أحوط هَهُنَا لِأَنَّهُ من قبيل التَّصْدِيق وَهُوَ وَاجِب فِي الْمَوْضِعَيْنِ بل هُوَ فِي الرَّجَاء أوجب اجماعا وَإِنَّمَا يُمكن اعْتِقَاد الاصح وَلذَلِك اخْتلفت الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَكَانَ الصَّوَاب مَعَ من رجا مِنْهُم كَمَا تقدم فِي أول هَذِه الْمَسْأَلَة وَيدل عَليّ ذَلِك وُجُوه الْوَجْه الأول أَن الْمُقْتَضِي للرجاء تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام عِنْد تعَارض السّمع فِي ذَلِك وَذَلِكَ وَاجِب وَلَا يُمكن أَن يكون ترك الْوَاجِب أحوط لِأَن تَركه حرَام وارتكاب الْحَرَام يُنَاقض الِاحْتِيَاط وينافيه فَلم يُمكن الِاحْتِيَاط إِلَّا فِي الْعَمَل فان زَعَمُوا ان الْعُمُوم فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد قَطْعِيّ فَلَا يجوز تَخْصِيصه فَالْجَوَاب من وُجُوه أَولهَا أَنه يلْزمهُم مثله فِي عمومات الْوَعْد بالمغفرة كَقَوْلِه تَعَالَى {يغْفر لمن يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {إِن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم وَيغْفر لكم} وَقَوله تَعَالَى (وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن) فِي ثَلَاث آيَات وَقَوله تَعَالَى {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} وَقَوله تَعَالَى {أعدت للْكَافِرِينَ} وَفِي الْجنَّة {أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله} وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَتقدم بعضه بل الْمُحَافظَة على الصدْق فِي الْوَعْد أوجب لِأَن الْخلف فِيهِ قَبِيح ضَرُورَة وإجماعا وَفِي الْوَعيد لَا ضَرُورَة فِيهِ وَلَا إِجْمَاع وَثَانِيها ان المخصصات قواطع كَقَوْلِه تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {أعدت للْكَافِرِينَ} وَقَوله {أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى} وَقَوله {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَغير ذَلِك وَقد بسطت الردود على مطاعن الْمُخَالف فِي الِاحْتِجَاج بهَا وغايتها ظواهر مثل عموماتهم فان وَجب الْجَزْم على مَا يفهم من عموماتهم لعِلَّة وَجب الْجَزْم على ظواهر هَذِه لتِلْك الْعلَّة بِعَينهَا بل الْبعد عَن الْخلف فِي الْوَعْد أوجب لما تقدم وَإِن جَازَ حمل هَذِه على غير ظَاهرهَا لدَلِيل مُنْفَصِل جَازَ فِي عمومات الْوَعيد مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ذَلِك وَكَانَت هَذِه هِيَ الادلة الْمُنْفَصِلَة وَإِن لم يسلمُوا أَنَّهَا قَاطِعَة كَانَت مُعَارضَة توجب الْوَقْف وَأَحَادِيث الشَّفَاعَة المصرحة بِخُرُوج الْمُوَحِّدين من النَّار قَاطِعَة فِي مَعْنَاهَا بالاجماع وَهِي قَاطِعَة فِي ألفاظها كَمَا أوضحناه فِيمَا تقدم لورودها عَن عشْرين صحابيا أَو تزيد فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد وَأما شواهدها بِغَيْر لَفظهَا فقاربت خَمْسمِائَة حَدِيث فِيهَا كثير من طَرِيق أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا مضى وَرَابِعهَا أَنه لَا يُمكن الْقطع على تَكْذِيب رواتها خَاصَّة وَمِنْهُم جمَاعَة من أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام وَمَتى لم يُمكن حصل التجويز وَمَتى حصل وَجب قبُول الثِّقَة وخامسها أَن الْمُخَالف وَافق على قبُول الْآحَاد فِي مثل ذَلِك حَيْثُ يَحْتَاجهُ كَمَا قبلوا اسْتثِْنَاء الدّين من الْمَغْفِرَة للشهيد وَهِي قرآنية واستثناء عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من قَوْله تَعَالَى {فَإِن لم تَفعلُوا} فِي آيَة النَّجْوَى وَغير ذَلِك وسادسها أَنهم أهل الدَّعْوَى وَالْحجّة عَلَيْهِم وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِم إِلَّا ظواهر مُعَارضَة بأمثالها وَفِي الْموضع الثَّانِي من الْفَصْل الثَّالِث من الْجَوْهَرَة فِي أَقسَام الْخُصُوص أَنه لَا وَجه للْمَنْع من تَخْصِيص الاخبار مَعَ الْقَرَائِن والاحتجاج على الْجَوَاز بِالْعقلِ والسمع قلت وَمن الْأَدِلَّة قَوْله تَعَالَى فِي ريح عَاد {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} وَقَوله تَعَالَى فِيهَا {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} مَعَ قَوْله تَعَالَى {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} فَخص مساكنهم وَقَالَ فِي سُورَة الْقَمَر {إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر} وَخص امْرَأَته من هَذَا الْعُمُوم فِي الْحجر والنمل خُصُوصا مُنْفَصِلا وأمثال ذَلِك كثير وَأما الاشعار الْجملِي بِأَن هَذَا الْعُمُوم مَخْصُوص فَلَو كَانَ لوَجَبَ أَن ينْقل عَادَة لِكَثْرَة العمومات الْمَخْصُوصَة فَلَمَّا لم ينْقل أَلْبَتَّة علم بالعوائد أَنه لم يكن فَلم يبْق إِلَّا أَن كَثْرَة وُقُوع التَّخْصِيص بعد الْعُمُوم فِي اللُّغَة وَالشَّرْع تنزل منزلَة الاشعار بِأَن صِيغَة الْعُمُوم ظنية لَا يجوز استناد الِاعْتِقَاد الْقَاطِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 اليها وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة الْقَرِينَة الصارفة عَن الْقطع كَمَا فهمت ذَلِك الصَّحَابَة على مَا شرح مطولا فِي العواصم لذَلِك جعلُوا الاسباب فِي كثير من الْمَوَاضِع قَرَائِن قَاصِرَة للْعُمُوم بل لأجل هَذِه الْكَثْرَة فِي تَخْصِيصه قَالَ المرتضى الموسوي أَنه مُشْتَرك بَين الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَمَتى لم يجد الوعيدي شِفَاء فِي هَذِه الادلة فَلْينْظر فِي عمومات الْوَعْد الَّتِي هِيَ أوجب صدقا من عمومات الْوَعيد وَكَيف أجتزئ فِيهَا باليسير من هَذَا وَلم يجتزأ مِنْهُ بِشَيْء فِي حق خَصمه فَيعرف طبيعة العصبية الْغَالِبَة فَرُبمَا خفيت على الْمنصف حَتَّى يَتَأَمَّلهَا حق التَّأَمُّل وَالله الْهَادِي وَفِي الْموضع الرَّابِع فِي وَقت بَيَان الْخطاب من الْفَصْل الثَّانِي فِي الْكَلَام فِي الْمُجْمل والمبين من الْجَوْهَرَة أَيْضا أَن ذَلِك يَعْنِي تَجْوِيز تَخْصِيص الاخبار يُؤَدِّي إِلَى الاغراء بالقبيح وَاعْتَرضهُ القَاضِي فِي تَعْلِيقه بِمَا حَاصله أَن الْجَزْم فِي مَوضِع الظَّن خطأ من الْمُكَلف وَقع مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ الْقَبِيح وَلَا ملجئ اليه وَإِن كَانَ يَكْفِيهِ اعْتِقَاد أَن ظَاهر ذَلِك الْعُمُوم حَقِيقَة لَا مجَاز مَا لم يرد مُخَصص مَعَ اعْتِقَاده أَيْضا لاحْتِمَال الْعُمُوم حِين ورد للتخصيص كَمَا هُوَ مُقْتَضى اللُّغَة الَّتِي نزل علها الْقُرْآن وكما هُوَ معتقده فِي عمومات الْوَعْد وَقد بسط هَذَا بسطا شافيا فِي العواصم فِي مِقْدَار مُجَلد كَبِير لمن أحب التَّوَسُّع فِي معرفَة مَا ورد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْوَجْه الثَّانِي من الأَصْل أَن الْمُرَجح لَهُ الِاحْتِرَاز من تَجْوِيز الْخلف على الله تَعَالَى فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ لِأَنَّهُ مُتَّفق على الْمَنْع مِنْهُ عقلا وَشرعا وإجماعا من الامة الاسلامية وَسَائِر الْملَل والرجح للوعيد الْمُحَافظَة على الصدْق فِي الْوَعيد بالعقوبة وَقد تقدم مَا فِيهِ من الْخلاف وَالِاحْتِمَال والتعارض فِي الْأَدِلَّة وَأَنه قد يُسمى عفوا لَا خلفا وَأَنه من التبديل إِلَى مَا هُوَ خير وَنَحْو ذَلِك مَعَ أَنه قد اقْترن بِهِ مَا يمْنَع أَن يكون خلفا وفَاقا من شَرط الْمَشِيئَة وَمن الْفِدَاء لكل مُسلم بِكَافِر وَنَحْو ذَلِك وَلَا شكّ فِي تَرْجِيح الأول على الثَّانِي لِأَن من تعمد القَوْل بتجويز الْخلف على الله فِي الْوَعْد بِالْخَيرِ فقد كفر بالاجماع وَالْخَطَأ فِيمَا عمده كفر بالاجماع أَشد قبحا والاحتراز مِنْهُ أوجب عقلا وسمعا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ) وَقَالَ {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} وَلَا شكّ أَن تَغْلِيب جَانب الرَّحْمَة وَمَا يُنَاسِبهَا أَكثر ثَنَاء على الله تَعَالَى وَلذَلِك كتبهَا على نَفسه وتمدح بهَا وَكثر اسماءه المشتقة مِنْهَا ومدح العافين والكاظمين كَمَا يَجِيء فِي الْوَجْه السَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْوَجْه الثَّالِث أَنه قد ورد الْوَعيد الشَّديد على سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وعَلى عدم قبُول الْبُشْرَى كَمَا تقدم قَرِيبا فِي نهي الْمَلَائِكَة للخليل عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْقنُوط وَفِي جَوَابه عَلَيْهِم وَقَالَ الله تَعَالَى فِي ذَلِك {وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم} فَخص الْكَافرين باليأس من رَحمته وتوعدهم عَلَيْهِ بأليم عِقَابه وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} وَقَالَ {إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} بِفَتْح أَنه وَهِي قِرَاءَة وَبِذَلِك وَردت السّنة الصَّحِيحَة المفسرة لِلْقُرْآنِ فصح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَنه قَالَ (يَقُول الله عز وَجل أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ) وَحَدِيث الْأَمر بِقبُول الْبُشْرَى وَفِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله قَالَ لأعرابي أبشر فَقَالَ قد أكثرت عَليّ من أبشر فَأقبل على بعض أَصْحَابه وَقَالَ إِن هَذَا رد الْبُشْرَى فَأَقْبَلَا أَنْتُمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَفِي الْمُسْتَدْرك ومسند أَحْمد من حَدِيث عِكْرِمَة بن عمار عَن صمضم بن جوسي اليمامي عَن أبي هُرَيْرَة سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله يَقُول كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجلَانِ كَانَ أَحدهمَا مُجْتَهدا فِي الْعِبَادَة وَكَانَ الآخر مُسْرِفًا على نَفسه وَكَانَا متآخيين فَكَانَ الْمُجْتَهد لَا يزَال يرى الآخر على ذَنْب فَيَقُول يَا هَذَا أقصر فَيَقُول خَلِّنِي وربي أبعثت عَليّ رقيبا قَالَ إِلَى أَن رَآهُ يَوْمًا على ذَنْب استعظمه فَقَالَ لَهُ وَيحك أقصر فَقَالَ خَلِّنِي وربي أبعثت عَليّ رقيبا فَقَالَ وَالله لَا يغْفر لَك فَبعث الله اليهما ملكا فَقبض أرواحهما فاجتمعا عِنْده فَقَالَ للمذنب اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجنَّة برحمتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وَقَالَ للْآخر أَكنت بِي عَالما أَكنت على مَا فِي يَدي قَادِرًا اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار قَالَ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لتكلم بِكَلِمَة أذهبت دُنْيَاهُ وآخرته اه وَيشْهد لَهُ أَحَادِيث ذمّ التألي على الله تَعَالَى وَالنَّهْي عَن ذَلِك كَمَا ذكره ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة ويعضده الحَدِيث الصَّحِيح صدفة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته وَقد جمعت فِي هَذَا الْمَعْنى مصنفا مُفردا سميته قبُول الْبُشْرَى وَشرط الِاحْتِيَاط أَن لَا يكون فِيهِ مَخَافَة وَفِي الْقنُوط واليأس من رَحْمَة الله تَعَالَى وتقنيط النَّاس مِنْهَا مَعَ نَصه على أَنَّهَا كَالْعلمِ فِي سعتها أعظم مَخَافَة فَامْتنعَ أَن يكون ذَلِك وَمَا يستلزمه أَو شَيْء مِنْهُ أَو يُقَارِبه هُوَ الاحوط خُصُوصا وَقد يَنْتَهِي ذَلِك إِلَى الْكفْر فِي صُورَتَيْنِ أَحدهمَا أَن يرد ذَلِك أحد بعد التَّوَاتُر لَهُ ومعرفته بتواتره عنادا لخصمه وَيقرب مِنْهُ من يكذب مَعَ تجويزه أَنه صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فانه لَا يُؤمن مَعَ صِحَّته أَن يكون كفرا على اعْتِبَار الِانْتِهَاء كمن يستخف بمصحف وَقد أخبر أَنه مصحف وَهُوَ يجوز صدق من أخبرهُ وَلِأَن فِيهِ مضارعة للاستهانة بِأَمْر النُّبُوَّة حِين أقدم على التَّكْذِيب من غير ملجئ اليه مَعَ تَجْوِيز أَنه كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَلذَلِك حرم تَكْذِيب مَا يجوز صدقه من أَخْبَار أهل الْكتاب لَكِن لَا يقطع أَنه كفر لَا مَكَان أَن يكون الْحق اعْتِبَار الِابْتِدَاء دون الِانْتِهَاء أَو يسامح فِيهِ لعدم تحَققه الْوَجْه الرَّابِع أَنه لَو اعْتبر الِاحْتِيَاط على مَا توهمه السَّائِل لَكَانَ الاحوط هُوَ مَذْهَب الْخَوَارِج من الوعيدية لأَنهم يجْعَلُونَ الصَّغَائِر المتعمدة كَبَائِر ويجعلون جَمِيع الْمعاصِي كفرا إِلَّا لسهو وَنَحْوه وَبِه فسروا الصَّغَائِر وَبَعْضهمْ يسْتَثْنى من ذَلِك مَا فِيهِ حد لِأَن الْكفْر لَا يجب مَعَه حد لَكِن الْأَدِلَّة قَامَت على بطلَان قَوْلهم والنصوص تَوَاتَرَتْ بمروقهم والامر بِقَتْلِهِم فصح أَن الْأَحْوَط اتِّبَاع الْبَرَاهِين الصَّحِيحَة دون مُجَرّد التَّشْدِيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أَحَادِيث الرَّجَاء فِي كتب أهل الْبَيْت وَجَمِيع فرق الاسلام كَمَا تقدم وَاخْتلفت الْمَلَائِكَة فِيهَا وَكَانَ الْحق فِيهَا مَعَ مَلَائِكَة الرَّحْمَة كَمَا مُضِيّ الْوَجْه السَّادِس أَن الرَّجَاء شرع للْمصْلحَة الدِّينِيَّة لَا للمفسدة وَمَا شرع للْمصْلحَة الدِّينِيَّة لم يكن تَركه أحوط وَتلك الْمصلحَة هِيَ قُوَّة دُعَاء الرَّغْبَة الممدوح فِي قَوْله تَعَالَى {ويدعوننا رغبا ورهبا} وتضعيف مفْسدَة الْقنُوط المذموم بِالنَّصِّ والاجماع وَعدم الْكبر على العصاة المذموم بِالنَّصِّ فِي تَفْسِير الْكبر والتخلق بأعدل الاخلاق وأدلها على الانصاف وَهُوَ تَغْلِيب الرَّجَاء على الْخَوْف فِي حق الْغَيْر وتغليب الْخَوْف على الرَّجَاء فِي حق النَّفس وَهَذَا هُوَ مُعظم الْمصلحَة فِيهِ وَإِنَّمَا يلْزم الْفساد لَو عكسنا ذَلِك وجعلناه وَسِيلَة إِلَيّ الْمعاصِي وَأما مَعَ إِثْبَات الْخَوْف وترجيحه فِي حق النَّفس فَهُوَ سَبَب الصّلاح للأخلاق والاعمال وَسنة الانبياء والأولياء بَيَان ذَلِك أَن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام جادل عَن قوم لوط على جِهَة الرَّجَاء لفضل الله وَرَحمته لَعَلَّه يمهلهم حَتَّى يتوبوا اليه أَو غير ذَلِك مِمَّا كَانَ يسوغ وَيحْتَمل فِي شَرِيعَته عَلَيْهِ السَّلَام فمدحه الله تَعَالَى بذلك وَقَالَ فِي ذَلِك {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} مَعَ خَوفه على نَفسه كَمَا تقدم حَيْثُ قَالَ {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَلم يقل وَالَّذِي يغْفر لي وَكَذَلِكَ قَالَ {عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا} وكذالك قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَن أشرك بِعبَادة عِيسَى {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} فَدلَّ على أَن سَعَة الرَّجَاء لِلْخلقِ مَعَ التجويز لَا تخَالف الاحوط وَأَنه لَا ذمّ فِيهِ وَلَا شُبْهَة لِأَنَّهُ لَا أبعد من الذَّم والشبهة من مثل خَلِيل الله وروحه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَلذَلِك قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام الْفَقِيه كل الْفَقِيه من لم يقنط النَّاس من رَحْمَة الله وَلم يؤمنهم مكر الله تَعَالَى الْوَجْه السَّابِع إِن الرَّجَاء مقتضي اسماء الله تَعَالَى وممادحة الغالية السَّابِقَة الْمَكْتُوبَة الْوَاجِبَة أَسمَاء الرَّحْمَة المحكمة وَالْفضل الْعَظِيم الَّتِي هِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 أم الْكتاب وَالْمَقْصُود الأول باجماع الْحُكَمَاء وَالسَّلَف الصَّالح كَمَا تقدم فِي إِثْبَات حِكْمَة الله تَعَالَى وَإِن الْخَبَر هُوَ المُرَاد لذاته وَالْمرَاد الأول كَمَا بسط فِي أَوَاخِر حادي الْأَرْوَاح فَينْظر فِيهِ فانه من أنفس المصنفات فِي ذَلِك وَالْخَوْف إِنَّمَا وَجب لأمر عَارض وَهُوَ خوف فَسَاد العَبْد وَغَلَبَة هَوَاهُ عَلَيْهِ فَجعل وازعا لَهُ عَنهُ أَو صارفا وَلذَلِك كره عِنْد أَمَان الْمعْصِيَة عِنْد النزع وترقب لِقَاء الله تَعَالَى وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بربه فعلى قدر الْخَوْف من الْوُقُوع فِي الْمعاصِي يحسن تَقْوِيَة الْخَوْف من الْعَذَاب وَلَا شكّ فِي غَلَبَة الْهوى للابتلاء فَيجب تَقْوِيَة الْخَوْف واللجأ إِلَيّ الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَهُوَ نعم الْمعِين ثمَّ إِن هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا لَا تجب مَعْرفَتهَا على كل مُكَلّف لَكِن من عرف الْحق فِيمَا لَا يجب لم يحل لَهُ جَحده وَلَا يَصح أَن يُسمى جَحده احْتِيَاطًا وَإِن كَانَ قد سوغ كتمه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي بعض الْمَوَاضِع حَيْثُ يخَاف مِنْهُ مفْسدَة كَمَا ورد فِي بعض الاخبار وَلَا يجوز أَن يُقَال أَنه مفْسدَة مُطلقًا لِأَن ذَلِك يكون ردا على الله تَعَالَى وعَلى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَقد سَمعه أَصْحَابه والتابعون من أَصْحَابه وَلم يفسدوا بِهِ بل قد بشر بِالْجنَّةِ مِنْهُم جمَاعَة بِأَسْمَائِهِمْ فَلم يفسدوا بذلك فَمن فسد فبسوء اخْتِيَاره ونسبته لفساده إِلَيّ بشرى الله وَرَسُوله وحسني أَسْمَائِهِ جِنَايَة أعظم من جِنَايَته وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة من يَقُول من الْخَوَارِج إِن اثبات الصَّغَائِر مفْسدَة أَو يمنزلة من يَقُول إِن قبُول التَّوْبَة مفْسدَة فان قيل إِن الرَّجَاء يُؤَدِّي إِلَيّ تَجْوِيز أَن الايمان قَول بِلَا عمل وَأَن الْجنَّة ترجى بِغَيْر اسْتِحْقَاق لَهَا بِالْعَمَلِ ولاول مَذْمُوم عِنْد الْجُمْهُور وَالثَّانِي خلاف النَّص فِي قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَالْجَوَاب أَن هَذَا غلط فَاحش لِأَن القَوْل من الاعمال نصا وإجماعا إِذْ لَا خلاف مُعْتَبر إِن النَّار لَا تدخل بِغَيْر عمل ونصوص الْقُرْآن فِي ذَلِك لَا تحصى وَإِن الشّرك بالْقَوْل عمل مُوجب لعذاب النَّار فَمن قَالَ بذلك كَيفَ يَسْتَطِيع ان يُنكر أَن يكون التَّوْحِيد عملا مثل مَا ان الشّرك عمل هَذَا مَعَ مَا ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أفضل الْعَمَل وأجمعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الامة على ذَلِك حَيْثُ يَمُوت من قَالَهَا عقيب قَوْلهَا وعَلى أَنه لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَال بل هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة من دين الْإِسْلَام وَأما قَول الْقَائِل أَن الْجنَّة لَا تدخل أَلا بِالِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَمَلِ بِالنَّصِّ فَهَذَا كَلَام من لم يعرف النَّص لِأَن شَرطه عدم الِاشْتِرَاك والاشتراك فِي معنى الْبَاء مَعْلُوم فقد تكون للثّمن وللسبب وَهُوَ أولى هُنَا للْحَدِيث الْمُتَوَاتر ولتسمية الْجنَّة فضل الله فِي كثير من الْآيَات كَمَا بَين فِي مَوْضِعه فَالْخِلَاف إِذا فِي كَيْفيَّة الْجمع بَين الْآيَات وَنَحْوهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فصل فِي ذكر من يَقُول بالرجاء وَمن يَقُول بالارجاء وَالْفرق بَينهمَا ثمَّ إِن القَوْل بالرجاء مَشْهُور فِي كل مَذْهَب ذكره الْحَاكِم فِي شرح الْعُيُون عَن جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة وَذكر أَن المعتزلي لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَا يَقُول بذلك وَنسب مَا يَقْتَضِي ذَلِك إِلَى زيد بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي تَرْجَمَة لَهُ غير تَرْجَمته المبسوطة وَتقدم شهرة ذَلِك أَو تواتره عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لروايته عَنهُ من بضعَة عشر طَرِيقا وَفِي تذكرة القَاضِي شرف الدّين الْحسن بن مُحَمَّد النَّحْوِيّ عَن زيد بن عَليّ مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ قَوْله بِالصَّلَاةِ على الْفَاسِق وَفِي اللمع فِي الصَّلَاة على الملتبس حَاله إِن الْمُصَلِّي عَلَيْهِ يَقُول فِي الدُّعَاء لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ محسنا فزده إحسانا وَإِن كَانَ مسيئا فَأَنت أولى بِالْعَفو عَنهُ وَهَذَا تَجْوِيز للعفو عَنهُ بل تَحْسِين لَهُ وترجيح لَا يُوَافق قَول الوعيدية بل هُوَ عين الرَّجَاء وَلذَلِك اعْتَرَضَهُ بعض الوعيدية الْمُتَأَخِّرين وَفِي التَّذْكِرَة أَيْضا أَن الارجاء لَيْسَ بِكفْر وَلَا فسق ذكره حَيْثُ ذكر أَن المبتدع بِمَا لَا يتَضَمَّن الْكفْر وَالْفِسْق مَقْبُول الشَّهَادَة وَمثل ذَلِك بالارجاء مَعَ أَن الارجاء غير الرَّجَاء فان الارجاء عِنْد أهل السّنة مَذْمُوم وَإِن لم يَصح فِي ذمه حَدِيث وَقَالَ الشَّيْخ مُخْتَار المعتزلي فِي كِتَابه الْمُجْتَبى فِي الْكَلَام فِي التَّكْفِير فِي الْمَسْأَلَة السَّابِعَة مَا لَفظه لم تكفر شُيُوخنَا المرجئة لأَنهم يوافقونهم فِي جَمِيع قَوَاعِد الاسلام لكِنهمْ قَالُوا عني الله بآيَات الْوَعيد الْكَفَرَة دون بعض الفسقة أَو التخويف دون التَّحْقِيق وَإِن ذَلِك لَيْسَ بِكفْر اه وَذكر نَحْو ذَلِك الْحَاكِم فِي شرح الْعُيُون وَذكره نَحوه القَاضِي عبد الله بن حسن الدواري فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 تَعْلِيقه على الْخُلَاصَة وَقيل فِي تَوْجِيه ذَلِك أَن مَعْنَاهُ أَنه لَا خلاف أَن الْوَعيد مَشْرُوط لَكِن عِنْد الوعيدية أَنه مَشْرُوط بِعَدَمِ التَّوْبَة من الْمعاصِي لَا سَوَاء وَعند أهل السّنة بِعَدَمِ التَّوْبَة أَو عدم الْعَفو وَعند المرجئة بِعَدَمِ الاسلام وَلَا قَائِل مِنْهُم بتجويز الْكَذِب أَلا ترى أَن عُلَمَاء التَّفْسِير وعلماء الاسلام قد يَخْتَلِفُونَ فِي بعض مَا أخبر الله عَنهُ أَنه يَفْعَله لاختلافهم فِي توقف ذَلِك الْخَبَر على شَرط مُنْفَصِل كَمَا اخْتلفُوا فِي انزال الْمَائِدَة مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} من غير تَجْوِيز كذب على الله تَعَالَى كَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ كتب التَّفْسِير وَالله تَعَالَى أعلم بل قد وعد الله الداعين بالاجابة فِي كِتَابه ووردت السّنة بِشُرُوط فِي ذَلِك مِنْهَا أَن لَا يعجل الدَّاعِي وَيَقُول قد دَعَوْت فَلم أجب وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على أَن الْوَعْد يتَوَقَّف على شَرط فِي كثير كوعد من أقْرض الله قرضا حسنا بالمغفرة والمضاعفة فانه لابد فِيهِ من شَرط الْمَوْت على الاسلام اجماعا فَلذَلِك لم يكن القَوْل بتوقيف الْوَعيد على شَرط مُنْفَصِل كفرا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نِسْبَة قَبِيح إِلَى الله تَعَالَى وَيدل على قَول أهل السّنة أَن الْوَعيد مَشْرُوط بِعَدَمِ التَّوْبَة وَعدم الْعَفو جَمِيعًا قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَهِي أخص من قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} وَأبين فَيجب تقييدها بِعَدَمِ الْعَفو مثل تقييدها بِعَدَمِ التَّوْبَة سَوَاء وخاصة مَعَ مَا ورد بتفسيرها بذلك من حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي تَفْسِير من يعْمل سوءا يجز بِهِ من حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَمَا صَحَّ وتواتر من قَول الله تَعَالَى الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا أَو أَزِيد والسيئة بِمِثْلِهَا أَو أعفو وَالله أعلم وَمِمَّنْ روى عَنهُ الارجاء من الْمُعْتَزلَة فِي كتب الْمُعْتَزلَة مُحَمَّد بن شبيب وغيلان الدِّمَشْقِي رَأس الاعتزال ومويس بن عمرَان وَأَبُو شمر وَصَالح قبه وَالرَّقَاشِيُّ واسْمه الْفضل بن عِيسَى والصالحي واسْمه صَالح بن عَمْرو والخالدي وَغَيرهم ذكرهم القَاضِي فِي تَعْلِيق الْخُلَاصَة وَزَاد الشهرستاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 مَعَ هَؤُلَاءِ من الْمُعْتَزلَة بشار بن عتاب المريسي والغياثي وَقَالَ القَاضِي فِي تعدادهم وَمن الْفُقَهَاء الْقَائِلين بِالْعَدْلِ سعيد بن جُبَير وَحَمَّاد بن سُلَيْمَان وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأَبُو الْقَاسِم البستي من أَصْحَاب الْمُؤَيد بِاللَّه وَهُوَ مَذْهَب الامام الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى من أَئِمَّة الزيدية ذهب اليه وَاعْترض عَلَيْهِ بِهِ وَرَوَاهُ عَنهُ السَّيِّد صَلَاح ابْن الْجلَال رَحمَه الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ غير الامام الدَّاعِي من الزيدية مثل الْفَقِيه مُحَمَّد بن حسن السودي الصَّالح وَالسَّيِّد الْعَلامَة دَاوُد بن يحيى والفقيه الْعَلامَة عَليّ بن عبد الله بن أبي الْخَيْر وَغَيرهم مِمَّن عاصرته وأدركته وَفِي الْجَامِع الْكَافِي على مَذْهَب الزيدية عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَنه قَالَ الْمُؤمن المذنب لله تَعَالَى فِيهِ الْمَشِيئَة إِن غفر لَهُ فبفضله وَإِن عذبه فبعدله قلت فَهَذَا رَجَاء لَا ارجاء والرجاء مَذْهَب أهل السّنة وَالسَّلَف وَفِي كتب الرِّجَال نِسْبَة الارجاء المذموم إِلَى جمَاعَة من رجال البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا من الثِّقَات الرفعاء مِنْهُم ذَر بن عبد الله الْهَمدَانِي أَبُو عَمْرو التَّابِعِيّ حَدِيثه فِي كتب الْجَمَاعَة كلهم وَقَالَ أَحْمد هُوَ أول من تكلم فِي الارجاء وَأَيوب بن عَائِذ الطَّائِي حَدِيثه خَ م ت د وَسَالم بن عجلَان الافطس فِي (خَ د س ق) وَكَانَ دَاعِيَة إِلَى الارجاء وشبابة بن سوار أَبُو عَمْرو الْمَدِينِيّ وَكَانَ دَاعِيَة وَقيل أَنه رَجَعَ عَنهُ وَابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو يحيى الْحمانِي الْكُوفِي حَدِيثه عِنْد خَ م ت ق وَكَانَ دَاعِيَة إِلَى ذَلِك وَعُثْمَان بن غياث الرَّاسِبِي الْبَصْرِيّ فِي خَ م د س وَعَمْرو بن ذَر الهمذاني الْكُوفِي من كبار الزهاد والحافظ وَكَانَ رَأْسا فِي الارجاء حَدِيثه فِي خَ ت د س وَعَمْرو بن مرّة الْجملِي أحد الاثبات من كبار التَّابِعين حَدِيثه عِنْد الْجَمَاعَة كلهم وابراهيم بن طهْمَان الْخُرَاسَانِي أحد الائمة حَدِيثه عِنْدهم وَقيل رَجَعَ وَمُحَمّد بن خازم أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير أثبت أَصْحَاب الاعمش حَدِيثه عِنْدهم وورقاء بن عَمْرو الْكُوفِي الْيَشْكُرِي حَدِيثه عِنْدهم وَيحيى بن صَالح الوحاظي الْحِمصِي حَدِيثه عِنْد خَ م ت د ق وَعبد الْعَزِيز بن أبي رواد الْحِمصِي خرج لَهُ الاربعة وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فَهَؤُلَاءِ مِمَّن ذكره ابْن حجر فِي مُقَدّمَة شرح البُخَارِيّ والذهبي فِي الْمِيزَان فَكيف لَو تتبع سَائِر الروَاة من كتب الرِّجَال الحافلة فَلَقَد ذكر الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة هِشَام ابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 حسان من الْمِيزَان على هدبة بن خَالِد أحد رجال البُخَارِيّ وَمُسلم أَنه يَقُول عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج على جلالته أَنه يرى الارجاء دع عَنْك الرَّجَاء بل ذكر الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة الْفضل بن دُكَيْن عَن ابْن معِين أَن الْفضل إِذا قَالَ فِي رجل كَانَ مرجئا فانه صَاحب سنة لَا بَأْس بِهِ وَإِذا أثنى على رجل أَنه جيد فَهُوَ شيعي قَالَ الذَّهَبِيّ هَذَا القَوْل من يحيى يدل على أَنه كَانَ مائلا إِلَى الارجاء وَهُوَ خير من الْقدر بِكَثِير قلت وَهُوَ يحْتَمل ان ابْن معِين يَعْنِي أَن الْفضل كَانَ يُسَمِّي الرَّجَاء ارجاء تحاملا على أهل السّنة أَو عدم معرفَة بِالْفرقِ بَينهمَا كَمَا هُوَ عمل كثير من الْمُتَأَخِّرين بل هَذَا الِاحْتِمَال أقوى والالزم أَن يكون ابْن معِين يعْتَقد أَن الارجاء مَذْهَب أهل السّنة كلهم وَهَذَا بَاطِل بِالضَّرُورَةِ فقد رد كل وَاحِد من أهل دواوين الاسلام السِّتَّة على المرجئة فِي كتبهمْ الْمَشْهُورَة وَأما أول من تكلم فِيهِ فَقيل ذَر بن عبد الله كَمَا تقدم عَن أَحْمد وَقيل الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة كَمَا فِي الْملَل والنحل وَفِي تَهْذِيب الْمزي وَفِي غَيرهمَا وَفِي البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن مَسْعُود مَا يَقْتَضِي أَنه تكلم فِيهِ فان فيهمَا عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله كلمة وَقلت الثَّانِيَة قَالَ من مَاتَ يُشْرك بِاللَّه دخل النَّار وَقلت من مَاتَ لَا يشر بِاللَّه دخل الْجنَّة وَفِي رِوَايَة فيهمَا أَنه يرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله ذكرهمَا ابْن الْأَثِير فِي جَامعه وَنسب ذَلِك الشهرستاني إِلَى سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة غير من ذكرت هُنَا وَالله أعلم من يَصح عَنهُ الارجاء وَمن غلط عَلَيْهِ فِي تَسْمِيَة الرَّجَاء ارجاء فان الرَّجَاء هُوَ القَوْل بَان الله تَعَالَى لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء على الاجمال فِي المغفور لَهُم لَا فِي المغفور كَمَا أوضحته فِي العواصم وجودت الْكَلَام على هَذِه الْآيَة فِي أَكثر من كراس كَبِير وَأما الارجاء فَهُوَ القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يغْفر مَا دون ذَلِك لأهل التَّوْحِيد قطعا وحملوا وحملوا الْأَحْمَال على أَنه جَاءَ لاخراج مغْفرَة الْكَبَائِر الَّتِي دون الشّرك للْمُشْرِكين فانه لَو لم يجمل ذَلِك بِالشّرطِ الْمَذْكُور لزم ذَلِك وَزَعَمُوا أَن بَيَان ذَلِك ورد فِي السّنة وَأَن الْخَوْف صَحِيح وَلَكِن زَعَمُوا أَنه لسوء الخاتمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وَخَوف الْمَوْت على غير الاسلام وَهَذَا القَوْل الَّذِي قَالُوهُ اسراف فِي القَوْل وَيخَاف مِنْهُ أَن يُقَوي جَانب الامان كَمَا أَن قَول الوعيدية يخَاف مِنْهُ أَن يُقَوي جَانب الْقنُوط وَخير الْأُمُور أوساطها وَالَّذِي جَاءَ فِي السّنة مِمَّا يَقْتَضِي مَذْهَب الارجاء معَارض بِأَحَادِيث الشَّفَاعَة وفيهَا التَّصْرِيح بِدُخُول عصاة الْمُوَحِّدين النَّار ثمَّ بخروجهم مِنْهَا بالشفاعة وَالْجمع بَينهَا وَبَين تِلْكَ الْأَحَادِيث مَذْكُور فِي العواصم فقد جَاءَت هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهِ فِي مُجَلد ونسأل الله تَعَالَى أوفر حَظّ وَنصِيب من خَوفه ورجائه وطاعته وفضله الْعَظِيم وَرَحمته الواسعة السَّابِقَة الْغَالِبَة الَّتِي كتبهَا على نَفسه أَنه هُوَ الغفور الرَّحِيم الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة فِي الْوَلَاء والبراء والتكفير والتفسيق وَمَا يتَعَلَّق بذلك على طَرِيق الِاخْتِصَار قَالَ الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} وَهِي من قَوَاعِد هَذَا الْبَاب والدواعي إِلَى الْمُحَافظَة عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ} وَصَحَّ بِلَا خلاف حَدِيث الْمَرْء مَعَ من أحب وشواهده وطرقه كَثِيرَة وَفِي سنَن أبي دَاوُد من حَدِيث أبي ذَر مَرْفُوعا أفضل الاعمال الْحبّ فِي الله تَعَالَى والبغض فِي الله تَعَالَى وللحاكم من حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعا الشّرك فِي هَذِه الامة أخْفى من دَبِيب النَّمْل وَأَدْنَاهُ أَن يحب على شَيْء من الْحور وَيبغض على شَيْء من الْعدْل وَهل الدّين إِلَّا الْحبّ والبغض رَوَاهُ الْحَاكِم فِي تَفْسِير آل عمرَان من الْمُسْتَدْرك وَقَالَ صَحِيح الاسناد وَفِي مُسْند الْبَراء من مُسْند أَحْمد حَدثنَا اسماعيل هُوَ ابْن ابراهيم بن علية قَالَ حَدثنَا لَيْث عَن عَمْرو بن مرّة عَن مُعَاوِيَة بن سُوَيْد بن مقرن عَن الْبَراء ابْن عَازِب قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فَقَالَ أَي عرى الاسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 أوثق قَالُوا الصَّلَاة قَالَ حَسَنَة وَمَا هِيَ بهَا قَالُوا الزَّكَاة قَالَ حَسَنَة وَمَا هِيَ بهَا قَالُوا صِيَام رَمَضَان قَالَ حسن وَمَا هُوَ بِهِ قَالُوا الْحَج قَالَ حسن وَمَا هُوَ بِهِ قَالُوا الْجِهَاد قَالَ حسن وَمَا هُوَ بِهِ قَالَ إِن أوثق عرى الاسلام أَن تحب فِي الله وَتبْغض فِي الله عز وَجل وَفِي هَذَا فروع مفيدة الاول أَن هَذَا كُله فِي الْحبّ الَّذِي هُوَ فِي الْقلب وخالصة لأجل الدّين وَذَلِكَ للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ بالاجماع وللمسلمين الْمُوَحِّدين إِذا كَانَ لأجل اسلامهم وتوحيدهم عِنْد أهل السّنة كَمَا يَأْتِي وَأما الْمُخَالفَة والمنافعة وبذل الْمَعْرُوف وكظم الغيظ وَحسن الْخلق واكرام الضَّيْف وَنَحْو ذَلِك فَيُسْتَحَب بذله لجَمِيع الْخلق إِلَّا مَا كَانَ يَقْتَضِي مفْسدَة كالذلة فَلَا يبْذل لِلْعَدو فِي حَال الْحَرْب كَمَا اشارت اليه الْآيَة {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين} كَمَا يَأْتِي وَأما التقية فَتجوز للخائف من الظَّالِمين القادرين وَأما الْفرق بَين مَا يجوز من المنافعة والمداهنة وَمَا لَا يجوز من الرِّيَاء فَمَا كَانَ من بذل المَال وَالْمَنَافِع فَهُوَ جَائِز وَهُوَ المنافعة وَرُبمَا عبر عَنهُ بالمداهنة والمداراة والمخالفة وَمَا كَانَ من أَمر الدّين فَهُوَ الرباء الْحَرَام وَيَأْتِي مَا يدل على ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَمن كَلَام الامام الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى يحيى بن المحسن عَلَيْهِ السَّلَام فِي الرسَالَة المخرسة لأهل الْمدرسَة لَا يجوز أَن تكون الْمُوَالَاة هِيَ الْمُتَابَعَة فِيمَا يُمكن التَّأْوِيل فِيهِ لِأَن كثيرا من أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام قد عرف بمتابعة الظلمَة لوجه يُوجب ذَلِك فَتَوَلّى النَّاصِر الْكثير مِنْهُم وَصلى بهم الْجُمُعَة جَعْفَر الصَّادِق وَصلى الْحسن السبط على جنائزهم وَأقَام عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا مَعَ الْمَأْمُون وَكثر جماعته وَتزَوج ابْنه مُحَمَّد ابْنة الْمَأْمُون وَغير ذَلِك وَالْوَجْه فِيهِ أَن الْفِعْل لَا ظَاهر لَهُ فتأويله مُمكن وَذكر الامام الْمهْدي مُحَمَّد بن المطهر عَلَيْهِمَا السَّلَام أَن الْمُوَالَاة الْمُحرمَة بالاجماع هِيَ مُوالَاة الْكَافِر لكفره والعاصي لمعصيته وَنَحْو ذَلِك قلت وَهُوَ كَلَام صَحِيح وَالْحجّة على صِحَة الْخلاف فِيمَا عدا ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أَشْيَاء كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي الْوَالِدين الْمُشْركين بِاللَّه {وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب المقسطين إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم أَن تولوهم وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَفِي الحَدِيث أَنَّهَا نزلت فِي قتيلة أم أَسمَاء بعد آيَات التَّحْرِيم رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار والواحدي وتأخرهما وَاضح فِي سِيَاق الْآيَات وقرينة الْحَال مَعَ هَذَا الحَدِيث وَمَعَ حَدِيث ابْن عمر الْآتِي وَلَو لم يَصح تَأَخّر ذَلِك فِي هذَيْن الْحَدِيثين وَغَيرهمَا فالخاص مقدم على الْعَام عِنْد جهل التَّارِيخ عِنْد الْجُمْهُور وَرجحه ابْن رشيد فِي نهايته بالنصوصية على مَا هُوَ خَاص فِيهِ وَيدل عَلَيْهِ مَا ثَبت فِي الْقُرْآن وَالسّنة الصَّحِيحَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا من حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي قصَّة حَاطِب على مَا ذكره الله تَعَالَى فِي أول سُورَة الممتحنة وَذكره أهل الحَدِيث وَأهل التَّفْسِير جَمِيعًا فان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله قبل عذره بالخوف على أَهله فِي مَكَّة والتقية بِمَا لَا يضر فِي ظَنّه فان قيل الْقُرْآن دَال على أَنه قد أذْنب لقَوْله {وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} فَكيف يقبل مَا جَاءَ من قبُول عذره قلت إِنَّمَا قبل عذره فِي بَقَائِهِ على الايمان وَعدم مُوالَاة الْمُشْركين لشركهم وَلذَلِك خاطبه الله بالايمان فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} والعموم نَص فِي سَببه فاتفق الْقُرْآن والْحَدِيث وَأما ذَنبه فانه لَا يحل مثل مَا فعله لأحد من الْجَيْش إِلَّا باذن أَمِيرهمْ لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ} الْآيَة وَلِأَن تَحْرِيم مثل ذَلِك بِغَيْر إِذن الْأَمِير إِجْمَاع وَمَعَ إِذْنه يجوز فقد أذن فِي أَكثر من ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله حِيلَة فِي حفظ المَال فَلَو كَانَ مثل ذَلِك مُوالَاة لم يَأْذَن فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فَدلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 على أَن ذَنْب حَاطِب هُوَ الكتم لما فِيهِ من الْخِيَانَة لأنفس الْفِعْل لَو تجرد من الكتم والخيانة وَالله أعلم وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} وَقَوله تَعَالَى {فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} فَأمره بِالْبَرَاءَةِ من عَمَلهم الْقَبِيح لَا مِنْهُم وَكَذَلِكَ تَبرأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله مِمَّا فعل خَالِد بن الْوَلِيد وَلم يبرأ مِنْهُ بل لم يعزله من امارته وَلِأَن الله تَعَالَى علل تَحْرِيم الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين بقوله {من بعد مَا تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم} فَكل ذَنْب يسْتَغْفر أَو نَحْو ذَلِك فِيهِ لم تلْزم لذنب الشّرك فِي ذَلِك حَتَّى احْتج بهَا بَعضهم على جَوَاز الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين قبل أَن يموتوا على الشّرك وتأولوا عَلَيْهِ حَدِيث اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فانهم كَانُوا جاهلين وَهُوَ فِي خَ م وحديثا آخر لعَلي عَلَيْهِ السَّلَام فِي تَأْوِيل اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِيهِ كَذَلِك رَوَاهُ أَحْمد وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} عَن ابْن عَبَّاس هم الَّذين مَنعهم أهلهم عَن الْهِجْرَة لما هَاجرُوا وَرَأَوا النَّاس قد فقهوا هموا أَن يعاقبوا أَهْليهمْ الَّذين منعوهم وَمن قَالَ كَانُوا مُشْرِكين فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهَا مَدَنِيَّة وَقد كَانَ حرم نِكَاح الكوافر وَفِيه نظر وَيدل عَلَيْهِ مَا تقدم فِي حَدِيث الْحبّ على شَيْء من الْجور والبغض على شَيْء من الْعدْل وَيدل عَلَيْهِ جَوَاز نِكَاح الفاسقة بِغَيْر الزِّنَا وفَاقا وَنِكَاح الْكِتَابِيَّة عِنْد الْجُمْهُور وَظَاهر الْقُرْآن يدل عَلَيْهِ وَفعل الصَّحَابَة وَمِنْه امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط وَقَوله للْكفَّار {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم} وَمن هَا هُنَا أجَاز المشددون فِي الْوَلَاء والبراء أَن يحب العَاصِي لخصلة خير فِيهِ وَلَو كَافِرًا كَأبي طَالب فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وعَلى الآخر حب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله لَهُ قبل إِسْلَامه وَهُوَ مَذْهَب الْهَادَوِيَّة وَيدل لَهُم فِي الْمُسلم حَدِيث شَارِب الْخمر الَّذِي نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله عَن سبه بعد حَده وَقَالَ (لَا تعينُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الشَّيْطَان على أخيكم أما أَنه يحب الله وَرَسُوله رَوَاهُ البُخَارِيّ وَكَذَلِكَ حَدِيث ضَمْضَم عَن أبي هُرَيْرَة فِي المتآخيين الْمُجْتَهد فِي الْعِبَادَة والمسرف على نَفسه كَمَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة السَّابِعَة بل يدل عَلَيْهِ فِي حق أهل الاسلام قَوْله تَعَالَى {وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} فَجعل الايمان بِاللَّه وَحده غَايَة يَنْقَطِع عِنْدهَا وجوب الْعَدَاوَة والبغضاء وَمِنْه اسْتِئْذَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فِي زِيَارَة قَبْرِي وَالِديهِ وزيارته لَهما وشفاعة إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ فان الْبَاعِث على تخصيصهم بذلك هُوَ الْحبّ للرحامة وَمِنْه {فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات} {فلعلك باخع نَفسك} لشدَّة شفقته ورفقه وَمن ذَلِك حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا نمسك عَن الاسْتِغْفَار لأهل الْكَبَائِر حَتَّى سمعنَا {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} قَالَ يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله اني ادخرت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأهل الْكَبَائِر من أمتِي فأمسكنا عَن كثير مِمَّا كَانَ فِي أَنْفُسنَا ثمَّ نطقنا بعد ورجونا رَوَاهُ فِي مجمع الزَّوَائِد فِي موضِعين من خمس طرق أَحدهَا صَحِيح وَله شَاهد عَن ابْن مَسْعُود بل أَحَادِيث الشَّفَاعَة المتواترة تشهد لَهُ وَالله أعلم فِيهِ وَفِي آيَة الممتحنة فَائِدَة نفيسة هِيَ أَن ذَلِك آخر الامرين إِن روى مَا يُعَارض هَذِه الْأَدِلَّة وَقد ذكرت فِي العواصم أَدِلَّة كَثِيرَة على تَأَخّر ذَلِك فِي أول مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد وَهِي مفيدة جدا ثمَّ وجدته قد ذكره النَّوَوِيّ وَقواهُ فِي شرح مُسلم ويعضده مَا نَص عَلَيْهِ من الْعَفو عَمَّن فر يَوْم أحد وَمن حَدِيث أهل الافك إِلَّا الَّذِي تولى كبره مِنْهُم لِأَنَّهُ عبد الله بن أبي بن سلول وَهُوَ مُنَافِق وَمِنْه حَدِيث مسطح ونزول الْآيَة فِيهِ وَمِنْه تَحْرِيم المشاحنة والمهاجرة بل جعلهَا كالشرك فِي منع الْمَغْفِرَة للمتهاجرين حَتَّى يصطلحا كَمَا صَحَّ ذَلِك من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَله شَوَاهِد كثير عَن أبي بكر وعَوْف بن مَالك وَعبد الله بن عمر ومعاذ وَأبي ثَعْلَبَة وَأُسَامَة وَابْن مَسْعُود وَجَابِر ذكرهَا الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد فِي شَحْنَاء الرجل على أَخِيه والاخ يُطلق على الْمُسلم لقَوْله تَعَالَى {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم} فَسمى الْبَاغِي أَخا وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فِي الْمَحْدُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فِي الْخمر لَا تعينُوا الشَّيْطَان على أخيكم كَمَا تقدم وَلِأَن الْعَمَل بذلك فِي أَحَادِيث الشحناء وَحُقُوق الْمُسلم على الْمُسلم هُوَ الْأَظْهر والأحوط مَا لم يؤد إِلَى الْفساد فِي الدّين والتهوين لمعاصي رب الْعَالمين وَيخرج من هَذَا أهل النِّفَاق بالنصوص والاجماع فَلذَلِك قَالَ أهل السّنة تجب كَرَاهَة ذَنْب المذنب العَاصِي وَلَا تجب كَرَاهَة الْمُسلم نَفسه بل يجب لاسلامه قلت حبا لَا يُوقع فِي مَعْصِيّة وَلَا يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة وَيكرهُ ذَنبه وَهُوَ قَول أَحْمد بن عِيسَى من أهل الْبَيْت ذكر مَعْنَاهُ عَنهُ صَاحب الْجَامِع الْكَافِي فِي ولَايَة عَليّ عَلَيْهِ أفضل السَّلَام الْفَرْع الثَّانِي أَن يسير الِاخْتِلَاف لَا يُوجب التعادي بَين الْمُؤمنِينَ وَهُوَ مَا وَقع فِي غير المعلومات القطعية من الدّين الَّتِي دلّ الدَّلِيل على تَكْفِير من خَالف فِيهَا والاصل فِي الامور الْمُخْتَلف فِيهَا هُوَ عدم الْعلم الضَّرُورِيّ الَّذِي يكفر الْمُخَالف فِيهِ حَتَّى يدل الدَّلِيل على ذَلِك وَفِي إِثْبَات مسَائِل قَطْعِيَّة شَرْعِيَّة لَا ظنية وَلَا ضَرُورِيَّة خلاف وَالصَّحِيح أَنه لَا وَاسِطَة بَينهمَا مِثْلَمَا أَنه لَا وَاسِطَة بَين التَّوَاتُر وَالظَّن فِي الاخبار وفَاقا وعَلى هَذَا نقل التَّكْفِير والتأثيم وَالَّذِي يدل على أَنه مَعْفُو عَن يسير الِاخْتِلَاف وُجُوه أَحدهَا أَنه وَقع بَين الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون} وَفِي حَدِيث البُخَارِيّ وَمُسلم عَن الْخُدْرِيّ فِي حَدِيث الْقَاتِل مائَة نفس أَنَّهَا اختصمت فِيهِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وملائكة الْعَذَاب حَتَّى أرسل الله ملكا يحكم بَينهم وَثَانِيها ثَبت فِي كتاب الله تَعَالَى حِكَايَة الِاخْتِلَاف بَين مُوسَى وَالْخضر وَبَين مُوسَى وَهَارُون وَبَين دَاوُد وَسليمَان وَهُوَ صَرِيح مَا نَحن فِيهِ لِأَن اخْتِلَافهمَا فِي حَادِثَة وَاحِدَة فِي وَقت وَاحِد فِي شَرِيعَة وَاحِدَة وَثَالِثهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود قَالَ سَمِعت رجلا قَرَأَ آيَة وَسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله يقْرَأ خلَافهَا فَأَخْبَرته فَعرفت فِي وَجهه الْكَرَاهَة فَقَالَ {كلاكما محسن وَلَا تختلفوا فان من قبلكُمْ اخْتلفُوا فهلكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 رَوَاهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَعَن عمر بن الْخطاب مثله فِي قَضيته مَعَ هِشَام بن حَكِيم رَوَاهُ الْجَمَاعَة كلهم وَلِهَذَا الْمَعْنى طرق جمة تَقْتَضِي تواتره ذكرتها فِي العواصم وَفِي خَ م س عَن جُنْدُب مَرْفُوعا اقرأوا الْقُرْآن مَا ائتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ فاذا اختلفتم فَقومُوا عَنهُ فَهَذَا الْخلاف الَّذِي نهى عَنهُ وحذر مِنْهُ الْهَلَاك هُوَ التعادي فَأَما الِاخْتِلَاف بِغَيْر تُعَاد فقد أقرهم عَلَيْهِ أَلا ترَاهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُود كلاكما محسن حِين أخبرهُ باختلافهما فِي الْقِرَاءَة ثمَّ حذرهم من الِاخْتِلَاف بعد الحكم باحسانهما فِي ذَلِك الِاخْتِلَاف فالاختلاف المحذر مِنْهُ غير الِاخْتِلَاف المحسن بِهِ مِنْهُمَا فالمحذر مِنْهُ التباغض والتعادي والتكاذب الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَاد ذَات الْبَين وَضعف الاسلام وَظُهُور أعدائه على أَهله والمحسن هُوَ عمل كل أحد بِمَا علم مَعَ عدم المعاداة لمُخَالفَة والطعن عَلَيْهِ وعَلى ذَلِك درج السّلف الصَّالح من أهل الْبَيْت وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وصنف مُحَمَّد بن مَنْصُور فِي هَذَا كتاب الحملة والالفة وَحكى فِيهِ عَن قدماء الْمُعْتَزلَة التوالي مَعَ الِاخْتِلَاف فِي بعض العقائد بل حكى ذَلِك عَن قدماء العترة أَيْضا وَقد نقلت كَلَامه فِي ذَلِك بِحُرُوفِهِ إِلَى مَسْأَلَة الْقُرْآن من العواصم الْفَرْع الثَّالِث فِي التَّكْفِير والتفسيق بالتأويل لِأَنَّهُ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن وَفِي التَّكْفِير بالتأويل أَرْبَعَة أَقْوَال الأول أَنه لَا كفر بالتأويل الثَّانِي أَنه يكفر بِهِ وَلَكِن لَا تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْكفَّار فِي الدُّنْيَا الثَّالِث أَن أَمرهم إِلَى الامام فِي الاحكام الرَّابِع أَنه كالكفر بالتصريح فَيكون قِتَالهمْ إِلَى آحَاد النَّاس على الصَّحِيح فِي الْكفَّار بالتصريح وَاخْتلف فِي كفار التَّأْوِيل من هم على أَرْبَعَة أَقْوَال أَيْضا الأول أَنهم من أهل الْقبْلَة الثَّانِي من ذهب إِلَى مَذْهَب وَهُوَ فِيهِ مُخطئ بِشُبْهَة يعلم بُطْلَانهَا دلَالَة من الدّين والصريح بِخِلَافِهِ الثَّالِث من ذهب إِلَى الْخَطَأ بِشُبْهَة والصريح بِخِلَافِهِ الرَّابِع من ورد فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَنه كَافِر والصريح بِخِلَافِهِ وَاعْلَم أَن أصل الْكفْر هُوَ التَّكْذِيب الْمُتَعَمد لشَيْء من كتب الله تَعَالَى الْمَعْلُومَة أَو لأحد من رسله عَلَيْهِم السَّلَام أَو لشَيْء مِمَّا جاؤوا بِهِ إِذا كَانَ ذَلِك الْأَمر المكذب بِهِ مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ من الدّين وَلَا خلاف أَن هَذَا الْقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 كفر وَمن صدر عَنهُ فَهُوَ كَافِر إِذا كَانَ مُكَلّفا مُخْتَارًا غير مختل الْعقل وَلَا مكره وَكَذَلِكَ لَا خلاف فِي كفر من جحد ذَلِك الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ للْجَمِيع وتستر باسم التَّأْوِيل فِيمَا لَا يُمكن تَأْوِيله كالملاحدة فِي تَأْوِيل جَمِيع الْأَسْمَاء الْحسنى بل جَمِيع الْقُرْآن والشرائع والمعاد الأخروي من الْبَعْث وَالْقِيَامَة وَالْجنَّة وَالنَّار وَإِنَّمَا يَقع الاشكال فِي تَكْفِير من قَامَ بأركان الاسلام الْخَمْسَة الْمَنْصُوص على اسلام من قَامَ بهَا إِذا خَالف الْمَعْلُوم ضَرُورَة للْبَعْض أَو للاكثر لَا الْمَعْلُوم لَهُ وَتَأْويل وَعلمنَا من قَرَائِن أَحْوَاله أَنه مَا قصد التَّكْذِيب أَو الْتبس ذَلِك علينا فِي حَقه وَأظْهر التدين والتصديق بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء والكتب الربانية مَعَ الْخَطَأ الْفَاحِش فِي الِاعْتِقَاد ومضادة الادلة الجلية عقلا وسمعا وَلَكِن لم يبلغ مرتبَة الزَّنَادِقَة الْمُقدمَة وَهَؤُلَاء كالمجبرة الخلص المعروفين بالجهمية عِنْد الْمُحَقِّقين وَكَذَلِكَ المجسمة المشبهة فِي الذَّات التَّشْبِيه الْمجمع على أَنه تَشْبِيه احْتِرَازًا عَمَّا لَا نقص فِيهِ مجمع على أَنه نقص مَعَ اثبات كَمَال الربوبية وخواصها وَجَمِيع صِفَات الْكَمَال وَإِلَّا كَانَ كفرا صَرِيحًا مجمعا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّة على كلا التفسيرين فان القدران فسر بِعلم الْغَيْب السَّابِق فهم من نَفَاهُ ونفيه كفر بالاجماع وَإِن فسر بالجبر وَنفى الِاخْتِيَار عَن الْعباد وَنفى التَّمْكِين لَهُم فهم من أثْبته كَمَا تقدم بَيَانه فَهَؤُلَاءِ المشبهة والمجبرة مَعًا اخْتلف عُلَمَاء الاسلام فِي تكفيرهم بعد إِجْمَاعهم على تقبيح عقائدهم وانكارها فَذكر الامام يحيى فِي التَّمْهِيد أنههم غير كفار وَاحْتج على ذَلِك وجود القَوْل فِيهِ وَذكر الشَّيْخ مُخْتَار فِي كِتَابه الْمُجْتَبى عَن الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن من رُؤُوس الْمُعْتَزلَة وَعَن الرَّازِيّ من رُؤُوس الأشعرية أَنَّهُمَا مَعًا لم يكفراهم قَالَ لِأَن حجَّة من كفرهم الْقيَاس على الْمُشْركين المصرحين وهما قد قدحا فِي صِحَة هَذَا الْقيَاس دع عَنْك كَونه قَطْعِيا وَذَلِكَ الْقدح هُوَ بِوُجُود الْفَارِق الَّذِي يمْنَع مثله من صِحَة الْقيَاس وَهُوَ إِيمَان هَؤُلَاءِ بِجَمِيعِ كتب الله تَعَالَى وَجَمِيع رسله بأعيانهم وأسمائهم إِلَّا من جهلوه وَإِنَّمَا يخالفون حِين يدعونَ عدم الْعلم ثمَّ ظهر عَلَيْهِم مَا يصدق من ذَلِك من اقامة أَرْكَان الاسلام وَتحمل المشاق الْعَظِيمَة بِسَبَب تَصْدِيق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلِأَن الْقيَاس عِنْد الْمُحَقِّقين من عُلَمَاء المعقولات لَا يكون قَاطعا لِأَن الْأَمريْنِ إِن اسْتَويَا فِي جَمِيع الْوُجُوه لم يكن قِيَاسا وَإِن وجد بَينهمَا فَارق جَازَ أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 يكون مؤثرا فِي عدم استوائهما فِي الحكم وَلم يقم دَلِيل قَاطع على أَنه وصف ملغى لَا تَأْثِير لَهُ وَبَيَان ذَلِك أَنهم قَالُوا أَن المبتدعة حِين غلطوا فِي صِفَات الله تَعَالَى فقد عبدُوا غير الله فَيكون قِيَاسا على الْمُشْركين فان بَعضهم عبد الرب الَّذِي يشبه الْعباد وهم المشبهة وَبَعْضهمْ عبد الرب الَّذِي يجبرهم وهم الْمُجبرَة وَنَحْو ذَلِك وَالْجَوَاب أَنهم عبدُوا الرب الَّذِي خلق الْخلق وغلطهم فِي بعض صِفَاته لَا يخرجهم عَن عِبَادَته ويصيرهم كمن يُعِيد الاصنام لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن عُلَمَاء الْكَلَام يَخْتَلِفُونَ فِي كثير من الصِّفَات كالمدرك وَالْوَصْف الْأَخَص والمريد بل كالسميع والبصير وَلم يلْزم بَعضهم بَعْضًا ذَلِك وَلَو كَانَ حَقًا لَزِمَهُم وَثَانِيهمَا أَن من شهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَغلط فِي بعض صِفَات جسده أَو نسبه لم يكفر قطعا فَدلَّ على أَن من غلط فِي وصف شَيْء لم يكن مثل جاحده وَرُبمَا قَالُوا إِن ذَلِك نقص لَهُ فَيكون كفرا قِيَاسا على من تعمد انتقاصه بِمَا هُوَ نقص بالاجماع قُلْنَا الْخَطَأ فَارق مُؤثر شرعا كالاكراه وَالنِّسْيَان كَمَا سَيَأْتِي وَمن اعْتقد حسن الْقَبِيح وأضافه اليه لحسنه عِنْده لَا لقبحه لَا يكون كمن عكس وَدَلِيله اخْتلَافهمْ فِي الاعراض وَفِي الْوَجْه فِيهَا من غير تَكْفِير وَبَعْضهمْ يلْزمه نِسْبَة الظُّلم اليه وَبَعْضهمْ يلْزمه نِسْبَة الْعَبَث اليه عز وَجل عَن ذَلِك وَقد جود الرَّد عَلَيْهِم صَاحبهمْ الشَّيْخ مُخْتَار فِي الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من التَّكْفِير من كِتَابه الْمُجْتَبى وَفِيمَا قبلهَا وَبعدهَا فليطالع فِيهِ وَقد نقلته بألفاظه أَو معظمه إِلَى موَاضعه من العواصم قلت وَأما بَقِيَّة أدلتهم السمعية فَلَا تَخْلُو من الظَّن فِي مَعَانِيهَا إِن لم تكن ظنية اللَّفْظ وَالْمعْنَى مَعًا كَمَا يعرف ذَلِك النقاد من أهل الْأُصُول الْفِقْه لِأَنَّهَا إِمَّا عمومات وظواهر وَمَعْنَاهَا ظَنِّي وَإِن كَانَت ألفاظها قرآنية مَعْلُومَة وَلها أَو لأكثرها أَسبَاب نزلت عَلَيْهَا تدل على أَنَّهَا نزلت فِي الْمُشْركين المصرحين وتعديتها عَن أَسبَابهَا ظنية مُخْتَلف فِيهَا أَو نُصُوص جلية لَكِن ثُبُوتهَا ظَنِّي لَا ضَرُورِيّ ثمَّ لَا تَخْلُو بعد ذَلِك مِمَّا يعارضها أَو يكون أظهر فِي الْمَعْنى مِنْهَا من الْأَحَادِيث الدَّالَّة على اسلام أهل الشَّهَادَتَيْنِ أَو الِاكْتِفَاء بهما حَتَّى فِي أَحَادِيث فتْنَة الْقَبْر مَعَ كثرتها وصحتها وتلقيها بِالْقبُولِ واتفاق الْفرق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 رِوَايَتهَا وَقد ذكرت مِنْهَا كثيرا فِي آخر العواصم فِي أَحَادِيث الرَّجَاء وَلَوْلَا خوف الاطالة لذكرتها هُنَا وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي من آمن بِاللَّه وَرُسُله كَقَوْلِه تَعَالَى فِي الْجنَّة {أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ونظائرها مِمَّا ذكرته فِي العواصم وَمثل قَوْله تَعَالَى {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} وَمثل أَحَادِيث الشَّفَاعَة وَقد تقدّمت الاشارة إِلَى تَوَاتر معنى ذَلِك فِي مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد فِي هَذَا الْمُخْتَصر وبسطتها فِي العواصم فقاربت خَمْسمِائَة حَدِيث مَعَ مَا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم مِمَّا يُغني عَنْهَا لَو لم ترد وَيشْهد لَهَا بعد وُرُودهَا على مَا قدرته فِي العواصم فِي الْكَلَام على قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فهم الصَّحَابَة للبشرى فِيهَا وفرحهم بهَا وَإِقْرَار المتأولين لَهَا بِرِوَايَة ذَلِك عَنْهُم وَذَلِكَ يدل على عدم تَأْوِيلهَا وَمِنْهُم عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَقد جودت الْكَلَام عَلَيْهَا هُنَالك بِحَمْد الله وَحسن هدايته وتوفيقه وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِيمَن أَقَامَ الاركان الْخَمْسَة وَنَحْو هَذِه الْأُمُور وَهِي أَنْوَاع كَثِيرَة جدا مَعْنَاهَا متواتر ضَرُورِيّ معَارض لما يفهم مِنْهُ تَكْفِير المبتدعة من هَذِه الْأُمُور وَمن أقبح التَّكْفِير مَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَند إِلَى وَجه يُنكره الْمُخَالف من أهل الْمَذْهَب مثل تَكْفِير أبي الْحُسَيْن وَأَصْحَابه بِنَفْي علم الْغَيْب وهم ينكرونه وتكفير الاشعرية بالجبر الْخَالِص الَّذِي هُوَ قَول الْجَهْمِية الجبرية وهم ينكرونه وَالله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا} وَمن الْعجب أَن الْخُصُوم من البهاشمة وَغَيرهم لم يساعدوا على تَكْفِير النَّصَارَى الَّذِي قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمن قَالَ بقَوْلهمْ مَعَ نَص الْقُرْآن على كفرهم إِلَّا بِشَرْط أَن يعتقدوا ذَلِك مَعَ القَوْل وعارضوا هَذِه الْآيَة الظَّاهِرَة بِعُمُوم مَفْهُوم قَوْله {وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه وَضَعفه مَعَ وضوح الْآيَة الْكَرِيمَة فِي الْكفْر بالْقَوْل عضدها حديثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 صَحِيحَانِ كَمَا احْتج بهما الامام الْمَنْصُور بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام حَدِيث ع عَن ثَابت بن الضَّحَّاك من حلف بِملَّة غير الاسلام كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَحَدِيث مس دق على شَرط م عَن بُرَيْدَة من حلف قَالَ إِنِّي بَرِيء من الاسلام فان كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِن كَانَ صَادِقا فَلَنْ يرجع إِلَى الاسلام سالما وَعَن أنس سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله رجلا يَقُول أَنا إِذا يَهُودِيّ فَقَالَ وَجَبت وَعَن ابْن عمر قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله من حلف بِغَيْر الله فقد كفر وأشرك وَفِي مجمع الزَّوَائِد لذَلِك شَوَاهِد وَفِي النَّسَائِيّ عَن سعد أَنه حلف وَهُوَ قريب عهد بالجالية فَقَالَ وَاللات والعزى فَقَالَ لَهُ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله مَا نرَاك إِلَّا قد كفرت فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فَأمره أَن يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ثَلَاث مَرَّات ثمَّ لَا يعود إِلَى ذَلِك وَهَذَا أَمر بتجديد الاسلام ثمَّ لم يرْضوا بِجَمِيعِ مَا ذكرنَا مُعَارضا لما استنبطوه فَتَأمل ذَلِك وعَلى هَذَا لَا يكون شَيْء من الافعال والاقوال كفرا إِلَّا مَعَ الِاعْتِقَاد حَتَّى قتل الْأَنْبِيَاء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فَلَا يتَحَقَّق كفر كَافِر قطّ إِلَّا بِالنَّصِّ الْخَاص فِي شخص شخص وَلَا يدل حَرْب الانبياء على ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون على الظَّاهِر كَقَوْلِه فَمن حكمت لَهُ بِمَال أَخِيه فانما أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار وَمَعَ نَكَارَة هَذَا فالملجئ اليه عُمُوم مَفْهُوم ظَنِّي ضَعِيف يَأْتِي وَقد مر اخْتِيَار الامام يحيى وَأبي الْحُسَيْن والرازي فِي ذَلِك وَنكل وَهُوَ قَول الطَّبَق الادهم من السّلف وعلماء الاسلام وَأهل الاثار كَمَا رَوَاهُ السَّيِّد أَبُو عبد الله الحسني فِي كِتَابه الْجَامِع الْكَافِي عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور الْكُوفِي عَن سلف أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام وَغَيرهم وصنف فِيهِ كتاب الْجُمْلَة والالفة وَهُوَ قَول الامام السَّيِّد الْمُؤَيد بِاللَّه فِي الجبرية نَص عَلَيْهِ فِي آخر كتاب الزِّيَادَات وَمذهب السّلف الصَّالح فِي ذَلِك هُوَ الْمُخْتَار مَعَ أَمريْن أَحدهمَا الْقطع بقبح الْبِدْعَة والانكار لَهَا والانكار على أَهلهَا وَثَانِيهمَا عدم الانكار على من كفر كثيرا مِنْهُم فانا لَا نقطع بِعَدَمِ كفر بَعضهم مِمَّن فحشت بدعته بل نقف فِي ذَلِك وَلكُل علمه وَالْحكم فِيهِ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ لوجوه الْوَجْه الأول خوف الْخَطَأ الْعَظِيم فِي ذَلِك فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وَآله تَعْظِيم ذَلِك بل تَوَاتر ذَلِك لأهل الْبَحْث عَن طرق الحَدِيث حَتَّى تَوَاتر أَنه كفر روى ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَبُو ذَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر بن الْخطاب وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ خمستهم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله مَعَ كَثْرَة الطّرق عَنْهُم من غير مَا لحديثهم من الشواهد الجمة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة مثل مَا ورد فِي الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَهَذَا بَيَان طرف يسير على جِهَة الِاخْتِصَار الْكثير فَنَقُول أما حَدِيث أبي ذَر فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَلَفظه وَمن دَعَا رجلا بالْكفْر أَو قَالَ عَدو الله وَلَيْسَ كَذَلِك إِلَّا حَار عَلَيْهِ أَي رَجَعَ وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَفظه إِذا قَالَ الْمُسلم لِأَخِيهِ كَافِر فقد بَاء بهَا أَحدهمَا وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَلَفظه مثل لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود فَرَوَاهُ الهيثمي فِي كِتَابه مجمع الزَّوَائِد وَلَفظه مَا من مُسلمين إِلَّا وَبَينهمَا ستر من الله فاذا قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه هجرا هتك الله ستره وَإِذا قَالَ يَا كَافِر فقد كفر أَحدهمَا قَالَ الهيثمي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَزَّار بِاخْتِصَار من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد وَحَدِيثه حسن وَرِجَاله ثِقَات قلت يزِيد هَذَا أحد عُلَمَاء الْكُوفَة الْمَشَاهِير وَهُوَ من رجال السّنَن الاربعة وَمِمَّنْ قواه شُعْبَة على تعنته فِي الرِّجَال وَبَالغ حَتَّى قَالَ لَا يُبَالِي إِذا سمع الحَدِيث مِنْهُ أَلا سَمعه من سواهُ وَقَالَ ابْن فُضَيْل هُوَ من أَئِمَّة الشِّيعَة الْكِبَار وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي ذَلِك فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَذكره الْحَافِظ ابْن حجر فِي كِتَابه التَّلْخِيص الْخَبِير وَسَيَأْتِي حَدِيث عَن ابْن عمر مَرْفُوع نَحْو هَذَا وَلَكِن بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وروى أَبُو عوَانَة حَدِيث ابْن عمر الْمُتَقَدّم فَقَالَ إِن كَانَ كَمَا قَالَ والاباء بالْكفْر وَفِي رِوَايَة فقد وَجب الْكفْر على أَحدهمَا اه وَأما شَوَاهِد هَذِه الاحاديث الْخَمْسَة بِغَيْر لَفظهَا فكثيرة متواترة مِنْهَا أَحَادِيث مروق الْخَوَارِج من الاسلام وَكَانَ دينهم الَّذِي اختصوا بِهِ من بَين الداخلين فِي الْفِتَن هُوَ تَكْفِير بعض الْمُسلمين بِمَا حسبوه كفرا فوردت الاحاديث بمروقهم بذلك وتواترت وَهِي فِي دواوين الاسلام السِّتَّة عَن عَليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 عَلَيْهِ السَّلَام وَسَهل بن سعد وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عمر ابْن الْخطاب وَأبي ذَر وَرَافِع بن عَمْرو الْغِفَارِيّ وَجَابِر بن عبد الله الانصاري وَابْن مَسْعُود وَأبي برزه الاسلمي وَأبي أُمَامَة وَفِي حَدِيثه مَرْفُوعا كَانُوا مُسلمين كفَّارًا واسناده حسن وَرَوَاهَا غير هَؤُلَاءِ بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي مجمع الزَّوَائِد وَكتب الاسلام من المسانيد والتواريخ وَغَيرهَا وَمِنْهَا أَحَادِيث كفر الروافض وَقد رويت من طرق كَثِيرَة على غرابتها وخلو دواوين الاسلام السِّتَّة مِنْهَا فرويت عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَفَاطِمَة وَالْحسن عَلَيْهِمَا السَّلَام وَابْن عَبَّاس وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا وروى الامام الْهَادِي عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهَا حَدِيث الْحسن عَلَيْهِ السَّلَام فِي كتاب الْأَحْكَام فِي كتاب الطَّلَاق مِنْهُ فِي بَاب من طلق ثَلَاثًا وَقد ذكر الامامية فَقَالَ مَا لَفظه وَفِيهِمْ مَا حَدثنِي أبي وَعمي مُحَمَّد وَالْحسن عَن أَبِيهِم الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن جده عَن ابراهيم بن الْحسن عَن أَبِيه عَن جده الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم السَّلَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَنه قَالَ (يَا عَليّ يكون فِي آخر الزَّمَان قوم لَهُم نبز يعْرفُونَ بِهِ يُقَال لَهُم الرافضة فان أدركتهم فاقتلهم قَتلهمْ الله تَعَالَى فانهم مشركون اه بِحُرُوفِهِ وَلَا أعلم فِي الاحكام اسنادا مُتَّصِلا مسلسلا بِأَهْل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام سواهُ الا أَن يكون مُرْسلا أَو مَقْطُوعًا أَو مدخلًا فِيهِ غَيرهم من الروَاة وَقد أَحْبَبْت سِيَاق هَذَا الاسناد الشريف لهَذَا الْمَتْن لجلالة رُوَاته واختصرت أَسَانِيد سَائِر الاحاديث فَأَما حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام بِمثل ذَلِك فَرَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل فِي زَوَائِد الْمسند وَالْبَزَّار فِي مُسْنده وَابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه تلبيس إِبْلِيس من طَرِيق أبي حباب الْكَلْبِيّ عَن أبي سُلَيْمَان الْهَمدَانِي عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام والذهبي فِي كِتَابه ميزَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الِاعْتِدَال فِي نقد الرِّجَال من طَرِيق أُخْرَى فِي تَرْجَمَة كثير بن إِسْمَاعِيل النو وَلَكِن لَفظه فِي الْمِيزَان يكون بعدِي قوم من أمتِي يسمون الرافضة يرفضون الاسلام وَأما حَدِيث فَاطِمَة بنت مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فَرَوَاهُ الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَأَبُو يعلى وَصَاحب الْفُصُول السَّبْعَة وَالْعِشْرين فِي فَضَائِل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْفَصْل الْحَادِي وَالْعِشْرين مِنْهُ والذهبي فِي موضِعين من كِتَابه الْمِيزَان أَحدهمَا فِي تَرْجَمَة تليد بن عبد الرَّحْمَن سُلَيْمَان الْكُوفِي الشيعي وَثَانِيهمَا فِي تَرْجَمَة أبي الْجَارُود زِيَاد بن الْمُنْذر الشيعي وَقَالَ الهيثمي رُوَاته ثِقَات وَلَفظ رِوَايَة تليد فِي الْمِيزَان نظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله إِلَى عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ هَذَا فِي الْجنَّة وَإِن من شيعته قوما يلفظون الاسلام لَهُم نبز يسمون الرافضة من لَقِيَهُمْ فليقتلهم فانهم مشركون وَلَفظ أبي الْجَارُود أما أَنَّك يَا ابْن أبي طَالب وشيعتك فِي الْجنَّة وَسَيَجِيءُ أَقوام ينتحلون حبك يُقَال لَهُم الرافضة فان لقيتهم فاقتلهم فانهم مشركون وَأما ابْن عَبَّاس فَمِنْهُ حديثان أما أَحدهمَا فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ والهيثمي وَقَالَ اسناده حسن وَأما الحَدِيث الثَّانِي فَرَوَاهُ أَبُو يعلي وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ والهيثمي وَقَالَ فِي بعض رِجَاله خلاف قلت وَمثل ذَلِك ينجبر بحَديثه الآخر بل بِجَمِيعِ أَحَادِيث هَذَا الْبَاب وَأما حَدِيث أم سَلمَة فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ والهيثمي من طَرِيق الْفضل ابْن غَانِم وَفِي تَرْجَمَة أبي بكر بن عَيَّاش من الْمِيزَان أَن هَارُون الرشيد سَأَلَهُ عَن صِحَة هَذَا الحَدِيث وَذَلِكَ دَلِيل شهرته فَهَذِهِ شَوَاهِد جميلَة لِأَن مُعظم ذنُوب الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض هُوَ التَّكْفِير وَأما الشواهد التفصيلية فكثيرة جدا وَهِي أَنْوَاع مُخْتَلفَة مِنْهَا حَدِيث ثَابت بن الضَّحَّاك مَرْفُوعا وَفِيه من قذف مُؤمنا بِكفْر فَهُوَ كقاتله قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامع المسانيد خرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ قلت وَهُوَ طرف من حَدِيثه الطَّوِيل فيهمَا الَّذِي فِيهِ من حلف بِملَّة غير الاسلام وَغير ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح فَهُوَ يشْهد للتغليظ فِي تَكْفِير الْمُؤمن وَأَنه أغْلظ من السباب الْمُطلق لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن سبابه فسوق وقتاله كفر وَالْقَتْل أعظم من الْقِتَال وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا الْمُؤمن أكْرم على الله من بعض مَلَائكَته رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن وَهُوَ يسْتَلْزم ذَلِك لِأَن من كفر ملكا كفر وَمن الشواهد على ذَلِك أَحَادِيث المستبين مَا قَالَا فعلى البادئ مِنْهُمَا فِيهِ عِنْد مُسلم وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة وَأَحَادِيث التحذير من فتن يصبح الرجل فِيهَا مُؤمنا ويمسي كَافِرًا ويمسي مُؤمنا وَيُصْبِح كَافِرًا وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث الاعمش عَن زيد بن وهب عَن ابْن مَسْعُود يرفعهُ لَو أَن رجلَيْنِ دخلا فِي الاسلام فاهتجرا كَانَ أَحدهمَا خَارِجا عَن الاسلام حَتَّى يرجع الظَّالِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم فَهَذَا فِي المهاجرة مَحْمُول على الْخُرُوج عَن الاسلام الْكَامِل فاذا كَانَ مُجَرّد المهاجرة يبلغ هَذَا الْحَد فِي التغليط لم يستبعد أَن يكون التَّكْفِير كفرا على الْحَقِيقَة وَلِحَدِيث ابْن مَسْعُود شَوَاهِد متواترة فِي تَغْلِيظ تَحْرِيم المهاجرة وَإِنَّهَا فرنت بالشرك فِي الْمَنْع من الْعَفو عَن صَاحبهَا دون سَائِر الْكَبَائِر من ذنُوب أهل الاسلام فَفِي الْمُوَطَّأ لمَالِك ومسند أَحْمد من ثَلَاث طرق وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله تعرض الاعمال فِي كل خَمِيس واثنين فَيغْفر الله عز وَجل فِي ذَلِك الْيَوْم لكل امْرِئ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا إِلَّا امْرأ كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه شَحْنَاء فَيَقُول اتْرُكُوا هذَيْن حَتَّى يصطلحا وَفِي رِوَايَة إِلَّا المتهاجرين وَعَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله تعرض الاعمال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس فَمن مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ وَمن تائب فيتاب عَلَيْهِ وَترد أهل الْفَضَائِل وضغائنهم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الاوسط والهيثمي وَقَالَ رِجَاله ثِقَات وَعَن ابْن مَسْعُود وَأُسَامَة بن زيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله نَحْو ذَلِك رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيّ والهيثمي وَعَن أبي أَيُّوب الانصاري نَحْو ذَلِك رَوَاهُ الهيثمي وَيَأْتِي حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي ذَلِك فِي الْوَجْه السَّابِع وَفِيه فأولهما فيأ يكون سبقه بالفيء كَفَّارَة لَهُ وَإِن مَاتَا على صرامهما لم يدخلا الْجنَّة جَمِيعًا رَوَاهُ أَحْمد باسناد صَحِيح وَعَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِذا كَانَ لَيْلَة النّصْف من شعْبَان غفر الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 مُشْرك أَو مُشَاحِن لِأَخِيهِ رَوَاهُ الْبَزَّار والهيثمي وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله وَعَن عَوْف بن مَالك مثله وَعَن معَاذ مثله وَرِجَاله ثِقَات وَعَن أبي ثَعْلَبه الْخُشَنِي نَحوه وَعَن عبد الله بن عمر نَحوه فَهَذِهِ بضعَة عشر حَدِيثا فِي ذَلِك وَفِي تَحْرِيم المهاجرة فَوق ثَلَاث نَحْو ذَلِك وَلَكِن اسْتثْنى فِيهَا مَا دون الثَّلَاث رَحْمَة للْمُسلمين لما فِي الطباع من قُوَّة الداعية إِلَى ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال وَذَلِكَ عِنْد الْغَفْلَة من هَذَا الْوَعيد الشَّديد بِعَدَمِ الْعَفو عَن هَذَا الذَّنب بِخُصُوصِهِ حِين يعفي عَن سَائِر الذُّنُوب وَذَلِكَ لِأَن من عدل الله تَعَالَى ولطيف جَزَائِهِ يَوْم الدّين أَن يُعَامل كل عَامل على حسب اخْتِيَاره واعتقاده ومذهبه فَلَمَّا كَانَ المُهَاجر المشاحن قد اخْتَار ترك الْعَفو عَن أَخِيه مذهبا لَهُ وَحكم بحسنه جوزي بذلك جَزَاء وفَاقا كَمَا يشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَأْتَلِ أولُوا الْفضل مِنْكُم وَالسعَة أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى} الْآيَة فِي قصَّة أبي بكر مَعَ مسطح ونظائر ذَلِك كَثِيرَة وصحيحة نسْأَل الله الْعَافِيَة من ذَلِك وَفِي سنَن أبي دَاوُد باسناد صَحِيح هجر الْمُسلم سنة كسفك دَمه وَسَيَأْتِي فِي الْوَجْه السَّابِع مَا يُنَاسب هَذَا من الْحَث على اصلاح ذَات الْبَين وَتَسْمِيَة التَّفَرُّق والتباغض الحالقة للدّين وَفِي مَجْمُوع ذَلِك مَا يشْهد لصِحَّة التَّغْلِيظ فِي تَكْفِير الْمُؤمن وإخراجه من الاسلام مَعَ شَهَادَته بِالتَّوْحِيدِ والنبوات وخاصة مَعَ قِيَامه بأركان الْإِسْلَام وتجنبه للكبائر وَظُهُور أَمَارَات صدقه فِي تَصْدِيقه لأجل غلطة فِي بِدعَة لَعَلَّ الْكفْر لَهُ لَا يسلم من مثلهَا أَو قريب مِنْهَا فان الْعِصْمَة مُرْتَفعَة وَحسن ظن الانسان بِنَفسِهِ لَا يسْتَلْزم السَّلامَة من ذَلِك عقلا وَلَا شرعا بل الْغَالِب على أهل الْبدع شدَّة الْعجب بنفوسهم وَالِاسْتِحْسَان لبدعتهم وَرُبمَا كَانَ أجر ذَلِك عُقُوبَة على مَا اختاروه أول مرّة من ذَلِك كَمَا حكى الله تَعَالَى ذَلِك فِي قَوْله {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم} وَهِي من عجائب الْعُقُوبَات الربانية والمحذرات من المؤخذات الْخفية {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} وَقد كثرت الْآثَار فِي أَن اعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ من المهلكات كَمَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي عِنْد دت وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَعَن أنس وَابْن عَبَّاس وَابْن أبي أوفى كلهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله مثل ذَلِك رَوَاهَا الهيثمي فِي مجمعه وَدَلِيل الْعقُوبَة فِي ذَلِك انك ترى أهل الضلال أَشد عجبا وتيها وتهليكا للنَّاس واستحقارا لَهُم نسْأَل الله الْعَفو والمعافاة من ذَلِك كُله وَفِي ذَلِك حَدِيث حُذَيْفَة الصَّحِيح عِنْد مُسلم الْمَشْهُور عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَنه قَالَ (تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب كالحصير عودا عودا فَأَي قلب أشربها نكت فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء وَأي قلب أنكرها نكت فِيهِ نُكْتَة بَيْضَاء حَتَّى يصير على قلبين أَبيض مثل الصَّفَا فَلَا تضره فننة مَا دَامَت السَّمَوَات والارض وَالْآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا إِلَّا مَا أشْرب من هَوَاهُ فَيَنْبَغِي من كل حَازِم لَبِيب إيقاظ خاطره والحذر الْعَظِيم عَن الامور الَّتِي تَوَاتَرَتْ النُّصُوص من الصِّحَاح وتواترت بِأَنَّهَا كفر وَخُرُوج عَن الاسلام أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لم يحصل دَلِيل قَاطع على أَنه متأول من إِجْمَاع صَحِيح أَو نَص معَارض لذَلِك صَحِيح وَذَلِكَ مثل مَا قدمنَا من تَكْفِير من يجوز أَنه مُسلم بِمُجَرَّد الالزامات والتمحلات الَّتِي مَتى سلمت عارضها مثلهَا أَو أقوى مِنْهَا كَمَا تقدم فان قيل أَلَيْسَ قد ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يكفر من كفر مُسلما على الاطلاق فَالْجَوَاب أَن ذَلِك صَحِيح وَلَكِن لَا حجَّة فِيهِ توجب تَقْدِيمه على النُّصُوص حَيْثُ لم يكن تَأْوِيلهَا إِجْمَاعًا فقد حكى الْخلاف فِي ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة حَيْثُ شرح حَدِيث أبي ذَر الْمُقدم ذكره فِي كتاب اللّعان فَقَالَ وَهَذَا وَعِيد عَظِيم لمن يكفر أحدا من الْمُسلمين وَلَيْسَ كَذَلِك وَهِي ورطة عَظِيمَة وَقع فِيهَا خلق من الْمُتَكَلِّمين وَمن المنسوبين إِلَى السّنة وَأهل الحَدِيث وخرق حجاب الهيبة فِي ذَلِك جمَاعَة من الحشوية وَقد اخْتلف النَّاس فِي التَّكْفِير وَسَببه حَتَّى صنف فِيهِ مُفردا إِلَى قَوْله وَالْحق أَنه لَا يكفر أحد من أهل الْقبْلَة إِلَّا بانكار متواتر فانه حِينَئِذٍ يكون مُكَذبا للشَّرْع وَلَيْسَ مُخَالفَة القواطع مأخذا للتكفير وَعبر بعض أهل الاصول عَن هَذَا بِمَا مَعْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 أَن من أنكر طَرِيق اثبات الشَّرْع لم يكفر كمن أنكر الاجماع وَمن أنكر الشَّرْع بعد الِاعْتِرَاف بطريقه كفر لِأَنَّهُ مكذب قَالَ وَقد نقل عَن بعض الْمُتَكَلِّمين أَنه قَالَ لَا أكفر إِلَّا من كفرني وَرُبمَا خفى سَبَب هَذَا القَوْل على بعض النَّاس وَحمله على غير محمله الصَّحِيح وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يحمل عَلَيْهِ أَنه قد لمح هَذَا الحَدِيث الَّذِي قتضي أَن من دَعَا رجلا بالْكفْر وَلَيْسَ كَذَلِك رَجَعَ عَلَيْهِ الْكفْر وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله (من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بهَا أَحدهمَا وَكَأن هَذَا الْمُتَكَلّم يَقُول هَذَا الحَدِيث دلّ على أَنه يحصل الْكفْر لأحد الشخصين فاذا كفرني بعض النَّاس فالكفر وَاقع بأحدنا وَأَنا قَاطع بِأَنِّي لست بِكَافِر فالكفر رَاجع اليه اه وَفِيه مَا ترى من تَقْرِير الْخلاف فِي الْأَخْذ بظواهر النُّصُوص مِمَّا يُؤمن الْمُكَفّر لغيره أَن يُخطئ فِي نظره فِي طَرِيق التَّكْفِير كَمَا ذَلِك عَادَة الفطناء والأذكياء أَعنِي الْخَطَأ فِي مثل هَذِه المزالق وَلَو كَانَ خطأ الأذكياء فِي ذَلِك نَادرا وَأَنت مِنْهُم لم تأمن أَن تقع فِي ذَلِك النَّار كَيفَ وخطأهم فِيهِ كثير غَالب وَأَنت على غير يَقِين بأنك مِنْهُم فَأَما دفع الْكفْر بِأَنَّهُ حَدِيث أحادي فانه غرور من وُجُوه الأول أَنا قد بَينا من طرقه مَا يدل على أَنه متواتر عِنْد أهل الِاطِّلَاع والمعلوم لَا يكون ظنيا لجهل الْجَاهِلين لَهُ الثَّانِي أَن غرضنا الِاحْتِرَاز على الاسلام مِمَّا تجوز صِحَّته فِي علم الله تَعَالَى وَحَدِيث الْوَاحِد وَإِن لم تعلم صِحَّته فقد يكون صَحِيحا وَنحن لَا نعمل وَالصَّحِيح جَوَاز كفر لَا دَلِيل عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي موَاضعه الثَّالِث أَن الْفَقِيه حميدا فِي الْعُمْدَة جوز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْوَاحِد فِي التَّكْفِير من غير اعْتِقَاد وَذكر أَنه مَذْهَب الْمَنْصُور بِاللَّه والمحققين وَاحْتج بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله هم بالغزو لخَبر الْوَلِيد بن عقبَة فَنزلت الْآيَة فَامْتنعَ لفسقه لَا لِأَنَّهُ خبر وَاحِد وَالله سُبْحَانَهُ أعلم ويحتج لَهُم بِقبُول الشَّهَادَة على الرِّدَّة وَالْكفْر وَالْحُدُود فِي الْفسق ثمَّ من العبر الْكِبَار فِي ذَلِك أَن الْجُمْهُور لم يكفروا من كفر الْمُسلم متأولا فِي تكفيره غير متعمد مَعَ أَن هَذِه الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة تَقْتَضِي ذَلِك والنصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أصح طرق التَّكْفِير فاذا تورع الْجُمْهُور من تَكْفِير من اقْتَضَت النُّصُوص كفره فَكيف لَا يكون الْوَرع أَشد من تَكْفِير من لم يرد فِي كفره نَص وَاحِد فَاعْتبر تورع الْجُمْهُور هُنَا وَتعلم الْوَرع مِنْهُم فِي ذَلِك فان قيل لم تورعوا هُنَا مَعَ هَذِه النُّصُوص الصَّحِيحَة المتواترة لصريحة قلت لوجوه أَحدهَا مَا رُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام من عدم تَكْفِير الْخَوَارِج مَعَ بغضهم لَهُ وبغضه نفاق بل مَعَ تكفيرهم لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ سيد الْمُسلمين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وَأبْعد الْخلق أَجْمَعِينَ عَمَّا افتراه من ذَلِك كذبة المارقين وَقد ذكر الْفَقِيه حميد فِي كِتَابه عُمْدَة المسترشدين أَن ذَلِك هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام وروى هُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما سُئِلَ عَن كفرهم قَالَ من الْكفْر فروا وَلما سُئِلَ عَن إِيمَانهم قَالَ لَو كَانُوا مُؤمنين مَا حاربناهم قيل فَمَا هم قَالَ اخواننا بالْأَمْس بغوا علينا فحاربناهم حَتَّى يفيئوا إِلَى أَمر الله قَالَ الْفَقِيه حميد وَهَذَا تَصْرِيح بِالْمَنْعِ من كفرهم وأقرته الصَّحَابَة قلت وَمن هَهُنَا ادّعى هُوَ والخطابي وَابْن جرير قبلهمَا الاجماع على عدم تكفيرهم وَكَأن النَّاس تابعوه عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك لشهرته وَعدم مُنَازعَة الصَّحَابَة وَلَا بَعضهم لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا احْتج بِهِ الْفَقِيه حميد على أَنه إِجْمَاع قَالَ وَلِأَن من كفر إِمَامًا وحاربه لم يكفر اه كَلَامه وَقد روى ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ كَلَام ابْن جرير ودعواه الاجماع على ذَلِك فِي الْكَلَام على الْخَوَارِج وَكَانَ فِي ابْن جرير تشيع وموالاة ذكره الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان فِي الذب عَنهُ فَقَالَ إِن ذَلِك مَرْوِيّ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من طرق وَذكر نَحْو مَا تقدم وَزَاد فِي رِوَايَته قيل لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام فمنافقون فَقَالَ لَو كَانُوا منافقين لم يذكرُوا الله إِلَّا قَلِيلا ثمَّ قَالَ روى وَكِيع عَن مسعر عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لم نُقَاتِل أهل النَّهر وان على الشّرك اه وَمرَاده على الْكفْر بِالْقَرِينَةِ كَحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 جَابر مَرْفُوعا بَين العَبْد وَبَين الشّرك ترك الصَّلَاة رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ وَكَذَا ذكره عَنهُ ابْن الْأَثِير فِي جَامعه وَقَبله الْحميدِي فِي جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ يُوضحهُ أَن ترك الْخَوَارِج للشرك الَّذِي هُوَ عبَادَة الاصنام وَعبادَة المخلوقين كَانَ مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ فَلم يكن ليخبر بذلك وَإِنَّمَا خرج كَلَامه مخرج حَدِيث جَابر ومخرج حَدِيث ابْن عَبَّاس حَيْثُ قَالَ إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله يُصَلِّي إِلَيّ غير جِدَار أَي غير ستْرَة وَهَذَا هُوَ النَّوْع المسمي بالخاص يُرَاد بِهِ الْعَام وَمِنْه {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} أَي لَا تؤذهما بذلك وَلَا بِغَيْرِهِ ونظائره كَثِيرَة وَيُقَوِّي صِحَة ذَلِك عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رد على أهل النهروان أَمْوَالهم قَالَ ابْن حجر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طرق فانضمت هَذِه الطّرق إِلَى تِلْكَ الطّرق الَّتِي ذكرهَا ابْن بطال وَأَشَارَ اليها الْفَقِيه حميد وَثَانِيها مَا أَشَارَ اليه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَترْجم عَلَيْهِ من أَن ذَلِك فِيمَا إِذا كفر أَخَاهُ مُتَعَمدا غير متأول محتجا بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله لم يكفر عمر فِي قَوْله لحاطب أَنه مُنَافِق وَلَا معَاذًا فِي قَوْله للَّذي خرج من الصَّلَاة حِين طول معَاذ أَنه مُنَافِق وأمثال ذَلِك مَعَ التَّأْوِيل كَثِيره شهيرة وَأَشَارَ الْفَقِيه حميد فِي عُمْدَة المسترشدين إِلَيّ اخْتِيَار هَذَا وَصرح الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى بِاخْتِيَارِهِ وَطول الْكَلَام فِيهِ وَوَجهه وجوده وَلَوْلَا خوف الاطالة الْكَثِيرَة لنقلته وَهَذِه فَائِدَة جَيِّدَة تمنع من الْقطع بتكفير من أَخطَأ فِي التَّكْفِير متأولا فانا لَو كفرنا بذلك لكفرنا الجم الْغَفِير فَالْحَمْد لله على التَّوْفِيق لترك ذَلِك والنجاة مِنْهُ والبعد عَنهُ على أَنه يرد عَلَيْهِم أَن الاستحلال بالتأويل قد يكون أَشد من التعمد مَعَ الِاعْتِرَاف بِالتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ حَيْثُ يكون المستحل بالتأويل مَعْلُوم التَّحْرِيم بِالضَّرُورَةِ كَتَرْكِ الصَّلَاة فان من تَركهَا متأولا كفرناه بالاجماع وَإِن كَانَ عَامِدًا معترفا فَفِيهِ الْخلاف فَكَانَ التَّأْوِيل هُنَا أَشد تَحْرِيمًا فَلذَلِك يَنْبَغِي ترك التَّكْفِير الْمُخْتَلف فِيهِ حذرا من الْوُقُوع فِيهِ وَالله الْمُسلم وَثَالِثهَا آن قد جَاءَ كفر دون كفر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمن لم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 يحكم بِمَا انْزِلْ الله فاولئك هم الْكَافِرُونَ) وَمِنْه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله لما وصف النِّسَاء بالْكفْر قَالَ أَصْحَابه يَا رَسُول الله (يكفرن بِاللَّه تَعَالَى قَالَ لَا يكفرن العشير أَي الزَّوْج وَهُوَ مُتَّفق على صِحَّته فَلم يحملوا الْكفْر على ظَاهره حِين سَمِعُوهُ مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله لاحْتِمَال مَعْنَاهُ وَوُجُود الْمعَارض وَهُوَ إِسْلَام النِّسَاء وإيمانهن وَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله عَلَيْهِم التثبت فِي معنى الْكفْر والبحث عَن مُرَاده بِهِ وَكَذَلِكَ تأولوا أَحَادِيث سباب الْمُؤمن فسوق وَقَتله كفر وَلَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض مَعَ الِاتِّفَاق على صِحَّتهَا وَكَثْرَتهَا وللاجماع الْمَعْلُوم وَالنَّص الْمَعْلُوم على وجوب الْقصاص وَلَو كَانَ كفرا على الْحَقِيقَة لأسقط الْقصاص وَكَذَلِكَ تَأَول كثير من عُلَمَاء الاسلام حَدِيث ترك الصَّلَاة كفر مَعَ مَا ورد فِيهِ من لفظ الشّرك فِي صَحِيح مُسلم وَغير ذَلِك وَكَذَلِكَ حَدِيث النِّيَاحَة كفر وَحَدِيث الانتساب إِلَى غير الْأَب كفر قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة فِي اللّعان فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ إِنَّه مَتْرُوك الظَّاهِر عِنْد الْجُمْهُور وَفِيه إِشَارَة إِلَى وجود خلاف فِيهِ وَإِلَّا لقَالَ إِجْمَاعًا وَلم يقل كَذَا فِي تَكْفِير الْمُسلم أَخَاهُ فَدلَّ على أَن الْخلاف فِيهِ لَيْسَ بشاذ فاعرف ذَلِك وَرَابِعهَا مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأله أَنه قَالَ (إِذا قَالَ الرجل للرجل يَا يَهُودِيّ فَاضْرِبُوهُ عشْرين سَوْطًا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق ابراهيم ابْن اسماعيل بن أبي حَبِيبَة عَن دَاوُد بن الْحصين عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَضَعفه التِّرْمِذِيّ بابراهيم هَذَا وَكَذَلِكَ ضعفه النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ بابراهيم وَبَعض الروَاة عَنهُ شكّ فِي رَفعه ذكره الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان لَكِن وَثَّقَهُ أَحْمد وَكَانَ عابدا وَهَذَا الْجرْح فِيهِ أقوى وَيقدم على قَول من يقدم الْجرْح وَمن يَقُول بالترجيح خُصُوصا مَعَ تِلْكَ المعارضات المتواترة عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث الصَّحِيحَة بِلَا ريب على أَن ابْن مَاجَه والذهبى جعلُوا متن الحَدِيث من قَالَ لرجل يَا مخنث زَاد ق بالوطي فَاضْرِبُوهُ عشْرين سَوْطًا وَلم يذكرُوا السب باليهودية وَقَالَ الْمزي رِوَايَة ق أتم رَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق دُحَيْم الْحَافِظ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن ابراهيم عَن ابْن أبي فديك وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد ابْن رَافع عَن ابْن أبي فديك وَكَانَت الْعِبَادَة أغلب على مُحَمَّد بن رَافع من الْحِفْظ فَالْبُخَارِي لذَلِك يتَخَيَّر من حَدِيثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الْقَلِيل وَلَا يستوعبه وَمَعَ هَذَا الضعْف والاعلال لَا يُعَارض مَا صَحَّ وتواتر وَلَكِن سلك الْجُمْهُور مَسْلَك الِاحْتِيَاط فاقتد بهم فِي ذَلِك فاذا ثَبت أَن النَّص على الْكفْر غير قَاطع فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ فلهذه الْوُجُوه الاربعة لم يعْمل الْجُمْهُور بِظَاهِر هَذِه الْأَحَادِيث وَأما من كفر أَخَاهُ مُتَعَمدا غير متأول فَاخْتَلَفُوا فِيهِ من تقدم إِلَيّ كفره وَوَجهه الْغَزالِيّ بِأَنَّهُ لما كَانَ مُعْتَقد الاسلام أَخِيه كَانَ قَوْله إِنَّه كَافِر قولا بِأَن الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ كفر وَالَّذِي هُوَ عَلَيْهِ كفر دين الاسلام فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن دين الاسلام كفر وَهَذَا القَوْل كفر من قَائِله وَإِن لم يعْتَقد ذَلِك على أَن أَبَا هَاشم وَأَصْحَابه من الْمُعْتَزلَة لَا يكفرون من تعمد النُّطْق بالْكفْر من غير إِكْرَاه عَلَيْهِ وَإِن كَانَا يفترقان فِي الاثم كَمَا تقدم وَهَذَا بعد كثير من التَّكْفِير فِي هَذِه الصُّورَة فَلَو طردوا الِاحْتِيَاط لتركوا التَّكْفِير بِالْقِيَاسِ ومآل الْمَذْهَب لكِنهمْ كفرُوا بهما وَهُوَ أَضْعَف من التَّكْفِير بتعمد النُّطْق بالْكفْر اخْتِيَارا بِلَا إِكْرَاه وَأما النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي شرح مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي يَقْتَضِي كفر من كفر أَخَاهُ هَذَا الحَدِيث مِمَّا عده بعض الْعلمَاء من المشكلات فان مَذْهَب أهل الْحق أَن الْمُسلم لَا يكفر بِالْمَعَاصِي وَهَذَا مِنْهَا فَقيل فِي تَأْوِيله وُجُوه الاول أَنه مَحْمُول على المستحل لذَلِك وَبِهَذَا يكفر إِن الثَّانِي أَن الْمَعْنى رجعت عَلَيْهِ نقيصته لِأَخِيهِ ومعصية تكفيره الثَّالِث أَنه مَحْمُول على الْخَوَارِج وَرَوَاهُ ابْن بطال أَيْضا عَن مَالك قَالَ فَقيل لَهُ فيكفرون قَالَ لَا أَدْرِي اه كَلَام ابْن بطال قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ ضَعِيف لمُخَالفَته الاكثرين والمحققين فِي كفر الْخَوَارِج قَالَ النَّوَوِيّ الرَّابِع أَنه مَحْمُول على أَنه يؤول بِهِ إِلَيّ الْكفْر فان الْمعاصِي بريد الْكفْر وَاحْتج عَلَيْهِ بِرِوَايَة أبي عوَانَة والاباء بالْكفْر وَفِي رِوَايَة فقد وَجب الْكفْر على أَحدهمَا اهـ وَالظَّاهِر أَن هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ حجَّة عَلَيْهِ لَا لَهُ الْخَامِس أَن مَعْنَاهُ فقد رَجَعَ عَلَيْهِ تكفيره وَلَيْسَ الرَّاجِع عَلَيْهِ حَقِيقَة الْكفْر بل التَّكْفِير لكَونه جعل أَخَاهُ الْمُسلم كَافِرًا فَكَأَنَّهُ كفر نَفسه إِمَّا لِأَنَّهُ كفر من هُوَ مثله وَإِمَّا لِأَنَّهُ كفر من لَا يكفره إِلَّا كَافِر يعْتَقد بطلَان الاسلام وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره ابْن بطال فِي تَوْجِيه كَلَام البُخَارِيّ فِي الْفرق بَين الْعَامِد والمتأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وَترك النَّوَوِيّ القَوْل السَّادِس وَهُوَ اخْتِيَار البُخَارِيّ وَالْغَزالِيّ والفقيه حميد فِي تَأْوِيل الحَدِيث بالعامد دون المتأول بِهَذَا التَّوْجِيه الْمَذْكُور وَترك أَيْضا القَوْل السَّابِع وَهُوَ أَن الحَدِيث على ظَاهره من غير تَأْوِيل وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي شرح الْعُمْدَة كَمَا سلف وَلَا حجَّة قَاطِعَة مَانِعَة من صِحَّته وَعدم الْحجَّة القاطعة الْمَانِعَة من صِحَة ظَاهره يُوجب الِاحْتِيَاط الْبَالِغ بِتَرْكِهِ احْتِيَاطًا للاسلام وتعظيما لَهُ عَن المخاطرة بِهِ وتعريضه لما لَا يُؤمن أَن يُبطلهُ ويسلب نعْمَته الْعُظْمَى وينظم صَاحبه فِي جمله أهل الْكفْر والعمى تَنْبِيه وَذَلِكَ أَن هَذَا الْكَلَام فِي التحذير من تَكْفِير المبتدعة الَّذين لم نستيقن أَن بدعتهم كفر مَعَ قبحها وفحشها وكراهتنا لَهَا وَأمر تَكْفِير عوام الْمُسلمين لأَنهم لم يعرفوا الله تَعَالَى بِدَلِيل قَاطع على شُرُوط أهل علم الْكَلَام فانه يزْدَاد الامر قُوَّة فِي كفر من كفرهم لِأَن الحكم باسلامهم مَعْلُوم ضَرُورَة من الدّين وتكفيرهم جحد ذَلِك وَقد دلّ وَقد دلّ الْقُرْآن على صِحَة اسلامهم حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم} وَقد تقدّمت الْأَدِلَّة على هَذَا فِي أول الْكتاب هَذَا فَليُرَاجع وَهَذَا لجلائه لَا يحْتَاج إِلَى بسط وَبِهَذَا الْكَلَام تمّ الْكَلَام فِي الْوَجْه الاول من مرجحات ترك التَّكْفِير الْوَجْه الثَّانِي من مرجحات ترك التَّكْفِير أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله بذلك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بالنصوصية والخصوصية وَهَذَا من أوضح المرجحات وَفِي ذَلِك أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله ثَلَاث من أصل الايمان الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا نكفره بذنب وَلَا نخرجهُ من الاسلام بِعَمَل الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْجِهَاد من السّنَن وَرَوَاهُ أَبُو يعلى من طَرِيق أُخْرَى وَلَيْسَ فِيهَا من ضعف إِلَّا يزِيد الرقاشِي العَبْد الصَّالح ضعف من قبل حفظه وَقد أثنى عَلَيْهِ الْحَافِظ ابْن عدي وَوَثَّقَهُ وَقَالَ عِنْده أَحَادِيث صَالِحَة عَن أنس أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ هَذَا مَعَ الثَّنَاء النَّبَوِيّ على عُمُوم التَّابِعين فَأَقل أَحْوَاله أَن يُقَوي طَرِيق أبي دَاوُد وَيشْهد لَهَا الحَدِيث الثَّانِي عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله نَحْو حَدِيث أنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 بِمَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الحَدِيث الثَّالِث عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله كفوا عَن أهل لَا إِلَه إِلَّا الله لَا تكفروهم بذنب من كفر أهل لَا إِلَه إِلَّا الله فَهُوَ إِلَى الْكفْر أقرب رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من حَدِيث الضَّحَّاك ابْن حَمْزَة عَن عَليّ بن زيد وَحَمْزَة بِالْحَاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ بَينهمَا مِيم قَالَ الهيثمي مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بهما قلت لَكِن حَدِيثهمَا يصلح فِي الشواهد ويقوى بِمَا تقدم وَفِي الْبَاب عَن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي أُمَامَة وَوَائِلَة وَجَابِر بن عبد الله وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وعنهم سبعتهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله بِمثل ذَلِك لَكِن فِي أسانيدها مجاريح لَكِن بمجموعها مَعَ مَا تقدم قُوَّة وَلِحَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام شَوَاهِد عَنهُ وَهُوَ مَا تقدم من عدم تكفيره الْخَوَارِج من طرق وَمن رده لأموالهم من طرق ويعضد ذَلِك عمل الصَّحَابَة فَعَن جَابر أَنه قيل لَهُ هَل كُنْتُم تدعون أحدا من أهل الْقبْلَة مُشْركًا قَالَ معَاذ الله فَفَزعَ لذَلِك قَالَ هَل كُنْتُم تدعون أحدا مِنْهُم كَافِرًا قَالَ لَا رَوَاهُ أَبُو يعلي وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَرِجَاله رجال الصَّحِيح والْحَدِيث إِذا اشْتهر الْعَمَل بِهِ فِي الصحابه دلّ على قوته وَهَذِه الشواهد السَّبْعَة والْحَدِيث الَّذِي قبلهَا كلهَا فِي مجمع الزَّوَائِد فِي أَوَائِله الْوَجْه الثَّالِث أَنَّهَا قد تكاثرت الْآيَات وَالْأَحَادِيث فِي الْعَفو عَن الْخَطَأ وَالظَّاهِر أَن أهل التَّأْوِيل أخطأوا وَلَا سَبِيل إِلَى الْعلم بتعمدهم لِأَنَّهُ من علم الْبَاطِن الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى فِي خطاب أهل الاسلام خَاصَّة {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} وَصَحَّ فِي تَفْسِيرهَا أَن الله تَعَالَى قَالَ قد فعلت فِي حديثين صَحِيحَيْنِ أَحدهمَا عَن ابْن عَبَّاس وَالْآخر عَن أبي هُرَيْرَة وَقَالَ تَعَالَى {وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} فقيد ذمهم بعلمهم وَقَالَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قتل الْمُؤمن مَعَ التغليط الْعَظِيم فِيهِ {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} فقيد الْوَعيد فِيهِ بالتعمد وَقَالَ فِي الصَّيْد {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} وَجَاءَت الاحاديث الْكَثِيرَة بِهَذَا الْمَعْنى كَحَدِيث سعد وَأبي ذَر وَأبي بكرَة مُتَّفق على صِحَّتهَا فِيمَن ادّعى أَبَا غير أَبِيه وَهُوَ يعلم أَنه غير أَبِيه فَشرط الْعلم فِي الْوَعيد وَمن أوضحها حجَّة حَدِيث الَّذِي أوصى لإسرافه أَن يحرق ثمَّ يذري فِي يَوْم شَدِيد الرِّيَاح نصفه فِي الْبر وَنصفه فِي الْبَحْر حتي لَا يقدر الله عَلَيْهِ ثمَّ يعذبه ثمَّ أَدْرَكته الرَّحْمَة لخوفه وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم حُذَيْفَة وَأَبُو سعيد وَأَبُو هُرَيْرَة بل رُوَاته مِنْهُم قد بلغُوا عدد التَّوَاتُر كَمَا فِي جَامع الاصول وَمجمع الزَّوَائِد وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة أَنه كَانَ نباشا وَإِنَّمَا أَدْرَكته الرَّحْمَة لجهله وإيمانه بِاللَّه والمعاد لذَلِك خَافَ الْعقَاب وَأما جَهله بقدرة الله تَعَالَى على مَا ظَنّه محالا فَلَا يكون كفرا إِلَّا لَو علم أَن الْأَنْبِيَاء جاؤا بذلك وَأَنه مُمكن مَقْدُور ثمَّ كذبهمْ أَو أحدا مِنْهُم لقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَهَذَا أَرْجَى حَدِيث لأهل الْخَطَأ فِي التَّأْوِيل ويعضد مَا تقدم بِأَحَادِيث أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ وَهِي ثَلَاثَة أَحَادِيث صِحَاح وَلِهَذَا قَالَ جمَاعَة جلة من عُلَمَاء الاسلام أَنه لَا يكفر الْمُسلم بِمَا ينْدر مِنْهُ من أَلْفَاظ الْكفْر إِلَّا ان يعلم المتلفظ بهَا أَنَّهَا كفر قَالَ صَاحب الْمُحِيط وَهُوَ قَول أبي عَليّ الجبائي وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ قَالَ الشَّيْخ مجتبى وَبِه يُفْتى وَلَعَلَّ هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح بل الْمُتَوَاتر حجتهم على ذَلِك وَهَذَا خلاف مُتَّجه بِخِلَاف قَول البهاشمة لَا يكفر وَإِن علم أَنه كفر حَتَّى يَعْتَقِدهُ وَمِمَّا يُقَوي الْعَفو عَن أهل الْخَطَأ أَنه قد يكون فِي الْأَدِلَّة ومقدماتها وَلذَلِك كَانَ الْمَشْهُور فِي الْقَتْلَى فِي فتن الصَّحَابَة سُقُوط الْقصاص كَمَا هُوَ الْمَشْهُور فِي سيرة على عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا تقدم وَرُوِيَ الشَّافِعِي عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ أدْركْت الْفِتْنَة الأولى فِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَكَانَت فِيهَا دِمَاء وأموال فَلم يقْتَصّ فِيهَا من دم وَلَا مَال وَلَا قدح أُصِيب بِوَجْه التَّأْوِيل إِلَّا أَن يُوجد مَال رجل بِعَيْنِه فَيدْفَع إِلَى صَاحبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قَالَ ابْن كثير فِي ارشاده وَهُوَ ثَابت عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ عَام فِي أهل الْعدْل وَالْبَغي وَإِن وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ لَا يضمن للْآخر شَيْئا وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق من قولي الشَّافِعِي فَدلَّ على دُخُول الْخَطَأ فِي أَفعَال الْقُلُوب كأفعال الْخَوَارِج كَمَا هُوَ وَاضح فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النَّحْل {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} فَقَوله فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة {وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} يُؤَيّد أَن المتأولين غير كفار لِأَن صُدُورهمْ لم تَنْشَرِح بالْكفْر قطعا أَو ظنا أَو تجويزا أَو احْتِمَالا وَقد يشْهد لَهُم بذلك كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الصَّادِق المصدوق فِي الْمَشْهُور عَنهُ حَيْثُ سُئِلَ عَن كفر الْخَوَارِج فَقَالَ من الْكفْر فروا فَكَذَلِك جَمِيع أهل التَّأْوِيل من أهل الْملَّة وَإِن وَقَعُوا فِي أفحش الْبدع وَالْجهل فقد علم مِنْهُم أَن حَالهم فِي ذَلِك هِيَ حَال الْخَوَارِج وَقد بَالغ الشَّيْخ أَبُو هَاشم وَأَصْحَابه وَغَيرهم فَقَالُوا هَذِه الْآيَة تدل على أَن من لم يعْتَقد الْكفْر ونطق بِصَرِيح الْكفْر وبسب الرُّسُل أَجْمَعِينَ وبالبراءة مِنْهُم وبتكذيبهم من غير إِكْرَاه وَهُوَ يعلم أَن ذَلِك كفر لَا يكفر وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِيّ فِي كشافه فانه فسر شرح الصَّدْر بِطيب النَّفس بالْكفْر وباعتقاده مَعًا وَاخْتَارَهُ الامام يحيي عَلَيْهِ السَّلَام والامير الْحُسَيْن بن مُحَمَّد وَهَذَا كُله مَمْنُوع لأمرين أَحدهمَا مُعَارضَة قَوْلهم بقوله تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} فقضي بِكفْر من قَالَ ذَلِك بِغَيْر شَرط فَخرج الْمُكْره بِالنَّصِّ والاجماع وَبَقِي غَيره فَلَو قَالَ مُكَلّف مُخْتَار غير مكره بمقالة النصاري الَّتِي نَص الْقُرْآن على أَنَّهَا كفر وَلم يعْتَقد صِحَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 مَا قَالَ لم يكفره مَعَ أَنه لعلمه يقبح قَوْله يجب أَن يكون أعظم إِنَّمَا من بعض الْوُجُوه لقَوْله تَعَالَى {وهم يعلمُونَ} فعكسوا وَجعلُوا الْجَاهِل بِذَنبِهِ كَافِرًا والعالم الجاحد بِلِسَانِهِ مَعَ علمه مُسلما الامر الثَّانِي أَن حجتهم دَائِرَة بَين دلالتين ظنيتين قد اخْتلف فيهمَا فِي الْفُرُوع الظنية احداهما قِيَاس الْعَامِد على الْمُكْره وَالْقطع على أَن الاكراه وصف ملغى مثل كَون الْقَائِل بِالثَّلَاثَةِ نَصْرَانِيّا وَهَذَا نَازل جدا وَمثله لَا يقبل فِي الْفُرُوع الظنية وثانيتهما عُمُوم الْمَفْهُوم وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فانه لَا حجَّة لَهُم فِي منطوقها قطعا وفَاقا وَفِي الْمَفْهُوم خلاف مَشْهُور هَل هُوَ حجَّة ظنية مَعَ الِاتِّفَاق على أَنه هُنَا لَيْسَ بِحجَّة قَطْعِيَّة ثمَّ فِي إِثْبَات عُمُوم لَهُ خلاف وحجتهم هُنَا من عُمُومه أَيْضا وَهُوَ أَضْعَف مِنْهُ بَيَانه أَن مَفْهُوم الْآيَة وَمن لم يشْرَح بالْكفْر صَدرا فَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك سَوَاء قَالَ كلمة الْكفْر بِغَيْر إِكْرَاه أَو قَالَهَا مَعَ إِكْرَاه فَاحْتمل أَن لَا يدْخل الْمُخْتَار بل رجح أَن لَا يدْخل لِأَن سَبَب النُّزُول فِي الْمُكْره والعموم الْمَنْطُوق يضعف شُمُوله بذلك وَيخْتَلف فِيهِ فضعف ذَلِك فِي الظنيات من ثَلَاث جِهَات من كَونه مفهوما وَكَونه عُمُوم مَفْهُوم وَكَونه على سَبَب مضاد لمقصودهم قَالَ قَتَادَة نزلت فى عمار بن يَاسر ذكره الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمته من النبلاء وَرَوَاهُ الواحدي عَن ابْن عَبَّاس فَكيف يقدم مَعَ ذَلِك كُله على مَنْطُوق {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وَإِذ قد فعلوا ذَلِك هُنَالك لما فِيهِ من أدني احْتِمَال لعدم شرح الصَّدْر من الْعَامِد الْمُخْتَار فِي كَلِمَات الْكفْر كلهَا من غير اكراه وَلَا جهل لَا خطأ وَلَا عذر أصلا فَكيف بِأَهْل التَّأْوِيل الَّذين علم مِنْهُم السَّعْي فِي تَعْمِيم شَعَائِر الاسلام والأنبياء ومحبتهم ومحبة مناصرتهم والمرء مَعَ من أحب وَتحمل المشاق الْعَظِيمَة لله تَعَالَى والاحتجاج الطَّوِيل على مخالفي الاسلام حَتَّى قَالَ الرَّازِيّ فِي وَصيته اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم إِنِّي آثرت هواي على الْحق فِيمَا صَنعته فَلَا كَذَا وَكَذَا ودعا بِعَدَمِ الْمَغْفِرَة أَو كَمَا قَالَ وَلما ذكر الذَّهَبِيّ فِي النبلاء تجويد الجاحظ فِي كتاب النبوات ترحم عَلَيْهِ وَقَالَ فَكَذَلِك فَلْيَكُن الْمُسلم مَعَ أَنه من خصومه وَهَذَا شَيْء يُعلمهُ الْعَاقِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 من قَرَائِن أَحْوَال المتأولين وَأَقل الاحوال أَن يكون هَذَا مُحْتملا مُجَرّد احْتِمَال مَعَ سَعَة رَحْمَة الله سُبْحَانَهُ وعظيم عَفوه وغفرانه وَمَعَ مَا ورد فِي أَحَادِيث الشَّفَاعَة المتواترة كَمَا مضى بَيَانه فِي مَوْضِعه وَلذَلِك سَاوَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الْخَطَأ وَالنِّسْيَان والاكراه فِي أَحَادِيث كَثِيرَة جدا مجتمعة على اأن الله تَعَالَى تجَاوز لأمته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَقد تقصيت طرقها وشواهدها من الْقُرْآن فِي ديباجة كتاب العواصم وَقد أَجمعت الْأمة على الْعَمَل بِمُقْتَضى النُّصُوص فِي الاكراه وَالنِّسْيَان فَكَذَلِك أخوهما وثالثهما وَهُوَ الْخَطَأ أَن شَاءَ الله تَعَالَى بل هُوَ أَكثر مِنْهُمَا ذكرا وشواهد فِي الْكتاب وَالسّنة والبلوى بِهِ أَشد والرخصة إِنَّمَا تكون على قدر شدَّة الْبلوى واما كفار التَّصْرِيح فَلَا نسلم أَن كفرهم خطأ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن مرادنا بالْخَطَأ هُوَ خطأ مَخْصُوص وَهُوَ الْخَطَأ فِي تحري مُرَاد الله تَعَالَى وَرَسُوله فِيمَا ظَاهره التَّعَارُض والتشابه وكفار التَّصْرِيح تعمدوا تَكْذِيب الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَتَكْذيب رسله وَلم يقعوا فِي ذَلِك خطأ من غير اعْتِمَاد وَثَانِيها أَن الله تَعَالَى قد أخبر رسله الْكِرَام بعنادهم واستحقاقهم الْعَدَاوَة وَالْعَذَاب الْعَظِيم وَلَو فِي أول مرّة كَمَا قَالَ فِي ذَلِك {كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَكَلَام ابْن أبي الْحَدِيد فِيهِ فِي شرح قَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي شهِدت لَهُ أَعْلَام الْوُجُود على اقرار قلب ذِي الْجُحُود وَهَذَا تَصْرِيح بعناد كفار التَّصْرِيح حِين انكروا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا وَاجْتمعت عَلَيْهَا جَمِيع كتبه وَرُسُله وأتباعهم وَلم يَخْتَلِفُوا فِيهَا وليحذر من أَمن الْخَطَأ وَقطع على عدم مُسَامَحَة أَهله فِي العقائد من الْمُؤَاخَذَة لَهُ فِيمَا أَخطَأ فِيهِ وَعدم الْمُسَامحَة لَهُ كَمَا ذكرته فِي تحذير من قَالَ بتكليف مَا لَا يُطَاق أَن يحملهُ الله تَعَالَى من الْعُقُوبَات على قَوْلهَا مَا لَا يطيقه فان جَزَاء الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ من جنس أفعالهم وأقوالهم جَزَاء وفَاقا وكما تدين تدان وَقد مر مَا ورد فِي ذَلِك أَو بعضه فِي التحذير من تَجْوِيز التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق على أعدل العادلين وَأكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الْوَجْه الرَّابِع أَن مُؤَاخذَة المخطيء لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون من تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق أَو من أعظم المشاق فان كَانَت من الأول فَهُوَ لَا يجوز على الله تَعَالَى كَمَا تقدم القَوْل فِيهِ مَبْسُوطا بسطا شافيا وَإِن لم تكن مِنْهُ كَانَت من أعظم المشاق وَقد نفي الله تَعَالَى وجود ذَلِك فِي دينه أما أَنه قد نفى ذَلِك فِي دينه فالمنصوص فِيهِ كَثِيرَة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وتواتر هَذَا الْمَعْنى فِي السّنة وَقد جمعته فِي مؤلف مُفْرد ذكرت فِيهِ أَكثر من ثَلَاثِينَ آيَة من كتاب الله تَعَالَى وأزيد من مائَة وَثَمَانِينَ حَدِيثا فَلَا نطول بِذكرِهِ لوضوحه وَأما أَن ذَلِك من أعظم الْحَرج والمشاق فالأمرين الْأَمر الأول أَن الْعَاقِل الْمُعظم لأمر الله تَعَالَى الْمُؤثر لمرضاته لَو خير بَين أَمريْن أَن يُكَلف الصَّبْر على الْقَتْل عِنْد الاكراه على كلمة الْكفْر أَو الِاحْتِرَاز من الْخَطَأ بعد تَقْرِير أَن الْخَطَأ كفر لَا يغْفر وَيُوجب الخلود فِي النَّار لاختار الصَّبْر على الْقَتْل لِأَنَّهُ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْجنَّة وَإِنَّمَا هُوَ صَبر سَاعَة وَهُوَ لَا يَأْمَن أَن يَقع فِي الْخَطَأ الَّذِي يكفر بِهِ وَلَا يغْفر لَهُ مَعَ عدم الْعِصْمَة وَعدم الْمُسَامحَة لِأَن الْخَطَأ قد جربت كَثْرَة وُقُوعه من الأذكياء والافراد فِي المعارف الَّذين ضربت الْأَمْثَال بهم فِي الْعقل والذكاء والفهم وَالْعلم وَذَلِكَ عِنْد تعار ض الأنظار والآيات والْآثَار والمتشابهات والمحتملات وَتَخْصِيص أَكثر العمومات حَتَّى وَقع بعض الْأَنْبِيَاء فِي شَيْء من ذَلِك مَعَ الْعِصْمَة والتأييد الرباني هَذَا نوح عَلَيْهِ السَّلَام ظن أَن ابْنه دَاخل فِي عُمُوم أَهله الَّذين وعده الله تَعَالَى بنجاتهم وَلم يعلم تَخْصِيص هَذَا الْعُمُوم وَلَو علمه مَا سَأَلَ وَقد قيل فِي الْوَجْه فِي ذَلِك أَن ابْنه كَانَ منافقا وَهَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام راعه مَا وَقع من الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام من المتشابهات حَتَّى عيل صبره وأخلف وعده الْأَمر الثَّانِي أَنه لم يتَحَقَّق وُرُود الشَّرْع بعقوبة المخطيء بعد الرَّغْبَة فِي معرفَة الصَّوَاب وَحسن النِّيَّة فِي تعرفه وَإِن لم يبلغ جَمِيع مَا يُمكن الْبشر فِي علم الله تَعَالَى أما مَعَ بُلُوغه ذَلِك فَلَا شكّ فِي الْعَفو عَنهُ وَأما المشاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الْعَظِيمَة فقد يرد الشَّرْع بهَا نَادرا فِي هَذِه الشَّرِيعَة تَخْصِيصًا لعُمُوم الْمُسَامحَة فِيمَا شقّ حَيْثُ تَقْتَضِي ذَلِك الْحِكْمَة كَمَا فِي وجوب الصَّبْر للْقصَاص فِي الْقَتْل وَقطع الاعضاء وَالرَّجم فِي عُقُوبَة الزَّانِي وَكَانَ هَذَا أَكثر فِي شرائع من قبلنَا لقَوْله تَعَالَى {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَمِنْه وجوب الْقَتْل فِي تَوْبَة بني إِسْرَائِيل وَنَحْو ذَلِك فَثَبت أَن المشاق الْعَظِيمَة قد تحقق وُرُودهَا فِي الشَّرَائِع نَادرا حَيْثُ يَقْتَضِي ذَلِك الْمصلحَة وَإِن عِقَاب المخطيء بِعَذَاب النَّار لم يتَحَقَّق وُرُوده فِي شَرِيعَة من الشَّرَائِع فَثَبت أَنه أَحَق المشاق بِأَن يسمحه اكرام الاكرمين وَخير الغافرين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا برهَان قَاطع على أَن المكفرين من أهل التَّأْوِيل لَا يسمون مخطئين وَلَا على خُرُوجهمْ من الْأَدِلَّة الدَّالَّة على الْعَفو عَن المخطئين االوجه الْخَامِس أَن أخوة يُوسُف لما قَالُوا {إِن أَبَانَا لفي ضلال مُبين} وَقَالُوا {تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم} لم يكفروا بذلك لما كَانُوا باقين على شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن يَعْقُوب رَسُول الله معتقدين مَعَ ذَلِك صِحَة نبوته وَدينه وَإِنَّمَا جوزوا عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الضلال فِي حب يُوسُف لِأَنَّهُ عِنْدهم من الضلال فِي الرَّأْي ومصالح الدُّنْيَا وَقد قاربوا الاستهانة وَعدم التوقير لَوْلَا جلالة بقائهم على الشَّهَادَتَيْنِ وَإِيمَانهمْ بِاللَّه تَعَالَى وَرُسُله فَثَبت أَن للبقاء على ذَلِك أثرا عَظِيما فان الامارات لَا تقاومه وَإِن الشَّرْع ورد بتعظيم ذَلِك وَطرح الْمعَارض لَهُ وَلذَلِك عظم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله على أُسَامَة بن زيد قتل الْكَافِر الَّذِي ضربه فَلَمَّا قدر عَلَيْهِ أسلم وَعظم على أَصْحَابه الْكَلَام فِي بعض من كَانُوا يعدونه من الْمُنَافِقين وَقَالَ أَلَيْسَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَإِنِّي رَسُول الله وَيُصلي قَالُوا بلَى وَلَا شَهَادَة لَهُ وَلَا صَلَاة قَالَ إِنِّي لم أومر أَن أفتش على قُلُوب النَّاس وأمثال ذَلِك كَثِيرَة صَحِيحَة الْوَجْه السَّادِس أَن الْخَارِجِي الَّذِي قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله اعْدِلْ يَا مُحَمَّد وَالله إِن هَذِه قسْمَة مَا أُرِيد بهَا وَجه الله تكلم بِكَلَام من أقبح الْكَلَام وَظن ظنا من أَسْوَأ الظنون وَلم يحكم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكُفْرِهِ مَعَ ذَلِك مَعَ أَنه لَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 كفر لوَجَبَ قَتله بِالرّدَّةِ إِلَّا أَن يَتُوب وَلم تنقل لَهُ تَوْبَة بل جَاءَ فِي الحَدِيث مَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا تخرج من ضئضئة الْخَوَارِج وَإِنَّمَا لم يكفر وَالله أعلم لِأَنَّهُ بَقِي على شَهَادَة أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَإِنَّمَا جوز عَلَيْهِ أَن يُذنب كذنوب الانبياء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَعصى آدم ربه فغوى} وَهَذَا يدل على تَعْظِيم حُرْمَة الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ عظم الْخَطَأ وَكَذَلِكَ لم يكفر حَاطِب ابْن أبي بلتعة مَعَ خيانته لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَمَا نزل فِيهِ أول سُورَة الممتحنة وَقَوله تَعَالَى فِيهِ {تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} و {تسرون إِلَيْهِم بالمودة} وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} وَمَعَ ذَلِك وَصفه بالايمان فِي أول السُّورَة حَيْثُ قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه دَاخل فِيمَن خُوطِبَ بذلك لِأَن الْعُمُوم نَص فِي سَببه بالاجماع وَلذَلِك أدخلهُ الله مَعَ الْمُؤمنِينَ وخاطبه بأجمل الْخطاب حَيْثُ قَالَ {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} وَكَذَلِكَ ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله قبل عذره وَذَلِكَ كُله يدل على مَا قَالَه الامام الْمهْدي مُحَمَّد بن المطهر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْمُوَالَاة الْمُحرمَة بالاجماع هِيَ أَن تحب الْكَافِر لكفره والعاصي لمعصيته لَا لسَبَب آخر من جلب نفع أَو دفع ضَرَر أَو خصْلَة خير فِيهِ وَالله أعلم الْوَجْه السَّابِع أَن الله تَعَالَى نَص على تَحْرِيم التَّفَرُّق فِي كِتَابه الْكَرِيم وَجَاء ذَلِك بعبارات كَثِيرَة فِي الْكتاب وَالسّنة وَلَا أفحش فِي التَّفَرُّق من التَّوَصُّل إل التَّكْفِير بأدلة مُحْتَملَة تمكن معارضتها بِمِثْلِهَا وَيُمكن التَّوَصُّل بهَا إِلَى عدم التَّكْفِير وَإِلَى جمع الْكَلِمَة وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه لَا أفحش من ذَلِك فِي التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ لما فِيهِ من أعظم التعادي والتنافر والتباين وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فِي حق الْمَحْدُود فِي الْخمر مرَارًا حَيْثُ لعنوه بِسَبَب ذَلِك لَا تعينُوا الشَّيْطَان على أخيكم أما أَنه يحب الله وَرَسُوله وَلَا شكّ أَن فِي التَّفَرُّق ضعف الاسلام وتقليل أَهله وتوهين أمره قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} وَقَالَ بعْدهَا بِآيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وَاحِدَة {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} وَقد تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن الِاخْتِلَاف المنهى عَنهُ هُوَ التعادي لَا الِاخْتِلَاف فِي مُجَرّد الافعال والاقوال مَعَ عدم التعادي وَأَن بعض ذَلِك قد وَقع بَين الْمَلأ الاعلى وَبَين رسل الله الْكِرَام عَلَيْهِم أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام يُوضحهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} وَقَالَ تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} وَفِي الحَدِيث أَن صَلَاح ذَات الْبَين أفضل من عَامَّة الصَّلَاة وَالصَّوْم وَفِيه أَن فَسَاد ذَات الْبَين هِيَ الحالقة اما اني لَا أَقُول تحلق الشّعْر وَلَكِن تحلق الدّين وَقد تقدم فِي هَذَا الْبَاب مَا جَاءَ فِي المشاحنة والمهاجرة من الْوَعيد الشَّديد وَالْأَحَادِيث المتواترة مِنْهَا حَدِيث هِشَام بن عمار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله لَا يحل لمُسلم أَن يهجر مُسلما فَوق ثَلَاث فانهما ناكبان عَن الْحق مَا داما على صرامهما وأولهما فيأ يكون سبقة بالفيء كَفَّارَة لَهُ وَإِن سلم وَلم يقبل ردَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة وَإِن مَاتَا على صرامهما لم يدخلا الْجنَّة جَمِيعًا أبدا رَوَاهُ أَحْمد وَرِجَاله رجال الصَّحِيح وَقد مر فِي الْوَجْه الأول من هَذِه الْوُجُوه مَا لَهُ من الشواهد المتواترة الرائعة فِي تَحْرِيم ذَلِك وانه مقرون بالشرك فِي حرمَان صَاحبه الغفران وَهَذَا أَمر مجمع على تَحْرِيمه فِي الأَصْل فَيجب مُرَاعَاة أَسبَابه ومقوياته فَكلما كَانَ أقرب إِلَى الِاجْتِمَاع كَانَ أرجح وَكلما كَانَ أقرب إِلَى التَّفَرُّق وَادّعى اليه وَإِلَى اثارته كَانَ أفسد وأبطل وَكم بَين إِخْرَاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 عوام فرق الاسلام أَجْمَعِينَ وجماهير الْعلمَاء المنتسبين إِلَى الاسلام من الْملَّة الاسلامية وتكثير الْعدَد بهم وَبَين ادخالهم فِي الاسلام ونصرته بهم وتكثير أَهله وتقوية أمره فَلَا يحل الْجهد فِي التَّفَرُّق بتكلف التَّكْفِير لَهُم بالأدلة الْمُعَارضَة بِمَا هُوَ أقوى مِنْهَا أَو مثلهَا مِمَّا يجمع الْكَلِمَة وَيُقَوِّي الاسلام ويحقن الدِّمَاء ويسكن الدهماء حَتَّى ينضح كفر المبتدع اتضاح الصُّبْح الصَّادِق وتجتمع عَلَيْهِ الْكَلِمَة وَتحقّق إِلَيْهِ الضَّرُورَة مثل كفر الزَّنَادِقَة والملاحدة الَّذين أَنْكَرُوا الْبَعْث وَالْجَزَاء وَالْجنَّة وَالنَّار وتأولوا الرب جلّ جَلَاله وَجَمِيع أَسْمَائِهِ بامام الزَّمَان وسموه باسم الله تَعَالَى وفسروا لَا إِلَه إِلَّا الله أَي لَا إِمَام إِلَّا إِمَام الزَّمَان فِي زعمهم خذلهم الله تَعَالَى وتلعبوا بِجَمِيعِ آيَات كتاب الله عز وَجل فِي تَأْوِيلهَا جَمِيعًا بالبواطن الَّتِي لم يدل على شَيْء مِنْهَا دلَالَة وَلَا امارة وَلَا لَهَا فِي عصر السّلف الصَّالح اشارة وَكَذَلِكَ من بلغ مبلغهم من غَيرهم فِي تعفية آثَار الشَّرِيعَة ورد الْعُلُوم الضرورية الَّتِي نقلتها الامة خلفهَا عَن سلفها وَالله يحب الانصاف قطعا الْوَجْه الثَّامِن أَن الْخَطَأ لما كَانَ منقسما إِلَيّ مغْفُور قطعا كالخطأ فِي الاجتهاديات على الصَّحِيح وَغير مغْفُور قطعا كالخطأ فِي نفي الْبَعْث وَالْجنَّة وَالنَّار وَتَسْمِيَة الامام بأسماء الله تَعَالَى إِلَيّ غير ذَلِك ومختلف فِيهِ مُحْتَمل للالحاق بِأحد الْقسمَيْنِ نَظرنَا لأنفسنا فِي الاقدام على تَكْفِير أهل التَّأْوِيل من أهل الْقبْلَة وَفِي الْوَقْف عَنهُ عِنْد الِاشْتِبَاه فَوَجَدنَا الْوَقْف عَنهُ حِينَئِذٍ مَعَ تقبيح بدع المبتدعة لَا يحْتَمل أَن يكون كفرا وَلَا خطأ غير مَعْفُو عَنهُ لِأَنَّهُ لَا يدل على ذَلِك برهَان قَاطع وَلَا دَلِيل ظَاهر بل الْأَدِلَّة وَاضِحَة فِي الْعَفو حِينَئِذٍ على تَقْدِير الْخَطَأ كَمَا تقدم بَيَانه فِي الْوَجْه الرَّابِع وَأما الاقدام على التَّكْفِير فعلى تَقْدِير الْخَطَأ فِيهِ لَا نَأْمَن أَن يكون كفرا أَو خطأ غير مَعْفُو عَنهُ كخطأ الْخَوَارِج لوُرُود النُّصُوص الصَّحِيحَة الْكَثِيرَة بذلك وَعدم الْإِجْمَاع على تَأْوِيلهَا كَمَا تقدم فِي الْوَجْه الأول فَوَجَدنَا الْوَقْف حِينَئِذٍ أحوط للدّين وَالدَّار الْآخِرَة حَتَّى لَو قَدرنَا وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى أَن الْخَطَأ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ذَنْب غير مغْفُور لَكَانَ الْخَطَأ فِي الْوَقْف أَهْون من الْخَطَأ فِي التَّكْفِير وَفِي الحَدِيث والعقول دَلَائِل على ذَلِك كَثِيرَة وَلذَلِك قيل أَن للشر خيارا وَمِنْه قَوْلهم حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الْوَجْه التَّاسِع أَن الْوَقْف عَن التَّكْفِير عِنْد التَّعَارُض والاشتباه أولى وأحوط من طَرِيق أُخْرَى وَذَلِكَ أَن الْخَطَأ فِي الْوَقْف على تَقْدِيره تَقْصِير فِي حق من حُقُوق الْغَنِيّ الحميد الْعَفو الْوَاسِع أسمح الْغُرَمَاء وأرحم الرُّحَمَاء وَأحكم الْحُكَمَاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْخَطَأ فِي التَّكْفِير على تَقْدِيره أعظم الْجِنَايَات على عباده الْمُسلمين الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عَنْهُم وَقد روى فِي ذَلِك من حَدِيث أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَمن حَدِيث عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله أَنه قَالَ (الدَّوَاوِين عِنْد الله ثَلَاثَة ديوَان لَا يغفره الله وَهُوَ الشّرك بِاللَّه تَعَالَى وديوان لَا يتْركهُ وَهُوَ حُقُوق المخلوقين وديوان لَا يُبَالِي بِهِ وَهُوَ مَا بَينه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَين عَبده فالتارك للتكفير إِن قَدرنَا خطأه فانما أخل بِحَق من حُقُوق الله تَعَالَى وَهُوَ إِجْرَاء الاحكام عَلَيْهِم وَهُوَ هَهُنَا لم يتْركهُ إِلَّا لعدم شَرط جَوَازه وَهُوَ تحقق الْمُوجب لَهُ وَأما للكفر إِن قَدرنَا خطأه فقد أخل بِحَق الْمَخْلُوق الْمُسلم بل تعدى عَلَيْهِ وظلمه أكبر الظُّلم وأفحشه فَأخْرجهُ من الاسلام وَهُوَ يشْهد أَن لَا أَله إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن جَمِيع رسله وَكتبه وَمَا جَاءَ فِيهَا عَن الله عز وَجل حق لَا شكّ فِيهِ وَلَا ريب فِي شَيْء مِنْهُ على الْجُمْلَة وَإِنَّمَا أَخطَأ فِي بعض التفاصيل وَقد صرح بالتأويل فِيمَا أَخطَأ فِيهِ فان وصف الله بِوَصْف نقص فلاعتقاده أَنه وصف كَمَال وان نسب إِلَيْهِ قبحا فلاعتقاده أَنه حسن وان تعمد الْقَبِيح فِي ذَلِك فَمحل التعمد هُوَ الْقلب المحجوب عَنَّا سرائره وَالْحَاكِم فِيهِ علام الغيوب وَقد عوقبت الْخَوَارِج أَشد الْعقُوبَة وذمت أقبح الذَّم على تكفيرهم لعصاة الْمُسلمين مَعَ تعظيمهم فِي ذَلِك لمعاصي الله تَعَالَى وتعظيمهم لله تَعَالَى بتكفير عاصية فَلَا يأمل الْمُكَفّر أَن يَقع فِي مثل ذنبهم وَهَذَا خطر فِي الدّين جليل فَيَنْبَغِي شدَّة الِاحْتِرَاز فِيهِ من كل حَلِيم نبيل وَلأَجل هَذَا الْخطر عذر المتوقف فِي التَّكْفِير وَكَانَ هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقين كَمَا ذكره الْفَقِيه حميد وَاخْتَارَهُ فِي عُمْدَة المسترشدين بل كَمَا قَامَت عَلَيْهِ الدَّلَائِل والبراهين الْوَجْه الْعَاشِر أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام لم يكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أهل الْجمل وصفين لم يسر فيهم السِّيرَة فِي الْكَافرين مَعَ صِحَة قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله (لايحبك إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق) وَالْمُنَافِق إِذا أظهر النِّفَاق وَحَارب وَكَانَت لَهُ شَوْكَة جرت عَلَيْهِ أَحْكَام الْكفَّار بالاجماع بل قد صَحَّ أَن سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر فَكيف بِسَيِّد الْمُسلمين ومولاهم الامام بل خلاف بَينهم الْوَاجِب محبته وطاعته عَلَيْهِم وَفِي مُسْند أَحْمد عَن أم سَلمَة أَنَّهَا قَالَت أيسب رَسُول الله فِيكُم قيل لَهَا معَاذ الله قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من سبّ عليا فقد سبي رِجَاله رجال الْجَمَاعَة كلهم إِلَى أبي عبد الله الحدلي التَّابِعِيّ الرَّاوِي عَنْهَا وَهُوَ ثِقَة وَلم يكفرهم عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ هَذَا وَأَمْثَاله فَدلَّ ذَلِك على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعد عَن التَّكْفِير لأجل المعارضات الَّتِي أَشَرنَا اليها فِي حكم أهل الشَّهَادَتَيْنِ أَو فِيمَن قَامَ بأركان الاسلام ولجوازان يُرَاد كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وَهَذَا الْوَجْه مفارق للْوَجْه الأول الْمُتَعَلّق بالحوارج لِأَن النزاع فِي كفر الْخَوَارِج مُمكن أَو مَشْهُور وَأما هَؤُلَاءِ فَلَا خلاف بَين أهل النَّقْل وَالْبَصَر وبالتواريخ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سَار فيهم السِّيرَة فِي الْبُغَاة على إِمَام الْحق وَلم يسر فيهم السِّيرَة فِي أهل الْكفْر وَلِهَذَا قَالَ الامام أَبُو حنيفَة أَنه لَوْلَا سيرته عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك مَا عرفت أَحْكَام الْبُغَاة أَو كَمَا قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ فعله فيهم حجَّة على الْبعد عَن التَّكْفِير لِأَنَّهُ تَركه مَعَ وجود النُّصُوص الصَّحِيحَة بكفرهم ونفاقهم كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْحَدِيثين الشهيرين وشواهدهما بل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَعدل إِلَى تَرْجِيح معارضتهما وَلَا معنى للْعَبد عَن التَّكْفِير إِلَّا ذَلِك الْوَجْه الْحَادِي عشر أَنه قد يدق مُرَاد الْمُخَالف ويخفي جدا وَيحْتَمل الْوَقْف فيفسر بِمَا لم يَقْصِدهُ كَمَا تقدم فِي هَذَا الْمُخْتَصر فِي اخْتِلَاف النَّاس فِي تَحْقِيق فعل العَبْد إِلَى بضعَة عشر قولا أَكْثَرهَا غامضة وكما دق مَذْهَب الاشعرية فِي الرُّؤْيَة حَتَّى قَالَ الرَّازِيّ أَن مُرَادهم أَنه ينْكَشف لله تَعَالَى صفة فِي الْآخِرَة هِيَ بِالنِّسْبَةِ اليه كالرؤية بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره وَقد ينْقل عَنهُ مَا لم يقل لتوهم أَنه لَازم لَهُ وَلَيْسَ بِلَازِم كَمَا نسب تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الاشعري أَو لَازم وَلَكِن اللَّازِم الَّذِي لم يقل بِهِ بل تَبرأ مِنْهُ وَمن لُزُومه كَالَّذي قَالَه وَكم يخْتَلف أَتبَاع الْعَالم فِي كثير من مقاصده وَيلْزم مَا لم يَقْصِدهُ كَمَا يخْتَلف فِي كثير من الْآيَات وَالْأَحَادِيث وَقد تقدم هَذَا فِي سَبَب الابتداع فِي الدّين بتبديل الْعبارَات وَعَلِيهِ بنيت هَذَا الْمُخْتَصر فاذا تقرر هَذَا فَمن الْعجب تَكْفِير كثير مِمَّن لم يرسخ فِي الْعلم لكثير من الْعلمَاء وَمَا دروا حَقِيقَة مذاهبهم وَهَذِه هَذِه وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ الْوَجْه الثَّانِي عشر أَن فِي الحكم بتكفير الْمُخْتَلف فِي كفرهم مفْسدَة بَيِّنَة تخَالف الِاحْتِيَاط وَذَلِكَ اسقاط الْعِبَادَات عَنْهُم إِذا تَابُوا وَإِسْقَاط جَمِيع حُقُوق المخلوقين من الْأَمْوَال والدماء وَغَيرهمَا وَإِبَاحَة فروج نِسَائِهِم إِذا لم يتوبوا وَسَفك دِمَائِهِمْ مَعَ قيام الِاحْتِمَال بِشَهَادَة وجود الْمُخَالفين الجلة من أَئِمَّة الْملَّة وَوُجُود المعارضات الراجحة الْوَاضِحَة الادلة وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْه شيخ الاعتزال الْمَعْرُوف بمختار فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة من مسَائِل هَذَا الْبَاب فِي كِتَابه الْمُجْتَبى قَالَ فِيهِ وَعَن بعض السّلف أَنه كَانَ يكْتب فِي الْفَتْوَى فِي هَذَا لَا يكفر وغيري يخالفني الْوَجْه الثَّالِث عشر أَن الْخَطَأ فِي الْعَفو خير الْخَطَأ فِي الْعقُوبَة نَعُوذ بِاللَّه من الْخَطَأ فِي الْجَمِيع ونسأله الاصابة والسلامة والتوفيق وَالْهِدَايَة لَكنا وجدنَا الله تَعَالَى لم يذم من أَخطَأ فِي نَحْو ذَلِك أَلا ترَاهُ أثنى على خليه عَلَيْهِ السَّلَام حِين جادله فِي قوم لوط فَقَالَ {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} وَقَالَ عز وَجل فِيهِ بعد حكايته استغفاره لِأَبِيهِ {إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} وَإِنَّمَا كَانَ جداله واستغفاره فِيمَا يحْتَمل الْجَوَاز فِي شَرِيعَته لَا فِيمَا لَا يجوز بِالنَّصِّ فانه منزه عَن ذَلِك وَلَا فِيمَا يجوز بِالنَّصِّ فانه لَا يُعَاقب فِي ذَلِك وَلَا يحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار لَهُ فِيهِ وَنَحْو هَذَا من وَجه آخر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} وَصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله على عبد الله بن أبي بعد نزُول قَوْله تَعَالَى {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} وَقَوله فِي تَفْسِيرهَا ان الله خيرني وَلم ينهني وَلَو أعلم انه يغْفر لَهُم اذا زِدْت على السّبْعين لزدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 عَلَيْهَا وَثَبت انه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا خير بَين أَمريْن الا اخْتَار أيسرهما مَا لم يكن اثما وتواتر ذَلِك من اخلاقه الْكَرِيمَة كَمَا جمع فِي مُصَنف مُفْرد وَيشْهد لَهُ بذلك الْقُرْآن الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} هَذَا مَعَ انا نقف فِيمَن تفاحشت بدعته وقاربت الْكفْر وَلَا نواليه وَلَا ندعوا لَهُ بِالرَّحْمَةِ والمغفر الا بِشَرْط ان يكون من الْمُسلمين محاذرة من ان نوالي من هُوَ عَدو لله فِي الْبَاطِن وَقد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله بِنَحْوِ هَذَا فِي حَدِيث أهل الْكتاب لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم حذرا من تَكْذِيب الْحق وتصديق الْبَاطِل فنعوذ بِاللَّه من مُوالَاة أَعدَاء الله بل ننكر بدعهم وننهي عَنْهَا مَا استطعنا ونكرهها ونتبرأ مِنْهَا ونشهد الله تَعَالَى انا نعادي من عَادَاهُ علمناه أَو جهلناه فقد دلّ فِي الحَدِيث على نفع هَذَا الِاعْتِقَاد الْجملِي وَهُوَ حَدِيث زيد بن ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَفِيه (اللَّهُمَّ مَا صليت من صَلَاة فعلى من صليت وَمَا لعنت من لعنة فعلى من لعنت) رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم وقتال حَدِيث صَحِيح وَيشْهد لصِحَّته مَا تقدم عَن ابراهيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام من الْجِدَال عَن قوم لوط وَالِاسْتِغْفَار مِنْهُ لابيه وَلم يكن مُوالَاة مِنْهُ لَهُم وَلَا رضى بِذُنُوبِهِمْ وَلَا ذمّ بِهِ بل بَين الله تَعَالَى عذره فِي بعض ذَلِك وعده من سَعَة حلمه فِي بعضه وَهَذَا كُله فِي حق الْكَافرين وَأما أهل الاسلام الْمُؤمنِينَ الخاطئين فَلَا نَص على تَحْرِيم ذَلِك فيهم فِيمَا علمت وَيَنْبَغِي الِاشْتِرَاط فِيمَا شكّ فِيهِ من الدُّعَاء لبَعْضهِم ان يكون مُوَافقا لمراد الله تَعَالَى فِي الشَّرِيعَة النَّبَوِيَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فصل فِي الْفسق وَهُوَ أَقسَام بِاعْتِبَار الْعرف الاول وَالْآخر وَاسم الْفَاعِل وَاسم الْفِعْل وَبِاعْتِبَار التَّصْرِيح والتأويل فاما الْعرف الأول فِي اسْم الْفَاعِل فانه يدل ان الْفَاسِق من الْكفَّار من لَا حَيَاء وَلَا مُرُوءَة وَلَا عهد وَلَا عقد لَهُ كَمَا فسره بذلك الزَّمَخْشَرِيّ فِي بعض الْآيَات الدَّالَّة على ذَلِك فان الله تَعَالَى يَقُول فِي الْكفَّار من الْيَهُود وَغَيرهم {وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ} وَفِي بعض الْآيَات {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} كَمَا أوضحته فِي الاول من العواصم مَبْسُوطا بسطا شافيا زَائِدا على مَا يعْتَاد فِي ذَلِك من الْبسط وَأما بِاعْتِبَار اسْم الْفِعْل فَفِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر فِي أَحَادِيث كَثِيرَة مُتَّفق على صِحَّتهَا وَأما الْعرف الْمُتَأَخر فالفسق يخْتَص بالكبيرة من الْمعاصِي مِمَّا لَيْسَ بِكفْر وَالْفَاسِق يخْتَص بمرتكبها وَعند الْمُعْتَزلَة لَا يُسَمِّي كَافِرًا وَلَا مُؤمنا وَلَا مُسلما وَعند أهل الحَدِيث والاشعرية لَا يُسمى كَافِرًا وَأما اسْم الاسلام فان اعْتبرنَا تَمَامه وكماله لم نسمه مُؤمنا وَلَا مُسلما وان اعْتبرنَا أَقَله سميناه مُؤمنا وَمُسلمًا الا ان تَسْمِيَته مُسلما اعْتِبَارا بالاقل من مَرَاتِب الاسلام هُوَ الْعرف الاكثر بِخِلَاف تَسْمِيَته مُؤمنا وَفِي ذَلِك من الْآيَات وَالْأَحَادِيث مَا لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمُخْتَصر وَقد استوفيت الْكَلَام فِيهِ فِي مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد فِي آخر العواصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وَأما انقسام ذَلِك بِاعْتِبَار فسق التَّصْرِيح والتأويل فَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ أما فسق التَّصْرِيح فَلَا دَاعِي الى ذكره هُنَا وَهُوَ يرجع الى معرفَة الْكَبَائِر وَهِي منصوصة فِي أَحَادِيث كَثِيرَة وَفِي بَعْضهَا زِيَادَة على بعض وَقد جمعهَا ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى وَتكلم ابْن كثير على طرقها وَمِنْهُم من زَاد عَلَيْهَا مَا هُوَ أَكثر مِنْهَا قطعا عملا بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة الْمُسَمّى فحوى الْخطاب مِثَاله ان قتل الْمُؤمن كَبِيرَة بِالنَّصِّ فَأولى مِنْهُ بذلك دلَالَة الْكفَّار على نقب فِي مصر عَظِيم من أَمْصَار الْمُسلمين يدْخلُونَ مِنْهُ فيقتلون جَمِيع من فِيهَا ويستحلون الْمَحَارِم من النسوان وَالصبيان وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا قِسْمَانِ مِنْهُ مَا يكون مَعْلُوما كَمَا يعلم تَحْرِيم ضرب الْوَالِدين من تَحْرِيم التأفيف فَلَا يكون قِيَاسا وَمِنْه قِيَاس وَاخْتلف فِيمَا يكون قياسأ فاجازته طَائِفَة مِنْهُم الهدوية ففسقوا من غصب عشرَة دَرَاهِم قِيَاسا على من سَرَقهَا ومنعته طَائِفَة مِنْهُم الْمُؤَيد بِاللَّه عَلَيْهِ السَّلَام وَاحْتج عَلَيْهِم بالاجماع على ان الْغَاصِب لَا يقطع وَمِنْهُم من قَالَ الْكَبِيرَة مَا كَانَ فِيهِ حد من حُدُود الله تَعَالَى أَو قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ إِنَّه عَظِيم أَو كَبِير وَمِنْهُم من قَالَ مَا توعد الله عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ بِالْعَذَابِ وَأما فسق التَّأْوِيل فَهُوَ الَّذِي أردْت أَن أذكرهُ هُنَا وَاعْلَم ان مَا دخله التَّأْوِيل مِمَّا يتَعَلَّق بالكبائر وَلم يعلم انه مِنْهَا سوى قتل الْمُسلمين وقتالهم فانه يصير ظنا من الْفُرُوع الاجتهاديات عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء من الْفرق أَو عِنْد جَمِيعهم كالربويات الْمُخْتَلف فِيهَا والانكحة الْمُخْتَلف فِيهَا مِثَال ذَلِك وَأما قتل الْمُسلمين وقتالهم وَالْبَغي على أئمتهم العادلين فَاخْتلف فِيهِ فَقَالَت الشِّيعَة والمعتزلة لَا يعْذر الْمُجْتَهد ان أَخطَأ فِيهِ وَيكون فَاسق تَأْوِيل وَقيل يعْذر مثل التَّأْوِيل فِيمَا تقدم وَسبب الِاخْتِلَاف أَمْرَانِ أَحدهمَا تعَارض الْوَعيد على ذَلِك والوعد بِالْعَفو عَن أهل الْخَطَأ وَقد تقدم مَا فِي ذَلِك قَرِيبا فِي الْوَجْه الثَّالِث فِي الْكَلَام على تَكْفِير أهل التَّأْوِيل وَثَانِيهمَا اخْتلَافهمْ هَل يُوجد دَلِيل قَاطع شَرْعِي وَلَيْسَ بضروري من الدّين أم لَا وَمعنى ذَلِك أَن الْقطعِي الشَّرْعِيّ هُوَ الْمَعْلُوم لَفظه الْمَعْلُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 مَعْنَاهُ فَأَما الْعلم بِلَفْظِهِ فَلَا يكون إِلَّا ضَرُورِيًّا بالاجماع لانه نقل مَحْض مَا لم يبلغ مرتبَة الضَّرُورَة فِيهِ كَانَ ظنيا وَلَا وَاسِطَة فِيهِ بَين الضَّرُورَة وَالظَّن وفَاقا فالضرورة هُوَ التَّوَاتُر وَالظَّن آحَاد وان كثرت رُوَاته وَأما الْعلم بِمَعْنى الْقطعِي الشَّرْعِيّ فَهُوَ مَحل الْخلاف فَعِنْدَ الْمُعْتَزلَة وَكثير من الشِّيعَة يدْخلهُ الْقطع من غير ضَرُورَة وَعند الْمُخَالفين لَهُم انه رَاجع الى لنقل الْمَحْض إِمَّا عَن أهل اللُّغَة أَو عَن أهل الشَّرْع فَلَا يكون الا ضَرُورِيًّا فيكفر الْمُخَالف فِيهِ أَو ظنيا فيعذر وعضدوا هَذَا بِوُجُوه مِنْهَا قِيَاس الْقَتْل والقتال على سَائِر مَا تقدم مِمَّا يتَعَلَّق بالكبائر فان هَذَا حكمهَا عِنْد الْجَمِيع وَمِنْهَا قِيَاس ذَلِك على كَلَام الْعلمَاء فِي مسَائِل الْخلاف فِي الْقصاص فِي النُّفُوس كَالْحرِّ بِالْعَبدِ وَالذكر بالانثى وَالْقصاص بَين الْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالْخلاف فِي عمد الْخَطَأ وَكَذَلِكَ كَلَامهم فِي الْحُدُود الَّتِي يجب فِيهَا الْقَتْل أَو الْعَفو وَالْعقد الاجماع فِي ذَلِك كُله على عدم تأثيم الْمُخَالف مَعَ انه خلاف فِي سفك الدِّمَاء وَقتل الْمُؤمنِينَ بِالتَّحَرِّي للعدل الْمَأْمُور بِهِ لدفع الْفساد قَالُوا فَكَذَلِك من أَخطَأ من الْمُجْتَهدين فِي الْفِتَن وَهُوَ على هَذِه النِّيَّة وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} مَعَ أَحَادِيث خَاصَّة وَردت فِي الْخَطَأ فِي الْفِتَن بخصوصها وَفِي ذَلِك أَحَادِيث الاول عَن سعيد بن زيد أحد الْعشْرَة رَضِي الله عَنْهُم قَالَ كُنَّا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فَذكر فتْنَة عظم أمرهَا فَقُلْنَا أَو قَالُوا يَا رَسُول الله لَئِن أدركتنا هَذِه الْفِتْنَة لَنهْلكَنَّ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله كلا ان يحسكم الْقَتْل قَالَ سعيد فَرَأَيْت أخواني قتلوا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْفِتَن من كتاب السّنَن عَن مُسَدّد عَن أبي الاحوص سَلام ابْن سليم عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أحد أَئِمَّة الْكُوفَة عَن هِلَال بن يسَاف الاشجعي الْكُوفِي عَن سعيد بن زيد وَكلهمْ نبلاء ثِقَات من رجال البُخَارِيّ وَمُسلم وَسَائِر الْجَمَاعَة الا أَن البُخَارِيّ لم يخرج حَدِيث هِلَال ابْن يسَاف وَحده لغبر طعن فِيهِ فانه لم يذكر فِي الْمِيزَان وَرَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده بِإِسْنَاد آخر رِجَاله كُله ثِقَات الى هِلَال بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 يسَاف عَن سعيد وَلَفظه ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله فتنا كَقطع اللَّيْل المظلم أرَاهُ قَالَ قد يذهب فِيهَا النَّاس أسْرع ذهَاب قَالَ فَقيل أكلهم هَالك أم بَعضهم فَقَالَ حسبهم أَو بحسبهم الْقَتْل وَذكره الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد وَلَفظه فَقُلْنَا إِن أدركنا ذَلِك هلكنا فَقَالَ بِحَسب أَصْحَابِي الْقَتْل وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ باسانيد وَرِجَال أَحدهَا ثِقَات وَرَوَاهُ الْبَزَّار كَذَلِك الحَدِيث الثَّانِي عَن أم حَبِيبَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله انه قَالَ رَأَيْت مَا تلقى أمتِي بعدِي وَسَفك بَعضهم دِمَاء بعض فَسَأَلته أَن يؤتيني شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة فيهم فَفعل رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ فِي الاوسط ورجالهما رجال الصَّحِيح الا أَن رِوَايَة أَحْمد عَن انس عَن أم حَبِيبَة وَرِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس رَوَاهُ فِي مجمع الزَّوَائِد وَلم أَجِدهُ فِي جَامع ابْن الْجَوْزِيّ وَلكنه لَا يسْتَوْفى وَالله أعلم الحَدِيث الثَّالِث عَن طَارق بن أَشْيَم انه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله يَقُول بِحَسب أَصْحَابِي الْقَتْل الحَدِيث الرَّابِع عَن أبي بردة عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله انه قَالَ عُقُوبَة هَذِه الْأمة السَّيْف رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِرِجَال الصَّحِيح الحَدِيث الْخَامِس عَن أبي بردة عَن عبد الله بن زيد انه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول جعل الله عَذَاب هَذِه الْأمة فِي دنياهم الحَدِيث السَّادِس عَن معقل بن يسَار مَرْفُوعا نَحْو ذَلِك رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن عِيسَى الخزاز الحَدِيث السَّابِع عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث سعيد بن مسلمة الْأمَوِي وعضدوا هَذِه الْأَخْبَار بِمَا رَوَاهُ زيد بن أبي الزَّرْقَاء عَن جَعْفَر بن برْقَان عَن يزِيد بن الاصم قَالَ قَالَ عَليّ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 السَّلَام قتلاي وقتلى مُعَاوِيَة فِي الْجنَّة رَوَاهُ الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة مُعَاوِيَة من النبلاء وجعفر وَيزِيد من رجال مُسلم وَزيد من رجال النَّسَائِيّ قَالَ فِي الكاشف صَدُوق وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمِيزَان وَفِيه عَن ابْن معِين لَا بَأْس بِهِ وَلم يُورد فِيهِ جرحا الا قَول ابْن حبَان انه يغرب وَلَيْسَ ذَلِك بِجرح وَقَالَ فِيهِ انه صَدُوق مَشْهُور عَابِد وَإِن ابْن عمار قَالَ مَا رَأَيْت فِي الْفضل مثله وَمثل الْمعَافي وقاسم الْجرْمِي رَحِمهم الله تَعَالَى وَهَذَا من أحسن مَا فِي الْبَاب وانما أَخَّرته لانه مَوْقُوف وَمَعَ ذَلِك فَلهُ قُوَّة الْمَرْفُوع وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك عَنهُ وَمِنْه أَحَادِيث النَّهْي عَن مدافعة أهل التَّأْوِيل وَمِنْهَا اعْتِقَادهم أَن هَذِه الادلة أخص وَأَن ادلة الْمُعْتَزلَة والشيعة عَامَّة وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مَوضِع النزاع كَمَا سَيَأْتِي فِي ادلة الْمُعْتَزلَة فَيَنْبَغِي تَحْرِير النّظر فِيهِ لَان الْخَاص مقدم على الْعَام وَمِنْهَا عدم تَرْجِيح عدم التفسيق بالمرجحات الْمُتَقَدّمَة لعدم التَّكْفِير الحكم فِيهَا مُتَقَارب وان كَانَ التَّكْفِير أخطر وَقد نَص أَبُو ذَر رَضِي الله عَنهُ على رِوَايَة ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيثه الْمُتَقَدّم فَقَالَ من قَالَ لاخيه كَافِر أَو قَالَ عَدو الله وَلَيْسَ كَذَلِك الا حَار عَلَيْهِ مُتَّفق على صِحَّته كَمَا مضى وَأما الشِّيعَة والمعتزلة فاحتجوا على قَوْلهم بانواع من السّمع كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} وَأهل التَّأْوِيل من الْبُغَاة داخلون فِي هَذِه الْآيَة وان كَانَ سَبَب النُّزُول فِي المصرحين فِيمَا أَحسب فالآية عَامَّة عِنْد الشِّيعَة والمعتزلة أَو عِنْد أَكْثَرهم وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة موفوعا فِي الْفِتَن ليَأْتِيَن على النَّاس زمَان لَا يدْرِي الْقَاتِل فيمَ قتل وَلَا يدْرِي الْمَقْتُول فِي أَي شَيْء قتل قيل وَكَيف ذَاك قَالَ الْهَرج الْقَاتِل والمقتول فِي النَّار أخرجه مُسلم وَعَن عبد الله بن عَمْرو موفوعا سَتَكُون فتْنَة تستنظف الْعَرَب قتلاها فِي النَّار رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَمِنْهَا حَدِيث اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار قَالُوا يَا رَسُول الله هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول قَالَ انه كَانَ حَرِيصًا على قتل صَاحبه رَوَاهُ خَ وم ود وس من حَدِيث أبي بكرَة وس من حَدِيث أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 مُوسَى وَمِنْهَا أَحَادِيث سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر وَمِنْهَا أَحَادِيث لَا ترجعوا بعدِي كفرا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض وَمِنْهَا بَادرُوا بالاعمال فتنا يصبح الزجل فِيهَا مُؤمنا ويمسي كَافِرًا ويمسي مُؤمنا وَيُصْبِح كَافِرًا وَمِنْهَا وَهُوَ من أصرحهَا حَدِيث عمار وَهُوَ صَحِيح متواتر وَيْح عمار تقتله الفئة الباغية يَدعُوهُم الى الْجنَّة ويدعونه الى النَّار أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَاللَّفْظ لمُسلم وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامع المسانيد أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَكَذَلِكَ ابْن الْأَثِير فِي جَامع الاصول قَالَ الْحميدِي أخرجه كَذَلِك أَبُو بكر البرقاني وَأَبُو بكر الاسماعيلي قبله وَذكره ابْن حجر فِي قتال الْبُغَاة من تلخيصه عَن اثْنَي عشر صحابيا وَذكر عَن ابْن عبد الْبر انها تَوَاتَرَتْ بِهِ الاخبار وان أصح الحَدِيث وَعَن أَحْمد بن حَنْبَل انه رُوِيَ من ثَمَانِيَة وَعشْرين طَرِيقا وَذكر الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عمار من النبلاء كثيرا من طرقه وَحكم بِصِحَّتِهِ بل بتواتره وَذكر ان يَعْقُوب بن أبي شيبَة الامام الثِّقَة الْحَافِظ سمع أَحْمد بن حَنْبَل سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ فِيهِ حَدِيث صَحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى الذَّهَبِيّ مَعَ ذَلِك أَحَادِيث أخر قَاتل عمار وسالبه فِي النَّار بل ان الله يعادي عَدو عمار ويغضب لغضب عمار رَضِي الله عَنهُ وَحَدِيث عمار هَذَا من اعلام النُّبُوَّة الْكِبَار وَلذَلِك ذكره جُمْهُور من صنف فِي المعجزات النَّبَوِيَّة وَاحْتَجُّوا على انه مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ بَان مُعَاوِيَة وَأهل الشَّام حِين سَمِعُوهُ لم ينكروه وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي تَذكرته وَالْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث ان القَوْل بِمُقْتَضَاهُ اجماع أهل السّنة يَعْنِي ان من حَارب عليا عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ بَاغ عَلَيْهِ وانه عَلَيْهِ السَّلَام صَاحب الْحق فِي جَمِيع تِلْكَ الحروب وَمِنْهَا مَا ورد فِي تَخْصِيص قتل الْمُسلم وقتاله من الْوَعيد الشَّديد وان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ان الله أبي عَليّ فِي الْقَاتِل وَفِي حَدِيث ابْن عمر لَا يزَال الْمُؤمن فِي فسحة من دينه مَا لم يصب دَمًا حَرَامًا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَرُوِيَ من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت مَرْفُوعا من قتل مُؤمنا فاغتبط بقتْله لم يقبل الله مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا قَالَ د فِي حَدِيث عبَادَة عَن يحيى بن يحيى الغساني فِي معنى اغتبط بقتْله قَالَ الَّذين يُقَاتلُون فِي الْفِتْنَة فَيقْتل أحدهم فَيرى انه على هدى لَا يسْتَغْفر الله تَعَالَى يَعْنِي من ذَلِك وَالْأَخْبَار فِي ذَلِك أَكثر من أَن تحصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وَقد ذكرت فِي العواصم فِي مَسْأَلَة الْوَعيد أَحَادِيث كَثِيرَة رائعة فِي تَعْظِيم الْقَتْل وَذكرهَا هُنَا يخرجنا على معنى الِاخْتِصَار وَمِنْهَا وَهُوَ أقوى من هَذِه الْأَشْيَاء انه تَوَاتر عَن الصَّحَابَة انهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاغِي على أَخِيه الْمُسلم وعَلى امامه الْعَادِل انه عَاص آثم وَأَن التَّأْوِيل فِي ذَلِك مفارق للِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع فانهم لم يتعادوا على شَيْء من مسَائِل الْفُرُوع وتعادوا على الْبَغي وَكَذَلِكَ أَجمعت الْأمة على الِاحْتِجَاج بسيرة عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي قِتَالهمْ وَلَيْسَ الْمُجْتَهد المعفو عَنهُ يُقَاتل على اجْتِهَاده وَيقتل ويهدر دَمه وَأما الاحاديث الَّتِي تقدّمت فِي مُعَارضَة هَذِه فَلَا تبلغ مرتبتها فِي الصِّحَّة والشهرة وَلَو بلغت لم تعارضها فانها دَالَّة على اثم أهل الْفِتَن وانما فِيهَا انه خفف على هَذِه الْأمة عَذَابهَا فِي ذَلِك الذَّنب وَجعل عَذَابهَا بِالسَّيْفِ فِي دنياها وَهَذَا أولى أَن يكون حجَّة على تَحْرِيم ذَلِك وَعدم قبُول الِاجْتِهَاد فِيهِ فانه لَو قبل مِنْهُ لم يستحقوا عَلَيْهِ عذَابا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة بالاجماع بل يسْتَحقُّونَ عَلَيْهِ المثوبة وَالثنَاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأما الرَّجَاء والشفاعة للْمُسلمين فقد تقدم مَا فِيهِ من الْقُرْآن والتواتر الا فِي قَاتل الْمُؤمن مُتَعَمدا وَمِنْهَا ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمي فَسَاد ذَات الْبَين الحالقة تحلق الدّين لَا تحلق الشّعْر وَلَو كَانَ الِاجْتِهَاد فِيهَا سائغا لم يَصح ذَلِك وَمِنْهَا أَن الْفَرِيقَيْنِ اجْتَمعُوا على تهليك الْخَوَارِج والنصوص دلّت على ذَلِك فان قيل انما هَلَكُوا بِمُجَرَّد اعْتِقَادهم التَّكْفِير قيل لَا سَبِيل الى الْقطع بذلك بل قد ورد مَا يدل على ان الْقَتْل أعظم من التَّكْفِير وَذَلِكَ حَدِيث ثَابت بن الضَّحَّاك مَرْفُوعا وَفِيه وَمن قذف مُؤمنا بِكفْر فَهُوَ قَاتله وَتقدم القَوْل فِي صِحَّته وشواهده كَثِيرَة قَالُوا وَأما أَحَادِيث النَّهْي عَن دفاع المتأولين فَلَيْسَ الْعلَّة فِيهَا قبُول اجتهادهم أَلا ترَاهُ يَقُول فِيهَا كن كخير ابْني آدم يبوء باثمة واثمك فَيكون من أَصْحَاب النَّار رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي بكرَة وَلم يكن ابْن آدم الْقَاتِل لِأَخِيهِ معفوا عَنهُ وَالله تَعَالَى يَقُول عَن أَخِيه {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ) بل هَذَا من أخص أَدِلَّة الْمُعْتَزلَة وأقواها لانه فِي أهل التَّأْوِيل بالِاتِّفَاقِ والاثم مَنْصُوص وَقد جود ابْن جرير الطَّبَرِيّ الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل وَنَقله ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ وَأما قَوْله {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} وَحَدِيث كل ذَنْب عَسى الله أَن يغفره الا الرجل يقتل الْمُؤمن مُتَعَمدا فَالْمُرَاد الِاحْتِرَاز من خطأ الْيَد لَا خطأ الاستحلال بِدَلِيل مَا ذَكرْنَاهُ وبدليل سِيَاق الْآيَات من أَولهَا فِي قتل الْخَطَأ وَكَلَام الْمُعْتَزلَة مَعَ كَثْرَة شواهده غير نَص فِي مَحل النزاع فانه يُمكن أَن يكون هَذَا الْوَعيد بالنَّار فِي الْفِتَن مُخْتَصًّا بالفتن الَّتِي الدَّاعِي اليها هُوَ الْهوى وَالْكبر وَحب الرياسة والمنافسة فِي الدُّنْيَا بل هُوَ الظَّاهِر فِي كثير من الْأَحَادِيث وَمن أَحْوَال أهل تِلْكَ الْفِتَن وَلَو اجتهدوا لعرفوا الْحق لاهله ومنتهى الامر ان يؤديهم الِاجْتِهَاد الى الْوَقْف وروى الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك فِي مَنَاقِب عمار والذهبي فِي النبلاء فِي مناقبه أَيْضا عَن ابْن عمر مَا يدل على ذَلِك وانما الْكَلَام مَفْرُوض فِيمَن وَفِي الِاجْتِهَاد حَقه وَلذَلِك أَجمعت الْأمة على الْعَفو عَن الْمُجْتَهدين من أَئِمَّة الْعلم فِي معرفَة أَحْكَام الدِّمَاء وَالْقَتْل فِي الْحُدُود وَالْقصاص فِي مسَائِل الْفُرُوع الْمُخْتَلف فِيهَا الْمَعْمُول فِيهَا بأقوالهم كالخلاف فِي قتل تَارِك الصَّلَاة وَقتل الْحر بِالْعَبدِ وَنَحْو ذَلِك حَيْثُ لم يكن الْهَوِي سَبَب اخْتلَافهمْ وَظهر مِنْهُم التَّحَرِّي فِي الصَّوَاب وبذل الْجهد فِي تعرفه وتوفية الِاجْتِهَاد حَقه وَهَذَا زبدة مَا عَرفته من أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ على جِهَة الاشارة وَالله الْهَادِي والموفق الى الصَّوَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 خَاتِمَة فِي حب من أحبه الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمر بحبه من الْقَرَابَة وَالصَّحَابَة وَقد دلّت النُّصُوص الجمة المتواترة على وجوب محبتهم وموالاتهم وَأَن يكون مَعَهم فَفِي الصَّحِيح (لَا تدْخلُوا الْجنَّة حَتَّى تؤمنوا وَلَا تؤمنوا حَتَّى تحَابوا وَفِيه الْمَرْء مَعَ أحب) وَمِمَّا يخص أهل بَيت رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} كَمَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَقَوله تَعَالَى {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} كَمَا روى تَفْسِيرهَا مَرْفُوعا امام أهل الحَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل والملا فِي سيرته وَالطَّبَرَانِيّ فِي معجمعه الْكَبِير والاوسط من حَدِيث حبر الامة وبحرها عبد الله بن الْعَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا ويعضد ذَلِك من كتاب الله تَعَالَى قَوْله عز وَجل {ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ} وَقَوله تَعَالَى {وَكَانَ أَبوهُمَا صَالحا} واجماع الامة وتواتر الاخبار بشرع الصَّلَاة عَلَيْهِم فِي تشهد الصَّلَاة واختصاصهم بِهِ أَو بالاجماع على دُخُولهمْ فِيهِ فَيجب لذَلِك حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم وَالِاعْتِرَاف بمناقبهم فانهم أهل آيَات المباهلة والمودة والتطهير وَأهل المناقب الجمة وَالْفضل الشهير وَقد ذكر مناقبهم امام أهل الحَدِيث وَالسّنة فِي عصره الْمُحب الطَّبَرِيّ وصنف فِي ذَلِك كِتَابه ذخائر العقبى فِي مَنَاقِب ذَوي الْقُرْبَى وَيَا لَهُ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 كتاب وَافق اسْمه مُسَمَّاهُ وَصدق لَفظه وَمَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ دلّت النُّصُوص المتواترة على وجوب حب أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَرَضي الله عَنْهُم وأرضاهم وتعظيمهم وتكريمهم واحترامهم وتوقيرهم وَرفع مَنْزِلَتهمْ والاحتجاج باجماعهم والاستنان بآثارهم واعتقاد مَا نطق بِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم وَالذكر الْحَكِيم من انهم خير أمة أخرجت للنَّاس وَفِيهِمْ يَقُول الله تَعَالَى {وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} الْآيَة وَفِي تَعْظِيم حق أهل الْبَيْت يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سِتَّة لعنتهم لعنهم الله وَذكرهمْ الي أَن قَالَ والمستحل من عِتْرَتِي لما حرم الله تَعَالَى رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَفِي تَعْظِيم حق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اذا سَمِعْتُمْ من يلعن أَصْحَابِي فَقولُوا لعنة الله على شركم) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَكَذَلِكَ يجب حب الْمُؤمنِينَ عُلَمَائهمْ وعامتهم ونصيحتهم واكرامهم لما ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لاخيه الْمُؤمن مَا يحب لنَفسِهِ وَقد تقدم فِي مَسْأَلَة الْوَعْد والوعيد فَوَائِد تعلق بِحكم الخالطين من الْمُسلمين وخصوص الْمُؤمنِينَ والتحذير من مشاحنتهم واضمار الغل لَهُم والمحافظة على ذَلِك والتواصي بِهِ على مُقْتَضى مَا وصف الله تَعَالَى بِهِ الْمُؤمنِينَ من التواصي بِالْحَقِّ وَالصَّبْر والمرحمة جعلنَا الله من العاملين بذلك وَهُوَ الْهَادِي لَا اله الا هُوَ نعم الْمولى وَنعم النصير لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل والاولى لكل حَازِم أَن يشْتَرط فِي كل مَا يَعْتَقِدهُ من المشكلات الْمُخْتَلف فِيهَا ان يكون مُوَافقا لما هُوَ الْحق عِنْد الله تَعَالَى وَأَن لَا يكون فِيهِ مُخَالفَة لشَيْء من كتب الله تَعَالَى وَلَا لما جَاءَت بِهِ رسل الله تَعَالَى عَلَيْهِم أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وان كَانَ الْوَقْف حَيْثُ يجوز أحزم وَأسلم فان الْعِصْمَة مُرْتَفعَة والثقة بالفهم أَو الانصاف غير مُفِيد للْعلم الضَّرُورِيّ بالسلامة من ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وَقد ورد فِي الحَدِيث مَا يدل على نفع ذَلِك كَمَا تقدم فِي حَدِيث زيد بن ثَابت فِي آيَة آخر مَسْأَلَة التَّكْفِير والتفسيق وَلَو لم يكن الا ان هَذَا الِاشْتِرَاط آخر مَا فِي الوسع من طلب النجَاة وَأَنا أشهد الله عز وَجل بأني مشترط لذَلِك فِي كل مَا يحسن مني اشْتِرَاطه فِيهِ ويكون أحوط لي فِي ديني وَأقرب الى رضوَان رَبِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ اخْتِيَار الْوَقْف فِي المشكلات الْمُخْتَلف فِيهَا حَيْثُ لَا يجب الْقطع بِأحد الِاحْتِمَالَيْنِ تقبل الله ذَلِك مني وثبتني وهداني وَلَا وكلني الى نَفسِي طرفَة عين وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت واليه أنيب وَهَذَا آخر هَذَا الْمُخْتَصر الْمُبَارك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْكَلَام فِي الْخلَافَة ومناقب الْقَرَابَة وَالصَّحَابَة فَلَا يَتَّسِع لَهُ هَذَا الْمُخْتَصر فان الْكَلَام فِيهِ كثير جدا وإفراده بمجلد يحِق لَهُ بل يقل لَهُ عِنْد من يعرف مَا ورد فِي ذَلِك وَمَا قَالَه أهل الْعلم فِيهِ وَإِنَّمَا أوردت فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَا يصلح أَن يكون مُقَدّمَة من مُقَدمَات تَفْسِير كتاب الله تَعَالَى كَمَا ذكرته فِي هَذَا الْمُخْتَصر من أَنْوَاع التَّفْسِير مِنْهُ فِي النَّوْع الأول مِنْهَا وَالله تَعَالَى يتَقَبَّل مني مَا وهب من ذَلِك ويبارك فِيهِ رَبنَا تقبل منا انك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم فانما الْبركَة وَالْخَيْر كُله بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْه وَبِه وَله فَلهُ الْحَمد كُله كَمَا يَنْبَغِي لكريم وَجهه وَله الشُّكْر وَله الثَّنَاء لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أثنى على نَفسه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثمَّ اني أختم هَذَا الْمُخْتَصر الْمُبَارك باني أسْتَغْفر الله وأسأله التجاوز عني والمسامحة فِي كل مَا أَخْطَأت فِيهِ من هَذَا الْمُخْتَصر وَغَيره فَانِي مَحل الْخَطَأ والغلط وَالْجهل وَأَهله وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل الْمَغْفِرَة وَالسعَة والمسامحة والغنى الْأَعْظَم والكريم الأكرم عَن مضايقة الْمَسَاكِين والجاهلين اذ كَانَ تَعَالَى عز وَجل غَنِيا عَن عرفان العارفين غير متضرر بِجَهْل الْجَاهِلين وَآخر كَلَامي كَاف لَهُ أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله الطاهرين الطيبين وَصَحبه الرَّاشِدين وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418