الكتاب: مشكل الحديث وبيانه المؤلف: محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر (المتوفى: 406هـ) المحقق: موسى محمد علي الناشر: عالم الكتب - بيروت الطبعة: الثانية، 1985م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- مشكل الحديث وبيانه ابن فُورَك الكتاب: مشكل الحديث وبيانه المؤلف: محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر (المتوفى: 406هـ) المحقق: موسى محمد علي الناشر: عالم الكتب - بيروت الطبعة: الثانية، 1985م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله المتفضل بنعمه المتطول بأياديه ومننه الَّذِي خص من شَاءَ بهدايته من غير حَاجَة ومنعها من شَاءَ من غير نقص وَلَا آفَة أوجد الْمَخْلُوقَات بقدرته وأتقنها بِعِلْمِهِ ودبرها على حسب إِرَادَته ومشيئته ودلت بدائعه على حكمته وَشهِدت صنائعه بعزته وعظمته فَكل مفطور شَاهد بوحدانيته وكل مَخْلُوق دَال على إلاهيته وربوبيته متوحد بِصِفَات الْعُلُوّ والتوحيد والتعظيم فِي أزله مُنْفَرد بأسمائه فِي قدسه مقدس عَن الْحَاجَات مبرأ عَن العاهات منزه عَن وُجُوه النَّقْص والآفات متعال عَن أَن يُوصف بالجوارح والآلات والأدوات والسكون والحركات والدواعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والخطرات بل هُوَ الْأَعْلَى عَن جَمِيع من فِي الأَرْض وَالسَّمَوَات لَا يَلِيق بِهِ الْحُدُود والنهايات وَلَا يجوز عَلَيْهِ الألوان والمماسات وَلَا يجْرِي عَلَيْهِ الْأَزْمَان والأوقات وَلَا يلْحقهُ النقائض والزيادات مَوْجُود بِلَا حد مَوْصُوف بِلَا كَيفَ مَذْكُور بِلَا أَيْن معبود بِلَا شبه لَا تتصوره الأوهام وَلَا تقدره الأفهام وَلَا يُحِيط بكنه عَظمته الدَّلَائِل والأعلام خلق مَا خلق أنواعا مُتَفَرِّقَة وأجناسا متفقة فَدلَّ بهَا أولي الْأَلْبَاب على أَنه خَارج عَن كل نوع وجنس بعيد عَن مشابهة كل شَيْء بشكل وشكل ونحمده على نعمه عودا وبدءا ونشكره على فواضله أَولا وآخرا ونستعصمه من الْخَطَأ والزلل ونستوقفه لأَرْشَد القَوْل وَالْعَمَل ونستعينه على إتْمَام مَا ابْتَدَأَ بِهِ من فَضله وَرَحمته ونشهد لَهُ بِالتَّوْحِيدِ والتفرد بإنشاء المخترعات على اختلافها نفعا وضرا وَعَطَاء ومنعا وَخيرا وشرا وَأَن جَمِيع ذَلِك الْعدْل من فَضله والقسط من تَقْدِيره وتدبيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وصفوته وَخيرته أرْسلهُ بِالْحَقِّ إِلَى الْخلق بشيرا وَنَذِيرا صَادِقا أَمينا فَقطع بِهِ الْعذر وأكمل الْحجَّة وَختم الرسَالَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة وعَلى النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ وَالْمَلَائِكَة المقربين وعَلى جَمِيع المطيعين لَهُ عَامَّة وَسلم تَسْلِيمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فصل أما بعد فقد وفقت أسعدكم الله بمطلوبكم ووفقنا الْإِتْمَام بِمَا ابتدأنا بِهِ على تحري النصح وَالصَّوَاب إِلَى إملاء كتاب نذْكر فِيهِ مَا اشْتهر من الْأَحَادِيث المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يُوهم ظَاهره التَّشْبِيه مِمَّا يتسلق بِهِ الْمُلْحِدُونَ على الطعْن فِي الدّين وخصوا بتقبيح ذَلِك الطَّائِفَة الَّتِي هِيَ الظَّاهِرَة بِالْحَقِّ لِسَانا وبيانا وقهرا وعلوا وإمكانا الطاهرة عقائدها من شوائب الأباطيل وشوائب الْبدع والأهواء الْفَاسِدَة وَهِي الْمَعْرُوفَة بِأَنَّهَا أَصْحَاب الحَدِيث وهم فرقتان 1 - فرقة مِنْهَا هِيَ أهل النَّقْل وَالرِّوَايَة الَّذين تشتد عنايتهم بِنَقْل السّنَن وتتوفر دواعيهم على تَحْصِيل طرقها وَحصر أسانيدها والتمييز بَين صحيحها وسقيمها فيغلب عَلَيْهِم ذَلِك ويعرفون بِهِ وينسبون إِلَيْهِ 2 - وَفرْقَة مِنْهُم يغلب عَلَيْهِم تَحْقِيق طرق النّظر والمقاييس والإبانة عَن تَرْتِيب الْفُرُوع على الْأُصُول وَنفي شبه الملبسين عَنْهَا وإيضاح وُجُوه الْحجَج والبراهين على حقائقها الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فالفرقة الأولى للدّين كالخزنة للْملك والفرقه الْأُخْرَى كالبطارقة الَّتِي تذب عَن خَزَائِن الْملك الْمُعْتَرض عَلَيْهَا والمتعرضين لَهَا وذكرتم أَن أهل الْبدع من أَصْحَاب الْأَهْوَاء الْفَاسِدَة العادلة لَهُ من مناهج الْكتاب وَالسّنة نَحْو الْجَهْمِية والمعتزلة والخوارج والرافضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والجسمية وَمن ناصب هَذِه الْفرْقَة بالعدواة من سَائِر أهل الْأَهْوَاء الْبَاطِلَة تقصد دَائِما تهجين هَذِه الْعِصَابَة بِنَقْل أَمْثَال هَذِه الْأَخْبَار وتروم بذلك التلبيس على الضُّعَفَاء لتوهمهم أَنَّهَا تنقل مَالا يَلِيق بِالتَّوْحِيدِ وَلَا يَصح فِي الدّين وتظن أَن هَذِه الْفرْقَة احتملت ذَلِك لإعتقادها حقائق مَعَاني هَذِه الْأَلْفَاظ على حسب الْمَعْهُود من أَحْوَال الْخلق الْمَعْرُوف من صفاتهم وجوارحهم وأدواتهم واشتغلت بذلك وَهِي ذَاهِبَة عَن مَعَانِيهَا غافلة عَن الْمَقَاصِد فِيهَا فرمتها بِكفْر التَّشْبِيه وبفعلة أهل الْإِلْحَاد والتعطيل جاهلة أَنَّهَا إِنَّمَا نقلت مَا وعت عَن رسولها وروت مَا سَمِعت عَن الْعُدُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد اعتقدت أصُول الدّين وحقائق التَّوْحِيد بدلائل الْعُقُول والسمع فروت ذَلِك على مُوَافقَة أُصُولهَا ومعاضدة مَا شهِدت الْبَرَاهِين بِصِحَّتِهَا وَإِنَّمَا حمل هَؤُلَاءِ المبتدعة على هَذَا التهجين وَالْإِنْكَار على هَذِه الطَّائِفَة بِنَقْل مَا نقل من ذَلِك مَا حمل الملحدة والمعطلة على إِنْكَار كتاب الله تَعَالَى اعتراضا مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عَلَيْهِ بِذكر بعض مَا ذهبت عَن معرفه مَعَانِيهَا وخفائها من آيَاته المتشابهة وَذَلِكَ أَن آي الْكتاب قِسْمَانِ فقسم هُوَ مُحكم تَأْوِيله بتنزيله يفهم المُرَاد مِنْهُ بِظَاهِرِهِ وذاته وَقسم لَا يُوقف على مَعْنَاهُ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الْمُحكم وانتزاع وَجه تَأْوِيله مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فَكَذَلِك أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَارِيَة هَذَا المجرى ومنزلة على هَذَا التَّنْزِيل فَمِنْهَا الْكَلَام الْبَين المستقل فِي بَيَانه بِذَاتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وَمِنْهَا المفتقر فِي بَيَانه إِلَى غَيره وَذَلِكَ على حسب عَادَة الْعَرَب فِي خطابها وَعرف أهل اللُّغَة فِي بَيَانهَا إِذْ لم يكن كل خطابهم جليا بَينا مستغنيا عَن بَيَان وَتَفْسِير وَلَا كُله خفِيا مستحيلا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَتَفْسِير من غَيره فَإِذا كَانَت دَلَائِل الْعقل الله تَعَالَى على مَا فطر عَلَيْهَا الْعُقُول منقسمة فَكَذَلِك دَلَائِل السّمع منقسمة وكما لم يعْتَرض مَا خَفِي من دَلَائِل على مَا تجلى مِنْهَا حَتَّى يسْقط دَلَائِل الْعُقُول راسا فَكَذَلِك مَا خَفِي من دَلَائِل السّمع لَا يعْتَرض على مَا تجلى مِنْهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الله عز وَجل أَن يرفع الَّذين أُوتُوا الْعلم بخصائص رَفعه ودرجات فِيهَا يبين حَالهم بهَا عَمَّن لم ينعم عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا فَإِذا كَانَت دَلَائِل الْعُقُول صَحِيحَة مَعَ تفاوتها فِي الْجَلِيّ والخفي عِنْد أَكثر الملحدة فَكَذَلِك دَلَائِل الله عز وَجل فِيمَا دلّت عَلَيْهِ من الْأَحْكَام والأوصاف ونعوت الْخَالِق والخلق وَكَذَلِكَ كَون تنويع دَلَائِل السّمع الَّذِي هُوَ السّنَن متنوعة لَا يُبْطِلهَا جهل الْجَاهِل بمعانيها وَهَذِه الْمُقدمَة تكشف لَك عَن جَهَالَة المبتدعة فِي إعتراضهم أهل النَّقْل عَن أَصْحَابنَا فِي نقل هَذِه الْأَخْبَار فتوضح لَك أَن قَود هَذِه الْمقَالة يجر الْقَائِل بِهِ وَالْقَائِل لَهُ إِلَى أبطال الْكتاب بِمثل مَا أبطل بِهِ السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَإنَّهُ مَتى زعم أَن للآي المتشابهة الَّتِي وَردت فِي الْكتاب معنى وطرقا من جِهَة اللُّغَة تنزل عَلَيْهَا وتصحح بهَا من حَيْثُ لَا يُؤَدِّي إِلَى شُبْهَة وَلَا إِلَى تَعْطِيل فَكَذَلِك سَبِيل هَذِه الْأَخْبَار والتطرق إِلَى تَنْزِيل مَعَانِيهَا وَتَصْحِيح وجوهها على الْوَجْه الَّذِي يخرج عَن التَّشْبِيه والتعطيل كَذَلِك لم يبْق إِلَّا أَن هَؤُلَاءِ المبتدعة إِنَّمَا تقصد بِهَذَا التهجين الْكَشْف مِمَّا تستره من العقائد الردية فِي هَذِه الطَّائِفَة الطاهرة الَّتِي هِيَ بِالْحَقِّ ظَاهِرَة سَبِيل اعْتِرَاض الملحدة أجاوبني وَأما مَا كَانَ من نوع الْآحَاد مِمَّا صحت الْحجَّة بِهِ من طَرِيق وثَاقه النقلَة وعدالة الروَاة وإتصال نقلهم فَإِن ذَلِك وَإِن لم يُوجب الْعلم وَالْقطع فَإِنَّهُ يَقْتَضِي غَالب ظن وتجويز حكم حَتَّى يَصح أَن يحكم أَنه من بَاب الْجَائِز الْمُمكن دون المستحيل الْمُمْتَنع وَإِذا كَانَت ثَمَرَة مَا جرى هَذَا المجرى من الْأَخْبَار مَا ذَكرْنَاهُ فقد حصلت بِهِ فَائِدَة عَظِيمَة لَا يُمكن التَّوَصُّل إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون الإشتغال بتأويله وأيضاح وَجهه مُرَتبا على مَا يَصح وَيجوز فِي أَوْصَافه جلّ ذكره مَحْمُولا على الْوَجْه الَّذِي نبينه من غير اقْتِضَاء تَشْبِيه أَو إِضَافَة إِلَى مَا لَا يَلِيق بِاللَّه جلّ ذكره إِلَيْهِ فعلى ذَلِك تجْرِي مَرَاتِب هَذِه الْأَخْبَار وطرق تَأْوِيلهَا فاعلمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ذكر خبر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَهُوَ حَدِيث الصُّورَة وَبَيَان تَأْوِيله فَمن أَقسَام الرُّتْبَة الأولى من هَذِه الْأَخْبَار مِمَّا يدْخل فِي بَاب المستفيض الَّذِي تَلقاهُ أهل الْعلم بِالْقبُولِ وَلم يُنكره مِنْهُم مُنكر وَهُوَ حَدِيث الصُّورَة وَقد رُوِيَ ذَلِك على وَجْهَيْن فِي بعض الْأَخْبَار وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله خلق آدم على صورته وَلَا خلاف بَين أهل الْعلم وَالنَّقْل فِي صِحَة ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَقد رُوِيَ أَيْضا إِن الله خلق آدم على صُورَة الرَّحْمَن وَأهل النَّقْل أَكْثَرهم على إِنْكَار ذَلِك وعَلى أَنه غلط وَقع من طَرِيق التَّأْوِيل لبَعض النقلَة فَتوهم أَن الْهَاء يرجع إِلَى الله تَعَالَى فَنقل على الْمَعْنى على مَا كَانَ عِنْده فِي أَن الْكِنَايَة ترجع إِلَى الله تَعَالَى وَقد رُوِيَ فِي بعض أَحَادِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَفِي حَدِيث أم الطُّفَيْل وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِطْلَاق لفظ الصُّورَة على وَجه آخر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة // أخرجه التِّرْمِذِيّ // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بَيَان تَأْوِيل ذَلِك فَأَما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام خلق آدم على صورته فقد تَأَوَّلَه المتأولون من أهل الْعلم على وُجُوه كَثِيرَة سنذكرها ثمَّ نزيد فِيهَا مَا وَقع لنا فِي تَأْوِيله مِمَّا يُوَافق تأويلهم وَبَين خطأ من ذهب عَن وَجهه الصَّوَاب فِي تَأْوِيله وَأظْهر وُجُوه التَّأْوِيل فِي ذَلِك وَمِمَّا قيل إِن هَذَا الْخَبَر خرج على سَبَب وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِرَجُل يضْرب ابْنه أَو عَبده فِي وَجهه لطما وَيَقُول قبح الله وَجهك وَوجه من أشبه وَجهك فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ضرب أحدكُم عَبده فليتق الْوَجْه فَإِن الله خلق آدم على صورته // أخرجه البُخَارِيّ // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَقد نقل الناقلون هَذِه الْقِصَّة مَعَ هَذِه اللَّفْظَة من الطّرق الصَّحِيحَة وَإِنَّمَا ترك بعض الروَاة بعض الْخَبَر إختصارا على مَا يذكر مِنْهُ للدلالة على مَا يحذف إِذا كَانَت الْقِصَّة عِنْده مَشْهُورَة مضبوطة بِنَقْل الْإِثْبَات لِأَن أَكثر الْغَرَض عِنْدهم الْأَسَانِيد دون الْمُتُون فَلذَلِك ترك بَعضهم ذكر السَّبَب فِيهِ فَالْأولى أَن يحمل الْمُخْتَصر من ذَلِك على الْمُفَسّر حَتَّى يَزُول الْإِشْكَال وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ سَمعه يَقُول قبح الله وَجهك وَوجه من أشبه وَجهك وَذَلِكَ سبّ للأنبياء وَلِلْمُؤْمنِينَ فزجره عَن ذَلِك وَخص آدم بِالذكر لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابتدئت خلقَة وَجهه على الْحَد الَّذِي يحتذى عَلَيْهَا من بعده كَأَنَّهُ ينبهه على أَنَّك قد سببت آدم وَمن ولد مُبَالغَة فِي الردع لَهُ عَن مثله وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهَذَا وَجه ظَاهر وَالْهَاء كِنَايَة عَن الضَّرْب فِي وَجهه وَلَا شُبْهَة فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَالْوَجْه الآخر مِمَّا تَأَوَّلَه عَلَيْهِ النَّاس أَن الْكِنَايَة فِي قَوْله صورته ترجع إِلَى آدم وَذَلِكَ يَنْقَسِم إِلَى وُجُوه أَحدهَا أَن يكون مَعْنَاهُ وَفَائِدَة تعريفنا نعْمَة الله تَعَالَى على أَبينَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَن فَضله بِأَن خلقه بِيَدِهِ وَأَسْكَنَهُ جنته وأسجد لَهُ مَلَائكَته وَعلمه مَا لم يُعلمهُ أحدا قبله من الْأَسْمَاء والأوصاف ثمَّ عَصَاهُ وَخَالفهُ فَلم يُعَاقِبهُ على ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بِسَائِر مَا عاقب بِهِ الْمُخَالفين لَهُ فِي نَحوه وَذَلِكَ أَنه رُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه أخرج آدم من الْجنَّة وَأخرج مَعَه الْحَيَّة والطاووس فعاقب الْحَيَّة بِأَن شوه خلقهَا وسلبها قَوَائِمهَا وَجعل أكلهَا من التُّرَاب وشوه رجْلي الطاووس وَلم يشوه خلقَة آدم بل أبقى لَهُ حسن الصُّورَة وَلم يَجْعَل عُقُوبَته فِي ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فَعرفنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَن أَبَاكُم آدم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي الْجنَّة على الصُّورَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا لم يُغير الله خلقته وَتَكون فَائِدَة ذَلِك تعريفنا الْفرق بَينه وَبَين سَائِر من أخرجه من الْجنَّة مَعَه وإبانته مِنْهُم فِي الرُّتْبَة والدرجة وَهَذِه فَائِدَة لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهَا إِلَّا بِخَبَر الصَّادِق وَالْوَجْه الثَّانِي من ذَلِك إِذا قُلْنَا إِن الْهَاء يرجع إِلَى آدم فسبيله أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أفادنا إبِْطَال قَول أهل الذِّمَّة أَنه لم يكن إِنْسَان إِلَّا من نُطْفَة وَلَا نُطْفَة إِلَّا من إِنْسَان فِيمَا مضى وَيَأْتِي لَيْسَ لذَلِك أول وَلَا آخر وَأَن النَّاس إِنَّمَا ينتقلون من نشوء على تَرْتِيب مُعْتَاد وَإِن كَانَ ذَلِك أبدا كَانَ كَذَلِك فَعرفنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتكذيبهم وَأَن أول الْبشر آدم عَلَيْهِ السَّلَام خلق على صورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وعَلى الْهَيْئَة الَّتِي شوهد عَلَيْهَا من غير أَن كَانَ من نُطْفَة قبله أَو عَن تناسل أَو تنقل من صغر إِلَى كبر كالمعهود من أَحْوَال أَوْلَاده فَأَما مَا دلّت عَلَيْهِ دَلَائِل الْعُقُول من كَون هَذَا الْعَالم ذَا ابْتِدَاء وإنتهاء وَأفَاد بِهِ مَا لَا يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ إِلَّا أَن الأَصْل الَّذِي هُوَ مِنْهُ توالدنا لم يكن عَن توالد قبله بل خلق كَمَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام خلقه الله عز وَجل من صلصال كالفخار ثمَّ خلق فِيهِ الرّوح وَلم يكن قطّ فِي صلب وَلَا رحم وَلَا كَانَ علقَة وَلَا مُضْغَة وَلَا مراهقا وَلَا طفْلا بل خلق ابْتِدَاء بشرا سويا كَمَا شوهد // أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وعهد وَالْوَجْه الثَّالِث من وُجُوه هَذَا التَّأْوِيل فِي الرُّجُوع بِالْهَاءِ إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام على مَا ذهب إِلَيْهِ بَعضهم فِي تَأْوِيله وَهُوَ أَنه أفادنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله عز وَجل خلق آدم على الصُّورَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا من غير أَن كَانَ ذَلِك حَادِثا أَو شَيْئا مِنْهُ عَن توليد عنصر أَو تَأْثِير طبع أَو فلك أَو ليل أَو نَهَار إبطالا لقَوْل الطبائعيين إِن بعض مَا عَلَيْهِ آدم عَلَيْهِ السَّلَام من هَيْئَة وَصُورَة لم يخلقه الله عز وَجل وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك من فعل الطَّبْع أَو تَأْثِير الْفلك // أخرج عبد الرزاق // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فنبه بذلك على أَن الله تَعَالَى هُوَ الْخَالِق لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام على مَا كَانَ فِيهِ من الصُّورَة والتراكيب والهيئات لم يُشَارِكهُ فِي خلق صُورَة من صوره أَو هَيْئَة من هيئاته أحد سواهُ فاستفدنا بذلك بطلَان قَول من قَالَ بتوليد الطَّبْع وإيجابه وتأثير الْفلك وتغييره وَخص آدم عَلَيْهِ السَّلَام بِالذكر تَنْبِيها على أَن من شَاركهُ من الْمَخْلُوقَات فِي مَعْنَاهُ وَهَذِه طَريقَة للْعَرَب فِي التفهيم تذكرا على مَا فِي هَذَا الْبَاب للدلالة على الْأَدْنَى فَإِذا عرف أَن صُورَة آدم وتركيبه وهيئته لم يخلقها أحد إِلَّا الله عز وَجل علم سَائِر المصورات من أودلاه وَغَيرهم فَحكمهَا كَذَلِك وَقَالَ بَعضهم الْهَاء يرجع إِلَى بعض الْمَشَاهِير من النَّاس والفائدة فِي الْخَبَر يعرفنا أَن صُورَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت كهذه الصُّورَة إبطالا لقَوْل من زعم أَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 كَانَت على هَيْئَة أُخْرَى كَمَا رُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات من ذكر طوله وقامته وَذَلِكَ مِمَّا لَا يوثق بِهِ إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِك خبر صَحِيح وَإِنَّمَا الْمعول فِي مثله على كَعْب أَو وهب من أَحَادِيث التَّوْرَاة وَلَا ثِقَة بِشَيْء من ذَلِك وَلم يثبت من وجهة أُخْرَى أَنه قد كَانَت خلقَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام على خلاف هَذِه الْخلقَة على الْحَد الزَّائِد الَّذِي يخرج عَن الْمَعْهُود من متفاوت الْبشر والطريقة الثَّانِيَة فِي تَأْوِيل ذَلِك أَن يكون الْهَاء كِنَايَة عَن الله وَهَذَا أَضْعَف الْوَجْهَيْنِ من قبل أَن الظَّاهِر أَن الْهَاء ترجع إِلَى أقرب الْمَذْكُور إِلَيْهِ إِلَّا أَن تدل دلَالَة على خلاف ذَلِك وَإِذا قُلْنَا هَذَا احْتمل وُجُوهًا أَحدهَا أَن يكون معنى الصُّورَة على هَذَا معنى الصّفة كَمَا يُقَال عرفني صُورَة هَذَا الْأَمر أَي صفته وَلَا صُورَة لِلْأَمْرِ على الْحَقِيقَة إِلَّا على معنى الصّفة وَيكون تَقْدِير التَّأْوِيل فِيهِ أَن الله عز وَجل خلق آدم على صفته وَذَلِكَ أَن الْمَخْلُوقَات قِسْمَانِ جماد ونام والنامي نَوْعَانِ حَيَوَان وَمَا لَيْسَ بحيوان وَالْحَيَوَان على نَوْعَيْنِ نَاس وبهائم ثمَّ سوى الْجِنّ وَالْملك ثمَّ لم يشرف من الْحَيَوَان والجماد شَيْء سوى الْإِنْسَان للإضافة إِلَى النامي والبهائم وَلم يشرف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 نوع الْحَيَوَان النَّاطِق أحد سوى الْأَنْبِيَاء وَذَلِكَ أَن نوعا من الْعُقَلَاء من الْحَيَوَان كالجن وَالْملك وَالْإِنْس خص بِالْعقلِ والنطق وَشرف بِهِ وَذَلِكَ من خِصَال كَمَال التعالي ثمَّ لما كَانَ أكمل الْأَشْيَاء نعتا وأتمها رفْعَة وتعظيما هُوَ الله عز وَجل وَكَانَ الْحَيّ الْعَالم الْقَادِر السَّمِيع الْبَصِير الْمُتَكَلّم المريد وَذَلِكَ نعوت عَظمَة وَعزة وجلالة خلق آدم على صفته مِمَّا هِيَ صفة التعالي حَيا عَالما قَدِيرًا سميعا بَصيرًا متكلما مُخْتَارًا مرِيدا فميزه من الجماد والنامي بِمَا نفخ فِيهِ من الرّوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وميزه من الْبَهَائِم بِمَا ركب فِيهِ من الْعقل والنطق وميزه من جنسه من وقته بِأَن نبأه وأرسله وميزه من الْمَلَائِكَة بِأَن قدمه عَلَيْهِم وأسجدهم لَهُ وجعلهم تلاميذه وَأمرهمْ أَن يتعلموا مِنْهُ فحصلت لَهُ رُتْبَة الْجلَال وَالْعَظَمَة مِمَّا نَوعه الله عز وَجل بِأَن حصل سجودا لَهُ مُخْتَصًّا بِالْعلمِ بِمَا لَا يُشَارِكهُ فِيهِ فِي حَالَة غَيره فتميز بِهَذِهِ الصِّفَات وَهِي صِفَات التعالي من سَائِر الْعَالمين والمخلوقين فِي وقته فَعرفنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عَلَيْهِ السَّلَام بذلك إسباغ نعم الله عز وَجل عَلَيْهِ وتشريفه إِيَّاه بخصال التعالي وَهِي صِفَات مِمَّا فِي صِفَات الله على الإختصاص وَالْوَجْه الثَّانِي من قَوْلنَا أَن الْهَاء رَاجِعَة إِلَى الله وَهُوَ أَن يعلم من طرق الإضافات إِلَى الله عز وَجل وطرق التَّخْصِيص فِيهَا وَذَلِكَ أَن من الْأَشْيَاء مَا يُضَاف إِلَى الله عز وَجل من طَرِيق أَنه فعله كَمَا يُقَال خلق الله وَأَرْض الله وسماء الله وَقد يُضَاف مثل هَذِه الْإِضَافَة على معنى الْملك فَيُقَال رزق الله وعبد الله وَقد يُقَال على معنى الإختصاص من طَرِيق التنويه يذكر الْمُضَاف إِذا خص بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله نَاقَة الله فَإِنَّهَا إِضَافَة تَخْصِيص وتشريف يُفِيد التحذير والورع عَن التَّعَرُّض لَهَا وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {ونفخت فِيهِ من روحي} وَقَول الْمُسلمين للكعبة بَيت الله تَخْصِيصًا بِالذكر فِي الْإِضَافَة إِلَيْهِ تَشْرِيفًا وَهُوَ كَقَوْلِه أَيْضا فِي إِضَافَة الْمُؤمنِينَ إِلَى نَفسه بِلَفْظ الْعُبُودِيَّة فِي قَوْله تَعَالَى {وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} إِلَى آخر صفاتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَقَوله {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} وَالْوَجْه الآخر من الْإِضَافَة نَحْو قَوْلك كَلَام الله وَعلم الله وقدرة الله وَفِي إِضَافَة إختصاص من طَرِيق الْقيام بِهِ كَمَا يُقَال فِي إِضَافَة الأَرْض إِلَى الْمحل وَمَا لَا يقوم بِنَفسِهِ إِلَى مَا يقوم بِنَفسِهِ وَلَيْسَ ذَلِك من جِهَة الْملك وَالْفِعْل والتشريف بل ذَلِك على معنى أَن ذَاته غير منعوتة مِنْهُ قيَاما بهَا وقعودا ووجودا ثمَّ نَظرنَا فِي إِضَافَة الصُّورَة إِلَى الله عز وَجل فَلم يَصح أَن يكون وَجه إضافتها إِلَيْهِ على نَحْو إِضَافَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف بهَا من حَيْثُ تقوم بِهِ لإستحالة أَن يقوم بِذَاتِهِ عز وَجل حَادث بِوَجْه وَلَا صُورَة وَلَا تأليف وَلَا غَيره لِأَن مَا قَامَ بِذَات من تأليف وَصُورَة لم يألف غير مَا لم يقم بِهِ وَبِذَلِك يمْنَع أَن يكون غَيره قد تصور بهَا وَذَلِكَ محَال فَبَقيَ من وُجُوه الإضافات كَذَا الْملك وَالْفِعْل والتشريف فَأَما الْملك وَالْفِعْل فوجهه عَام وَيبْطل فَائِدَة التَّخْصِيص فَبَقيَ أَنَّهَا إِضَافَة تشريف وَطَرِيق ذَلِك أَن الله عز وَجل هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ تَصْوِير آدم لَا على مِثَال بل اخترعه اختراعا ثمَّ اخترع من بعده على مِثَاله فتشرفت صورته بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ من حَيْثُ كَانَت مَخْصُوصَة بهَا على هَذَا الْوَجْه ثمَّ سَائِر وُجُوه التشريف مِمَّا خص بهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام من فضائله مِمَّا ذكرنَا بعضه وَاعْلَم أَنا إِذا قُلْنَا إِن الْهَاء يرجع إِلَى الله عز وَجل فِي قَوْلهم فِي صورته على بعض الْمعَانِي الَّتِي ذكرنَا فَإِن تَأْوِيل مَا يرْوى من هَذَا الْخَبَر على إِظْهَار الرَّحْمَن بعد ذكر الصُّورَة على مَا فِيهِ من الضعْف وَالْعلَّة عِنْد أهل النَّقْل وَأَنه يكون مَحْمُولا على مَا ذَكرْنَاهُ إِذا قُلْنَا إِن الْهَاء ترجع إِلَى الله عز وَجل وَقد أنكر بعض أَصْحَابنَا صِحَة هَذِه اللَّفْظَة من طَرِيق الْعَرَبيَّة وَقَالَ لَا يجوز فِي اللُّغَة أَن يُقَال مثله وَلَو كَانَ المُرَاد ذَلِك لَكَانَ يَقُول إِن آدم خلق على صُورَة الرَّحْمَن دون أَن يُقَال إِن الله خلق آدم على صورته لِأَن تقدم ذكره بإسم الظَّاهِر فَإِذا أُعِيد ذكره لكني عَنهُ بِالْهَاءِ من غير إِعَادَة اسْمه بِالظَّاهِرِ كَقَوْلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إِن زيدا ضرب عَبده وَلَا يُقَال إِن زيدا ضرب عبد زيد وَالْمرَاد بزيد الثَّانِي هُوَ المُرَاد بِالْأولِ قَالُوا وَإِذا لم يكن ذَلِك سائغا من جِهَة الْعَرَبيَّة وَلَا ثَابتا من جِهَة النَّقْل لم يكن للإستعمال بِهِ وَجه وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِن هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُمكن أَن يدْفع بِهِ هَذَا الْخَبَر على هَذَا الْوَجْه وَإِنَّمَا طَرِيق دفع ذَلِك من جِهَة النَّقْل وتعليل أَمر رُوَاته لِأَن مثله قد يَصح فِي الْعَرَبيَّة وَقد وَردت بذلك أشعار الْعَرَب فَمن ذَلِك قَول عدي بن زيد (لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء ... نقض الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا) فَأَعَادَ ذكر الْمَوْت بِلَفْظِهِ وَلم يكن عَنهُ بِالْهَاءِ وَلم يقل لَا أرى الْمَوْت يسْبقهُ شَيْء وَمثله فِي الْقُرْآن {يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا} وَلم يقل إِلَيْنَا وَإِلَيْهِ فَإِذا كَانَ مثله سائغا لم يكن لإنكاره من هَذَا الْوَجْه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 معنى دون أَن يُقَال إِن الْإِثْبَات من أهل النَّقْل لم يرووه على هَذَا الْوَجْه بل كلهم أَجمعُوا على نقل قَوْله على صورته صورته بِالْهَاءِ كِنَايَة لَا إِظْهَارًا وَذَلِكَ مُحْتَمل للوجوه الَّتِي ذَكرنَاهَا إِن رَجَعَ بِهِ إِلَى آدم فَيحْتَمل وَهُوَ الْأَقْرَب وَإِن رَجَعَ بِهِ إِلَى الْمَضْرُوب على مَا روى فِي السَّبَب فِيهِ مَعَه فَظَاهر أَيْضا وَإِن رَجَعَ بِهِ إِلَى الله عز وَجل وَهُوَ الْأَبْعَد كَانَ طَرِيق تَأْوِيله مَا بَيناهُ لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ إِثْبَات صُورَة الله تَعَالَى على التَّحْقِيق وَهُوَ بهَا مصورا ومتصورا لِأَن صورته هِيَ التَّأْلِيف والهيئة وَذَلِكَ لَا يَصح إِلَّا على الْأَجْزَاء المتألفة والأجسام المركبة وَقد تَعَالَى الله عز ذكره عَن أَن يكون جسما أَو جوهرا أَو مؤلفا مركبا وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِن الْهَاء ترجع إِلَى آدم وَيكون مَعْنَاهُ وَفَائِدَته تَكْذِيب القهرية لما زعمت أَن من صُورَة آدم وَصِفَاته مَا لم يخلقه الله عز وَجل وَذَلِكَ أَن الْقَدَرِيَّة على أَن صِفَات آدم على نَوْعَيْنِ مِنْهَا مَا خلقه الله وَمِنْهَا مَا خلقهَا آدم لنَفسِهِ فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتكذيبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَأَن الله تَعَالَى خلق آدم على جَمِيع صوره وَصِفَاته ومعانيه وأعراضه وَمثله فِي الْكَلَام أَن يُقَال عرفني هَذَا الْأَمر على صورته إِذا أردْت أَن يعرفك على الإستيفاء والإستقصاء دون الإستبقاء وكما أفادنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك تَكْذِيب الطبائعيين فِي كَون بعض هيئات الْبشر من توليد الطَّبْع وإيجابه كَذَلِك أفادنا تَكْذِيب الْقَدَرِيَّة حَيْثُ زعمت أَن من مَعَاني آدم عَلَيْهِ السَّلَام وأعراضه وَكثير من هيئاته لم يخلقه الله عز وَجل وَإِنَّمَا خلقه آدم وأبدعه هُوَ من دون الله عز وَجل وَوجه آخر مِمَّا يحمل عَلَيْهِ تَأْوِيل هَذَا الْخَبَر إِذا قُلْنَا إِن الْهَاء ترجع إِلَى آدم وَهُوَ أَن يكون مَعْنَاهُ إِشَارَة إِلَى مَا نقُول على أصولنا إِن الله عز وَجل خلق السعيد سعيدا والشقي شقيا فَلَمَّا خلق آدم وَقد علم أَنه يَعْصِي وَيُخَالف أمره وَكتب ذَلِك عَلَيْهِ وَأَنه عز ذكره هَكَذَا خلقه على مَا علم وَأَرَادَ أَن يكون عَلَيْهِ وَشهد لذَلِك حَدِيث مُحَاجَّة مُوسَى لآدَم عَلَيْهِمَا السَّلَام لما قَالَ مُوسَى لآدَم لما التقيا فِي السَّمَاء أَلَسْت الَّذِي خلقك الله بِيَدِهِ وأسجد لَك مَلَائكَته وأسكنك جنته ثمَّ عصيته وخالفت أمره فَقَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَكَانَ ذَلِك شَيْء مني أَو أَمر كتبه الله عز وَجل عَليّ قبل أَن يخلقني فَقَالَ مُوسَى ذَلِك مِمَّا كتبه عَلَيْك قبل خلقك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فحج آدم مُوسَى ثَلَاثًا فدلنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله إِن الله خلق آدم على صورته على مثل هَذَا الْمَعْنى وَإنَّهُ خلق مِمَّن سبق الْعلم بِحَالهِ أَنه يَعْصِي ثمَّ يَتُوب فيتوب الله تَنْبِيها على وجوب جَرَيَان قَضَاء الله على خلقه وَأَنه إِنَّمَا يحدث الْأُمُور ويغير الْأَحْوَال على حسب مَا يخلق عَلَيْهِ الْمَرْء ويتيسر لَهُ وَهَذَا أَيْضا تأييد لمذهبنا فِي إِضَافَة تَقْدِير الْأُمُور كلهَا إِلَى الله عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فصل وَاعْلَم أَن بعض أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمين فِي تَأْوِيل هَذَا الْخَبَر حاد على وَجه الصَّوَاب وسلك طَرِيق الْخَطَأ والمحال فِيهِ وَهُوَ ابْن قُتَيْبَة توهما أَنه مستمسك بِظَاهِرِهِ غير تَارِك لَهُ فَقَالَ إِن لله عز وَجل صُورَة لَا كالصور كَمَا أَنه شَيْء لَا كالأشياء فَأثْبت لله تَعَالَى صُورَة قديمَة زعم أَنَّهَا لَا كالصور وَأَن الله خلق آدم على تِلْكَ الصُّورَة وَهَذَا جهل من قَائِله وتوغل فِي تَشْبِيه الله تَعَالَى بخلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَالْعجب مِنْهُ أَنه تَأَول الْخَبَر ثمَّ زعم أَن الله صُورَة لَا كالصور ثمَّ قَالَ إِن آدم مَخْلُوق على تِلْكَ الصُّورَة وَهَذَا كَلَام متناقض متهافت يدْفع أَوله آخِره وَذَلِكَ أَن قَوْله لَا كالصور ينْقض قَوْله إِن الله خلق آدم عَلَيْهَا لِأَن الْمَفْهُوم من قَول الْقَائِل فعلت هَذَا على صُورَة هَذَا أَي ماثلته بِهِ واحتذيت فِي فعله بِهِ وَهَذَا يُوجب أَن صُورَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام كصورته جلّ ثَنَاؤُهُ وَيمْنَع تَأْوِيله أَن لَهُ صُورَة لَا كالصور وليت شعري إِلَى أَي وَجه ذهب فِي إِضَافَة الصُّورَة إِلَى الله عز وَجل أَرَادَ بِهِ إِثْبَات الرب تَعَالَى مصورا بِصُورَة لَا تشبه الصُّور أم إثْبَاته مصورا بأمثال هَذِه الصُّور أم أَرَادَ بِهِ أَن لَهُ هَيْئَة مَخْصُوصَة وَصُورَة مُعينَة مَعْلُومَة أم رَجَعَ بذلك إِلَى إِثْبَات صفة لَهُ سَمَّاهَا صُورَة لَا على معنى وَجه الْهَيْئَة والتأليف وَلَيْسَ يَخْلُو مَا ذهب إِلَيْهِ من هَذِه الْأَقْسَام وكل ذَلِك فَاسد لَا يَلِيق بِاللَّه عز وَجل لإقتضائه أَن يكون مؤلفا مركبا ذَا حد وَنِهَايَة وَبَعض وَغَايَة وكل ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بنفيه تَعَالَى وَقد بَينا وَجه ذَلِك قبل وَلَا معنى لحمل ذَلِك على صفة طريقها السّمع على نَحْو مَا قُلْنَا فِي الْيَد وَالْعين لخلو الْكَلَام من فَائِدَة لَو حمل على ذَلِك فَإِذا لم يخرجوه من الْوُجُوه الَّتِي يَنْقَسِم إِلَيْهَا مَذْهَب هَذَا الْقَائِل فقد بَان خطاؤه وعدوله عَن وَجه الصَّوَاب فِي تَأْوِيله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فصل فَأَما مَا رُوِيَ فِي غير هَذَا الْخَبَر من ذكر الصُّورَة كنحو حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأم الطُّفَيْل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة فَإِن طَرِيق مخرج ذَلِك على الْوَجْه الَّذِي يَصح لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أَحدهمَا أَن يكون قَوْله فِي أحسن صُورَة يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيكون الْمَعْنى رَأَيْت أبي وَأَنا فِي أحسن صُورَة كَمَا يَقُول الْقَائِل رَأَيْت الْأَمِير فِي أحسن زِيّ وَمرَاده وَأَنا فِي أحسن زِيّ وَيكون فَائِدَة ذَلِك تعريفنا أَن الله عز وَجل زين خلقته وجمل صورته عِنْد رُؤْيَته زِيَادَة إكرام وتعظيم وَيحْتَمل أَن يكون معنى الصُّورَة معنى الصّفة كَقَوْل الْقَائِل صُورَة الْأَمر كَذَا وَكَذَا أَي صفته كَذَا فَتكون الْفَائِدَة على هَذَا الْوَجْه فِيهِ الْإِخْبَار عَن حسن حَاله عندالله عز وَجل وتوقير الرب بإنعامه عَلَيْهِ وإعظامه وَذَلِكَ أَن الرَّائِي قد يرى المرئي وَيكون حَال الرَّائِي عَن المرئي محمودة مَقْبُولَة فيتلقاه المرئي بالإكرام والإجلال وَقد يُخَالف ذَلِك فيتلقاه بِخِلَافِهِ فَعرفنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجود زوائده وَحُصُول فَوَائده عِنْد لِقَاء الله عز وَجل وَأَنه كَانَ عِنْده فِي أحسن صُورَة وأجمل حَال وَالْوَجْه الثَّانِي أَن تكون الصُّورَة بِمَعْنى الصّفة وَيرجع ذَلِك إِلَى الله وَذَلِكَ أَن قَوْلك رَأَيْت الْأَمِير رَاكِبًا يحْتَمل مَعْنيين أَحدهمَا أَن يكون الرّكُوب حَال الرَّائِي وَالثَّانِي أَن يكون الرّكُوب حَال المرئي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وكلا الْوَجْهَيْنِ سَائِغ مُحْتَمل فَإِذا قُلْنَا إِن قَوْله فِي أحسن صُورَة يرجع إِلَى الله تَعَالَى فَإِن فَائِدَته على نَحْو مَا ذكرنَا أَيْضا قبل وَهُوَ أَن يفيدنا أَنه رأى الله عز وَجل وَهُوَ على أحسن صِفَاته مَعَه فِي إنعامه عَلَيْهِ والإقبال والإفضال إِلَيْهِ والإجلال وَيكون حسن الصّفة يرجع إِلَى حسن الْإِحْسَان وَالْإِكْرَام وَمَا تَلقاهُ بِهِ من الرَّحْمَة والرضوان والجود والإمتنان وَقد يُقَال فِي صفة الله تَعَالَى أَنه جميل وَأَن لَهُ جمالا وجلالا وَالْمرَاد بوصفنا أَنه جميل أَنه مُجمل فِي أَفعاله والإجمال فِي الْفِعْل هُوَ فعل الْجمال لمن يجملهم بِهِ وَذَلِكَ نوع الْإِحْسَان وَالْإِكْرَام فَكَذَلِك حسن صفة الله تَعَالَى يرجع إِلَى مَا يظْهر من فعل النعم والإبتداء بالمنن وَقد يكون حسن الصُّورَة وجمالها مِمَّا يرجع إِلَى الرب عز ذكره من نفي التناهي فِي العظمة والكبرياء والعلو والرفعة حَتَّى لَا مُنْتَهى وَلَا غَايَة وَرَاءه وَيكون معنى الْخَبَر على ذَلِك تعريفنا مَا تزايدت من معارفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعند رُؤْيَته لرَبه عز ذكره لعظمته وكبريائه وبهائه وَبعده من شبه خلقه وتنزيهه من صِفَات النَّقْص وتعريه من كل عيب فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَحمل الْخَبَر على أحد هَذِه الْوُجُوه هُوَ الْأَلْيَق بتوحيد الله وَالْأولَى بصفاته وَبِقَوْلِهِ عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فصل آخر وَقد ذكر بعض المتأولين لهَذِهِ الْأَخْبَار فِي تَأْوِيل مَا رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قَوْله رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة أَن ذَلِك كَانَ رُؤْيا مَنَام وَقد ذكر فِي حَدِيث أم الطُّفَيْل حَدِيث الْمَنَام نصا وَفِي بعض أَحَادِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ وَإِذا كَانَ كَذَلِك مَنْصُوصا فقد زَالَ الشَّك فِيهِ وَإِن لم يكن مَنْصُوصا فَإِن الْأَمر فِيهِ مَحْمُول على ذَلِك وَهُوَ أَن الْجَمِيع من مثبتي الرُّؤْيَة ونفاتها قد قَالُوا بِجَوَاز رُؤْيَة الله عز وَجل فِي الْمَنَام وَقَالُوا إِن رُؤْيا النّوم وهم قد جعله الله تَعَالَى دلَالَة للرائي على أَمر يكون أَو كَانَ من طَرِيق التَّعْبِير والأوهام قد يتَعَلَّق بالموهوم على خلاف مَا عَلَيْهِ الموهوم فَلَا يُنكر أَن يُقَال مثله فِيهِ من طَرِيق الرُّؤْيَا إِلَّا أَنه سُبْحَانَهُ بِبَعْض تِلْكَ الْأَوْصَاف الَّتِي تعلّقت بهَا الرُّؤْيَا مُتَحَقق وَذَلِكَ مَعْهُود مثله فِي أَحْوَال الرُّؤْيَا إِن الرَّائِي قد يرى فِي الْمَنَام مَا لَا يكون على مَا يرَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 كمن يرى فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ يطير أَو كَأَنَّهُ انْقَلب حمارا وَهُوَ فِي مَوضِع آخر غير الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ فَيكون ذَلِك توهما مِنْهُ لَا رُؤْيَة حَقِيقَة وَقد يَصح مثله على الْأَنْبِيَاء والأولياء إِذْ قد وَردت الْأَخْبَار برؤيا الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ أَنهم رَأَوْا فِي منامهم أَشْيَاء كَانَت أَحْكَامهَا بِخِلَاف مَا رَآهَا وَصَحَّ ذَلِك لِأَنَّهَا أَوْهَام تجْرِي مجْرى الدلالات بإختلاف طَرِيق التأويلات وَقد ذكر بعض أَصْحَاب التَّعْبِير ذَلِك فِي كتبهمْ الْمَوْضُوعَة لذَلِك وعبروا ذَلِك بتأويله كَمَا عبروا أَيْضا من يرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام أَو يرى الْقِيَامَة أَو الْجنَّة وَالنَّار فِي سَائِر مَا يرى فِي الْمَنَام مِمَّا لَهُ تَعْبِير قَالَ وَإِذا كَانَ ذَلِك سائغا وَقد ذكره نصا بعض الروَاة وَجب أَن يكون التَّأْوِيل مَحْمُولا عَلَيْهِ لإستحالة كَون الْبَارِي مصورا بالصورة والهيئة والتركيب وَالْحَد وَالنِّهَايَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَقد تهور بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك أَيْضا فَغير اللَّفْظ المسموع إِلَى مَا لم يضْبط وَلم ينْقل تعسفا فِي التَّأْوِيل فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ رَبِّي بِكَسْر الرَّاء وَهُوَ اسْم عبد كَانَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم على تِلْكَ الصِّفَات وَهَذَا غلط لِأَن التَّأْوِيل والتخريج إِنَّمَا يكون لمسموع مضبوط مَنْقُول وَلم يثبت سَماع ذَلِك على هَذَا الْوَجْه وَلَا حَاجَة إِلَى مثل هَذَا التعسف مَعَ إتساع طرق التَّأْوِيل فِي بعض الْوُجُوه الَّتِي ذكرنَا وَذكر بَعضهم أَيْضا أَنه أَرَادَ بذلك رئي فَنقل رَبِّي على التَّصْحِيف والرائي هُوَ التَّابِع من الْجِنّ قَالَ فَلَا يُنكر أَن يكون الْجِنّ متصورا بِبَعْض هَذِه الصُّور وَهَذَا أَيْضا تعسف لأجل أَن القَوْل بالتصحيف إِنَّمَا يكون الْمُعْتَمد عَلَيْهِ إِذا روى بعض الْإِثْبَات ذَلِك على هَذَا الْحَد مسموعا مضبوطا وَلم يُمكن أَن يحمل على ضَرْبَيْنِ وعَلى حَالين مُخْتَلفين كَيفَ وَلم ينْقل على هَذَا الْوَجْه وَلم يثبت أَنه كَانَ الأَصْل على هَذَا الْحَد وَإِنَّمَا وَقع التَّصْحِيف من جِهَة التَّأْوِيل وَلَا حَاجَة تَدْعُو إِلَى دَعْوَى تَصْحِيف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 من ضبط مَا سمع فَنقل لأجل مَا توهم أَو تعذر فِي تَخْرِيج مَعْنَاهُ على الْوَجْه الصَّحِيح فَبَطل ذَلِك أَيْضا وَجَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ من تِلْكَ الْوُجُوه أقرب إِلَى الصَّوَاب وأليق لحكم الْبَاب مِمَّا ذكرهَا هَؤُلَاءِ المتعسفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ذكر خبر آخر فِي مثل هَذَا الْمَعْنى مِمَّا فِيهِ ذكر الصُّورَة وَهُوَ مَا روى بعض الروَاة وَأَظنهُ ثَوْبَان مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَتَانِي رَبِّي فِي أحسن صُورَة قَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الْبَلْخِي فِي تَخْرِيج هَذَا الحَدِيث إِن هَذَا الحَدِيث أَولا مَعْلُول من طَرِيق الرِّوَايَة وَذَلِكَ أَنه رَوَاهُ أَبُو يحيى عَن أبي يزِيد عَن أبي سَلام وَأَبُو يحيى ضَعِيف قَالَ وَإِن صَحَّ مَعْنَاهُ احْتمل أَن يكون أُرِيد بِهِ أَتَانِي رَبِّي بِأَحْسَن صُورَة وَيكون الْفَاء بِمَعْنى الْبَاء وعَلى هَذَا قد روى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي تَأْوِيل قَوْله {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} مَعْنَاهُ بظلل من الْغَمَام يَعْنِي تَعْجِيل الْعقُوبَة لَهُم وَإِذا كَانَ ذَلِك سائغا فِي اللُّغَة فَيمكن أَن يكون الْمَعْنى فِيهِ إِن الله عز وَجل أرَاهُ ملكا من الْمَلَائِكَة فِي أحسن صُورَة وَيكون قَوْله أَتَانِي رَبِّي فِي أحسن صُورَة مَحْمُولا على أَن الْمَعْنى أَتَانِي رَبِّي بِأَحْسَن صُورَة وَيكون تَأْوِيل الْإِتْيَان بِهِ فعله بِهِ وإظهاره لَهُ حَتَّى رَآهُ وَنَظِير ذَلِك قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} ذَلِك بِإِظْهَار فعل واتخاذ تَدْبِير لَا على معنى نقلة وتحول قَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع وَيحْتَمل تَأْوِيلا آخر وَهُوَ يَعْنِي أَتَانِي رَبِّي فِي الصُّورَة مُدبرا لَهَا وَالصُّورَة ملك وَالله عز وَجل فِيهَا بِمَعْنى التَّدْبِير لَهَا وَاعْلَم أَن هَذَا أَيْضا غلط من مُحَمَّد بن شُجَاع وَإِنَّمَا تَأَول ذَلِك على مذْهبه فِي قَوْله إِن الله عز وَجل فِي كل مَكَان على معنى أَنه مُدبر لكل مَكَان وَنحن نأبى هَذَا القَوْل ونحيد أَن يُقَال إِن الله عز وَجل ثَنَاؤُهُ فِي كل مَكَان هَل معنى أَنه مُدبر لَهُ فَلَا يسوغ على أصلنَا هَذَا التَّأْوِيل من الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَأَما أَحَادِيث ابْن عَبَّاس فَفِي بَعْضهَا زيادات أَلْفَاظ يَقْتَضِي تَأْوِيلا وتخريجا وَذَلِكَ أَن فِي بعض أَخْبَار ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة فَقَالَ يَا مُحَمَّد فَقلت لبيْك وَسَعْديك قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قلت رَبِّي لَا أَدْرِي قَالَ فَوضع يَده بَين كَتِفي فَوجدت بردهَا بَين ثديي فَعلمت مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت رَبِّي لَا أَدْرِي قَالَ فِي الْكَفَّارَات وَالْمَشْي على الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات وإسباغ الْوضُوء فِي الشتوات وإنتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة فَمن حَافظ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَير وَمَات بِخَير وَخرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه وَاعْلَم أَن الَّذِي يَقْتَضِي التَّأْوِيل من هَذَا الْخَبَر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضع كَفه بَين كَتِفي وَقد رُوِيَ كنفي فَأَما تَأْوِيل الْكَفّ فقد تَأَوَّلَه النَّاس على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون بِمَعْنى الْقُدْرَة كَمَا قَالَ الْقَائِل (هون عَلَيْك فَإِن الْأُمُور ... بكف الْإِلَه مقاديرها) يَعْنِي فِي قدرته تقديرها تدبيرها وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون المُرَاد بالكف وَالنعْمَة والْمنَّة وَالرَّحْمَة وَقد اسْتعْملت الْعَرَب لفظ الْيَد والإصبع والكف فِي معنى النِّعْمَة وَذَلِكَ سَائِغ كثيرا فِي اللُّغَة وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لفُلَان عِنْدِي أصْبع حسن ولي عِنْد فلَان يَد بَيْضَاء أَي منَّة كَامِلَة فَيكون اسْتِعْمَال الْكَفّ على معنى الْيَد إِذْ كَانَ بِمَعْنى النِّعْمَة فعلى هَذَا يكون تَأْوِيل الْخَبَر الْأَخْبَار عَن نعْمَة الله عز وَجل وفضله ولطفه وإقباله عَلَيْهِ بِأَن شرح صَدره وَنور قلبه وعرفه مَا لم يعرف وَعلم مَا لم يعلم وَإِذا قُلْنَا إِن المُرَاد بِهِ الْقُدْرَة احْتمل أَن يكون الْمَعْنى إعترافه بِالْعَجزِ وَإِقْرَاره بقدرة الله على مَا فعل بِهِ من اللطف والعطف حَتَّى عرف كثيرا مِمَّا لم يعرفهُ وَأما قَوْله بَين كنفي فَإِن كَانَ صَحِيحا فَالْمُرَاد بِهِ مَا أوصل إِلَى قلبه من لطفه وبره وزوائده وفوائده لِأَن الْقلب بَين الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ مَحل الْأَنْوَار والعلوم والمعارف وَقد رُوِيَ بَين كنفي وَالْمرَاد بذلك مَا يُقَال فِي قَول الْقَائِل أَنا فِي كنف فلَان وَفِي جَانِبه وفنائه إِذا أَرَادَ بذلك أَنه فِي ظلّ نعْمَته وَرَحمته فَكَأَنَّهُ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أفادني الرب تَعَالَى من رَحمته وإنعامه بِملكه وَقدرته حَتَّى علمت مَا لم اعلمه وَأما قَوْله فَوجدت بردهَا فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بذلك برد النِّعْمَة بِمَعْنى روحها وأثرها من قَوْلهم عَيْش بَارِد إِذا كَانَ رغدا فِي رفاهية وسعة وَالَّذِي يدل على أَن تِلْكَ الْفَوَائِد زَوَائِد معارف قَوْله على إِثْر ذَلِك فَعلمت مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب لما نور قلبه وَشرح صَدره فَكَانَ ذَلِك بِإِظْهَار آثاره وتدبيره عَن رَحمته فِيهِ وَإِنَّمَا حملناه على ذَلِك لإستحالة وصف الله تَعَالَى بالجوارح والآلة وَذَلِكَ لإستحالة أَن يكون ذَا بعض وعضو وَهَذَا هُوَ ثَمَرَة تَوْحِيد ذَاته وَوُقُوع الْمعرفَة بِكَوْن ذَاته شَيْئا وَاحِدًا وَأما مَا روى ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْخَبَر بعد قَوْله فَوضع كَفه بَين كَتِفي حَتَّى وجدت برد أنامله فِي صَدْرِي فَإِن تَأْوِيل الأنامل على معنى تَأْوِيل الْأَصَابِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَقد انْتَشَر فِي كَلَام أهل اللُّغَة لفُلَان على فلَان أصْبع حسن وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة إِن الْعَرَب تَقول لفُلَان على سَابِقَة أُنْمُلَة أَي أصْبع حسن وَفِي نُسْخَة تَقول الْعَرَب لفُلَان على إبِله أصْبع حسن إِذا اسمنها وَأحسن إِلَيْهَا قَالَ الشَّاعِر {ضَعِيف الْعَصَا بَادِي الْعُرُوق ترى لَهُ ... عَلَيْهَا إِذا مَا اجدب النَّاس اصبعا} آي أثرا حسنا وَإِذا كَانَ كَذَلِك احْتمل أَن يكون تَأْوِيل الْخَبَر حَتَّى وجدت آثَار إحسانه وإمتنانه وَرَحمته فِي صَدْرِي فتجلى لَهُ عِنْد ذَلِك علم مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض برحمة الله وَفضل نعْمَته وسوقه الْخَيْر إِلَيْهِ فِي ذَلِك وَإِذا كَانَ ذَلِك سائغا فِي اللُّغَة وَلَا يجوز وصف الله تَعَالَى بالجوارح والأبعاض كَانَ طَرِيق التَّأْوِيل فِيهِ مَا ذكرنَا فَأَما مَا ذكر فِي هَذَا الْخَبَر من قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مجيبا لرَبه عز وَجل لما قَالَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى فَقَالَ لَا أَدْرِي فَوضع كَفه بَين كَتِفي إِلَى أَن ذكر فَعلمت مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ثمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ لي فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت لَا أَدْرِي بعد قَوْله فَعلمت مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فَوجه ذَلِك مَا ورد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم من قَوْله عز وَجل {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا إِنَّك أَنْت علام الغيوب} فَيكون ذَلِك مِنْهُ أَو مِنْهُم على ترك التعالم عَلَيْهِ وَأَن يكون مُسْتَعْملا للأدب بِحَضْرَة من هُوَ أعلم مِنْهُ لِأَن الْوَاجِب من عَادَة ذَلِك حِين لَا يَدعِي الْعلم عِنْد من هُوَ أعلم مِنْهُ بِهِ وَعند من علمه ذَلِك الْعلم وَيحْتَمل أَن يكون قد علم مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب بِأَن أرِي ذَلِك كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زويت لي الأَرْض فَأريت مشارقها وَمَغَارِبهَا وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِالْعلمِ بِأَحْكَام الْعِبَادَات وَمَا عَلَيْهَا من وُجُوه الثَّوَاب والكرامات جَزَاء على الطَّاعَات وَهُوَ الَّذِي كشف عَنهُ عز ذكره لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَعْدَمَا قَالَ لَا أَدْرِي وَإِن حمل على ذَلِك لم يتناقض الْكَلَام وَصَحَّ الْجمع بَينهمَا على التَّرْتِيب الَّذِي رتبناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ذكر خبر آخر مِمَّا ذكر فِيهِ الصُّورَة وَهُوَ من الْأَخْبَار الَّتِي ذكرت فِي الصِّحَاح رفع الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ فيأتيهم فِي صُورَة غير الصُّورَة الَّتِي يعرفونها فَيَقُول أَنا ربكُم فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك هَذَا مَكَاننَا حَتَّى يأتينا رَبنَا فَإِذا جَاءَ رَبنَا عَرفْنَاهُ قَالَ فيأتيهم فِي الصُّورَة الَّتِي يعرفونها فَيَقُول أَنا ربكُم فَيَقُولُونَ أَنْت رَبنَا فيأتونه وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر أَنه يَقُول لَهُم أَو تعرفونه إِذا رَأَيْتُمُوهُ فَيَقُولُونَ نعم فَيَقُول وبماذا تعرفونه فَيَقُولُونَ بَيْننَا وَبَينه عَلامَة إِذا رَأَيْنَاهُ عَرفْنَاهُ هَذَا الْخَبَر مَشْهُور وَفِيه طول وقصة ذكرنَا مِنْهُ مَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل وَتَأْويل ذَلِك وتخريجه يحْتَمل وجودهَا أَحدهَا أَن تكون فِي هَا هُنَا بِمَعْنى الْبَاء كَمَا روينَا عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل {فِي ظلل من الْغَمَام} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وَإِذا كَانَ سائغا فِي اللُّغَة إِبْدَال الْبَاقِي وَفِي بِالْبَاء لم يُنكر أَن يكون معنى فِي هَا هُنَا معنى الْبَاء وَقد يسوغ أَيْضا فِي الْكَلَام وَلَا فرق فِيهِ بَين أَن يَقُول الْحَرَكَة فِي المتحرك وَالْحَرَكَة بالمتحرك وَإِذا كَانَ معنى الْبَاء أَعم فتقديره على هَذَا التَّخْرِيج والتأويل أَن الله عز وَجل يَأْتِيهم يَوْم الْقِيَامَة بِصُورَة غير صورته الَّتِي يعرفونها فِي الدُّنْيَا وَتَكون الْإِضَافَة فِي الصُّورَة إِلَيْهِ من طَرِيق الْملك وَالتَّدْبِير كَمَا يُقَال سَمَاء الله وأرضه وَبَيت الله وناقته على وجهة الْملك وَالْفِعْل لَا على الْوَجْه الَّذِي لَا يَلِيق بِهِ فَيكون الْمَعْنى فِي ذَلِك أَن الْخلق عرفُوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بدلالاته المنصوبة وآياته الَّتِي ركبهَا فِي الصُّور وَهِي الْأَعْرَاض الدَّالَّة على حُدُوث الْأَجْسَام واقتضائها مُحدثا لَهَا من حَيْثُ كَانَا محدثين وَأما الْإِتْيَان بِهِ فعلى معنى ظُهُور فعله لَهَا مِنْهُ وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وَقَوله تَعَالَى {وَجَاء رَبك} وَقَوله {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} على أحد التَّأْوِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أما قَوْله غير الصُّورَة الَّتِي يعرفونها فَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِي ذَلِك أَنه يَأْتِيهم يَوْم الْقِيَامَة بِصُورَة على خلاف ذَلِك الشكل وَتلك الْهَيْئَة الَّتِي كَانَت الصُّورَة عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا مَا لم يعرفوه وَلم يعهدوه لَيْسَ ذَلِك مُنْكرا لِأَن عادات أهل الْقِيَامَة وَمَا يظْهر لَهُم من الْأَهْوَال وعجائب الْخلق من صُورَة الْمَلَائِكَة وزبانية الْعَذَاب وخزنة الْجنان مِمَّا لم يعهدوا على شكلها وهيئتها فِي الدُّنْيَا وَأما قَوْله فَيَقُول أَنا ربكُم فقد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن هَذَا آخر محنة الْمُؤمن وَأَنه يظْهر هَذَا القَوْل فعلا من الله عز وَجل فِي بعض هَذِه الصُّور محنة للمكلفين فِي الدُّنْيَا من أهل الْإِيمَان فَيظْهر مِنْهُم عَن صدق توحيدهم وَصِحَّة إِيمَانهم مَا يكون إنكارا لذَلِك وَتَكون الْفَائِدَة فِيهِ يعرفنا تأييد الله تَعَالَى لأهل الْإِيمَان بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وتثبيته لَهُم كَمَا قَالَ عز وَجل {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} أَي يثبتهم فِي الدُّنْيَا على الْحق عِنْد ظُهُور القَوْل والمحن ويثبتهم فِي العقبى أَيْضا فِي مَوَاضِع المحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَإِنَّمَا قيل للدنيا دَار محنة وتكليف مُطلقًا وَإِن كَانَ من نوعها قد يَقع مِنْهَا فِي العقبى فَلَا يُطلق عَلَيْهَا أَنَّهَا دَار تَكْلِيف ومحنة بل يُقَال إِنَّهَا دَار جَزَاء لِأَن الْغَالِب ذَلِك عَلَيْهَا وَهَذَا كَمَال يقعل فِي الدُّنْيَا جَزَاء وَلَا يُضَاف إِلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يغلب عَلَيْهَا إِذا لم يكن بِهِ وَأما قَوْله أَنهم يَقُولُونَ إِذا جَاءَ رَبنَا عَرفْنَاهُ فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ مجيئا بِإِظْهَار فعل يبديه فِي قُلُوبهم من زَوَائِد يَقِين وَعلم وبصر عِنْدَمَا يحدث لَهُم من إِدْرَاكه ومعانيه لِأَن سَائِر مَا أضيف إِلَى الله تَعَالَى من إتْيَان ومجيء فَهُوَ لظُهُور نوع من تَدْبيره فِي فضل أَو عدل وَأما قَوْله {فيأتيهم فِي الصُّورَة الَّتِي يعرفونها} فَإِن معنى الْإِتْيَان متأول على الْوَجْه الَّذِي مضى بَيَانه وَيكون تَقْدِير تَأْوِيله إِنَّه إِذا ظهر لَهُم نوع الصُّور الْمَعْهُودَة لَهُم شكلا وهيئه وَخلق إدراكهم بِهِ وخاطبهم بِأَن أسمعهم كَلَامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وأفهمهم مُرَاده تثبتوا وأيقنوا أَن المكلم لَهُم هُوَ رَبهم عز ذكره وَتَكون الْفَائِدَة فِي ذَلِك تعريفنا مَا يَفْعَله الله عز وَجل فِي العقبى من ألطافه بأوليائه فِي عصمتهم وحراستهم وتثبيتهم وتأييدهم حَتَّى لَا يستفزهم مُشَاهدَة تِلْكَ الْأَهْوَال الْعَظِيمَة وَلَا يستخفهم أَمر تِلْكَ الصُّور الْمُنكرَة الَّتِي لم يعهدوا مثلهَا وَأما قَوْله إِنَّه يَقُول لَهُم إِذا رَأَيْتُمُوهُ عرفتموه فَيَقُولُونَ نعم بَيْننَا وَبَينه عَلامَة الْخَبَر فَإِن معنى ذَلِك أنباؤنا بِحسن ثباتهم أَولا وآخرا وَذَلِكَ بِمَا وجده من فَضله عز وَجل فِي إدامة معرفتهم وبصيرتهم وَإِزَالَة قبُول الْخَطَأ والزيغ عَنْهُم وَأما تَفْسِير الْعَلامَة وَذكر مَا بَينهَا فَمن أهل الْعلم من قَالَ إِن تِلْكَ الْعَلامَة الَّتِي أشاروا إِلَيْهَا إِنَّا نعرفه بهَا هُوَ مَا بَينه وَبَين خلقه فِي الصُّور والأجسام من الْمُخَالفَة والمباينة وَأَنه لَا يشبه شَيْئا مِنْهَا وَلَا يُشبههُ شَيْء مِنْهَا وَمِنْهُم من قَالَ إِن تِلْكَ الْعَلامَة مَا مَعَهم من الْمعرفَة بِهِ وَأَنَّهُمْ عبدوه فِي الدُّنْيَا من معرفَة بمعبود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لَا يشبه شَيْئا مِمَّا عرفوه وَلَا يجوز أَن يشبه شَيْئا وَلَا أَن يُشبههُ شَيْء فَإِذا رَأَوْا مَا عرفوه بِمثل هَذِه الْمعرفَة علمُوا أَن الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ الَّذِي عرفوه فكون علامتهم عَن الرُّؤْيَة معرفتهم فَإِذا كَانَ مرئيهم فِي العقبى معروفهم فِي الدُّنْيَا أيقنوا أَنه معبودهم وَحكي عَن ابْن أبي عَاصِم النَّبِيل أَنه كَانَ يَقُول فِي تَأْوِيل الحَدِيث إِن ذَلِك تَغْيِير يَقع فِي عُيُون الرائين كنحو مَا يتخيل للْإنْسَان الشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ بِهِ فيتوهمه الشَّيْء على الْحَقِيقَة وَاعْلَم أَنه لَا بُد أَن يحمل هَذَا الحَدِيث على نوع مِمَّا قُلْنَا لإستحالة أَن يكون الله تَعَالَى ذكره على صور كَثِيرَة يجهلونه مرّة ويعرفونه مرّة أَو يكون مِمَّن يحل الصُّور فتنتقل الصُّورَة لإستحالة أَن يكون الله عز وَجل حَالا ومحلا صُورَة أَو مصورا وَإِنَّمَا إِتْيَانه بالصورة بعد الصُّورَة من طَرِيق الْفِعْل كَمَا يحدث الشَّيْء بعد الشَّيْء ويغير الْجِسْم من حَال إِلَى حَال بإحداث تَغْيِير وَإِضَافَة الصُّورَة إِلَيْهِ فِي هَذِه الْأَحَادِيث فَهِيَ بِمَعْنى الْملك وَالْفِعْل لَا بِمَعْنى التَّصَوُّر بالشَّيْء من الصُّور تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا لِأَن الْهَيْئَة وَالصُّورَة والتركيب والتأليف كل ذَلِك إِنَّمَا يَصح على الْأَجْسَام المحدودة والجواهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المخلوقة وتعاقب الْحَوَادِث وَتغَير مَا تقوم بِهِ فِيهَا عَلامَة حدث مَا تقوم بِهِ وَيحْتَمل أَيْضا وَجها آخر وَهُوَ أَن الصُّورَة هَا هُنَا بِمَعْنى الصّفة فَيكون تَقْدِير الْمَعْنى فِيهِ مَا يظْهر لَهُم من بطشه وَشدَّة بأسه يَوْم الْقِيَامَة وَإِظْهَار معايب الْخلق ومساويهم وفضائحهم وَإِنَّمَا عرفوه ساترا حَلِيمًا غفارًا كَرِيمًا فَيظْهر لَهُم مِنْهَا أَن ذَلِك مِنْهُ وَهُوَ معنى قَوْله فَيَقُول أَنا ربكُم على معنى قَول الْقَائِل قَالَت رجْلي فخذك وأذني فطنت على معنى ظُهُور ذَلِك فيهمَا فَيَقُولُونَ عِنْد ظُهُور ذَلِك مِنْهُ مستعيذين بِاللَّه هَذَا مَكَاننَا أَي نَلْبَث وَنَصْبِر حَتَّى تظهر رَحمته وَكَرمه وَهُوَ إتْيَان الرب لَهُم بِإِظْهَار جوده لَهُم وَعطفه عَلَيْهِم فيأتيهم بعد ذَلِك عِنْد ثباتهم وَفِي الصُّورَة الَّتِي يعرفونها على معنى إبداء عَفوه ومغفرته وحلمه على الصّفة الَّتِي يعرفونه فِي الدُّنْيَا من ستره ومغفرته وحلمه وَإِذا كَانَ لفظ الصُّورَة مُسْتَعْملا فِي معنى الصّفة كَمَا ذكرنَا فِي قَول الْقَائِل عرفني صُورَة من هَذَا الْأَمر أَي صفته لم يُنكر أَن تكون الْفَائِدَة فِي هَذَا الْخَبَر مَا قُلْنَا وَأَن يكون هَذِه الْأَلْفَاظ من متشابه أَلْفَاظ الْأَحَادِيث جَارِيَة مجْرى متشابه أَلْفَاظ أَي الْكتاب امتحانا بهَا أهل الْعلم لإستنباط الصَّحِيح من مَعَانِيهَا وَالْوُقُوف على الْحَد الْوَاجِب فِيهَا وافتتان أهل الْبَاطِن بهَا وخروجهم عَن الْهدى والرشد وَالْحق فِيهَا على النَّحْو الَّذِي جرى عَلَيْهِ حكم متشابه أَي الْكتاب ومحكمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ذكر خبر آخر فِي معنى مَا تقدم ذكره وَهَذَا النمط فِي هَذِه الْأَحَادِيث مَا رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَيْضا من قَوْله لَا شخص أحب للغيرة من الله سُبْحَانَهُ وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث على وُجُوه أثبتها عِنْد أهل النَّقْل مَا رُوِيَ فِي أَنه قَالَ لَا أحد أغير من الله تَعَالَى وَرُوِيَ أَيْضا لَا شَيْء أغير من الله تَعَالَى وَمن غيرته حرم الْفَوَاحِش // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَفِي هَذَا الْخَبَر مِمَّا يتَأَوَّل لفظان أَحدهمَا لفظ الْغيرَة وَالثَّانِي معنى الشَّخْص فَأَما معنى الْغيرَة فَهُوَ الزّجر وَالتَّحْرِيم لِأَن الغيور هُوَ الَّذِي يزْجر عَمَّا يغار عَلَيْهِ ويحظر الدنو مِنْهُ وَقد بَين عَقِبَيْهِ بقوله وَمن غيرته حرم الْفَوَاحِش أَي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 زجر عَنْهَا وحظرها وَقد رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن بعض أَزوَاجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَهْدَت إِلَيْهِ شَيْء فِي غير يَوْمهَا فَأخْبرت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بذلك فبددته فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غارت أمكُم أَي زجرت عَن إهداء مَا أنفذ وَمِنْه أَيْضا مِمَّا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن سعد بن عبَادَة سيدكم لغيور وَأَنا أغير مِنْهُ وَالله أغير مني // أخرجه البُخَارِيّ // وَمعنى ذَلِك أَنه لزجور عَن الْمَحَارِم وَأَنا أزْجر مِنْهُ وَالله أزْجر من الْجَمِيع عَمَّا لَا يحب من الْأَفْعَال وَأَن لفظ الشَّخْص فَغير ثَابت من طَرِيق السَّنَد وَإِن صَحَّ فَالْمَعْنى مَا بَينه فِي الحَدِيث الآخر وَهُوَ قَوْله لَا أحد وَاسْتعْمل لفظ الشَّخْص مَوضِع أحد على أَنه يحْتَمل أَن يكون هَذَا من بَاب الْمُسْتَثْنى من غير جنسه ونوعه وَمَا كَانَ من صفته كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} وَلَيْسَ يظنّ من معنى الْعلم بِوَجْه كَذَلِك يكون تَقْدِيره إِن الْأَشْخَاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الموصوفة بالغيرة لَا تبلغ غيرتها وَإِن تناهت غيرَة الله عز وَجل وَإِن لم يكن شخصا بِوَجْه وَإِنَّمَا منعنَا من إِطْلَاق الشَّخْص عَلَيْهِ تَعَالَى الْأُمُور أَحدهَا أَن اللَّفْظ لم يثبت من طَرِيق السّمع وَالثَّانِي أَن الْأمة قد اجْتمعت على الْمَنْع مِنْهُ وَالثَّالِث أَن مَعْنَاهُ أَن يكون أجساما مُوَافقَة على نوع من التَّرْكِيب وَقد منعت الجسمية من إِطْلَاق الشَّخْص مَعَ قَوْلهم بالجسم فَدلَّ ذَلِك على تَأْكِيد مَا قُلْنَا من الْإِجْمَاع على مَنعه فِي صفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ذكر خبر آخر فِي معنى مَا تقدم ذكره من حَدِيث الصُّورَة فِي خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض جَاءَ مِنْهُم الْأَحْمَر والأبيض وَالْأسود وَبَين ذَلِك والسهل والخشن والخبيث وَالطّيب وَبَين ذَلِك // أخرجه الإِمَام أَحْمد // وَرُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار أَن الْملك الَّذِي حمل إِلَى الله عز وَجل الطين هُوَ الْمُسَمّى ملك الْمَوْت وَلذَلِك سلط على قبض الْأَرْوَاح وَاعْلَم أَن تَأْوِيل القبضة على معنى الْجَارِحَة والعضو وَالْبَعْض مُسْتَحِيل كَونه جسما أَو أجساما على مَا تقدم ذكره وَبَيَانه من قبل فإمَّا أَن يحمل القبضة على معنى الْقُدْرَة كَقَوْل الْقَائِل مَا فلَان إِلَّا فِي قبضتي على معنى أَنِّي قَادر عَلَيْهِ وعَلى هَذَا تأولوا قَوْله عز وَجل {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته} أَي تَحت قدرته وَملكه وَقد قيل أَيْضا إِن معنى الْآيَة من قَوْله قَبضته أَن ذَلِك فِي حكم الفناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تَحْقِيقا للمعاد واستشهدوا بقول الْقَائِل قبض الله نَفسِي إِلَيْهِ أَي أفناه فَأَما المُرَاد بالقبضة فِي هَذَا الْخَبَر فَهُوَ اجْتِمَاع جملَة من أَجزَاء الْمَذْكُور فِيهِ من الطين شهت فِي إجتماعها بِالْجُمْلَةِ المجتمعة فِي قَبْضَة الْجَارِحَة وَأما تَأْوِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبضهَا الرَّحْمَن فَيحْتَمل وُجُوهًا أَحدهَا أَن يكون طَرِيق ذَلِك وتأويله على معنى إِظْهَار فعل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فطمسنا أَعينهم} وكما قَالَ تَعَالَى {الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم} وَلَيْسَ ذَلِك طمسا وختما على تَأْوِيل مَعْنَاهُ ومباشرة ومعالجة وممارسة لما يحدث فِيهِ الْفِعْل بل ذَلِك على سَائِر مَا يظْهر من أَفعاله عز ذكره لِأَنَّهُ يفعل أَفعاله إبتداء اخْتِيَارا بقدرته وإرادته وَأمره لَهُ كن فَيكون وَيحْتَمل ذَلِك وَجها آخر وَهُوَ أَن يكون ذَلِك قبض جارحه وَلكنهَا لبَعض الْمَلَائِكَة وَلَا يمْتَنع وصف الْمَلَائِكَة بالجارحة فَقيل قبضهَا الرَّحْمَن على معنى أَن الْملك قبض على ذَلِك بِأَمْر الرَّحْمَن ومثاله فِي الْكَلَام الْجَارِي وَبَين النَّاس ضرب الْأَمِير اللص وَإِنَّمَا أمره لضربه وَالْأَصْل فِي ذَلِك إِضَافَة الْحَوَادِث إِلَى الْمَالِك لَهَا بِاللَّفْظِ الْأَعَمّ قد يُضَاف إِلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْأَخَص فَإِن كَانَ متضمنة على التَّخْصِيص لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 يصلح لَهُ على الْوَجْه الَّذِي يجْرِي على غَيره فَيحمل ذَلِك حِينَئِذٍ على المتعالم الْمَشْهُود بَين النَّاس وَأهل الْخطاب فِي نِسْبَة الْفِعْل بِاللَّفْظِ الْأَخَص إِلَى من أَمر بِهِ وَالْمرَاد بذلك أَنه حصل بِمَا أمره وَحدث بقدرته وَلَيْسَ بمنكر فِي الْعُقُول أَن يكون الله عز وَجل وَخلق طِينَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام من أَجزَاء أَنْوَاع الطين وَأَن الْأَخْلَاق والخلق إختلفت وتفاوتت كَمَا تفاوتت أَجزَاء الطين لَا لأجل تفاوتها أوجب ذَلِك بل حدوثها على تِلْكَ الْوُجُوه لكنه جعلهَا عبرا وعلامات ربوبيته ووحدانيته الَّتِي حدثت عَلَيْهِ بقدرة الله وإختياره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ذكر خبر آخر فِي مثل هَذَا الْمَعْنى مِمَّا ذكر فِي خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله خمر طِينَة آدم أَرْبَعِينَ صباحا ثمَّ خلطها بِيَدِهِ فَخرج كل طيب بِيَمِينِهِ وَخرج كل خَبِيث بِشمَالِهِ وَمسح إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْأُخْرَى تَأْوِيل ذَلِك إعلم أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله خمر طِينَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَمَعْنَاه مَا ذكرنَا من إِضَافَة بعض أَفعاله على اللَّفْظ الْخَاص كَمَا يُقَال عذب وأنعم وحرك وَسكن وَالرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى حُدُوث الْمعَانِي مِنْهُ بقدرته وَيكون ذَلِك مَحْمُولا على حكم سَائِر أَفعاله فَإِنَّهَا تحدث مِنْهُ لَا على معاناه ومباشرة وتخمير الطينة إِنَّمَا هُوَ تغيرها من هَيْئَة إِلَى هَيْئَة وتجديد ذَلِك عَلَيْهَا حَالا فحالا فِي هَذِه الْمدَّة الْمَذْكُورَة ليجعل هَيْئَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا خلق عَلَيْهَا عبر للمعتبرين وَأَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَصله طينا على هَذَا الْوَجْه هَذِه الْمدَّة الْمَذْكُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَيُشبه أَن يكون مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَر أَن النُّطْفَة تكون علقَة أَرْبَعِينَ ثمَّ تكون مُضْغَة مثلهَا إِلَى أَن ينْفخ فِيهَا الرّوح فَكَانَت مُدَّة تغير آدم عَلَيْهِ السَّلَام من هَيْئَة إِلَى هَيْئَة كنحو مُدَّة تغير النُّطْفَة وَإِن كَانَ أَمر النُّطْفَة مفارقا لِعَظَمَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام من وُجُوه أخر وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خلطها بِيَدِهِ فَإِن تَأْوِيل قَوْله خلطها على معنى مَا ذكرنَا من قَوْله خمر طِينَة آدم وَقَوله من قَبْضَة قبضهَا الرَّحْمَن وكلا الْوَجْهَيْنِ من التَّأْوِيل سَائِغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فِيهِ إِن قُلْنَا إِن ذَلِك إِظْهَار فعل وَإِضَافَة إِلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْخَاص من جِهَة الْملك وَالتَّقْدِير سَائِغ وَإِن قُلْنَا إِن ذَلِك على تَأْوِيل قَول الْقَائِل قتل الْأَمِير اللص على أَنه أَمر بِهِ وَإِن الْقَتْل حدث عَن ملكه وَحكمه كَانَ غير مُنكر أَيْضا وَأعلم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالْيَدِ هَا هُنَا هُوَ المُرَاد بقوله {خلقت بيَدي} لِأَن الْخلق هُوَ الإحداث عَن الْعَدَم وخلط الشَّيْء بالشَّيْء بإحداث لَهُ فَإِذا قُلْنَا إِن إِضَافَة هَذَا الْفِعْل لله عز وَجل من طَرِيق الْأَمر وَإِن ذَلِك حدث عَن أَيدي بعض المخلوقين من مَلَائكَته وخلقه فَإِنَّهُ لَا يُنكر أَن يكون خلط مُبَاشرَة بيد جارحة كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر الآخر أَن ذَلِك كَانَ ملكا من الْمَلَائِكَة أمره الله عز وَجل بِجمع أَجزَاء الطين من جملَة الأَرْض وَأمره أَن يخلطها بِيَدِهِ فَخرج كل طيب بِيَمِينِهِ وكل خَبِيث بِشمَالِهِ فَيكون الْيَمين وَالشمَال للْملك والخلط والتخمير مضافتين إِلَى الله تَعَالَى من حَيْثُ كَانَ عَن أمره وَحكمه وَجعل كَون بَعضهم من يَمِين الْملك عَلامَة لأهل الْخَيْر مِنْهُم وَكَون بَعضهم فِي شِمَاله عَلامَة لأهل الشَّرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 مِنْهُم وَكَذَلِكَ يُقَال فِي الْخَبَر الآخر إِن الله خلق الطّيب من ذُريَّته فِي الْجَانِب الْأَيْمن من آدم والخبيث فِي الْجَانِب الشمَال وَكَذَلِكَ ينادون يَوْم الْقِيَامَة بأصحاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال على بعض مَا يذكر من وُجُوه تَأْوِيل قَوْله أَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال فَإِن رَجَعَ بِالْيَمِينِ وَالشمَال إِلَى يَمِين الْملك وشماله وَكَانَ ذَلِك ابْتِدَاء مَا أَرَادَ أَن يضع الْعَلامَة على أهل الْخَيْر وَالشَّر ثمَّ جعلهَا فِي صلب آدم على هَذَا التَّقْدِير لم يكن مُنْكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَيكون تَأْوِيل قَوْله وَمسح إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْأُخْرَى على مَا ذكرنَا إِن ذَلِك حَادث جرى على أَيدي بعض الْمَلَائِكَة لم يكن ذَلِك مُنْكرا وَيكون إِضَافَة الْيَدَيْنِ الْيَمين وَالشمَال إِلَى الْملك على طَرِيق أَنه جارحة لَهُ وَبَعض وَيكون إِضَافَة الْمسْح إِلَى الله عز وَجل من طَرِيق الْأَمر وَالْحكم وَالْفِعْل لَهُ التَّقْدِير وَيكون إِضَافَة الْوَجْه إِلَى الله عز وَجل على التَّأْوِيل الآخر بِمَعْنى الْملك وَالْقُدْرَة وَيحْتَمل أَن يُقَال فِي قَوْله ثمَّ خلطها بِيَدِهِ أَي بِملكه وَقدرته وَلَا يجب على ذَلِك أَن يحمل قَوْله تَعَالَى خلقت بيَدي على مثل هَذَا التَّأْوِيل لوجوه تَأَكد بهَا ذَلِك وَفَارق بهَا الْمَذْكُور من الْيَد هَا هُنَا وأحدها أَنه حمل ذَلِك على معنى الْقُدْرَة كَانَ فِيهِ إبِْطَال تَفْضِيل آدم على إِبْلِيس وَإِنَّمَا ذَلِك كَلَام جرى على طَرِيق الإحتجاج على إِبْلِيس فِي إمتناعه من السُّجُود لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي حمله على الْمقدرَة مَا يُوجب الْمُسَاوَاة وَإِسْقَاط مَوضِع الإحتجاج بِهِ على إِبْلِيس فِي تفضيله عَلَيْهِ فَإِذا قُلْنَا إِن تَأْوِيل قَوْله ثمَّ خلطها بِيَدِهِ أَي يملكهُ وَقدرته فَإِنَّهُ يحْتَمل قَوْله فَخرج كل طيب بِيَمِينِهِ أَي بِمَا أنعم عَلَيْهِ من توفيقه وتسديده وكل خَبِيث بِشمَالِهِ بِمَا حرمه من معونته ونصرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وَالْعرب قد تسْتَعْمل لفظ الْيَمين على معنى الْجد والحظ من الْخَيْر قَالَ قَائِل (إِذا مَا راية دفعت لمجد ... تلقاها عرابة بِالْيَمِينِ) أَي بجدار وبخت وحظ فِي الْوُصُول إِلَى المُرَاد وَيحْتَمل قَوْله مسح إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْأُخْرَى أَن يكون مَعْنَاهُ إِن الله عز وَجل لما خلق الذُّرِّيَّة خلقهَا نَوْعَيْنِ طيبا وخبيثا وميزها وَجعل مَحل الطّيب جَانب الْيَمين عِنْد يَمِين السَّعَادَة والتوفيق وَجعل مَحل الْخَبيث جَانب الْيَسَار من آدم أَو من الْملك الَّذِي أمره بخلط الطينة كَانَ ذَلِك متميز الْعين وَالْحكم ثمَّ خلطها خلطا آخر وَهُوَ أَن يَجْعَل الطّيب فِي الْمحل الْخَبيث والخبيث فِي الْمحل الطّيب على تَأَول من تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} أَن مَعْنَاهُ تولد الْكَافِر من الْمُؤمن وَالْمُؤمن من الْكَافِر لِأَن مَا يحصل عَن مسح إِحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْأُخْرَى مختلط غير مُمَيّز فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك مثل ضَرْبَة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 تَعَالَى لتعريفه حكم السَّعَادَة والشقاوة بالفريقين من ذُرِّيَّة آدم فأفادنا بتعريف ذَلِك أَنه خلق طِينَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام من أَنْوَاع طين مُخْتَلف ثمَّ خلق ذُريَّته نَوْعَيْنِ فِي محلين مُخْتَلفين من خليقته كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر على مِثَال الذَّر وَكَانَا متميزين فِي الْمحل فَلَمَّا حصلت فِي الترائب والأصلاب حصلت مختلطة غير مُمَيزَة فَكَذَلِك يخْتَلف الْأَحْوَال فِي حكم الْإِيمَان وَالْكفْر وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة على التناسل والتوالد وَإِذا احْتمل بعض مَا ذكرنَا وَكَانَ ذَلِك سائغا فِي الْعَرَبيَّة وَحصل مِنْهُ الْفَوَائِد على التَّأْوِيل الَّذِي ذكرنَا كَانَ أولى من أَن يعْتَقد فِيهَا مَا يُنَافِي التَّوْحِيد وَيُؤَدِّي إِلَى الْكفْر والتشبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ذكر خبر آخر فِي مثل هَذَا الْمَعْنى وَقد رُوِيَ فِي هَذِه الْقِصَّة أَيْضا فِي خبر آخر أَن الله عز وَجل لما قبض الذُّرِّيَّة من ظهر آدم بكفه قَالَ خُذ أَيهمَا شِئْت قَالَ أخذت يَمِين رَبِّي وكلتا يَدَيْهِ يَمِين // أخرجه السُّيُوطِيّ فَفَتحهَا فَإِذا فِيهَا صُورَة آدم وَذريته قَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع انْفَرد بِرِوَايَة هَذَا الحَدِيث حَاتِم بن إِسْمَاعِيل وَكَانَ ضَعِيفا والمقبري وَكَانَ مدلسا وانتشر عَنهُ كَانَ يُدَلس فِيمَا يرْوى عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فَلَعَلَّ هَذَا الحَدِيث من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فَأَما إِذا قيل على مَا فِيهِ أمكن أَن يكون تَأْوِيله على بعض هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذكرنَا أما قَوْله قبض الذُّرِّيَّة من ظهر آدم فَلَعَلَّ الْوَجْه الَّذِي بَينا تَأْوِيله أَن القبضة أضيفت إِلَيْهِ ملكا وفعلا وتقديرا أَو حكما وأمرا وَأما الْكَفّ فقد ذكرنَا فِيمَا قبل أَنه يحْتَمل وُجُوهًا وَذكرنَا شَوَاهِد ذَلِك فَإِن حمل على معنى الْقُدْرَة وَالْملك صَحَّ وَإِن حمل على معنى النِّعْمَة والأثر الْحسن صَحَّ لِأَن ذَلِك مِمَّا حدث فِي ملكه بقدرته وَعَن ظُهُور نعْمَته عل بَعضهم وآثاره الْحَسَنَة فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أخذت يَمِين رَبِّي فَيحْتَمل وَجها أَحدهَا أَن الْيَمين لما كَانَ محلا للطيب من ذُريَّته اخْتَار مَا كَانَ اخْتَارَهُ الله عز وَجل وأضيف الْيَمين من الله تَعَالَى إِلَى الله تَعَالَى من طَرِيق الْملك وَالْقُدْرَة وَالْفِعْل الَّذِي جعله فِي الْيَمين من أهل السَّعَادَة وهم أولياؤه فقد أَخَذته على معنى أخترتهم وواليتهم وأحببتهم وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك على معنى مَا ذكرنَا من قَوْلهم تلقاها عرابة بِالْيَمِينِ وَيكون الْيَمين من الْيمن فأثر الله من ظَهرت فيهم وُجُوه الْبركَة واليمن والسعادة من الله عز وَجل وأضيف الْيَمين إِلَى الله على معنى أَنه هُوَ الَّذِي أسعد بِهِ وَقَوله وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع مَعْنَاهُ أَنِّي رددت أَمْرِي فِي ذَلِك إِلَى رَبِّي تَعَالَى واخترت مَا اخْتَار وفوضت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ خُذ أَيهمَا شِئْت فَترك أَن يخْتَار ورد الْأَمر إِلَيْهِ كَأَنَّهُ أَرَادَ اخْتَرْت مَا يخْتَار وآثرت مَا يؤثره وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلتا يَدَيْهِ يَمِين فقد ذكر بعض مَشَايِخنَا فِي تَأْوِيل ذَلِك أَنه كَانَ يَقُول إِن الله عز ذكره الْمَوْصُوف بيد الصّفة لَا بيد الْجَارِحَة وَإِنَّمَا تكون يَد الْجَارِحَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يَمِينا وَشمَالًا لِأَنَّهُمَا يكونَانِ لتبعيض وتجزيء ذِي أَعْضَاء وأغيار وَلما لم يكن مَا وصف الرب بِهِ يَد جارحة وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك بقوله وكلتا يَدَيْهِ يَمِين أَي لَيست هِيَ يَد جارحة وَقيل أَيْضا فِي ذَلِك إِن المُرَاد أَن الله عز ذكره لما وصف باليدين وَيَد الْجَارِحَة تكون إِحْدَاهمَا يَمِينا وَالْأُخْرَى شمالا واليسرى تنقص أبدا فِي الْغَالِب عَن الْيَمين فِي الْقُوَّة والبطش عرفنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَال صفة الله عز وَجل وَأَنه لَا نقص فِيهَا وَأَن مَا وصف بِهِ من الْيَدَيْنِ لَيْسَ كَمَا وصف بِهِ ذُو الْجَوَارِح الَّذِي تنقص مياسره عَن ميامنه وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون معنى ذَلِك أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما قيل لَهُ خُذ أَيهمَا شِئْت فَقَالَ أخذت يَمِين رَبِّي وكلتا يَدَيْهِ يَمِين إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بَيَان الشُّكْر وَالنعْمَة لَا بَيَان الحكم والإعتراف بِالْملكِ فَذكر الْفضل وَالنعْمَة لِأَن جَمِيع مَا بيدَيْهِ جلّ وَعز من مننه فضل وَطول مُبْتَدأ فَمن منفوع يَنْفَعهُ وَمن مَدْفُوع عَنهُ يَحْرُسهُ فقصد قصد الشُّكْر والتعظيم للمنة وَأَن مَا اخْتَارَهُ هُوَ الْكل والجميع حظا مِمَّا وَرَاءه تصغيرا لَهُم وتهجينا وَقَالَ بَعضهم معنى كلتا يَدَيْهِ يَمِين أَرَادَ وصف الرب تَعَالَى بغاية الْجُود وَالْكَرم وَالْإِحْسَان وَالْفضل وَذَلِكَ لِأَن الْعَرَب تَقول لمن هُوَ كَذَلِك كلتا يَدَيْهِ يَمِين وَإِذا نقص حَظّ الرجل وبخس نصِيبه قبل جعل سَهْمه فِي الشمَال وَإِذا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يكن عِنْده إجتلاب مَنْفَعَة وَلَا دفع مضرَّة قيل لَيْسَ فلَان بِالْيَمِينِ وَلَا بالشمال وَلذَلِك قَالَ الفرزدق يمدح كلتا يَدَيْهِ يَمِين غير مُخْتَلفَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ذكر خبر آخر فِي هَذَا الْمَعْنى وَرُوِيَ فِي خبر آخر أَن يَمِين الله سُبْحَانَهُ سحاء لَا يغيضها شَيْء مَعْنَاهُ عطايا الله كَثِيرَة لَا ينقصها شَيْء وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب المرار الشَّاعِر حَيْثُ يَقُول (وَإِن على الأوايد من عقيل ... فَهَل كلتا يَدَيْهِ لَهُ يَمِين) والعبر تعبر عَن النعم والأفضال بِالْيَدِ وَالْيَمِين كلتيهما وَرُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَات يَوْم لنسائه أَطْوَلكُنَّ يدا أَسْرَعكُنَّ موتا // أخرجه مُسلم فَكُن يتذارعن فَكَانَت سَوْدَة أَطْوَلهنَّ يدا فَلَمَّا توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت زَيْنَب أولهنَّ موتا بعده فَقُلْنَ كَيفَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ ثمَّ ذكرن أَنَّهَا كَانَت أَطْوَلهنَّ يدا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الْخَيْر فَبَان الْخَيْر أَن الْعَرَب تعبر عَن النعم وَالْأَفْضَل بِالْيَدِ وَالْيَمِين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ذكر خبر آخر فِي هَذَا الْمَعْنى وَمثل هَذَا الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ المقسطون عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن // أخرجه مُسلم وَقد تَأَول النَّاس ذَلِك على تأولين فَمنهمْ من قَالَ مَعْنَاهُ عَن يَمِين عرش الرَّحْمَن على طَريقَة الْعَرَب فِي الْحَذف والإضمار كَمَا قَالَ الْقَائِل (واستب بعْدك يَا كُلَيْب الْمجْلس ... ) يَعْنِي أهل الْمجْلس وكما قَالَ عز وَجل {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} أَي حبه وَقَالَ بَعضهم معنى قَوْله عَن يَمِين الرَّحْمَن أَرَادَ بِهِ الْمنزلَة الرفيعة وَالْمحل الْعَظِيم وَهَذَا سَائِغ فِي لُغَة الْعَرَب وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ كَانَ فلَان عندنَا بِالْيَمِينِ اي كَانَ لَهُ عندنَا الْمحل الْجَلِيل والرتبة الْعَظِيمَة وَلذَلِك قَالَ الشَّاعِر (أَقُول لناقتي إِذْ بلغتني ... لقد أَصبَحت عِنْدِي بِالْيَمِينِ) أَي الْمحل الْجَلِيل وَإِذا كَانَ هَذَا مَعْرُوفا فِي اللُّغَة فِيمَا بَينهم واستحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وصف الله تَعَالَى بِالْحَدِّ والجهة وَالْبَعْض والغاية والتأليف والممارسة وَجب أَن يكون مَحْمُولا على مَا قُلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ذكر خبر آخر فِي هَذَا الْمَعْنى وَمثله أَيْضا مَا رُوِيَ فِي خبر آخر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ الْحجر الْأسود يَمِين الله فِي أرضه يُصَافح بهَا من شَاءَ من خلقه // رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ // وَقد تَأَول أهل الْعلم ذَلِك على وَجْهَيْن من التَّأْوِيل أَحدهمَا أَن المُرَاد بذلك الْحجر أَنه من نعم الله على عباده بِأَن جعله سَببا يثابون على التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى بمصافحته فيؤجرون على ذَلِك وَقد بَينا أَن الْعَرَب تعبر عَن النعم بِالْيَمِينِ وَالْيَد كَمَا ذكرنَا قبل وَزعم بَعضهم أَن هَذَا تَمْثِيل وَأَصله أَن الْملك إِذا صَافح رجلا قبل الرجل يَده فَكَأَن الْحجر لله تَعَالَى بِمَنْزِلَة الْيَمين لملك ليستلم ويلثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَقد رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله عز وَجل أَخذ الْمِيثَاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى جعل ذَلِك فِي الْحجر الْأسود فَلذَلِك يُقَال عِنْده إِيمَانًا بك ووفاء بعهدك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَيحْتَمل وَجها آخر وَهُوَ أَن يكون قَوْله الْحجر يَمِين الله فِي أرضه إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ على طَرِيق التَّعْظِيم للحجر وَهُوَ فعل من أَفعَال الله عز وَجل سَمَّاهُ يَمِينا وَنسبه إِلَى نَفسه وَأمر النَّاس بإستلامه ومصافحته ليظْهر طاعتهم بالإئتمار وتقربهم إِلَى الله عز وَجل فَيحصل لَهُم بذلك الْبركَة والسعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما قضى خلقه إستلقى وَوضع أحدى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى ثمَّ قَالَ لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يفعل مثل هَذَا وأكدوا ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن كَعْب أَنه نهى الْأَشْعَث بن قيس أَن يضع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى وَقَالَ إِنَّهَا جلْسَة الرب تَعَالَى تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَن قَوْله لما قضى خلقه أَي لما أتم خلقه مَا أَرَادَ أَن يخلق من السَّمَاوَات وَالْأَرضين وَمَا بَينهمَا وَمثله فِي اللُّغَة قضى فلَان دينه وَصلَاته أَي أَدَّاهُ وَمثله قَوْله تَعَالَى {فقضاهن سبع سماوات} أَي خَلقهنَّ وَقَوله {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} أَي فرغ مِنْهَا وَأديت وَأما قَوْله اسْتلْقى فقد تَأَول أهل الْعلم ذَلِك على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن الله عز وَجل لما خلق مَا أَرَادَ أَن يخلق من السَّمَوَات وَالْأَرضين وَمَا بَينهمَا ترك أَن يخلق أمثالهم دَائِما أبدا وَلَو شَاءَ لأدام ذَلِك لِأَن هَذِه كلمة تسْتَعْمل فِي اللُّغَة وَالْعَادَة على هَذَا الْمَعْنى كثيرا وَيُقَال مثله لمن عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أعمالا ثمَّ ترك أَن يفعل مثلهَا ويديم ذَلِك وَإِذا قيل للْإنْسَان فعل وَوضع فَإِنَّهُ يكون بمعاناة وحركة وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك وَإِنَّمَا هَذَا كالمثل الْمَضْرُوب بَين النَّاس فَيُقَال بني فلَان دَاره وعجدها واستلقى على ظَهره وَإِن لم يكن قد اضْطجع على التَّمْثِيل بِمن كَانَ على هَيْئَة من يفرغ من عمله وَلم يرد أَن يفعل مثل مَا فعل والتأويل الثَّانِي أَن يكون مَعْنَاهُ لما خلق الله مَا أَرَادَ أَن يخلقه من هَذِه الْجمل الَّتِي خلقهَا إستلقى على معنى ألْقى بَعْضهَا على بعض فَجعل السَّمَاء فَوق الأَرْض {وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم} وَجعل سَمَاء فَوق سَمَاء إِلَى الْعَرْش أطباقا بَعْضهَا فَوق بعض وَيكون دُخُول السِّين وَالتَّاء فِي القى هَا هُنَا على معنى قَول الْقَائِل إستدعى وإستبرأ وَنَحْوه إِذا أَرَادَ الدُّعَاء والبراءة فَلَمَّا خلق الله عز وَجل مَا خلق وَأَرَادَ أَن يلقِي بعضه على بعض قيل لَهُ إستلقى على معنى ألْقى شَيْئا مِنْهُ على شَيْء وَهُوَ على الْهَيْئَة الْمَعْرُوفَة الْمُعْتَادَة وَأما قَوْله ثمَّ وضع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى فَفِيهِ أَيْضا وَجْهَان من التَّأْوِيل أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن الله عز وَجل خلقهمْ فريقين وزوجين شقيا وسعيدا وغنيا وَفَقِيرًا وصحيحا وسقيما فَسمى كل صنف مِنْهَا رجلا ثمَّ وضع إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى مَعْنَاهُ أَنه رفع قوما على قوم فَجعل بَعضهم ملوكا وَبَعْضهمْ عبيدا وَبَعْضهمْ سادة للخير والمحنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون الله تَعَالَى سمى الجماعتين رجلَيْنِ لِأَن الْعَرَب تسمى الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة رجلا وَلذَلِك يَقُولُونَ مر بِنَا رجل من جَراد أَي جمَاعَة كَثِيرَة وَأما معنى النِّسْبَة إِلَيْهِ فَمن طَرِيق الْفِعْل وَالْملك كَمَا نسب روح آدم إِلَيْهِ وَأما مَا رُوِيَ عَن كَعْب فِي نَهْيه الْأَشْعَث عَن وضع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى فقد قيل إِن كَعْبًا كَانَ يَأْخُذ الْعلم من الْكتب وَفِي الْكتب تَحْرِيف لما أخبرنَا الصَّادِق بِأَنَّهُم حرفوه وبدلوه على أَن كَعْبًا لم يقل أَيْضا أَي رب هُوَ وَذَلِكَ لفظ مُشْتَرك وَيحْتَمل أَن يخرج ذَلِك أَيْضا على أَن مَعْنَاهُ إِن هَذَا جلْسَة الْجَبَابِرَة فزجروه عَن التَّشْبِيه بهم لِأَن الْعَرَب تَقول للمعظم الشَّأْن الرب وَتَحْقِيق ذَلِك مَا قَالَ الحكم بن عتيبة عَن أبي مجلز قَالَ سَأَلته عَن الرجل يجلس وَيَضَع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى قَالَ لَا بَأْس إِنَّمَا كره ذَلِك أهل الْكتاب زَعَمُوا أَن الله سُبْحَانَهُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ إستوى على الْعَرْش يَوْم السبت فَجَلَسَ تِلْكَ الجلسة وَأنزل الله تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مسنا من لغوب} وَبلغ الْحسن ذَلِك فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِك شَيْء كَانَت الْيَهُود تَقوله فَلَمَّا جَاءَ الْمُسلمُونَ أَنْكَرُوا ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وروى الزُّهْرِيّ عَن عباد بن تَمِيم الْمَازِني عَن عَمه عبد الله بن زيد قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَلْقِيا فِي الْمَسْجِد وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر يفْعَلَانِ ذَلِك رَضِي الله عَنْهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويومهم ظَاهره التَّشْبِيه وَهُوَ من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَن أهل النَّقْل روى قَتَادَة عَن أنس وَابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن جَهَنَّم لن تمتلئ حَتَّى يضع الْجَبَّار قدمه فِيهَا فَتَقول قطّ قطّ // أخرجه الإِمَام أَحْمد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَقد رُوِيَ من وَجه غير ثَابت عَن أهل النَّقْل حَتَّى يضع الْجَبَّار رجله فِيهَا فتنزوي فَيَقُول قطّ قطّ أعلم أَن هَذَا الْخَبَر مِمَّا طلب أهل الْعلم قَدِيما وحديثا تَأْوِيله وتخريجه بِحسن طَرِيقه وَصِحَّة سَنَده وَقد حمل كل فريق مِنْهُم ذَلِك على تَأْوِيل رَأَوْهُ صَوَابا فَمن ذَلِك مَا يحْكى عَن الْفضل بن شمبل أَنه كَانَ يَقُول إِن معنى الْقدَم هَا هُنَا هم الْكفَّار الَّذِي سبق فِي علم الله تَعَالَى أَنهم من أهل النَّار وَحمل معنى الْقدَم على أَنه هُوَ الْمُتَقَدّم لِأَن الْعَرَب تَقول للشَّيْء الْمُتَقَدّم قدم وَقدم وعَلى ذَلِك تَأْوِيل المتأولون قَوْله عز وَجل {وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} أَي سَابِقَة صدق وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي الْقدَم هُوَ الْمُتَقَدّم فِي الشّرف وَالْفضل خُصُوصا والقدم هُوَ الْمُتَقَدّم وَإِن لم يكن فِيهِ شرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَقَالَ وضاح الْيَمين (صل لِرَبِّك وَاتخذ قدما ... ينجيك يَوْم العثار والزلل) الصَّوَاب صل لمولاك أَرَادَ بذلك معنى من الْفضل يتَقَدَّم ربه وَقَالَ آخر (فقدت بِهِ قدم الفخار فَأَصْبَحت أنسا بِهِ منقضة من حالق ... ) أَرَادَ بذلك مَا تقدم من الشّرف وَمَا يفتخر بِهِ أَنه عدم ذَلِك وفقده وَقَالَ العجاج (ذل بَنو الْعَوام عَن آل الحكم ... وَنَشَأ الْملك بِملك ذِي قدم) أَي مُتَقَدم فِي الشّرف وَالْملك وَقَالَ بَعضهم الْقدَم خلق من خلق الله يخلقه يَوْم الْقِيَامَة فيسميه قدما ويضيفه إِلَيْهِ من طَرِيق الْفِعْل وَالْملك يَضَعهُ فِي النَّار فتمتلئ مِنْهُ وَقَالَ بَعضهم إِن المُرَاد هَا هُنَا قدم بعض خلقه فأضيف إِلَيْهِ كَمَا يُقَال ضرب الْأَمِير اللص فيضاف الضَّرْب إِلَيْهِ على معنى أَنه من أمره وَحكمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَقَالَ بَعضهم إِن الْجَبَّار هَا هُنَا يحْتَمل أَن يكون أُرِيد بِهِ الْمَوْصُوف بالتجبر من الْخلق لِأَن ذَلِك من الْأَوْصَاف الْمُشْتَركَة وَلَيْسَت هِيَ من الْأَوْصَاف الْخَاصَّة لله تَعَالَى وَذَلِكَ من وصف الْكفَّار أَلا تسمع قَوْله عز وَجل {كل جَبَّار عنيد} فِي وصف الْكفَّار فَإِذا كَانَ كَذَلِك احْتمل أَن يُرِيد بقوله الْجَبَّار جِنْسا من الجبارين وهم الْكَفَرَة المعاندون أَرَادَ يعرفنا إمتلاء النَّار بهم وَإِن جَهَنَّم لن تمتلئ إِلَّا بهم وَقَالَ بَعضهم الْجَبَّار هَهُنَا إِبْلِيس وشيعته ذَلِك أَنه أول من استكبر على الله سُبْحَانَهُ فِي وَصفه {إِلَّا إِبْلِيس أَبى واستكبر وَكَانَ من الْكَافرين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 والتجبر والإستكبار بِمَعْنى وَاحِد وجهنم تمتلئ بِهِ وبشيعته وَأَتْبَاعه وَلَا يُنكر وَصفهم بالجوارح والأعضاء وَإِذا احْتمل لفظ الْقدَم هَذِه الْمعَانِي فَكَذَلِك يحْتَمل لفظ الْجَبَّار أَن يُرَاد بِهِ غير الله عز وَجل من المتجبرين لم يكن لحمله على مَا لَا يَلِيق بِاللَّه عز وَجل من إِضَافَة الْجَوَارِح والأبعاض إِلَيْهِ وفأما من روى هَذَا الحَدِيث على لفظ الرجل فقد قُلْنَا إِن هَذَا غير ثَابت عِنْد أهل النَّقْل وَإِن ثَبت فَمَعْنَاه لَا يَخْلُو من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا أما أَن يُرِيد بِهِ رجل بعض خلقه وأضيف إِلَيْهِ ملكا وفعلا أَو يُرَاد بِهِ رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 المتجبر المتكبر من خلقه أما أَوَّلهمْ وَهُوَ إِبْلِيس أَو من بعده من أَتْبَاعه وَقيل أَيْضا إِن الرجل فِي اللُّغَة يُقَال للْجَمَاعَة الْكَبِيرَة تَشْبِيها بِرَجُل الْجَرَاد لِأَن الْعَرَب تَقول مر بِنَا رجل من جَراد أَي قِطْعَة مِنْهُ فَيكون معنى الْخَبَر حَتَّى يدخلهَا خلق كَثِيرُونَ ويشبهون من الْكَثْرَة الْجَمَاعَات بِرَجُل الْجَرَاد وَفِي ذَلِك أنْشد قَول الْقَائِل مَتى انزوى إِلَيْهِم من الْحَيّ اليمانين أرجل أَي جماعات كَثِيرَة وَإِذا كَانَ هَذَا مَعْرُوفا فِي اللُّغَة فَحمل الْخَبَر على مثله أهْدى إِلَى الْحق وَأولى فِي وصف الرب الَّذِي لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَأما قَوْله تَقول قطّ قطّ أَي حسبي كَمَا يَقُول الْعَرَب (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني) وَيُقَال أَيْضا إِن ذَلِك حِكَايَة صَوت جَهَنَّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَقد رُوِيَ فِي نَحْو ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كَثَافَة جلد الْكَافِر فِي النَّار تبلغ أَرْبَعِينَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْجَبَّار وَهَذَا مِمَّا يبين لَك أَن لفظ الْجَبَّار لَيْسَ مِمَّا لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي صفة الله عز وَجل لِأَن المُرَاد بالجبار هَهُنَا الْمَوْصُوف بطول الذِّرَاع وَعظم الْجَسَد وَالْعرب تَقول نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة يفوت الْيَد طولهَا وَكَذَا قَالَ عز وَجل {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بجبار} وَإِذا كَانَ لفظ الْجَبَّار مُحْتملا لما قُلْنَا وَلَا يسوغ وصف الله سُبْحَانَهُ بالأبعاض والأجزاء وَكَانَ حملنَا لَهُ على ذَلِك يُفِيد فَائِدَة متجددة لم يكن لحمله على مَا لَا يَلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَجه من توهم الْجَارِحَة والأداة والعضو والآلات فِي صفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه مِمَّا ذكره النَّاس فِي هَذَا الْبَاب مِمَّا يدْخل فِي مَعْنَاهُ هُوَ مَا رُوِيَ عَن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يَقُول لداود عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم الْقِيَامَة مر بَين يَدي فَيَقُول إِنِّي أَخَاف أَن تدحضني خطيئتي فِي النَّار فَيَقُول مر خَلْفي فَيَقُول إِنِّي أَخَاف أَن تدحضني خطيئتي فَيَقُول خُذ بقدمي فَيَأْخُذ بقدمه فيمر قَالَ فَتلك الزلفى الَّتِي قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} ذكر تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَولا أَن عبيد بن عُمَيْر لَيْسَ بِحجَّة وَلَا هُوَ مِمَّن يجوز أَن يعْتَقد فِي الله أَنه مَحْدُود بقوله على أَنا نذْكر لكَلَامه وَجها صَحِيحا وتأويلا قَرِيبا فَنَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله عز وَجل لداود مر بَين يَدي أَي حاسب نَفسك قبل أَن أَسأَلك فَتكون محاسبتك لنَفسك أجدى عَلَيْك مِنْهَا قبل أَن أَسأَلك عَنْهَا وتصديق ذَلِك قَوْله عز ذكره {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله} أَي لَا تسبقوا قبل حكم الرَّحْمَن عَلَيْكُم فِي الشَّيْء فَكَذَلِك قَوْله لداود عَلَيْهِ السَّلَام مر بَين يَدي أَي خُذ فِي محاسبتك لنَفسك قبل مَسْأَلَتي لَك فَيَقُول دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَخَاف أَن تدحضني خطيئتي أَي إِذا حاسبت نَفسِي وَلم تصفح عني فِي محاسبتي لنَفْسي بِأَن تستر عَليّ وَتَعْفُو عني وَكَذَلِكَ فِي خلف تَأْوِيله مثل ذَلِك لما قَالَ مر من خَلْفي فَقَالَ أَخَاف أَن تدحضني خطيئتي إِنَّمَا أَخَاف أَن يَبْتَدِئ بمحاسبة نَفسه فَقَالَ مَا تبدي بِالْمَسْأَلَة ليَكُون جوابك بعد مَا أَسأَلك فخاف مثل ذَلِك فَقَالَ خُذ بقدمي أَي بِمَا قدمت لَك من الْعَفو والغفران وَالرَّحْمَة فقد صفحت عَنْك وغفرت لَك وَتقدم حكمي بذلك سَابق علمي وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن مثل هَذَا اللَّفْظ قد يسْتَعْمل فِيمَا لَيْسَ بمحدود أَيْضا وَلَا متناه وَلَا ذِي جوارح كَقَوْلِه عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} وَلم يرد الأمكنه بل أَرَادَ فِيمَا تقدم من قَول الْكَافرين وَلَا الْبَاطِل الَّذِي يَأْتِي من بعده وَقَوله خُذ بقدمي إِلَيْك كَمَا يُقَال فِيمَا بَيْننَا خُذ بإحساني إِلَيْك ودع مَا أَسَأْت إِلَيّ وَلَا تَأْخُذ بِهِ وَالَّذِي يُؤَيّد جَمِيع ذَلِك قَوْله فِي آخر الْقِصَّة فَتلك الزلفى قَالَ عز وَجل {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} يكْشف لَك عَن المُرَاد أَنه أُرِيد بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ من تقدم الرَّحْمَة لَهُ لَا قدم جارحة على النَّحْو الَّذِي تأولنا عَلَيْهِ قَوْله حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه وَفسّر الْمُفَسِّرُونَ قَوْله إِن لَهُم قدم صدق إِن ذَلِك لَيْسَ يرجع إِلَى الْجَارِحَة والآلة وَإِذا احْتمل من طَريقَة الْعَرَبيَّة مَا ذكرنَا وَكَانَ مثله فِي الْخطاب مُسْتَعْملا وَالْعرْف فِيهِ جَارِيا كَانَ مَا حملناه عَلَيْهِ أولى مِمَّا يتوهمه المشبهون من إِثْبَات الْجَوَارِح والأبعاض لله تَعَالَى وَأولى مِمَّا ذهب إِلَيْهِ المعطلة من مبطلي هَذِه الْأَحَادِيث لما بَينا من الْفَوَائِد الَّتِي تتَعَلَّق بهَا مَا يشْهد بِمثلِهِ الْقُرْآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه فَمن ذَلِك مَا روى مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله يضْحك تبَارك وَتَعَالَى إِلَى رجلَيْنِ يقتل أَحدهمَا الآخر كِلَاهُمَا دخل الْجنَّة يُقَاتل هَذَا فِي سَبِيل الله فيستشهد ثمَّ يَتُوب الله على قَاتله فَيسلم فِي سَبِيل الله فيستشهد // أخرجه بن ماجة // وَكَذَلِكَ مَا روى الْفضل بن دُكَيْن أَبُو نعيم عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الملك عَن عَليّ بن ربيعَة قَالَ حَملَنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ خَلفه حَتَّى مر بِنَا إِلَى جبانة الْكُوفَة ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذُنُوبِي إِنَّه لَا يغْفر الذُّنُوب أحد غَيْرك ثمَّ الْتفت إِلَيّ يضْحك فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إستغفارك لذنبك والتفاتك إِلَيّ ضَاحِكا لماذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فَقَالَ حَملَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلفه إِلَى مَوضِع ذكره ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذُنُوبِي إِنَّه لَا يغْفر الذُّنُوب أحد غَيْرك ثمَّ الْتفت إِلَيّ يضْحك فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ ضحِكت لضحك رَبِّي يعجب لعَبْدِهِ إِنَّه يعلم أَنه لَا يغْفر الذُّنُوب أحد غَيره وَحَدِيث عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله سُبْحَانَهُ ليضحك إِلَى ثَلَاث رجل قَامَ فِي جَوف اللَّيْل وَأحسن الطّهُور ثمَّ صلى وَرجل نَام سَاجِدا وَرجل نجا كَتِيبَة منهزمة وَهُوَ على فرس جواد وَلَو شَاءَ أَن يذهب لذهب وَمَا رُوِيَ عَن عدي بن عميرَة أَن الله يضْحك فِي كل يَوْم وَلَيْلَة مرَّتَيْنِ وَمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ يضْحك رَبنَا من قنوط عباده قَالَ أَبُو رزين قلت يَا رَسُول الله أيضحك الرب قَالَ لن نعدم من رب يضْحك خيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 تَأْوِيل ذَلِك إعلم أَن هَذَا الحَدِيث من الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عَن أهل النَّقْل وَبَعضهَا يبين معنى بعض فَمن ذَلِك أَن لفظ الضحك مُشْتَرك الْمَعْنى فِي اللُّغَة وَيخْتَلف أَحْكَامه بإختلاف من يُضَاف إِلَيْهِ ذَلِك ويوصف بِهِ وَلَيْسَ هُوَ من الْأَلْفَاظ الَّتِي تخْتَص بِمَعْنى وَاحِد حَتَّى لَا يَلِيق بِهِ غَيره فَمن ذَلِك أَن الْعَرَب تَقول فِي تكشير أَسْنَان الْإِنْسَان وثغر فِيهِ إِذا وَقع على وَجه مَخْصُوص ضحك وَكَذَلِكَ تَقول ضحِكت الأَرْض بالنبات إِذا ظهر فِيهَا النَّبَات وانفتق عَن زهره وَكَذَلِكَ قَالَت الْعَرَب لطلع النّخل إِذا انفتق عَنهُ كافوره الضحك لأجل أَن ذَلِك يَبْدُو مِنْهُ مَعَ الْبيَاض الظَّاهِر كبياض الثغر يَقُولُونَ ضحك الطلعة إِذا ظهر مِنْهَا مَا كَانَ مستترا وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَائِل يضاحك الشَّمْس مِنْهَا كَوْكَب شَرق وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي ينشد فِي الرّبيع (أما ترى الأَرْض قد أعطتك زهرتها ... مخضرة فاكتسى بِالنورِ عاليها) (للسماء بكاء فِي جوانبها ... وللربيع ابتسام فِي نَوَاحِيهَا) يُرِيد الإبتسام ظُهُور النَّبَات فِيهَا وطلوع النُّور عَلَيْهَا وَأنْشد بَعضهم فِي معنى ذَلِك (كل يَوْم باقحوان جَدِيد ... يضْحك الرَّوْض من بكاء السَّمَاء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَكَذَلِكَ وَضحك المزن بهَا يُرِيد بالمزن السَّحَاب ويضحك الْبَرْق الَّذِي ظهر مِنْهُ وببكائه الْمَطَر وَحكى عَن بَعضهم أَن الْعَرَب تَقول للطريق الْوَاضِح الْبَين هَذَا طَرِيق ضَاحِك وَهَذَا طَرِيق لاحب إِذا أَرَادوا وَصفه بالظهور وَاعْلَم أَن معنى مرجع الضحك فِي جَمِيع هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِلَى الْبَيَان والظهور وَأَن كل من أبدى أمرا كَانَ يستره فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ ضحك وَكَذَلِكَ يُقَال لمن أبرز المكتوم وَأظْهر المستور ذَلِك فعلى هَذَا معنى الْخَبَر فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يضْحك الله أَي يُبْدِي عز وَجل من فَضله ونعمه وتوفيقه لهذين المقتولين المتقولين فِي سَبِيل الله اللَّذين قتل أَحدهمَا صَاحبه ثمَّ قتل قَاتله بِالشَّهَادَةِ ثَانِيًا من بعد تَوْبَته من قَتله وَبَين من ثوابهما وَأظْهر من كرامته لَهما وَكَذَلِكَ معنى مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخَبَر الآخر أَنه قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ضحِكت لضحك رَبِّي أَي أظهرت أَنا عَن أسناني بِفَتْح فمي لإِظْهَار رَبِّي سُبْحَانَهُ فَضله وَكَرمه لمن قَالَ هَذَا القَوْل وَهُوَ قَوْله اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذُنُوبِي إِنَّه لَا يغْفر الذُّنُوب أحد غَيْرك وَإِذا كَانَ الضحك مِمَّا اسْتعْمل فِي اللُّغَة على وُجُوه مَخْصُوصَة مِنْهَا تكشير الْأَسْنَان وَفتح الْفَم وَمِنْهَا ظُهُور المكتوم من الْأُمُور وبروز المستور من الْفِعْل وَكَانَ يَسْتَحِيل وصف الله عز وَجل بالجوارح والعينين لحلول الْحَوَادِث فِي ذَاته وَجب أَن يكون مَحْمُولا على مَا يَصح وَيجوز فِي وَصفه وَذَلِكَ هُوَ الْإِبَانَة عَن فَضله والإظهار لنعمه وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي رزين الْعقيلِيّ لما قَالَ لَهُ يَا رَسُول الله أيضحك رَبنَا فَقَالَ لن نعدم من رب يضْحك خيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَهَذَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِشَارَة إِلَى وصف الله تَعَالَى ذكره وتقدست أسماؤه بِالْقُدْرَةِ على فضل النعم وكشف الكرب والستار عَن الخفيات والكشف عَن الْأُمُور المستورة فرقا بَينه وَبَين الْأَصْنَام وَالَّتِي لَا يُرْجَى مِنْهَا خير وَلَا شَرّ وَإِذا كَانَ ذَلِك رُجُوعا إِلَى الْقُدْرَة على الْأَفْعَال بِالدفع والنفع فقد صَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَبَين عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بذلك عَمَّا إِلَيْهِ أَشَرنَا فَأَما مَا بَين لَك من الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي هَذَا الْمَعْنى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي رزين الْعقيلِيّ لن نعدم من رب يضْحك خيرا أَي يُبْدِي من فَضله وَيظْهر مِنْهُ مننه مَا يُبْدِي الضاحك وَمِمَّا يستر عَنهُ تَشْبِيها فِي معنى إِظْهَار مَا كَانَ مكتما وإبداء مَا كَانَ مخفيا وَإِذا احْتمل التَّأْوِيل مَا ذكرنَا واستحال وصف الله تَعَالَى بالجوارح والأبعاض وَجب أَن يحمل مَا قُلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَهُوَ مَا روى سُفْيَان بن عَيْنِيَّة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ خلق الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة من شعر ذِرَاعَيْهِ وصدره أَو من نورهما تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَن أول مَا فِيهِ أَن عبد الله بن عَمْرو لم يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قيل إِن عبد الله بن عَمْرو أصَاب وسقين من الْكتب يَوْم اليرموك فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِذا حَدثهمْ حَدثنَا مَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تحدثنا من وسقك يَوْم اليرموك وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن الَّذِي ذهب إِلَى ظَاهر التَّشْبِيه وَحمل الْأَمر فِي معنى هَذَا الْخَبَر على مَا هُوَ جوارح الْإِنْسَان وأعضاؤه هم الْيَهُود وَلذَلِك كَانَ وهب بن مُنَبّه يَقُول إِنَّمَا ضل من ضل بالتأويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يرْوى فِي كتب دانيال أَنه لما علا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَانْتهى إِلَى الْعَرْش رأى شخصا ذَا وفرة فتأول أهل التَّشْبِيه أَن ذَلِك رَبهم عز وَجل جهلا مِنْهُم بالتأويل وَإِنَّمَا ذَلِك إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام على أَن هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ أُسَامَة وَلم يقل فِيهِ ذِرَاعَيْهِ وصدره بل قَالَ من نور الذراعين والصدر مُطلقًا غير مُضَاف فَإِن كَانَ ذَلِك لم يُنكر أَن يكون صَدرا وذراعين لبَعض خلقه وَلم يُنكر أَيْضا أَن يكون الصَّدْر والذارعان من أَسمَاء بعض مخلوقاته وَقد وجدوا فِي النُّجُوم مَا يُسمى بذراعين وَلَيْسَ بمستنكر أَن يُسمى بِهَذَا الإسم غَيره من الْخلق فَيكون مَا خلق من الْمَلَائِكَة خلق من ذَلِك وَتَكون الْفَائِدَة فِيهِ التَّنْبِيه على مَا فِي قدرته عز وَجل من خلق الْمَخْلُوقَات وإنشاء المحدثات وَإنَّهُ لَا يعوزه عَظِيم مَا يخلقه وَلَا يعجزه وَقد قيل فِي تَأْوِيل قَوْله عز وَجل {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة} أَن الرّوح ملك من الْأَمْلَاك يكون وَحده صفا وَالْمَلَائِكَة كَهَذا بإزائه صفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَأما مَا فِي حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة من قَوْله شعر ذارعيه وصدره فَيحْتَمل أَيْضا أَن يتَأَوَّل على أَن ذَلِك إِضَافَة من طَرِيق الْملك وَشبه من طَرِيق الْفِعْل كَمَا قَالَ فِي قصَّة آدم عَليّ السَّلَام {ونفخت فِيهِ من روحي} وأضاف الرّوح إِلَى نَفسه إِضَافَة ملك وَتَقْدِير لَا إِضَافَة بِروح بهَا أَو حُلُول فِي ذَاته تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَالَّذِي يُؤَيّد ذَلِك مَا كَانَ يَقُوله ابْن شهَاب إِذا روى هَذَا الْخَبَر وَمثله فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول عِنْد ذَلِك والأذرع كلهَا لله عز وَجل والأصابع كلهَا لله عز وَجل يُشِير إِلَى معنى الْملك الْعَام كَسَائِر المملوكات وَهَذَا نَظِير مَا يحْكى عَن الْأَوْزَاعِيّ عِنْد رِوَايَته لخَبر النُّزُول وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَقُول عِنْد ذَلِك وَيفْعل الله مَا يَشَاء يعرفهُمْ أَن ذَلِك نزُول فعل لَا نزُول تحول وإنتقال من مَكَان إِلَى مَكَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 هَذَا يبين لَك صِحَة مَا أومينا إِلَيْهِ من أَن هَذِه الْإِضَافَة من طَرِيق الْفِعْل وَالْملك لِأَن سَائِر مَا يُضَاف إِلَيْهِ عز ذكره لَا يخرج عَن مثل هَذَا الْمَعْنى إِذا لم تكن الْإِضَافَة على طَرِيق إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف بهَا من جِهَة الْقيام بِذَاتِهِ على الْوَجْه الَّذِي يُوجب لَهُ إشتقاق الإسم وَالْحكم فَإِن قيل فَإِذا أجزتم هَذِه الطَّرِيقَة فَكيف أنكرتم قَول النَّصَارَى حَيْثُ قَالَت إِن عِيسَى ابْن الله على طَرِيق الْكَرَامَة وعَلى طَرِيق الْملك وَالْفِعْل قيل الأَصْل فِي سَائِر هَذِه الإضافات بِهَذِهِ الْأَوْصَاف الْخَاصَّة الَّتِي تجْرِي من طَرِيق الْملك وَالْفِعْل على من يُضَاف إِلَيْهِ ويوصف بِهِ السّمع وَلَا يجوز إِطْلَاق شَيْء من ذَلِك على الْوَجْه الْخَاص إِلَّا بِأَن يتقدمه سمع وَلذَلِك يكون الْأَمر فِيهِ مَقْصُورا عَلَيْهِ وَلَا يتعداه وَنحن فَلم نجد فِي شريعتنا إِطْلَاق ذَلِك بل وجدنَا فِي الشَّرِيعَة مَا يحظر ذَلِك وَلَا يجوز إِطْلَاقه بِوَجْه وَأعلم أَنه قد يَصح معنى الْوَصْف وَالْإِضَافَة فِي ذكر الله مَعَ شَيْء من أَفعاله من طَرِيق الْمَعْنى من حَيْثُ إجَازَة الْعُقُول لَهُ ثمَّ لَا يسوغ إِطْلَاق الإسم وَالْوَصْف وَالْإِضَافَة فِي ذَلِك من حَيْثُ حظرت الشَّرِيعَة مِنْهُ وَمن حَيْثُ لم يرد بِهِ سمع لقِيَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الدّلَالَة على أَن هَذَا الْبَاب مَقْصُور على السّمع فَقَط وَلَا مجَال للعقول فِيهِ فَلذَلِك كَانَ إِطْلَاقه موقفا على مَا خصّه السّمع بِهِ دون مَا لم يرد بِهِ سمع وَهَذَا جَوَاب عَن سَائِر مَا يُمكن أَن يسْأَل عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب من ذكر تَخْصِيص بعض الْأَسْمَاء والإضافات إِلَى الله تَعَالَى دون بعض مَا يملكهُ ويفعله وكل من حاد عَن مثل هَذِه الطَّرِيقَة فِي هَذَا الْبَاب لم يجد فصلا بَين الْأَمريْنِ من جِهَة الْعُقُول فتفهمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ذكر خبر آخر مِمَّا يُوهم التَّشْبِيه وتأويله روى أَبُو رَافع عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة يَا ابْن آدم مَرضت فَلم تعدني فَيَقُول أَي رب وَكَيف أعودك وَأَنت رب الْعَالمين فَيَقُول أما علمت أَن عَبدِي فلَانا مرض فَلم تعده أما علمت أَنه لوعدته لَوَجَدْتنِي عِنْده يَا ابْن آدم استطعمتك فَلم تطعمني قَالَ يَا رب وَكَيف أطعمك وَأَنت رب الْعَالمين قَالَ أما علمت أَنه استطعمك عَبدِي فلَان فَلم تطعمه أما علمت أَنَّك لَو أطعمته لوجدت ذَلِك عِنْدِي يَا ابْن آدم استسقيتك فَلم تَسْقِنِي قَالَ يَا رب كَيفَ أسقيك وَأَنت رب الْعَالمين قَالَ استسقاك عَبدِي فلَان فَلم تسقه أما إِنَّك لَو سقيته لوجدت ذَلِك عِنْدِي // أخرجه الإِمَام مُسلم // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَاعْلَم أَن الَّذِي يجب أَن يبين من هَذَا الْخَبَر قَوْله أما إِنَّك لوعدته لَوَجَدْتنِي عِنْده وَأما قَوْله مَرضت فقد فسره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين معنى ذَلِك إِشَارَة إِلَى مرض وليه فأضاف إِلَى نَفسه إِكْرَاما لوَلِيِّه ورفعا لقدره وَهَذِه طَريقَة مُعْتَادَة فِي الْخطاب عَرَبِيَّة وعجمية وَذَلِكَ أَن يخبر السَّيِّد عَن نَفسه وَيُرِيد عَبده إِكْرَاما لَهُ وتعظيما حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ توهم من جلالته وَعظم مَنْزِلَته مساواته لَهُ فِي الْمنزلَة وَالْجَلالَة وعَلى هَذِه الطَّرِيقَة يحمل قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله} وَقَوله {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} وَقَوله {إِن تنصرُوا الله ينصركم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَمَا جرى هَذَا المجرى من الْآي وَالْأَخْبَار الَّتِي ذكر فِيهَا نَفسه وَأَرَادَ وأولياءه وأنبياءه وعَلى مثله يحمل قَوْله {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} أَي آسفوا أولياءنا وأغضبوا أنبياءنا والناصرين لديننا وَلمن كَانَ عَلَيْهِ مُقيما لإستحالة أَن يغْضب الله تَعَالَى وَأَن يُؤْذِي ويحارب وَأما قَوْله أما إِنَّك لوعدته لَوَجَدْتنِي عِنْده مَعْنَاهُ أَي وجدت رَحْمَتي وفضلي وثوابي وكرامتي فِي عيادتك لَهُ وَهَذَا أَيْضا كَالْأولِ فِي بَاب أَنه ذكر الشَّيْء بأسمه وأيد غَيره كَقَوْلِه تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة} {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} وَهَذِه طَريقَة مُعْتَادَة غير مستنكرة وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَالْأولى أَن يحمل الْخَبَر عَلَيْهِ وعَلى مثله يتَأَوَّل قَوْله عز وَجل {وَوجد الله عِنْده} على معنى أَنه وجد عِقَابه وحسابه فَذكر الله تَعَالَى وأضيف الْفِعْل إِلَيْهِ وَالْمرَاد فعله على النَّحْو الَّذِي بَيناهُ ونظائره فِي كَلَام الْعَرَب ومثاله أَيْضا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَالسَّلَام فِي أحد هَذَا جبل يحبنا ونحبه // أخرجه البُخَارِيّ // وَمعنى ذَلِك أَهله أَي يحب الساكنون بفنائه والمقيمون فِي ساحته ونحبهم وَإِذا احْتمل الْخَبَر مَا ذَكرْنَاهُ وَلَا يجوز على الله تَعَالَى الْحُلُول فِي الْأَمَاكِن لإستحالة كَونه محدودا ومتناهيا وَذَلِكَ لإستحالة كَونه مُحدثا وَجب أَن يكون مَحْمُولا على مَا قُلْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وتأويله وَمَعْنَاهُ روى صَفْوَان بن مُحرز أَنه كَانَ يماشي عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الرحمن كَيفَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي النَّجْوَى قَالَ سمعته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَقُول يدنى الْمُؤمن من ربه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يضع الْجَبَّار كنفه عَلَيْهِ فيقرره بذنوبه فَيَقُول هَل تعرف فَيَقُول رب أعرف فَيَقُول لَهُ هَل تعرف فَيَقُول رب أعرف فَيَقُول عز ذكره إِنِّي سترتها عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أغفرها لَك فيعطي صحيفَة حَسَنَاته وَأما الْكفَّار والمنافقون فينادي بهم على رُؤُوس الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ذكر تَأْوِيله أما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يدنى العَبْد من ربه يَوْم الْقِيَامَة فَمَعْنَاه أَنه يقرب من رَحمته وكراماته وَعطفه ولطفه هَذَا سَائِغ فِي اللُّغَة أَن يُقَال فلَان قريب من فلَان وَيُرَاد بِهِ قرب الْمنزلَة وعلو الدرجَة عِنْده وعَلى هَذَا يُقَال إِن أَوْلِيَاء الله قريبون من الله كَمَا أَن أعداءه بعيدون مِنْهُ وَيَعْنِي بذلك قرب الدرجَة وعلو الْمرتبَة وَيُرَاد ببعد أَعدَاء الله مِنْهُم بعدهمْ من رَحمته وكرامته وَكَذَلِكَ يُقَال إِن الله عز وَجل قريب من أوليائه بعيد من أعدائه وَيُقَال أَيْضا هُوَ قريب من خلقه وَالْمعْنَى فِيهِ قربه مِنْهُم علما بظواهرهم وبواطنهم وَقدرته على أَوَائِل أُمُورهم وأواخرها وَعَلِيهِ يتَأَوَّل قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَقَوله {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم} لِأَن ذَلِك يرجع إِلَى الْقرب بِمَعْنى الْعلم وَالْقُدْرَة والسمع وَالْبَصَر فَأَما الَّذِي هُوَ قرب بِمَعْنى الْكَرَامَة فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} فِي أَن المُرَاد بِهِ قرب الْمنزلَة وتوفيره الْكَرَامَة فَأَما قَوْله إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ فتوسع لِأَن الرَّحْمَة لَا تُوصَف بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَلَا بالإكرام وَالْفضل وَإِذا كَانَ سائغا فِي اللُّغَة كَانَ قَوْله يدنى العَبْد من ربه يَوْم الْقِيَامَة مَحْمُولا على مثله لإستحالة المساحة والمسافة وَبعد الْمَكَان وَالنِّهَايَة على الله عز وَجل وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَيَضَع الْجَبَّار كنفه عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يبين مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي معنى الدنو وَإنَّهُ على تَأْوِيل قرب الْمنزلَة والدرجة وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ فِي الكنف إِنَّمَا يسْتَعْمل على مثل هَذَا الْمَعْنى أَلا ترى أَنه يُقَال أَنا فِي كنف فلَان وَفُلَان فِي كنفي إِذا أَرَادَ أَن يعرف إسباغ فَضله وَعطفه وتوفيره عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فَأَما مَا رَوَاهُ بعض الروَاة حَتَّى يضع الْجَبَّار كنفه عَلَيْهِ فقد ذكر جمع من أهل الْعلم أَن ذَلِك تَصْحِيف من الرَّاوِي لِأَن الْإِثْبَات قد ضبطوا هَذَا الْحَرْف على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا بالنُّون وَإِذا كَانَ ذَلِك مضبوطا وَالْمعْنَى الَّذِي حملنَا عَلَيْهِ مَشْهُورا كَانَ أولى مِمَّا قَالُوا مَعَ أَنه إِن صَحَّ فَإِنَّهُ يؤول إِلَى معنى مَا ذكرنَا مَعَ أَنه غير جَار فِي الْخطاب وَلَا مُسْتَعْمل فِي اللِّسَان مثله أَن يُقَال وضعت كنفي عَليّ والأثر الْحسن والكرامة كَانَ طَرِيقا وَيكون إستعمال ذَلِك فِيهِ مجَازًا هَذَا إِذا صَحَّ أَنه قد ضبط ذَلِك بِالتَّاءِ على الْوَجْه الَّذِي قَالُوا مَعَ أَنه غير مَعْرُوف وَلَا مضبوط فَاعْلَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَهُوَ من الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عِنْد أهل النَّقْل وَذَلِكَ مِمَّا يتَعَلَّق بِذكر الْمَكَان وَقد رُوِيَ فِي مَعْنَاهُ أَخْبَار سنذكرها أَولا فأولا فَمن ذَلِك مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن جَارِيَة عرضت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن أُرِيد عتقهَا فِي الْكَفَّارَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا أَيْن الله فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة اعْلَم أَن الْكَلَام فِي ذَلِك من وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي تَأْوِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْن الله مَعَ إستحالة كَونه فِي مَكَان وَالثَّانِي قَوْله أَنَّهَا مُؤمنَة من غير ظُهُور عمل مِنْهَا فَأَما الْكَلَام فِيمَا يتَضَمَّن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْن الله فَإِن ظَاهر اللُّغَة تدل من لفظ أَيْن أَنَّهَا مَوْضُوعَة للسؤال عَن الْمَكَان ويستخبر بهَا عَن مَكَان المسؤول عَنهُ بأين إِذا قيل أَيْن هُوَ وَذَلِكَ أَن أهل اللُّغَة قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 لما ثقل على أهل اللِّسَان فِي الإستفهام عَن الْمَكَان أَن يَقُولُوا أهوَ فِي الْبَيْت أم فِي الْمَسْجِد أم فِي السُّوق أم فِي بقْعَة كَذَا وَكَذَا وضعُوا لَفْظَة تجمع لجمع الْأَمْكِنَة يستفهمون بهَا عَن مَكَان المسؤول عَنهُ بأين وَهَذَا هُوَ أصل هَذِه الْكَلِمَة غير أَنهم قد استعملوها عَن مَكَان الْمَسْئُول عَنهُ فِي غير هَذَا الْمَعْنى توسعا أَيْضا تَشْبِيها بِمَا وضع لَهُ وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ عِنْد استعلام منزلَة المستعلم عِنْد من يستعلمه أَيْن منزلَة فلَان مِنْك وَأَيْنَ فلَان من الْأَمِير واستعملوه فِي إستعلام الْفرق بَين الرتبتين بِأَن يَقُولُوا أَيْن فلَان من فلَان وَلَيْسَ يُرِيدُونَ الْمَكَان وَالْمحل من طَرِيق التجاوز فِي الْبِقَاع بل يُرِيدُونَ الإستفهام عَن التربة والمنزلة وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ لفُلَان عِنْد فلَان مَكَان ومنزلة وَمَكَان فلَان فِي قلب فلَان حسن ويريدون بذلك الْمرتبَة والدرجة فِي التَّقْرِيب والتبعيد وَالْإِكْرَام والإهانة فَإِذا كَانَ ذَلِك مَشْهُورا فِي اللُّغَة احْتمل أَن يُقَال إِن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْن الله استعلام لمنزلته وَقدره عِنْدهَا وَفِي قَلبهَا وأشارت إِلَى السَّمَاء ودلت بإشارتها على أَنه فِي السَّمَاء عِنْدهَا على قَول الْقَائِل إِذا أَرَادَ أَن يخبر عَن رفْعَة وعلو منزلَة فلَان فِي السَّمَاء أَي هُوَ رفيع الشَّأْن عَظِيم الْمِقْدَار كَذَلِك قَوْلهَا فِي السَّمَاء على طَرِيق الْإِشَارَة إِلَيْهَا تَنْبِيها عَن مَحَله فِي قَلبهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ومعرفتها بِهِ وَإِنَّمَا أشارت إِلَى السَّمَاء لِأَنَّهَا كَانَت خرساء فدلت بإشارتها على مثل دلَالَة الْعبارَة على نَحْو هَذَا الْمَعْنى وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يجز أَن يحمل على غَيره مِمَّا يَقْتَضِي الْحَد والتشبيه والتمكين فِي الْمَكَان والتكييف وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ إِن الْقَائِل إِذا قَالَ إِن الله فِي السَّمَاء وَيُرِيد بذلك أَنه فَوْقهَا من طَرِيق الصّفة لَا من طَرِيق الْجِهَة على نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {أأمنتم من فِي السَّمَاء} لم يُنكر ذَلِك وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة فَيحْتَمل أَن يكون قد عرف إيمَانهَا بِوَحْي فَأخْبر بذلك عَن ظُهُور إشارتها الَّتِي هِيَ عَلامَة من عَلَامَات الْإِيمَان وَيحْتَمل أَن يكون سَمَّاهَا مُؤمنَة على الظاره من حَالهَا وَأَن ذَلِك الْقدر يَكْفِي من الْمَطْلُوب من إِيمَان من يُرَاد عتقه وَأَنه لَا يعْتَبر بعد ذَلِك ظُهُور الْأَعْمَال وَالْوَفَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بالعبادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ذكر خبر آخر فِي هَذَا الْمَعْنى وتأويله وَمَعْنَاهُ وَنَظِير هَذَا الْخَبَر فِي بَاب السُّؤَال عَن الْمَكَان مَا رُوِيَ أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أَن يخلق السَّمَاء فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي عماء مَا تَحْتَهُ هَوَاء وَمَا فَوْقه هَوَاء فَفِي هَذَا الْخَبَر إِنَّمَا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْن الله وَهَذَا أقرب من أَن يكون سؤالا عَن الْمَكَان على أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عماء يحْتَمل أَن يكون فِي بِمَعْنى فَوق كَمَا قَالَ الله عز وَجل {فسيحوا فِي الأَرْض} أَي على الأَرْض وكما قيل فِي تَأْوِيل قَوْله {أأمنتم من فِي السَّمَاء} أَنه أَرَادَ من فَوْقهَا وَقد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر على وَجْهَيْن أَحدهمَا بِالْمدِّ وَهُوَ أَن يُقَال فِي عماء مَمْدُود والعماء فِي اللُّغَة هُوَ السَّحَاب الرَّقِيق وَرُوِيَ مَقْصُورا وَهُوَ أَن يُقَال فِي عَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فَإِذا رُوِيَ مَقْصُورا احْتمل أَن يكون الْمَعْنى أَنه كَانَ وَحده وَلم يكن سواهُ فَشبه الْعَدَم بالعمى توسعا لإستحالة أَن يرى مَا هُوَ عدم كَمَا يَسْتَحِيل أَن يرى بالعمى فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنه لم يكن شَيْء سواهُ وَلَا فَوق وَلَا تَحت وَلَا هَوَاء فَإِذا قيل إِنَّه كَانَ فِي عماء بِالْمدِّ كَانَ سَبِيل تَأْوِيله على نَحْو مَا تأولنا عَلَيْهِ قَوْله جلّ وَعلا {أأمنتم من فِي السَّمَاء} وَذَلِكَ بِمَعْنى الْقَهْر وَالتَّدْبِير والمفارقة لَهُ بالنعت وَالصّفة دون التحيز فِي الْمَكَان وَالْمحل والجهة وَإِذا احْتمل مَا قُلْنَا وَلم يكن اللَّفْظ مِمَّا يخص معنى وَاحِدًا كَانَ جملَة على مَا قُلْنَاهُ أولى لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى التَّشْبِيه والتعطيل وتحديد مَا لَا يجوز أَن يكون محدودا فاعلمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ذكر خبر آخر فِي هَذَا الْمَعْنى وتأويله وَمَعْنَاهُ وَمَا يشاكل هَذَا الْخَبَر مَا رُوِيَ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَتَاهُ ملك فَقَالَ أَيْن تركت رَبنَا قَالَ فِي سبع أَرضين فَجَاءَهُ آخر فَقَالَ أَيْن تركت رَبنَا قَالَ فِي سبع سموات فَجَاءَهُ آخر فَسَأَلَهُ مثل ذَلِك فَقَالَ فِي الْمشرق وَجَاء آخر فَسَأَلَهُ فَقَالَ أَيْن تركت رَبنَا فَقَالَ فِي الْمغرب بَيَان تَأْوِيل ذَلِك اعْلَم أَن الثَّلْجِي حمل ذَلِك على مَا يذهبون إِلَيْهِ من القَوْل بِأَن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان وَزعم أَنه نَظِير مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة فِي قَوْله عز ذكره {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَقَوله تَعَالَى {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَات وَفِي الأَرْض} وَكَانَ يذهب مَذْهَب النجار فِي القَوْل بِأَن الله فِي كل مَكَان وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَهَذَا التَّأْوِيل عندنَا مُنكر من أجل أَنه لَا يجوز أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى فِي مَكَان أَو فِي كل مَكَان من قبل أَن ظَاهر معنى فِي وَمَا وضع فِي اللُّغَة لَهُ هُوَ الْوِعَاء والظرف وَذَلِكَ لَا يصلح إِلَّا فِي الْأَجْسَام والجواهر فَأَما قَوْله عز ذكره {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَات وَفِي الأَرْض} فَإِن مَعْنَاهُ عِنْد أَصْحَابنَا أَن الله جلّ ذكره يعلم سركم وجهركم الواقعين فِي مَحل السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالسَّمَوَات وَالْأَرْض هِيَ محَال السِّرّ والجهر الواقعين فِي مَحل الله عز وَجل وَلَا يَصح الْوُقُوف على معنى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَات وَفِي الأَرْض} دون أَن يُوصل بقوله تَعَالَى {يعلم سركم وجهركم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فان قَالَ قَائِل فَمَا معنى الْخَبَر إِذا لم يذكر فِيهِ الْعلم بل أطْلقُوا القَوْل فَقَالُوا فِي الشرق وَفِي الغرب وَفِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض قيل إِن صَحَّ هَذَا فَمَعْنَاه أَنه فَوْقهَا وإستعمال فِي بِمَعْنى فَوق ظَاهر فِي اللُّغَة منتشر مِنْهُ قَوْله عز وَجل {فسيحوا فِي الأَرْض} أَي فَوْقهَا وَمِنْه قَوْله {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ على جُذُوع النّخل وَعَلِيهِ يتَأَوَّل قَوْله {أأمنتم من فِي السَّمَاء} أَن المُرَاد بذلك من فَوْقهَا وَإِذا كَانَ ظَاهرا فِي اللُّغَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 اسْتِعْمَال فِي بِمَعْنى فَوق وَقد قَالَ تبَارك وَتَعَالَى {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} وَقَالَ {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} وَأطلق الْمُسلمُونَ أَن الله تَعَالَى فَوق خلقه كَانَ حمله على أولى وَعَلِيهِ يتَأَوَّل أَيْضا قَوْله {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} أَي هُوَ فَوق السَّمَاء إِلَه وَفَوق الأَرْض إِلَه أنْشد بَعضهم هم صلبوا العبدى فِي جذع نَخْلَة مَعْنَاهُ على جذع نَخْلَة وَاعْلَم أَنا إِذا قُلْنَا إِن الله عز وَجل فَوق مَا خلق لم يرجع بِهِ إِلَى فوقية الْمَكَان والإرتفاع على الْأَمْكِنَة بالمسافة والإشراف عَلَيْهَا بالممارسة لشَيْء مِنْهَا بل قَوْلنَا إِنَّه فَوْقهَا يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه يُرَاد بِهِ أَنه قاهر لَهَا مستول عَلَيْهَا إِثْبَاتًا لإحاطة قدرته بهَا وشمول قهره لَهَا وَكَونهَا تَحت تَدْبيره جَارِيَة على حسب علمه ومشيئته وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يُرَاد أَنه فَوْقهَا على معنى أَنه مباين لَهَا بِالصّفةِ والنعت وَأَن مَا يجوز على المحدثات من الْعَيْب وَالنَّقْص وَالْعجز والآفة وَالْحَاجة لَا يَصح شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 من ذَلِك عَلَيْهِ ولايجوز وَصفه بِهِ وَهَذَا أَيْضا مُتَعَارَف فِي اللُّغَة أَن يُقَال فلَان فَوق فلَان وَيُرَاد بذلك رفْعَة الْمرتبَة والمنزلة وَالله عز وَجل فَوق خلقه على الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا يمْتَنع الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ أَن يكون على معنى التحيز فِي جِهَة الإختصاص ببقعه دون بقْعَة وَإِذا قُلْنَا أَنه فَوق الْأَشْيَاء على هَذَا الْوَجْه قُلْنَا أَيْضا فِي تَأْوِيل إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ فِيهَا على مثل هَذَا الْمَعْنى وَقد رَأينَا فِي اللُّغَة تعاقب هذَيْن الحرفين على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا شواهده من آي الْقُرْآن وَالشعر سُؤال فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا أجزتم أَن يُقَال أَنه فِي السَّمَاء وَفِي الأَرْض على معنى أَنه فَوْقهَا أفتجيزون أَن يُقَال إِنَّه فِي كل على مثل هَذَا الْمَعْنى قيل إِنَّمَا يُطلق من ذَلِك مَا ورد بِهِ أثر ونطق بِهِ سمع وَلَيْسَ للْقِيَاس عندنَا فِي ذَلِك مدْخل بِوَجْه من الْوُجُوه قُلْنَا إِن صَحَّ هَذَا الْخَبَر كَانَ طَرِيق تَأْوِيله على نَحْو تَأْوِيل الْآيَة فِي قَوْله عز وَجل {أأمنتم من فِي السَّمَاء} إِنَّمَا زعم مخالفونا أَنه وَاجِب أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان ورد بِهِ خبر أَو لم يرد سوى من وَافَقنَا مِنْهُم فِي أَخذ أَسْمَائِهِ عَن التَّوْقِيف خُصُوصا وَلَا تَوْقِيف على هَذَا الْمَعْنى بِوَجْه بِأَن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان فَمَتَى رجعُوا فِي معنى إِطْلَاق ذَلِك إِلَى الْعلم وَالتَّدْبِير كَانَ معناهم صَحِيحا وَاللَّفْظ مَمْنُوعًا أَلا ترى أَنه لَا يسوغ أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى مجاور لكل مَكَان أَو مماس لَهُ أَو حَال أَو مُتَمَكن فِيهِ على معنى أَنه عَالم بذلك مُدبر لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فَأَما قَوْلهم إِن هَذَا على سَبِيل قَوْلهم فلَان فِي بِنَاء دَاره وَفِي صلَاته وَعَمله على معنى أَنه يدبره قيل هَذَا خطأ لِأَن مَا ذكرْتُمْ هُوَ من الْكَلَام المقلوب كَقَوْلِهِم أدخلت القلنسوة فِي رَأْسِي وأدخلت الْقَبْر زيدا وأدخلت الْخُف فِي رجْلي وَإِنَّمَا تدخل الرجل فِي الْخُف وَزيد فِي الْقَبْر وَالرَّأْس فِي القلنسوة كَذَلِك الْعَمَل فِي فلَان وَالْبناء فِيهِ لَا أَنه هُوَ فِي الْعَمَل وَمثل هَذَا فِي الْكَلَام لَا يُقَاس وَلَا يصلح أَن يَجْعَل أصلا لِأَنَّهُ نوع من الْمجَاز وَإِنَّمَا يَجْعَل الْحَقَائِق أصولا ويستخرج مَعَانِيهَا إِذا كَانَ لإستعمال الْقيَاس فِي ذَلِك مدْخل وَهَذَا الْقدر يَكْفِي فِي الْإِشَارَة إِلَى فَسَاد قَول الثَّلْجِي وَمن ذهب مذْهبه فِي إِطْلَاق القوف بِأَن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان وَحمل هَذَا الْخَبَر على مثل مذْهبه فِيهِ فاعلمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَهُوَ مَا رَوَاهُ سماك بن حَرْب عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الله أفرح بتوبة العَبْد من العَبْد إِذا ضلت رَاحِلَته فِي أَرض فلاة من يَوْم قائظ وراحلته عَلَيْهَا زَاده ومزاده إِذا ضلت أَيقَن بِالْهَلَاكِ وَإِذا وجدهَا فَرح بذلك فَالله أَشد فَرحا بتوبة عَبده من هَذَا العَبْد بِوُجُود رَاحِلَته // أخرجه ابْن مَاجَه // وتطيره أَيْضا مَا روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يطَأ الرجل الْمَسَاجِد للصَّلَاة وَالذكر إِلَّا يتبشبش الله تَعَالَى بِهِ حِين يخرج كَمَا يتبشبش أهل الْغَائِب بغائبهم إِذا قدم عَلَيْهِم تَأْوِيله اعْلَم أَن الْفَرح فِي كَلَام الْعَرَب على وُجُوه مِنْهَا الْفَرح بِمَعْنى السرُور من ذَلِك قَوْله عز وَجل {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا} أَي سروا بهَا فَهَذَا الْمَعْنى لَا يَلِيق بِاللَّه عز وَجل لِأَنَّهُ يقْضِي جَوَاز الشَّهْوَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَالْحَاجة وَعَلِيهِ نيل الْمَنْفَعَة وَمِنْهَا الْفَرح بِمَعْنى البطر والأشر من ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} وَقَوله {إِن الله لَا يحب الفرحين} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّه لفرح فخور} يَعْنِي بذلك فَرح البطر والأشر وَمِنْه قَول الشَّاعِر (وَلست بمفراح إِذا الدَّهْر سرني ... وَلَا جازع من صرفه المتقلب) أَي لست ببطر وَلَا أشر وَإِن وَافقنِي الدَّهْر وساعدني وَالْوَجْه الثَّالِث من الْفَرح أَن يكون بِمَعْنى الرِّضَا من قَوْله عز وَجل {كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} أَي راضون وَلما كَانَ من يسر بالشَّيْء قد رضيه قيل إِنَّه فَرح على أَنه هُوَ بِهِ رَاض وَمعنى الْخَبَر يحمل على ذَلِك لِأَن البطر وَالسُّرُور لَا يليقان بِاللَّه وَيكون معنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى أرْضى بتوبة العَبْد من رضَا من وجد ضالته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَاعْلَم أَن أصل الرِّضَا على أصولنا إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمن فِي الْمَعْلُوم أَنه يوافي ربه على الْإِيمَان وَالطَّاعَة وَأَن من وَفقه الله تَعَالَى للتَّوْبَة من مَعَاصيه فقد رَضِي أَن يكون مثابا على الْخَيْر مَقْبُولًا مِنْهُ الطَّاعَة وَالْعِبَادَة وَلم يزل الله عندنَا رَاضِيا عَمَّن يعلم أَنه يَمُوت على الْإِيمَان مزكيا مادحا مثنيا عَلَيْهِ بِالْإِيمَان وَالْخَيْر وَالْبر وَتَكون فَائِدَة الْخَبَر على مَا ذكرنَا تعريفنا أَن الله عز وَجل هُوَ التائب على العَبْد ليتوب كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا} وَيدل على صِحَة مَا نقُول أَن الله عز وَجل هُوَ الْخَالِق لأعمال الْعِبَادَة والموفق للخير مِنْهَا وَأَن مَا يسْتَعْمل فِي الْخَيْر مِنْهَا لَا يصلح أَن يسْتَعْمل فِي الشَّرّ وَإِذا كَانَ كَذَلِك أَفَادَ هَذَا الْخَبَر تَعْرِيف صِحَة مَا نقُول فِي الرِّضَا وَأَن الطَّاعَة عَن رضَا الله تَعَالَى تحصل للْعَبد لَا عَن العَبْد وَأَنه هُوَ الَّذِي يُعينهُ ويوفقه لَهُ وَأَن من علمه أَهلا لذَلِك يسر لَهُ طَرِيق ذَلِك كَمَا أَن من يسر بالشَّيْء ييسر لَهُ الطَّرِيق وَكَذَلِكَ تثبت هَذِه الصّفة بِتِلْكَ الْحَالة وعَلى نَحْو ذَلِك مَا ذكرنَا أَيْضا يتَأَوَّل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي البشبشة وَذَلِكَ أَن مَعْنَاهُ يُقَارب معنى الْفَرح وَالرِّضَا بِمَا يحصل فِي التبشبش لما يبش مِنْهُ الْعَرَب تَقول رَأَيْت لفُلَان بشابة وبشاشه أَي فَرحا وَتقول فلَان هش بش فَرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إِذا كَانَ مُنْطَلقًا فِيمَا يحدث لَهُ رضَا بِهِ وعَلى هَذِه الطَّرِيقَة يكون معنى الْخَبَر إِن الله عز وَجل قد رَضِي وَطْء الواطئين للمساجد للذّكر وَالصَّلَاة وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ وَيسر لَهُم التَّقَرُّب بِهِ إِلَيْهِ وَسَهل عَلَيْهِم طَرِيق الْإِخْلَاص فِيهِ كمن يقدم عَلَيْهِ غائبه إِذا ابْتَدَأَ فِي تيسير الْأُمُور الَّتِي يرضاها لَهُ ويحلها بِهِ فَيُقَال لَهُ عِنْد ذَلِك تبشبش لَهُ وَاعْلَم أَن الْعَرَب كَلَامهم استعادات أَلا ترى إِلَى قَوْله عز وَجل {فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف} بِمَعْنى الإبتلاء والإختبار وَإِن كَانَ أصل الذَّوْق بالفم وَلذَلِك تَقول الْعَرَب نَاظر فلَانا ذُقْ مَا عِنْده وَيَقُولُونَ ذُقْ الْقوس بالنزع ليعلم لينها وصلابتها كَذَلِك قَوْله تبشبش الله وَالله أفرح يرجع مَعْنَاهُ فِي التَّحْقِيق إِلَى إِظْهَار الْأَفْعَال المرضية فِيمَن يَتُوب عَلَيْهِ من الْمعاصِي ويوفقه للطاعة تَشْبِيها بِحَال أَحَدنَا إِذا ظهر لَهُ مَا يسره ويؤنسه وَإِن لم يكن لائقا بِاللَّه عز وَجل وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ التَّقْرِيب على الإفهام بِالْخِطَابِ الْمُعْتَاد الْجَارِي بَين أَهله وَيحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد بِذكر هَذِه الْأَلْفَاظ فِي التَّوْبَة وَالطَّاعَة وَالْعِبَادَة وَحُضُور الْمَسَاجِد وَالذكر ترغيبا فِي التَّوْبَة وحثا على فعلهَا إِذا دَعَا إِلَيْهَا بأقرب مَا يدعى إِلَى مثله من الْأَلْفَاظ لتكثر الدَّوَاعِي إِلَى فعلهَا والمبادرة إِلَيْهَا إِذا خَاطب أَهلهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 بأبلغ الْأَلْفَاظ فِيهَا ثمَّ إِن وُجُوه الإستعارات وَتَحْقِيق الْمعَانِي صَحِيح ثَابت عِنْد أهل الْمعرفَة بهَا فَلَا تلبس عَلَيْهِم وَلَا تخيل أَن المُرَاد هُوَ الْمَعْنى الصَّحِيح الَّذِي يجوز عَلَيْهِ جلّ ذكره دون مَا لَا يجوز وَهَذَا كَسَائِر مَا وصف الله جلّ ذكره بِهِ من أَوْصَاف ذَاته وَفعله مِمَّا يَقع مُشْتَركا بَينه وَبَين خلقه فَيكون لَهُ مِنْهُ مَعْنَاهُ الَّذِي يَصح فِي وَصفه ويليق بِحكمِهِ وَلغيره إِذا جرى عَلَيْهِ نَحْو مَا يجوز عَلَيْهِ وَلَا يجوز أَن يستوحش من إِطْلَاق مثل هَذَا اللَّفْظ إِذا ورد بِهِ سمع لِأَن النّظر يكْشف عَن الصَّحِيح من الْمَعْنيين والجائز من الْحكمَيْنِ عَلَيْهِ واللغة لَا يُمكن دَفعهَا والسمع لَا سَبِيل إِلَى رده إِذا صَحَّ وَالنَّظَر الحكم الْفَاصِل بَين الْخَطَأ وَالصَّوَاب فِيهِ كَسَائِر الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة الْمُشْتَركَة وَمَا ذكرنَا مِمَّا قيل فِي معنى مَا ورد من اطلاق لفظ الضحك هُوَ قريب من هَذَا الْمَعْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَمِمَّا يشاكل هَذَا الْبَاب مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل أَيْضا أَلْفَاظ رويت فِي أَخْبَار مُخْتَلفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ عجب ربكُم من شَاب لَيست لَهُ صبوة // رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد // وَفِي خبر آخر عجب ربكُم من إياسكم وَقُنُوطِكُمْ // رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد // وَقد قَرَأَ بعض الْقُرَّاء بل عجبت بِضَم التَّاء وَرُوِيَ أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجب رَبنَا من قوم يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل // أخرجه الإِمَام أَحْمد // وَرُوِيَ أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة يعجب الله إِلَيْهِم الْقَوْم إِذا اصطفوا للصَّلَاة وَالْقَوْم إِذا اصطفوا لقِتَال الْمُشْركين وَرجل يقوم إِلَى الصَّلَاة فِي جَوف اللَّيْل // أخرجه الإِمَام أَحْمد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وروى أَبُو هُرَيْرَة أَن رجلا نزل ضيفا بِرَجُل من الْأَنْصَار فَقَالَ لإمرأته تعالي حَتَّى انطوى اللَّيْل لضيفنا فَإِذا وضعت الطَّعَام بَين يَدَيْهِ فاطفئي الْمِصْبَاح حَتَّى يَأْكُل وَحده قَالَ فَفعلت ذَلِك وغدوت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لقد عجب الله من صنيعكما البارحة فَأنْزل الله عز وَجل فيهمَا {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} معنى ذَلِك أَن أصل التَّعَجُّب إِذا اسْتعْمل فِي أَحَدنَا فَالْمُرَاد أَن يدهمه أَمر يستعظمه مِمَّا لم يعلم وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَإِذا قيل فِي صفة الله تَعَالَى عجب أَو يتعجب فَالْمُرَاد بِهِ أحد شَيْئَيْنِ إِمَّا أَن يكون يُرَاد بِهِ أَنه مِمَّا عظم قدر ذَلِك وَكبر لِأَن المتعجب مُعظم لما يتعجب مِنْهُ وَلَكِن الله سُبْحَانَهُ لما كَانَ عَالما بِمَا كَانَ وَيكون لم يلق بِهِ أحد الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَقْتَضِي اسْتِدْرَاك عَالم مَا لم يكن بِهِ عَالما فَبَقيَ أَمر التَّعْظِيم لَهُ وَالتَّكْبِير فِي الْقُلُوب عِنْد أَهله إِذا يُرَاد بذلك الرِّضَا وَالْقَبُول لأجل أَن من أعجبه الشَّيْء فقد رضيه وَقَبله وَلَا يَصح أَن يعجب مِمَّا يسخطه ويكرهه فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْظِيم أقدار هَذِه الْأَفْعَال فِي الْقُلُوب أخبر عَنْهَا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّعْظِيم حثا على فعلهَا وترغيبا فِي الْمُبَادرَة إِلَيْهَا وَأما قَوْله تَعَالَى من قِرَاءَة من قَرَأَ بل عجبت بِضَم التَّاء فتأويله على أحد وَجْهَيْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ أَنه جازاهم على عجبهم لما أخبر عَنْهُم أَنهم تعجبوا من الْحق لما جَاءَهُم {هَذَا لشَيْء عُجاب} وَهَذِه طَريقَة للْعَرَب مَعْرُوفَة فِي تَسْمِيَة جَزَاء الشَّيْء بإسمه كَمَا قَالَ الْقَائِل (أَلا لَا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فَوق جهل الْجَاهِلين) وكما قَالَ تَعَالَى {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} وكما قَالَ {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} فَسمى الثَّانِي بإسمها وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يُرَاد بِهِ النَّبِي وَطَرِيقَة ذَلِك على نَحْو مَا مضى بَيَانه قبل فِي أَنه يذكر وليه وخصيصة وَيكون الْخَبَر عَن نَفسه وَالْمرَاد بِهِ هُوَ كَمَا قيل مَرضت فَلم تعدني وَكَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} وَكَقَوْلِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهِرَة التَّشْبِيه وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تسبو الرّيح فَإِنَّهَا من نفس الرَّحْمَن // أخرجه الإِمَام أَحْمد // وَرُوِيَ لفظ آخر وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ إِنِّي لأجد نفس ربكُم من قبل الْيمن وَرُوِيَ فِي خبر آخر أَنه قَالَ هَذَا نفس رَبِّي أَجِدهُ بَين كَتِفي أَتَاكُم السَّاعَة أعلم أَن النَّفس فِي كَلَام الْعَرَب يسْتَعْمل على معنى النَّفس وَيسْتَعْمل أَيْضا على معنى التَّنْفِيس فَهُوَ من قَوْلهم نفس منفوسة إِذا كَانَ مجوفا يتنفس يخرج مِنْهُ النَّفس شَيْئا بعد شَيْء وَلَيْسَ المُرَاد بِالْخَيرِ ذَلِك لإستحالة التنفس على الله عز وَجل من قبل أَنه لَيْسَ بإجزاء متبعضة وَلَا أجسام متغيرة وَكَيف يَدعِي الجسمية المشبهة إِن ذَلِك على معنى التنفس وَعِنْدهم أَن تَأْوِيل الصمت المصمد الَّذِي لَيْسَ بأجوف وَإِنَّمَا التنفس يَجِيء من أجوف فَإِذا لم يكن النَّفس بِمَعْنى التنفس فَهُوَ بِمَعْنى التَّنْفِيس وَذَلِكَ مَعْرُوف من قَوْلهم نفست عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فلَان أَي فرجت عَنهُ وَكلمت زيدا فِي التَّنْفِيس عَن غَرِيمه وَيُقَال نفس الله عَن فلَان كربه أَي فرج عَنهُ وَفِي الْخَبَر من نفس عَن مكروب كربَة من الْمُؤمنِينَ نفس الله عَنهُ كربَة يَوْم الْقِيَامَة فَأَما معنى قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الرّيح من نفس الرَّحْمَن فَمَعْنَاه على هَذَا الْوَجْه أَن الرّيح مِمَّا يفرج الله عز وَجل بهَا عَن المكروب والمغموم وَقد رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله سُبْحَانَهُ فرج عَن نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالرِّيحِ يَوْم الْأَحْزَاب فَقَالَ سُبْحَانَهُ {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا} وَمن الْكَلَام المتداول فِي الْعرف وَالْعَادَة بل تدافع بَين أهل اللِّسَان قَوْلهم اعْمَلْ وَأَنت فِي نفس من أَمرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} وَالْمعْنَى أَنهم اغضبوا أولياءنا وَقد أنكر منكرون هَذِه الْقِرَاءَة قَالَ سُفْيَان قَرَأت عِنْد شُرَيْح بل عجبت فَقَالَ إِن الله لَا يعجب من شىء إِنَّمَا يعجب من لَا يعلم قَالَ فَذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم فَقَالَ إِن شريحا شَاعِر يُعجبهُ علمه وعبد الله بن مَسْعُود أعلم مِنْهُ وَكَانَ يقْرَأ بل عجبت بِضَم التَّاء وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة إِن تَقْدِيره مَعْنَاهُ قل يَا مُحَمَّد بل عجبت أَنا من قدرَة الله تَعَالَى فأضمر الْقُدْرَة لدلَالَة الْكَلَام وَمثله مَا قَالَ الشَّاعِر (قد أَصبَحت أم الْخِيَار تدعى ... عَليّ ذَنْب كُله لم أصنع) (لما رَأَيْت رَأْسِي كرأس الْأَقْرَع ... من اللَّيَالِي أبطيء وأسرعي) أَرَادَ أَن يُقَال لَهَا لَا تبطىء وأسرعي فأضمر لدلاة الْكَلَام عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أَي وَأَنت فِي فسحة قبل الْهَرم وَالْمَرَض وَأَشْبَاه ذَلِك من الْحَوَادِث وَالرِّيح مِمَّا يفرج بهَا الكرب وَمن نفس الرّيح أَنَّهَا إِذا ذهبت فِي الْبَلَد الْحَار والهواجر أذهبت الوباء وأطالت للْمُسَافِر السّير وَإِذا هبت فِي بعض الْأَوْقَات أنشأت السَّحَاب وَإِذا هبت فِي بَعْضهَا ألقحت الْأَشْجَار بِإِذن الله عز وَجل وَذَلِكَ قَوْله عز ذكره {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح} وَكَانَت الْعَرَب تَقول إِذا كثرت الرِّيَاح كثر الخصب وَالْخَيْر وَإِذا تنسم الرّيح عليل أَو محزون وجد لنسيمها خفَّة وفرجا مِمَّا يجد وينشدون فِي ذَلِك قَول الشَّاعِر (فَإِن الصِّبَا ريح إِذا مَا تنسمت ... على نَفسِي محزون تجلت همومها) وَقَالَ بعض الْعَرَب هجمت على بطن وَاد بَين جبلين فَمَا رَأَيْت وَاديا اخصب مِنْهُ وَإِذا وُجُوه أَهله بهيجة وألوانهم مصفرة فَقلت لَهُم واديكم اخصب وَاد وَأَنْتُم لَا تشبهون أهل الخصب فَقَالَ لي شيخ مِنْهُم لَيْسَ لنا ريح وَهَذَا مِمَّا يبين أَن الله عز وَجل جعل فِي مهب الرّيح نفسا على معنى التَّنْفِيس والتفريج عَن المكروب والهعوم الْمُشْتَملَة على الْقُلُوب وَقرن بمهب بَعْضهَا الْخَيْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وَالصَّلَاح للأجساد والأبدان فعلى هَذَا يتَأَوَّل قَوْله إِن الرّيح من نفس الرَّحْمَن أَي هِيَ مِمَّا خلق الله فِيهَا التَّفْرِيج والتنفيس والترويح وَالْإِضَافَة من طرق الْفِعْل وَالْمعْنَى أَن الله عز وَجل جعلهَا كَذَلِك وَقرن التَّنْفِيس بهَا وَأما قَوْله إِنِّي لأجد نفس ربكُم من قبل الْيمن فَمَعْنَاه إِنِّي لأجد تفريج الله عني وتنفيسه عَن كربتي بنصرته إيَّايَ من قبل أهل الْيمن وَذَلِكَ لما نَصره الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار نفس الله عَن نبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا كَانَ فِيهِ من أَذَى الْمُشْركين وقتلهم الله على أَيدي الْمُهَاجِرين من أهل الْيمن وَالْأَنْصَار وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا كَانَ يمدح أهل الْيمن وَرُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْإِيمَان وَالْحكمَة يَمَانِية وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نفس رَبِّي أَجِدهُ بَين كَتِفي أَتَاكُم السَّاعَة فَمَعْنَاه أَن هَذَا هُوَ الَّذِي فرج الله رَبِّي عني بِمَا يوحيه إِلَيّ السَّاعَة فصرف بِهِ همومي وغمومي وكشف عَن قلبِي وستري عَن فُؤَادِي وَذَلِكَ مَا كَانَ يجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مُسْتَقْبل أوقاته من زَوَائِد روح الْيَقِين وفوائد التَّعْرِيف والألطاف الَّتِي يجدد الله لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسُمي ذَلِك نفس الرب لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نفس عَنهُ وَالْإِضَافَة من طَرِيق الْملك وَالتَّدْبِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَإِذا احْتمل لفظ النَّفس والتنفيس والتنفس وَكَانَ التنفس من صِفَات الأجوف والأجوف لَا يكون إِلَّا أجساما متلاصقة وأجزاء ملتمة على وَجه مَخْصُوص وَذَلِكَ لَا يَلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَجب أَن يحمل على معنى التَّنْفِيس الَّذِي هُوَ التَّفْرِيج عَن الكروب والهموم فاعلمه إِن شَاءَ الله ذكر خبر آخر يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْجمع الْكثير من الْأَثْبَات والثقات وَهُوَ من مشاهير الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب كالمجتمع على صِحَّته عِنْد أهل النَّقْل وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَلْفَاظ مُتَغَايِرَة فِي أَخْبَار مُتَفَرِّقَة يؤول جمع ذَلِك إِلَى معنى وَاحِد وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى ينزل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَفِي بعض الْأَخْبَار فِي كل لَيْلَة وَفِي بَعْضهَا فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فَيَقُول هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ وَهل من سَائل فَأعْطِيه // أخرجه البُخَارِيّ // الْخَبَر ذكر تَأْوِيله اعْلَم أَن أول مَا يجب فِي ذَلِك قبل شروعنا فِي تَأْوِيله هُوَ أَن يعلم أَن جَمِيع أَوْصَاف الله تَعَالَى مِمَّا لَا يخرج من أحد وَجْهَيْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إِمَّا أَن يكون اسْتَحَقَّه لنَفسِهِ أَو لصفة قَامَت بِهِ أَو لفعل يَفْعَله وَأَنه لَا يُطلق شَيْء من الْأَلْفَاظ فِي أَوْصَافه وأسمائه المتفرعة عَن هذَيْن الْأَصْلَيْنِ إِلَّا بعد وُرُود التَّوْقِيف من الْكتاب وَالسّنة وَعَن إتفاق الْأمة وَلَا مجَال للْقِيَاس وَذَلِكَ بِوَجْه من الْوُجُوه وأدلة هَذَا الْبَاب وَشرح وجوهه مِمَّا قد ذكر فِي الْكتب وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا إِذا كَانَ الْغَرَض التَّنْبِيه على مَعَاني هَذِه الْأَلْفَاظ المشكلة الَّتِي وَردت فِي الْأَخْبَار المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يُوهم التَّشْبِيه ويجحدها أهل الْبدع لتوهمهم أَن ذَلِك مِمَّا لَا يُمكن أَن يحمل على تَأْوِيل صَحِيح من غير أَن يكون فِيهِ تَشْبِيه أَو تَحْدِيد أَو تكييف وَوصف للرب عز وَجل بِمَا لَا يَلِيق بِهِ وَاعْلَم أَنه قَلما يرد فِي هَذِه الْأَخْبَار من أَمْثَال هَذِه الْأَلْفَاظ إِلَّا ونظائرها مَوْجُودَة فِي الْكتاب وَهِي إِذا وَردت فِي الْكتاب مَحْمُولَة عِنْدهم على التَّأْوِيل الصَّحِيح مخرجة على الْوَجْه الَّذِي يَلِيق بصفاته تَعَالَى وَإِذا وَردت فِي الْأَخْبَار أبطلوها مناقضة مِنْهُم لأصولهم كَسَائِر مناقضاتهم فِي مذاهبهم المبينة على آرائهم الْفَاسِدَة مِمَّا لم يشْهد بهَا كتاب وَلَا سنة وَلَا بَان فِيهَا اتِّفَاق الْأمة وَذَلِكَ لجحدهم سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإستخفافهم بِأَهْل النَّقْل وإستهاناتهم برواياتهم ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَيظْهر مخازيهم ومناقضاتهم فَمَا ورد فِي هَذَا الْبَاب وَالْمعْنَى من آي الْكتاب قَوْله تَعَالَى {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف} وَقَوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَقَوله {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَاعْلَم أَنه لَا فرق بَين الْإِتْيَان والمجيء وَالنُّزُول إِذا أضيف جَمِيع ذَلِك إِلَى الْأَجْسَام الَّتِي تتحرك وتنتقل وتحازي مَكَانا إِن جَمِيع ذَلِك يعقل من ظَاهرهَا وَالْمعْنَى الَّذِي هُوَ الْحَرَكَة والنقلة الَّتِي هِيَ تَفْرِيغ مَكَان وشغل مَكَان وَإِذا أضيف إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ الإنتقال من مَكَان إِلَى مَكَان لإستحالة وَصفه كَانَ معنى مَا يُضَاف إِلَيْهِ من الْإِتْيَان والمجيء على حسب مَا يَلِيق بنعمته وَصفته إِذا ورد بِهِ الْكتاب وَكَذَلِكَ إِذا أضيف النُّزُول إِلَيْهِ وَورد بِهِ الْخَبَر الصَّحِيح الموثق بروايته وَنَقله وَصِحَّته فِي بَاب أَنه يحمل على نَحْو مَا حمل عَلَيْهِ معنى الْمَجِيء والإتيان إِذا ذكرا فِي أَوْصَافه فِي الْكتاب وَإِذا كَانَ كَذَلِك تأملنا معنى مَا ورد فِي هَذَا الْخَبَر من لفظ النُّزُول ونزلناه على الْوَجْه الَّذِي يَلِيق بوصفه وعَلى الْمَعْنى الَّذِي لَا يُنكر اسْتِعْمَال مثله فِي اللِّسَان فِي مثل مَعْنَاهُ وَلَا أَن يرد الْخَبَر بِمثلِهِ فَمن ذَلِك أَنا وجدنَا لقطَة النُّزُول فِي اللُّغَة مستعملة على معَان مُخْتَلفَة وَلم تكن هَذِه اللّقطَة مِمَّا يخص أمرا وَاحِدًا حَتَّى لَا يُمكن الْعُدُول عَنهُ إِلَى غَيره بل وَجَدْنَاهُ مُشْتَرك الْمَعْنى وَاحْتمل التَّأْوِيل والتخريج وَالتَّرْتِيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فَمن ذَلِك النُّزُول بِمَعْنى الإنتقال وَذَلِكَ فِي قَوْله سُبْحَانَهُ {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} على معنى النقلَة والتحويل وَمن ذَلِك النُّزُول بِمَعْنى الْإِعْلَام كَقَوْلِه عز وَجل {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} أَي أعلم بِهِ الرّوح الْأمين مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنُّزُول أَيْضا بِمَعْنى القَوْل وَالْعِبَادَة وَذَلِكَ فِي قَوْله عز وَجل {سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} وَالنُّزُول أَيْضا بِمَعْنى الإقبال على الشَّيْء وَذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَعْمل فِي قَوْلهم والجاري فِي عرفهم وَهُوَ أَنهم يَقُولُونَ إِن فلَانا أَخذ بمكارم الْأَخْلَاق ثمَّ نزل مِنْهَا إِلَى سفافها أَي أقبل مِنْهَا إِلَى رديئها وَمثله فِي نُقْصَان الدرجَة والمرقبة لأَنهم يَقُولُونَ نزلت منزلَة فلَان عَن فلَان عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ إِلَى مَا دونهَا إِذا انحط قدره عِنْده وَمن ذَلِك أَيْضا النُّزُول بِمَعْنى نزُول الحكم من ذَلِك قَول النَّاس قد كُنَّا فِي عدل وَخير حَتَّى نزل بِنَا بَنو فلَان إِلَى حكمهم وكل ذَلِك فِي معنى النُّزُول مُتَعَارَف بَين أهل اللُّغَة غير مَرْفُوع عِنْدهم اشْتِرَاك مَعْنَاهُ فَأَما قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} فَمن أهل التَّأْوِيل من قَالَ مَعْنَاهُ وخلقنا الْحَدِيد وَمِنْهُم من قَالَ إِن الْحَدِيد أَنزَلْنَاهُ على معنى النَّقْل من علو إِلَى أَسْفَل فَأَما قَوْله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مباركة} فَإِن إِنْزَال الْقُرْآن لَيْسَ هُوَ على معنى النَّقْل والتحويل لإستحالة الإنتقال على الْكَلَام وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى الْإِعْلَام والإسماع والإفهام وَقَوله {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ} يكْشف أَيْضا على أَنه لَيْسَ كل نزُول وإنزال نقل وتحويل بل ذَلِك لفظ مُشْتَرك الْمَعْنى قد يكون نقلا وتحويلا وَيكون على غير هَذَا الْوَجْه أَيْضا على الْمُتَعَارف والمعهود بَين أهل اللُّغَة وَإِذا كَانَ اللَّفْظ مُشْتَرك الْمَعْنى وَجب التَّرْتِيب وَإِضَافَة مَا يَلِيق فِي الْمَذْكُور والمضاف إِلَيْهِ على حسب مَا يَلِيق بِهِ أَلا ترى أَنه إِذا أضيف إِلَى السكينَة لم يكن حَرَكَة وَلَا نقلة وَإِذا أضيف إِلَى الْكَلَام لم يكن أَيْضا تَفْرِيغ مَكَان وشغل مَكَان وَإِذا أُرِيد بِهِ الحكم وَتغَير الْمرتبَة فَكَذَلِك وَإِذا كَانَ مَا وصف بِهِ الرب جلّ ذكره من النُّزُول مَحْمُولا على بعض هَذِه الْمعَانِي الَّتِي لَا تَقْتَضِي لَهُ مَا لَا يَلِيق بنعته من إِيجَاب حدث يحدث فِي ذَاته وتغيير يلْحقهُ أَو نقص تمثيلا أَو تحديدا وَهُوَ أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 يكون على أحد وُجُوه من الْمعَانِي أما أَن يُرَاد بِهِ إقباله على أهل الأَرْض بِالرَّحْمَةِ والإستعطاف بالتذكير والتنبيه الَّذِي يلقى فِي قُلُوب أهل الْخَيْر مِنْهُم من أسعده بتوفيقه لطاعته حَتَّى يزعجهم إِلَى الْجد والإنكماش فِي التَّوْبَة والإنابة والإقبال على الطَّاعَة وَوجدنَا الله عز وَجل قد خص بالمدح المستغفرين بالأسحار وَقَالَ فِي وَصفهم أَيْضا {كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {والمستغفرين بالأسحار} فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك هُوَ المُرَاد بِهِ وَهُوَ الْأَخْبَار عَمَّا يظْهر من الطافه ومعونته وتأييده وَلأَهل ولَايَته فِي مثل هَذَا الْوَقْت بالزواجر الَّتِي يقيمها فِي نُفُوسهم والمواعظ الَّتِي تنبههم بِقُوَّة التَّرْغِيب والترهيب وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك فعلا يظهره بأَمْره فيضاف إِلَيْهِ كَمَا يُقَال ضرب الْأَمِير اللص ونادى الْأَمِير فِي الْبَلَد الْيَوْم وَإِنَّمَا أَمر بذلك فيضاف إِلَيْهِ على معنى أَنه عَن أمره ظهر وبأمره حصل وَإِذا كَانَ ذَلِك مُحْتملا فِي اللُّغَة لم يُنكر أَن يكون لله عز وَجل مَلَائِكَة يَأْمُرهُم بالنزول إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا بِهَذَا النداء وَالدُّعَاء فيضاف ذَلِك إِلَى الله عز وَجل على الْوَجْه الَّذِي يُقَال ضرب الْأَمِير اللص ونادى فِي الْبِلَاد وَقد روى لنا بعض أهل النَّقْل هَذَا الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يُؤَيّد هَذَا الْبَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَهُوَ بِضَم الْيَاء من ينزل وَذكر أَنه قد ضَبطه عَمَّن سَمعه عَنهُ من الثِّقَات الضابطين وَإِذا كَانَ ذَلِك مَحْفُوظًا مضبوطا كَمَا قَالَ فوجهه ظَاهر وَلما ذَكرْنَاهُ مِمَّا يحْتَملهُ من التَّأْوِيل مؤيد شَاهد وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون على معنى أَنهم يَقُولُونَ مازلنا فِي خير حَتَّى نزل بِنَا بَنو فلَان على معنى نزُول حكمهم وَأمرهمْ فَيكون تَقْدِير التَّأْوِيل مَا قُلْنَا فِيهِ من الْأَخْبَار عَمَّا يَفْعَله الله تَعَالَى فِي كل لَيْلَة من أَفعاله الَّتِي هِيَ ترغيب لأهل الْخَيْر فِي الْخَيْر وَزِيَادَة فِي الدَّوَاعِي إِلَى الطَّاعَة والإستعطاف لأهل الْعَطف مَعَ إِنَّه إِذا لم يحل مَا أطلق عَلَيْهِ من هَذَا الْوَصْف من أَن يكون مِمَّا يلْزم الذَّات لأجل فعل أَو يكون مِمَّا يجب لأجل إفعال وَبَطل أَن يكون ذَلِك مِمَّا يلْزم الذَّات وَجب أَن يكون ذَلِك مِمَّا يُوصف بِهِ من أجل فعل يَفْعَله وَقد رُوِيَ لنا عَن الْأَوْزَاعِيّ رَحمَه الله أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الْخَبَر فَقَالَ يفعل مَا يَشَاء وَهَذَا إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَن ذَلِك فعل يظْهر مِنْهُ عز ذكره وَرُوِيَ عَن مَالك بن أنس أَنه قَالَ فِي هَذَا الْخَبَر ينزل أمره فِي كل شَيْء وَأما هُوَ جلّ ذكره فَهُوَ دَائِم لَا يَزُول ولسنا ننكر تَسْمِيَة الله تَعَالَى بأسماء أَفعاله إِذا ورد بهَا التَّوْقِيف بهَا كَسَائِر مَا يُسمى لأجل الْفِعْل مثل قَوْله {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} وَقَوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 {فدمدم عَلَيْهِم رَبهم} وَقَوله تَعَالَى {ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه} وَقد ورد الْخَبَر الصَّحِيح الَّذِي لَا يُمكن دَفعه وَكَانَ حجَّة فِي إِطْلَاق التَّسْمِيَة وَالنَّظَر شاهدة تميز بَين الْمَعْنيين يَقْتَضِي نفي مَا لَا يَلِيق بِهِ فَوَجَبَ حمله عَلَيْهَا على مَا يَصح فِي وَصفه من بعض الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فصل آخر فِي ذَلِك فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا حملتم مَا رُوِيَ من النُّزُول فِي الْخَبَر على مَا ذكرْتُمْ فعلام تحملون قَوْله {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} وَقَوله سُبْحَانَهُ {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَقَوله {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} قيل هَذَا تَأْوِيل أهل الْعلم هَذِه الْآي فِي وُجُوه كَثِيرَة فَمن ذَلِك أَنهم تأولوا قَوْله عز وَجل {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف} أَن مَعْنَاهُ الإستئصال فِي الْهَلَاك والدمار بإرسال الْعَذَاب كَمَا يَقُول النَّاس أَي السُّلْطَان بلد كَذَا فقلبه ظهرا لبطن أَي استأصله وَلَيْسَ يُرِيدُونَ حُضُوره الْبَلَد بِنَفسِهِ وَلَا شُهُوده بل يُرِيدُونَ الْهَلَاك والتدمير وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا أَرَادَ بذلك ظُهُور فعل من جِهَته فِي الْبُنيان سَمَّاهُ إتيانا وَللَّه أَن يُسَمِّي أَفعاله بِمَا شَاءَ وَأَن يصف نَفسه من ذَلِك بِمَا أَرَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَأما قَوْله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} فَمنهمْ من قَالَ إِن مَعْنَاهُ جَاءَ رَبك بِالْملكِ صفا وَزعم أَن الْوَاو هُنَا بِمَعْنى الْبَاء وَمِنْهُم من قَالَ جَاءَ رَبك وَالْملك أَمر رَبك وَحكمه يُرِيد أَمر الْقِيَامَة وَمَا يخْتَص بِهِ ذَلِك الْوَقْت من أمره الْمَخْصُوص وَحكمه الَّذِي لَا يَقع الشّركَة فِيهِ بِالدُّعَاءِ والنداء وَقد بَينا فِيمَا قبل أَنه لَا تدافع بَين أهل اللُّغَة فِي قَوْلهم ضرب الْأَمِير اللص ونادى الْأَمِير فِي الْبَلَد بِكَذَا وَإِنَّمَا يُرَاد بذلك أَن ذَلِك الْفِعْل وَقع بأَمْره وَعَن حكمه فيضاف الْفِعْل إِلَيْهِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُضَاف إِلَى من فعله وتولاه وَنَظِير ذَلِك قَوْله عز وَجل فِي قصَّة قوم لوط {فطمسنا أَعينهم} وَكَانَ الطمس للأعين من الْمَلَائِكَة بِأَمْر الله عز وَجل وَإِذا كَانَ مثله مُتَعَارَف فِي اللُّغَة وَإِنَّمَا ورد الْخطاب فِي الْقُرْآن على الْمُتَعَارف فِي اللُّغَة والمعهود فِيمَا بَين أَهلهَا لم يُنكر أَن يحمل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَجَاء رَبك} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَأما قَوْله سُبْحَانَهُ {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} فقد قَالَ بعض أهل التَّفْسِير إِن مَعْنَاهُ هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله بِالْعَذَابِ فِي ظلل من الْغَمَام وَهَذَا سَائِغ فِي اللُّغَة أَن يعبر عَن الشَّيْء بِفِعْلِهِ إِذا وَقع عَن أمره وتدبيره كَقَوْلِهِم أَتَى الْأَمِير بلد فلَان إِذا وصل إِلَيْهِ جَيْشه وَدخل السُّلْطَان بلد كَذَا إِذا نفذ فِيهِ أمره وَحكمه وَقَالَ بَعضهم إِن قَوْله {فِي ظلل من الْغَمَام} يُرَاد بِهِ بظلل من الْغَمَام وَأَن فِي بِمَعْنى الْبَاء وَقد رُوِيَ ذَلِك فِي التَّفْسِير عَن ابْن عَبَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وَقَالَ بعض أهل الْعلم فِي الإستشهاد بإبدال الْبَاء من فِي أَن أَعْرَابِيًا كَانَ يقْرَأ {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} فصير الْبَاء فِي مَكَان فِي لما كَانَ عِنْده أَن ذَلِك سَوَاء مِمَّا يُبدل أَحدهمَا صَاحبه من غير إختلاف الْمَعْنى ويحكى أَيْضا أَنه سمع من بعض الْأَعْرَاب وَهُوَ يَقُول لصَاحبه ارْفَعْ بالسماء يُرِيد ارْفَعْ فِي السَّمَاء وَقَالَ بَعضهم من أهل التَّأْوِيل فِي قَوْله تَعَالَى {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع} أَن مَعْنَاهُ عَن عَذَاب وَاقع وحروف الصِّفَات تدخل بَعْضهَا فِي بعض ويبدل بَعْضهَا من بعض إِذا تقاربت مَعَانِيهَا وَلم تخْتَلف وروى ابْن أبي نجيح عِنْد مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} قَالَ يَأْتِيهم بوعده ووعيده وَأَن الله عز وَجل يكْشف لَهُم يَوْم الْقِيَامَة عَن أُمُور كَانَت مستورة عَنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَقد رُوِيَ مثل قَول ابْن عَبَّاس عَن الْحسن وَاعْلَم أَنه إِذا كَانَ مَا حملناه عَلَيْهِ تَأْوِيل الْخَبَر وَالْآيَة مَنْقُولًا عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كَانَ ذَلِك مِمَّا يُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ وَيُؤْنس المستعلم التَّأْوِيل مَا ذكرنَا ويكشف للنَّاظِر أَن الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة فِي الْأَخْبَار كتأويل الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة فِي الْقُرْآن وَأَن طَرِيق التَّخْرِيج فِيهَا وَاحِد إِذا وَجب أَن يحمل مَا ورد فِي الْكتاب من أَلْفَاظ الْمَجِيء والإتيان على غير معنى النُّزُول والإنتقال الَّذِي هُوَ صفة الْجِسْم الْمَحْدُود والمتحرك المتنقل المتمكن فِي مَكَان بعد مَكَان بل هُوَ على معنى مَا ورد بِهِ الْكتاب من الْإِتْيَان والمجيء وَلَا فرق بَين أَن يرد ذَلِك من طَرِيق صَحِيح من جِهَة الْأَثر وَالسّنة وَبَين أَن يرد ذَلِك فِي الْكتاب فِي بَاب مَا يحمل عَلَيْهِ من التَّأْوِيل على الْوَجْه الَّذِي يَلِيق بِاللَّه تَعَالَى فعلى هَذَا تَرْتِيب الْبَاب فَاعْلَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل ويوهم ظَاهره التَّشْبِيه وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي عُبَيْدَة عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْبَع فَقَالَ إِن الله تَعَالَى لَا ينَام وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن ينَام بِيَدِهِ الْمِيزَان يخْفض الْقسْط وَيَرْفَعهُ يرفع إِلَيْهِ عمل اللَّيْل قبل عمل النَّهَار وَعمل النَّهَار قبل عمل اللَّيْل حجابه النُّور لَو كشفه لأحرقت سبحات وَجهه مَا انْتهى إِلَيْهِ بَصَره من خلقه // أخرجه الإِمَام مُسلم // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَفِي بعض الْأَخْبَار لَو كشفها لأحرقت سبحات وَجهه كل شَيْء أدْركهُ بَصَره تَأْوِيل ذَلِك اعْلَم أَن كل مَا ذكر فِيهِ الْحجاب من أَمْثَال هَذَا الْخَبَر فَإِنَّمَا يرجع مَعْنَاهُ إِلَى الْخلق لأَنهم هم المحجوبون عَنهُ بحجاب يخلقه فيهم لَا يجوز أَن يكون الله عز وَجل محتجبا وَلَا محجوبا لإستحالة كَونه جوهرا أَو جسما محدودا لِأَن مَا يستره الْحجاب أكبر مِنْهُ وَيكون متناهيا محاذيا جَائِزا عَلَيْهِ المماسة والمفارقة وَمَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 كَذَلِك كَانَت عَلَامَات الْحَدث فِيهِ قَائِمَة وَذَلِكَ أَن الْمُوَحِّدين إِنَّمَا توصلوا إِلَى الْعلم بِحَدَث الْأَجْسَام من حَيْثُ وجدوها متناهية محدودة محلا للحوادث فَكَانَ تعاقبها عَلَيْهَا دَلِيلا على حدثها وَلنْ يجوز أَن تقوم دلَالَة الْحَدث على الْقَدِيم الَّذِي لم يزل مَوْجُودا وَإِذا كَانَ هَذَا الأَصْل صَحِيحا بِمَا كشفنا عَنهُ وَجب أَن يحمل ذَلِك على النَّوْع الَّذِي بَيناهُ وقررناه وَيشْهد لذَلِك يُؤَيّدهُ قَوْله عز وَجل {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} فَجعل الْكفَّار محجوبين عَن رُؤْيَته بِمَا خلق فيهم من الْحجاب وَالْمَنْع مِنْهَا وَلم يصف نَفسه بالإحتجاب وَلَا بِأَنَّهُ هُوَ المحجوب وَأعلم أَن أصل معنى الإحتجاب والحجاب فِي اللُّغَة هُوَ الْمَنْع وَلذَلِك يُقَال لمن يمْنَع عَن الْأَمِير من قد دخل إِلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَاجِب وَلذَلِك قيل للحاجبين اللَّذين يمنعان عَن الْعَينَيْنِ لإحاطتها بهما وَإِذا قُلْنَا أَن الْكَافِر مَحْجُوب عَن ربه فَالْمَعْنى فِيهِ أَنه مَمْنُوع عَن رُؤْيَته وَالْمَنْع من الرُّؤْيَة معنى يضاد الرُّؤْيَة إِذا وجد امْتنعت الرُّؤْيَة لوُجُوده وَالَّذِي يُحَقّق وَيُؤَيّد مَا عَلَيْهِ تأويلنا مَا رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وروى عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الرحمن بن أبي ليلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 عَن عَليّ أَنه مر بقصاب وَهُوَ يَقُول لَا وَالَّذِي احتجب بسبعة أطباق فَقَالَ لَهُ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَيحك يَا قصاب إِن الله لَا يحتجب عَن خلقه وَفِي بعض هَذِه الْأَخْبَار أَن عليا علاهُ بِالدرةِ فَقَالَ يَا لكع إِن الله لَا يحتجب عَن خلقه بِشَيْء وَلَكِن حجب خلقه عَنهُ وَفِي بعض هَذِه الْأَخْبَار أَنه قَالَ القصاب لعَلي أَو لَا أكفر عَن يَمِيني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَا لِأَنَّك حَلَفت بِغَيْر الله وروى عَن عَاصِم عَن عَطاء عَن أبي البخْترِي مثله عَن عَليّ فَأَما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَو كشفها لأحرقت سبحات وَجهه فقد تَأَول أهل الْعلم ذَلِك مِنْهُم أَبُو عبيد ذكر أَن معنى لَو كشفها فَقَالَ أَي لَو كشف رَحمته عَن النَّار لأحرقت سبحات وَجهه أَي لأحرقت وَجه المحجوب عَنهُ بالنَّار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَالْهَاء عَائِدَة فِي سبحات وَجهه إِلَى المحجوب لَا إِلَى الله عز وَجل لِأَن هَذَا الْوَصْف لَا يَلِيق بِهِ سُبْحَانَهُ لما ذكرنَا أَنه يَسْتَحِيل أَن يكون محجوبا أَو محتجبا وَقَالَ بَعضهم معنى قَوْله حجابه النَّار أَي جعل خلقه محجوبا بِهَذَا وَرُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار أَن حجابه النُّور وَلَيْسَ بتفاوت معنى النَّار والنور وَمعنى الْإِضَافَة فِي الْحجاب إِلَيْهِ من طَرِيق الْجعل والخلق وَهُوَ أَن جعل الْخلق محجوبا بِهِ لِأَنَّهُ يحتجب بِهِ فَإِن قَالُوا فعلى مَاذَا تحملون مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ احتجب الله من خلقه بِأَرْبَع بِنَار وظلمة وَنور وظلمه قيل قد ذكر بعض أهل الْعلم فِي ذَلِك تَأْوِيل أَن مَعْنَاهُ أَن الله عرفنَا نَفسه بآياته ودلائله فَقَالَ لَهُ آيَات لَو ظَهرت لِلْخلقِ كَانَت معرفتهم بِهِ كمعرفة العيان كَمَا ذكر فِي قَوْله سُبْحَانَهُ {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي معنى قَوْله احتجب بالنَّار أَي خلقهَا دون تِلْكَ الدلالات الَّتِي تبهر الْعُقُول وتدل على مَعْرفَته حَتَّى تصير كمعرفة العيان وَهَذَا الْخَبَر إِذا حمل تَأْوِيله على مَا ذكر الثَّلْجِي كَانَ معنى الإحتجاب عَن الْخلق أَنه جعل دلَالَة فَوق دلَالَة وَدلَالَة أظهر من دلَالَة وَيرجع فِي التَّحْقِيق إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 مَا قُلْنَا أَنه يحجب الْخلق بِمَا يخلقه فيهم من مَوَانِع الْمعرفَة والربوبية لَا أَنه يحتجب احتجاب استتار كالإستتار بالأجسام الحاوية لما يُحِيط بهَا ويكتنفها وَاعْلَم أَن الْأَجْسَام لَيست تحجب على الْحَقِيقَة فِي المحدثات أَيْضا لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَة غير مَانِعَة رُؤْيَة المحجوب المستور المغطى وَلَا مَانِعَة للمعرفة على الأَصْل الصَّحِيح من مذاهبنا وَذَلِكَ أَن الْمَانِع من معرفَة الشَّيْء ورؤيته ومعاينة مَا يمْنَع من وجود مَعْرفَته ومعاينته وَمَا يمْنَع من ذَلِك فَهُوَ الَّذِي يضاد وجوده وَذَلِكَ لَا يَصح إِلَّا فِي العرضين المتضادين المتعاقبين وَلَا يَصح أَن يكون الْجِسْم منعا وَلَا مَانِعا من عرض أصلا لأجل أَنه لَا يَصح أَن يكون بَين الْعرض والجسم تناف وتضاد على وَجه من الْوُجُوه فَبَان بِهَذَا أَن الَّذِي يججب عَن المعاينة والمعرفة فِي الْقَدِيم والمحدث هُوَ الْمَنْع الَّذِي هُوَ بِمَعْنى مَوْجُود تعاقب الْعلم والرؤية لمن هُوَ مَمْنُوع بِهِ فعلى ذَلِك لَا يَصح أَن يكون الْمُحدث وَلَا الْقَدِيم محجوبا بالشَّيْء من سَائِر الْأَجْسَام المغطية والمكتنفة المحيطة وَإِنَّمَا يُقَال لهَذِهِ الْأَجْسَام الساترة أَنَّهَا حجاب عَن رُؤْيَة المحجوب لما وَرَاءه من أجل أَن الْمَنْع من الرُّؤْيَة يحدث عِنْده فَسمى بإسم مَا يحدث عِنْده وَلذَلِك عطلت الْمُعْتَزلَة فِي قَوْلهم إِن البارئ سُبْحَانَهُ لَا يرى لأجل أَنه لَو كَانَ مرئيا لرأيناه السَّاعَة لإرتفاع الْحجاب والبعد واللطافة والرقة وَذَلِكَ أَن مَا قَالُوا أَنه حجاب وَمنع فَلَيْسَ بحجاب وَلَا منع على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا يُطلق عَلَيْهِ مجَازًا لأجل أَن الْمَنْع يحدث عِنْده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فعلى ذَلِك تَرْتِيب تَأْوِيل هَ ذِه الْأَخْبَار الْوَارِدَة بِلَفْظ الْحجاب ويحقق أَن الله عز وَجل لَا يَصح أَن يكون محجوبا وَلَا محجوبا على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا هُوَ مَانع خَالق للحجاب فيضاف الْحجاب إِلَيْهِ على معنى أَنه جعله حِجَابا لمن حجبه بِهِ من طَرِيق الْفِعْل لَا من طَرِيق الإستتار والإحتواء عَلَيْهِ ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل وَهُوَ مَا رَوَاهُ الجم الْغَفِير وَالْجمع الْكثير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَلْفَاظ مفترقة وَمَعَان متفقة فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة وَهُوَ أَن قَالَ ترَوْنَ ربكُم يَوْم الْقِيَامَة كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَا تضادون فِي رُؤْيَته // أخرجه الإِمَام أَحْمد // وَفِي بَعْضهَا لَا تضَامون من رُؤْيَته بتَشْديد الْمِيم من تضَامون الَّذِي هُوَ بِمَعْنى المضامة وَقد رُوِيَ أَيْضا مخففا على معنى نفي الضيم عَنْهُم وَالَّذِي يجب أَن يُوقف عَلَيْهِ من هَذَا الْخَبَر معنى المضارة والمضامة المنفية عَن الرائين لَهُ وَوجه تَشْبِيه رُؤْيَته بِرُؤْيَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر أَن ذَلِك لَا يرجع إِلَى الرَّائِي بل يرجع إِلَى الرُّؤْيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَرُوِيَ فِي خبر آخر لفظ أشكل من هَذَا وَهُوَ أَنه رُوِيَ أَن الله تَعَالَى يبرز كل جُمُعَة لأهل الْجنَّة وروى على كثيب من كافور فيكونون فِي الْقرب على قدر تكبيرهم إِلَى الْجُمُعَة أَلا فسارعوا فِي الْخيرَات تَأْوِيله أعلم أَن قَوْله ترَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لم يقْصد بِهِ إِلَّا تَحْقِيق رُؤْيَة العيان لَا تَشْبِيه المرئ بالمرئ بل تَحْصِيل ذَلِك تَشْبِيه الرُّؤْيَة بِالرُّؤْيَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ رؤيتكم الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة كرؤيتكم الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر أَي كَمَا أَنكُمْ لَا تشكون لَيْلَة الْبَدْر فِي رُؤْيَة الْقَمَر أَنه هُوَ الْبَدْر وَلَا يتخالجكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فِيهِ ريب وَظن كَذَلِك ترَوْنَ الله جلّ ذكره يَوْم الْقِيَامَة مُعَاينَة يحصل مَعهَا الْيَقِين بِأَن مَا تَرَوْنَهُ هُوَ المعبود الْإِلَه الَّذِي لَيْسَ كمثله شَيْء وحقق ذَلِك قَوْله لَا تضَامون فِي رُؤْيَته فَأَما معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تضَامون فِي رُؤْيَته أَي لَا يَنْضَم بَعْضكُم إِلَى بعض كَمَا تنضمون فِي رُؤْيَة الْهلَال رَأس الشَّهْر بل تَرَوْنَهُ جهرة من غير تكلّف لطلب رُؤْيَته كَمَا ترَوْنَ الْبَدْر وَهُوَ الْقَمَر لَيْلَة الرَّابِع عشر إِذا عاينه المعاين جهرة لم يحْتَج إِلَى تكلّف فِي طلب رُؤْيَته ومعاينته وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تضَارونَ أَي لَا يلحقكم الضَّرَر فِي رُؤْيَته بتكلف طلب كَمَا يلْحق الْمَشَقَّة والتعب فِي طلب رُؤْيَة مَا يخفي ويدق ويغمض وكل ذَلِك المعاينة وَأَنَّهَا صفة تزيد على الْعلم وَكَذَلِكَ من روى تضَامون مخففا فَإِنَّمَا مُرَاده الضيم أَي لَا يلحقكم فِيهِ ضيم والضيم وَالضَّرَر وَاحِد فِي الْمَعْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَقد تأولت الْمُعْتَزلَة ذَلِك على معنى رُؤْيَة الْعلم وَأَن الْمُؤمنِينَ يعْرفُونَ الله يَوْم الْقِيَامَة ضَرُورَة وَهَذَا خطأ من قبل أَن الرُّؤْيَة إِذا كَانَت بِمَعْنى الْعلم تعدت إِلَى مفعولين وَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْقَائِل رَأَيْت زيدا فَقِيها أَي عَلمته كَذَلِك فَإِذا رَأَيْت زيدا مُنْطَلقًا فَلَا يفهم مِنْهُ إِلَّا رُؤْيَة الْبَصَر وَقد حقق ذَلِك أَيْضا بِمَا أكده بِهِ من تشبيهه بِرُؤْيَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر وَتلك رُؤْيَة الْبَصَر لَا رؤيه علم وعَلى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا يبشر الْمُؤمنِينَ من أَصْحَابه بذلك وَذَلِكَ يُوجب أَن يكون معنى يختصون بِهِ وَأما الْعلم بِهِ فمشترك بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ يبطل معنى بشارته للْمُؤْمِنين بِالرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ أَن تِلْكَ الرُّؤْيَة رُؤْيَة عيان وَقد روى الْأَثْبَات مِنْهُم خُنَيْس عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ترَوْنَ ربكُم يَوْم الْقِيَامَة عيَانًا وَهَذَا يرفع الْإِشْكَال وَيمْنَع الإحتمال لِأَن الرُّؤْيَة وَإِن كَانَت تسْتَعْمل فِي معنى الْعلم فَإِنَّهَا إِذا قرنت بِلَفْظ العيان لم يحْتَمل الْعلم وَذَلِكَ كَقَوْل الْقَائِل رَأَيْت زيدا مُعَاينَة وعيانا لَا يحْتَمل معنى الْعلم كَمَا أَنه قَالَ رَأَيْت زيدا بقلبي لم يحْتَمل رُؤْيَة الْبَصَر فَأَما مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر الآخر أَن الله جلّ ذكره ينزل كل يَوْم جُمُعَة لأهل الْجنَّة على كثيب من كافور فيكونون فِي الْقرب على قدر تبكيرهم إِلَى الْجُمُعَة أَلا فسارعوا إِلَى الْخيرَات فَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع إِن هَذَا الْخَبَر مِمَّا تفرد بروايته الْمنْهَال بن عَمْرو وَهُوَ ضَعِيف جدا مَعَ أَنه إِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 صَحَّ وَقيل فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ أَن أهل الْجنَّة يرونه على مقادير أَوْقَات الدُّنْيَا بِحَسب أَعْمَالهم الْحَسَنَة ومسارعتهم فِيهَا وكل مَا قيل فِي ذَلِك من معنى أَيَّام الدُّنْيَا وأوقاتها فِيهَا كَقَوْلِه وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا فَذَلِك على تَقْدِير أَيَّام الدُّنْيَا وأوقاتها لَا أَن هُنَالك غدْوَة وعشيا أَو جُمُعَة أَو سبتا فَأَما بروزه لأهل الْجنَّة فَذَلِك تجليه لَهُم وَهُوَ أَن يخلق لَهُم رُؤْيَة لَهُ تَعَالَى فهم على كثيب كافور فَأَما معنى قربه مِنْهُم فَذَلِك رَاجع إِلَى الكرامات والمنزلة لَا إِلَى الْمَكَان والمسافة وَذَلِكَ متعالم مَشْهُور بَين النَّاس أَنهم يَقُولُونَ فلَان قريب من فلَان وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ قرب الْمنزلَة لَا قرب الْمسَافَة وَعَلِيهِ يتَأَوَّل قَوْله من تقرب مني شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا // أخرجه البُخَارِيّ // أَي تقرب بِالطَّاعَةِ ضعفت لَهُ الثَّوَاب وزدته كَرَامَة وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ لِلْفَاسِقِ فِي فسقه أَنه متباعد عَن الله يُرِيدُونَ بذلك التباعد من طَاعَته وعبادته وعَلى هَذَا الْمَعْنى يُقَال إِن الْكَافِر بعيد عَن الله وَالْمُؤمن قريب من الله وَالله قريب من الْمُؤمنِينَ بعيد عَن الْكَافرين وَمعنى ذَلِك قرب رَحمته وكرامته ولطفه وفضله من الْمُؤمنِينَ وَبعد جَمِيع ذَلِك من الْكَافِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فَأَما قرب الْمَكَان فَلَا يَلِيق بِوَصْف الله تَعَالَى وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل جَمِيع مَا فِي الْقُرْآن مثل قَوْله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَقَوله {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم} وَقَوله تَعَالَى {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} وَقَوله تَعَالَى {واسجد واقترب} إِن جَمِيع ذَلِك لَا يَخْلُو أَن يكون قربا بِالطَّاعَةِ من العَبْد أَو قربا بالكرامة وَإِظْهَار الرَّحْمَة من الله تَعَالَى فعلى ذَلِك جَمِيع مَا يُوصف بِهِ الله عز ذكره من قربه من الْخلق ويوصف بِهِ العَبْد من قربه من الله وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْبعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيخلو بِهِ ربه يَوْم الْقِيَامَة ويكلمه وَلَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان فَيَقُول مَا عملت فِيمَا علمت // أخرجه البُخَارِيّ // ذكر تَأْوِيله إعلم أَن معنى قَوْله سيخلو بِهِ ربه مَحْمُول على مَا جرى بِهِ الْعرف فِي كَلَام الْعَرَب من قَوْلهم خلا فلَان بِعَمَلِهِ وخلا فلَان بِنَفسِهِ وَمعنى ذَلِك إنفراده وتفرده لما تفرد بِهِ ويتفرد لَهُ فعلى ذَلِك يكون معنى الْخَبَر أَنه يكلمهُ بِكَلَام لَا يسمعهُ غَيره بل يخص المكلم بالإسماع لما يكلمهُ بِهِ فَيكون خَالِيا بِهِ على هَذَا الْوَجْه حِين يظنّ من يكلمهُ ويحاسبه أَنه لَيْسَ بمكلم لأحد سواهُ وَلَا محاسب لغيره وَإِنَّمَا حملناه على ذَلِك لإستحالة وَصفه عز وَجل بِالْقربِ الَّذِي هُوَ قرب الْمسَافَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 والمساحة وَذَلِكَ لإستحالة كَونه محدودا متناهيا لإستحالة كَونه محدودا وَقد ذكرنَا قبل مثل هَذَا الْمَعْنى فِي حَدِيث النَّجْوَى وَقد رُوِيَ مُفَسرًا قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي النَّجْوَى أما الْمُؤمن فيدنى من ربه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يضع كنفه عَلَيْهِ فيقرره بذنوبه وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن ذَلِك أدناه من طَرِيق الْكَرَامَة وَأَن كنفه ستره وَكَرمه وعفوه وَرَحمته كَذَلِك معنى خلوه بِالْعَبدِ يَوْم الْقِيَامَة إِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفه أَعمال السالفة وإعلامه ومواقع الْجَزَاء من أَعماله الْخَيْر وَالشَّر بالثواب وَالْعِقَاب ذَلِك نَظِير قَوْله جلّ ذكره {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} وَكَقَوْلِه {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} لِأَن ذَلِك يرجع إِلَى تَأْوِيل الْعلم بِهِ وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ والسمع لكَلَامه والرؤية لذاته وَصِفَاته تعريفا لَهُم أَنه هُوَ الَّذِي لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أُمُور الْخلق كَذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سيخلو الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة أَي يفرده بالتعريف يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى لَا يسمع غَيره مَا سَمعه وَلَا يعرف أحد سواهُ مَا يعرفهُ رَحْمَة بِالْمُؤْمِنِينَ من عباده وسترا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عَلَيْهِم بِإِظْهَار عَفوه وَكَرمه وَقد قيل إِنَّه يُحَاسب الْمُؤمن عتابا وَيُحَاسب الْكَافِر عقَابا وَلما كَانَ الله عز وَجل هُوَ الْقَادِر على إسماع كل وَاحِد من المحاسبين مَا يُرِيد أَن يسمعهُ كَلَامه بِحَيْثُ لَا يسمع غَيره مثله فِي تِلْكَ الْحَال لم يُنكر أَن يكون مَا روى أَنه يَخْلُو بِهِ حَتَّى يظنّ أحدهم أَنه لَيْسَ يكلم أحدا سواهُ وَمعنى تكليم الله عز وَجل خلقه إفهامه إيَّاهُم كَلَامه على مَا يُرِيد أما بإسماع عبارَة تدل على مُرَاده أَو بإبتداء فهم يخلقه فِي قلبه يفهم بِهِ مَا يُرِيد أَن يفهمهُ بِهِ وكل ذَلِك سَائِغ جَائِز وَهُوَ معنى مَا يكلم الله تَعَالَى بِهِ العَبْد عِنْد المحاسبة فَإِذا أفرده بِهِ إسماعا وإفهاما مَا كَانَ ذَلِك خلوا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ذكر خبر آخر يَقْتَضِي التَّأْوِيل وَهُوَ مَا روى سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى لما خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَنفخ فِيهِ من روحه عطس آدم فَأذن الله لَهُ فَشكر الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ ربه رَحِمك الله فسبقت لَهُ من ربه رَحمته وَقَالَ لَهُ يَا آدم إذهب إِلَى الْمَلأ من الْمَلَائِكَة فَقل لَهُم السَّلَام عَلَيْكُم فَقَالَ لَهُم فَقَالُوا وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله ثمَّ رَجَعَ إِلَى ربه فَقَالَ لَهُ هَذِه تحيتك وتحية ذريتك بَينهم تَأْوِيل ذَلِك اعْلَم أَن معنى قَوْله وَنفخ فِيهِ من روحه وَمعنى قَوْله {ونفخت فِيهِ من روحي} وَمعنى جَمِيع ذَلِك إِضَافَة إِلَيْهِ من طَرِيق الْملك وَالْفِعْل وَقد بَينا أَن أَفعاله عز وَجل لَا تغيره وَلَا تحله وَإِنَّمَا تحدث بقوله كن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فَيكون وَأَن بَعْضهَا يُضَاف إِلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْخَاص إتباعا لَهُ فِيمَا خص بِهِ نَفسه لفائدة متجددة إِمَّا للتنويه بِشَأْنِهِ وَالرَّفْع من حَاله وَقد علمنَا أَن جملَة الْأَرْوَاح مخلوقة لَهُ عز وَجل فَخص بَعْضهَا بِالْإِضَافَة إِلَى نَفسه كَمَا خص بعض الْبيُوت بِالْإِضَافَة إِلَى نَفسه وَإِن كَانَ كلهَا ملكا لَهُ وفعلا للتنويه بذكرها والتشريف وَالدّلَالَة على فَضلهَا وَشرف أمرهَا وَأما قَوْله فَقَالَ لَهُ رَبك رَحِمك الله حِين عطس آدم عَلَيْهِ السَّلَام فقد بَينا معنى مُخَاطبَة الله تَعَالَى لمن يُرِيد أَن يخاطبه وَأَن ذَلِك تَارَة يكون بإسماع بِلَا وَاسِطَة وَلَا ترجمان وَذَلِكَ نوع من التَّخْصِيص للدلالة على شرف المكلم على هَذَا الْوَجْه لِأَنَّهُ مُكَلم لجَمِيع الْمُكَلّفين بِالْأَمر وَالنَّهْي وَإِنَّمَا كَلمهمْ بوسائط الرُّسُل والمبلغين عَنهُ إِلَيْهِم فَأَما قَوْله فسبقت لَهُ من ربه رَحمته فَمَعْنَى ذَلِك الْوَعْد بِالرَّحْمَةِ لِأَن نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الرَّحْمَة لَا يَصح فِيهَا تَأَخّر وَتقدم بِحَدّ وَنِهَايَة لأجل أَنَّهَا عندنَا صفة من صِفَات ذَاته لم يزل مَوْصُوفا وَإِنَّمَا أَرَادَ هَهُنَا مَا هُوَ دلَالَة على الرَّحْمَة الَّتِي تنَاوله من قبل الله جلّ ذكره لِأَن الْكَائِن عَن الشَّيْء والمتعلق بِهِ قد يُسمى بإسمه كَمَا يُقَال لما يظْهر من قدرَة الله من أَفعاله أَنَّهَا قدرَة الله وَتَحْقِيق ذَلِك أَنه هُوَ الْكَائِن عَن قدرته كَذَلِك مَا يَبْدُو من النعم عَن سَابق الرَّحْمَة قد يُسمى رَحْمَة على التَّوَسُّع فِي الْكَلَام وَقد رُوِيَ فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث سبقت رَحْمَتي غَضَبي // أخرجه البُخَارِيّ // وَوجه السُّؤَال فِيهِ على أصلنَا أَنا نقُول إِن رَحْمَة الله صفة من صِفَات ذَاته وَكَذَلِكَ غَضَبه وَرضَاهُ وَلَا يَصح فِيمَا سَبيله ذَلِك أَن يكون مَسْبُوقا وَأَن يتَقَدَّم أَحدهمَا صَاحبه لِأَن ذَلِك يُوجب حدث الْمُتَأَخر مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَوجه الْجَواب عَن ذَلِك يرد على النَّحْو الَّذِي بَينا من تَسْمِيَة المصادر عَن الشَّيْء بإسمه لما بَينهمَا من التَّعَلُّق وَكَذَلِكَ الظَّاهِر من نعم الله وفضله الَّذِي سبق إِلَى الْخلق فِي الدُّنْيَا ابْتِدَاء وأولا عَن رَحمته لَهُم فِي الْأَزَل وَكَذَلِكَ مَا يظْهر من نقمه وعقوبته وغضبه الَّذِي لم يزل يُسمى بِهِ توسعا لِأَنَّهَا عَنهُ تكون وتحدث فَلَمَّا كَانَ ذَلِك سائغا فِي اللُّغَة لم يُنكر أَن يكون مَعْنَاهُ أَن الله عز وَجل ابْتَدَأَ الْخلق بنعمته وَمِنْه وعفوه وستره وَأخر الْعقُوبَة وَالْجَزَاء على السَّيِّئَات إِلَى العقبى وَالدَّار الْآخِرَة فَسمى مَا سبق ظُهُوره من فعله النعم لَهُم فِي الدُّنْيَا رَحْمَة وَمَا أَخّرهُ عَنْهُم إِلَى العقبى من الْعقُوبَة غَضبا على معنى مَا ذكرنَا من تَسْمِيَة الشَّيْء بإسم مَا يحدث عَنهُ وَيظْهر مِنْهُ وَقد بَينا فِيمَا قبل تَأْوِيل الرَّحْمَة وَالْغَضَب وَالرِّضَا على أصولنا وَأَن حَقِيقَة ذَلِك يرجع على أصولنا وقواعد مذاهبنا إِلَى مَا سبق وجوده لَا بِمدَّة وَتقدم كَونه لائقا بِهِ كَون سَائِر المكونات من إِرَادَة الله جلّ ذكره الْأَنْعَام على من علم أَنه ينعم عَلَيْهِ إِذا خلقه والإنتقام مِمَّن علم أَنه أهل لِأَن ينْتَقم مِنْهُ وَمَا يظْهر من النعم والنقم فِيمَا لَا يزَال عَن الرَّحْمَة وَالرِّضَا وَالْغَضَب فِيمَا لم يزل بذلك بِمَا بَينهمَا من التَّعَلُّق وَأَن أَحدهمَا يُسمى بإسم صَاحبه لِأَنَّهُ عَنهُ يَقع وعَلى حسب تعلقه فِيمَا سبق يحدث وعَلى ذَلِك تتأول الْأَلْفَاظ فِي الدُّعَاء إِذا قيل اللَّهُمَّ ارحمنا وَارْضَ عَنَّا من قبل أَن مَا هُوَ من صِفَات الذَّات لَا يَصح فِيهَا الطّلب وَالسُّؤَال وَإِنَّمَا يَصح الطّلب وَالسُّؤَال فِيمَا طَرِيقه طَرِيق الْفِعْل فَيسْأَل أَن يفعل ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وعَلى هَذَا الْوَجْه يتَأَوَّل معنى الدُّعَاء فَيُقَال إِن المسؤول بِهَذَا الدُّعَاء هُوَ المرجو أَن يحدث عَن رَحمته وَرضَاهُ لَا نفس الرَّحْمَة وَالرِّضَا وَنَظِير ذَلِك أَيْضا فِي الدُّعَاء قَوْلهم اللَّهُمَّ اغْفِر لنا علمك فِينَا وشهادتك علينا وَنَفس الْعلم لَا يغْفر وَكَذَلِكَ نفس الشَّهَادَة وَإِنَّمَا تتَعَلَّق الْمَغْفِرَة بالمعلوم والمشهود وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل قَوْلهم رَضِي الله عَن فلَان ورحمه لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِخَبَر عَن تقدم الرِّضَا وَالرَّحْمَة لَهُ وَإِنَّمَا معنى ذَلِك الدُّعَاء والطلب لِأَن يفعل مَا إِذا فعله كَانَ عَن رِضَاهُ وَرَحمته فاختصر اللَّفْظ فِي الدُّعَاء إختصارا وَالْمعْنَى غير مُشكل وَلَا ملبس وَأما معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ رَجَعَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهُ هَذِه تحيتك فَمَعْنَى ذَلِك أَنه رَجَعَ إِلَى مَسْأَلته ومخاطبته وَقد فسره بقوله فَقَالَ لَهُ وَبَين أَن ذَلِك يرجع إِلَى السُّؤَال وَالْخطاب وَلَيْسَ كل رُجُوع رُجُوعا إِلَى الْمَكَان فِي الْمَكَان بل قد يكون ذَلِك رُجُوعا عَن فعل إِلَى فعل وأخذا فِي شَيْء بعد شَيْء وعودا إِلَى مثل مَا كَانَ فِيهِ بَدَأَ من طَرِيق الْفِعْل وَالْحكم لَا من طَرِيق التنقل والتحول من مَكَان إِلَى مَكَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل روى مُعَاوِيَة بن صَالح عَن رَاشد بن سعد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله يطوي الْمَظَالِم يَوْم الْقِيَامَة فيجعلها تَحت قدمه إِلَّا مَا كَانَ من أجر الْأَجِير وعقر الْبَهِيمَة وفض الْخَاتم // أخرجه النَّسَائِيّ // وَتَأْويل ذَلِك اعْلَم أَنا قدمنَا معنى الْقدَم وَذكرنَا مَا فِيهِ من الإشتراك فِي استعمالهم لَهُ فِي الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة وَلَيْسَ كل ذَلِك هُوَ الْجَارِحَة وَالْبَعْض والعضو فَقَط وَبينا أَن مَا سمي قدما من الْجَارِحَة فلمعنى وَهُوَ تقدمه على الْبدن وَأَن أصل مَعْنَاهُ مَأْخُوذ من التَّقَدُّم من غير أَن مثل هَذَا اللَّفْظ قد اُعْتِيدَ اسْتِعْمَاله فِي اللُّغَة فِي الْأَمر الَّذِي لَا تنَاقض فِيهِ وَلَا تطالب بِهِ يُبطلهُ ولايجعل لَهُ حكما وَكَذَلِكَ يُقَال فِي مثل هَذَا الْأَمر الَّذِي صفته مَا ذكرنَا قد جعلته تَحت قدمي على تِلْكَ المنافسة عَلَيْهِ والمطالبة لَهُ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَرَادَ أَن يعرفنا مَرَاتِب الْأَعْمَال وإمتداد الْجَزَاء عَلَيْهَا وَأَن مِنْهَا مَا يكون إِلَى الْعَفو عَنهُ أقرب من غَيره فَخص بعض الْأَعْمَال بِالذكر تنويها بهَا أَنه عز ذكره لَا يبطل أمره وَلَا يدع الْمُطَالبَة بهَا زجرا عَن فعلهَا وتأكيدا للحث على تَركهَا لِأَنَّهُ أَرَادَ بذلك إِثْبَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عُضْو وجارحة لمن يَسْتَحِيل ذَلِك فِي وَصفه وَإِنَّمَا يخاطبهم على الْمَعْهُود من لغتهم والمتعارف فِيمَا بَينهم وَذَلِكَ من المتعالم الْمَشْهُود فِي خطاب الْعَرَب والعجم أَنهم يعبرون بِمثلِهِ عَن مثل هَذَا المُرَاد فَيَقُولُونَ جعلت هَذَا الْأَمر تَحت قدمي أَي أعرض عَنهُ وَلم يَطْلُبهُ وَلَا يُطَالب بِهِ وَقد رُوِيَ مثله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لما فتح مَكَّة قَامَ على بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة قد جعلته تَحت قدمي // أخرجه مُسلم // على معنى أَنِّي أَعرَضت عَن المنافسة فِيهِ والمطالبة بِهِ وَإِذا كَانَ ذَلِك مُسْتَعْملا فِي اللُّغَة على الْوَجْه الَّذِي بَينا كَانَ معنى قَوْله إِن الله يَجْعَل الْمَظَالِم تَحت قدمه يَوْم الْقِيَامَة مَحْمُولا عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَر مِمَّا يشكل مَعْنَاهُ على من يعرف عَادَة الْعَرَب فِي الْخطاب حَتَّى يسْبق وهمه إِلَى خلاف هَذَا المُرَاد الَّذِي يتَوَهَّم أَنه قدم جارحة وطئ بهَا وَطْء الْجَارِحَة فَإِذا كَانَ كَذَلِك بَان لَك وَجه هَذَا الْخَبَر فِي إِضَافَة الْقدَم إِلَيْهِ تَعَالَى وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا تمثيلا بِالْأَمر الَّذِي يُوطأ بالقدم لِأَنَّهُ إِذا أُرِيد ستره والإعراض عَنهُ وَترك كشفه والتوقيف عَلَيْهِ عمل ذَلِك ثمَّ يُقَال للَّذي شبه بِهِ على هَذَا الْمَعْنى اجْعَلْهُ تَحت قدمك وَجَعَلته تَحت قدمي توسعا وتمثيلا بِمَا ذكرنَا فاعلمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ذكر خبر آخر روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن أحدكُم إِذا تصدق بالتمرة من الطّيب وَلَا يقبل الله إِلَّا الطّيب يَجْعَل الله ذَلِك فِي كَفه فيربيها كَمَا يُربي أحدكُم فلوه أَو فَصِيله حَتَّى يبلغ بالتمرة مثل أحد // أخرجه البُخَارِيّ // تَأْوِيل ذَلِك اعْلَم أَن معنى الْكَفّ هَهُنَا معنى الْملك وَالسُّلْطَان كَمَا قَالَ الأخطل (أعاذل أَن النَّفس فِي كف مَالك ... إِذا مَا دَعَا يَوْمًا أجابت بهَا الرسلا) وَمعنى الْخَبَر على هَذَا التَّأْوِيل إِن الله عز وَجل يجازي الْمُتَصَدّق بِمَا بَيناهُ من الْجَزَاء أضعافا مضاعفة وَفَائِدَته التَّرْغِيب فِي الصَّدَقَة وَأَنَّهَا يجب أَن يقْصد بهَا الطّيب من المَال ويخص بِالْإِنْفَاقِ وَيعلم أَن ذَلِك يجْرِي بِعلم الله وَقدرته وإرادته ومشيئته أَي قد علمُوا أَن الله عز وَجل هُوَ المطلع الشَّاهِد وللصدقات قَابل لِأَنَّهَا تقع فِي ملكه وسلطانه على حسب علمه ومشيئته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وَقد رُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب كَانَ كثيرا مَا ينشد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ (هون عَلَيْك فَإِن الْأُمُور ... بكف الْإِلَه مقاديرها) (فَلَيْسَ بآتيك منهيها ... وَلَا قَاصِر عَنْك مأمورها) وَمعنى قَوْله بكف الْإِلَه أَي فِي سُلْطَانه وَملكه وَقدرته وَهَذَا أَيْضا جَائِز فِي كَلَام النَّاس فِي معاملاتهم وتعارفهم لأَنهم يَقُولُونَ مَا فلَان إِلَّا فِي كفي يُرِيدُونَ بذلك أَنه مِمَّن يجْرِي عَلَيْهِ أَمر ملكه فَفِي ذَلِك دَلِيل لنا على خلاف قَول الْقَدَرِيَّة لِأَن الصَّدَقَة فعل الْمُصدق وَقد أخبر أَنَّهَا فِي كف الله على معنى أَنَّهَا فِي ملكه وَتَحْت قدرته وَهَذَا يُوجب أَن يكون مَقْدُور الله مخلوقا لَهُ وَقد تؤول هَذَا الْخَبَر على وُجُوه أخر فَقيل إِن الْكَفّ المُرَاد بِهِ هَهُنَا الْأَثر وَالنعْمَة فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ معنى الْخَبَر مَحْمُول على أحد وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد بالأصابع هَهُنَا الْملك وَالْقُدْرَة وَيكون فَائِدَته أَن قُلُوبهم فِي قَبضته جَارِيَة قدرته عَلَيْهَا وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى خلق الْقُلُوب محلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 للخواطر والإرادات والعزوم والنيات وَهِي مُقَدمَات الْأَفْعَال وفواتح الْحَوَادِث ثمَّ جعل سَائِر الْجَوَارِح تَابِعَة لَهَا من الحركات والسكنات حَتَّى تقع حركاتها بِحَسب إرادات الْقُلُوب لَهَا إِذا كَانَت اختيارية كسبية ثمَّ أخبر أَن الْقُلُوب جَارِيَة على حسب إِرَادَة الله تَعَالَى إِذْ كَانَت تَحت سُلْطَانه وَقدرته ليستفاد بذلك أَن من كَانَت فواتح الْأُمُور جَارِيَة تَحت قدرته فَكَذَلِك غاياتها ونهاياتها وَهَذَا أَيْضا يدل على صِحَة مَا نقُول أَن أَفعَال الْحَيَوَان مقدرَة لله تَعَالَى مخلوقة لَهُ وَأَنَّهَا لَا تحدث إِلَّا على حسب سَابق إِرَادَة الله ومشيئته فِيهَا فَدلَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الْقلب وَكَونه تَحت الْقُدْرَة جَارِيا على المُرَاد على أَن مَا عداهُ أولى بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تصدر أَفعَال الْجَوَارِح عَن تقلبه وإرادته أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ أَن ذَلِك يَقع مِنْكُم بِنِعْمَة من الله عز وَجل فِي توفيقه إيَّاكُمْ لفعلها وَيكون معنى قَوْله فِي كف الرَّحْمَن أَي بِهِ يَقع وَبِحسن إنعامه وألطافه يكون وَيحدث ثمَّ أَنه يجازي من فَضله من شَاءَ بِمَا شَاءَ وَمِنْه قَول ذِي الْأصْبع من معنى الْكَفّ الَّذِي يُرَاد بِهِ النِّعْمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (زمَان بِهِ لله كف كَرِيمَة ... علينا ونعماه لَهُنَّ بشير) أَرَادَ بذلك نعم ظَاهِرَة لله فِيهِ ذكر خبر آخر من مثل هَذَا الْمَعْنى وتأويله روى أنس وَعَائِشَة وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن قُلُوب بني آدم بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الله يقلبها كَيفَ يَشَاء // أخرجه ابْن مَاجَه // أعلم أَن أهل الْعلم قد تأولوا ذَلِك على وُجُوه وَإِنَّمَا مثل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه قدرَة الْقَدِيم بأوضح مَا يَفْعَلُونَ من أنفسهم لِأَن الرجل مِنْهُم لَا يكون على شَيْء أقدر مِنْهُ إِذا كَانَ بَين أصبعيه وَلذَلِك يضْرب الْمثل بِهِ فَيَقُولُونَ مَا فلَان إِلَّا فِي يَدي وخنصري يُرِيدُونَ بذلك أَنه عَلَيْهِ مسلط وَأَنه لَا يعْتَذر عَلَيْهِ أَن يكون على مَا يُريدهُ وَقَالَ بعض أهل الْعلم الأصبعين هَهُنَا بِمَعْنى النعمتين وَقد ذكرنَا فِيمَا قبل أَن الْعَرَب يَقُولُونَ لفُلَان على أصْبع حسن إِذا أنعم عَلَيْهِ نعْمَة حَسَنَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَذكرنَا قَول الرَّاعِي فِي ذَلِك (ضَعِيف الْعَصَا بَادِي الْعُرُوق ترى لَهُ ... عَلَيْهَا إِذا مَا اجدب النَّاس أصبعا) أَي إِذا وَقع النَّاس فِي الجدب والقحط ترى لَهُ علينا أثرا حسنا فَإِن قيل وَمَا تَفْصِيل مَا بَين النعمتين اللَّتَيْنِ يتَصَرَّف الْقلب بَينهمَا د قيل يحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى النَّفْع وَالرَّفْع وَذَلِكَ يشْتَمل جَمِيع النعم لِأَن النعم على ضَرْبَيْنِ ظَاهِرَة وباطنة فالظاهرة مِنْهَا مَا نفع المنتفعين بهَا والباطنة مَا دفع من وُجُوه الشَّرّ وَصرف عوارض المحن فَإِذا كَانَ كَذَلِك احْتمل أَن يكون معنى الْخَبَر أَفَادَ بِهِ إفادتنا إِظْهَار نعْمَة الله علينا وَأَنَّهَا قد سبقت وشملت بَاطِنا وظاهرا وَخص الْقُلُوب بِالذكر لِأَنَّهَا مُعظم مَا فِي الْأَبدَان وبفسادها يفْسد الْجمل وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ مُبين أثرين من إِرَادَة الله عز وَجل وفعلين من أَفعاله فِي الْفضل وَالْعدْل وَقد رُوِيَ فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ أَن بَعضهم قَالَ إِذا شَاءَ أزاغه وَإِذا شَاءَ أَقَامَهُ فَأخْبر أَن الْقُلُوب فِي زيغها وإستقامتها جَارِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 تَحت قدرَة الله وقبضته وَفِي ملكه وسطانه وَتَحْقِيق ذَلِك أَنه قد روى فِيهِ أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي فَدلَّ على صِحَة تأويلنا على أَن مَعْنَاهُ التَّوْفِيق والخذلان وَفِيه دَلِيل على صِحَة مَذْهَبنَا لِأَنَّهُ عرفنَا أَن الإزاغة وَالْإِقَامَة مِمَّا يجريان على حسب الْقُدْرَة ونفاذ الْمَشِيئَة وَأعلم أَن لفظ الْأصْبع مُشْتَرك الْمَعْنى فِي اللُّغَة على الْوُجُوه الَّتِي ذكرنَا والمعاني الَّتِي بَينا وَقد يُقَال للجارحة اصبع أَيْضا وَلَيْسَ مُخَصّصا بِهِ بل يجوز أَن يُقَال لَهُ وَلغيره على الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا وَقد قَامَت الدّلَالَة وأوضحنا الْحجَّة فِيمَا قيل على إستحالة وصف الله عز وَجل بالجوارح والأدوات والأبعاض والآلات فَلم يجز أَن يحمل ذَلِك على معنى الْجَارِحَة لإستحالته فِي صفته تَعَالَى فَوَجَبَ أَن يحمل على أحد مَا ذكرنَا من الْمعَانِي لِأَنَّهَا تفِيد الْمَعْنى الصَّحِيح وَلَا تفِيد الكيف والتشبيه الَّذِي يتعالى الله عَن ذكره عَنهُ وَإِنَّمَا ثني لفظ الإصبعين وَالْقُدْرَة وَاحِدَة لِأَنَّهُ جرى على طَرِيق الْمثل والمثل الْجَارِي فِيمَا بَين النَّاس فِي مثل هَذَا الْمَعْنى على هَذَا اللَّفْظ وَهُوَ أَنهم يَقُولُونَ مَا فلَان إِلَّا بَين أُصْبُعِي إِذا أَرَادَ وَاضْرِبْ الْمثل بِأَنَّهُ مسلط عَلَيْهِ قَادر على مَا يُرِيد مِنْهُ فحكي على لفظ الْمثل على اللَّفْظ الْجَارِي الْمَعْهُود وَذَلِكَ لفظ التَّثْنِيَة فَلذَلِك سَاغَ أَن يُقَال أَنه بِمَعْنى الْقُدْرَة وَهِي وَاحِدَة وَإِن كَانَ اللَّفْظ مثنى إِذْ لَيست حَقِيقَة معنى الْأصْبع معنى الْقُدْرَة فيوهم القدرتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَإِنَّمَا يتَمَثَّل ذَلِك وَالْمرَاد بِهِ الْقُدْرَة وَالسُّلْطَان ذكر خبر الإصبع أَيْضا على غير هَذَا الْوَجْه مِمَّا يُوهم التَّشْبِيه روى إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا من أهل الْكتاب جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِم إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يمسك السَّمَوَات على إِصْبَع وَالْأَرْض على إِصْبَع وَالْجِبَال وَالشَّجر على إِصْبَع وَالْمَاء وَالثَّرَى على إِصْبَع ثمَّ يَقُول أَنا الْجَبَّار قَالَ فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه ثمَّ قَرَأَ قَوْله {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} // أخرجه سعيد بن مَنْصُور // ذكر تَأْوِيله اعْلَم أَن الْخَبَر يحْتَمل فِي تَأْوِيله وُجُوهًا صَحِيحَة لَا يُؤَدِّي إِلَى إِثْبَات الْجَوَارِح لمن يَسْتَحِيل فِي وَصفه ذَلِك وَهُوَ الله جلّ ذكره لإستحالة كَونه جسما مبتعضا متجزأ محدودا فمما يُمكن أَن يُقَال فِي تَأْوِيله مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْمحَال فِي وصف الله عز ذكره أَن المُرَاد بِهِ إِصْبَع بعض خلقه وَيشْهد لصِحَّة ذَلِك أَنه لم يذكر فِي الْخَبَر أُصْبُعه بل اطلق ذَلِك مُنْكرا وَاحْتمل أَن يكون على مَا قُلْنَا أَنه يُرِيد بِهِ أصْبع بعض خلقه وَلَيْسَ يُنكر فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 مَقْدُور الله أَن يخلق خلقا على هَذَا الْوَجْه وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي فِي تَأْوِيل ذَلِك يحْتَمل أَن يكون خلق من خلق الله يُوَافق اسْمه اسْم الإصبع فَقَالَ إِنَّه يحمل السَّمَوَات على ذَلِك وَيكون ذَلِك تَسْمِيَة للمحمول عَلَيْهِ بِمَا ذكر فِيهِ فَإِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ قد ذكر فِي الْخَبَر الَّذِي رويتم قبل هَذَا أَصَابِع الرَّحْمَن وأضيف إِلَيْهِ أَفَرَأَيْتُم أَنه لَو أضَاف ذَلِك إِلَى نَفسه فَكيف يكون قيل كَانَ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ الْقُدْرَة وَالْملك وَالسُّلْطَان على معنى قَول الْقَائِل مَا فلَان إِلَّا بَين أُصْبُعِي إِذا أَرَادَ الْإِخْبَار عَن جَرَيَان قدرته عَلَيْهِ فَذكر مُعظم الْمَخْلُوقَات وَأخْبر عَن قدرَة الله تَعَالَى على جَمِيعهَا مُعظما لشأن الرب فِي قدرته وَملكه وسلطانه فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالمتعجب مِنْهُ أَنه مستعظم ذَلِك فِي قدرته وَأَن ذَلِك يسير فِي جنب مَا يقدر عَلَيْهِ وَلذَلِك قَرَأَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} أَي لَيْسَ قدره فِي الْقُدْرَة على مَا يخلق على الْحَد الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْوَهم ويحيط بِهِ الْعد والحصر وَإِذا كَانَ كَذَلِك احْتمل مَا ذكرنَا من التَّأْوِيل وَكَانَ صرفه إِلَيْهِ أولى من صرفه إِلَى مَا يَسْتَحِيل فِي صفة الله عز وَجل ذكر خبر آخر فِي مثل هَذَا الْمَعْنى روى عبيد عَن عُمَيْر عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَأْخُذ الْجَبَّار سماءه وأرضه بِيَدِهِ ثمَّ يقبضهَا ويبسطها وَيَقُول أَنا الْجَبَّار أَنا الْملك أَمِين الْجَبَابِرَة أَمِين المتكبرين // اخرجه ابْن جرير // ذكر تَأْوِيله أعلم أَن أَخذه السَّمَاء وَالْأَرْض بِيَدِهِ يرجع إِلَى تعريفنا قدرته عَلَيْهِ وجريان سُلْطَانه فيهمَا وَقَبضه لَهما يحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى إفنائهما كَقَوْل الْقَائِل قبض الله روح فلَان إِلَيْهِ إِذا فناه ثمَّ يبسطهما أَي يعيدهما على الْوَجْه الَّذِي يُرِيد والهيئة الَّتِي يَشَاء كَونهمَا عَلَيْهَا وَقد قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فتأول بعض أهل التَّفْسِير ذَلِك على معنى الإفناء وَأَنه يفني السَّمَوَات وَالْأَرضين بقدرته وَقيل يفنيهما بِيَمِينِهِ أَي بقسمه الَّتِي أقسم بهَا ثمَّ يُعِيدهَا وَقَوله وَيَقُول أَنا الْملك أَيْن الْمُلُوك يشْهد لهَذَا التَّأْوِيل فِي معنى الإفناء وَذَلِكَ مَا ذكره فِي قَوْله {لمن الْملك الْيَوْم لله الْوَاحِد القهار} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِك عِنْد إفناء خلقه وإماتتهم فَلَا يكون لَهُ مُجيب فيجيب نَفسه بقوله تَعَالَى {لله الْوَاحِد القهار} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَأعلم أَن الْقَبْض والبسط فِي صفة الله ظَاهر قد ورد بِهِ الْقُرْآن وَذَلِكَ يرجع إِلَى معنى الْفِعْل وَالْفِعْل وَاقع بِالْقُدْرَةِ فَتكون فَائِدَة الْخَبَر تعريفنا أَنه هُوَ الْقَادِر على الْقَبْض والبسط فَتَارَة يقبض الْكل ثمَّ يبسطه فدلنا على قدرته على الْقَبْض والبسط جملَة وتفصيلا وَنبهَ بذلك على أَمر الْمعَاد وَأَنه يُغني الْخلق ثمَّ يعيدهم ويميتهم ثمَّ يحييهم وعرفنا عجزهم وضعفهم وَزَوَال أملاكهم ودعاويهم وَأَنه هُوَ الَّذِي تفرد بِالْملكِ وَالْقُدْرَة وَلَا يَزُول ملكه وَقدرته ذكر خبر فِي التجلي مِمَّا يُوهم التَّشْبِيه وتأويله روى حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ قَوْله {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا} ثمَّ قَالَ هَكَذَا يَعْنِي أَنه أخرج طرف الْخِنْصر فَقَالَ فَقلت لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أَرَأَيْت يَا أَبَا مُحَمَّد مَا تُرِيدُ بِهَذَا فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ أحَدثك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول مَا تُرِيدُ بِهَذَا ذكر تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَن الَّذِي يُفَسر من هَذَا الحَدِيث معنى التجلي وَمعنى الْخِنْصر فَأَما التجلي فَمَعْنَاه فِي كَلَام الْعَرَب ظُهُور الشَّيْء وَالشَّيْء قد يظْهر بمعنيين مُخْتَلفين يظْهر جهرة وعيانا بالحس وَيظْهر بِالدّلَالَةِ كَقَوْل الْقَائِل تجلى الْأَمر لي حَتَّى عَرفته وَقد تجلى الله لِلْخلقِ بعلاماته ودلائله ويتجلى للْمُؤْمِنين يَوْم الْقِيَامَة جهرة وعيانا وَالصَّحِيح فِي معنى التجلي فِي الْآيَة أَن الله عز وَجل خلق رُؤْيَة فِي الْجَبَل حَتَّى رأى ربه وَذَلِكَ بِأَن أَحْيَاهُ وَجعله عَالما رائيا ثمَّ دكه بعد الرُّؤْيَة وَجعله فرقا قطعا عَلامَة لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَنه لَا يرَاهُ فِي الدُّنْيَا وَأما قَوْله وَأخرج طرف الْخِنْصر فَإِن من أهل الْعلم من يَقُول إِن مَعْنَاهُ الشي الْيَسِير من آيَاته كإشارة المخلوقين بذلك فَذكر الْخِنْصر وَضرب الْمثل بِهِ لَا أَنه جعل لَهُ خنصرا وَالْعرب تَقول وتضرب بالخنصر مثلا عِنْد تقليلهم الشَّيْء وَتَكون الْفَائِدَة فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أَنه ظُهُور مَا أظهر من تَفْرِيق أَجزَاء الْجَبَل الَّذِي كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ يسير بِالْإِضَافَة إِلَى الْآيَات الَّتِي يظهرها الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ ذَلِك من النَّوْع الَّذِي يظْهر يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ فِي الْقلَّة إِلَيْهِ كطرف الْخِنْصر فَإِن قيل كَيفَ أنكر ثَابت على من سَأَلَهُ عَن تَأْوِيله قيل يحْتَمل أَن يكون توهم فِيهِ أَنه يظنّ أَن ذَلِك يرجع إِلَى صفة الله أَو إِثْبَات جارحة لَهُ أَو عُضْو فَلذَلِك أنكر عَلَيْهِ لينبهه على تَأْوِيله على غير مَا يتوهمه من ذكر الْخِنْصر على معنى الْجَارِحَة قَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع وَقد روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس تجلى مثل طرف الْخِنْصر تَشْبِيها بِمَا قُلْنَا وَعَلِيهِ تأويلنا أَن ذَلِك على طَرِيق التَّمْثِيل بالشَّيْء الْيَسِير لَا على معنى إِثْبَات جارحة وَقد قَالَ الثَّلْجِي إِن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف ذكره حَمَّاد عَن ثَابت وَلم يروه غَيره عَنهُ من أَصْحَابه وَقد قَالَ بَعضهم إِن حمادا كَانَت لَهُ خرجَة إِلَى عبادان وَابْن أبي العوجاء الزنديق أَدخل فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أُصُوله ألفاظا وَأَحَادِيث احتملها فِي آخر عمره فرواها بغفلة ظَهرت فِيهِ ذكر خبر آخر مِمَّا يُوهم التَّشْبِيه وتأويله روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ قَوْله عز وَجل {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} إِلَى قَوْله {إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا} فَوضع أَبُو هُرَيْرَة إبهامه على أُذُنه وَالَّتِي تَلِيهَا على عينه وَقَالَ هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرؤهَا وَيَضَع إصبعه هَكَذَا // أخرجه أَبُو دَاوُد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فَزَعَمت المشبهة أَنه أَرَادَ بِهَذَا أَن لله تَعَالَى عينا وأذنا جوارح وَلِهَذَا وضع يَده على عينه وَأذنه ذكر تَأْوِيله أعلم أَن الْعين وَالْأُذن إِذا كَانَا بِمَعْنى الْجَارِحَة فَلَا يَصح أَن يَكُونَا إِلَّا للأجسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الْمُؤَلّفَة والأجزاء المركبة وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن الْقَدِيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَصح أَن يكون جسما وَلَا ذَا أَجزَاء وَآلَة وجارحة واستحال أَن يكون المُرَاد بِهِ إِشَارَة إِلَى الْعُضْو والجارحة وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك تَحْقِيق السّمع وَالْبَصَر وَأَن الله تَعَالَى يرى المرئيات بِرُؤْيَتِهِ وَيسمع المسموعات بسمعه فَأَشَارَ إِلَى الْأذن وَالْعين تَحْقِيقا للسمع وَالْبَصَر لأجل أَنَّهُمَا مَحل السّمع وَالْبَصَر وَقد يُسمى مَحل الشَّيْء بإسمه لما بَينهمَا من الْمُجَاورَة والقرب وَهَذَا كَمَا قَالَ عز وَجل {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} وَالْمرَاد بذلك مَا فِي الْقُلُوب من الْعُلُوم والعقول لما لم يستعملوها فِي التَّوَصُّل إِلَى الْحق وَلم يعملوا فكرهم ونظرهم فِي تَعْرِيف الْحق وَكَذَلِكَ مَا لم يستعملوا الْحق وَلم يسمعوه سمع قبُول صَارُوا كَأَنَّهُمْ لَا أسماع لَهُم وَكَذَلِكَ وَصفهم فِي آيَة أُخْرَى بِأَنَّهُم {صم بكم عمي} لما تعاموا عَن قبُول الْحق وتصاموا عَن فهمه وسماعه وَإِذا كَانَ الْأذن وَالْعين مَحل السّمع وَالْبَصَر فِينَا أَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحْقِيق الْوَصْف بِالْإِشَارَةِ عز وَجل بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر وَالْإِشَارَة إِلَى الْمحل وَالْمرَاد مَا فِيهِ من السّمع وَالْبَصَر لَا نفس الْمحل وَمثل هَذَا فِي الْكَلَام قَول الْقَائِل قبض فلَان على مَال فلَان فَقبض يَد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 يُشِير إِلَى أَنه حائز لَهُ لَا أَنه فعل ذَلِك بل يُرِيد تَحْصِيل الْمَقْبُوض وَأَيْضًا فَإِن هَذَا الْخَبَر أفادنا أَن وصف الله بِأَنَّهُ سميع بَصِير لَا على معنى صفة بِأَنَّهُ عليم كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض أهل النّظر فَلم يثبتوا لله تَعَالَى فِي وَصفنَا لَهُ بِأَنَّهُ سميع بَصِير معنى خَاصّا وَفَائِدَة زَائِدَة على وَصفنَا لَهُ بِأَنَّهُ عليم وَإِذا كَانَ كَذَلِك أفادنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك تَحْقِيق معنى السّمع وَالْبَصَر على الْوَجْه الزَّائِد مَعْنَاهُ على معنى الْعلم إبطالا لقَوْل من ذهب إِلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي معنى الْعلم وَلَو كَانَ معنى الْوَصْف فِيهِ بِأَنَّهُ سميع على معنى الْوَصْف فِيهِ بِأَنَّهُ عليم لَكَانَ يُشِير إِلَى الْقلب الَّذِي هُوَ مَحل الْعلم لينبه بذلك على معنى أَنه سميع بَصِير أَنه عليم فَلَمَّا أَشَارَ إِلَى الْعين وَالْأُذن وهما محلان للسمع وَالْبَصَر حقق الْفرق بَين السّمع وَالْبَصَر وَبَين الْعلم وَبَين فَائِدَة الْوَصْف على الإختصاص على أَن الْعين وَالْأُذن وَلَيْسَ مِمَّا يبصر بِهِ وَيسمع وَإِنَّمَا يسمع ويبصر بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر اللَّذين يكونَانِ فِي الْأذن وَالْعين أَلا ترى أَنه قد يكون عين وَلَا يكون بصر وَأذن صَحِيحَة وَلَا يكون سمع فَعلم أَن الْمَقْصُود لَيْسَ هُوَ إِثْبَات الْجَارِحَة الَّتِي لَا مدح فِي إِثْبَاتهَا بل الْمَقْصُود إِثْبَات الصّفة الَّتِي بهَا يكمل الْوَصْف بالمدح والتعظيم وَأَن الْإِشَارَة فِي ذَلِك ترجع إِلَى الْمُسْتَفَاد مِمَّا فِي الْعين وَالْأُذن من السّمع وَالْبَصَر لَا إِلَى الْعين وَالْأُذن وَالْعرب قد تَقول كثيرا مَا فلَان إِلَّا شمس وقمر وَبدر وَإِنَّا يُرِيدُونَ بذلك التَّمْثِيل بِوَجْه دون وَجه وَفِي هَذَا الْمَعْنى قَول النَّابِغَة (لِأَنَّك شمس والملوك كواكب ... إِذا طلعت لم يبْق مِنْهُنَّ كَوْكَب) وَكَذَلِكَ قَالَ الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 (النشر مسك وَالْوُجُوه دَنَانِير ... نير وأطراف الأكف غنم) وَلم يرد بذلك أَن النشر عين الْمسك وَإِنَّمَا شبه النشر بالمسك لطيب الرَّائِحَة وأطراف الأكف بالغنم لإحمراره ورطوبته بِالنعْمَةِ لَا غير ذَلِك وَكَذَلِكَ إِشَارَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْأذن وَالْعين لتحقيق كَونه سميعا بَصيرًا لَا لإِثْبَات جارحة لإستحالة الْجَوَارِح على الله عز وَجل وَمثل هَذَا الْخَبَر مَا روى من خبر آخر أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وصف الدَّجَّال وَأَنه يَدعِي الربوبية قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الدَّجَّال أَعور وَإِن ربكُم لَيْسَ بأعور وَمعنى هَذَا الْخَبَر أَيْضا تَحْقِيق وصف الله تَعَالَى بِأَنَّهُ بَصِير وَأَنه لَا يَصح عَلَيْهِ النَّقْص والعمى وَلم يرد بذلك إِثْبَات الْجَارِحَة وَإِنَّمَا أَرَادَ نفي النَّقْص لِأَن العور نقص وَقد ذكرنَا أَنه لَا مدح فِي إِثْبَات الْجَوَارِح بل إِثْبَاتهَا لله تَعَالَى مُسْتَحِيل وَوَصفه بهَا يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بنفيه وحدثه للوجوه الَّتِي بيناها قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ذكر خبر آخر فِي التجلي وتأويله روى يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ أَن يخوف أهل الأَرْض أبدى عَن بعضه وَإِذا أَرَادَ أَن يدمر عَلَيْهِم تجلى لَهَا أعلم أَنه يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله أبدى عَن بعضه أَي عَن بعض آيَاته وعلاماته مِمَّا تكون منذرة ومخوفة ومحذرة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} وَقَوله وَإِذا أَرَادَ أَن يدمر عَلَيْهِم تجلى لَهَا يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَنه أَرَادَ أَن يُهْلِكهُمْ ويستأصلهم فأظهر من الْآيَات أَكثر مِمَّا أظهرها فِي الأولى حَتَّى لَا يسْتَقرّ قُلُوبهم عَلَيْهَا وَقد بَينا فِيمَا قبل معنى التجلي وَأَن ذَلِك يَنْقَسِم إِلَى وَجْهَيْن فَتَارَة يكون تجليا بِالذَّاتِ كَمَا تجلى للجبل بِأَن أرى نَفسه الْجَبَل فتدكدك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وتقطع وَتارَة يتجلى بأفعاله لخلقه بِأَن يظْهر آيَاته الناقضة للعادات وعلاماته المزعجة للقلوب والأنفس فيسمى إِظْهَاره لذَلِك تجليا وَذَلِكَ سَائِغ فِي اللُّغَة على الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَالَ الْقَائِل تجلى لنا بالمشرفية والقنا يَعْنِي بِالسُّيُوفِ والرماح وَأَرَادَ ظُهُور الْقَوْم بِالْحَرْبِ عَلَيْهِم وَفِيهِمْ وَأما معنى التجلي فَهُوَ الظُّهُور وَلذَلِك تَقول جلوت الْعَرُوس إِذا أظهرتها وأبرزتها وَمِنْه قَول الْقَائِل (فَإِن الْحق مقطعه ثَلَاث ... يَمِين أَو نفاد أَو جلاء) أَي ظهرو وبروز وَمِنْه الإنجلاء عَن الأوطان بالظهور مِنْهَا وَالْخُرُوج وَإِذا كَانَ هَذَا سائغا فِي اللُّغَة كَانَ الْوَاجِب أَن يكون مَحْمُولا عَلَيْهِ لإستحالة وصف الله تَعَالَى بِالْكُلِّ وَالْبَعْض والجزء وَذكر الشَّيْء وَالْمرَاد بِهِ غَيره سَائِغ فِي اللُّغَة كَقَوْل الْقَائِل بَنو فلَان يطؤهم الطَّرِيق وَالْمرَاد أهل الطَّرِيق المارون فِيهَا وَالْعرب تَقول إجتمعت الْيَمَامَة يُرِيدُونَ بذلك أَهلهَا وَقَالَ الله عز وَجل {واسأل الْقرْيَة} وَأَرَادَ أَهلهَا وَإِذا سَاغَ ذَلِك كَانَ قَوْله أبدى عَن بعضه مَحْمُولا على هَذَا النَّحْو أَنه أبدى عَن بعض آيَاته وعلاماته من الْأَفْعَال المنذرة الخوفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ذكر خبر آخر وتأويله رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَيْهِ وَعَلِيهِ ثِيَاب رثَّة فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصعد النّظر فِيهِ ويصوب ثمَّ قَالَ أَلَك مَال فَقَالَ نعم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله سُبْحَانَهُ إِذا أنعم على عبد يحب أَن يرى أثر نعْمَته عَلَيْهِ ثمَّ جرا لَهُ حَدِيث طَوِيل إِلَى أَن وصف الْبحيرَة الَّتِي كَانَت الْعَرَب تجرها بشق آذانها فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساعد الله أَشد من ساعدك وموساه أحد من موساك // رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ذكر تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا خَاطب الْعَرَب على لغاتها وَالْمَفْهُوم من خطابها على عاداتها الْجَارِيَة فِيمَا بَينهم وَالْعرب تَقول عِنْد وصف الرجل بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّة عِنْد إِنْفَاذ الْأَمر فعلت ذَلِك بساعدي وبقوة ساعدي وَلَا يُرِيد بذلك إِثْبَات الساعد دون الْوَصْف بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّة أَلا ترى أَن الرجل إِذا قَالَ أَجمعت هَذَا المَال بِقُوَّة ساعدي وَإِنَّمَا يُرِيد أَنه جمع المَال بِرَأْيهِ وتدبيره وقوته دون الْمُبَاشرَة بالساعد وَالْغَرَض من هَذَا الْكَلَام مَعْلُوم وَالْخطاب بِهِ مُسْتَقِيم وَالْمعْنَى مَفْهُوم وَكَذَلِكَ قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله ساعد الله أَشد من ساعدك أَي أمره أَشد من أَمرك وَقدرته أتم من قدرتك على الْعَادة الَّتِي عرفت الْعَرَب فِي خطابها إِذا تَكَلَّمت بِمثل هَذَا الْخطاب لَا على إِثْبَات الساعد الَّذِي هُوَ الْجَارِحَة للقديم جلّ ذكره وَهَذَا نَظِير مَا ذكرنَا فِيمَا قيل أَن الْعَرَب تسمى مَحل الشَّيْء بإسم مَا فِيهِ من طَرِيق الْقرب كَمَا سمت الْبَصَر عينا والسمع أذنا فَسمى الْقُدْرَة ساعدا وَإِن كَانَ الساعد محلا للقدرة فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموساه أحد من موساك فَهَذَا تَحْقِيق مَا ذكرنَا من التَّأْوِيل فِي أَن المُرَاد بِهِ التَّمْثِيل وَتَحْقِيق الْوَصْف بِالْقُدْرَةِ لَا إِثْبَات الْجَارِحَة لِأَن الموسى لما كَانَت آلَة للْقطع وَكَانَ مُرَاده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن قطعه أسْرع من قَطعك عبر عَن الْقطع بِالْمُوسَى إِذْ كَانَت سَببا لَهُ على مَذْهَب الْعَرَب فِي تَسْمِيَة الشَّيْء بإسم مَا يجاوره وَيقرب مِنْهُ وَيتَعَلَّق بِهِ وَإِذا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 كَذَلِك كَانَ تَأْوِيل الْخَبَر مَحْمُولا عَلَيْهِ وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول هلا حملتم مَا وصف نَفسه بِهِ من الْيَدَيْنِ فِي قَوْله {بل يَدَاهُ مبسوطتان} و {خلقت بيَدي} على الْقُدْرَة كَمَا حملتم الساعد عَلَيْهِ لأجل مَا تقدم ذكره من الْبَيَان فَإِن حمل ذَلِك على الْقُدْرَة يبطل وَجه الْفَائِدَة فِيهِ فِي الإحتجاج على إِبْلِيس من حَيْثُ أَنه مَخْلُوق بِالْقُدْرَةِ كآدم عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا ذكر الله ذَلِك فِي خطابه على طَرِيق التَّفْضِيل لآدَم على إِبْلِيس فِي قَوْله {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} وَلَيْسَ كَذَلِك مَا ذكر فِي هَذَا الْخَبَر من الساعد لِأَنَّهُ إِن حمل على معنى الْقُدْرَة لم ينقص أصلا وَلم تبطل فَائِدَة بل أمره أظهر فِي أَنه أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَة وَلذَلِك قَالَ موساه أحد من موساك ذكر خبر آخر وتأويله روى عَطاء بن أبي رَبَاح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ العَبْد إِلَى الصَّلَاة فَإِنَّهُ بَين عَيْني الرَّحْمَن فَإِذا الْتفت قَالَ لَهُ الرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 تَعَالَى ذكره إِلَى من تلفت أإلى من هُوَ خير مني أقبل إِلَيّ فَإِنِّي خير لَك مِمَّن تلْتَفت إِلَيْهِ تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَن الْعين فِي كَلَام الْعَرَب تسْتَعْمل فِي معَان كَثِيرَة مِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الرُّؤْيَة والمشاهدة وَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الْحِفْظ والكلاءة وَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الْجَوْدَة وَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الدّلَالَة وَمِنْهَا مَا يُرَاد بِهِ الْجَارِحَة فَأَما مَا يُرَاد بِهِ الرُّؤْيَة والمشاهدة فَقَوْل الْقَائِل أَنْت على عَيْني وَاضع هَذَا الْمَتَاع على عَيْنك أَي على مرأى مِنْك ومشاهدتك وَأما مَا يُرَاد بِهِ الْحِفْظ والكلاءة فَهُوَ قَوْلهم أَنْت بِعَين الله أَي أَنْت فِي حفظه وكلاءته وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى {واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا} أَي فِي حفظنا وكلاءتنا وَأما الَّذِي يُرَاد بِهِ الدّلَالَة فَفِي قَوْله هَذَا عين الرّوم أَي دليلهم وَأما عين بِمَعْنى الْجَوْدَة فَفِي قَوْلهم هَذَا عين الْمَتَاع وَهَذَا عين القلادة أَي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 جيده وَالْمُخْتَار مِنْهُ فَأَما الْعين الَّتِي هِيَ بِمَعْنى الْجَارِحَة فَظَاهر الْمَعْنى فِي الإستعمال لأَنهم يَقُولُونَ عين الرّكْبَة والحدقة عين وَإِذا كَانَ لفظ الْعين مُشْتَركا مُبين هَذِه الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة وَكَانَ وصف الله بالجارحة مستحيلا وَجب أَن يكون مَحْمُولا على بعض هَذِه الْمعَانِي الَّتِي ذكرنَا فِي معنى الْعين وَذَلِكَ أَنه إِن حمل على أَن المُرَاد بِهِ الْحِفْظ والكلاءة كَمَا قيل فِي قَوْله {فَإنَّك بأعيننا} وَفِي قصَّة نوح {تجْرِي بأعيننا} لم يكن ذَلِك مُنْكرا وَكَانَ مَعْنَاهُ أَن الله عز وَجل موفق للْمُصَلِّي حَافظ لَهُ وَأَنه يحفظه وكلاءته حِين وَفقه للصَّلَاة وحرسه عَن الْمعْصِيَة فِي تَركهَا كَانَ بِعَيْنِه على معنى أَنه تَحت حفظه ورعايته وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك أَن مَا ذكر من الْخَبَر يدل عَلَيْهِ من قَوْله أَنا خير لَك مِمَّن تلْتَفت إِلَيْهِ لِأَن ذَلِك واعظ لَهُ من نَفسه تَنْبِيها لَهُ من ربه بزجره عَن الإغفال ويدعوه إِلَى الإقبال وَهَذِه عَلامَة الْحِفْظ والكلاءة من قبل الله عز وَجل وَإِذا قُلْنَا إِن المُرَاد بِعَين الْبَصَر وَأَنه قد يُسمى الْبَصَر عينا لأجل أَنه مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ وَيقوم بِهِ فِينَا كَانَ المُرَاد بِأَن الْمُصَلِّي بمرأى من الله ومشهد يرَاهُ وَيرى حركاته وَيسمع كَلَامه وَيشْهد قلبه وَتَكون الْفَائِدَة فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 التَّرْغِيب فِي الْحِفْظ على الصَّلَاة وَضم الْجَوَارِح للخشوع والحضور بِالْقَلْبِ وَالنِّيَّة على رُؤْيَة الْمُشَاهدَة والهيبة والإجلال لمن يُصَلِّي لَهُ ويناجيه فِي صلَاته بقرَاءَته وَذكره وتسبيحه وَإِذا قُلْنَا المُرَاد بِالْعينِ الْجَوْدَة وَالْخيَار من الشَّيْء فَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِيهِ أَن الْمُصَلِّي مِمَّن إختاره الله من بَين خلقه لعبادته وخدمته فِي أَن وَفقه للصَّلَاة لَهُ فَهُوَ عين من عيونه وَولي من أوليائه ومختار من خلقه وَقد قيل فِي تَأْوِيل قَوْله عز وَجل {واصنع الْفلك بأعيننا} كلا الْوَجْهَيْنِ بحفظنا ورعياتنا وكلاءتنا وعَلى مراى منا ومشهد وَقيل فِي قَوْله {ولتصنع على عَيْني} الْأَمر أَن جَمِيعًا أَيْضا وكل ذَلِك مُحْتَمل وَأما قَوْله {تجْرِي بأعيننا} فقد ذكر بعض أهل التَّفْسِير أَن المعني بأوليائنا وَخيَار خلقنَا لأَنهم كَانُوا هم الْمُؤمنِينَ فِي وَقت نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ بَعضهم أَرَادَ بذلك أعين المَاء الَّتِي أخرجهَا الله تَعَالَى من الأَرْض وَقَالَ بَعضهم الْمَعْنى أَنَّهَا تجْرِي بمرأى منا ومشهد من حفظنا وكلاءتنا لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 تلحقها آفَة وَلَا يعترضها نقص لأجل حفظ الله تَعَالَى لَهَا وَلمن فِيهَا وإعلم أَن اسْتِعْمَال لفظ الْعين فِي الْبَصَر توسع لما ذكرنَا أَنه تَسْمِيَة الشَّيْء بإسم مَحَله وبإسم مَا هُوَ قَائِم بِهِ وَأَن ذَلِك سَائِغ فِي اللُّغَة وَقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِيمَا ثَبت لله تَعَالَى من الْوَصْف لَهُ بِالْعينِ فَمنهمْ من قَالَ المُرَاد بِهِ الْبَصَر والرؤية وَمِنْهُم من قَالَ إِن طَرِيق إِثْبَاتهَا صفة لله تَعَالَى السّمع وسبيل القَوْل فِيهَا سَبِيل القَوْل فِي الْيَد وَالْوَجْه وَقد مضى بَيَان ذَلِك حَيْثُ ذكرنَا تَأْوِيل الْيَد وَإِذا كَانَ لفظ الْعين مُشْتَرك الْمَعْنى مُحْتَمل التَّأْوِيل وَلَا يخص أمرا وَاحِدًا هُوَ جارحة فَقَط كَمَا ذكرنَا من مَذْهَب المشبهة فقد بَان أَن الصَّحِيح فِي وصف الله أحد مَا ذَكرْنَاهُ لإحتمال اللَّفْظ وَله وَصِحَّة جَرَيَان ذَلِك فِي وَصفه تَعَالَى وإستحالة وَصفه بالجارحة وَالْبَعْض تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل روى مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى بصاقا فِي جِدَار الْقبْلَة فحكه ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يبصق قبل وَجهه فَإِن الله قبل وَجهه إِذا صلى // رَوَاهُ الْبَزَّار // وَمثله مَا هُوَ قريب من مَعْنَاهُ مَا روى ابْن الْمسيب عَن أبي ذَر رَضِي عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يزَال الله سُبْحَانَهُ مُقبلا على العَبْد مَا لم يلْتَفت فِي الصَّلَاة فَإِذا صرف وَجهه انْصَرف عَنهُ // أخرجه مُسلم // ذكر تَأْوِيله إعلم أَن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله سُبْحَانَهُ قبل وَجهه يحْتَمل وُجُوهًا أَحدهَا أَن يكون مَعْنَاهُ أَن ثَوَاب الله لهَذَا الْمُصَلِّي ينزل عَلَيْهِ من قبل وَجه هَذَا الْمُصَلِّي وَمثله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجِيء الْقُرْآن بَين يَدي صَاحبه يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أَي يَجِيء ثَوَاب قِرَاءَته الْقُرْآن وَقد رُوِيَ أَيْضا فِي خبر أَنه قَالَ من قَرَأَ ثلث الْقُرْآن أعطي ثلث النُّبُوَّة وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه أعطي ثلث علم النُّبُوَّة وَمثله أَيْضا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من عَال ثَلَاث بَنَات كن لَهُ حِجَابا من النَّار أَي كَانَ ثَوَاب ذَلِك حِجَابا لَهُ من النَّار // أخرجه أَبُو دَاوُود // وَقَالَ حوثرة قدم مَكَّة عمر بن الْخطاب فَجعل يطوف فِي السكَك وَيَقُول قموا أفنيتكم فَمر بِأبي سُفْيَان فَقَالَ لَهُ ذَلِك فَقَالَ نعم حَتَّى يَجِيء مهاننا يَعْنِي خدمنا وأحدها ماهن وَهُوَ الْخَادِم قَالَ ثمَّ مر بِهِ بعد ذَلِك فَقَالَ ألم أقل لكم قموا أفنيتكم فَقَالَ نعم حَتَّى يَجِيء مهاننا قَالَ فعلاه بِالدرةِ فَخرجت هِنْد فَقَالَت أتضربه أما وَالله لرب يَوْم لَو ضَربته لأقشعرت بك بطن مَكَّة فَقَالَ صدقت وَلَكِن الله عز وَجل رفع بِالْإِسْلَامِ أَقْوَامًا وَوضع بِهِ أَقْوَامًا فقولها اقشعرت بك بطن مَكَّة أَي اقشعرت بك أهل بطن مَكَّة وَهَذَا لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ذكرنَا من قَول أهل اللُّغَة أَنهم يَقُولُونَ جَاءَت تَمِيم والأزد ويريدون أَبْنَاءَهُم وَيَقُولُونَ جَاءَت الْيَمَامَة ويريدون أَهلهَا وَهَذِه طَريقَة للْعَرَب ظَاهِرَة فِي خطابها فَيحْتَمل على هَذَا الْوَجْه أَن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله قبل وَجهه إِذا صلى أَي ثَوَابه وكرامته وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون الْخَبَر على معنى التَّرْغِيب فِي إدمان الْخُشُوع فِي الصَّلَاة والحض عَلَيْهَا يُرِيد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَن أولى الْأَشْيَاء بالمصلي أَن يكون يشْتَغل قلبه بِذكر الله وَذكر عَظمته وعزته وَقدرته وَيكون الْمَعْنى أَن عَظمَة الله وعزته يجب أَن تكون من تِلْقَاء وَجهه على معنى أَنه يجب أَن يكون شغله بهَا وبذكرها وتجديد إحضارها الْقلب عَن غَيره وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك ضربا من آدَاب الصَّلَاة علمه الْمُصَلِّي حَتَّى يكون فِي صلَاته متحرما بحرمتها مُعظما لأمرها وللجهة الَّتِي اسْتقْبل إِلَيْهَا خَاصَّة تَعْظِيمًا لأمر الله تَعَالَى فَكَذَلِك لَا يبصق قبل تِلْكَ الْجِهَة وعَلى هَذَا يكون تَقْدِير قَوْله بِأَن الله قبل وَجهه أَي أَن أمره قد وَجه عَلَيْهِ من تَعْظِيم الْجِهَة الَّتِي توجه إِلَيْهَا فَيجب أَن لَا يعدل عَنْهَا بِشَيْء من جسده وَلَا شَيْء من قلبه فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزَال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُقبلا على عَبده مَا لم يلْتَفت فِي الصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِيهِ أَنه لَا يزَال خَيره مُقبلا عَلَيْهِ كَمَا يَقُول الْقَائِل أَن الْأَمِير أقبل على فلَان إِذا قبله وقربه وأناله خيرا وَقَوله فَإِذا صرف وَجهه إنصرف عَنهُ أَي إنصرف خَيره وثوابه بقول الْقَائِل أَن الْأَمِير صرف وَجهه عَن فلَان إِذا قطع خَيره عَنهُ وَلم يحسن إِلَيْهِ فِي المستأنف كَمَا أحسن إِلَيْهِ فِيمَا قبل وَهَذَا كَقَوْل الْقَائِل (وَكُنَّا إِذا الْجَبَّار صعر خَدّه ... أَقَمْنَا لَهُ من ميله فتقوما) أَي إِذا أمال بِأَن يقطع عطيته وَنَظره لَا أَنه يُرِيد بذلك الخد الْمَعْرُوف وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِيهِ لَا يزَال توفيق الله للْعَبد ولطفه بِهِ وأصلا إِلَيْهِ مَا لم يعرض فَإِذا أعرض فقد أعرض الله عَنهُ بِفعل الْخَيْر وإعادة اللطف عَنهُ وَهُوَ معنى قَوْله إنصرف عَنهُ وَهَذَا كَمَا قَالَ الله عز وَجل {ثمَّ انصرفوا صرف الله قُلُوبهم} وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَنه لما صرف الله قُلُوبهم عَن الْخَيْر بِقطع التَّوْفِيق واللطف إنصرفت قُلُوبهم عَن الْخَيْر وَهَذَا مَبْنِيّ على أصلنَا فِي أَنه لَا ينْصَرف أحد عَن الطَّاعَة إِلَّا بِصَرْف الله عز وَجل وَذَلِكَ بِأَن لَا يفعل لَهُ تَوْفِيقًا يصل بِهِ إِلَى فعل الْخَيْر وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} أَي لما زاغوا فِي علمي وحكمي أزغت قُلُوبهم لما أحدثتهم وخلقتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَأعلم أَن الَّذِي أوجب أَن يحمل التَّأْوِيل فِي ذَلِك على معنى مَا قُلْنَا إستحالة وصف الله تَعَالَى بالكون فِي وَجهه ومحاذاة ومقابلة لإستحالة كَونه جوهرا أَو جسما وَإِذا سوغت اللُّغَة هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي حملنَا عَلَيْهَا هَذَا الْكَلَام وَكَانَ مُفِيدا كَانَ حمله عَلَيْهِ أولى من وصف الله تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ذكر خبر مِمَّا آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل روى أَبُو ذَر رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ثَلَاثَة لَا در الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم شيخ زَان وَملك كَذَّاب وعائل متكبر // أخرجه الْأَمَام مُسلم // وروى عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الَّذِي يجر إزَاره خُيَلَاء لَا ينظر الله إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَوجه السُّؤَال فِي هَذَا الْخَبَر هُوَ أَن قيل إِذا كَانَ الله تَعَالَى لَا يَصح أَن يُوصف بِالنّظرِ فَمَا فَائِدَة قَوْله وَلَا ينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن النّظر فِي كَلَام الْعَرَب يتَصَرَّف على وُجُوه مِنْهَا نظر العيان وَمِنْهَا نظر الإنتظار وَمِنْهَا نظر الإعتبار وَمِنْهَا نظر التعطف وَالرَّحْمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فَمَعْنَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينظر الله إِلَيْهِم أَي لَا يرحمهم وَالنَّظَر من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ إِنَّمَا هُوَ رَحمته لَهُم ورأفته بهم وعبادته عَلَيْهِم وَمِنْهَا يَقُول الْقَائِل لغيره انْظُر إِلَى نظر الله إِلَيْك أَي ارْحَمْنِي رَحِمك الله وَيُقَال أَيْضا أنظر إِلَيّ بِمَعْنى تعطف عَليّ وَيُقَال فِي الدُّعَاء أَيْضا أنظر إِلَيْنَا نظرة ترحمنا بهَا وَرُوِيَ فِي خبر آخر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لله فِي خلقه كل يَوْم ثلاثمئة وَسِتِّينَ نظرة يخْفض فِيهَا وَيرْفَع ويعز ويذل وَالْمرَاد بِهَذِهِ النظرات مَا يَتَجَدَّد فِي كل حَال من تَغْيِير الشؤون وَالْأَحْوَال فَأَما وصف الله تَعَالَى بِأَنَّهُ نَاظر فَلَا يَصح بِمَعْنى الرُّؤْيَة من قبل أَن النّظر المقرون بِالْوَجْهِ إِلَى الَّذِي فِي اللُّغَة وَإِذا كَانَ بِمَعْنى الرُّؤْيَة والعيان فَلَا يُسمى الله سُبْحَانَهُ إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَسَماهُ بِهِ رَسُوله واتفقت عَلَيْهِ الْأمة وَقد ورد الْكتاب بِأَنَّهُ رائي بَصِير وَأَنه يرى ويبصر وَلم يرد بِأَنَّهُ ينظر فَلذَلِك لَا يُوصف بِالنّظرِ على معنى الرُّؤْيَة ويوصف بِالنّظرِ على معنى التعطف وَالرَّحْمَة وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل أَيْضا قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} إِلَى قَوْله (وَلَا ينظر إِلَيْهِم) أَي لَا يتعطف عَلَيْهِم وَلَا يرحمهم وَلَا يجوز أَن يُوصف رُؤْيَة الله بِأَنَّهَا نظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 كَمَا لَا يُوصف بِأَنَّهُ نَاظر على معنى أَنه رَأْي وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يُوصف بِأَن الله رُؤْيَة بعد رُؤْيَة كَمَا لَا يُوصف بِأَن لَهُ علما بعد علم فَمَا وصف بِهِ من تَكْرِير النظرات وتكثيرها فَذَلِك يرجع إِلَى معنى النّظر الَّذِي هُوَ الْعَطف وَالْفضل وَالرَّحْمَة وَذَلِكَ نوع الْفِعْل وَلَا يجوز فِيمَا طَرِيقه طَرِيق صِفَات الذَّات أَن تعدد وتكرر وتكثر سُؤال فَإِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ قد رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَعمالكُم وَلكنه ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ // أخرجه الْأَمَام مُسلم // فَمَا معنى هَذَا النّظر قيل هَذَا يحْتَمل مَعْنَاهُ أَن يكون الإحتساب والإعتداد أَي أَنه لَا يعْتد بِمَا يظْهر على ظواهركم إِذا لم تكن مُوَافقَة لبواطنكم وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل قصدت فلَانا فَمَا نظر إِلَيّ أَي لم يَقع قصدي عِنْده موقعا اعْتد بِهِ وإحتسبه وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَن الْأَعْمَال الظَّاهِرَة منوطة بِصِحَّة السرائر وَالْإِخْلَاص فِي النيات وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى // أخرجه البُخَارِيّ // يُرِيد بذلك أَن النيات هِيَ المصححة للأعمال وَأَنَّهَا مَعَ إنفرادها عَنْهَا لَا تقع مواقع الْقبُول والأجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 سُؤال آخر فَإِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ قد رُوِيَ أَيْضا فِي الْخَبَر الآخر أَن الله تَعَالَى لم ينظر إِلَى الدُّنْيَا مُنْذُ خلقهَا فَمَا معنى ذَلِك قيل قد بَينا فِيمَا قبل أَن النّظر الَّذِي هُوَ بِمَعْنى الرُّؤْيَة لَا يَقع فِيهِ الإختصاص وَأَنه تَعَالَى هُوَ الرَّائِي لكل مرئي لَا على معنى طَرِيق الإختصاص وَلَا يُوصف بِالنّظرِ على معنى الرُّؤْيَة من طَرِيق اللَّفْظ وَالْعِبَادَة لأجل أَن السّمع لم يرد بِهِ وَأما الَّذِي يُوصف بِهِ من ذَلِك على لفظ النّظر نفيا وإثباتا فَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى التعطف وَالرَّحْمَة أَو تَركهمَا أَو بِمَعْنى الْقبُول على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فِي قَوْلهم فلَان مَا ينظر إِلَى فلَان إِذا أَرَادَ أَنه لَا يعْتد بِهِ وَلم يكن لَهُ عِنْده قدر وعَلى ذَلِك يحمل معنى الْخَبَر بِأَن الله تَعَالَى لما خلق الدُّنْيَا للفناء والزوال وحث على الزّهْد فِيهَا وَترك الإشتغال بهَا قيل فِي وَصفه على هَذَا الْمَعْنى أَنه لم ينظر إِلَيْهَا أَي لم يجل قدرهَا وَلَا قدر من ركن إِلَيْهَا وَهَذَا يرجع فِي التَّحْقِيق إِلَى معنى منع لطفه المشتغلين بهَا المعرضين عَن حكم الْآخِرَة لِأَن مَا وصف من النّظر على هَذَا الْوَجْه رَاجع إِلَى معنى اللطف وَالرَّحْمَة والتوفيق وَفعل الْخَيْر واللطف بأَهْله وَيكون تَحْقِيقه أَن المشتغلين بهَا المعرضين عَن الطَّاعَة فِيهَا قد حرمُوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 اللطف والتوفيق من عِنْده مَا عِنْد حرمانه أَعرضُوا عَن الطَّاعَة وَاشْتَغلُوا بالمعصية وكل ذَلِك تَرْتِيب أَمر وَصفنَا الله تَعَالَى بِالنّظرِ فِي قَول الْقَائِل نظر إِلَيْهِ وَلم ينظر إِلَيْهِ ذكر خبر آخر وتأويله رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون فَإِن الله لَا يمل حَتَّى تملوا // أخرجه البُخَارِيّ // أعلم أَن وصف الله تَعَالَى بالجلالة على معنى السَّآمَة والإستثقال للشَّيْء على معنى نفور نَفسه عَنهُ محَال لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي تغيره وحلول الْحَوَادِث فِيهِ وَذَلِكَ غير جَائِز فِي وَصفه وَلِهَذَا الْخَبَر طَرِيقَانِ من التَّأْوِيل أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يغْضب عَلَيْكُم وَلَا يقطع عَنْكُم ثَوَابه حَتَّى تتركوا الْعَمَل وتزهدوا فِي سُؤَاله وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فَسمى الفعلان مللا تَشْبِيها بالملل وليسا بملل على الْحَقِيقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون مَعْنَاهُ أَن الله لَا يمل إِذا مللتم وَمثل هَذَا قَوْلك فِي الْكَلَام أَن هَذَا الْفرس لَا يفتر حَتَّى تفتر الْخَيل وَلَيْسَ المُرَاد بذلك أَنه يفتر إِذا فترت الْخَيل وَلَو كَانَ المُرَاد هَذَا مَا كَانَ لَهُ فضل عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يفتر مَعهَا وَأي فَضِيلَة لَهُ وَإِنَّمَا المُرَاد بِهَذَا الْمثل أَنه لَا يفتر وَإِن فتر الْخَيل وَكَذَلِكَ يَقُول الْقَائِل للرجل فِي كَلَامه الألد فِي خصومته فلَان لَا يَنْقَطِع حَتَّى يَنْقَطِع خصومه يُرِيد بذلك أَنه لَا يَنْقَطِع إِذا انْقَطع خصومه وَلَو أَرَادَ بِهِ أَن يَنْقَطِع إِذا انْقَطَعُوا لم يكن لَهُ فِي ذَلِك القَوْل فضل على غَيره وَلَا وَجب لَهُ مدحه وَقد جَاءَ مثل ذَلِك فِي كَلَامهم وَفِي الشّعْر أَيْضا كَمَا قَالَ قَائِلهمْ (صليت مني هُذَيْل بحرق ... لَا يمل الشَّرّ حَتَّى يملوا) لم يرد بِأَنَّهُم يملون الشَّرّ إِذا ملوه وَلَو أَرَادَ ذَلِك مَا كَانَ لَهُم فِيهِ مدح لأَنهم حِينَئِذٍ يكونُونَ فِيهِ مثلهم بل أَرَادَ أَنهم لَا يملون الشَّرّ وَإِن مله خصومهم فعلى هَذَا يكون الْخَبَر إِن الله عز وَجل لَا يُوصف بالملال على الْحَقِيقَة وَإِن تركُوا هم طَاعَته وَقصرُوا فِيهَا لِأَن الله عز وَجل لَا يُوصف بالملال على الْحَقِيقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ذكر خبر آخر وتأويله رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تسبوا الدَّهْر // أخرجه مُسلم // فَإِن الله هُوَ الدَّهْر أعلم أَن الله تَعَالَى لَا يجوز أَن يُوصف بِأَنَّهُ دهر وَأَنه الدَّهْر على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا هَذَا مثل وَأَصله أَن الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت تَقول أصابني الدَّهْر فِي مَالِي بِكَذَا ونالتني قوارع الده ومصائبه فيضيفون كل حَادث يحدث مِمَّا هُوَ جَار بِقَضَاء الله وَقدره وخلقه وَتَقْدِيره من مرض أَو صِحَة أَو غنى أَو فقر أَن حَيَاة أَو موت إِلَى الدَّهْر وَيَقُولُونَ لعن الله هَذَا الدَّهْر وَالزَّمَان وَكَذَا قَالَ قَائِلهمْ (أَمن الْمنون وريبها يتوجع ... والدهر لَيْسَ بمتعب من يجزع) وَقد يُسمى الدَّهْر الْمنون وَالزَّمَان أَيْضا لِأَنَّهُ جالب الْمنون عِنْدهم والمنون الْمنية وروى بَعضهم هَذَا الْبَيْت (أَمن الْمنون وريبه تتوجع ... والدهر لَيْسَ بمتعب من يجزع) كَأَنَّهُ قَالَ أَمن الدَّهْر وريبه تتوجع وَقد قَالَ الله سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 {نتربص بِهِ ريب الْمنون} أَي ريب الدَّهْر وحوادثه وَكَانَت الْعَرَب تَقول لَا أَلْقَاك آخر الْمنون أَي آخر الدَّهْر وَقد أخبر سُبْحَانَهُ عَن أهل الْجَاهِلِيَّة بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ من نِسْبَة أقدار الله وأفعاله إِلَى الدَّهْر فَقَالَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تسبوا الدَّهْر أَي إِذا أَصَابَتْكُم المصائب لَا تنسبوها إِلَيْهِ فَإِن الله هُوَ الَّذِي أَصَابَكُم بهَا لَا الدَّهْر وَإِنَّكُمْ إِذا سببتم الدَّهْر وفاعل ذَلِك لَيْسَ هُوَ الدَّهْر وَقع السب على فَاعل ذَلِك وَهُوَ الله تَعَالَى أَلا ترى أَن الرجل مِنْهُم إِذا أَصَابَته جَائِحَة من مَال أَو ولد أَو بدن سبّ فَاعل ذَلِك وتوهمه الدَّهْر فَكَانَ المسبوب هُوَ الله جلّ ذكره ومثاله فِي الْكَلَام أَن يكون رجلا يُسمى زيدا وَله عبد يُسمى بكر فَأمر بكرا أَن يقتل رجلا فَقتله فسب النَّاس بكرا فَقَالَ لَهُم قَائِل لَا تسبوا بكرا فَإِن زيدا هُوَ بكر يُرِيد أَن زيدا هُوَ الْقَائِل لِأَن الَّذِي أمره كَأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِل كَذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الدَّهْر تكون المصائب فِيهِ والنوازل وَهِي بأقدار الله تَعَالَى فيسبه النَّاس لكَون المصائب فِيهِ وَلَيْسَ للدهر صنع فَيَقُول الْقَائِل لاتسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر وَزعم بعض رَوَاهُ أهل الْعلم أَن هَذِه الحَدِيث قد اخْتَصَرَهُ بعض الروَاة وغيروا مَعْنَاهُ عَن جِهَته لِأَن فِي الحَدِيث كلَاما إِذا ذكر بِأَن تَأْوِيله وَقد روى الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر بيَدي الْأَمر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار وَأَنا الدَّهْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وَإِذا روى هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الشَّرْح بَان أَن التَّأْوِيل على مَا ذَكرْنَاهُ وَقد رُوِيَ قَوْله وَأَنا الدَّهْر على وَجْهَيْن أَحدهمَا بِفَتْح الرَّاء من الدَّهْر وَيكون مَعْنَاهُ أَنه جعل ذَلِك وقتا للْفِعْل الْمَذْكُور وَيرجع مَعْنَاهُ إِلَى أَنا الْبَاقِي أبدا المقلب للأحوال الَّتِي يتَغَيَّر بهَا الدَّهْر وَقد رُوِيَ أَيْضا بِضَم الرَّاء وَإِذا رُوِيَ على هَذَا الْوَجْه يكون مَعْنَاهُ مَا تقدم ذكره أَي أَنا المغير للدهر والمحدث للحوادث فِيهِ لَا الدَّهْر كَمَا يتوهمون وَيكون فَائِدَته تَكْذِيب من اقْتصر على الدَّهْر وَالْأَيَّام والليالي فِي حُدُوث الْحَوَادِث وتغييرها من الْمُلْحِدِينَ والزنادقة وتحقيقا لإثباته جلّ ذكره أَنه الْفَاعِل لجَمِيع الْحَوَادِث المريد لَهَا لَا مُرُور اللَّيَالِي وَالْأَيَّام وَأَن الْأَيَّام والليالي ظرف للحوادث لَا أَنَّهَا يحدث بهَا أَو مِنْهَا شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ذكر خبر آخر يَقْتَضِي التَّأْوِيل رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عقيب كَلَام ذكره مِمَّا لَا يَقْتَضِي تَأْوِيلا وَلَا يُوهم تَشْبِيها وَأَن آخر وَطْأَة وَطئهَا الله تبَارك وَتَعَالَى بوج ذكر تَأْوِيله أعلم أَن الْوَطْأَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى مماسة بجارحة أَو بِبَعْض الْأَجْسَام لَا يَصح فِي وصف الله تَعَالَى لإستحالة كَونه جسما وإستحالة الممارسة عَلَيْهِ وإستحالة تَغْيِيره بِمَا يحدث فِيهِ من الْحَوَادِث وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ مَحْمُولا مَعْنَاهُ على مَا تقدم ذكره فِي أَن ذَلِك يرجع إِلَى الْفِعْل دون أَن يكون معنى يتَعَلَّق بِالذَّاتِ مِمَّا يَقْتَضِي حُدُوث معنى فِيهَا وَمعنى الحَدِيث على هَذَا التَّأْوِيل أَن آخر مَا أوقع الله سُبْحَانَهُ بالمشركين بِالطَّائِف وَكَانَ آخر غَزْوَة غَزَاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حنين وَادي الطَّائِف وَوَج اسْم مَوضِع فِيهِ وَكَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يذهب فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث إِلَى نَحْو مَا ذَكرْنَاهُ وَيَقُول إِن ذَلِك مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف // أخرجه البُخَارِيّ // فتتابع الْقَحْط عَلَيْهِم سبع سِنِين حَتَّى أكلُوا الْقد وَالْعِظَام وَالْعرب تَقول فِي كَلَامهَا اشتدت وَطْأَة السُّلْطَان على رَعيته وَلَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يُرِيدُونَ وَطْء الْقدَم وَكَذَلِكَ يُقَال وطئهم السُّلْطَان وطأ ثقيلا وَيُقَال وَطْأَة الْمُقَيد إِذا أَرَادوا وصف الْوَطْأَة بالثقل وَكَذَلِكَ قَالَ قَائِلهمْ {ووطئتنا وطأ على حنق ... وَطْء الْمُقَيد يَابِس الْهَرم} والمقيد أثقل شَيْء وطأ لِأَنَّهُ يرسف فِي قيوده فَيَضَع رجلَيْهِ مَعًا ويروى نابت الْهَرم وَهُوَ نبت ضَعِيف فَإِذا وَطئه الْمُقَيد فتته وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْكَلَام سائغا وَفِي الْعَرَب جَائِزا وَجب أَن يحمل عَلَيْهِ معنى الْخَبَر لإستحالة وصف الله تَعَالَى بالجوارح والممارسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل روى جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ وَقد روى أَبُو الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْخَبَر أَنه قَالَ اهتز عرش الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ // أخرجه الشَّيْخَانِ // ذكر تَأْوِيله أعلم أَن بعض أهل الْعلم يذهب فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث إِلَى أَن ذَلِك اهتزاز الْعَرْش على الْحَقِيقَة وَأَن الْعَرْش تحرّك على الْحَقِيقَة لمَوْت سعد ولسنا ننكر هَذَا التَّأْوِيل لأجل أَن الْعَرْش يجوز عَلَيْهِ الْحَرَكَة وَلكنه تبطل فَائِدَته وتأوله بَعضهم على أَن الْعَرْش هَا هُنَا السرير الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سعد وَهَذَا أَيْضا يبطل فَائِدَة الْخَبَر وَإِنَّمَا أفيد بِهَذَا الْخَبَر فَضله لسعد وَلَا فَضِيلَة لَهُ فِي تحرّك سَرِيره وَالصَّحِيح من التَّأْوِيل فِي ذَلِك أَن يُقَال الإهتزاز هُوَ الإستبشار وَالسُّرُور يُقَال إِن فلَانا يستبشر للمعروف ويهتز لَهُ وَمِنْه قيل فِي الْمثل إِن فلَانا إِذا دعِي اهتز وَإِذا سُئِلَ ارتز وَالْكَلَام لأبي الْأسود الدؤَلِي وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه إِذا دعِي إِلَى الطَّعَام يَأْكُلهُ ارْتَاحَ لَهُ واستبشر وَإِذا دعِي إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 حَاجَة ارتز أَي تقبض وَلم ينْطَلق وَمِنْه قَول الشَّاعِر (وتأخذه عِنْد المكارم هزة ... كَمَا اهتز تَحت البارح الْغُصْن الرطب) فَمَعْنَى الإهتزاز فِي الحَدِيث الإستبشار وَالسُّرُور وَأما الْعَرْش فعرش الرَّحْمَن على مَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن حَملَة الْعَرْش الَّذين يحملونه ويطوفون حوله فرحوا بقدوم روح سعد عَلَيْهِم فَأَقَامَ الْعَرْش مقَام من يحملهُ وَيَطوف بِهِ من الْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} يرد أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض وكما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أحد هَذَا جبل يحبنا ونحبه يُرِيد يحبنا أَهله يَعْنِي الْأَنْصَار ونحب أَهله وَقد جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمَلَائِكَة يستبشرون بأرواح الْمُؤمنِينَ وَأَن لَك مُؤمن بَابا من السَّمَاء يصعد فِيهِ عمله وَينزل مِنْهُ رزقه وتعرج مِنْهُ روحه إِذا مَاتَ فَكَأَن حَملَة الْعَرْش من الْمَلَائِكَة يفرحون ويستبشرون بقدوم روح سعد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 معَاذ عَلَيْهِم لكرمه عَنهُ الله وَحسن عمل صَاحبه وَأعلم أَن هَذَا الْخَبَر لَيْسَ مِمَّا يرجع شَيْء مِنْهُ إِلَى صِفَات الله تَعَالَى وَلكنه مُشكل اللَّفْظ فَدخل فِي جملَة مَا ضمنا تَأْوِيله وَتَفْسِيره من مشكلات الْأَخْبَار ذكر خبر آخر وتأويله روى عقبَة بن عَامر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَو جعل الْقُرْآن فِي إهَاب ثمَّ ألقِي فِي النَّار مَا احْتَرَقَ // أخرجه أَبُو حميد // أعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي تَأْوِيل هَذَا الْخَبَر على وُجُوه فَقَالَ بَعضهم إِن من من الله عَلَيْهِ بِحِفْظ الْقُرْآن وَقَاه عَذَاب النَّار وَاحْتج لذَلِك بِحَدِيث أبي أُمَامَة أَن الله لَا يعذب قلبا وعى الْقُرْآن وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن الْأَصْمَعِي // اخرجه مُسلم // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ أَن الْقُرْآن لَو كتب فِي جلد ثمَّ طرح الْجلد فِي النَّار مَا أحرقته النَّار وَذَلِكَ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنبوته وَقَالَ قوم تَأْوِيله أَن الْقُرْآن لَو كتب فِي جلد ثمَّ طرح الْجلد فِي النَّار مَا احْتَرَقَ أَي مَا أحترق الْقُرْآن بِمَعْنى أَنه لم يبطل وَلم يندرس وَإِنَّمَا يندرس المداد ويحترق الْجلد دون الْقُرْآن وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاكيا عَن الله سُبْحَانَهُ {إِنِّي منزل عَلَيْك كتابا لَا يغسلهُ المَاء} وَلم يرد أَنه لَو كتب الْقُرْآن فِي شَيْء وَغسل بِالْمَاءِ لم يغْتَسل إِنَّمَا أَرَادَ أَن المَاء لَا يُبطلهُ وَلَا يفنيه فَكَذَلِك قَوْله مَا احْتَرَقَ أَي فِي حَقِيقَة الْأَمر لَا يبطل وَلَا يندرس وَمثل هَذَا كثير قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} وهم قد كتموا الله لما قَالُوا {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} وَإِنَّمَا أَرَادَ وَلَا يكتمون الله فِي حَقِيقَة الْأَمر لأَنهم فِيمَا كتموه لم يغب مَا كتموه عَن الله وَإِنَّمَا توهموا أَنهم كتموه وَذهب ذاهبون من أَصْحَابنَا إِلَى أَنه لَا يَصح أَن يكون مَعْنَاهُ إِن من حفظ الْقُرْآن لم يعذب بالنَّار لِأَنَّهُ قد رُوِيَ فِي الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 يكون فِيكُم قوم تحقرون صَلَاتكُمْ فِي صلَاتهم وَأَعْمَالكُمْ فِي أَعْمَالهم يقرؤون الْقُرْآن لايجاوز حناجرحم يَمْرُقُونَ من الدّين كمروق السهْم من الرَّمية // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // // أخرجه البُخَارِيّ // فَبَان أَنه أَرَادَ بقوله لَا يعذب قلبا وعى الْقُرْآن إِذا حفظ حُدُوده وَعمل بِمُوجبِه وَأعلم أَن هَذَا الْخَبَر دَلِيل على صِحَة مَا نقُول إِن الْقُرْآن مَكْتُوب فِي اللَّوْح وَالْجَلد غير حَال وَأَنه لَا يجب حُلُول الْكَلَام فِي مَحل الْكِتَابَة كَمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة وَلم يكن حَالا فِيهَا وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا احْتَرَقَ أَي إِن احْتَرَقَ الْجلد وبطلانه لَا يُؤَدِّي إِلَى بطلَان الْكَلَام لأجل أَنه لَيْسَ فِي مَحل كِتَابَته وَمثل هَذَا الحَدِيث مَا روى عبد الله بن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لاينبغي لحامل الْقُرْآن أَن يجهل مَعَ من جهل وَفِي جَوْفه كَلَام الله سُبْحَانَهُ // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَذَلِكَ أَن معنى قَوْله يحمل الْقُرْآن لمن حفظه ووعاه وفهمه وَمعنى قَوْله وَفِي جَوْفه كَلَام الله أَي حفظ كَلَام الله وَذَلِكَ أَن كَلَام الله تَعَالَى مَحْفُوظ فِي الْقُلُوب متلو بالألسنة مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف كَمَا أَن الله جلّ ذكره مَذْكُور بالألسنة معبود بالجوارح وَلَا يجوز أَن يكون فِي شَيْء من ذَلِك حَالا وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} وَالْمرَاد حب الْعجل لِأَن الْعجل لم يحل فِي قُلُوبهم وَأعلم أَنا لَا نأبى أَن كَلَام الله تَعَالَى مَحْفُوظ على الْحَقِيقَة يحفظ فِي الْقُلُوب مَكْتُوب على الْحَقِيقَة فِي الْمُصحف كِتَابَة حَالَة فِيهَا متلو بالألسنة بِتِلَاوَة فِيهَا مسموع فِي الأسماع غير حَال فِي شَيْء من هَذِه الْمَخْلُوقَات وَلَا يُجَاوز ذكر خبر آخر فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى أَبُو أُمَامَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (مَا تقرب العَبْد إِلَى الله سُبْحَانَهُ بِمثل مَا خرج مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآن) // أخرجه التِّرْمِذِيّ // قيل لَهُم إِن خُرُوج من الشَّيْء على وَجْهَيْن أَحدهمَا كخروج الْجِسْم من الْجِسْم وَذَلِكَ بمفارقة مَكَانَهُ وإستبداله مَكَانا آخر وَلَيْسَ الله تَعَالَى جسما وَلَا كَلَامه جسم لِأَنَّهُ لَو كَانَ جسما لإقتضى محلا وَاحِدًا وَذَلِكَ فَاسد وَالْوَجْه الثَّانِي من معنى الْخُرُوج كَقَوْلِك خرج لنا من كلامك خير كثير وأتانا مِنْهُ نفع مُبين إِذا أَرَادَ أَنه ظهر لَهُم مِنْهُ مَنَافِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فَأَما الْخُرُوج الَّذِي بِمَعْنى الإنتقال فَلَا يَصح على كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَلَا على شَيْء من الْكَلَام لأجل أَنه لَيْسَ بجسم وَلَا جَوْهَر وَإِنَّمَا يجوز الإنتقال على الْجَوَاهِر والأجسام فَأَما على الْوَجْه الثَّانِي فَيصح وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه مَا أنزل الله على نبيه وَأفهم عباده وَقد قَالَ قَائِلُونَ إِن الْهَاء فِي قَوْله خرج مِنْهُ يعود إِلَى العَبْد وَخُرُوجه مِنْهُ وجوده متلوا على لِسَانه مَحْفُوظًا فِي صَدره مَكْتُوبًا بِيَدِهِ وَذكر عِكْرِمَة أَنه شهد جَنَازَة مَعَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ فَجعل جلّ يَقُول عِنْد الْقَبْر يارب الْقُرْآن إغفر لَهُ فَقَالَ ابْن عَبَّاس مَه أما علمت أَن الْقُرْآن مِنْهُ فَقَالَ فَغطّى الرجل رَأسه كَأَنَّهُ قد أَتَى كَبِيرَة وَمعنى قَوْله إِن الْقُرْآن مِنْهُ أَي هُوَ صفة الله الْقَائِمَة بِذَاتِهِ وَلم يجز أَن يكون مَا كَانَ من حكمه مربوبا مُحدثا فَإِن قيل فَمَا معنى قَول عَمْرو بن دِينَار أدْركْت مَشَايِخنَا يَقُولُونَ مُنْذُ سبعين سنة إِن الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ خرج وَإِلَيْهِ يعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 قيل مَعْنَاهُ عِنْد أهل النّظر أَنه هُوَ الَّذِي تكلم بِهِ وَهُوَ الَّذِي أَمر بِهِ وَنهى بِهِ وَإِلَيْهِ يعود يَعْنِي هُوَ الَّذِي يَسْأَلك عَمَّا أَمرك ونهاك ذكر خبر آخر وَقد روى عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فضل الْقُرْآن على الْكَلَام كفضل الْخَالِق على الْمَخْلُوق وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ // أخرجه التِّرْمِذِيّ // وَأعلم أَن قَول الْقَائِل إِن الشَّيْء من الشَّيْء قد يكون على وُجُوه أَحدهَا أَن يكون جُزْءا لَهُ كَقَوْلِنَا الْيَد من الْإِنْسَان وَالْوَاحد من الْعشْرَة وَقد يكون الشَّيْء من الشَّيْء على معنى أَنه فعله وَظهر مِنْهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} يَعْنِي خلقا وتدبيرا وملكا وَقد يكون مِنْهُ على معنى أَنه صفة لَهُ وَعَلِيهِ يتَأَوَّل قَوْله إِن كَلَام الله من الله وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ معنى قَوْلنَا كَلَام الله من الله أَي مِنْهُ يسمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وبتعليمه نعلم وبتفيهمه نفهم وَذكر بعض أَصْحَابنَا أَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنه لَهُ قَالَ وَالْعرب تَقول إِن هَذَا مِنْك على معنى أَنه لَك كَمَا قَالَ الْقَائِل (فمنك الْعَطاء ومنك الثَّنَاء ... ) أَي لَك الْعَطاء ولي الثَّنَاء عَلَيْك وَأعلم أَن المشبهة قد تأولت الصَّمد على معنى أَنه مصمت لَيْسَ بأجوف وَكَيف يَصح أَن يُقَال خرج مِنْهُ كَلَامه على تَقْدِير خُرُوجه من الْأَجْسَام المجوفة فَعلمت بذلك تنَاقض قَوْلهم وَأَن معنى الْخَبَر مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ ذكر خبر آخر فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله سُبْحَانَهُ قَرَأَ طه وَيس قبل أَن يخلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام بألفي عَام فَلَمَّا سمعته الْمَلَائِكَة قَالَت طُوبَى لأمة ينزل عَلَيْهَا هَذَا // ارججه الْبَيْهَقِيّ // الْجَواب أعلم أَن معنى قَرَأَ أَي أظهر وأسمع وَأفهم كَلَامه من أَرَادَ من خلقه من الْمَلَائِكَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَالْعرب تَقول قَرَأت الشَّيْء إِذا تَبعته وَتقول مَا قَرَأت هَذِه النَّاقة من رَحمهَا سلاقط أَي مَا ظهر فِيهَا ولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فهلى هَذَا يكون الْكَلَام سائغا وقراءته إسماعه وإفهامه بعبارات يخلقها وَكِتَابَة يحدثها وَهُوَ معنى قَوْله اقْرَأ كَلَام الله وَمعنى قَوْله {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ معنى قَوْله قَرَأَ أَي تكلم بِهِ وَذَلِكَ مجَاز كَقَوْلِهِم ذقت لهَذَا الْأَمر ذواقا بِمَعْنى اختبرته وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف} أَي ابْتَلَاهُم بِهِ فَسمى ذَلِك ذواقا وَالْخَوْف لَا يذاق على الْحَقِيقَة لِأَن الذَّوْق فِي الْحَقِيقَة بالفم دون غَيره من الْجَوَارِح وَمَا قُلْنَا أَولا فأوضح فِي تَأْوِيل هَذَا الْخَبَر لِأَن كَلَام الله تَعَالَى أزلي قديم سَابق لجملة الْحَوَادِث وَإِنَّمَا أسمع وَأفهم لمن أَرَادَ من خلقه على مَا أَرَادَ فِي الْأَوْقَات والأزمنة لَا أَن عبر كَلَامه يتَعَلَّق وجوده بِمدَّة وزمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل روى أَبُو حَازِم عَن سهل بن سعد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ دون الله سَبْعُونَ الف حجاب من نور وظلمة وَمَا يسمع من نفس شَيْئا من حسن تِلْكَ الْحجب إِلَّا زهقت نَفسهَا // أخرجه الطَّبَرَانِيّ // وَرُوِيَ ايضا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ احتجب الله من خلقه بِأَرْبَع بِنَار وظلمة وَنور وظلمة // أخرجه الإِمَام أَحْمد // أعلم أَن معنى قَوْله دون الله سَبْعُونَ ألف حجاب أَي هُوَ حجاب لغيره من خلقه لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يكون محجوبا لإستحالة أَن يكون محصورا محدودا تَعَالَى الله عَن الْحَد والحصر والتشبيه والتمثيل والخلق محجوبون لَا رب الْعَالمين والحجب لَهُم وهم المحجوبون بهَا وَلَا يَصح أَن يكون دونه حجاب يَحْجُبهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ وَقد روينَا فِيمَا قبل عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه أنكر على من قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 لَا وَالَّذِي احتجب بِسبع فعلاه بِالدرةِ وَقَالَ يَا لكع إِن الله لَا يحتجب من خلقه بِشَيْء وَلَكِن يحجب خلقه عَنهُ رَوَاهُ ابْن عَاصِم عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أبي البخْترِي عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ ذَلِك وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي فِي معنى قَوْله احتجب الله عَن خلقه بِأَرْبَع أَن الله عرفنَا نَفسه بآياته ودلائله بِمَا خلق من النُّور والظلمة وَالنَّار وَأَن لَهُ آيَات لَو أظهرها لِلْخلقِ كَانَت معرفتهم بِهِ كمعرفة العيان وَذَلِكَ نَحْو مَا ذكرنَا من قَوْله {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} وَمعنى احتجب بالنَّار أَي خلقهَا فَوق تِلْكَ الدلالات الَّتِي تبهر الْعُقُول وتدل على مَعْرفَته وَأعلم أَن الْغَرَض من هَذَا أَن تعلم أَن الْحجاب يرجع إِلَى المحجوب من الْخلق وَأَن الْخَالِق لَا يَصح أَن يكون محدودا وَلَا محصورا فَإِذا علمت أَنه لم يرد بالْخبر هَذَا الْمَعْنى وَأَن الْحجاب يرجع إِلَى المحجوب من خلقه سلمت من الْغَلَط وَأمنا من دُخُول التَّشْبِيه عَلَيْك مِمَّا لَا يجوز فِي صفة الله تَعَالَى من إثْبَاته محدودا محصورا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ذكر خبر آخر وتأويله وَمَعْنَاهُ روى أنس بن مَالك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى حَيّ كريم يستحي إِذا رفع الرجل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَن يردهما صفرا خائبين // أخرجه الْأَمَام احْمَد // وروى يعلى بن أُميَّة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 {إِن الله حَيّ ستير يحب الْحيَاء والستر فَإِذا اغْتسل أحدكُم فليستتر} // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // بَيَان تأوليه) أعلم أَن وصف الله بِالْحَيَاءِ على معنى مَا يُوصف الْمَخْلُوق من الْحيَاء الَّذِي هُوَ مِنْهُ انقباض وَتغَير وَتجمع لَا يجوز لإستحالة كَونه جسما متغيرا تحله الْحَوَادِث وَأما أَن يُوصف بِالْحَيَاءِ على معنى التّرْك فَصَحِيح وَقد عبرت الْعَرَب عَن سَبَب الشَّيْء بإسمه فَلَمَّا كَانَ الْحيَاء سَببا لترك المستحيا مِنْهُ كَانَ معنى مَا قَالَ إِن الله عز وَجل ليستحي لَا يتْرك يَدي العَبْد خاليتين من خير إِذا رفعهما إِلَيْهِ فِي الدُّعَاء وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل أَيْضا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله ليستحي أَن يعذب المتورع قيل يَا رَسُول الله وَمن المتورع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قَالَ الَّذِي يُحَاسب نَفسه قبل أَن يُحَاسب // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَمعنى ذَلِك ترك تعذيبه وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل قَوْله عز وَجل {إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا} أَي لَا يتْرك والإستحياء من الله تَعَالَى التّرْك لِأَن المستحيي يتْرك للحياء أَشْيَاء كَمَا يتْرك للْإيمَان وَيَنْقَطِع بِالْحَيَاءِ عَن الْمعاصِي كَمَا يَنْقَطِع بِالْإِيمَان عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان وَقَالَ أَبُو وَائِل عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِن آخر مَا حفظ من كَلَام النُّبُوَّة إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت يُرِيد إِذا لم يستح الرجل ركب كل فَاحِشَة وقارف كل قَبِيح وَلم يحجزه عَن ذَلِك دين وَلَا حَيَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فَأَما معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله حَيّ ستير فقد فسرنا معنى الْحيَاء وَمعنى ستير أَي سَاتِر يستر على عباده كثيرا من عيوبهم وَلَا يظهرها عَلَيْهِم وستير بِمَعْنى سَاتِر كَمَا جَاءَ قدير بِمَعْنى قَادر وَعَلِيم بِمَعْنى عَالم وَإِذا حمل الْخَبَر على مَا ذكرنَا صَحَّ المُرَاد وَبَطل قَول من توهم فِيهَا التَّشْبِيه ذكر خبر آخر وَبَيَان تَأْوِيله رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا قَالَ لِبَنِيهِ إِذا أَنا مت فاحرقوني ثمَّ ذروني فِي الْبَحْر لعَلي أضلّ الله تَعَالَى فَفَعَلُوا فَجَمعه الله تَعَالَى ثمَّ قَالَ لَهُ مَا حملك على ذَلِك فَقَالَ مخافتك يَا رب وروى حميد بن عبد الرحمن عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْخَبَر لفظا مُشكلا زَائِدا وَهُوَ أَن قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن رجلا أسرف على نَفسه فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت أوصى بنيه فَقَالَ إِذا أَنا مت فأحرقوني ثمَّ ذروني فِي الرّيح فوَاللَّه لَئِن قدر عَليّ رَبِّي ليعذبني عذَابا مَا عذبه أحدا فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِك فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُول لَهُ الرب عِنْد الْبَعْث مَا حملك على مَا صنعت // اخرجه البُخَارِيّ // فَيَقُول خشيتك فَيغْفر الله عز وَجل لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ذكر تَأْوِيله أعلم أَن هَذَا الْخَبَر وَإِن لم يرجع بِشَيْء من أَلْفَاظه إِلَى مَا هُوَ صفة من صِفَات الله عز وَجل فَإِن لَفظه مُشكل وَكَانَ الْقَائِل لَهُ مُؤمنا مغْفُور لَهُ فَوَجَبَ أَن توقف على مَعْنَاهُ ليزول الْإِشْكَال فَأَما معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أضلّ الله} أَي أنسيه كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يضل رَبِّي وَلَا ينسى} وَلما ذكره من قَوْله أَن تضل إِحْدَاهمَا أَي ينسى وَفِي بعض الْوُجُوه فِي تَأْوِيل قَوْله سُبْحَانَهُ {ووجدك ضَالًّا فهدى} أَي نَاسِيا فذكرك وَالْعرب تَقول ضللت كَذَا أَو أضللته أَي نَسِيته وَإِذا كَانَ ذَلِك بِمَعْنى الضلال هَهُنَا فمراده أَن الله تَعَالَى يميتني وَلَا يَبْعَثنِي فَأَسْتَرِيح من عَذَابه وَالْعرب تَقول ضل المَاء فِي اللَّبن إِذا غَابَ فِيهِ وَلم يتَبَيَّن وَيكون تَحْقِيق معنى قَوْله لعَلي أضلّ الله اي لَعَلَّ الله لَا ينشرني وَلَا يَبْعَثنِي فَأَسْتَرِيح من عَذَابه وَهُوَ إِظْهَار الْجزع وَالْخَوْف والخشية على أبلغ مَا يكون فِي بَابه لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يعْتَقد قَائِله أَنه لَا يجوز أَن ينشر الله أحدا وَلَا شَيْئا أَو يُمكن أَن يفوتهُ شَيْء وَمثل ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عمر أَنه كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ فَإِن كنت كتبتني شقيا فأمحني وأكتبني سعيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فَذكر أهل الْعلم أَن ذَلِك إِظْهَار غَايَة الْخَوْف والخشية حَتَّى يسْأَل مَا لَا يكون أَن لَو كَانَ مِمَّا لَا يكون حَتَّى لَا يفوتهُ التضرع بِكُل وَجه فِي طلب مَا يكون وَلَا يكون إِظْهَارًا لغاية الْخَوْف والخشية لَا تطلبا لما يعلم أَنه لَا يكون وَأما معنى قَوْله لَئِن قدر على رَبِّي ليعذبني عذَابا عذبه أحدا فَلَا يَصح أَن يكون مَحْمُولا على معنى الْقُدْرَة لِأَن من توهم ذَلِك لم يكن مُؤمنا بِاللَّه عز وَجل وَلَا عَارِفًا بِهِ وَإِنَّمَا ذَلِك على معنى قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة يُونُس {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} وَذَلِكَ يرجع إِلَى معنى التَّقْدِير لَا إِلَى معنى الْقُدْرَة لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يخفى على نَبِي مَعْصُوم ذَلِك وَقَالَ الْفراء فِي تَأْوِيل قَوْله {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} أَي لن نقدر عَلَيْهِ مَا قَدرنَا كَمَا قَالَ أَبُو صَخْر الهمذاني (وَلَا عَائِد ذَاك الزَّمَان الَّذِي مضى ... تَبَارَكت مَا تقدر يَقع وَلَك الشُّكْر) أَرَادَ مَا تقدر يكون فعلى ذَلِك يحمل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حِكَايَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 لَئِن قدر عَليّ رَبِّي ليعذبني أَي كَانَ قدره وَحكم عَليّ بالعقوبة فَإِنَّهُ يعاقبني دَائِما وَهَكَذَا كَلَام خَائِف جزع وَلما قيل فِي الْخَبَر إِن الله تَعَالَى يغْفر لَهُ وَقد علم أَنه لَا يغْفر للْكَافِرِينَ وَجب أَن يحمل لَفظه على تَأْوِيل صَحِيح لَا يُنَافِي الْمعرفَة بِاللَّه وَلَا يُؤَدِّي إِلَى الْكفْر وَإِذا حمل على ذَلِك مَا ذكرنَا بِأَن الْغَرَض وَبَان وَجه الْإِشْكَال فِيهِ فَاعْلَم إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ذكر خبر آخر وَبَيَان تَأْوِيله روى أَبُو صَالح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الرَّحِم شجنة معلقَة بمنكبي الرَّحْمَن يَقُول الله سُبْحَانَهُ لَهَا من وصلك وصلته وَمن قَطعك قطعته // أخرجه البُخَارِيّ // وَذكر فِي خبر آخر أَنه قَالَ أَنا الرَّحْمَن وَهَذِه الرَّحِم شققتها من إسمي من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا قطعته ذكر التَّأْوِيل أعلم أَن الشجنة فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الشعبة من الشَّيْء والقطعة مِنْهُ وَمِنْه يُقَال شَجَرَة متشجنة أَي متفرعة كَثِيرَة الأغصان وَمِنْه مَا حكى عَنهُ أَنه قَالَ لإياس بن مُعَاوِيَة الحَدِيث ذُو شجون فَقَالَ شجونه خير مِنْهُ وَمعنى الشجون أَن ينشعب من الحَدِيث أَحَادِيث كالوادي الَّذِي تتشعب مِنْهُ المجاري وَيتَفَرَّع عَنهُ الْأَنْهَار من الْجِهَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَمعنى قَوْله تعلّقت بمنكبي الرَّحْمَن أَي اعتصمت بِاللَّه ولاذت بِهِ هَذِه كلمة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد الإستظهار والإستجارة يَقُولُونَ استظهرت بفلان واستجرت بِهِ وتعلقت بحبله وَقَالَ الشَّاعِر فِي مثل هَذَا الْمَعْنى (علقت بِحَبل من حبال مُحَمَّد ... أمنت بِهِ من طَارق الْحدثَان) (تغطيت من دهري بِظِل جنَاحه ... فعيني ترى دهري وَلَيْسَ يراني) أَي اعتصمت بِهِ وَالله جلّ ذكره يَقُول {مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها} أَي هُوَ قَادر على تصريفها كَيفَ شَاءَ والعربي يَقُول لصَاحبه إِذا أطاعه ناصيتي بِيَدِك وزمامي بِيَدِك وقيادي بِيَدِك وَلَيْسَ ثمَّ زِمَام وَلَا قياد وَلَا نَاصِيَة وَإِنَّمَا هُوَ مثل للمطيع والمطاع وَكَذَلِكَ قَوْله فتعلقت بمنكبي الرَّحْمَن أَي استجارت واعتصمت فَالله تَعَالَى لَا يُوصف وَإِنَّمَا هُوَ مثل للمطيع والمطاع وَكَذَلِكَ قَوْله فتعلقت بمنكبي الرَّحْمَن أَي استجارت واعتصمت فَالله تَعَالَى لَا يُوصف بالمنكب تَعَالَى على ذَلِك علوا كَبِيرا وَأعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا خاطبنا على لُغَة الْعَرَب فَإِذا ورد مِنْهُ الْخطاب حمل على مُقْتَضى حكم اللُّغَة فَإِذا كَانَ مُحْتملا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا لَهُ مخرج فِي اللُّغَة وَتَأْويل صَحِيح لَا يَقْتَضِي تَشْبِيها وَلَا يُؤَدِّي إِلَى محَال فِي وصف الله جلّ ذكره وَالثَّانِي يَقْتَضِي تَشْبِيها وتكييفا وتمثيلا كَانَ أولى مَا حمل عَلَيْهِ من الْوَجْهَيْنِ مَا لَا يُؤَدِّي إِلَى وصف الله جلّ ذكره بالجوارح والآلات على أَنه وَإِن حمل على مَا يتوهمه المشبهة من مَنْكِبي الْجَارِحَة لم يَصح مَعْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 من قبل ان الرَّحِم لَا يَصح عَلَيْهَا التَّعَلُّق وَإِنَّمَا هُوَ حق لِلْقَرَابَةِ من طَرِيق النّسَب فَعلم أَن ذَلِك مثل وَالْمرَاد بِهِ مَا ذكرنَا أَنه إِنَّمَا أَرَادَ تَأْكِيد أَمر الرَّحِم والحث على وَصلهَا والزجر عَن قطعهَا فَأخْبر عَن ذَلِك بأبلغ مَا يكون من التَّأْكِيد وَاعْلَم أَن مِثَال هَذَا أَيْضا من آي الْكتاب قَوْله تَعَالَى {أَن تَقول نفس يَا حسرتى على مَا فرطت فِي جنب الله} وَذَلِكَ أَنه كَلَام مَحْمُول على نوع من التَّوَسُّع فِي عَادَة الْعَرَب فِي المخاطبة بِمثلِهِ يَقْتَضِي من مَعْنَاهُ أَن المُرَاد بِهِ بأَمْره وَقد انْتَشَر فِي كَلَامهم أَنهم يَقُولُونَ كبر فلَان فِي جنب فلَان وهم يُرِيدُونَ بذلك فِي طَاعَته وخدمته والتقرب إِلَيْهِ كَذَلِك معنى هَذِه الْآيَة أَن النُّفُوس تظهر الحسرات يَوْم الْقِيَامَة على مَا وَقع من التَّفْرِيط مِنْهَا فِي طَاعَة الله وَالَّذِي يُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى ويوضحه أَن التَّفْرِيط لَا يَقع فِي جنب الصّفة وَلَا فِي جنب الْجَارِحَة وَلما قرب بِذكرِهِ التَّفْرِيط علم أَن المُرَاد بِهِ مَا قُلْنَا أَن مَعْنَاهُ التَّقْصِير فِي طَاعَة الله والتفريط فِي عِبَادَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ذكر خبر آخر وَبَيَان تَأْوِيله رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر // أخرجه البُخَارِيّ // وَقَالَ فِي خبر آخر صل رَحِمك يزدْ فِي عمرك وَقَالَ من أحب أَن ينسأ لَهُ فِي عمره فَليصل رَحمَه // أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم // فَسَأَلَ سَائل عَن هَذَا الْخَبَر وَقَالَ وَكَيف يجمع بَينه وَبَين قَوْله جلّ ذكره فِي مُحكم كِتَابه {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا} فَأخْبر أَن الْأَجَل لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر فَكيف يجوز لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 إِن صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر تَأْوِيله وَذكر الْجَواب عَن السُّؤَال أعلم أَنه لَيْسَ شَيْء من هَذِه الْأَخْبَار مُخَالفا لما فِي الْكتاب وَكَيف وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك مَا يُؤَيّد مَا فِي الْكتاب وَهُوَ كنحو مَا رُوِيَ أَن أم حَبِيبَة قَالَت اللَّهُمَّ متعني بِأبي ابي سُفْيَان وبأخي مُعَاوِيَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد سَأَلت فِي آجال مَضْرُوبَة وأرزاق مقسومة وَلَا يُؤَخر مِنْهَا شَيْء // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ حَدثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الصَّادِق المصدوق إِن الله تَعَالَى يبْعَث ملك الْأَرْحَام فَيكْتب أجل الْمَوْلُود فِي بطن أمه ورزقه وشقاوته وسعادته // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَكَذَلِكَ روى ابْن عمر وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذَا وَهَذِه أَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جَاءَت مَجِيء كتاب الله إِن لكل نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 أجلهَا لَا يتَقَدَّم أجلهَا وَلَا يتَأَخَّر فَأَما معنى الزِّيَادَة فِي الْعُمر فقد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن مَعْنَاهُ السعَة وَالزِّيَادَة فِي الرزق وَقد قيل إِن الْفقر هُوَ الْمَوْت الْأَكْبَر وَقَالَ بَعضهم إِن الله سُبْحَانَهُ أعلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُمِيت عدوه ثمَّ رَآهُ بعد ينسج الخوص فَقَالَ يَا رب وَعَدتنِي أَن تميته قَالَ قد فعلت ذَلِك فَإِنِّي أفقرته وَقَالَ الشَّاعِر (لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء) (إِنَّمَا الْمَيِّت من يعِيش فَقِيرا ... كاسفا باله قَلِيل الرخَاء) فَلَمَّا جَازَ أَن يُسمى الْفُقَرَاء موتا توسعا جَازَ أَن يُسمى الْغنى حَيَاة ويسميه ذُو مَادَّة فِي الْعُمر وَيُرِيد بذلك السعَة والرزق على طَرِيق الثَّوَاب والكرامة فِي الدُّنْيَا وَقَالَ قَائِل إِن معنى الزِّيَادَة فِي الْعُمر نفي الْآفَات عَنْهُم وَالزِّيَادَة فِي أفهامهم وعقولهم وبصائرهم وَلَيْسَ ذَلِك زِيَادَة فِي أَرْزَاقهم وَلَا فِي آجالهم لِأَن الْآجَال مُؤَجّلَة لَا زِيَادَة فِيهَا والأرزاق مقسومة لَا يُزَاد لأحد فِي رزقه وَلَا ينقص مِنْهُ شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 لِأَن الله تَعَالَى قد أخبر أَنه قسم الأرزاق بَين عباده فَقَالَ {نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات} وَقَالَ فِي الْأَجَل {لكل أمة أجل إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَلم يخبر عَن ذكره أَن غير الْأَجَل والرزق بِمَنْزِلَة الرزق وَالْأَجَل وَقد أخبر أَنه يزِيد من يَشَاء فِي فَضله وَلم يخبر أَنه يزِيد من يَشَاء فِي رزقه وَيُؤَخر من يَشَاء فِي عمره وَقَالَ قَائِلُونَ إِن الله سُبْحَانَهُ كتب أجل عَبده مائَة سنة عِنْده وَيجْعَل تركيبه وهيأته وبنيته لتعميره ثَمَانِينَ سنة فَإِذا وصل رَحمَه زَاد الله فِي ذَلِك التَّرْكِيب وَفِي تِلْكَ البنية وَوصل ذَلِك النَّقْص فَعَاشَ عشْرين سنة أُخْرَى حَتَّى يبلغ مائَة وَهُوَ الْأَجَل الَّذِي لَا مستأخر عَنهُ وَلَا مستقدم فِيهِ وَقَالَ قَائِلُونَ إِن معنى ذَلِك أَن يكون السَّابِق فِي الْمَعْلُوم أَنه إِذا وصل رَحمَه كَانَ عمره أَكثر مِنْهُ إِذا لم يصل فَيكون كُله مِمَّا سبق فِي الْعلم على الْحَد الَّذِي يحدث وَيُوجد فِي المستأنف فَإِن قيل فَمَا معنى قَوْله {وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 قيل معنى ذَلِك لَا يعمر من معمر من ابْتِدَاء الْأَمر وَلَا ينقص من عمره عَن الآخر فِي الإبتداء الْأَجَل ذَلِك فِي كتاب قد أبين صِحَّته وَأظْهر قدره لَا أَنه يكون زَائِدا ثمَّ ينقص أَو نَاقِصا ثمَّ يزِيد لِأَن يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يكون الله عز وَجل عَالما بالأشياء قبل كَونهَا على حسب مَا يكون وَلَا يجوز ذَلِك فِي وَصفه فَعلم أَنه المُرَاد بِهِ تعريفنا أَن التَّفَاوُت الْوَاقِع بَين الْأَعْمَار فِي إختلاف مددها فِي الطول وَالْقصر وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان على ذَلِك فِي كتاب مُبين على حكم وَاحِد صدر عَن علم سَابق مُحِيط فصل وَأعلم أَن الَّذين خالفوا من الْقَدَرِيَّة فَقَالُوا بِقطع الْأَجَل وَمعنى ذَلِك هُوَ أَن يكون الله عز وَجل قد جعل لبَعض الْأَحْيَاء مُدَّة الْحَيَاة خمسين سنة ثمَّ يقْتله الْقَاتِل فَيجْعَل ذَلِك سنة وَيقطع عَنهُ بُلُوغه الْمدَّة الَّتِي قدر الله تَعَالَى لَهُ من ذَلِك وَهَذَا عندنَا مُخَالفا للْكتاب وَالسّنة أَولا وَقَول يُؤَدِّي إِلَى وصف الله تَعَالَى بالقهر وَالْغَلَبَة لِأَنَّهُ إِذا أَرَادَ أَن يكون أجل زيد خمسين سنة ثمَّ يقْتله الْقَاتِل فَيجْعَل ذَلِك سنة وَيقطع عَلَيْهِ بُلُوغ مُدَّة ذَلِك وَأَرَادَ غَيره لَهُ وَأَرَادَ أَن يبلغهُ وَقطع عَلَيْهِ أَجله فقد قهره فِي مُرَاده وغلبه فِي حكمه وَذَلِكَ لَا يَلِيق بوصفه تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 سُؤال فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} قيل قد تَأَول بعض أهل الْعلم ذَلِك على وُجُوه كَثِيرَة فَمنهمْ من قَالَ مَعْنَاهُ أَن الله ينْسَخ من الْأَحْكَام مَا يَشَاء وَذَلِكَ محوه وَيثبت مِنْهَا مَا يَشَاء وَهُوَ إثْبَاته وَتَقْدِيره وَقد يُوصف جلّ ذكره بالنسخ للْحكم وبالإثبات وَلَا يَدْعُو ذَلِك إِلَى البداء وَلَا إِلَى الزِّيَادَة فِي الْعُمر على خلاف مَا ذكرنَا وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ يمحو مَا سبق من الذُّنُوب بِالتَّوْبَةِ المعقبة لَهَا وَيثبت للتَّوْبَة حكمهَا وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه يمحو بَيَاض النَّهَار وَيثبت سَواد اللَّيْل وَيثبت بَيَاض النَّهَار ويمحو سَواد اللَّيْل وَمِنْهُم من قَالَ معنى ذَلِك تعريفنا أَن الإيجاد والإعدام وَالْإِثْبَات وَالنَّفْي مُتَعَلق بمشيئته على حسب مَا سبق فِي علمه وَجرى بِهِ قلمه نفيا لِأَن يكون ذَلِك إِلَى غَيره أَو من غَيره مَسْأَلَة فَإِن قَالَ قَائِل من الْقَدَرِيَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى مخبرا عَن نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لِقَوْمِهِ {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغْفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} وَقَالَ عز وَجل فِي آيَة أُخْرَى {ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده ثمَّ أَنْتُم تمترون} قيل أما معنى قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى يَعْنِي إِن آمنُوا واتبعوه وَتَكون آجالهم وَلم يثبت الله لَهُم أَََجَلًا لم يبلغوه وَلَا قَالَ إِلَى أجل فِيكُم مُسَمّى بل لم يضف إِلَيْهِم ذَلِك الْأَجَل وينكره فَبَان أَن المُرَاد أجل من الْآجَال لَو آمنُوا واتبعوه كَانَ لَهُم أَََجَلًا وَأما قَوْله {ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده} فَهُوَ أجل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلذَلِك قَالَ {ثمَّ أَنْتُم تمترون} أَي تشكون فِي الْبَعْث وَهُوَ الْأَجَل الْمُسَمّى للثَّواب وَالْعِقَاب وَأجل الدُّنْيَا هُوَ الْمُسَمّى للفناء وللتكليف فِيهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِك شَيْء يُؤَيّد قَول الْقَدَرِيَّة الْقَائِلين بِقطع الْأَجَل وَأما قَول من قَالَ مِنْهُم بِقطع الْأَجَل وأبى جَوَاز الزِّيَادَة فِيهِ فَيُقَال لَهُ هلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 زعمت أَنه يزِيد فِي الْأَجَل الْمُؤَجل إِذا وصل رَحمَه أَو تجنب الْآفَات وتعاهد من المطعومات مَا يَسْتَعِين بِهِ على إستجلاب الزِّيَادَة فِي عمره وَصرف الآفة عَنهُ فَإِن جمعُوا بَين الْأَمريْنِ وَقَالُوا جَائِز أَن يزِيد أَحَدنَا فِي الْأَجَل الَّذِي قدره الله بِنَحْوِ مَا ذَكرْنَاهُ جَازَ أَن ينقص مِنْهُ فقد فارقوا قَوْلهم وَخَرجُوا عَن ظَاهر الْكتاب وَالسّنة والعقول لِأَنَّهُ كَمَا نفي الإستقدام فِي الْأَجَل فَكَذَلِك نفى الإستيخار وَجمع بَينهمَا فِي الحكم وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن الْمَعْنى فِي قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام مَا ذَكرْنَاهُ عقيب ذَلِك {إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر لَو كُنْتُم تعلمُونَ} يُرِيد بذلك مِمَّا هُوَ لَهُم أجل فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ذكر خبر آخر وتأويله وَمثل ذَلِك مِمَّا يجْرِي هَذَا المجرى وَالسُّؤَال فِيهِ كالسؤال فِيمَا ذكرنَا مَا رُوِيَ أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّعَاء يرد الْبلَاء وَالصَّدَََقَة تدفع الْبلَاء // أخرجه التِّرْمِذِيّ // وَمَا رُوِيَ أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْقَضَاء وَالدُّعَاء يتعالجان وَمَا وري أَنه قَالَ الصَّدَقَة تدفع الْقَضَاء المبرم وَمعنى هَذِه الْأَخْبَار كلهَا على نَحْو مَا ذكرنَا وَهُوَ أَن يكون السَّابِق فِي الْعلم مِمَّا يحدث فِي المستأنف أَنه إِذا دَعَا صرف عَنهُ الْبلَاء وَكَذَلِكَ إِذا تصدق لَا أَنه يكون الْمَعْلُوم فِي الْأَزَل وُصُول الْبلَاء إِلَيْهِ ثمَّ إِذا حصل الدُّعَاء تغير الْمَعْلُوم لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يكون ذَلِك فِي الْأَزَل مَعْلُوما وَلَا قَضَاء وَذَلِكَ محَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَقيل أَيْضا إِن المُرَاد بِهِ الْعِوَض من الدُّعَاء وَالصَّدَََقَة إِذا أتاهما دفع ذَلِك عَن الْفَاعِل بهما وزر التّرْك وعقوبة الْعِصْيَان فِيهِ وَيكون معنى التَّخْصِيص بذلك الذّكر التحريض على فعله والحث عَلَيْهِ ذكر خبر آخر وتأويله روى حَمَّاد بن سَلمَة عَن عمار بن أبي عمار عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لطم عين ملك الْمَوْت فأعوره // أخرجه البُخَارِيّ // فَقَالَ بعض أهل الْإِلْحَاد على طَرِيق الْإِنْكَار لذَلِك إِن جَازَ على ملك الْمَوْت العور جَازَ عَلَيْهِ الْعَمى قَالَ وَلَعَلَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قد لطم عينه الْأُخْرَى فاعماه لِأَنَّهُ أَشد كَرَاهِيَة للْمَوْت من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَذَلِكَ أَنه قَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت صارفا هَذِه الكأس عَن أحد فأصرفها عني بَيَان تَأْوِيله أعلم أَن أهل النَّقْل قد صححوا هَذَا الحَدِيث وَله تَأْوِيل صَحِيح لَا يُنكر وَذَلِكَ أَن الله عز وَجل قد جعل للْمَلَائكَة أَن يتصوروا بِمَا شاؤوا من الصُّور الْمُخْتَلفَة أَلا ترى أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وَمرَّة فِي صُورَة أَعْرَابِي وَمرَّة أُخْرَى وَقد سد بجناحيه مَا بَين الْأُفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وَكَذَلِكَ قَالَ الله {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا} إِن تقيا إسم رجل تصور جِبْرِيل بصورته لِمَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن قَالَ قَائِل وَكَيف سَاغَ لنَبِيّ أَن يلطم عين ملك الْمَوْت وَإِن كَانَ على صُورَة أُخْرَى قيل فقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا فِيهِ إِنَّمَا ينْتَقل فِيهِ من هَذِه الْأَمْثِلَة بخييلات وَأَن اللَّطْمَة أذهبت الْعين الَّتِي هِيَ تخييل وَلَيْسَت بِحَقِيقَة وَمِنْهُم من قَالَ إِن معنى قَوْله لطم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عين ملك الْمَوْت توسع فِي الْكَلَام وَهُوَ نَحْو مَا يحْكى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ أَنا فقأت عين الْفِتْنَة يُرِيد بذلك إِلْزَام مُوسَى ملك الْمَوْت الْحجَّة حِين رده فِي قبض روحه على حسب مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر وَأعلم أَن للْعَرَب فِي نَحْو ذَلِك إستعارات يعرف مَعَانِيهَا ومجاري خطابها فِيهَا المتوسع فِي إستقراء كَلَامهم والمتبحر فِي الْمعرفَة بلغاتهم فَإِذا كَانَت اللَّطْم مستعملة عِنْدهم على أَمريْن أَحدهمَا أَن يُرَاد بِهِ عين الْجَارِحَة وَإِدْخَال النَّقْص فِيهَا وَالثَّانِي أَن يُرَاد بِهِ عين الشَّيْء وذاته وَيُرَاد بالعور محقه ومحوه لم يُنكر أَن يكون معنى الْكَلَام مَحْمُولا عَلَيْهِ على معنى التَّوَسُّع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وَقد يَقُول الْقَائِل عورت عين هَذَا الْأَمر إِذا رده تَشْبِيها لمن أَدخل نقصا على الْعين الَّتِي هِيَ حدقة وَلَو قَالَ قَائِل إِن ذَلِك إِن كَانَ حَقِيقَة من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ إِدْخَال نقص على جارحة الْملك بِإِذن الله عز وَجل حَتَّى يكون محنة للملطوم وَعبادَة للأطم لم يكن ذَلِك مُنْكرا تَدْفَعهُ الْعُقُول لِأَن لله عز وَجل أَن يَأْمر بِمَا يَشَاء من ذَلِك وَيَأْذَن فِيمَا يَشَاء مِنْهُ على أَن مَا قُلْنَاهُ أَولا لَهُ وَجه فِي الْكَلَام يَصح فِيهِ الْمَعْنى على طَرِيق الإستعارة والتوسع فِي عَادَة خطاب الْعَرَب وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن لما توهمه الزائغ عَن الْحق معنى وَبَطل توهمه الطعْن بذلك على أَنْبيَاء الله عَلَيْهِم السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ذكر خبر آخر وتأوليه روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيمَا يحْكى عَن ربه سُبْحَانَهُ الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي فَمن نَازَعَنِي فِي وَاحِد مِنْهُمَا قَذَفته فِي النَّار // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَمن اقْترب مني شبْرًا اقْتَرَبت مِنْهُ ذِرَاعا وَمن اقْترب مني ذِرَاعا اقْترب مِنْهُ باعا وَمن ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي وَمن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُ وَأطيب وَمن جَاءَنِي يمشي جِئْته أهرول وَمن جَاءَنِي يُهَرْوِل جِئْته سعيا وَأعلم أَن معنى قَوْله الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي أَي ذَلِك صفة من صفاتي وَأَنا الْمُخْتَص بِهِ دون غَيْرِي فَمن نَازَعَنِي فِي ذَلِك بِأَن تكبر وتعظم على النَّاس أدخلته وَهَكَذَا كَمَا تَقول الْعَرَب إِن فلَانا شعاره ودثاره الزّهْد والودع أَي صفته ونعته وَلَيْسَ يُرِيد بذلك نفس الشعار وَلَا عين الدثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَأعلم أَن الْعَرَب قد تعبر مرّة بالرداء عَن الدّين وَمرَّة بالرداء عَن السَّيْف وَمرَّة بالرداء عَن الْعَطِيَّة فَيَقُولُونَ فلَان غمر الرِّدَاء إِذا كَانَ وَاسع الْعَطِيَّة وَإِن كَانَ قصير الرِّدَاء إِذا كَانَ وَاسع الْعَطِيَّة وَإِن كَانَ قصير الرِّدَاء وَكَذَلِكَ يعبرون عَن صِفَاته بالرداء فَيَقُولُونَ رِدَاء فلَان وَإِزَاره الفسوق والمروق عَن الطَّاعَة أَي نَعته وَصفته قَالَ كثير (غمر الرِّدَاء إِذا تَبَسم ضَاحِكا ... غلقت لضحكته رِقَاب المَال) وَقد يجْعَلُونَ الرِّدَاء الْحسن والنضارة إِذا كَانَ ذَلِك ونعته صفته كَمَا قَالَ الْقَائِل (وَهَذَا رِدَائي عِنْده يستعيره ... ليسلبني نَفسِي آمال بن حنظل) يَعْنِي يَا مَالك بن حَنْظَلَة وَقد قيل فِي معنى الرِّدَاء الَّذِي هُوَ الدّين مَا حكى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ من أَرَادَ الْبَقَاء وَلَا بَقَاء فليخفف الرِّدَاء وليباكر الْغَدَاء وَليقل غشيان النِّسَاء قَالَ بَعضهم أَرَادَ بِهِ الدّين أَو يسمون السَّيْف رِدَاء لِأَنَّهُ يتقلد كَمَا يرتدي بالرداء توسعا فَأَما معنى قَوْله من تقرب مني شبْرًا إقتربت مِنْهُ ذِرَاعا فَيحْتَمل أوجها أَحدهَا أَن يكون مَعْنَاهُ الْإِخْبَار بِسُرْعَة الْإِجَابَة لمن أطاعه وَدعَاهُ وتقرب إِلَيْهِ وَأَرَادَ بالإقتراب قرب الْمنزلَة والخطوة لَدَيْهِ لَا قرب الْمسَافَة والمساحة فَيكون هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الْكَلَام تَشْبِيها وتمثيلا وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بِهِ من أَتَانِي مسرعا بِالطَّاعَةِ أَتَيْته بالثواب أسْرع من إِتْيَانه وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ على معنى مَا قَالَ جلّ وَعز {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} أَي من أَطَاعَنِي طَاعَة وَاحِدَة جازيته عَلَيْهَا عشرا وَيكون ذَلِك إِخْبَارًا عَن مَا يفعلهم من تَضْعِيف الثَّوَاب وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ أَي أَزِيد إِلَى المتقرب إِلَى شكر نعمتي نعما كَمَا وعدت الشَّاكِرِينَ من الزِّيَادَة وَأما الْمَشْي والهرولة فتوسع وَهَذَا كَمَا قَالَت الْعَرَب فلَان مَوضِع فِي الضَّلَالَة والإيضاح الْإِسْرَاع فِي السّير وَلَيْسَ يُرَاد بِهِ هَهُنَا نفس السّير وَإِنَّمَا المُرَاد الْإِسْرَاع فِي الضَّلَالَة وعَلى ذَلِك معنى قَوْله سُبْحَانَهُ {وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين} وَالسَّعْي هُوَ الْعَدو والإسراع فِي الْمَشْي وَلَيْسَ يُرَاد بذلك أَنهم مَشوا بل المُرَاد بذلك استعجالهم الْمعاصِي ومبادرتهم إِلَى فعلهَا وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي فَذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 العَبْد لله تَعَالَى فِي نَفسه أَن يكون بِحَيْثُ لَا يُعلمهُ أحد غَيره وَلَا يطلع عَلَيْهِ سواهُ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} أَي تعلم مَا أخبئه وَمَا أستره وأضمره وَلَا علم لي بِمَا فِي غيبك مِمَّا أخفيته عني وَأعلم أَن النَّفس فِي كَلَام الْعَرَب على معَان مِنْهَا نفس منفوسة مركبة مجسمة ذَات روح وَتَعَالَى الله أَن يكون كَذَلِك علوا كَبِيرا وَمِنْهَا النَّفس بِمَعْنى الدَّم وَالْعرب تَقول لَهُ نفس سَائِلَة وَلَيْسَ لَهُ نفس سَائِلَة وتريد بذلك الدَّم وَمِنْه مَا يُقَال للْمَرْأَة نفسَاء إِذا سَالَ دَمهَا على النّفاس وَتَعَالَى الله عَن الْوَصْف بذلك أَيْضا وَمِنْهَا نفس بِمَعْنى إِثْبَات الذَّات وَهَذَا كَمَا قَالَ الْعَرَب هَذَا نفس الْأَمر يُرِيدُونَ بِهِ إِثْبَات الْأَمر لَا أَن لَهُ نفسا منفوسة مجسمة وعَلى هَذَا الْمَعْنى يُوصف الله تَعَالَى بِأَن لَهُ نفسا وَقد أخبر الله تَعَالَى بذلك فِي آي من كِتَابه وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَقَوله {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} وَقَوله {ويحذركم الله نَفسه} وَقد قَالَ أهل التَّأْوِيل فِي ذَلِك قَوْلَيْنِ مِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ يحذركم الله عُقُوبَته وَمِنْهُم من قَالَ يحذركم الله إِيَّاه وَزعم بعض أهل التَّأْوِيل أَن النَّفس بِمَعْنى الْغَيْب أَيْضا كَقَوْلِه تَعَالَى {تعلم مَا فِي نَفسِي} أَي فِي غيبي {وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} أَي فِي غيبك وَمِنْهُم من قَالَ إِن معنى قَوْله {وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} يرجع إِلَى نفس عِيسَى وَأَنه أضَاف نَفسه إِلَى الله من طَرِيق الْملك والخلق يُرِيد بذلك أَن نَفسِي لَك خلقا وملكا وَلَا أعلم مَا فِي ملكك مِمَّا خلقته إِلَّا مَا علمتني وَمعنى الْخَبَر على الْوَجْه الَّذِي يَصح من هَذِه التأويلات أَن من أخْلص لي فِي الطَّاعَة وأخفى علمه وخلصه من النِّفَاق والرياء أخفيت ثَوَابه وَهَذَا كَمَا ذكره فِي قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مخبرا عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // فَأَما قَوْله من ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُ وَأطيب فقد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن المُرَاد بالملأ الْمَلَائِكَة وَأَنه تَعَالَى يشهدهم على مَا يفعل بِهِ من الكرامات ويمدحه ويثني عَلَيْهِ عِنْدهم وَقد جعل قوم هَذَا الْخَبَر حجَّة فِي تَفْضِيل الْمَلَائِكَة على الْمُؤمنِينَ من بني آدم وَمن ذهب إِلَى تَفْضِيل الْأَنْبِيَاء والأولياء من الْآدَمِيّين على الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ يُجيب من ذَلِك بِأَن معنى قَوْله خير مِنْهُ يرجع إِلَى الذّكر كَأَنَّهُ قَالَ بِذكر خير من ذكره وَأطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 مِنْهُ لأجل أَن ذكر العَبْد لله دُعَاء وتضرع وَذكر الله للْعَبد إِظْهَار رَحمته وكرامته وَذَلِكَ خير للْعَبد وأنفع وَأعلم أَنه إِذا احْتمل هَذَا الْكَلَام مَا حملناه وساغ فِي مَعْنَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ وَكَانَ فِيهِ تَنْزِيه الله عَن مشابهة خلقه مَعَ إِعْطَاء الْخَبَر معنى صَحِيحا وَفَائِدَة كَثِيرَة كَانَ حمله على ذَلِك أولى من حمله على مَا لَا يَلِيق بِاللَّه جلّ ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ذكر خبر آخر وَبَيَان تَأْوِيله روى مَكْحُول عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِن يَد الله تَعَالَى مَعَ الْفسْطَاط أعلم أَن الْفسْطَاط فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الْمَدِينَة وَلذَلِك قيل لمصر فسطاط وَمعنى الْخَبَر أَن يَد الله مَعَ الْفسْطَاط أَي أَن الله تَعَالَى مَعَ السوَاد الْأَعْظَم وَمَعَ أهل الْأَمْصَار وَأَن من شَذَّ عَنْهُم وفارقهم فِي الرَّأْي فَلَيْسَ على الْحق وَأما معنى الْيَد هَهُنَا فَإِن من أَصْحَابنَا من يَقُول إِنَّه بِمَعْنى الذَّات من قَوْله {مِمَّا عملت أَيْدِينَا} أَي مِمَّا عَملنَا وَكَقَوْلِه {مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم} أَي مِمَّا ملكتم أَنْتُم وَكَقَوْلِه {الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه هُوَ الْمَالِك لعقدة النِّكَاح بِنَفسِهِ لأَنا رَأينَا من يملك وَهُوَ أقطع الْيَد فَأَما معنى قَوْله مَعَ الْفسْطَاط إِذا قُلْنَا أَن مَعْنَاهُ أَنه مَعَ الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ يرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فِي التَّحْقِيق إِلَى أَن الله سُبْحَانَهُ مَعَهم بالنصرة لَهُم وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن الْأَمِير مَعَ الْخَلِيفَة أَي بالنصرة لَا بِالذَّاتِ وَفَائِدَة هَذَا الْخَبَر التَّرْغِيب فِي لُزُوم الْجَمَاعَة ومنابذة الْفرْقَة وَفِيه دلَالَة على أَن الْجَمَاعَة من أمة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام معصومه وَأَن الله عاصمهم من الْخَطَأ وناصرهم وَمثل ذَلِك مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين بِالْحَقِّ لَا يضرهم من ناوأهم // أخرجه الشَّيْخَانِ // فَإِذا اتّفقت الْجَمَاعَة على حكم علم أَن تِلْكَ الْجَمَاعَة المعصومة الظَّاهِرَة بِالْحَقِّ فِيهَا وَمن نابذها وفارقها كَانَ كَمَا قيل فِي خبر آخر من فَارق الْجَمَاعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة // أخرجه الْحَاكِم // وَمثله قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم وَقَوله أَيْضا يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة ومعاني هَذِه الْأَخْبَار مُتَقَارِبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 سُؤال فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا حملتم الْيَد هَهُنَا على معنى الذَّات فَهَلا حملتموها أَيْضا فِي قَوْله {خلقت بيَدي} على الذَّات قيل لَا يَصح ذَلِك وَالْفرق بَينهمَا أَن الله عز ذكره دئما قَالَ لإبليس {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي أستكبرت} محتجا عَلَيْهِ مفضلا لَهُ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّخْصِيص مُبْطلًا لقَوْله أَنا خير مِنْهُ وَلَو حمل على معنى الذَّات سَقَطت هَذِه الْفَائِدَة وَبَطل مَوضِع الإحتجاج من الله تَعَالَى على إِبْلِيس وَفِيه وَلم يكن لذكره فَائِدَة لِأَن قَوْله خلقت فِيهِ إِثْبَات الذَّات وَلَا يَصح أَن يلغى من كَلَامه سُبْحَانَهُ شَيْء وَقد يُمكن أَن يكسى فَائِدَة وَقد بَينا فِيمَا مضى تَأْوِيل الْيَد على مَذْهَبنَا وَذكرنَا أقسامه وَمَا يُضَاف إِلَى الله جلّ ذكره فعلى أَي وَجه يُضَاف بِمَا يُغني عَن إِعَادَته هَهُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ذكر خبر آخر وتأويله وَمَعْنَاهُ روى الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن فلَانا هجاني وَهُوَ يعلم أَنِّي لست بشاعر فأهجه اللَّهُمَّ والعنه عدد مَا هجاني // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // بَيَان تَأْوِيله أعلم أَن معنى قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فاهجه اللَّهُمَّ والعنه يُرِيد بذلك جازه على الهجاء وَمثل هَذَا كثير فِي اللُّغَة من تَسْمِيَة الْجَزَاء بإسم الشَّيْء قَالَ الله عز وَجل {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَقَالَ {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} وَلَيْسَ الثَّانِي اعتداء وَلَا سَيِّئَة فِي الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا سمي بإسمه لما كَانَ جَزَاء وَنَظِيره أَيْضا قَوْله {يستهزئ بهم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وَقَوله {سخر الله مِنْهُم} ذكر بعض أهل التَّأْوِيل أَن معنى ذَلِك أَن يجازيهم على السخرية والإستهزاء فَسمى الْجَزَاء بإسم الْمجَازِي عَلَيْهِ كَقَوْل الْقَائِل (أَلا لَا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا) فَسُمي الْجَزَاء على الْجَهْل كَذَلِك معنى قَوْله فاهجه اللَّهُمَّ أَي جازه على هجائه عني بعقوبة تحلها بِهِ وَيحْتَمل أَن يُقَال إِن معنى فاهجه أَي ذمه لِأَن الهجاء الْكَلَام الَّذِي يقْصد بِهِ الذَّم وَقد ذمّ الله الْكَافرين على كفرهم فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّه هجاهم على معنى ذمهم كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا وأصلنا فِي ذَلِك أَنا لَا نجيز إِطْلَاق لفظ فِي وصف الله جلّ ذكره إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي وصف بِهِ نَفسه لَا نتعداه وَلَا نتقدم بَين يَدَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ذكر خبر آخر مِمَّا يَقْتَضِي التَّأْوِيل روى مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجب رَبنَا من قوم يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل تَأْوِيل ذَلِك أعلم أَنا قد بَينا معنى الْعجب الْمُضَاف إِلَى الله تَعَالَى وَقد رُوِيَ فِي إِضَافَة التَّعَجُّب إِلَى الله قد تقدم بَيَانهَا وَأَن ذَلِك يرجع إِلَى معنى الرِّضَا والتعظيم وَأَن الله عز وَجل يعظم من أخبر عَنهُ بِأَنَّهُ يعجب مِنْهُ ويرضى عَنهُ فَأَما معنى قَوْله يقادون إِلَى الْجنَّة بالسلاسل فقد قيل فِي مَعْنَاهُ إِنَّهُم يكْرهُونَ الطَّاعَة الَّتِي يصلونَ بهَا إِلَى الْجنَّة من حَيْثُ تخَالف أهواءهم وشهواتهم وتكرهها نُفُوسهم من حَيْثُ تشق عَلَيْهِم وتصدهم عَن الراحات وَاللَّذَّات فِي الْحَال وَلكنهَا سائقة لَهُم إِلَى الْجنَّة وَهِي دَار الراحات ومأوى الطَّيِّبَات أَي هَذِه النُّفُوس تطلب الراحات وَاللَّذَّات فِي الدُّنْيَا وَتكره الطَّاعَات والعبادات لما فِيهَا من المشاق وَهِي الَّتِي تسوقهم إِلَى اللَّذَّات وتقودهم إِلَى الدَّرَجَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ذكر خبر آخر وتأويله رُوِيَ عَن ابْن أبي ليلى عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله جميل يحب الْجمال // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَحكي أَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ كَانَ يجمل الثِّيَاب ويدهن بالغالية ويلبس الطيالسة الطرازية والقمص القوهية فَقَالَ لَهُ بعض جُلَسَائِهِ لَو قصرت فِي بعض هَذِه الْكسْوَة فَقَالَ إِن الله تَعَالَى جميل يحب الْجمال معنى بَيَان ذَلِك أعلم أَن وَصفنَا الشَّيْء بِأَنَّهُ جميل يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يُرَاد بِهِ جمال الصُّورَة والهيئة والتركيب وَذَلِكَ بِأَن يستجمله النَّاظر إِلَيْهِ وَذَلِكَ مُسْتَحِيل فِي وصف الله منفي عَنهُ فَإِن قَالَ قَائِل فَكيف نفيتم ذَلِك عَنهُ مَعَ مَا رُوِيَ فِي خبر آخر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قيل إِن هَذَا الْخَبَر أَيْضا يحْتَمل التَّأْوِيل ومحمول على الْوَجْه الصَّحِيح مِمَّا يحْتَملهُ مِمَّا لَا يَقْتَضِي التَّشْبِيه وَلَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَن يكون مَعْنَاهُ وَأَنا فِي أحسن صُورَة أَو يكون مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ بَعضهم وَأَنا فِي مَكَان هُوَ أحسن صُورَة أَو يكون مَعْنَاهُ وَأَنا فِي أحسن صفة عِنْد الله عز وَجل يخبرنا بِرِضَاهُ عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وتلقيه لَهُ جلّ ذكره بالكرامة والبشارة سُؤال فَإِن قيل فَإِذا لم يجز أَن يحمل على جمال الصُّورَة لإستحالة أَن يكون الله تَعَالَى جسما ذَا تركيب وهيئة فعلى مَاذَا تحملونه قيل إِن أهل اللُّغَة قد يستعملون مثل هَذَا اللَّفْظ من فعيل على معنى مفعل كوصفنا الله جلّ ذكره بِأَنَّهُ حَكِيم وَالْمرَاد بِهِ مُحكم لما فعله وَكَذَلِكَ يجوز أَن يُقَال الله تَعَالَى جميل بِمَعْنى مُجمل وإجماله الْمُضَاف إِلَيْهِ على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون يحسن الصُّور والخلق أَي أَنه يحسن خلق مَا يَشَاء وَهُوَ هيأته وَصورته كَمَا يقبح خلق من يَشَاء بتشويه صورته وهيأته الْوَجْه الثَّانِي من الأجمال الْمُضَاف إِلَى الله عز وَجل وَهُوَ بِمَعْنى الْإِحْسَان وَالْفضل أَي وَهُوَ الْمظهر النِّعْمَة وَالْفضل والمبدي من يَشَاء من خلقه برحمته وكرامته وَذَلِكَ سَائِغ عِنْد أهل اللِّسَان ومتعارف فِيمَا بَينهم أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أجمل فِي هَذَا الْأَمر إِذا وصاه بِأَن يَأْتِي فِيهِ بالجميل من الْفِعْل وَالْمذهب فِيهِ وَالله عز وَجل أعلم مَوْصُوف بِأَنَّهُ مُجمل على الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا من تَحْسِين الصُّور والإبتداء بِالْفَضْلِ وَالنعْمَة فَأَما جمال الصُّورَة والهيئة على الْوَجْه الَّذِي يستجمله الناظرون على مَا يستجملون من هيآت الْخلق فَمَا لَا يَلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَأما قَول بكر الْمُزنِيّ فراجع إِلَى مثل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ إِن الله يحب إِذا أنعم على عَبده نعْمَة أَن يرى أثر نعْمَته عَلَيْهِ // أخرجه التِّرْمِذِيّ // وَهُوَ معنى قَوْله {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} والتحديث بهَا إظهارها ونشرها فَمَا سَبيله من نعم الله أَن لَا يظْهر للناظرين فإظهاره شكر الله عَلَيْهَا وَمَا يُمكن أَن يظْهر فإظهارها نشرها وعَلى ذَلِك يحمل قَول بكر الْمُزنِيّ وَهُوَ أحد الْمَعْنيين الَّذين حملنَا عَلَيْهِ خبر الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ذكر خبر آخر وتأويله وَمَعْنَاهُ روى عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله تَعَالَى رَفِيق يحب الرِّفْق وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَالا يُعْطي على العنف // أخرجه البخارى // أعلم أَن معنى قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِن الله رَفِيق يحب الرِّفْق أَي أَنه لَيْسَ بعجول وَإِمَّا يعجل من يخَاف الْفَوْت فَأَما من كَانَت الْأَشْيَاء فِي ملكه وقبضته فَلَيْسَ يعجل فِيهَا وَقَوله يحب الرِّفْق أَي يحب ترك العجلة فِي الْأَعْمَال والأمور قَالَ الشَّاعِر (لم أر مثل الرِّفْق فِي لينه ... أخرج الْعَذْرَاء من خدرها) يُرِيد لم أر مثل ترك العجلة وَمعنى الرفيق معنى الْحَلِيم وَقد يجوز أَن يسْتَعْمل أَحدهمَا بدل الآخر وَقد قيل أَيْضا إِن معنى الرفيق بِمَعْنى الْمرْفق كَمَا يكون حَكِيم بِمَعْنى مُحكم وَجَمِيل بِمَعْنى مُجمل وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَنه الْخَالِق للرفيق يفعل برفقه بِمن يَشَاء على معنى أَنه ينفع من يُرِيد ويلطف بِمن يُرِيد وَأعلم أَن هَذَا الْخَبَر وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد فَلم يرد بِهِ بِمَا يَسْتَحِيل فِي وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الله تَعَالَى فَلم يُنكر أَن يتَأَوَّل على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا مِمَّا فِيهَا أسامي الرب أَن الله صبور وَلم يرد بِهِ نَص الْقُرْآن وَلَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَار وَمَعْنَاهُ معنى حَلِيم وَقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِي معنى وَصفه بِأَنَّهُ حَلِيم فَمنهمْ من قَالَ إِن معنى الْحلم ترك تَعْجِيل الْعقُوبَة لمن يَسْتَحِقهَا وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ نفي السَّفه عَنهُ وَأَن الله لم يزل حَلِيمًا على هَذَا الْمَعْنى وَهُوَ مَذْهَب النجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 خبر آخر وتأويله فَإِن قَالَ قَائِلُونَ فَمَا تَقولُونَ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ إِن الله يمشي فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَيقف على أدنى أهل الْجنَّة دَرَجَة فَيسلم عَلَيْهِم ويردون السَّلَام ثمَّ يرجع إِلَى مَكَانَهُ قيل إِن أهل النَّقْل قد ضعفوا هَذَا الْخَبَر فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه وَقع إِلَيْهِ كتب من يهود قُرَيْظَة فَكَانَ ينظر فِيهَا ويروي عَنْهَا وَقيل أَيْضا إِن الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ زَمعَة وَسَلَمَة بن وهرام وَكِلَاهُمَا ضعيفان وَعِكْرِمَة أَضْعَف مِنْهُمَا على أَنه كَانَ صَحِيحا فَمَعْنَاه مَحْمُول على سَائِر مَعَاني أَفعاله مثل قَوْلنَا يعدل وَيحسن ويحرك ويشكر وَيَجِيء وَيَأْتِي وَلَيْسَ ذَلِك بمعاناة ومعالجة وَلَا ذَلِك بإنتقال وحركة كَمَا يكون ذَلِك منا لِأَنَّهُ لَا يفعل فِي نَفسه فَأَما قَوْلهم فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَالله فِيهَا بِمَعْنى مقدرها ومدبرها وَأَن ذَلِك على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَهَذَا على مَذْهَب من قَالَ من الْمُعْتَزلَة والنخارية أَن الله فِي مَكَان على معنى أَنه مُدبر لكل مَكَان مُقَدّر لما فِيهِ وَنحن نأبى ذَلِك وَلَكنَّا نقُول على مَذْهَب أَصْحَابنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 إِن الله عز وَجل فِي السَّمَاء على معنى أَنه فَوْقهَا وَعَلَيْهَا كَمَا قَالَ عز وَجل {فسيحوا فِي الأَرْض} أَي فَوْقهَا وكما قَالَ {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي عَلَيْهَا وَأما معنى وُقُوفه على أهل الدَّرَجَات فِي الْجنَّة فقد قيل مَعْنَاهُ إِن الله عز وَجل وصف نَفسه بكرامته لأهل الدَّرَجَات فِي الْجنَّة دَرَجَة بعد دَرَجَة الْأَعْلَى فالأعلى فَأَما قَوْله ثمَّ يرجع إِلَى مَكَانَهُ فَلَيْسَ ذَلِك على معنى الإنتقال إِلَى مَكَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَان وَلَا يجوز عَلَيْهِ الإنتقال وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ العودة إِلَى أَفعاله قبل أَن يحدث لَهُم مَا أحدث وَذَلِكَ توسع فِي الْكَلَام كَمَا يُقَال جَاءَك الْخَيْر يعدو عدوا وَالْمرَاد سرعَة الإقبال عَلَيْك وَإِذا احْتمل اللَّفْظ مَا ذكرنَا وَكَانَ خِلَافه يُؤَدِّي إِلَى التَّشْبِيه وَإِلَى وَصفه تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيق بِهِ كَانَ أولى الْأُمُور أَن يحمل على الْوَجْه الَّذِي يَصح مَعْنَاهُ ويوافق معنى قَوْله سُبْحَانَهُ {لَيْسَ كمثله شَيْء} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا رُوِيَ أَنه قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخلت على رَبِّي فِي جنَّة عدن شَابًّا جَعدًا فِي ثَوْبَيْنِ أخضرين قيل معنى قَوْله دخلت على رَبِّي كمعنى قَول الْمُسلمين فِي الْمَوْسِم أَتَيْنَاك رَبنَا شعثا غبرا من كل فج عميق لتغفر لنا ذنوبنا وَيُقَال أَيْضا فِي الْكَلَام الْجَائِز الْجَارِي فِي الْعرف أقبل الله على فلَان بالكرامة وَأَقْبل فلَان على الله بِالطَّاعَةِ أَي دخلت جنَّة رَبِّي بتقريبه لي وبكرامته إيَّايَ فَرَأَيْت فِيهَا شَابًّا وليا من أوليائه على هَذَا الْوَصْف دون أَن يكون هَذَا الْمَذْكُور هُوَ الله عز وَجل وَقد يُقَال دخلت فِي غير مَا يكون فِي مَكَان أَيْضا وَذَلِكَ مُتَعَارَف بَين أهل اللُّغَة كَمَا يَقُولُونَ دخل فِي أَمرك الْبركَة وَأدْخل الله فِي أُمُوركُم الْبركَة أَي بَارك لَهُم فِيهَا وَيُقَال دخل فلَان على أَمْرِي ورأيي وَيُقَال أَيْضا دخل على فلَان فِي منزلي لَا أَنه دخل على بدنه وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه دخل دَاره كَذَلِك معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 دخلت على رَبِّي أَي دخلت دَار رَبِّي وَهِي الْجنَّة وَالدَّار الَّتِي أعدهَا لأوليائه وَيحْتَمل أَن يكون معنى وَأَنا فِي الْجنَّة شَاب جعد وَإِن ذَلِك كَانَ رُؤْيا فِي مَنَام وَالشَّيْء قد يرى فِي الْمَنَام على خلاف مَا يكون بِهِ فَإِذا احْتمل هَذَا الْكَلَام مَا ذكرنَا كَانَ حمله عَلَيْهِ أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ يَقُول دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم الْقِيَامَة رب ذَنبي فَيَقُول أدنه أدنه فيدنو حَتَّى يمسهُ قَالَ فمس سُفْيَان ركبته يُشِير إِلَى أَنه مس ركبته قيل إِن مُجَاهدًا مَأْخُوذ من قَوْله ومتروك وَلكنه إِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يُقَال مَعْنَاهُ أَنه أدنه بمسألتك إيَّايَ وتقرب إِلَيّ بذلك وبالخضوع لي حِين يمسهُ عَفْو الله وصفحه وَرَحمته وَقيل أَيْضا يحْتَمل أَن يكون ذَلِك على الْمثل أَنه يدنو بالتضرع والخشوع إِلَيْهِ حَتَّى يصير كَهَيئَةِ المماس فِي الْمثل على الْوَجْه الَّذِي لَا يكون بَينه وَبَين مَا يماسه حَائِل على أَن مُجَاهدًا لَيْسَ بِحجَّة فِي مثل هَذَا وَقد قيل أَيْضا أَنه لم يذكر فِي الْخَبَر ركبة وَيحْتَمل أَن يكون ركبته بعض خلقه أمره بالدنو مِنْهُ أَمر تعبد ليخضع لله جلّ ذكره بذلك حَتَّى يَنَالهُ عَفوه وَرَحمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ أَيْضا فِيمَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} إِنَّه يقعده مَعَه على الْعَرْش قيل هَذَا أَيْضا غير مَأْخُوذ بِهِ من قَوْله وتأويله مَعَ أَنه يحْتَمل أَن يُقَال إِنَّه مَعَه بِمَعْنى النُّصْرَة والمعونة كَمَا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 {لَا تحزن إِن الله مَعنا} وكما قَالَ {أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} على معنى النُّصْرَة والمعونة وَذَلِكَ أَن مَعَ فِي الْكَلَام يحْتَمل وُجُوهًا أَحدهَا بِمَعْنى الصُّحْبَة فِي الْبقْعَة والمجاورة لمن فِيهَا وَذَلِكَ لَا يَلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَيكون أَيْضا بِمَعْنى الْعلم كَمَا قَالَ {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه عَالم بكم سامع لكلامكم رَاء لأعمالكم وأشخاصكم وَذَلِكَ جَائِز فِي وَصفه ويشمل الْكَافِر وَالْمُؤمن فَأَما إِذا قيل إِنَّه مَعَ الْمُؤمن تَخْصِيصًا بِمَعْنى النُّصْرَة والمعونة فَيكون معنى الْخَبَر أَن الله تَعَالَى يكرم نبيه مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأبلغ الكرامات حَتَّى يقعده فِي أرفع المقاعد عِنْده وَهُوَ مَعَه بالنصرة والمعونة والمقاعد المقربة من الله تَعَالَى مقامات الطَّاعَات ودرجات الكرامات دون مَا هُوَ من طَرِيق الصُّحْبَة فِي الْمَكَان والمجاورة لمن فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى الشّعبِيّ إِن الله مَلأ الْعَرْش حَتَّى أَن لَهُ أطيطا كأطيط الرحل الْجَدِيد قَائِلا هَكَذَا وَوضع إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى قَالَ وَوضع حَمَّاد سَاقه على ركبته الْيُسْرَى قيل معنى قَوْله مَلأ الْعَرْش يحْتَمل أَن يكون المُرَاد ملأَهُ عَظمَة ورفعة وَعزة وآلاء وَهَذَا كَمَا قَالَ عز وَجل {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها} وَالْأَمَانَة لَيست بجسم فَأَما معنى قَوْله هَكَذَا فَيحْتَمل أَن يُقَال أَرَادَ بِهِ التجبر وَالْعَظَمَة الَّتِي لَا يجوز لغيره وَأما معنى وضع حَمَّاد سَاقه على ركبته الْيُسْرَى فَلَيْسَ على معنى إِثْبَات الْجَارِحَة وَالْإِشَارَة إِلَى مَعْنَاهَا بل إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنه هُوَ الْمُنْفَرد بِمثل هَذِه العظمة وَأَنه العالي المستوى على كل مَا خلقه وَأعلم أَنه سَائِغ فِي الْكَلَام أَن يُقَال مَلَأت قَلْبك فَرحا وغما وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ امتلاء من طَرِيق شغل الْمَكَان من جِهَة المساحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَيُقَال مَلأ فلَان هَذَا الْبَلَد علما وَالْمرَاد بِهِ مَا نشر فِيهِ من الْكتب الَّتِي الْعلم فِيهَا مَكْتُوب وَمَا روى وَذكر فِيهِ وَلَا يكون المُرَاد بِهِ على نَحْو ملْء الْأَوَانِي بالأجسام الَّتِي فِيهَا وَلما احْتمل الْكَلَام هذَيْن الْمَعْنيين وَلم يجز أَحدهمَا على الله تَعَالَى صَحَّ أَن المُرَاد بِهِ مَا قُلْنَا ذكر خبر آخر وتأويله وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الْعَرْش يثقل على كواهل حَملته من ثقل الرَّحْمَن حَتَّى يعرفوا غَضَبه بثقله على كواهلهم // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // فِي خبر هَذَا مَعْنَاهُ قيل أما معنى قَوْله من ثقل الرَّحْمَن فَلَيْسَ ذَلِك ثقلا كثقل الْأَجْسَام والأشباح وَإِنَّمَا هُوَ ثقل عَظمته كَقَوْل الْقَائِل ثقل عَليّ كلامك وَلَيْسَ ثقل كثقل الْأَجْسَام وَقد يُقَال الْحق ثقيل مر وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ ثقلا كثقل الْأَجْسَام إِنَّمَا المُرَاد بِهِ مَا فِي تحمله من الصعوبة وَالْمَشَقَّة على النَّفس وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} فثقل الرَّحْمَن على الْمَلَائِكَة ثقل هيبته فِي قُلُوبهم وَمَا يَتَجَدَّد لَهُم فِي بعض الْأَحْوَال من ذكر عَظمته وعزته فَأَما مَا يعْرفُونَ بِهِ غضب الرَّحْمَن جلّ ذكره فَيحْتَمل أَن يخلق فِي الْعَرْش ثقلا على كواهلهم وَيجْعَل ذَلِك أَمارَة لَهُم فِي بعض الْأَحْوَال من ذكر إِنْزَال الْعقُوبَة بِقدر فَكلما وجدوا ذَلِك إزدادوا تَعْظِيمًا وذكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لإستحالة وصف الله تَعَالَى بالمماسة والأعتماد على الْأَجْسَام وَأَن يكون جسما لَهُ ثقل وَإِذا احْتمل الْكَلَام مَا ذَكرْنَاهُ وَكَانَ سائغا فِي اللُّغَة وَجب أَن يحمل تَأْوِيله عَلَيْهِ دون أَن يحمل على مَا لَا يَلِيق بِاللَّه ذكر خبر آخر وتأويله وَمَعْنَاهُ فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا رُوِيَ أَن جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَبْطَأَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنِّي وجدت رَبِّي يُصَلِّي وَفِيمَا رُوِيَ أَن بني إِسْرَائِيل سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالُوا أيصلي رَبنَا فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَن يبلغهم أَنِّي أُصَلِّي كَيْمَا تغلب رَحْمَتي غَضَبي وَلَوْلَا ذَلِك هَلَكُوا وَفِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسرِي بِهِ إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة أَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ ويداك يَا أَحْمد فَإِن رَبك يُصَلِّي فَقلت وَإِن رَبِّي يُصَلِّي قَالَ نعم قلت وَأي شَيْء يَقُول فَقَالَ يَقُول سبوح قدوس سبقت رَحْمَتي غَضَبي بَيَان تَأْوِيله أعلم أَن الصَّلَاة على وُجُوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَإِذا أضيفت إِلَى الله تَعَالَى فمعناها الْمَدْح وَالثنَاء وَالرَّحْمَة وَالْبركَة وَإِذا أضيفت إِلَى الْمَلَائِكَة فمعناها الإستغفار وَطلب الشفاعات وَإِذا أضيفت إِلَى الْمُؤمنِينَ من الْآدَمِيّين فَالْمُرَاد الدُّعَاء قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} فَصَلَاة الله عز وَجل إِظْهَاره رَحمته ومدحه وثناؤه وَصَلَاة الْمَلَائِكَة إستغفارهم وسؤالهم الْفضل والدرجة لمن يصلونَ عَلَيْهِ وَصَلَاة الْمُؤمنِينَ دعاؤهم رَبهم بإنزال البركات وَالرَّحْمَة على من يصلونَ عَلَيْهِ وَمعنى قَوْله تَعَالَى أبلغهم أَنِّي أُصَلِّي أَي أَنِّي أرْحم وأغفر وأستر وَمعنى قَوْله كَيْمَا تغلب رَحْمَتي غَضَبي أَي حَتَّى يسْبق الْكَائِن من رَحْمَتي وغضبي وَرَحمته فِي الْحَقِيقَة عندنَا إِرَادَته أَن ينعم على من أَرَادَ تنعيمه وغضبه إِرَادَة تَعْذِيب من علم تعذيبه وعقوبته على الدَّوَام ثمَّ سمي الْكَائِن عَن الرَّحْمَة رَحْمَة والكائن عَن الْغَضَب غَضبا كَمَا سمي الْمَعْلُوم علما والمقدور قدرَة والموهوب هبة وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك حملنَا معنى قَوْله سبقت رَحْمَتي غَضَبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وكيما تغلب رَحْمَتي غَضَبي على الْكَائِن من رَحمته وغضبه وَالْمرَاد بِهِ إِظْهَار بركته وكرامته لأهل الْبركَة وَالرَّحْمَة كَمَا ظهر تعذيبه وعقابه لأهل الْعقُوبَة وَأعلم أَن معنى الصَّلَاة فِي اللُّغَة بِمَعْنى الدُّعَاء كَثِيرَة وَبِمَعْنى المكاء والتصدية كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} والمكاء الصفير والتصدية التصفيق وَيُقَال للصَّلَاة الشَّرْعِيَّة صَلَاة وَهِي الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح وَالرُّكُوع وَالسُّجُود ويعبر عَن جملَة هَذِه الْأَفْعَال أَنَّهَا صَلَاة من طَرِيق الشَّرْع لَا من طَرِيق اللُّغَة وَلَا يجوز أَن يُوصف الله تَعَالَى بِهَذَا النَّوْع من الصَّلَاة الَّتِي تَتَضَمَّن هَذِه الحركات والهيئات لإستحالة كَونه جسما محدودا يَتَحَرَّك ويسكن وَجَائِز وَصفه بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ الثَّنَاء وَالدُّعَاء وَالرَّحْمَة وَمَا وصف بِهِ من ذَلِك فعلى هَذَا الْمَعْنى لَا على غَيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ذكر خبر آخر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي حَدِيثه أَنه يتجلى لِلْخلقِ فيلقاهم فَيَقُول من تَعْبدُونَ فَيَقُولُونَ رَبنَا فَيَقُول هَل تعرفُون ربكُم فَيَقُولُونَ سُبْحَانَهُ إِذا اعْترف لنا عَرفْنَاهُ وَفِي بعض الْأَلْفَاظ إِذا عرفنَا بِنَفسِهِ عرفنَا قَالَ فَعِنْدَ ذَلِك يكْشف عَن سَاق وَلَا يبْقى مُؤمن إِلَّا خر لله سَاجِدا قيل أما رُؤْيَة الله تَعَالَى فجائزة نظرا وواجبة للْمُؤْمِنين خَبرا وَقد تقدم بَيَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ذَلِك فَأَما قَوْله فَيكْشف عَن سَاق فَلم يضف ذَلِك إِلَى أحد وَمَعْنَاهُ عَن شده لِأَن ثمل هَذَا الْكَلَام مُسْتَعْمل فِي اللُّغَة على معنى شدَّة الْأَمر كَمَا قَالَ الشَّاعِر (وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق ... ) قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله عز وَجل {يَوْم يكْشف عَن سَاق} أَي شدَّة الْأَمر وَقَالَ الْحسن فِي قَوْله {والتفت السَّاق بالساق} أَي الْتفت سَاق الدُّنْيَا بساق الْآخِرَة وَقَالَ الضَّحَّاك مَعْنَاهُ أَمر الدُّنْيَا من الْآخِرَة وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ مَعْنَاهُ أَعمال الدُّنْيَا بمحاسبة الْآخِرَة وَذَلِكَ أَمر عَظِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ رَأَيْت رَبِّي جَعدًا قططا قيل هَذَا حَدِيث ضَعِيف عِنْد أهل النَّقْل وَإِن صَحَّ مَعْنَاهُ يرجع إِلَى الرَّائِي وَيكون ذَلِك رُؤْيا نوم والرائي قد يرى نَفسه فِي النّوم على خلاف مَا هُوَ بِهِ لِأَن هَذِه الصِّفَات لَا تلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَلم يرد بِهِ كتاب وَلَا سنة متواترة وَلَا أَجمعت الْأمة عَلَيْهِ فَيكون ذَلِك من طَرِيق الإسم لَا من طَرِيق الْمَعْنى لِأَن مَعْنَاهُ مُسْتَحِيل فِي وَصفه لإستحالة كَونه جسما محدودا متجزئا وَقد مضى بَيَان تَأْوِيل ذَلِك فِي أول كتَابنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى حَمَّاد عَن أبي المهزم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ إِن الله عز وَجل خلق نَفسه من عرق الْخَيل قيل هَذَا حَدِيث مُنكر عِنْد أهل النَّقْل وَأَبُو المهزم مَجْهُول وَقَالَ فِي حَمَّاد عبد الرحمن بن مهْدي إِنَّه لم يكن يعرف هَذِه الْأَحَادِيث حَتَّى خرج خرجه إِلَى عبادان فَلَا أَحسب إِلَّا شَيْطَانا دسه فِي كتبه وَكَانَ حَمَّاد ذَا غَفلَة وَكَانَ لَا يحفظ وَابْن أبي العوجاء ربيبه وَكَانَ زنديقا وَكَانَ يتهم بِأَنَّهُ درس فِي كتبه وَقيل إِن بعض الزَّنَادِقَة أَخذ فِي زمَان الْمَأْمُون فَقيل لَهُ تب فَقَالَ كَيفَ أَتُوب وَقد وضعت كَذَا وَكَذَا فِي كتاب حَمَّاد حَدِيثا وَسمعت النَّاس يتحدثون بهَا وَلَقَد جهدنا أَن نزيد فِي كتاب الله حرفا فَلم نقدر عَلَيْهِ على أَنه لَو كَانَ صَحِيحا كَانَ يُمكن أَن يتَأَوَّل على أَنهم سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا مِم رَبنَا الَّذِي كُنَّا نعبده فِي الْجَاهِلِيَّة من دون الله يُرِيدُونَ من الشَّيَاطِين الَّذين دعتهم إِلَى مَعْصِيّة الله وَأعلم أَن هَذَا الحَدِيث وَنَحْوه من الْأَخْبَار المتناقضة الَّتِي لَا يجوز الإشتغال بهَا وبتأويلها لظُهُور فَسَادهَا ووضوح الْخلَل فِي أمرهَا وَإِجْمَاع أهل النَّقْل فِي أَنَّهَا مَوْضُوعَة لَا أصل لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ذكر خبر آخر و تأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن بني إِسْرَائِيل سَأَلُوا مُوسَى بِمَا شبهت كَلَام الله تَعَالَى فَقَالَ بأشد مَا يكون من الصَّوَاعِق وَلَيْسَ بذلك وكما رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَاء صلصلة كجر السلسلة على الصفوان فَيَقُولُونَ مَاذَا قَالَ رَبنَا فَيُقَال الْحق الْحق فَيَقُول الْمَلَائِكَة الْحق الْحق ثمَّ قَرَأَ قَوْله {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} تَأْوِيله أعلم أَن كَلَام الله تَعَالَى لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت عندنَا وَإِنَّمَا الْعبارَات عَنهُ تَارَة تكون بالصوت والعبارات هِيَ الدَّالَّة عَلَيْهِ وأمارات لَهُ تظهر لِلْخلقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ويسمعون عَنْهَا كَلَام الله فيفهمون المُرَاد فَيكون مَا سمع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من الْأَصْوَات مِمَّا سمع يُسمى كَلَام الله عز وَجل وَيكون ذَلِك فِي نَفسه غير الْكَلَام وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ أَن يُسمى الْعبارَة كَلَام الله كَمَا يُسمى الدّلَالَة على الشَّيْء بإسمه وكما يُسمى الْوَاقِع عَن الْقُدْرَة قدرَة والكائن عَن الرَّحْمَة رَحْمَة فَيكون معنى قَوْله بِمَا شبهت كَلَام الله أَي بِمَا شبهت الْعبارَة عَنهُ وَالدّلَالَة عَلَيْهِ مِمَّا سَمِعت عِنْدهَا وسماعها كَلَام الله عز وَجل لإستحالة أَن يكون لكَلَام الله عز وَجل شَبيه وَيحْتَمل قَوْله بأشد من الصَّوَاعِق أَن يكون أَرَادَ بِهِ مَا وجد عِنْد سَمَاعه من التَّعْظِيم والإجلال والهيبة كَمَا يستعظم الصَّوَاعِق والكائن عَنْهَا وَإِذا أَقَامَت الدّلَالَة على أَنه لَا يجوز أَن يكون كَلَام الله عز وَجل مخلوقا وَلَا أَن يكون أصواتا تتجدد شَيْئا فَشَيْئًا وَجب أَن يحمل التَّأْوِيل فِيهِ على مَا قُلْنَا ولسنا ننكر أَن يكون كَلَام الله تَعَالَى عِبَارَات هِيَ أصوات مِنْهَا أصوات مُخْتَلفَة وَمِنْهَا مَا يكون عَلَامَات لَهُ عِنْدهَا الْعلم والسمع لكَلَامه وَقد تكون الدّلَالَة فِي كتاب الله أَيْضا بِالْكتاب وَيكون الْكِتَابَة غير الْمَكْتُوب كَمَا تكون الْعبارَة غير الْمعبر فعلى ذَلِك حمل تَأْوِيل الْخَبَر وَمَا ضاهاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فيمَ رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا سجد أحدكُم فَإِنَّمَا يسْجد على قدم الرَّحْمَن قيل قد بَينا فِيمَا قبل معنى الْقدَم الْمَرْوِيّ فِي غير هَذَا الْخَبَر مِمَّا أضيف إِلَى الله عز وَجل وَالْعجب للفرقة المشبهة رَبهَا بالخلق فِي إحتجاجها بذلك إِذْ من قَوْلهَا إِن الله تَعَالَى على صُورَة آدم وَأَن لَهُ حدا وَغَايَة وَأَنه فِي السَّمَاء وعَلى الْعَرْش مستو إستواء إستقرار ثمَّ تحتج بِأَن ابْن آدم يسْجد على قدم الرَّحْمَن وَقد حكمت على زعمها بِكفْر من يَقُول إِن الله تَعَالَى فِي الأَرْض وَهَذِه مقَالَة تنقض بَعْضهَا بَعْضهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَمعنى الْخَبَر إِن صَحَّ أَن العَبْد يتَوَضَّأ للصَّلَاة فَيكْتب بذلك الْأجر ويحط الله عَنهُ الْوزر ثمَّ يدْخل العَبْد فِي الصَّلَاة بِالتَّكْبِيرِ وَبِمَا سنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يَقُوله الْمُصَلِّي بعد تَكْبِيرَة الإفتتاح للصَّلَاة ثمَّ يقْرَأ ويركع وَيرْفَع رَأسه فَإِذا سجد كَانَ سُجُوده آخر كل رَكْعَة على قدمه للرحمن فَكَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد ابْن آدم على قدم الرَّحْمَن يَعْنِي على مَا قدم الرَّحْمَن لَهُ ألم تسمع قَوْله عز وَجل {أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} فَهَذِهِ الْقدَم الصدْق هِيَ مَا قدمه الْعباد من خير مهدوا بِهِ لأَنْفُسِهِمْ وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ أَن الْمُصَلِّي يسْجد على قدم الرَّحْمَن أَي يُطِيع ربه على مَا قدم الله جلّ ذكره لَهُ من الحكم بِأَنَّهُ يُصَلِّي وَمِمَّا سبق لَهُ من الْوَعْد بالجميل عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الله عز وَجل {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَإِذا احْتمل الْكَلَام مَا ذكرنَا وإستحال وصف الله تَعَالَى بالجوارح وَجب أَن يحمل على مَا قُلْنَا دون مَا توهمه المشبهة لإستحالته رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن أقرب أهل الْجنَّة منزلَة من الله عز وَجل من ينظر فِي وَجه الله تَعَالَى كل يَوْم مرَّتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَرُوِيَ أَيْضا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَسأَلك لَذَّة النّظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم // أخرجه البيهي // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ذكر خبر آخر وتأويله أعلم أَن إِطْلَاق وصف الله عز وَجل بِأَن لَهُ وَجها قد ورد بِهِ نَص الْكتاب وَالسّنة وَذَلِكَ من الصِّفَات الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى إِثْبَاتهَا إِلَّا من جِهَة النَّقْل وَلَو لم يرد بذلك خبر لم يجز إِطْلَاقه إِذْ لَا دلَالَة من جِهَة الْعُقُول تَقْتَضِي ذَلِك فتوجبه وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة فِي تَأْوِيل ذَلِك إِلَى أَن مَعْنَاهُ أَنه هُوَ وَأَن وَجه الشَّيْء قد يكون نَفسه وتأولوا قَوْله سُبْحَانَهُ {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} أَي فثم الله وَأَن وَجه الله هُوَ الله وشبهوا ذَلِك بقَوْلهمْ وَجه الْحَائِط وَوجه الثَّوْب وَوجه الْأَمر وَهَذَا عندنَا خطأ لِأَن القَوْل بِهِ يُؤَدِّي إِلَى جَوَاز القَوْل بِأَن الله عز وَجل وَجه وَأَن يجوز بِأَن يدعى بِهِ فَيُقَال يَا وَجه اغْفِر لنا وَقد أَجمعت الْأمة على الْمَنْع من ذَلِك وَذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَن الله عز وَجل ذُو وَجه وَأَن الْوَجْه صفة من صِفَاته الْقَائِمَة بِذَاتِهِ وَذَهَبت المشبهة إِلَى وَجه الْجَارِحَة والآلة وَقد بَينا فِي أول هَذَا الْكتاب أَنه لَا يَصح وصف الله تَعَالَى بالجوارح والآلات وَإِن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى نقص توحيده وَإِلَى القَوْل بِأَنَّهُ أَجزَاء مبعضة وأجسام مركبة وَذَلِكَ محَال فِي وَصفه فَأَما الَّذِي يجب أَن يكْشف عَنهُ من تَأْوِيل هَذَا الْخَبَر على أصلنَا إِذا وَجه السُّؤَال إِلَيْهِ فَقيل كَيفَ خص النّظر إِلَى وَجهه وعلق بِذكر الْوَجْه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَكَيف قَالَ لَذَّة النّظر إِلَى وَجهه وَهل الْوَجْه الَّذِي هُوَ صفة مرئي وَإِذا كَانَ مرئيا وَلم يكن هُوَ الذَّات فَمَا الْفَائِدَة بتخصيص النّظر إِلَيْهِ وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَنه قد يذكر صفة الشَّيْء وَالْمرَاد بِهِ الْمَوْصُوف توسعا كَمَا يَقُول الْقَائِل رَأَيْت علم فلَان الْيَوْم وَنظرت إِلَى علمه وَإِنَّمَا يُرِيد بذلك رَأَيْت الْعَالم بِهِ وَنظرت إِلَى الْعَالم كَذَلِك إِذا ذكر الْوَجْه هَا هُنَا فَالْمُرَاد بِهِ من لَهُ الْوَجْه وعَلى هَذَا يتَأَوَّل قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} إِن المُرَاد بِهِ الله الَّذِي لَهُ الْوَجْه وَكَذَلِكَ قَوْله {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} فَإِن المُرَاد بِهِ ابْتِغَاء ربه الْأَعْلَى الَّذِي لَهُ الْوَجْه فَأَما مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة من تَشْبِيه ذَلِك بِوَجْه الثَّوْب وَوجه الْحَائِط فغلط من التَّمْثِيل من قبل أَن وَجه الثَّوْب والحائط لَيْسَ هُوَ نفس الثَّوْب والحائط بل هُوَ مَا واجه بِهِ وَأَقْبل بِهِ وَكَذَلِكَ وَجه الْأَمر مَا ظهر مِنْهُ فِيهِ الرَّأْي الصَّحِيح دون مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 لم يظْهر وَإِذا لم يجز فِي اللُّغَة إستعمال معنى الْوَجْه على معنى الذَّات على الْحَقِيقَة فِي مَوضِع وَقد ورد إِطْلَاق الْكتاب وَالسّنة بذلك لم يكن لما ذهبت إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة وَجه وَوَجَب أَن يحمل الْأَمر فِيهِ على مَا قُلْنَا أَنه وَجه صفته وَلَا يُقَال هُوَ الذَّات وَلَا غَيرهَا سُؤال فَإِن قَالَ قَائِل فَإِنَّهُ لَا يعقل وَجه الْجَارِحَة أَو بعض أَو نفس الشَّيْء قيل فِي هَذَا جوابان أَحدهمَا أَنه إِثْبَات وَجه بِخِلَاف مَعْقُول الشَّاهِد كَمَا أَن إِثْبَات من أضيف إِلَيْهِ الْوَجْه إِثْبَات مَوْجُود بِخِلَاف مَعْقُول الشَّاهِد وَالثَّانِي أَن الْوَجْه على الْحَقِيقَة لَا يكون نفس الشَّيْء لما بَينا أَن ذَلِك لَا يُوجد فِي اللُّغَة حَقِيقَة أَيْضا وَأما إِطْلَاق الْبَعْض على الْوَجْه الَّذِي هُوَ جارحة فتوسع عندنَا وَإِن كَانَ حَقِيقَة أَيْضا فَلم يكن وَجها لِأَنَّهُ بعض فَيجب أَن لَا يكون وَجه إِلَّا بعض وَإِذا لم يكن الْوَجْه وَجها لِأَنَّهُ بعض وَلَا لِأَنَّهُ جارحة وَلم يُنكر إِثْبَات وَجه خلافًا من الْمَوْضِعَيْنِ وَأعلم أَن أحد أصولنا فِي هَذَا الْبَاب أَن كلما أطلق على الله عز وَجل من هَذِه الْأَوْصَاف والأسماء الَّتِي قد تجْرِي على الْجَوَارِح فِينَا فَإِنَّمَا يجْرِي ذَلِك فِي وَصفه على طَرِيق الصّفة إِذا لم يكن وَجه آخر يحمل عَلَيْهِ مِمَّا يسوغ فِيهِ التَّأْوِيل وَذَلِكَ لصِحَّة قيام الصّفة بِذَاتِهِ فَإِن قِيَامهَا مِمَّا لَا يَقْتَضِي إنتقاض توحيده وَخُرُوجه عَمَّا يسْتَحقّهُ من الْقدَم وإلالاهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فَأَما وَصفه بذلك على الْحَد الَّذِي يتوهمه المشبهة الممثلة لِرَبِّهَا بالخلق فِي إِثْبَات الْجَوَارِح والآلات فخلاف الدّين والتوحيد وَحملهَا على مَا ذهبت إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة فِيهِ إبِْطَال فائدتها وإخراجها عَن كَونهَا معقولة مفيدة على وَجه الْحق وَالْحق بَين هذَيْن المذهبين من التعطيل أَو التَّشْبِيه وَأَن يمسك بِحكم الْكتاب وَالسّنة وَيتبع مَا ورد النَّص فِيهَا لَا على التعطيل كَمَا ذهبت إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة وَلَا على التَّمْثِيل كَمَا ذهبت إِلَيْهِ المشبهة وَأعلم أَن هَذَا الْبَاب يفتح لَك طَرِيق الْكَلَام فِي هَذِه الْأَوْصَاف والإطلاقات ويوقفك على صِحَة الْحق وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَاب الحَدِيث فِيهِ ويعرفك كَيْفيَّة سلوكنا بهَا وَإِنَّا لَا نسلك فِي ذَلِك مَسْلَك من يروم نفي الصِّفَات من الملحدة والمعتزلة وَلَا مَسْلَك من أثبتها فِي حكم التَّمْثِيل من المشبهة وَهَكَذَا طريقنا فِي إِثْبَات الْيَدَيْنِ لله عز وَجل وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْعين فأفهم بِمَا عرفتك الطَّرِيقَة فِي هَذَا الْبَاب وأحمل عَلَيْهِ جَمِيع مَا يجْرِي مجْرَاه سُؤال آخر فَإِن قيل فَلم لَا تَقولُونَ على هَذَا الْوَصْف قدم صفة وَصُورَة صفة لِأَن الْإِضَافَة قد حصلت فِي الْخَبَر إِلَيْهِ على هَذَا الْوَجْه فَقيل على صورته وَقيل قدمه قيل إِنَّمَا لم يحمل ذَلِك على الصّفة لإمتناع الْمَعْنى فِيهِ وَأَن الصّفة لَيست مِمَّا يُوصف بِالْوَضْعِ فِي الْأَمَاكِن وَقد وجدنَا لذَلِك تَأْوِيلا صَحِيحا قَرِيبا يمْنَع هَذِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الشُّبْهَة وَهُوَ مَا ذكرنَا قبل أَنه قدم المتجبر على الله عز وَجل يَضَعهَا على النَّار على معني اسْتِحْقَاق الْعقُوبَة على عتوه على الله وَبينا أَن لفظ الْجَبَّار مُشْتَرك وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا بِوَصْف بِهِ إِلَّا الله عز وَجل بل رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار أَن جلد الْكَافِر يبلغ فِي النَّار أَرْبَعِينَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْجَبَّار وَلِأَن المُرَاد بِهِ هَا هُنَا هَذَا الرجل الطَّوِيل وَمن السائغ فِي اللُّغَة هَذِه نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة فَأَما الصُّورَة فقد بَينا أَيْضا أَنه لَا يَصح أَن تكون صفة لما أخبر أَنه خلق آدم عَلَيْهَا وَلَا تكون الصّفة مِثَالا لآدَم فيخلق عَلَيْهَا فَلَا يَصح أَن يحمل على صُورَة بِمَعْنى الصّفة وَإِنَّمَا حملنَا مَا أطلق من ذكر الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَالْعين على الصّفة من حَيْثُ لم يُوجد فِي وَاحِد مِنْهَا مَا يَسْتَحِيل وَيمْتَنع وَلَيْسَ كَمَا أضيف إِلَيْهِ فَهُوَ عَن طَرِيق الصّفة بل ذَلِك يَنْقَسِم على أَقسَام مِنْهَا بِمَعْنى الْملك وَمِنْهَا بِمَعْنى الْفِعْل وَمِنْهَا بِمَعْنى الصّفة وَإِنَّمَا يكْشف الدَّلِيل ويميز الْقَرَائِن مواقعها على حسب مَا بَينا ورتبنا فاعلمه إِن شَاءَ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ذكر خبر آخر وتأويله فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقولُونَ فِيمَا روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَأَيْت رَبِّي فِي صُورَة شَاب أَمْرَد عَلَيْهِ حلَّة حَمْرَاء وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن عبد الله بن عمر أرسل إِلَى ابْن عَبَّاس يسْأَله هَل كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى ربه فَأرْسل إِلَيْهِ عبد الله بن عَبَّاس فَقَالَ نعم قد رَآهُ فِي صورته على كرْسِي من ذهب محتجب بفراش من ذهب فِي صُورَة شَاب رجل وَفِي خبر آخر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} فَقَالَ رأى مُحَمَّد ربه بِعَيْنيهِ حَتَّى تبين لَهُ التَّاج المخوص بِاللُّؤْلُؤِ وَعَن الحكم بن أبان قَالَ سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول سَمِعت ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَسُئِلَ هَل رأى مُحَمَّد ربه قَالَ نعم قلت لإبن عَبَّاس أَلَيْسَ الله يَقُول {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} قَالَ لَا أم لَك ذَاك نوره إِذا تجلى بنوره لم يُدْرِكهُ شَيْء // اخرجه الْبَيْهَقِيّ // وَعَن عمَارَة بن عَامر عَن أم الطُّفَيْل أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر أَنه رأى ربه فِي صُورَة شَاب موفر رِجْلَاهُ تصير على نَعْلَيْنِ من ذهب على وَجهه فرَاش من ذهب وَعَن سَالم بن أبي زِيَاد قَالَ خرجت من مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَأَيْت عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس فَقَالَ لَا تَبْرَح حَتَّى أشهد على هَذَا الرجل فَإِذا الرجل معَاذ بن عفراء قَالَ أَخْبرنِي مَا أخْبرك أَبوك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حَدثنِي أبي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدثهُ أَنه رأى رب الْعَالمين فِي حصويين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الفردوس إِلَى نصف سَاقيه فِي صُورَة شَاب يلتمع الْبَصَر ذكر تَأْوِيل ذَلِك وَالْكَلَام عَن تَخْرِيجه على الْوَجْه الَّذِي يَلِيق بِصفة الله تَعَالَى عز وَجل مِمَّا لَا ينْقض التَّوْحِيد وَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَكْذِيب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأول مَا فِي ذَلِك أَن إِحْدَى عمد التَّوْحِيد وأركانه تَوْحِيد ذَات الله تَعَالَى على الْمَعْنيين اللَّذين تقدم ذكرهمَا فِي أول الْكتاب من نفي الإنقسام وإستحالة التَّبْعِيض عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَالثَّانِي إِفْرَاده بِالتَّدْبِيرِ فِي إنْشَاء المخترعات وَذَلِكَ من الأَصْل الْوَاجِب فِي تَصْحِيح عقد التَّوْحِيد وَهُوَ مِمَّا لَا يسوغ أَن يرد السّمع إِلَّا بتحقيقه وتثبيته وَلَا يحوز أَن يرد بنقضه وإبطاله خبر صَادِق على وَجه من الْوُجُوه إِلَّا أَن يكون المُرَاد بِهِ مَا لَا يرجع إِلَى وصف الله عز وَجل بذلك وَيكون لَهُ طَرِيق فِي التَّأْوِيل مِمَّا لَا يأباه عقل وَلَا يُنكره سمع على النَّحْو الَّذِي نبينه ونرتبه بعد ثمَّ بعد ذَلِك فَإِن حمل هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي ذكر فِيهَا هَذِه الْأَوْصَاف الَّتِي ذكرنَا فِي هَذَا الْفَصْل مِمَّا يَدُور على رِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَقد ضعف أهل الْعلم بِالْجرْحِ وَالتَّعْدِيل عِكْرِمَة فِي رِوَايَته عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ لنافع لَا تكذب عَليّ كَمَا كذب عِكْرِمَة على ابْن عَبَّاس وَإِذا كَانَ مَدَاره فِي الْآحَاد عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْد أهل الْعلم بِالنَّقْلِ ضَعِيف كَانَ ذَلِك أحد مَا يوهنه وَمَعَ ذَلِك فَإِن قبله قَابل وَحكم بِصِحَّتِهِ حَاكم وَطلب لذَلِك وَجها من التَّأْوِيل يطْلب بِهِ التَّخَلُّص من التَّشْبِيه ليجمع بَين قبُول هَذَا الْخَبَر وَبَين مَا يعْتَقد فِي التَّوْحِيد كَانَ طَرِيق ذَلِك مُمكنا من وُجُوه أَحدهمَا أَن يكون معنى ذَلِك أَنه يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ أَنه مِمَّن لَا يشْغلهُ الَّذين فِي حسن الصُّورَة والتركيب على الْوَجْه الَّذِي دبره الله عز وَجل وَركبهُ عَن الله وَعَن رُؤْيَته وطاعته لكَونه مَعْصُوما محروسا من آفَات الشَّهَوَات وعوارض الغفلات مُعَرفا لنا بذلك فضل الله عز وَجل عَلَيْهِ فِيهِ وَأَنه مِمَّن لَا يلهيه حسن المناظر وَإِنَّمَا يرى ربه فِيهَا لَا هِيَ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَتَكون فَائِدَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أَنه لما أسرى بِهِ إِلَى السَّمَاء وَدخل الْجنَّة وَرَأى مَا فِيهَا مَا يرى من الزين والآلآت وَحسن الصُّور على تِلْكَ المناظر الَّتِي وصف فِي الْخَبَر وَأَن ذَلِك يرجع إِلَى مَا رأى فِي الْجنَّة من هَذَا الْخلق وَمَا زينت بهَا وَأَنه إِنَّمَا رأى من جَمِيع ذَلِك ربه لم يقطعهُ عَن نظره إِلَيْهَا عَنهُ وَيحْتَمل أَيْضا أَن يُقَال هَذِه صِفَات ترجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا رَاكِبًا يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون الرّكُوب صفة للرائي وَالثَّانِي أَن يكون الرّكُوب صفة للمرئي وَإِذا احْتمل الْوَجْهَانِ وَكَانَ مَا ذكرنَا من هَذِه الصِّفَات مِمَّا لَا يَصح أَن يرجع إِلَى الله تَعَالَى وَجب أَن يحمل على الْوَجْه الآخر وَهُوَ أَن يكون الرُّجُوع فِيهَا إِلَى الرَّائِي وَإِلَى ذكر مَعَانِيه وَصِفَاته وَإِذا قُلْنَا ذَلِك أحتمل الْكَلَام فِيهِ بعد ذَلِك وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون ذَلِك رُؤْيا مَنَام كَمَا رُوِيَ أَيْضا فِي حَدِيث أم الطُّفَيْل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ رَأَيْت رَبِّي فِي النّوم وَذكر الحَدِيث وَيحْتَمل أَيْضا أَن يُقَال إِن ذَلِك وَإِن كَانَت رُؤْيَة عيان فِي حَال الْيَقَظَة فَإِن ذَلِك يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيكون الْمَعْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أَنه كَانَ فِي حَال رُؤْيَته لله عز وَجل فِي بَاب الثَّبَات وَالْقُوَّة والتمكين من حَاله من حَيْثُ لم تستفزه هَذِه الْحَال وَلَا أزعجته وأوهنته كَمَا يكون الْمَذْكُور فِي الْخَبَر على تِلْكَ الْهَيْئَة فِي أتم أَحْوَاله وأقواها وَتَكون الْفَائِدَة فِيهِ مَا خصّه الله عز وَجل بِهِ من التَّمْكِين فِي تِلْكَ الْحَالة وَإِذا احْتمل هَذَا الْكَلَام هَذِه الْمعَانِي وَكَانَت مفيدة إِذا حمل عَلَيْهَا الْمَعْنى الصَّحِيح كَانَ حمله عَلَيْهَا أولى من حمله على مَا لَا يَلِيق بِاللَّه عز وَجل فَإِن قَالَ قَائِل فَلم لاتجعلون هَذِه الْأَوْصَاف صِفَات لله عز وَجل ثمَّ تجرونها مجْرى الصِّفَات الَّتِي ورد بهَا الْكتاب كَالْيَدِ وَالْعين وَالْوَجْه قيل لَا لأمور أَحدهَا أَن هَذِه أَخْبَار لم ترد المورد الَّذِي يقطع الْعذر وَمَعَ ذَلِك فَفِيهَا مَا عللت طرقه من جِهَة الرِّوَايَة فِي الْآحَاد أَيْضا وَإِنَّمَا يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا طَرِيقه طَرِيق الْعَمَل على الظَّاهِر دون الْقطع على الْبَاطِن وَمَا جرى هَذَا المجرى من الْأَحْكَام فَإِن طريقها الإعتقاد وَالْقطع وَلَا يُمكن الْقطع بأمثال هَذَا الْأَخْبَار وتجويز هَذِه الْأَوْصَاف من صِفَات الله عز وَجل من هَذِه الطَّرِيقَة لَا يَصح وَإِنَّمَا خرجناها على بعض هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا لِئَلَّا يَخْلُو نقلهَا من فَائِدَة وَأَن لَا يكون وُرُودهَا بِلَا وُرُود وَأَن لَا تكون مُسَاوِيَة لمن أبطلها وعطلها وَإِذا أمكن ترتيبها وتخريجها على مَا بَينا كَانَ فِيهِ إِظْهَار فائدتها وإبانة مَعَانِيهَا على الْوُجُوه الَّتِي تصح وتليق بِهِ وَلذَلِك حملناها على مَا ذكرنَا دون مَا قَالُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فصل فِيمَا ذكره ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوْحِيد ثمَّ سَأَلْتُم عِنْد انتهائها إِلَى هَذَا الْموضع من كتَابنَا إِن نتأمل مُصَنف الشَّيْخ أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة رَضِي الله عَنهُ الَّذِي سَمَّاهُ كتاب التَّوْحِيد وَجمع فِيهِ نوع هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي ذكرت فِيهَا هَذِه الْأَلْفَاظ المتشابهة وَحمل ذَلِك على أَنَّهَا صِفَات الله عز وَجل وَأَنه فِيهَا لَا يشبه سَائِر الموصوفين بهَا من الْخلق فتأملنا ذَلِك وَبينا مَا ذهب فِيهِ عَن الصَّوَاب فِي تَأْوِيله وأوهم خلاف الْحق فِي تَخْرِيجه وَجمعه بَين مَا يجوز أَن يجْرِي مجْرى الصّفة وَمَا لَا يجوز ذَلِك فِيهِ وَذكرنَا ألفاظا ذكرهَا فِي كِتَابه الَّذِي روى وَجَمعهَا فِيهِ مِمَّا لم يدْخل فِيمَا أملينا قبل ورتبنا مَعَانِيهَا وَإِن كُنَّا قد أومينا إِلَى أَصله وأشرنا إِلَى طَرِيقَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ذكر خبر آخر من ذَلِك رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما قضى الله الْخلق كتب عِنْده فَوق عَرْشه إِن رَحْمَتي سبقت غَضَبي // أخرجه البُخَارِيّ // وَفِي حَدِيث آخر عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما خلق الله الْخلق كتب فِي كِتَابه هُوَ يكْتب على نَفسه وَهُوَ وضع عِنْده على الْعَرْش إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي // أخرجه البُخَارِيّ // تَأْوِيله أعلم أَن وصف الله تَعَالَى بِأَن لَهُ نفسا وَإِطْلَاق القَوْل فِي ذكره بِالنَّفسِ مِمَّا لَا نأباه وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن معنى هَذَا الْإِطْلَاق يرجع إِلَى أَنه مَوْجُود لِأَن ذَات الشَّيْء هِيَ نَفسه ووجوده وَقد ورد بذلك نَص الْكتاب وَالسّنة وعَلى إِطْلَاقه أَجمعت الْأمة وَأما معنى قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ وضع عِنْده وَقد بَينا أَيْضا فِيمَا قبل أَن معنى عِنْد مِمَّا يُضَاف إِلَى الله عز وَجل يحْتَمل وُجُوهًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أَحدهَا أَن يُرَاد بهَا الْكَرَامَة وَالثَّانِي أَن يُرَاد بِهِ معنى الْعلم كَمَا قَالَ {فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} أَي فِي علمه وَأما عِنْد على معنى قرب الْمَكَان على معنى الْمسَافَة والمساحة فَلَا يَلِيق بِهِ عز وَجل وَالَّذِي يَلِيق بِهَذَا الْموضع من معنى عِنْد أَن يكون على معنى أَنه عَالم بِهِ وَيكون معنى الْخَبَر أَن مَا كتبه فِي كِتَابه مَعْلُوم لَهُ لَا يخفى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء لم يستعن بكتابته عَلَيْهِ لِئَلَّا يذهب علمه بِهِ فَأَما معنى قَوْله لما قضى الله الْخلق فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ لما حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الله عز وَجل بِخلق مَا خلق وَيحْتَمل أَيْضا أَنه قضى بِمَعْنى الْإِعْلَام كَقَوْلِه تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب} أَي أعلمناهم فَكَأَنَّهُ أَرَادَ لما سبق فِي علمه وَحكمه أَنه يخلق مَا يخلق خلق كتابا فَكتب فِيهِ بِمَعْنى أَنه خلق فِيهِ كِتَابَة دَالَّة على مَا أَرَادَهُ أَن يكون فِي الْمُسْتَقْبل من الْأَوْقَات من الْحَوَادِث الَّتِي يحدث فِيهَا وَهَذَا كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر الآخر إِن أول شَيْء خلق الله الْقَلَم ثمَّ خلق اللَّوْح فَقَالَ لَهُ أجر بِمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَأما معنى قَوْله إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي فقد بَينا معنى الرَّحْمَة وَالْغَضَب فِي صِفَات الله عز وَجل وَأَن ذَلِك يرجع إِلَى صفة وَاحِدَة هِيَ رَحْمَة ويوصف بِأَنَّهَا إِرَادَة لتنعيم من علم أَنه يُنَعِّمَهُ بكراماته فِي الْجنَّة وَكَذَلِكَ يُقَال لهَذِهِ الصّفة غضب إِذا كَانَت إِرَادَة لتعذيب من علم أَنه يعذبه بعقوبته فِي النَّار من الْكَافرين ثمَّ يُقَال للصادر عَن رَحمته رَحْمَة كَمَا يُقَال للكائن عَن قدرته قدرَة وللكائن عَن أمره أَمر وَكَذَلِكَ يَقُول للكائن عَن غَضَبه غضب على هَذَا الْوَجْه أَيْضا وَإِذا حملنَا ذَلِك على هَذَا الْوَجْه ليَصِح فِيهَا التسابق والتزايد والنيل وَالْغَلَبَة لِأَن مَا هُوَ صفة لله تَعَالَى مِمَّا هِيَ الرَّحْمَة وَالْغَضَب على هَذَا الْمَعْنى كَانَ تَقْدِير تَخْرِيجه إفادتنا بِهِ مَا يظْهر من رَحمته لأهل الرَّحْمَة وَمن غضبته لأهل الْغَضَب وَأَن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 رَحْمَة الله فقد غلبت رَحمته عَلَيْهِ على معنى وُصُول الصَّادِر عَنهُ إِلَيْهِ وَظهر ذَلِك عَلَيْهِ ظُهُور إبانة عَمَّا وصل إِلَيْهِ الْكَائِن عَن غَضَبه وَقد ذكرنَا غير ذَلِك من الْوُجُوه فِي تَأْوِيله فِيمَا قبل مِمَّا يُغني عَن إِعَادَته فَأَما قَوْله كتب بِيَدِهِ على نَفسه فقد أوضحنا أَنا لَا نأبى القَوْل بِإِطْلَاق يَد صفة لَا نعْمَة وَلَا قدرَة وأعتمدنا فِي ذَلِك على الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة على إِطْلَاقهَا وإضافتها إِلَى الله عز وَجل وَالْقَوْل فِي ذَلِك مَقْصُور على مَا ورد بِهِ الْخَبَر لِأَن الْخَبَر إِذا ورد مُقَيّدا بِذكر أَشْيَاء مَخْصُوصَة مُضَافَة إِلَى الله تَعَالَى فَلَا يجوز أَن يتَعَدَّى مَا ورد بِهِ الْخَبَر لأجل أَن إِطْلَاق هَذِه الْإِضَافَة وَالصّفة الْخَبَر وَلَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهِ فَكَذَلِك القَوْل فِي تَقْيِيده فِي الْموضع الَّذِي قيد فِيهِ لَا طَرِيق لَهُ غير الْخَبَر وَقد رُوِيَ أَنه كتب التَّوْرَاة بيد وغرس شَجَرَة طُوبَى بِيَدِهِ // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَأما خلق آدم بِيَدِهِ فَهُوَ نَص الْكتاب وَمعنى قَوْلنَا كتب بِيَدِهِ أَي خلق كِتَابه فِيمَا خلق فِيهِ من اللَّوْح أَو غَيره مُضَافَة إِلَيْهِ بِذكر الْيَد ووصفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 تَخْصِيصًا وتبيينا وتمييزا من جِهَة التَّفْصِيل وَقد تكلمنا على الْمُعْتَزلَة قبل ذَلِك فِي نفيهم لذَلِك وَحَملهمْ مَا أطلق من ذكر الْيَد فِي الْكتاب وَالسّنة على معنى الذَّات أَو على معنى الْقُدْرَة أَو النِّعْمَة بِمَا يُغني عَن ذكره هَهُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ذكر خبر آخر مِمَّا ذكره صَاحب التصنيف بِزِيَادَة لفظ لم يجر فِيمَا تقدم ذكره مَعَ تفسيرنا لمعظم مَا روى فِيهِ وكشفنا عَن أَصله من ذكر إِضَافَة الْوَجْه إِلَى الله عز وَجل رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الْمَرْأَة عَورَة فَإِذا خرجت استشرفها الشَّيْطَان فأقرب مَا تكون من وَجه رَبهَا وَهِي قَعْر بَيتهَا // أخرجه الطَّبَرَانِيّ // وَفِي حَدِيث آخر فِي هَذَا الْبَاب أَنه قَالَ مَا التمست الْمَرْأَة وَجه الله بِمثل أَن تقر فِي بَيتهَا وَتعبد رَبهَا // أخرجه الْبَزَّاز // وَمِمَّا ذكره أَيْضا روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الدُّعَاء عِنْد الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة وَأَقْبل الله علهي بِوَجْهِهِ وَذكر أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي صفة أهل الْجنَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 مَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا إِلَى وَجه رَبهم فِي جنَّة عدن إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه // أخرجه أبونعيم // ثمَّ ذكر هَذَا اللَّفْظ الْقَائِل فِي تَرْجَمَة بَاب فِي هَذَا النَّوْع زِيَادَة لَفْظَة توهمها معنى الْخَبَر وَلَيْسَ فِي ذَلِك نَص وَهُوَ أَن قَالَ بَاب ذكر وَجه رَبنَا وَذكر فِيهِ سبحات الْوَجْه مُتَوَهمًا أَن ذَلِك يرجع إِلَى الضَّوْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 - بَاب ذكر بَيَان ذَلِك - وَمَا زيد فِيهِ على مَا ذكرنَا وإبانة خطأ هَذَا المتوهم وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فأقرب مَا تكون من وَجه رَبهَا وَهِي فِي قَعْر بَيتهَا فَالْمُرَاد بذلك أحد وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ أقرب مَا تكون فِي طَاعَة رَبهَا الَّذِي الْوَجْه صفة من صِفَاته وَالثَّانِي أَن يكون الْمَعْنى فِيهِ وَأقرب مَا تكون من وَجه رَبهَا أَي من قَصدهَا وَجه رَبهَا وطلبها للإخلاص فِي طَاعَته وَيكون الْوَجْه بِمَعْنى الإتجاه والتوجيه نَحْو الْمَشْي وَالْقَصْد لَهُ وَمثله فِي الْخَبَر الآخر مَا التمست الْمَرْأَة وَجه الله بِمثل أَن تقر فِي بَيتهَا والتأويل فِيهِ على وَجْهَيْن أَيْضا وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي صفة أهل الْجنَّة وَمَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا إِلَى وَجه رَبهم فِي جنَّة عدن إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه فَمَعْنَاه النّظر إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الله عز وَجل الَّذِي لَهُ الْوَجْه على مَا قُلْنَا فِي قَوْله تبتغي وَجه الله وَقَوله فِي جنَّة عدن فَإِن ذَلِك يرجع إِلَى النَّاظر لَا إِلَى المنظور إِلَيْهِ لِأَن الْكَائِن فِي الْمَكَان هُوَ الرَّائِي والمرئي لَا يَصح أَن يكون فِي مَكَان لما تقدم ذكره فَأَما قَوْله إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ إِلَّا مَاله من صفة الْكِبْرِيَاء ونعت العظمة من حَيْثُ لَهُ أَن يمنعهُم المنظر وَلَا يتفضل عَلَيْهِم مُعَرفا لَهُم بذلك أَن النّظر إِلَى الله تَعَالَى إبتداء نعْمَة وَفضل وَله أَن لَا يتفضل بِهِ لِأَنَّهُ المتصف بالكبرياء والمنعوت بالعظمة وَله أَن يتفضل وَأَن لَا يتفضل وَقد تقدم تَأْوِيل قَوْله الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي وَالْمرَاد بِهِ أَن ذَلِك صفة من صِفَاته ونعت من نعوته وَأما قَول هَذَا المُصَنّف فِي بَاب التَّرْجَمَة ذكر ضوء وَجه رَبنَا عز وَجل فغلط مِنْهُ وَنقض لأصله فِي أَن هَذَا الْبَاب لَا يتَعَدَّى بِهِ الْمَقُول وَالْمَنْقُول وَأَنه لَا يجوز أَن يُزَاد فِيهِ مَا لم يرد بِهِ نَص خبر وَلم يذكر فِي شَيْء من هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي ذكر فِيهَا الْوَجْه هَذِه اللَّفْظَة بل إِنَّمَا توهم هَذَا الْقَائِل من طَرِيق التَّأْوِيل أَن معنى سبحات وَجهه من طَرِيق الضَّوْء فَرَأى فِي وَصفه مَا لم يرد بِهِ نَص وَلَا يجوز الزِّيَادَة فِي وصف الله تَعَالَى بِمَا لم يرد بِهِ نَص وَقد ذكرنَا تَأْوِيل السبحات وَتَأْويل قَوْله حجابه النُّور وحجابه النَّار على حسب مَا رُوِيَ وَلَا يجوز أَن يقدر فِيهِ مَا يجوز فِيهِ وَصفه بالضوء لَا لفظا وَلَا معنى لما ذكرنَا فِيمَا قبل وَلذَلِك تأولنا قَوْله تبَارك وَتَعَالَى {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} على الْوَجْه الَّذِي يَصح فِي وَصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أَنه نور لَا على معنى إثْبَاته نورا مضيئا ذَا شُعَاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ذكر زِيَادَة لفظ آخر ذكرهَا هَذَا الْقَائِل فِي بَاب إِثْبَات الْيَد رُوِيَ عَن الشّعبِيّ قَالَ سَمِعت الْمُغيرَة بن شُعْبَة على منبره قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن مُوسَى سَأَلَ ربه فَقَالَ يَا رب أَخْبرنِي بِأَدْنَى أهل الْجنَّة منزلَة قَالَ هُوَ عبد يَأْتِي بعد مَا يدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة فَقَالَ لَهُ أَدخل فَيَقُول كَيفَ أَدخل وَقد سكن أهل الْجنَّة الْجنَّة وَأخذُوا مَنَازِلهمْ // أخرجه الطَّبَرَانِيّ // فَيُقَال لَهُ أفترضى أَن يكون لَك مثل مَا كَانَ لملك من مُلُوك الدُّنْيَا وَمثل مَا كَانَ لملكيين وَقيل مثل مَا كَانَ لثَلَاثَة مُلُوك من مُلُوك الدُّنْيَا قَالَ رب رضيت قَالَ لَك مثله وَمثله وَمثله عشرَة أضعافه وَلَك فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 مَا اشتهت نَفسك ولذت عَيْنك قَالَ يَا رب فَأَخْبرنِي بأعلاهم منزلَة فَقَالَ سَوف أخْبرك غرست كرامتهم بيَدي وختمت عَلَيْهِ فَلم تره عين وَلم تسمع بِهِ أذن وَلم يخْطر ذَلِك على قلب بشر مصداق ذَلِك فِي كتاب الله {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} الْآيَة ذكر تَأْوِيله أعلم أَنا قد بَينا أَن إِطْلَاق وصف الله عز وَجل بِأَن لَهُ يدين صفتين لَا جارحتين وَلَا نعمتين مِمَّا ورد بِهِ نَص الْكتاب وَالسّنة وَتَحْقِيق مَعْنَاهُ على الْوَجْه الَّذِي يكون فِيهِ إتباع الْكتاب وَالسّنة من غير تَعْطِيل وَلَا تَشْبِيه وَأما قَوْله وختمت عَلَيْهِ فَيحْتَمل أَمريْن أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد بذلك أَي حكمت لَهُم بِهِ حكم الْعَطاء وَالْهِبَة لَهُم والتفضل عَلَيْهِم بهَا وَهَذَا مثل مَا يجْرِي فِي قَول الْقَائِل ختمت عَلَيْك بِفعل بِمَعْنى أَن حكمت وأوجبت عَلَيْك وخصصتك بِهِ وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون مَعْنَاهُ وَجعلت خَاتِمَة أفضالي عَلَيْهِم قدرا ومنزلة لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 غَايَة وَلَا نِهَايَة إبانة لَهُم بِهَذَا التفضل وإختصاصا لَهُم بِهَذَا التشريف وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن مثل هَذَا كَلَام إِنَّمَا يجْرِي على معنى التَّفْضِيل فِي الْعِبَادَة وَتَخْصِيص الْمَذْكُور بِالزِّيَادَةِ رفْعَة وَشرف فِيهِ وَإِذا احْتمل ذَلِك كَانَ الأولى أَن يحمل عَلَيْهِ دون الْحمل على مَا لَا يَلِيق بِاللَّه عز وَجل من وَصفه بالآلة والجارحة وَإِظْهَار الْأَفْعَال بِالْمُبَاشرَةِ والمعالجة وَمن أوهم ذَلِك فِي تَأْوِيل هَذَا فقد أَخطَأ وَمن نفى الْوَصْف بِالْيَدِ فقد عطل وَعدل عَن لفظ الْكتاب وَالسّنة وَقد رُوِيَ فِي خبر رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يبسط يَده بِاللَّيْلِ ليتوب مسيء النَّهَار ويبسط يَده بِالنَّهَارِ وليتوب مسيء اللَّيْل حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَأعلم أَنه لَيْسَ يُنكر إستعمال لفظ الْيَد على معنى النِّعْمَة وَكَذَلِكَ إستعماله على معنى الْملك وَالْقُدْرَة وَقد جرى فِي كَلَام النَّاس بِلَا خلاف بَينهم أَن الْأُمُور كلهَا بيد الله عز وَجل وَأَن أيادي الله على خلقه كَثِيرَة كَمَا يَقُولُونَ إِن أُمُور الْخلق تجْرِي بقدرة الله وَأَن نعم الله على خلقه وافرة وَلَيْسَ إِذا إستعملت لَفْظَة الْيَد فِي النِّعْمَة وَالْملك وَالْقُدْرَة وَجب أَن يكون مَحْمُولا على ذَلِك فِي كل مَوضِع أطلق فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وَكَذَلِكَ إِذا قُلْنَا إِن معنى الْيَد فِي هَذَا الْخَبَر معنى النِّعْمَة لم يمْتَنع وَلم يمْتَنع أَن يكون مَا ذكر فِي قَوْله لما خلقت بيَدي لَا يكون معنى النِّعْمَة وَالْقُدْرَة وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَو تَأَول متأول هَذَا هَهُنَا على معنى النِّعْمَة لم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ على أَن نَص الْقُرْآن قد ورد ببسط الْيَد وَهَذَا قَوْله تَعَالَى {بل يَدَاهُ مبسوطتان} فَأنْكر الله عز وَجل قَول الْيَهُود لما قَالُوا {يَد الله مغلولة} فَرد عَلَيْهِم فَقَالَ {غلت أَيْديهم ولعنوا بِمَا قَالُوا بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء} وَلم يُنكر عَلَيْهِم إِطْلَاق الْيَد وَلَا رد عَلَيْهِم إضافتهم إِلَيْهِ الْيَد بل أثبتها لنَفسِهِ ووصفها بالبسط فَدلَّ على جَوَاز إِضَافَة ذَلِك إِلَيْهِ وَوَصفه بالبسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فصل آخر وَذكر صَاحب كتاب التَّوْحِيد فِي تَرْجَمَة كِتَابه بَاب توهم فِيهِ الْغَلَط وَهُوَ أَن قَالَ بَاب ذكر إِثْبَات الرجل لله عز وَجل وَأَن رغمت أنوف المعطلة الْجَهْمِية الَّذين يكفرون بِصِفَات خالقنا ثمَّ احْتج لذَلِك أَيْضا بقوله تَعَالَى {ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا} وَيَقُول أُميَّة بن أبي الصَّلْت (رجل وثور تَحت رجل يَمِينه ... والنسر لِلْأُخْرَى وَلَيْث مرصد) وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقه فَقَالَ صدق أُميَّة // أخرجه أَبُو يعلى // وَأعلم أَن مَوضِع الْغَلَط فِي ذَلِك مِمَّا توهم أَن القَوْل بِإِضَافَة الرجل إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ يجْرِي مجْرى القَوْل بِإِضَافَة الْيَد إِلَيْهِ وَقد بَينا فميا قبل أَن نُصُوص الْكتاب وَالسّنة على الْوَجْه الَّذِي لَا يحْتَمل التَّأْوِيل فِيهِ غير مَا قُلْنَا مَعَ إِطْلَاق الْأمة بأسرها عربيها وعجميها بِالْفَارِسِيَّةِ والعربية إِضَافَة الْيَد إِلَى الله عز وَجل وإجماعهم على إستجازة ذَلِك وَترك إِنْكَاره مَعَ إِجْمَاع الْأَكْثَرين على إِنْكَار القَوْل بِإِضَافَة الرجل إِلَى الله تَعَالَى وإنكار الْجَمِيع من أهل الْعلم وَالنَّظَر من مثبتي صِفَات الله ومنكريها أَن يُقَال الرجل صفة من صِفَات الله تَعَالَى وَإِنَّمَا تَأَول من تَأَول مِنْهُم الْخَبَر الَّذِي أطلق فِيهِ لفظ الرجل على معنى إِضَافَة الْخلق وَالْملك لَا على معنى الصّفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وَأما إحتجاجه بقوله {ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا} فَغير صَحِيح فِيهِ هَذَا الْموضع من قبل أَن الله عز ذكره إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ رد الْكَافرين عَن عبَادَة الْأَصْنَام وعرفهم أَنهم يأنفون من عبَادَة من لَهُ رجل يمشي بهَا وَيَد يبطش بهَا وَعين يبصر بهَا وَأذن يسمع بهَا فَكيف يعْبدُونَ من لَيْسَ لَهُ شَيْء ذَلِك يقرعهم على عبَادَة الْأَصْنَام الَّتِي هِيَ جماد وموتى لَيْسَ لَهَا فعل وَلَا قدرَة وَلَا سمع وَلَا بصر وَإِذا كَانَ الْقَصْد بِالْآيَةِ مَا ذكرنَا لم يكن فِيهَا مَا يُوجب إِثْبَات وصف الله عز وَجل بِالرجلِ كَمَا لَيْسَ فِيهَا مَا يُوجب إِثْبَات وصف الله تَعَالَى بالأذن وَلَا مَا يُوجب وَصفه بِأَن لَهُ أرجلا وايدي والمتمسك بِظَاهِر الْآيَة محتجا بهَا على مَا ذكر يُوجب عَلَيْهِ أَن يكون الْأَمر فِيهِ على مَا قُلْنَا من إِثْبَات مَا أجمع الْمُسلمُونَ على إِنْكَاره من القَوْل بِالْأَيْدِي والأرجل وَالْأُذن والأعين ثمَّ ذكر صَاحب هَذَا المُصَنّف فِي الْبَاب الَّذِي تَرْجمهُ بذلك مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يضع الْجَبَّار جلّ جَلَاله رجله فِي النَّار وَقد ذكرنَا تَأْوِيل ذَلِك فِيمَا قبل على وُجُوه تقدم ذكرهَا لَا على معنى إِثْبَات الْقدَم صفة لله عز وَجل وَلم يذكر رُوَاة هَذَا الْخَبَر لفظ الرجل إِلَّا بَعضهم قَالَ فِي خَبره حَتَّى يضع رجله أَو قدمه وأحتمل أَن يكون لما الْتبس اللَّفْظ وتوهم أَن الْقدَم لَا يكون إِلَّا رجلا ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بدل الْقدَم الرجل وَأكْثر أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر بِذكر الْقدَم وَأَنه يضع فِيهَا قدمه وَلَا يَخْلُو الْكَلَام فِيهِ من ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون على معنى إِضَافَة الصّفة إِلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا يمْنَع مِنْهُ الْخَبَر لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ فَيَضَع فِيهَا قدمه وَقدم الصّفة لَا يجوز وصفهَا بِالْوَضْعِ فِي الْمَكَان وَأما قدم الْجَارِحَة فمما لَا يَلِيق بِاللَّه سُبْحَانَهُ لإستحالة أَن يكون أَجزَاء مبعضة وأجساما متركبة وَقد بَينا فَسَاد ذَلِك فِيمَا قبل فَلم يبْق إِلَّا أَن معنى الْقدَم الَّذِي أضيف إِلَيْهِ فِي هَذَا الْخَبَر بِمَعْنى الْخلق وَالْملك على أحد الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرنَا تأويلهما أَو على معنى مَا قَالَه النَّضر بن شُمَيْل أَن ذَلِك على معنى مَا تقدم فِي علم الله مِمَّن يكفر بِهِ من خلقه وَعَلِيهِ يتَأَوَّل قَول من روى فِي هَذَا الْخَبَر حَتَّى يُدْلِي فِيهَا رب الْعَالمين قدمه فتنزوي بَعْضهَا إِلَى بعض وَتقول قطّ قطّ وَذَلِكَ بإدلاء الْخلق فِيهَا وهم الْقدَم على معنى أَنهم هم الَّذين تقدم لَهُم الْعلم من الله جلّ ذكره أَنهم يدْخلُونَهَا وَلم يذكر صَاحب هَذَا التصنيف فِي الْبَاب الَّذِي تَرْجمهُ بِالرجلِ ذكر الْقدَم سوى مَا ذكر فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر من الرَّاوِي على طَرِيق الشَّك حَتَّى يضع قدمه فِيهَا أَو رجله فَبَان ذَلِك أَنه عدل عَن الصَّوَاب وأوهم الْخَطَأ بترجمته الْبَاب بِمَا لَيْسَ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وَهَذَا النَّحْو مِمَّا يضيق فِيهِ الْأَمر حَتَّى لَا يُمكن التَّوَسُّع فِيهِ بِوَجْهِهِ من جِهَة الرَّأْي والهوى لِأَنَّهُ مَوضِع لَا يعْتَمد فِيهِ إِلَّا على الْخَبَر من الْكتاب أَو السّنة الصَّحِيحَة وَمَا توهم أَنه يرغم بِهِ أنوف الْجَهْمِية من تَرْجَمَة الْبَاب بِذكر الرجل مَعَ خلو الْبَاب من ذكره على وَجه الصِّحَّة فَهُوَ على الْعَكْس مِمَّا توهمه ثمَّ ذكر صَاحب التصنيف مَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} إِن الْكُرْسِيّ مَوضِع الْقَدَمَيْنِ وَالْعرش لَا يقدر قدره وَأعلم أَنه قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي تَأْوِيل الْكُرْسِيّ شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن معنى الْكُرْسِيّ الْعلم وَأَن مَعْنَاهُ وسع علمه السَّمَوَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وَالْأَرْض وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْكُرْسِيّ مَوضِع الْقَدَمَيْنِ وَلم يقل هُوَ مَوضِع قدمي الله فَيحْتَمل أَن يكون مَوضِع قدمي بعض خلقه من الْمَلَائِكَة أَو غَيرهم إِذا لم يقل هُوَ مَوضِع قدمي الله وَلَو قيل ذَلِك أَيْضا لَكَانَ متأولا على الْوَجْه الَّذِي يَصح كَمَا ذكرنَا فِي قَوْله {يضع الْجَبَّار قدمه فِي النَّار} وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن الْقدَم هُوَ الشَّيْء الْمُتَقَدّم فِي اللُّغَة وَأَن التَّقْدِيم تَارَة بالوجود وَتارَة بِالصّفةِ وَتارَة بَين تقدم الْعلم بِهِ فَيحْتَمل أَن يكون الْكُرْسِيّ موضعا لنوعين من خلقه مِمَّا تقدم خلقه لَهما وَإِذا احْتمل لفظ الْقدَم مَا ذكرنَا من الْمعَانِي وَلم يكن يخْتَص مَعْنَاهُ بالجارحة فَقَط كَانَ الأولى أَن يحمل على مَا يَصح من وصف الله مِنْهُمَا دون مَا يَسْتَحِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فصل آخر ثمَّ ذكر صَاحب التصنيف بَابا تَرْجمهُ بإستوائه على الْعَرْش وأوهم معنى التَّمْكِين والإستقرار وَذَلِكَ مِنْهُ خطأ لِأَن إستواءه على الْعَرْش سُبْحَانَهُ لَيْسَ على معنى التَّمْكِين والإستقرار بل هُوَ على معنى الْعُلُوّ بالقهر وَالتَّدْبِير وإرتفاع الدرجَة بِالصّفةِ على الْوَجْه الَّذِي يَقْتَضِي مباينة الْخلق ثمَّ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا مُنْقَطِعًا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن إمرأة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت أدع الله أَن يدخلني الْجنَّة فَعظم الله تَعَالَى ثمَّ قَالَ إِن كرسيه وسع سبع السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن لَهُ أطيطا كأطيط الرحل الْجَدِيد إِذا ركب من ثقله // أخرجه عبد بن حميد // وَقد بَينا تَأْوِيل هَذَا الْخَبَر فِيمَا قبل وأوضحنا أَن معنى الرحل الْجَدِيد وَثقله على كواهل الحملة ثقل التَّعْظِيم والإجلال لَا ثقل الْجنَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ذكر فصل آخر ثمَّ ذكر صَاحب الْكتاب الَّذِي ذكرنَا قبل فِي تَرْجَمَة بَاب الْبَيَان أَن الله جلّ وَعلا فِي السَّمَاء وَأعلم أَنه لَيْسَ يُنكر قَول من قَالَ إِن الله فِي السَّمَاء لأجل أَن لفظ الْكتاب قد ورد بِهِ وَهُوَ قَوْله {أم أمنتم من فِي السَّمَاء} وَمعنى ذَلِك أَنه فَوق السَّمَاء لَا على معنى فوقية المتمكن فِي الْمَكَان لِأَن ذَلِك صفة الْجِسْم الْمَحْدُود الْمُحدث وَلَكِن بِمَعْنى مَا وصف بِهِ أَنه فَوق من طَرِيق الرُّتْبَة والمنزلة وَالْعَظَمَة وَالْقُدْرَة ثمَّ ذكر هَذَا الْقَائِل فِي ذَلِك قَوْله عز وَجل {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} وَقَوله {بل رَفعه الله إِلَيْهِ} وَهَذَا مِنْهُ غلط من قبل صعُود الْكَلم الطّيب إِلَيْهِ لَيْسَ على معنى صعُود من سفل إِلَى علو بالسفل لإستحالة ذَلِك على الْكَلَام لكَونه عرضا لَا يبْقى وَكَذَلِكَ الْعلم الصَّالح وَإِنَّمَا معنى صعُود الْكَلَام الطّيب إِلَيْهِ قبُوله ووقوعه عَنهُ موقع الْجَزَاء وَالثَّوَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وَذكرنَا قَول الْقَائِل الْحق ثقيل مر وَلَيْسَ ذَلِك على معنى الثّقل بِالْوَزْنِ وَبينا أَنه لَا يُنكر أَن يخلق الله أطيطا فِي الْكُرْسِيّ يكون ذَلِك عَلامَة للْمَلَائكَة فِيمَا يُرِيد أَن ينزل من الْعقُوبَة بِبَعْض خلقه فيثقل عَلَيْهِم ثقل استثقال لما يكون فِيمَا يَتَجَدَّد لَهُم من الهيبة والإجلال ثمَّ ذكر أَيْضا حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس أَنَّهَا قَالَت كنت مَعَ جَعْفَر بِأَرْض الْحَبَشَة فَرَأَيْت إمرأة على رَأسهَا مكتل من دَقِيق فمرت بِرَجُل من الْحَبَشَة فطرحت على رَأسهَا فسفت الرّيح الدَّقِيق فَقَالَت أدلك إِلَى الْملك يَوْم يقْعد على الْكُرْسِيّ وَيَأْخُذ للمظلوم من الظَّالِم // أخرجه ابْن أبي عَاصِم // وَأعلم أَنه كَمَا لَا يَصح أَن ينفى عَن الله عز وَجل مَا أطلقهُ لنَفسِهِ من الصّفة بِرَأْي بعض أهل الْأَهْوَاء الَّذين لَا يوثق بهم فَكَذَلِك لَا يَصح أَن يُضَاف إِلَى الله سُبْحَانَهُ وصف من غير أَن يكون مضبوطا عَمَّن يوثق بِهِ وَقَول هَذِه الْمَرْأَة فمما لم يوثقه دَلِيل وَلَا حجَّة فِيهِ فِي إِثْبَات صِفَات رب الْعَالمين وَكَيف يستجيز ذَلِك وَذكر مثل هَذَا الْخَبَر فِي إِثْبَات صِفَات الله وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا أثْبته نَص كتاب وَلَا سنة وَأعلم أَن وصف الله تَعَالَى ذكره بالقعود مِمَّا لم يثبت بِهِ نَص كتاب وَلَا سنة ولوثبت لَكَانَ ذَلِك مَحْمُولا على مَا تحمل عَلَيْهِ سَائِر أَوْصَاف أَفعاله كنحو مَا ذكر أَنه ينزل إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا وَمَا ذكر فِي قَوْله جلّ ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} وَالْأَصْل فِي ذَلِك ثُبُوت اللَّفْظَة بِنَصّ فِي كتاب الله أَو سنة من طَرِيق موثوق بهَا ثمَّ يرتب عَلَيْهَا التَّأْوِيل فَأَما شَيْء لم يثبت من طَرِيق صَحِيح لفظ الْقعُود فِي سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا وَجه للتعليق بِهِ وَقد ذكرنَا عَن مُجَاهِد فِيمَا قبل تَأْوِيله لقَوْله تَعَالَى {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} أَنه يقعده على الْعَرْش مَعَه وَلم يُنكر إقعاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْعَرْش تأويلنا لَفْظَة مَعَه على مَا يَلِيق بِهِ من معنى النُّصْرَة والمعونة لِأَنَّهَا لَفْظَة مُشْتَركَة مستعملة فِي معنى الْعلم كَقَوْلِه {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} بِمَعْنى النُّصْرَة وَكَقَوْلِه {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا} وَأما الَّذِي يكون بِمَعْنى الْمُجَاورَة فَلَا يَلِيق بِهِ جلّ ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وَقَوله يرفعهُ لأعلى معنى رفع من مَكَان إِلَى مَكَان وَلَكِن رفع لَهُ على معنى أَنه قد تقبل وَأَن الْكَلَام إِذا اقْترن بِهِ الْعَمَل الصَّالح قبلا دون أَن ينْفَرد الْكَلَام من الْعَمَل وَأما قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة عِيسَى {بل رَفعه الله إِلَيْهِ} فَمَعْنَاه رَفعه إِلَى الْموضع الَّذِي لَا يعبد فِيهِ إِلَّا الله وَلَا يذكر فِيهِ غَيره لَا على معنى أَنه ارْتَفع إِلَيْهِ كَمَا يترفع الْجِسْم من سفل إِلَى جسم فِي علو بِأَن يقرب مِنْهُ بالمسافة والمساحة ثمَّ ذكر قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا} وتوهم أَنه يحْتَج بِهِ على الجسمية فَقَالَ أَلَيْسَ الْعلم محيطا يَا ذَوي الْأَلْبَاب إِن الله عز وَجل لَو كَانَ فِي كل مَوضِع وَمَعَ كل بشر وَخلق كَمَا زعمت المعطلة الْجَهْمِية لَكَانَ متجليا لكل شَيْء ويدك جَمِيع مَا فِي الأَرْض كَمَا دك الْجَبَل وَهَذَا مِنْهُ وهم فَاسد من قبل أَن التجلي للرب سُبْحَانَهُ تَعَالَى للجبل على معنى أَنه جعل الْجَبَل حَيا عَالما رائيا حَتَّى رأى الله تَعَالَى ثمَّ دكه عِنْد الرُّؤْيَة عَلامَة لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ لَا يرَاهُ أحد فِي الدُّنْيَا إِلَّا دكه إِلَّا من خصّه بِالرُّؤْيَةِ إنابة وتشريفا وَهُوَ نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَيْسَ معنى تجلي الله لخلقه بِأَن يكون مَعَهم بالمساحة والصحبة والمجاورة وَلَا أَن ذَلِك مَذَاهِب الْمُخَالفين أَيْضا حَتَّى يتَوَهَّم عَلَيْهِم أَنه يجب عَلَيْهِم إِذا قَالُوا إِن الله فِي كل مَكَان وَمَوْضِع قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وَإِنَّمَا يلْزم مخالفيه مَا لَا يلْزمهُم ويتوهم عَلَيْهِم مَا لَا يَقُولُونَهُ وتوهم بذلك الْخَطَأ فِي التَّأْوِيل وَالْمذهب ليعلم أَنه لم يكن يَبْنِي كَلَامه على أساس صَحِيح اخْتَلَّ عَلَيْهِ واضطرب فَلم يَصح مذْهبه وَلَا أفسد مَذَاهِب مخالفيه ثمَّ ذكر فِي تأييد ذَلِك مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لفاطمة رَضِي الله عَنْهَا وَهِي تسأله خَادِمًا قولي اللَّهُمَّ رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم رَبنَا وَرب كل شَيْء منزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل // أخرجه بن عبد الْبر // وَقَالَ مرّة وَالْقُرْآن الْعَظِيم فالق الْحبّ والنوى أعوذ بك من شَرّ كل دَابَّة أَنْت آخذ بناصيتها وَمن شَرّ كل ذِي شَرّ أَنْت آخذ بناصيته أَنْت الأول فَلَيْسَ قبلك شَيْء وَأَنت الآخر فَلَيْسَ بعْدك شَيْء وَأَنت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شَيْء وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شَيْء اقْضِ عَنَّا الدّين وأعذنا من الْفقر وَأعلم أَن هَذَا الْخَبَر يبين صِحَة مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيل وصف الله عز وَجل أَنه فَوق كل شَيْء لَا على معنى الْمسَافَة والمساحة وَذَلِكَ أَن كل مَا كَانَ فَوق شَيْء على معنى المساحة والتمكن فِيهِ والعلو عَلَيْهِ على هَذَا الْوَجْه كَانَ دونه شَيْء وَهُوَ على مَا عَلَيْهِ من الْمَكَان فَلَمَّا أبان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَيْسَ دونه شَيْء علمنَا أَن معنى أَنه فَوق كل شَيْء لَا على معنى التَّمْكِين والمساحة والمسافة وَقد أوهم هَذَا الْقَائِل خلاف ذَلِك وَهَذَا الَّذِي رُوِيَ من الْخَبَر يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فَسَاد مَا أَوْهَمهُ ثمَّ ذكر فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا مَا روى أَبُو هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الْمَلَائِكَة تحضر الْمَيِّت فَإِذا كَانَ الرجل الصَّالح قيل أَخْرِجِي أيتها النَّفس الطّيبَة وَأَبْشِرِي بِروح وَرَيْحَان وَرب عَلَيْك غير غَضْبَان قَالَ فَتَقول ذَلِك حِين تخرج فَإِذا خرجت عرجت إِلَى السَّمَاء فيستفتح لَهَا فَيُقَال من هَذَا فَيُقَال فلَان فَيُقَال مرْحَبًا بِالنَّفسِ الطّيبَة كَانَت فِي الْجِسْم الطّيب ادخلي حميدة وَأَبْشِرِي بِروح وَرَيْحَان وَرب غير غَضْبَان فَيُقَال لهَذَا كَذَلِك حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الرب تبَارك وَتَعَالَى // أرجه الْأَمَام احْمَد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وَكَذَلِكَ ذكر مَا رُوِيَ عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِي الله عَنهُ أَن قُريْشًا جَاءَت إِلَى الْحصين وَكَانَت تعظمه فَقَالُوا لَهُ كلم لنا هَذَا الرجل فَإِنَّهُ يذكر آلِهَتنَا ويسبهم فجاؤوا مَعَه حَتَّى جاؤوا قَرِيبا من بَاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دخل حُصَيْن فَلَمَّا رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أوسعوا للشَّيْخ فَقَالَ حُصَيْن مَا هَذَا الَّذِي بلغنَا عَنْك إِنَّك تَشْتُم آلِهَتنَا وتذكرهم وَقد كَانَ آباؤك جَفْنَة وخبزا فَقَالَ يَا حُصَيْن إِن أبي وأباك فِي النَّار يَا حُصَيْن كم من إِلَه تعبد قَالَ سَبْعَة فِي الأَرْض وإلها من السَّمَاء قَالَ فَإِذا أَصَابَك الضّر من تَدْعُو قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاء قَالَ فَإِذا هلك المَال من تَدْعُو قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاء قَالَ يستجيب لَك وَحده وتشكرهم مَعَه الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 بِطُولِهِ أعلم أَن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الرب يحْتَمل أوجها أَحدهَا أَن يكون مَعْنَاهُ إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا خَزَائِن الْأَرْوَاح وسائغ أَن يُقَال ذَلِك فِي اللُّغَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} وَالْمعْنَى حب الْعجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وَقد ذكرنَا فِيمَا قبل أَنا لَا ننكر القَوْل أَن الله فِي السَّمَاء إتباعا للفظ الْكتاب وَلَكنَّا نأبى أَن يكون مَعْنَاهُ على معنى كَون الْجِسْم فِي الْجِسْم بالتمكن عَلَيْهِ وَلِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بحدوثه ونفيه تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وتأويلنا أَيْضا حَدِيث الْجَارِيَة لما قَالَ لَهَا أَيْن الله فَقَالَت فِي السَّمَاء فَلم يُنكر عَلَيْهَا بل اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة ونابت إشارتها عَن إِقْرَارهَا ودلت على مَا فِي قَلبهَا من الْإِخْلَاص والمعرفة بِاللَّه فَكَذَلِك شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإيمانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فصل ثمَّ ذكر صَاحب الْكتاب الَّذِي أورد فصل إصْلَاح بعض مَا غلط فِي إبهامه وَأَخْطَأ مَذْهَب الْحق فِي إِيرَاده حَدِيث النُّزُول وَقد بَينا تَأْوِيله فِيمَا قبل غير أَنه ذكر فِي بَعْضهَا لفظا اقتصرنا تَأْوِيلهَا فَذَكرنَا من ذَلِك مَا روى فضَالة عَن عبيد عَن أبي الدَّرْدَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله تَعَالَى ذكره فِي ثَلَاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل يفتح الذّكر فِي السَّاعَة الأولى الَّذِي لم يره أحد غَيره فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت مَا يَشَاء ثمَّ ينزل فِي السَّاعَة الثَّانِيَة إِلَى جنَّة عدن الَّتِي لم تَرَهَا عين وَلم يخْطر على قلب بشر وَلَا يسكنهَا من بني آدم غير ثَلَاثَة النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء فَيَقُول طُوبَى لمن دَخلك ثمَّ ينزل فِي السَّاعَة الثَّالِثَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا بِرُوحِهِ وَمَلَائِكَته فتنتفض فَيَقُول قومِي بعزتي ثمَّ يطلع على عباده فَيَقُول هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ هَل من دَاع فَأُجِيبَهُ حَتَّى تكون صَلَاة الْفجْر وَكَذَلِكَ يَقُول {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 يشهده الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته اللَّيْل وَالنَّهَار وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث فِي خبر آخر ثمَّ ينظر فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فِي جنَّة عدن وَهِي مَسْكَنه لَا يكون مَعَه فِيهَا إِلَّا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء وفيهَا مَا لم تره عين وَلم يخْطر على قلب بشر ثمَّ يهْبط فِي السَّاعَة الثَّالِثَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول {من يسألني فَأعْطِيه} الْخَبَر أعلم أَن الَّذِي يحب أَن نبين فِي تَأْوِيل هَذِه الزِّيَادَة بعد مَا تقدم ذكر معنى النُّزُول وَتَأْويل قَوْله ثمَّ ينظر فِي جنَّة عدن وَهِي مَسْكَنه وَمعنى ذَلِك أَنَّهَا كَرَامَة ومثوبة وَهَذَا كَقَوْلِنَا للكعبة بَيت الله وَهِي إِضَافَة تشريف وتخصص لَا على معنى أَنه يسكنهَا سكن مجاورة لَكِنَّهَا مسكن الساكنين من أنبيائه وأوليائه وَهِي لَهُ مسكن على معنى أضافة التَّخْصِيص والتشريف وَقَوله {لَا يكون مَعَه فِيهَا إِلَّا النَّبِيُّونَ} فِيهَا بالحلول والسكون وَالله مَعَهم بالنصرة والكرامة على مَا تقدم ذكره فِي إبانة معنى مَعَ وَأما قَوْله {ثمَّ يهْبط فِي السَّاعَة الثَّالِثَة} فعلى نَحْو معنى قَوْله ينزل وَذَلِكَ إِخْبَار عَن فعل يَفْعَله كَمَا روينَا عَن الْأَوْزَاعِيّ فِي تَأْوِيل قَوْله ينزل الله أَنه قَالَ {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وَأما قَوْله {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فَلَيْسَ ذَلِك على معنى تَغْيِير حكم قد اسْتَقر بِأَمْر يَبْدُو لَهُ وَلكنه على معنى مَا لَهُ من تَغْيِير الْأَحْوَال وتصريف الْأَسْبَاب على مَا يَشَاء وَيُرِيد وَأما قَوْله {ثمَّ ينظر فِي السَّاعَة الثَّانِيَة} فَلَيْسَ ذَلِك بِمَعْنى نظر الرُّؤْيَة وَلكنه بِمَعْنى نظر التعطف وَالرَّحْمَة وَهُوَ يَا يبديه من نعْمَة ويجدده من كراماته وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ نزل فِي السَّاعَة الثَّالِثَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا بِرُوحِهِ وَمَلَائِكَته فَيحْتَمل أَن يكون الرّوح جِبْرِيل إِضَافَة إِلَيْهِ تَشْرِيفًا وإبانة بِالذكر تَخْصِيصًا وَقد ذكر فِي كِتَابه تَعَالَى فَقَالَ {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} يَعْنِي جِبْرِيل وَأعلم أَن قَوْله {نزل بملائكته إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا} يُؤَيّد مَا نقُول أَنه إِنْزَال فعل وَأَنه نزُول بِمَعْنى مَا يحدث عَن أمره ويضاف إِلَيْهِ لأجل أَنه عَن أمره حدث كَقَوْل الْقَائِل ضرب الْأَمِير اللص إِذا أَمر بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فصل آخر ثمَّ ذكر صَاحب الْكتاب أبوابا فِي أَن الله عز وَجل كلم مُوسَى موهما فِيهِ خلافًا بَين النَّاس وَلم يَخْتَلِفُوا على تفَاوت مذاهبهم فِي ان الله عز وَجل كلم مُوسَى وَخَصه بالتكليم بِمَا أبانه من غَيره وتكلف ذكر آي وَسنَن فِي ذَلِك وَلَا معنى لتكلفيه فِيمَا أغْنى عَنهُ الْإِجْمَاع وَزَالَ الْخلاف فِيهِ مَا بَين أهل الصَّلَاة كلهم وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي معنى ذَلِك وَلم يعرض لَهُم وَلَا فصل فِيهِ مَوضِع الْخلاف ثمَّ ذكر بعد ذَلِك تَرْجَمَة أفسد بهَا جَمِيع مَا تقدم ذكره وَمَا تَأَخّر مِمَّا يَنْتَحِلهُ من القَوْل بِأَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق وَأَنه كَلَام الله لم يزل فَقَالَ بَاب فِي صفة معنى تكلم الله بِالْوَحْي وَالْبَيَان وَأَن كَلَام رَبنَا لَا يشبه كَلَام المخلوقين لِأَن كَلَام الله كَلَام متواصل لَا سكت بَينه وَلَا صمت لَا ككلام الْآدَمِيّين الَّذين يكون بَين كَلَامهم صمت وَسكت لإنقطاع النَّفس أَو التَّذَكُّر والعي وَأعلم أَنه قد نقض بِهَذِهِ التَّرْجَمَة مَا هُوَ أصل من أصُول السّنة فِي أَن كَلَام الله غير مَخْلُوق وَلَا مُحدث وَأَنه لم يزل كلَاما وَذَلِكَ بِمَا ذكره فِي قَوْله إِنَّه كَلَام متواصل لَا سكت بَينه من قبل أَن مَا كَانَ كَذَلِك فَالثَّانِي متجدد بعد الأول وَكَذَلِكَ الثَّالِث بعد الثَّانِي وَمَا كَانَ كَذَلِك كَانَ مُحدثا مخلوقا وَلم تزد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الْجَهْمِية الْقَائِلُونَ بِخلق الْقُرْآن على ذَلِك لما قَالُوا إِنَّه كَلَام يحدثه حَالا بعد حَال ويجدده مرّة بعد أُخْرَى فنقض مَا أسس وَهدم مَا بنى وَقد تقدم من شَرط وَاضع هَذَا الْكتاب فِي بَاب صِفَات الله أَنه لَا يتَكَلَّم فِي كيفيتها فَإِنَّهُ لَا يثبتها على هَذَا الْوَجْه بل يجريها مجْرى التَّسْلِيم دون الْبَحْث والتغير وَهَذَا مِنْهُ نقض لذَلِك الأَصْل ثمَّ توهم أَن مَا روى عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّته فِي ذَلِك وَهُوَ قَوْله إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَاء للسماء صلصة كجر السلسلة على الصفاء قَالَ فيصعقون فَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يَأْتِيهم جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا أَتَاهُم جِبْرِيل فزع عَن قُلُوبهم فَيَقُولُونَ يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ رَبك قَالَ فَيَقُول الْحق فينادون الْحق الْحق وَفِي حَدِيث عِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا قضى الله فِي السَّمَاء أمرا ضربت الْمَلَائِكَة بأجنحتها خضعانا لقَوْله كَأَنَّهَا سلسلة على صَفْوَان فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير وَفِي بعض الْأَخْبَار فيفزعون يرَوْنَ أَنه من أَمر السَّاعَة قَالَ فيسمعها مسترقو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 السّمع وهم هَكَذَا وَاحِد فَوق الآخر وَأَشَارَ سُفْيَان بِأُصْبُعَيْهِ وَرُبمَا أدْرك الشهَاب المستمع فيحرقه وَرُبمَا لَا يُدْرِكهُ حَتَّى يَرْمِي إِلَيْهِ بِهِ إِلَى الَّذِي أَسْفَل مِنْهُ ويرميه الآخر على من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ فيلقيه على فَم السَّاحر أَو الكاهن فيكذب مَعهَا مائَة كذبة فَيُقَال أَلَيْسَ قد قَالَ يَوْم كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فوجدناه حَقًا فَيصدق بِالْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعت من السَّمَاء وَأعلم أَن هَذَا الْخَبَر مِمَّا تقدم تَأْوِيله وَمِمَّا بَينا أَنه إِنَّمَا أثبت الصلصلة للسماء وَبَين فِي خبر آخر أَن صَوت الْمَلَائِكَة بأجنحتها خضعانا لقَوْله كَأَنَّهَا سلسلة على صَفْوَان وَلم يتَضَمَّن هَذَا الْخَبَر شَيْئا مِمَّا ترْجم بِهِ الْبَاب من قَوْله إِن كَلَام الله متواصل لَا سكت بَينه وَلَا صمت وَإِنَّمَا ذَلِك توهم مِنْهُ بِرَأْيهِ الْفَاسِد وَلَو اسْتعْمل مَا قدم فِي أول كِتَابه من وعده أَنه لَا يتَعَدَّى لفظ الْخَبَر وَمَا نطق بِهِ الْكتاب وَلَا يزِيد فِيهِ من عِنْد نَفسه لإستراح من هَذَا الْغَلَط وأراح مقلديه فِيهِ وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن معنى ذَلِك رَاجع إِلَى الْعبارَات والدلالات الَّتِي هِيَ الطَّرِيق إِلَى الْكَلَام وَبهَا يفهم مُرَاده مِنْهُ لَا أَنه تَعَالَى قَوْله إِذا تكلم الله بِالْوَحْي أَنه يَتَجَدَّد لَهُ كَلَام وَلكنه يَتَجَدَّد إسماع وإفهام بِخلق عِبَارَات وَنصب دلالات بهَا يفهم الْكَلَام ثمَّ يُقَال على طَرِيق السعَة وَالْمجَاز لهَذِهِ الْعبارَات كَلَام من حَيْثُ أَنَّهَا دلالات عَلَيْهِ وَقد مضى شرح فِيمَا قبل بِمَا يُغني عَن رده هَا هُنَا وَأعلم أَنه لَا يَصح على أصلنَا فِي قَوْلنَا أَن كَلَام الله غير مَخْلُوق وَلَا حَادث بِوَجْه من الْوُجُوه أَن يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إِن الله يتَكَلَّم كلَاما بعد كَلَام لِأَن ذَلِك يُوجب حُدُوث الْكَلَام وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد الإسماع والإفهام وَنصب الْعبارَات وَإِقَامَة الدلالات على الْكَلَام الَّذِي لم يزل مَوْجُودا وحدوث الدّلَالَة والعبارة لَا يَقْتَضِي حُدُوث الْمَدْلُول الْمعبر عَنهُ كَمَا أَن حُدُوث الذّكر وَالدُّعَاء لَا يَقْتَضِي حُدُوث الْمَذْكُور والمدعو ولسنا نقُول أَيْضا أَن الله عز وَجل إِنَّمَا تكلم فِي الْأَزَل ثمَّ لم يتَكَلَّم بعد ذَلِك كَمَا توهمه بعض من غلط على أصولنا فَظن أَنا إِذا قُلْنَا إِن لله كلَاما وَاحِدًا لم يزل بِهِ متكلما وَلَا يزَال بِهِ متكلما فقد قُلْنَا أَنه تكلم بِهِ مرّة ثمَّ لم يتَكَلَّم بِهِ بعد ذَلِك حَتَّى حمله إِنْكَار ذَلِك على القَوْل بِأَن الله يتَكَلَّم كلَاما بعد كَلَام لَا سكت بَينهمَا وَلَا صمت فنقض بذلك أَصله أَن كَلَام الله غير حَادث وَلَا متجدد وَأَبَان عَن خَفَاء مَا ذَهَبْنَا عَلَيْهِ وتوهمه بِخِلَاف مَا هُوَ بِهِ وَذَلِكَ أَنا نقُول إِن الله لم يزل متكلما وَلَا يزَال متكلما وَإنَّهُ قد أحَاط كَلَامه بِجَمِيعِ مَعَاني الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والإستخبار وَأَن الْعبارَات عَنهُ والدلالات كَثِيرَة تتجدد وتتزايد وَلَا يزِيد بتزايد الْعبارَات كَمَا أَن الدلالات على الله عز ذكره تتجدد وتتزايد وَلَا يَقْتَضِي تجدّد الْمَدْلُول وتزايده فَإِذا حصلت هَذَا الأَصْل علمت حَقِيقَة مَا نقُول وَأَن الْغَلَط فِي ذَلِك إِنَّمَا وَقع لمن توهم أَن تَجْدِيد الْعبارَات تَجْدِيد الْكَلَام وَلم يفرق على الْحَقِيقَة بَين مَا هُوَ كَلَام لى الْحَقِيقَة وَبَين مَا هُوَ عبارَة عَنهُ ودلالات عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فصل آخر ثمَّ ذكر صَاحب كتاب التَّوْحِيد أبوابا وَترْجم فِي بَاب الرُّؤْيَة وروى أَخْبَارًا أَكْثَرهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهَا مَا يشكل مَعْنَاهُ وَمِنْهَا مَا يشكل بعض أَلْفَاظه فَيَقْتَضِي بَيَانا وتفصيلا غير أَنه خلط بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَتَأَول فِيهِ أَخْبَارًا لَا تدل على مَا قَالَ ثمَّ خلط بِهِ قَوْله أَن من الْكفَّار من يرى الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة وَأَنه يرَاهُ بَعضهم رُؤْيَة إمتحان وَأَن تِلْكَ الرُّؤْيَة قبل أَن يوضع الجسر بَين ظَهْري جَهَنَّم وَأَن ذَلِك كَمَا يكلم الْكفَّار بالطرد والإبعاد ويكلم الْمُؤمنِينَ بِالرَّحْمَةِ وَالْقَبُول وَكَذَلِكَ يرَاهُ بعض أهل الْكتاب وَيَرَاهُ المُنَافِقُونَ وَلَا يَجدونَ فِي رُؤْيَته لَذَّة وسرورا وَإِنَّمَا تُوجد اللَّذَّة وَالسُّرُور فِي رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ فَقَط وَأعلم أَن هَذِه مقَالَة محدثة لِأَن النَّاس فِي رُؤْيَة الله على مقالتين فَمنهمْ من قَالَ هِيَ ممتنعة وَلَا يرَاهُ كَافِر وَلَا مُؤمن وَهُوَ مَذْهَب الْجَهْمِية والمعتزلة وقائلون قَالُوا وهم أهل الْحق إِن رُؤْيَة الله تَعَالَى جَائِزَة فِي الْآخِرَة وَإِنَّمَا يرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْم الْقِيَامَة دون الْكفَّار لقَوْله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} فَأخْبر أَن الْكَافرين محجوبون عَن رُؤْيَة الله تَعَالَى وَأخْبر أَن الْوُجُوه الناظرة وَهِي المشرقة وَهِي وُجُوه الْمُؤمنِينَ المخلصين هِيَ الناظرة إِلَى رَبهَا يَوْمئِذٍ فَدلَّ هَذَا التَّقْيِيد وَهَذَا النَّص على أَن الْكَافرين لَا يرَوْنَ الله تَعَالَى وَمَا كنت أَظن أَن أحدا قَالَ بِرُؤْيَة الْكفَّار سوى ابْن سلم الْبَصْرِيّ وَكَانَ مذْهبه مزهودا فِيهِ عِنْد الْعلمَاء مرغوبا عَنهُ مبتدعا فِيهِ عِنْد عُلَمَاء الْعرَاق والحجاز ويهجنونه بذلك وينسبونه إِلَى الْبِدْعَة لهَذَا القَوْل حَتَّى رَأَيْته لهَذَا المُصَنّف وَقد خص بذلك أَيْضا بعض الْكَافرين لِأَنَّهُ قَالَ أَن الْمُنَافِقين وَبَعض أهل الْكتاب يرَوْنَ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ ابْن سلم يذهب إِلَى أَن سَائِر الْكَافرين يرونه ثمَّ وجدت هَذَا المُصَنّف تعلق فِي ذَلِك بِخَبَر رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَقَالَ سَأَلنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا يَا رَسُول الله هَل نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ هَل تضَارونَ فِي الشَّمْس لَيْسَ دونهَا سَحَاب قَالَ قُلْنَا لَا قَالَ فَهَل تضَارونَ فِي الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ دونه سَحَاب قَالَ قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنَّكُم ترَوْنَ ربكُم كَذَلِك يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وَيُقَال من كَانَ يعبد شَيْئا فليتبعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فَيتبع الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الشَّمْس الشَّمْس فيتساقطون فِي النَّار وَيتبع الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الْقَمَر الْقَمَر فيتساقطون فِي النَّار وَيتبع الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام الْأَصْنَام والأوثان الْأَوْثَان وكل من كَانَ يعبد من دون الله شَيْئا فيتساقطون فِي النَّار وَيبقى الْمُؤْمِنُونَ ومنافقوهم بَين أظهرهم وبقايا من أهل الْكتاب قَالَ وقللهم بِيَدِهِ فَيُقَال لَهُم أَلا تتبعون مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نعْبد الله وَلم نر الله قَالَ فَيكْشف عَن سَاق فَلَا يبْقى أحد كَانَ يسْجد لله إِلَّا خر سَاجِدا وَلَا يبْقى أحد كَانَ يسْجد رِيَاء وَسُمْعَة إِلَّا وَقع على قَفاهُ وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذِه الْأَخْبَار إِلَّا على ظَهره طبق كلما أَرَادَ أَن يسْجد خر على قَفاهُ ثمَّ قَالَ ترفع رؤسنا وَقد عَاد لنا فِي صورته الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أول مرّة فَنَقُول نعم أَنْت رَبنَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ يضْرب الجسر على جَهَنَّم قَالَ رَسُول الله فَأَكُون أول من يجوز من الرُّسُل بأمتي وَلَا يتَكَلَّم يَوْمئِذٍ أحد إِلَّا الرُّسُل وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وَتبقى هَذِه الْأمة فِيهَا منافقوها فيأتيهم الله فِي غير صورته فَيَقُول {أَنا ربكُم} فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه هَذَا مَكَاننَا حَتَّى يأتينا رَبنَا فَإِذا جَاءَ رَبنَا عرفنَا فيأتيهم الله فِي صورته الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُولُونَ أَنْت رَبنَا فيدعوهم وَيضْرب الصِّرَاط بَين ظَهْري جَهَنَّم وَذكر فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر وَيبقى الْمُسلمُونَ فَيطلع عَلَيْهِم رب الْعَالمين فَيَقُول أَلا تتبعون النَّاس فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك الله رَبنَا وَهَذَا مَكَاننَا حَتَّى نرى رَبنَا وَهُوَ يَأْمُرهُم ويثبتهم ثمَّ يتَوَارَى ثمَّ يطلع فَيَقُول أَلا تتبعون النَّاس فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك الله رَبنَا وَهَذَا مَكَاننَا حَتَّى نرى رَبنَا وَهُوَ يَأْمُرهُم ويثبتهم قَالُوا هَل نرَاهُ يَا رَسُول الله قَالَ وَهل تمارون فِي رُؤْيَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر قَالُوا لَا يَا رَسُول الله قَالَ فَإِنَّكُم لَا تمارون فِي رُؤْيَته تِلْكَ السَّاعَة ثمَّ يتَوَارَى تِلْكَ السَّاعَة ثمَّ يطلع عَلَيْهِم فيعرفهم بِنَفسِهِ فَيَقُول {أَنا ربكُم فَاتبعُوني} فَيقوم الْمُسلمُونَ وَيُوضَع الصِّرَاط وهم يجوزون على مثل جِيَاد الْخَيل والركاب وَقَوْلهمْ عَلَيْهِ سلم سلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وَذكر فِي بعض أَلْفَاظه أَيْضا قَالَ ثمَّ يتَمَثَّل الله لِلْخلقِ فيلقي الْيَهُود فَيَقُول {من تَعْبدُونَ} إِلَى ان قَالَ حَتَّى يلقى الْمُسلمين فَيَقُول من تَعْبدُونَ فَيَقُولُونَ نعْبد الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا فَيَقُول {هَل تعرفُون ربكُم سُبْحَانَهُ} فَيَقُولُونَ إِذا اعْترف لنا عَرفْنَاهُ فَعِنْدَ ذَلِك يكْشف عَن سَاق وَلَا يبْقى مُؤمن وَلَا مُؤمنَة إِلَّا خر سَاجِدا وَاحْتج أَيْضا بِحَدِيث سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ فَيلقى العَبْد فَيَقُول ألم أكرمك ألم أسودك ألم أسخر لَك الْخَيل وَالْإِبِل ألم أزَوجك وأتركك ترأس وتربع قَالَ بلَى يَا رب قَالَ أفظننت أَنَّك ملاقي قَالَ لَا يارب قَالَ فاليوم ننساك كَمَا نسيتني قَالَ ثمَّ يلقى الآخر فَيَقُول مَا أَنْت فَيَقُول أَنا عَبدك آمَنت بك وَنَبِيك وكتابك وَصمت وَصليت وتصدقت ويثني بِخَير مَا اسْتَطَاعَ فَيُقَال لَهُ أَفلا نبعث عَلَيْك شَاهدا قَالَ فيكفر فِي نَفسه من الَّذِي يشْهد عَلَيْهِ قَالَ فيختم على فِيهِ وَيُقَال لفخذه انْطِقِي فَتَنْطِق فَخذه ولحمه وعظامه بِمَا كَانَ يعْمل فَذَلِك الْمُنَافِق وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ليعذر من نَفسه وَذَلِكَ الَّذِي يسْخط الله عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ يُنَادي مُنَاد أَلا تتبع كل أمة مَا كَانَت تعبد قَالَ فَيتبع الشَّيَاطِين والصليب أولياؤهم إِلَى جَهَنَّم وَبَقينَا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيَأْتِينَا رَبنَا فَيَقُول على مَا هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ نَحن عباد الله الْمُؤْمِنُونَ آمنا بربنا وَلم نشْرك بِهِ شَيْئا وَهُوَ رَبنَا وَهُوَ يأتينا وَهُوَ يثبتنا وَهُوَ أقامنا حَتَّى يأتينا فَيَقُول أَنا ربكُم فَانْطَلقُوا فننطلق حَتَّى نأتي الجسر وَعَلِيهِ كلاليب من نَار يخطف عِنْد ذَلِك حلت الشَّفَاعَة اللَّهُمَّ سلم اللَّهُمَّ سلم فَإِذا جاوزوا الجسر فَكل من كَانَ أنْفق زَوْجَيْنِ من المَال فِي سَبِيل الله مِمَّا يملكهُ فَكل خَزَنَة الْجنَّة يَقُول يَا عبد الله يَا مُسلم تَعَالَى هَذَا خير لَك قَالَ أَبُو بكر يَا رَسُول الله إِن هَذَا عَبدِي لَا توى عَلَيْهِ يدع بَابا ويلج من آخر فَضرب كتفه وَقَالَ إِنِّي لَا أَرْجُو أَن تكون مِنْهُم // أخرجه الْأَمَام مُسلم // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فصل الْجَواب عَن ذَلِك أعلم إِنَّمَا ذكرنَا أَلْفَاظ هَذِه الْأَخْبَار وانتقيناها من مَجْمُوع كَلَامه لنرى لَا حجَّة لَهُ فِيهِ على مَا قَالَ ثمَّ نبين بعد ذَلِك تَأْوِيل مَا كَانَ فِيهِ مُشكلا من اللَّفْظ وَتظهر صِحَة مَعْنَاهُ على الْوَجْه الَّذِي يَلِيق بِاللَّه جلّ ذكره وَلَا يُؤَدِّي إِلَى تَشْبِيه بخلقه وَقد ذكرنَا فِيمَا قبل بعض هَذِه الْأَلْفَاظ وَبينا تَأْوِيله وَطَرِيق تَخْرِيجه وَتَفْسِيره على الْوَجْه الصَّحِيح وَلَكنَّا نذْكر الْآن مالم يضمنهُ كلامنا قبل ليَكُون مَا نذْكر مَعَ مَا سبق ذكره جَامعا لما يَهْتَدِي بِهِ إِلَى تَأْوِيله على الْوَجْه الصَّحِيح فَأَما مَا ذكره هَذَا الْقَائِل من أَن بعض أهل الْكتاب وَالْمُنَافِقِينَ يرَوْنَ الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة رُؤْيَة إمتحان وإختبار لَا رُؤْيَة فَرح وإبتهاج إحتجاجا بِهَذَا الْخَبَر فَلَا دَلِيل فِيهِ وَذَلِكَ أَن أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث تَدور على ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا مَا قيل فِيهِ فكشف عَن سَاق ويخرون لَهُ سجدا وَلَيْسَ فِي ذَلِك ذكر اللِّقَاء وَلَا إِثْبَات رُؤْيَة الْمُنَافِقين وَقد فسرنا معنى قَوْله {يكْشف عَن سَاق} على مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ يكْشف عَن سَاق عَن شدَّة أَو يكْشف عَن أَمر عَظِيم يُرِيد بِهِ هَؤُلَاءِ من أهوال الْقِيَامَة وَلم يذكر فِي هَذَا الْخَبَر رُؤْيَة الْكفَّار لله عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فَأَما الْوَجْه الثَّانِي فَهُوَ مَا قيل فِيهِ فَيطلع الله عَلَيْهِم فَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يخْتَص بِمَعْنى الرُّؤْيَة لِأَن الأطلاع عَلَيْهِم قد يكون بِغَيْر أَن يردوه بِأَن يظْهر لَهُم فعلا من أَفعاله وعلما من أَعْلَامه وَآيَة من آيَاته وَأما قَوْله فَيَقُولُونَ أَلا تتبعون النَّاس فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك أَي من هَذَا القَوْل الَّذِي تدعونا إِلَيْهِ فِيهِ إِلَى إتباع النَّاس وَهَذَا يدل على أَن ذَلِك لم يكن رُؤْيَة إِذْ لَو كَانَ ذَلِك رُؤْيَة عين لقالوا نَعُوذ بك مِنْك من هَذَا القَوْل وَلم يَقُولُوا نَعُوذ بِاللَّه مِنْك فَدلَّ على أَن هَذَا الإطلاع على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يخْتَص معنى الرُّؤْيَة فَلَا دلَالَة فِيهِ على ان الْكَافرين يرَوْنَ رَبهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ معنى قَوْله بعد ذَلِك ثمَّ يتَوَارَى ثمَّ يطلع فَيَقُول أَلا تتبعون النَّاس فِي أَن ذَلِك يرجع إِلَى خلق من خلقه وَملك من مَلَائكَته يناديهم بِأَمْر الله عز وَجل ويخاطبهم عَن وحيه فَيكون التواري والإطلاع رَاجعا إِلَيْهِ دون أَن يكون رَاجعا إِلَى الله عز وَجل فَأَما قَوْله ثمَّ يَقُول انا ربكُم فاتبعون فَلَيْسَ فِيهِ أَيْضا مَا يدل على رُؤْيَة الْكفَّار لله عز وَجل لِأَن هَذَا خطاب وَلَيْسَ فِيهِ معنى الرُّؤْيَة وَلَا ذكر فِيهِ أَنهم يرونه بل فِيهِ أَنه يخاطبهم بذلك وَقد يجوز أَن يُخَاطب الْخلق من غير أَن يروه فَأَما مَا قيل فِي الْخَبَر الآخر ثمَّ يتَمَثَّل الله لِلْخلقِ فَيلقى الْيَهُود فَيَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 من تَعْبدُونَ وَأعلم أَنه لَا يجوز أَن يكون لله تَعَالَى مِثَال يتَمَثَّل بِهِ لِلْخلقِ لإستحالة أَن يكون لَهُ شبه أَو مثل بِوَجْه من الْوُجُوه وَإِذا لم يجز ذَلِك احْتمل معنى هَذَا الْكَلِمَة أَن يُقَال فِيهِ إِنَّه أَرَادَ أَن خلقا من خلقه يتَصَوَّر لَهُم من الْمَلَائِكَة يخاطبهم بِأَمْر الله تَعَالَى وَيُقَال على التَّوَسُّع تمثل الله بخلقه وَالْمرَاد بِهِ مَلَائكَته ووليه كَمَا أَنهم يَقُولُونَ فِي اللُّغَة ضرب الْأَمِير اللص وَإِنَّمَا أَمر بِهِ فنسب إِلَيْهِ الْفِعْل إِذا كَانَ عَن أمره وَإِذا كَانَ كَذَلِك وأستحال أَن يكون لله تَعَالَى من خلقه مِثَال وَجب أَن يحمل على مَا قُلْنَا وَأَن يكون التَّمْثِيل لِلْخلقِ هُوَ الَّذِي يلقِي الْيَهُود ويخاطبهم عَن الله بقوله من تَعْبدُونَ فَأَما معنى قَوْله فِي الْخَبَر الآخر فيأتيهم الله فِي صورته الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُولُونَ أَنْت رَبنَا فقد تقدم تَأْوِيل ذَلِك وَبينا أَنه نَظِير مَا فِي الْآيَة من قَوْله جلّ ذكره {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي تَأْوِيله أَن مَعْنَاهُ بظلل من الْغَمَام وَأَن فِي بِمَعْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الْبَاء وَكَذَلِكَ قَوْله فيأتيهم فِي غير صورته بِمَعْنى بِغَيْر صورته وَإِضَافَة الصُّورَة إِلَيْهِ من طَرِيق الْملك وَقيل أَيْضا أَن الْآتِي فِي غير صورته غير الله جلّ ذكره بِدلَالَة قَوْله إِنَّهُم يَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك وَلَو كَانَ الْآتِي هُوَ الله لَكَانَ قَوْلهم نَعُوذ بك وَلم يَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك حَتَّى يأتينا رَبنَا هَذَا مَكَاننَا وَأما قَوْله وَيَقُولُونَ فَإِذا جَاءَ رَبنَا عَرفْنَاهُ فَتَأْوِيل مَجِيء الرب على مَا تقدم ذكره فِي تَأْوِيل الْآيَة من قَوْله {وَجَاء رَبك} وَأَن ذَلِك بِظُهُور فعل لَا بتحويل من مَكَان إِلَى مَكَان وَأما قَوْله فيأتيهم الله فِي صورته الَّتِي يعْرفُونَ فَمَعْنَاه يَأْتِيهم بصورته الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُولُونَ أَنْت رَبنَا وَمعنى ذَلِك أَن الْإِتْيَان فعل من أَفعَال الله عز وَجل أَو فعل بعض مَلَائكَته فيضاف إِلَيْهِ من طَرِيق أَنه يَقع بأَمْره فَأَما قَوْلهم أَنْت رَبنَا فَيحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يُقَال إِن مَعْنَاهُ أَنْت رَبنَا يخاطبنا صدقا فيتحققون نداءه وخطابه أَنه عَن الله تَعَالَى وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك عَن تجلي الله للْمُؤْمِنين من خلقه فَيَقُولُونَ عِنْد رُؤْيَتهمْ لَهُ وَظُهُور تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ مِمَّا أضيف إِلَى الله تَعَالَى ملكا وخلقا أَنْت رَبنَا إعترافا بالربوبية وفصلا بَين حَالهم وأحوال الْكفَّار الجاحدين فَأَما مَا رتب عَلَيْهِ هَذَا الْقَائِل هَذَا الْخَبَر مَعَ الْآيَة فِي قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} وَأَن ذَلِك يرجع إِلَى الْكَافِر الجاحد وَأَن الْمُنَافِق وَإِن كَانَ بِقَلْبِه مُكَذبا فَهُوَ بِلِسَانِهِ مقرا وَأَن الله تَعَالَى ذكره يُرِيهم نَفسه رُؤْيَة إمتحان وإختبار ليَكُون عجبه إيَّاهُم بعد ذَلِك رُؤْيَة حسرة عَلَيْهِم وندامة فَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَة إِلَى ترتيبه على هَذَا الْوَجْه من قبل أَن مَا ذكر من الْأَخْبَار لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على إِثْبَات رُؤْيَة الْمُنَافِقين والآي ناطقة بتخصيص النّظر إِلَى الرب يَوْم الْقِيَامَة للْمُؤْمِنين وبحجب الْكَافرين وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَلَيْسَ للنَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا قَولَانِ على الْوَجْه الَّذِي بَينا بَان لَك أَن هَذِه مقَالَة محدثة لم يسْبق هَذَا الْقَائِل إِلَيْهَا حَتَّى فصل بَين الْكَافرين من أهل الْكتاب وَغَيرهم وَبَين الْمُنَافِق وَالْمقر وَبَين الجاحد وَإِذا كَانَ كَذَلِك علمت أَن مَا ذكر من أَلْفَاظ هَذِه الْأَخْبَار فمعناها مَحْمُولَة على مَا ذكرنَا على الْوَجْه الَّذِي لَا يُؤَدِّي إِلَى تَمْثِيل الله عز وَجل بخلقه مَعَ قبُول الْخَبَر إِفَادَة مَعْنَاهُ وَبَان لَك فَسَاد مَا اخْتَار هَذَا الْقَائِل من إِثْبَات رُؤْيَة الْكَافِر لله تَعَالَى ذكره وَأَن لَا تعلق فِيمَا احْتج بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فصل آخر ثمَّ ذكر صَاحب هَذَا الْكتاب الملقب بِالتَّوْحِيدِ بَابا فِي إِثْبَات ضحك الرب تَعَالَى فَقَالَ ضحك لَا يشبه ضحك المخلوقين كَمَا أَن كَلَامه لَا يشبه كَلَام الْمَخْلُوق وَقَالَ إِنَّا نؤمن بِأَنَّهُ يضْحك رَبنَا كَمَا أعلمنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسكت عَن صفة ضحكه جلّ وَعلا إِذْ الله اسْتَأْثر بِصفة ضحكه فَلم يطلعنا على ذَلِك ثمَّ ذكر حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن آخر من يدْخل الْجنَّة رجل يمشي على الصِّرَاط فَينكب مرّة وَيَمْشي مرّة أُخْرَى إِلَى أَن قَالَ فِي آخر الْخَبَر فَيَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى مَا يرضيك مني أَي عَبدِي أيرضيك أَن أُعْطِيك من الْجنَّة مثل الدُّنْيَا وَمثلهَا مَعهَا قَالَ فَيَقُول أتهزأ بِي يارب وَأَنت رب الْعِزَّة قَالَ فَضَحِك عبد الله حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه ثمَّ قَالَ أَلا تسألونني لم ضحِكت فَقَالُوا لم ضحِكت قَالَ لضحك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أَلا تسألونني لم ضحِكت فَقَالُوا لم ضحِكت يَا رَسُول الله قَالَ لضحك الرب تبَارك وَتَعَالَى حِين قَالَ أتهزأ بِي يَا رب وَأَنت رب الْعِزَّة // أخرجه مُسلم وَذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة إِن النَّاس قَالُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا رَسُول الله هَل نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ وَقَالَ يبْقى رجل بَين الْجنَّة وَالنَّار وَهُوَ آخر أهل الْجنَّة دُخُولا مقبل بِوَجْهِهِ على النَّار فَيَقُول يَا رب اصرف وَجْهي عَن النَّار فقد أحرقني ذكاؤها وقشبني رِيحهَا فَيَقُول الله عز وَجل هَل عَسَيْت أَن فعل بك أَن تسْأَل غير ذَلِك فَيَقُول لَا وَعزَّتك فيعطي ربه مَا شَاءَ من عهد وميثاق فَيصْرف وَجهه عَن النَّار فَذكر الحَدِيث فَيَقُول أولست قد أَعْطَيْت العهود والمواثيق أَن لَا تسْأَل غير هَذَا الَّذِي أَعطيتك فَيَقُول يَا رب لَا تجعلني أَشْقَى خلقك فيضحك الله // اخرجه مُسلم // مِنْهُ ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 فصل آخر ذكر مَا يجب أَن نبين مَا فِي الْفَصْل من اللَّفْظ أعلم أَن وصف الله عز وَجل بالضحك على مَا ورد بِهِ الْخَبَر مُطلق سَائِغ وَأما على توهم هَذَا الْقَائِل أَنه ضحك صفة كَالْكَلَامِ فخطأ وَقد بَينا فِيمَا قبل تَأْوِيل الْأَخْبَار الَّتِي رُوِيَ فِيهَا الضحك وفسرناه وبيناه وَبينا وَجهه وأوضحنا أَن أصل معنى الضحك فِي اللُّغَة هُوَ الظُّهُور والبروز والإيضاح على وَجه مَخْصُوص مِنْهُ قَالَ ضحِكت الأَرْض بالنبات إِذا ظهر نباتها وَمِنْه قَول الْقَائِل وَالْأَرْض تضحك من بكاء السَّمَاء وسقيها أَي بِظُهُور زهرتها ونورها من مطر السَّمَاء وسقيها وَأَن معنى وصف الله جلّ ذكره بِهِ من الضحك فَهُوَ على معنى إِظْهَار ألطافه وفوائده ومننه ونعمه وَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْخَبَر أَن يظْهر نعمه ومننه لهَذَا الدَّاخِل أخيرا الْجنَّة وَلَيْسَ ذَلِك ضحك كَمَا توهم وَلَا الْأَمر فِيهِ كَمَا قدر أَنه مِمَّا اسْتَأْثر الله عز وَجل بِعِلْمِهِ فَلم يطلع على ذَلِك خلقه وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاطبنا بلغَة الْعَرَب وَإِذا وجدنَا لكَلَامه وَجها فِي اللُّغَة صَحِيح الْمَعْنى مُفِيدا حملناه عَلَيْهِ وَلم يُنكر أَن يكون ذَلِك هُوَ المُرَاد وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل تَارَة يروي الحَدِيث وَيتَكَلَّم فِي مَعْنَاهُ وَتارَة يَقُول نسكت لِأَن الله لم يطلعنا عَلَيْهِ وَالطَّرِيق فيهمَا وَاحِد وَكلما أمكن اسْتِدْرَاك مَعْنَاهُ من جِهَة اللُّغَة واستقامت الْفَائِدَة فِيهِ لم يُنكر أَن يحمل الْخَبَر عَلَيْهِ وَلَا معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 لِأَن يُقَال إِن ذَلِك مِمَّا لَا يُوقف على مَعْنَاهُ وَأَن الله جلّ ذكره اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاطبنا بِهِ ليفيدنا وخاطبنا بلغَة مَعْرُوفَة وَطَرِيقَة معقولة وَلم يعلمنَا أَن ذَلِك مِمَّا لَا يعلم أَو أَن لَهُ معنى غير مَا يُمكن التَّوَصُّل إِلَيْهِ من طَرِيق اللُّغَة فَأَما معنى قَوْله أتهزأ بِي وَأَنت رب الْعِزَّة توسع فِي الْخطاب وَمَعْنَاهُ أَن مثله إِنَّمَا يَقُوله الهازئ لعبد رجائه مِمَّا أطمع فِيهِ وَإِنَّمَا استخرج الله تَعَالَى مِنْهُ ذَلِك على هَذَا الْوَجْه من الْخطاب وَمَعْنَاهُ ليعلمنا أَنه الَّذِي لَا يَنْقَطِع عَنهُ رَجَاء عبيده كَيفَ تصرفت بهم الْأَحْوَال وَأَنَّهُمْ أبعد مَا كَانُوا من الرَّجَاء من رَحمته بمقربة مِنْهَا حَتَّى يَكُونُوا أقرب إِلَيْهَا فِي الْحَال الَّتِي كَانُوا عِنْدهم أبعد مِنْهَا وَهَذِه بِشَارَة من الله جلّ ذكره للْمُؤْمِنين برحمته لِئَلَّا يياسوا مِنْهَا فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ قيل فِي الْخَبَر لم ضحِكت يَا رَسُول الله فَقَالَ ضحِكت لضحك الرب قيل إِن ضحك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَغَيُّر يحدث فِيهِ يظْهر عِنْده فرحة وَضحك الرب إِظْهَار نعمه وفضله وَرَحمته وَمعنى الْخَبَر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أظهر فَرحا وسرورا بِمَا يظْهر الله عز وَجل من نعمه وفضله وَرَحمته على من كَانَ من أمته فِي أبعد حَالَة من رَجَاء ظُهُور مثلهَا فِيهِ من النعم شكرا لله جلّ إسمه على مَا يخص بِهِ الأشقياء من أمته وَإِلَّا بعد من رَحمته ثمَّ ذكر صَاحب هَذَا الْكتاب أبوابا من شَفَاعَة النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلم يكن ذَلِك مِمَّا يَقْتَضِي ذكر الْكَلَام فِي التَّوْحِيد وَمَعَ ذَلِك فَلم يَجِيء فِيهِ شَيْء مِمَّا يجب أَن يبين الْخَطَأ فِيهِ من طَرِيق التَّوْحِيد فاعرضنا عَنهُ إنتهى مَا أَخذ على ابْن خُزَيْمَة رَحمَه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فصل آخر فِيمَا ذكره الصبغي من كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات ثمَّ سَأَلَني بعد ذَلِك عِنْد انتهائنا إِلَى هَذَا الْموضع من كتَابنَا أَن نتأمل ايضا مَجْمُوع الشَّيْخ أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب ابْن خُزَيْمَة وَهُوَ الْكتاب الَّذِي سَمَّاهُ كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات فتأملنا ذَلِك فوجدناه قد رتب أبوابه على الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وابتدأ بِذكر الْأَمر بِالْإِيمَان بالمتشابه وَحكى عَن بعض السّلف أَن مَا ذكره من الْمُتَشَابه فِي الْكتاب وَالسّنة من بَاب الصِّفَات وَأَسْمَاء الرب تَعَالَى وَأَنه تمر كَمَا جَاءَت بِلَا كَيفَ وَذكر ابْن عُيَيْنَة أَنه قَالَ كَمَا وصف الله تَعَالَى بِهِ نَفسه فقراءته تَفْسِير فَلَيْسَ لأحد أَن يفسره إِلَّا الله عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فصل الْجَواب أعلم أَنا قد ذكرنَا فِي مُقَدّمَة هَذَا الْكتاب أَن كل مَا كَانَ لنا طَرِيق إِلَى مَعْرفَته من طَرِيق اللُّغَة وَأفَاد معنى صَحِيحا إِذا حمل عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُنكر أَن يُقَال إِن المُرَاد بِهِ بذلك إِذا كَانَ مُوَافقا بني عَلَيْهِ أصل التَّوْحِيد وَلم يقتض وَجها من وُجُوه التَّمْثِيل لله عز وَجل بخلقه وَبينا أَن مَا قَالَ بعض السّلف من ذكر الْكَفّ مَحْمُول على أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون أَرَادَ بِهِ أَمر من لَيْسَ من أَهله فِي استنباط تَأْوِيله والتطرق إِلَى معرفَة مَعْنَاهُ أَو يكون ذَلِك عِنْد تعذر الطَّرِيق إِلَى مَعْنَاهُ فأبانوا أَن ذَلِك لَيْسَ بِفَرْض وَأَن من كف عَنهُ تَسْلِيمًا لأمر تعذر الطَّرِيق أَن لَا يعْتَقد فِيهِ إعتقادا فَاسِدا يُؤَدِّي إِلَى تَشْبِيه الله عز وَجل بخلقه لم يكن فِي حرج وَذكرنَا أَن سَائِر مَا ذكر من هَذَا الْبَاب مِمَّا جمعهَا الجامعون فِي تصانيفهم مِمَّا يُمكن تَخْرِيج مَعْنَاهُ على الْوَجْه الصَّحِيح من غير تَشْبِيه وَلَا تَمْثِيل وَأَن لكل ذَلِك طَرِيقا فِي اللُّغَة يشْهد لصِحَّته وَيبين مَعْنَاهُ فَوَجَبَ أَن يكون معنى قَوْله {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم} على مَا قُلْنَا أَن الراسخين فِي الْعلم يعلمونه وَمَعَ ذَلِك يصدقون بِهِ ويعترفون بِصِحَّتِهِ وَأَن معنى مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ نزل الْقُرْآن على خَمْسَة أوجه حَلَال وَحرَام ومحكم ومتشابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وأمثال فأحلوا الْحَلَال وحرموا الْحَرَام وأعملوا بالمحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال // أخرجه ابْن الغريس // على مَا قُلْنَا أَنه يعلم الراسخون فِي الْعلم مُؤمنين بِهِ وَكَذَلِكَ معنى مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْأَمر ثَلَاثَة أَمر مُبين رشده فَاتبعهُ وَأمر مُبين غيه فاجتنبه وَأمر اخْتلف فِيهِ فكله إِلَى الله تَعَالَى وَذكر الحَدِيث وَمَعْنَاهُ أَن مَا اخْتلف فِيهِ موكول إِلَى الله تَعَالَى اي هُوَ مَرْدُود إِلَى كتاب الله وَإِلَى مَا بَينه وأحكمه وأوضح وَجهه وَهُوَ معنى قَوْله عز ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله} مَعْنَاهُ إِلَى كتاب الله لتبينوا الْحق فِيهِ بِهِ وَقد أشبعنا هَذَا الْكَلَام فِي أول هَذَا الْكتاب بِمَا يُغني عَن رده وعرفناكم طريقتنا فِي متشابه الْقُرْآن وَالسّنة وَإِنَّا لَا نقطع القَوْل بِأَن فِيهِ مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل بل يجوز أَن يكون لأهل الْعلم طَرِيق إِلَى معرفَة ذَلِك يتوصلون إِلَيْهَا بالفكرة والإستنباط ثمَّ تأملنا بعد ذَلِك مَا ذكر من الْأَخْبَار مِمَّا يدْخل فِي النَّوْع الَّذِي وَضعنَا كتَابنَا لتأويله وتخريجه ونبين مَعْنَاهُ فَكل مَا وجدنَا فِيهِ من زِيَادَة لَفظه لم يدْخل فِيمَا تقدم ذكره مِمَّا يَقْتَضِي تَأْوِيلا أضفناه إِلَى مَا تقدم وَذَكَرْنَاهُ وَبينا وَجهه فَمن ذَلِك أَنه ذَلِك فِي بَاب الْعين الحَدِيث الَّذِي ذكر فِيهِ الدَّجَّال من حَدِيث شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس مَجْلِسا فَحَدثهُمْ عَن الْأَعْوَر الدَّجَّال فَقَالَ اعلموا أَن الله صَحِيح لَيْسَ بأعور وَقد بَينا مَا فِيهِ فِيمَا قبل هَذَا الْخَبَر وَذكرنَا أَن مَا قيل فِيهِ إِن الدَّجَّال أَعور وَأَن ربكُم لَيْسَ بأعور أَن المُرَاد بِهِ نفي النَّقْص عَن الله عز وَجل لَا إِثْبَات الْجَارِحَة وَأما هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي ذكرهَا فِي هَذَا الْخَبَر من قَوْله اعلموا أَن الله صَحِيح فمؤيدة لما تقدم ذكره أَن المُرَاد بِنَفْي النَّقْص لَا إِثْبَات الْجَارِحَة وَمعنى وصف الله جلّ ذكره بِصَحِيح إثْبَاته على غَايَة الْكَمَال فِي صِفَات الْمَدْح والتعظيم وَمن كَمَال صِفَات الْمَدْح والتعظيم إثْبَاته بَصيرًا وَأَن لَهُ بصرا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 صفة لَهُ قَائِمَة بِهِ لَا قَائِمَة بجارحة لإستحالة وَصفه بالجوارح والآلات ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَيْضا زِيَادَة لَفظه فِي معنى الرُّؤْيَة عَن عَاصِم بن لَقِيط بن عَامر خرج وافدا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه صَاحبه قَالَ فأتينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين انْصَرف من صَلَاة الصُّبْح قَالَ وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فتخرجون من مصارعكم تنْظرُون إِلَيْهِ وَينظر إِلَيْكُم وَقد بَينا فِيمَا قبل أَن معنى مَا يُوصف الله عز وَجل بِهِ من النّظر إِلَى الشَّيْء فَهُوَ بِمَعْنى نظر التعطف وَالرَّحْمَة وَعَلِيهِ يحمل قَوْله وَينظر إِلَيْكُم أَي يَرْحَمكُمْ ويتعطف عَلَيْكُم فِي مصارعكم وَمثله فِي حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَمَا أهل الْجنَّة فِي نعيمهم إِذا سَطَعَ لَهُم فَرفعُوا رؤوسهم فَإِذا الرب عز وَجل قد أشرف عَلَيْهِم من فَوْقهم فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم يَا أهل الْجنَّة فَذَلِك قَول الله تَعَالَى {سَلام قولا من رب رَحِيم} فَقَالَ فَينْظر إِلَيْهِم وَيَنْظُرُونَ فَلَا يلتفتون إِلَى شَيْء من النَّعيم مَا داموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ينظرُونَ وَذكر الحَدِيث وَأعلم أَن النّظر أَيْضا لَا يمْنَع أَن يكون المُرَاد التعطف وَالرَّحْمَة وَأَن الله عز وَجل يتعطف عَلَيْهِم فيرديهم نَفسه جلّ وَتَعَالَى وَمثله مَا رُوِيَ عَن كَعْب أَنه قَالَ مانظر الله إِلَى الْجنَّة قطّ إِلَّا قَالَ طيبي لأهْلك وَقَالَ فازدادت طيبا إِلَى مَا كَانَ سبعين ضعفا وَهَذَا ايضا نظر تعطف وَرَحْمَة لِأَنَّهُ إِظْهَار نعم الله وتجديد كراماته ولسنا ننكر النّظر بِمَعْنى الرُّؤْيَة إِذا كَانَ مَقْرُونا بإلى وَكَانَ مَعَه ذكر الْوَجْه مُضَافا إِلَيْهِ بإلى وَلَكِن أَكثر مَا ذكر فِي هَذِه الْأَخْبَار من لفظ النّظر فَالْمَعْنى فِيهِ نظر التعطف وَالرَّحْمَة وَأما معنى قَوْله {إِذا سَطَعَ لَهُم نور} فَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بِهِ مَا يَتَجَدَّد من كرامات الله عز وَجل وتأييدهم بألطافه وإسعادهم بِمَا يزيدهم من معارفهم وأنوارها فَعِنْدَ ذَلِك يرفعون لَهُ رؤوسهم على معنى مَا يُقَال رفع فلَان رَأسه إِذا ارْتَفَعت حَاله عَن إنخفاض أَي بِمَا يَتَجَدَّد لَهُم فِي الْكَرَامَة يزدادون رفْعَة فَعِنْدَ ذَلِك أشرف عَلَيْهِم الرب من فَوْقهم وَمعنى ذَلِك من فَوق رجائهم لأَنهم لم يطمعوا حِينَئِذٍ فِي رُؤْيَته فيرون الله عز وَجل ويتجدد لَهُم لَذَّة الرُّؤْيَة من غير استشراف وإنتظار وَيُؤَيّد الْخَبَر الآخر وَهُوَ مَا قيل فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 إِن مُنَادِي الرب يُنَادي أهل الْجنَّة أَن لكم عِنْد الله موعدا يُرِيد أَن ينجزكموه فَيَقُولُونَ ألم تبيض وُجُوهنَا ألم ألم فيتجلى لَهُم الرب عز وَجل عِنْد ذَلِك فأبان هَذَا الْخَبَر أَن رُؤْيَة الله جلّ ذكره تكون لَهُم مبادهة من غير إستشراف وَلَا توقع وَهَكَذَا نعيم أهل الْجنَّة لَيْسَ لأَهْلهَا فِي شَيْء مِنْهُ إنتظار وأفضلها وأتمها عِنْدهم رُؤْيَتهمْ لله جلّ وَعز فعلى هَذَا يتَأَوَّل الْخَبَر لإستحالة الْمُقَابلَة على الله جلّ ذكره للأجسام والتحيز فِي الْجِهَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فصل آخر ثمَّ ذكر فِي ذَلِك أَخْبَارًا فِي ذكر مَا أضيف إِلَى الله عز وَجل من الْوَجْه وَقد مضى تَأْوِيل ذَلِك على الْوَجْه الصَّحِيح من مَذْهَبنَا غير أَنا نزيدك إيضاحا هَا هُنَا ونقول إِن جَمِيع مَا ذكر فِي الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة من الْوَجْه الْمُضَاف إِلَى الله عز ذكره لَا يَخْلُو من معَان أَحدهَا مَا أَرَادَ بِهِ الْإِخْلَاص كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجاء يَوْم الْقِيَامَة بصحف مختومة فتنصب بَين يَدي الله فَيَقُول عز وَجل للْمَلَائكَة ألقوا وَأَقْبلُوا قَالَ فَيَقُول الْمَلَائِكَة وَعزَّتك مَا رَأينَا إِلَّا خيرا فَيَقُول وَهُوَ أعلم إِن هَذَا كَانَ لغير وَجْهي وَلَا أقبل الْيَوْم من الْأَعْمَال إِلَّا مَا ابْتغِي بِهِ وَجْهي // أخرجه الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ // وكنحو مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من بنى مَسْجِدا ابْتغى بِهِ وَجه الله بني لَهُ مثله فِي الْجنَّة // أخرجه الْأَمَام أَحْمد وكنحو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن كنت لحالفا عَلَيْهِنَّ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ينقص مَال من صَدَقَة فصدقوا وَلَا يعْفُو رجل عَن مظْلمَة يَبْتَغِي بهَا وَجه الله إِلَّا رَفعه الله بهَا يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يفتح رجل على نَفسه بَاب مَسْأَلَة إِلَّا فتح الله عَلَيْهِ بَاب فقر فَهَذَا النَّحْو من الْأَخْبَار بِمَعْنى ذكر الْوَجْه فِيهِ الْإِخْلَاص لله بِالطَّاعَةِ وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يُرَاد بِذكر الْوَجْه الْمُضَاف إِلَى الله عز وَجل صفته على حسب مَا يَقُول وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} وَكَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن رَبك سَأَلَني مَا جَزَاء من أذهبت كريمتيه فِي الدُّنْيَا فَقلت لَا علم لي إِلَّا مَا علمتني قَالَ جَزَاؤُهُ الْخلد فِي دَاري وَالنَّظَر إِلَى وَجْهي وَكَقَوْلِه وَمَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا إِلَى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه وَمثله مَا رُوِيَ فِي تَأْوِيل قَوْله عز وَجل {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} عَن أبي بكر أَنه قَالَ الزِّيَادَة النّظر إِلَى وَجه رَبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَمثله مَا رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول فِي دبر كل صَلَاة بسطت يدك فَأعْطيت وَلَك الْحَمد رَبنَا وَجهك أكْرم الْوُجُوه وَمثله مَا رُوِيَ فِيمَا تقدم ذكره من الْخَبَر فِي قَوْله لَو كشفها لأحرقت سبحات وَجهه كل شَيْء أدْركهُ بَصَره فَأَما الْوُجُوه بِمَعْنى الذَّات فَلَا يُوجد فِي اللُّغَة أصلا وَالْوَجْه الثَّانِي الَّذِي بِمَعْنى الْجَارِحَة فَلَا يَلِيق بِاللَّه عز وَجل وَقد بَينا تَأْوِيل قَوْله {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} وَأَنه بِمَعْنى فثم أَمر الله الَّذِي لَهُ الْوَجْه فعلى ذَلِك فرتب كلما ورد عَلَيْك من الْوَجْه فِي السّنَن وَالْأَخْبَار وآي الْكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فصل آخر ثمَّ ذكر بعد ذَلِك مَا رُوِيَ من الْأَخْبَار فِي ذكر الْعين وَقد تقدم شَرحه غير أَنه رُوِيَ فِي خبر عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ {إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا} فَوضع أُصْبُعه الدعاءة على عينه وإبهامه فِي أُذُنه وَقد بَينا تَأْوِيل ذَلِك وَأَن الْفَائِدَة فِيهِ إِنْكَار قَول من ذهب إِلَيْهِ من الْبدع إِلَى أَن معنى الْعين مَا وصف بِهِ جلّ وَعز أَنه سميع بَصِير أَنه عليم لَا على إِثْبَات سمع وبصر على الْحَقِيقَة إِلَّا بِمَعْنى الْعلم وَلم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِثْبَات جارحة لإستحالة وَصفه بالجوارح بل أَرَادَ تَحْقِيق معنى السّمع وَالْبَصَر فِي وَصفه على غير معنى الْعلم وَبِذَلِك على ذَلِك أَن الْجَارِحَة معراة عَن السّمع وَالْبَصَر لَا تمدح بِكَوْنِهَا وَلما قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِدْحَة تَعَالَى بذلك وَجب أَن يحمل عَلَيْهِ وَهَذَا كَمَا أَشَارَ إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر عِنْد تَحْقِيق الرُّؤْيَة ليعلمهم أَنه مرئي بالأبصار لَا على معنى الْعلم كَمَا أَن الله تَعَالَى مرئي بالبصر على معنى أَنه مَعْلُوم فَقَط وَلم يرد تَشْبِيها بالبدر وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْقِيق الرُّؤْيَة على الْوَجْه الَّذِي يمْنَع تَأْوِيل الْعلم وَمثله مَا رُوِيَ فِي خبر آخر قَالَ كَانَ ملك فِي بني إِسْرَائِيل نذر أَن يمشي على ثدي النِّسَاء ففرشت لَهُ النِّسَاء فَجعل يمشي على صدورهن فَبينا هُوَ يمشي على صدر إمرأة مِنْهُنَّ إِذْ رفعت رَأسهَا إِلَى السَّمَاء فَقَالَت اللَّهُمَّ إِن هَذَا بِعَيْنِك فَقَالَ تَعَالَى {على تمرد يَا أَرض خذيه} قَالَ فخسفت بِهِ الأَرْض وَالنَّاس ينظرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَهَذَا مِمَّا ذكر فِيهِ الْعين مُضَافا إِلَيْهِ جلّ ذكره وَقد بَينا أَن ذَلِك مِمَّا لَا يمْتَنع وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ عين جارحة وَلَكِن المُرَاد عين صفة كَمَا قُلْنَا فِي الْيَد وَالْوَجْه أَو يكون المُرَاد بِهِ الْبَصَر كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض أَصْحَابنَا وَقد رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار مَا يُؤَيّدهُ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِنَّكُم لَا تدعون أَصمّ وَلَا غَائِبا إِنَّكُم تدعون سميعا بَصيرًا // أخرجه الامام أَحْمد // فنفى الصمم وَالنَّقْص والعمى عَنهُ وَأثبت السّمع وَالْبَصَر فَدلَّ ذَلِك على تَحْقِيق معنى وَصفه بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تبَارك الَّذِي وسع سَمعه كل شَيْء وَأثبت لَهُ سمعا وَلم تثبت لَهُ أذنا فدلت على أَن صفته الَّتِي يُوصف بهَا مِمَّا يَنْفِي النَّقْص من الصم عَنهُ هُوَ السّمع لَا الْجَارِحَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فصل ثمَّ ذكر بعد ذَلِك السّنَن المأثورة فِي ذكر الْيَد المضافة إِلَى الله تَعَالَى وَاتبع هَذَا الْبَاب بِمَا رُوِيَ فِيهِ من ذكر الْكَفّ والقبضة وَالْيَمِين وَقد تقدم شرح أَكثر هَذِه الْأَخْبَار إِلَّا إِنَّا نذْكر جملَة تقف على تَخْرِيج جَمِيعًا وَأعلم أَن الْيَد فِي اللُّغَة تسْتَعْمل على معَان مِنْهَا الْجَارِحَة وَالْملك وَالنعْمَة وَمَا أضيف إِلَى الله جلّ ذكره من ذَلِك مِمَّا هُوَ بِمَعْنى الْجَارِحَة فِيمَا بَينا فَهُوَ بِمَعْنى الصّفة فِي وَصفه لإستحالة وَصفه بالجوارح وَصِحَّة وَصفه بِالصِّفَاتِ وَقد يُضَاف إِلَيْهِ الْيَد على معنى الْملك وَالْقُوَّة وَالنعْمَة وَالْقُدْرَة أَيْضا وَإِنَّمَا نميز بَين مَعَانِيهَا بمواضعها الْمَذْكُورَة فِيهَا قرَاءَتهَا المقترنة بهَا فَأَما معنى قَوْله جلّ وَعز {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خلق الله آدم يَوْم الْجُمُعَة بِيَدِهِ فَهُوَ بِمَعْنى الصّفة لَا يَلِيق بِهِ معنى النِّعْمَة وَالْقُوَّة وَالْملك وَكَذَلِكَ قَوْله كتب بِيَدِهِ على نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 و {أَن رَحْمَتي تغلب غَضَبي} فَهَذَا لَا يَلِيق بِهِ إِلَّا بِمَعْنى الصّفة فَأَما مَا يَلِيق بِهِ معنى الْملك وَالْقُدْرَة مِمَّا أضيف إِلَى الله جلّ ذكره من الْيَد فَكَمَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول فِي دبر كل صلَاته لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير // أخرجه الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ // فَهَذَا يحْتَمل معنى الْقُدْرَة وَالْملك وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكون الأَرْض خبْزَة وَاحِدَة يتكافأها الْجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يتكافأ أحدكُم خبزه فِي السّفر نزلا لأهل الْجنَّة وَأما الَّذِي يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بِهِ النِّعْمَة مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخَبَر الَّذِي تقدم ذكره فَوضع يَده بَين كَتِفي فَوجدت برد أنامله وَقد بَينا أَن الْمَعْنى فِي ذَلِك مَا وصل إِلَى قلبه من نعم الله وألطافه وَقد تكون الْيَد أَيْضا مُضَافَة إِلَيْهِ بِمَعْنى النُّصْرَة والمعونة وَذَلِكَ يرجع إِلَى معنى النِّعْمَة كَمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَد الله على الْجَمَاعَة فاتبعوا السوَاد الْأَعْظَم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 يَد الله مَعَ القَاضِي حَتَّى يقْضِي وَيَد الله مَعَ الْقَاسِم حَتَّى يقسم وَيَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَإِذا شَذَّ الشاذ مِنْهُم اختطفه الشَّيْطَان وَالَّذِي هُوَ بِمَعْنى الْملك أَيْضا كَقَوْلِه كثيرا فِي الْأَخْبَار المروية عَنهُ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لآنية حَوْضِي أَكثر من عدد النُّجُوم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَن فَاطِمَة سرقت لقطعتها // أخرجه الطَّبَرَانِيّ // وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أقتل فِي سَبِيل الله // أخرجه البُخَارِيّ // فَأَما مَا رُوِيَ فِي هَذَا من ذكر الْيَمين نَحْو قَوْله يخرج كل طيب بِيَمِينِهِ وَقَوله ثمَّ مسح إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْأُخْرَى فقد تقدم بَيَانه وَأَن المُرَاد بِهِ ظُهُور فعل ظهر من بعض خلقه من الْمَلَائِكَة أضيف إِلَيْهِ على معنى أَنه عَن أمره كَانَ كَقَوْلِهِم قطع الْأَمِير اللص فَأَما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا تصدق أحد بِصَدقَة من طيب إِلَّا أَخذهَا الرَّحْمَن بِيَمِينِهِ وَإِن كَانَت ثَمَرَة فتربى فِي كف الرَّحْمَن حَتَّى تكون أعظم من الْجَبَل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فَإِن الْيَمين هَهُنَا بِمَعْنى النِّعْمَة وَالْفضل وَذَلِكَ بفضله فِي الْقبُول وتضعيف الثَّوَاب عَلَيْهَا وَالْمرَاد بالكف الْقُدْرَة أَيْضا كَمَا قَالَ الْقَائِل هون عَلَيْك فَإِن الْأُمُور بكف الْإِلَه مقاديرها وَمثله مَا روى نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ على الْمِنْبَر {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} قَالَ مطوية فِي كَفه يَرْمِي بهَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَام بالكرة فَهَذَا يرجع أَيْضا إِلَى معنى الْقُدْرَة والقبضة يرجع مَعْنَاهَا إِلَى الْملك كَقَوْل الْقَائِل مَا هَذَا الدَّار إِلَّا فِي قبضتي وَلَيْسَ يُرِيد قَبْضَة الْجَارِحَة وَكَذَلِكَ معنى مَطْوِيَّات فانيات من قَوْلك اطو هَذَا الْأَمر والْحَدِيث يَعْنِي أفنه أَي أسكت واقطعه فَقدر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الْمعَاد فِي نفوس الْمُشْركين المنكرين لَهُ وَأَن ذَلِك مِمَّا لَا يُنكر فِي قدرته وَكَذَلِكَ شبهه برمي الْغُلَام بالكرة فَهَذَا يرجع أَيْضا إِلَى معنى الْقُدْرَة تَحْقِيقا لما أَرَادَ من معنى الْقُدْرَة فَأَما مَا روى أَبُو هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَد الله ملأى لَا ينقصها نَفَقَة سحاء اللَّيْل وَالنَّهَار مذ خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِن ذَلِك لم ينقص مِمَّا فِي كف الله شَيْئا وَالْيَد الْأُخْرَى فِيهَا الْمِيزَان يخْفض وَيَضَع وَيرْفَع فَيحْتَمل أَن يُقَال إِن المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 يَد الله ملأى لَا ينقصها نَفَقَة أَي نعْمَة وأياديه وفضله وَقَوله مَا فِي كف الله أَي مِمَّا فِي قدرته على مَا تقدم تَأْوِيله وَقَوله الْيَد الْأُخْرَى فِيهَا الْمِيزَان يخْفض وَيَضَع وَيرْفَع وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِشَارَة إِلَى الْعدْل وَالْفضل وَأَنه إِذا بسط نعمه وفضله لم ينقص مِمَّا فِي يَدَيْهِ شَيْء بِأَن يعجزه وَإِذا أعدل بِحَق ملكه لَهُم فيهم خفض وَرفع وَبسط وَقبض وَكَذَلِكَ مَا روى الْحسن عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ مَا الْتَقت فئتان قطّ إِلَّا وكف الله بَينهمَا فَإِذا أَرَادَ أَن يهْزم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أمال كَفه عَلَيْهَا فَهَذَا أَيْضا يرجع إِلَى معنى الْقُدْرَة وَإِظْهَار النُّصْرَة والخذلان فَهَذَا ايضا يرجع إِلَى معنى الْقُدْرَة مَا رُوِيَ عَن كَعْب أَن السَّفِينَة تجْرِي على كف الرَّحْمَن أَي أَنَّهَا تجْرِي بقدرته وَأَن الله عز وَجل هُوَ الْمسير لَهَا وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر} فَأَما مَا روى حَكِيم بن هِشَام أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله أنبتدئ الْأَعْمَال أم قد قضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قَالَ إِن الله لما أخرج ذُرِّيَّة آدم من ظَهره أشهدهم على أنفسهم ثمَّ أَفَاضَ بهم فِي كفيه فَقَالَ هَؤُلَاءِ للجنة وَهَؤُلَاء للنار فَمَعْنَى ذَلِك يرجع إِلَى نَوْعي الْعدْل وَالْفضل فِي مقدوراته المقدورة فِي أُمُور عباده وَأَنه قد سبق حكمه لفريق بِالْفَضْلِ ولآخرين بِالْعَدْلِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ من الْأَصَابِع والأنامل فَمَحْمُول على أحد مَعْنيين إِمَّا على النِّعْمَة وَالْفضل كَمَا يُقَال لفُلَان على أصْبع حسن وَالْمرَاد بذلك أثر حسن من طَرِيق النِّعْمَة أَو يُرَاد بِهِ الْقُدْرَة كَمَا يُقَال مَا فلَان إِلَّا فِي قبضتي وَتَحْت أُصْبُعِي وَأما مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن ابْني مليكَة أَتَيَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِن أمنا كَانَت تكرم الزَّوْج وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأقوم على يَمِين الرَّحْمَن مقَاما لَا يقومه أحد غَيْرِي فَالْمُرَاد بذلك أحد تأويلين أَحدهمَا فأقوم على يَمِين عرش الرَّحْمَن فَذكر الرَّحْمَن وَأَرَادَ عَرْشه كَمَا قَالَ {واسأل الْقرْيَة} وَأَرَادَ أَهلهَا وَأَشَارَ إِلَى مقَام أوليائه أَصْحَاب الْيَمين وَالثَّانِي أَن يكون مَعْنَاهُ مَا يظْهر لَهُ من نعم الله وكرامته وَذَلِكَ بِأَن يقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 مقَاما يظْهر الله عز وَجل من فَضله لَهُ مَا يبين بِهِ من سَائِر الْأَنْبِيَاء والمقربين وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن يَمِين الْجِهَة ويسار الْجِهَة من صفة الْأَجْسَام المحدودة وَكَذَلِكَ معنى مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن على يَمِين الرَّحْمَن مَنَابِر وكراسي عَلَيْهَا رجال وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مد الله الأَرْض مد الْأَدِيم حَتَّى لَا يكون لبشر من النَّاس إِلَّا مَوضِع قدمه فَأَكُون أول من أدعى وَجِبْرِيل عَن يَمِين الرَّحْمَن وَمعنى ذَلِك على مَا تقدم من الْوَجْهَيْنِ إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ يَمِين عرش الرَّحْمَن أَو يُرَاد بِهِ تقريب الْمنزلَة وَتَحْقِيق الرّفْعَة وَالْعَظَمَة وَأما مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يجاء بهم يَوْم الْقِيَامَة فيوقفون على جسر جَهَنَّم فَمن كَانَ مطواعا لله تنَاوله الله عز وَجل بِيَمِينِهِ حَتَّى ينجيه وَمعنى ذَلِك مَا يلْحقهُ من رَحْمَة الله وَكَرمه وعفوه وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم اسْتِعْمَال الْعَرَب الْيَمين فِي معنى الرَّحْمَة وَالنعْمَة وَالْفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وَأما مَا روى أَبُو أُمَامَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله خلق الْخلق وَقضى الْقَضِيَّة وعرشه على المَاء فَأخذ أهل الْيَمين بِيَمِينِهِ وَأهل الشمَال بِشمَالِهِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَبُو مُوسَى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله عز وَجل يَوْم خلق آدم قبض قبضتين فَقَالَ هَؤُلَاءِ أهل الْيَمين وَلَا أُبَالِي أَصْحَاب الْجنَّة وَهَؤُلَاء أهل الشمَال وَلَا أُبَالِي أَصْحَاب النَّار فكلا الْخَبَرَيْنِ مطعون فِي إسنادهما أما حَدِيث أبي مُوسَى فَإِن يزِيد الرقاشِي فِيهِ نظر وَحَدِيث أبي أُمَامَة فجعفر بن الزبير فِيهِ نظر على أَنه إِن ثَبت يؤؤل ذَلِك على مَا قُلْنَا فِيمَا قبل أَنهم هم الذُّرِّيَّة لأَنهم خلقُوا من جَانِبي آدم خلق الْمُؤمنِينَ من يَمِينه والكافرين من شِمَاله وَالْيَمِين وَالشمَال لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَذَلِكَ يرجع إِلَى المخلوقين فهما من الْخلق وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لما رُوِيَ فِي الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق موثوق بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وكلتا يَدي الرَّحْمَن يَمِين وَبينا فِيمَا قبل أَن فَائِدَة ذَلِك التَّنْبِيه على نفي الْجَوَارِح لِأَن الْيَمين الَّتِي بِمَعْنى الْجَارِحَة لَا بُد أَن يكون مَا يقابلها يسارا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وكلتا يَدَيْهِ يَمِين} حَدِيث وَلَيْسَ أَيَّة قرانية إِشَارَة إِلَى نفي التَّشْبِيه والجارحة وَلم يثبت لَفظه فِي خبر من طَرِيق صَحِيح بِذكر الشمَال مُضَافا إِلَيْهِ جلّ ذكره فرتب على مَا ذكرنَا لَك جَمِيع مَا ورد عَلَيْك من هَذِه الْأَخْبَار من لفظ الْيَد والكف وَالْيَمِين والأصبع والقبضة والأنامل من غير أَن تخرج عَن جملَة مَعَاني مَا ذكرنَا فَتخرج إِلَى طَرِيق الضلال والهلاك ترشد إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فصل آخر ثمَّ ذكرنَا بعد ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ذكر السَّاق والقدم وَالرجل الْيُمْنَى وَالْأُخْرَى فَروِيَ فِي حَدِيث ذكر السَّاق وَحَدِيث الرُّؤْيَة وَمَا رُوِيَ فِيهِ هَل بَيْنكُم وَبَينه آيَة تعرفونها فَيُقَال السَّاق فَيكْشف عَن سَاق فَيسْجد لَهُ كل مُؤمن وَأعلم أَن هَذَا الْخَبَر مِمَّا تقدم الْبَيَان فِي تَأْوِيله وأوضحنا أَنه لَا يجوز أَن يُقَال لله سَاق أَو يكْشف عَن سَاقه من قبل أَن الْأَلْفَاظ المروية فِي الْأَخْبَار وَمَا ورد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم من ذَلِك قَوْله {يَوْم يكْشف عَن سَاق} سُورَة الحاقة آيَة 42 فَإِنَّمَا ورد مُطلقًا غير مُضَاف وَلَا مُقَيّد وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس تَأْوِيل ذَلِك وَأَن مَعْنَاهُ يَوْم يكْشف عَن شدَّة وَإِن ذَلِك كَلَام الْعَرَب لأَنهم يَقُولُونَ قَامَت الْحَرْب على سَاق أَي على شدَّة وروى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله {يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ عَن نور عَظِيم وَورد لفظ النُّور مُطلقًا أَيْضا غير مُضَاف إِلَى الله جلّ ذكره فَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِي ذَلِك مَا يَتَجَدَّد لَهُم عِنْد رُؤْيَة الله عز وَجل من الْفَوَائِد والمكاشفات والألطاف الَّتِي تظهر لسرائرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فَأَما مَا رُوِيَ من الْأَخْبَار فِي الرجل فَمن ذَلِك مَا روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُميَّة بن أبي الصَّلْت فِي بَيْتَيْنِ من شعره (رجل وثور تَحت رجل يَمِينه ... والنسر لِلْأُخْرَى وَلَيْث مرصد) فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدق وروى عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تحتاجه الْجنَّة وَالنَّار وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ وَأما أهل النَّار فَإِنَّهُم يلقون فِيهَا فَتَقول هَل من مزِيد فَلَا تمتلئ حَتَّى يضع فِيهَا رجله وَرُوِيَ حَدِيث عمَارَة بن عَامر عَن أم الطُّفَيْل امْرَأَة أبي بن كَعْب أَنَّهَا قَالَت سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر أَنه رأى ربه فِي الْمَنَام وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ الرجل الْجَواب أعلم أَنا ذكرنَا هَذَا الْخَبَر فِيمَا تقدم وَبينا تَأْوِيله وَذكرنَا أَنه يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِيهِ مَا يَضَعهُ الله فِي النَّار من الْكفَّار وهم الْخلق الكثيرون فتمتلئ جَهَنَّم بهم وَأَنه سمي ذَلِك رجلا على عَادَة الْعَرَب فِي تَسْمِيَة الْجَمَاعَة رجلا لأَنهم يَقُولُونَ للجراد الْكثير رجل وَيَقُولُونَ جَاءَت رجل من الْجَرَاد يعنون بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 جمعا كثيرا وَيحْتَمل أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بِالرجلِ هَهُنَا الْخلق الْكثير وَإِضَافَة إِلَى الله تَعَالَى على طَرِيق الْملك وَالْفِعْل فَأَما مَا فِي بَيت أُميَّة بن أبي الصَّلْت فَيحْتَمل أَن يُقَال إِنَّه أَرَادَ يَمِين الْعَرْش ويساره وَأَن هَذِه الْأَمْلَاك الَّتِي تحمل الْعَرْش مِنْهُم من هُوَ قَائِم عَن يَمِين الْعَرْش وَمِنْهُم من هُوَ قَائِم عَن يسَاره فَأَما مَا رُوِيَ فِي ذكر الرجل فِي رُؤْيا النّوم فقد مضى بَيَانه وَإنَّهُ لَا يُنكر أَن يكون الشَّيْء يرى فِي الْمَنَام على خلاف مَا هُوَ بِهِ وَقد بَينا لذَلِك وُجُوهًا أخر قَرِيبا وَهُوَ أَن يكون رأى صُورَة على تِلْكَ الْهَيْئَة رأى الله تَعَالَى فِيهَا على معنى أَنه رَآهُ عِنْد رُؤْيَته لَهُ وَذَلِكَ على أحد مَعْنيين أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ أَنه لم يلههم النّظر إِلَيْهِ عَن ذكر الله عز وَجل ورؤيته لَهُ بِالْقَلْبِ وَالثَّانِي أَن يكون مَعْنَاهُ أَنه رأى ربه فِيهَا مُعْتَبرا بهَا لِأَنَّهُ رأى الْهَيْئَة وَالصُّورَة لله جلّ ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 فصل آخر ثمَّ ذكر بعد ذَلِك سننا وأخبارا كَثِيرَة يُرِيد بذكرها نَص القَوْل بِأَن الله تَعَالَى لم يزل وَلَا يزَال وينكر قَول من حكى عَنهُ أَو يتَوَهَّم عَلَيْهِ أَنه يَقُول إِن الله لم يتَكَلَّم إِلَّا مرّة ثمَّ لم يتَكَلَّم بعد ذَلِك وَلَيْسَ فِي جَمِيع مَا ذكره مَا يُنكر غير أَنه قد أوهم بِرِوَايَة هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي ذكرهَا أَن الله عز وَجل يتَكَلَّم كلَاما بعد كَلَام وَيَقُول قولا بعد قَول وَإِن لم ينص عَلَيْهِ بتصريح هَذِه الْعبارَة وَالْأولَى فِي ذَلِك أَن يُقَال إِن كَلَام الله لم يزل وَلَا يزَال مَوْجُودا فَإِنَّهُ يفهم خلقه مَعَاني كَلَامه أَولا فأولا وشيئا فَشَيْئًا وَأَن الَّذِي يَتَجَدَّد الأسماع والإفهام دون المسموع الْمَفْهُوم وَقد ذكر فِي هَذَا الْقدر مَا يُغني عَن ترداد الْأَخْبَار فِيهِ وإبهام الْخَطَأ بِأَن تكلم فِي وَقت كَذَا وَتكلم فِي وَقت كَذَا لأجل أَن كَلَامه لَا يخص الْأَوْقَات والأزمان كَمَا أَن علمه وسَمعه وَقدرته لَا يَصح أَن يُقَال فِيهِ شَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد الْمَعْلُوم والمقدور بحدوثه شَيْئا بعد شَيْء دون الْعلم بِهِ وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ وَالَّذِي ذكره من الْأَخْبَار نَحْو مَا رُوِيَ أَن الله تكلم بَعْدَمَا خلق آدم يَوْم أَخذ الْمِيثَاق وَتكلم لما خلق ذُرِّيَّة آدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وَتكلم لما خلق الْعقل وَتكلم لما خلق الْجبَال وَتكلم بعد أَن بعث إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد أَن بعث أَيُّوب وَبعد أَن بعث يُوسُف ومُوسَى وَأورد من ذَلِك وَكثر وَأعلم أَنه كَمَا يُنكر قَول من قَالَ إِن الله لم يتَكَلَّم إِلَّا مرّة وَاحِدَة كَذَلِك يُنكر قَول من قَالَ إِن الله تكلم مرّة بعد أُخْرَى لِأَن كل ذَلِك يُوجب حدث الْكَلَام فَإِن قيل أَلَيْسَ قد رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله عز وَجل ناجى مُوسَى بثمان مائَة ألف كلمة وَأَرْبَعين الف كلمة وَصَايَا كلهَا قيل إِن ذَلِك يرجع إِلَى تكسير الإسماع والإفهام لَا إِلَى معنى الْكَلَام الَّذِي لم يزل فَأَما كَلَام الله الَّذِي هُوَ صفة من صِفَات ذَاته غير بَائِن مِنْهُ فَكَلَام وَاحِد شَيْء وَاحِد يفهم مِنْهُ وَيسمع مَالا يُحْصى وَلَا يعد من الْفَوَائِد والمعاني وَنَظِير ذَلِك مَا نقُول إِن علمه وَاحِد وَلكنه يُحِيط بمعلومات لَا تتناهى وَالَّذِي تقع عَلَيْهِ الْكَثْرَة والقلة المعلومات دون الْعلم وَهَذَا هُوَ معنى جملَة مَا ذكر من هَذِه الْأَخْبَار على كثرتها من قَوْله قَالَ الله وَيَقُول الله وَلَيْسَ المُرَاد تَكْرِير القَوْل وتجديده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فصل آخر فَإِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ قد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله عز وَجل تكلم ويكلم عباده بعد أَن يُقيم الْقِيَامَة وكما قَالَ عز وَجل {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم} و {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت} وَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعدي بن حَاتِم مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وسيكلمه الله لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان // مُتَّفق عَلَيْهِ // قيل هَذَا رَاجع إِلَى التكليم والأفهام لَا إِلَى تَجْدِيد الْكَلَام وَمِثَال ذَلِك مِثَال الأسماع من سَمعه والتعليم من علمه وَالتَّقْدِير من قدرته فِي بَاب أَنه عَنهُ يصدر وَلَا يكون هُوَ نَفسه وَالْمرَاد بذلك أَن يفهمهم خطابه يَوْم الْقِيَامَة من غير ترجمان فَإِذا حاسبهم يَوْم الْقِيَامَة أفهمهم كَلَامه وأسمعهم خطابه من غير وَاسِطَة لَا كَمَا أفهمهم فِي الدُّنْيَا بوسائط الرُّسُل والكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ثمَّ ذكر فِي تَرْجَمَة بَاب أوهم فِيهِ مَا لَيْسَ هُوَ الْمَذْهَب وَذَلِكَ أَنه قَالَ فِي تضاعيف هَذِه الْأَبْوَاب الَّتِي ذكرهَا من هَذَا النَّوْع ذكر الْآي المتلوة وَالسّنَن المأثورة فِي أَن الرب تَعَالَى لَا يزَال يتَكَلَّم إِلَى أَبَد الْأَبَد قَالَ الله تَعَالَى {وَالله يَقُول الْحق} وَقَالَ {فَالْحق وَالْحق أَقُول} ثمَّ ذكر فِي ذَلِك حَدِيث سعيد بن الْمسيب أَنه لَقِي أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة أسأَل الله أَن يجمع بيني وَبَيْنك فِي سوق الْجنَّة قَالَ سعيد وفيهَا سوق قَالَ نعم وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة حَدثنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أهل الْجنَّة إِذا دخلوها نزلُوا فِيهَا بِفضل أَعْمَالهم فَيُؤذن لَهُم فِي مِقْدَار يَوْم الْجُمُعَة من أَيَّام الدُّنْيَا فيزورون الله وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة قلت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا رَسُول الله هَل نرى رَبنَا قَالَ نعم هَل تمارون فِي رُؤْيَة الشَّمْس وَفِي الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر قُلْنَا لَا قَالَ وَكَذَلِكَ لَا تمارون فِي رُؤْيَة ربكُم فَلَا يبْقى فِي ذَلِك الْمجْلس أحد إِلَّا حاضره الله محاضرة حَتَّى أَنه ليَقُولن الله جلّ ثَنَاؤُهُ للرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 يَا فلَان أَتَذكر يَوْم عملت كَذَا وَكَذَا ويذكره بِبَعْض غدراته فِي الدُّنْيَا فَيَقُول يَا رب ألم تغْفر لي فَيَقُول بلَى فتسعه ومغفرته وَاعْلَم بِأَن إِطْلَاق القَوْل بِأَن الله عز ذكره لَا يزَال يتَكَلَّم إِلَى الْأَبَد يُوهم الْخَطَأ وَأَنه يَتَجَدَّد لَهُ كَلَام بعد كَلَام وَمَا يَتَجَدَّد فَهُوَ حَادث وكما لَا يجوز أَن يُقَال إِن الله لَا يزَال يعلم إِلَى الْأَبَد لِأَنَّهُ يُوهم الْخَطَأ كَذَلِك القَوْل فِي الْكَلَام وَالصَّحِيح أَن يُقَال إِن كَلَام الله لم يزل وَلَا يزَال وَأَنه مسمع من يَشَاء من خلقه وَمِنْهُم من أَرَادَ مِنْهُم إفهامه فِي الْوَقْت الَّذِي يُرِيد أَن يسمعهُ ويفهمه مَا يُرِيد من ذَلِك من غير تَجْدِيد قَول وَلَا كَلَام وَإِذا قيل فِي أَلْفَاظ هَذِه الْأَخْبَار فَيَقُول الله وَيتَكَلَّم الله فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ تَجْدِيد الأسماع والأفهام لِلْقَوْلِ الَّذِي لم يزل فعلى ذَلِك تَرْتِيب كل مَا ورد من الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا من هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي نصصتها مِمَّا يُوهم حُدُوث قَول الله وتجديد شَيْء مِنْهُ بعد شَيْء وَيجب أَن تعلم أَن ذَلِك مُرَتّب على مَا قُلْنَا لَا على الْوَجْه الَّذِي يَقْتَضِي حُدُوث كَلَام الله وتجدد كَلَام لَهُ بعد كَلَام فعلى ذَلِك رتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فصل آخر ثمَّ ذكر فِي تَرْجَمَة بَاب ذكر كَيْفيَّة تكلم الله جلّ وَعز بِالْوَحْي فَذكر حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَوَات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون ويرون أَنه من أَمر السَّاعَة ثمَّ قَرَأَ {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} وَأعلم أَنه قد بَينا قبل معنى هَذَا الْخَبَر وَأَن الصلصلة لِلسَّمَوَاتِ وَهِي مُضَافَة إِلَيْهَا فِي الْخَبَر نصا وَمعنى ذَلِك مَا يخلق من الْعبارَات عَن كَلَامه وَأَن يكون أصواتا مخلوقة فِي غَيره هِيَ أصوات لغيره وَلَو قَالَ فِي هَذِه التَّرْجَمَة الْبَيَان عَن معنى تكليم الله بِالْوَحْي خلقه لَكَانَ أولى لِأَن الْكَلَام والمتكلم شَيْء وَاحِد وَأما التكليم فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ هُوَ صفة الْكَلَام يُوصف بهَا الْكَلَام إِذا أفهم المخاطبين مُرَاده بِمَا يحدثه من الْعبارَات والكنايات وَلَيْسَ لتكلم الله كَيْفيَّة وَلِأَن مَا ذكره فِي الْخَبَر فِي بَيَان التَّرْجَمَة وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان التكليم لَا إِثْبَات التَّكَلُّم وَقد رُوِيَ فِي خبر آخر أَيْضا أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا قضى الله الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت الْمَلَائِكَة بأجنحتها خضعانا لقَوْله كَأَنَّهَا سلسلة على صَفْوَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فَبين أَن تِلْكَ الْأَصْوَات أصوات أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة وَأَن ذَلِك عِنْد قَضَائِهِ أمرا وتجديده فعلا وَلَيْسَ ذَلِك يرجع إِلَى حُدُوث الْكَلَام وَكَذَلِكَ مَا ذكره بعد كَيْفيَّة نزُول الْوَحْي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا ذكر فِيهِ من خبر عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن الْحَارِث بن هِشَام سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ كَيفَ يَأْتِيك الْوَحْي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْيَانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وَهُوَ أَشد عَليّ فَيفْصم عني وَقد وعيت عَنهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانا يتَمَثَّل لي الْملك رجلا وَيتَكَلَّم فأعي مَا يَقُول // أخرجه البُخَارِيّ // قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَلَقَد رَأَيْته ينزل عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الشَّديد الْبرد فَيفْصم عَنهُ وَإِن جَبينه ليقطر عرقا وَأعلم أَن ذَلِك مِمَّا يدلك على مَا قُلْنَا من حُدُوث الْعبارَات فَتَارَة يسْمعهَا من الْملك فَيسمع كَلَام الله عِنْدهَا وَتارَة يَتَجَدَّد لَهُ فهم بإبتداء بِمَا يُرِيد الله تَعَالَى من مَعَاني مخاطباته بِالْأَمر وَالنَّهْي وكل مَا يرجع إِلَى الْعبارَات والكنايات فَحكمه الْحُدُوث وَأما الْمَكْتُوب الْمعبر فَهُوَ كَلَام الله جلّ ذكره وَلَيْسَ نزُول الْوَحْي على معنى إنتقال شَيْء من مَكَان إِلَى مَكَان وَلكنه يحدث فِيهِ وَيسمع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا سَمعه ويفهمه من كَلَام الله تَارَة عِنْد حُدُوث عباراته من أصوات وَغَيرهَا وَتارَة عِنْد حُدُوث فهم وَعلم إبتداء وَقد يُسمى كَلَام الله وَحيا كَمَا يُسمى الْعبارَة عَنهُ وَحيا وَهَذَا كَمَا يُسمى الْكَلَام وتلاوته قُرْآنًا وَأَحَدهمَا متلو وَالْآخر تِلَاوَة وَقد تقدم تفصيلنا لذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 فصل آخر ثمَّ ذكر بعد ذَلِك بَاب إستواء الله تَعَالَى على الْعَرْش وَذكر فِيهِ آي الْكتاب وَقد روى بعد ذَلِك أَخْبَارًا فقد ذكرنَا تَأْوِيل الإستواء فِي مَوْضِعه وَأما الْأَخْبَار الَّتِي ذكرهَا فَمِنْهَا حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد المطلب أَنه كَانَ جَالِسا فِي الْبَطْحَاء فِي عِصَابَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس فيهم إِذْ مرت عَلَيْهِم سَحَابَة فنظروا إِلَيْهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل تَدْرُونَ مَا اسْم هَذِه قَالُوا نعم هَذِه السَّحَاب قَالَ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمزن قَالُوا والمزن والعنان ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل تَدْرُونَ كم بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض قَالُوا وَالله مَا نَدْرِي قَالَ فَإِن بعد مَا بَينهمَا إِمَّا وَاحِدَة أَو إثنان أَو ثَلَاث وَسَبْعُونَ سنة وَالسَّمَاء الثَّانِيَة فَوْقهَا كَذَلِك حَتَّى عد سبع سموات ثمَّ فَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَحر بَين أَعْلَاهُ وأسفله كَمَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء ثمَّ فَوق ذَلِك ثَمَانِيَة أَو عَال مَا بَين أظلافهن وركبهن كَمَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء ثمَّ فَوق ظهورهن الْعَرْش بَين أَسْفَله وَأَعلاهُ مَا بَين سَمَاء إِلَى سَمَاء وَالله تَعَالَى فَوق ذَلِك // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وَذكر أَيْضا بعده حَدِيث جُبَير بن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه عَن جده قَالَ أَتَى أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله جهدت الْأَنْفس وضاعت الْعِيَال وَهَلَكت الْأَنْعَام فاشفع لنا إِلَى رَبك فَإنَّا نستشفع بك على الله تَعَالَى ونستشفع بِاللَّه عَلَيْك قَالَ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحك أَتَدْرِي مَا تَقول وَسبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا زَالَ يسبح حَتَّى عرف ذَلِك أَو عرف فِي وَجهه أَصْحَابه ثمَّ قَالَ إِنَّه لَا يستشفع بِاللَّه على أحد من خلقه شَأْن الله أعظم وَيحك أَتَدْرِي مَا الله إِن عَرْشه على سمواته وأرضه لَهُ كَذَا بأصابعه مثل الْقبَّة عَلَيْهَا وَإنَّهُ ليئط أطيط الرحل بالراكب // أخرجه ابْن حميد // أعلم أَن حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد المطلب لَيْسَ فِيهِ مَا يجب أَن نبين مَعْنَاهُ سوى قَوْله {وَالله تَعَالَى فَوق ذَلِك} وَقد ذكرنَا فِيمَا قبل معنى وصف الله سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ فَوق خلقه وَأَن ذَلِك رَاجع إِلَى فوقية الْمنزلَة والمرتبة وفوقية الْقُدْرَة وَالْعَظَمَة وَأما الْفَوْقِيَّة بالمسافة وَالْمَكَان فمحال فِي وَصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وَفَائِدَة الْخَبَر تعريفنا أَنه عز ذكره مِمَّن لَا يدْخل بَين طبقتين وَلَا مِمَّن هُوَ فِي كل مَكَان كَمَا ذهب إِلَيْهِ المخالفون وَإِذا استفدنا بِهَذَا الْخَبَر تَكْذِيب هذَيْن الْفرْقَتَيْنِ فِي دعواهما على الله أَنه يحل فِي بعض الْمَخْلُوقَات ويوصف أَنه فِي كل مَكَان رَجَعَ تَأْوِيل الْخَبَر إِلَى مَا نقُول أَنه أَرَادَ بِهِ أَنه غير مختلط وَلَا ممتزج بِشَيْء من خلقه وَأَنه بَائِن مِمَّا خلق بينونة الصّفة والنعت لَا بالتحيز وَالْمَكَان والجهة فَأَما حَدِيث جُبَير بن مطعم فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَأْوِيلا أَكثر من قَوْله وَأَنه ليئط أطيط الرحل بالراكب وَذَلِكَ يرجع إِلَى الْعَرْش وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَن الله تَعَالَى مماس لَهُ مماسة الرَّاكِب لرحله بل فَائِدَة الْخَبَر أَنه يسمع للعرش أطيط الرحل إِذا ركب وَيحْتَمل أَيْضا تَأْوِيلا آخر وَهُوَ أَن يُقَال مَعْنَاهُ أطيط الْمَلَائِكَة وضجيجهم بالتسبيح حول الْعَرْش فأضيف الأطيط إِلَى الْعَرْش وَالْمرَاد بِهِ الطائفون بِهِ وَهَذَا سَائِغ فِي اللُّغَة كَمَا قَالَ واستب بعْدك يَا كُلَيْب الْمجْلس وَإِنَّمَا المُرَاد أهل الْمجْلس كَذَلِك تَقول الْعَرَب اجْتمعت الْيَمَامَة وَالْمرَاد أَهلهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ بَنو فلَان يطؤهم الطَّرِيق وَالْمرَاد الْمَارَّة فِي الطَّرِيق ثمَّ ذكر فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 لما قضى الله الْخلق كتب فِي كِتَابه فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش إِن رَحْمَتي غلبت غَضَبي // سبق تَخْرِيجه // وَقد بَينا فِيمَا قبل تَأْوِيل ذَلِك أَن رَحْمَتي سبقت غَضَبي فَأَما قَوْله فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش فَإِن لَفْظَة عِنْد تسْتَعْمل على وُجُوه وَمَعَان فَمِنْهَا أَن يُقَال عندالله بِمَعْنى أَنه فِي علم الله تَعَالَى وَيُقَال عندالله على معنى أَنه فِي حكم الله تَعَالَى وَيُقَال عِنْد الله على معنى النُّصْرَة والكرامة وَالْقُدْرَة والمنزلة على قِرَاءَة من قَرَأَ {وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا} وَالْمرَاد وضعهم بِالْقربِ والكرامة وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك الْكتاب مَوْضُوعا على الْعَرْش على معنى المماسة لَهُ وَيكون عِنْد الله على معنى إحاطة علمه بِمَا فِيهِ من حَدِيث لَا يخفى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فصل آخر ثمَّ ذكر مَا رُوِيَ من الْأَخْبَار فِي الْكُرْسِيّ فَذكر حَدِيث سعيد بن جُبَير عَن أبن عَبَّاس قَالَ تَفَكَّرُوا فِي كل شَيْء وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَات الله فَإِن مَا بَين السَّمَاء السَّابِعَة إِلَى كرسيه سَبْعَة آلَاف نور وَهُوَ فَوق ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وَذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطبهم فَقَالَ آتِي بَاب الْجنَّة فأفتحها فَيفتح فيتجلى الله عز وَجل لي على كرسيه وَأخر على وَجْهي سَاجِدا وروى حَدِيثا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ قدم جَعْفَر من أَرض الْحَبَشَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أعجب مَا رَأَيْت قَالَ رَأَيْت امْرَأَة على رَأسهَا مكتمل دَقِيق فَمر فَارس يرْكض فأدراه فَقَعَدت تجمع طعامها ثمَّ التفتت إِلَيْهِ فَقَالَت ويل لَك يَوْم يضع الْملك كرسيه فَيَأْخُذ للمظلوم من الظَّالِم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصْدِيقًا لَهَا كَيفَ تقدس أمة لَا يَأْخُذ ضعيفها حَقه من شديدها وَهُوَ غير متعتع وَذكر حَدِيث ثَابت عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يشْتَد يَوْم الْقِيَامَة على النَّاس وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فَيفتح فآتى بَاب الْجنَّة فآخذ بِحَلقَة الْبَاب فأقرع الْبَاب فَيُقَال من أَنْت فَأَقُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 فَيفتح لي فَأرى رَبِّي على كرسيه أَو سَرِيره فَأخر سَاجِدا وَذكر الحَدِيث // أخرجه الْبَزَّاز // وَذكر عَن أبي ذَر أَنه قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَيّمَا آيَة أنزلت عَلَيْك أعظم قَالَ آيَة الْكُرْسِيّ ثمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَر مَا السَّمَوَات السَّبع من الْكُرْسِيّ إِلَّا كحلقة ملقاة فِي أَرض فلاة وَفضل الْعَرْش على الْكُرْسِيّ كفضل الفلاة على الْحلقَة // أخرجه ابْن جرير // أعلم أَن جَمِيع مَا وصف بِهِ الْكُرْسِيّ من عظم الجثة وَطول الْمسَافَة فَلَا يُنكر فِي مَقْدُور الله عز وَجل مَا هُوَ أعظم من ذَلِك أضعافا مضاعفة فَأَما مَا قَالَ ابْن عَبَّاس وَهُوَ فَوق ذَلِك فكمثل مَا تقدم فِي خبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله وَهُوَ فَوق ذَلِك كُله وَقد بَينا أَن ذَلِك لَيْسَ من طَرِيق المساحة والمسافة فَأَما مَا روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخطْبَة من قَوْله فتجلى الله على كرسيه فَأخر على وَجْهي سَاجِدا فَيحْتَمل أَمريْن أَحدهمَا أَن تجليه لَهُ تَصْدِيقًا فِيمَا وعده وإظهاره لَهُ من الْكَرَامَة أَكثر مِمَّا توهمه ورجاه وَقد يَقُول الْقَائِل تجلى فلَان لفُلَان وَالْمرَاد بذلك مَا يظْهر لَهُ من فعله وتدبيره وآثاره وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون أَرَادَ بِهِ الرُّؤْيَة وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرى الله عز وَجل عِنْد دُخُول الْجنَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فَأَما قَوْله على كرسيه فَهُوَ كَقَوْلِه {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَقد بَينا معنى على فِيمَا قبل وَأَنه يَنْقَسِم على وُجُوه أَحدهمَا علو الرّفْعَة بِالْقُدْرَةِ والمنزلة وَالثَّانِي كَقَوْلِه {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَكَقَوْلِه على زيد مَال وَلَيْسَ المُرَاد بذلك علو بِالْمَكَانِ وَإِذا لم يكن معنى على مُخْتَصًّا بعلو الْمَكَان فقد بَان أَن مَعْنَاهُ علو على مَا يَلِيق بِهِ مِمَّا لَا يَقْتَضِي الْمَكَان وَلَو قَالَ قَائِل إِن مَعْنَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كرسيه فِي الْجنَّة فَيرى ربه عز وَجل ويضاف إِلَى الله عز وَجل من طَرِيق الْملك وَالْفِعْل والخلق كَمَا قَالَ {على الأرائك ينظرُونَ} فِي صفة أهل الْجنَّة وَهن السرر وَأما مَا رُوِيَ فِي حَدِيث جَعْفَر من قَول الْمَرْأَة بِأَرْض الْحَبَشَة يَوْم يضع الْملك كرسيه فَيَأْخُذ للمظلوم من الظَّالِم فَلَيْسَ فِيهِ مَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل بل مَعْنَاهُ تعريفنا أَنه ينْتَقم ذَلِك الْيَوْم من الظَّالِم للمظلوم وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل بسط الْأَمِير بساطه وَوضع وساده يُرِيد بذلك إِظْهَار ملكه وَقدرته للإنتصار والإنتصاف وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُنكر فَأَما حَدِيث أنس فقد بَينا تَأْوِيله غير أَنه قَالَ فِيهِ فَأرى رَبِّي وَهُوَ على كرسيه وَهَذَا أَخذ معنى التجلي لِأَنَّهُ تَصْرِيح بِالرُّؤْيَةِ وَقد بَينا وَجهه فِيمَا قبل وَلَيْسَ يُنكر عندنَا رُؤْيَة الله عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 فصل آخر ثمَّ ذكر بعد ذَلِك مَا رُوِيَ فِي الْآثَار من ذكر الْحجاب وَذكر حَدِيث سهل بن سعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ دون الله سَبْعُونَ ألف حجاب من نور لَا يسمع أحد حس شَيْء من تِلْكَ الْحجب إِلَّا ذهقت نَفسه // أخرجه أَبُو يعلى // وَذكر حَدِيث عَائِشَة أَن رَسُول الله قَالَ إِن لله ديكا يُجَاوز رَأسه كَذَا وَالسبْعين الْحجاب وَرجلَاهُ قد جَاوَزت السَّبع الْأَرْضين وَذكر حَدِيث عبد الرحمن بن سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول رَأَيْت البارحة عجبا رَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا عَن رُكْبَتَيْهِ بَينه وَبَين الرب حجاب فجَاء حسن خلقه فَأخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ على الله عز وَجل إِلَيْهِ // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَذكر حَدِيث صُهَيْب رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فَيكْشف لَهُم عَن الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وَذكر حَدِيث عبد الله بن عمر وَقَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر وَصِيَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام ابْنه فَقَالَ أَنهَاك عَن الْكبر والشرك فَإِن الله تَعَالَى يحتجب عَنْهُمَا وَذكر حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ // أخرجه ابو يعلى // احتجب الله عَن خلقه بِأَرْبَع بِنَار وظلمة وَنور وظلمة وَذكر حَدِيث الحكم بن ثَوْبَان أَنه قَالَ سمع عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن دون الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة سبعين حِجَابا إِن فِيهَا لحجبا من ظلمَة وَذكر الْآيَة فِيهِ أَيْضا وَهُوَ قَوْله {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} وَذكر حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رب أرنا أَبَانَا آدم وَذكر الحَدِيث فَقَالَ فِيهِ قَالَ آدم من أَنْت فَقَالَ أَنا مُوسَى قَالَ نَبِي بني إِسْرَائِيل أَنْت الَّذِي كلمك الله من وَرَاء الْحجاب لم يَجْعَل بَيْنك وَبَينه رَسُولا من خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن الَّذِي يجب أَن يُوقف عَلَيْهِ من هَذَا الْبَاب مِمَّا يَبْنِي عَلَيْهِ الْكَلَام فِيهِ أَن تعلم أَن الله عز وَجل لَيْسَ بجسم وَلَا جَوْهَر وَلَا مَحْدُود وَأَنه لَا يَصح أَن يكون محجوبا على معنى أَن يكون مَسْتُورا بالسواتر المغطية كَمَا تستر الْأَجْسَام الساترة الحائلة بَينه وَبَين غَيره وَهَذَا هُوَ الأَصْل الَّذِي يبْنى عَلَيْهِ التَّوْحِيد وينفي التَّشْبِيه وَمن أثبت لله تَعَالَى حدا أَو نِهَايَة أَو غَايَة وَأَجَازَ أَن يكون مَسْتُورا محجوبا بحجب التغطية والسواتر الْمَانِعَة فقد أحَال فِي ذَلِك وَنقص التَّوْحِيد وَأوجب تَشْبِيه الله تَعَالَى بخلقه الْوَجْه الثَّانِي من ذكر الْحجاب فِي وصف الله تَعَالَى هُوَ أَن يرجع بِهِ إِلَى أَن يكون الْحجاب فِي غَيره والمحجوب بِهِ غَيره وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بالأعراض الْمَانِعَة عَن رُؤْيَته والموانع الحاجبة عَن الْعلم بِهِ وَذَلِكَ لَا يَلِيق بِهِ إِلَّا أَن يكون مَعَاني حَادِثَة فِي المخلوقين وَأَن يَكُونُوا هم المحجوبون عَنهُ بهَا إِمَّا أَن يَكُونُوا ممنوعين عَن الْعلم بِهِ أَو عَن رُؤْيَته ثمَّ قد يُقَال للموانع الَّتِي يحدث عِنْدهَا الْمَنْع للمحجوب حجب وَأَن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 تِلْكَ الْأَشْيَاء حجبا على الْحَقِيقَة كَمَا يُقَال إِن الْحَائِط حجاب بيني وَبَين مَا وَرَاءه وَالْمرَاد بذلك أَنه مَانع من رُؤْيَته على معنى أَن الْمَنْع يحصل عِنْده والحجب يحصل مَعَه لَا أَنه هُوَ وَهَذَا كَمَا تَقول فِي الْقُيُود الثَّقِيلَة إِنَّهَا تمنع من الْمَشْي للمقيد بهَا على معنى أَن الْمَنْع يحدث عِنْد التقيد بهَا للمقيد من الْمَشْي وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَجَمِيع مَا ذكرهَا من أَلْفَاظ الْحجاب من هَذِه الْآيَة وَالسّنَن مَحْمُول على مَا ذَكرْنَاهُ ومرتب على مَا قُلْنَاهُ فمحال فِيهِ أحد الْوَجْهَيْنِ وَيصِح الآخر وَهَذِه جملَة تَكْفِي عَن الْجَواب عَن سَائِر هَذِه الْأَخْبَار ثمَّ نقُول إِن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون الله سَبْعُونَ ألف حجاب من نور إِنَّمَا يرجع جَمِيع ذَلِك إِلَى المحجوبين من خلقه بهَا لَا إِلَى الله عز وَجل وَأَنَّهَا حجب لَهُم لَا لَهُ وَلم يذكر فِي الْخَبَر أَن تِلْكَ حجب الله لَيْسَ فِيهِ أَكثر من أَنَّهَا حجب وَإِذا لم يَصح أَن يكون الله عز وَجل محجوبا كَمَا لَا يَصح أَن يكون مَمْنُوعًا وَلَا مَسْتُورا وَلَا محدودا وَلَا مغطى ثَبت أَنه يرجع إِلَى حجب المخلوقين فَأَما حَدِيث عبد الرحمن بن سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله رَأَيْت من أمتِي رجلا جاثيا على رُكْبَتَيْهِ بَينه وَبَين ربه حجاب فَالْمُرَاد بِهِ حجاب للْعَبد عَن رَحْمَة الرب أَي مَمْنُوع الرَّحْمَة وَالنعْمَة حَتَّى أثيب على حسن خلقه ورحم بذلك فَأخذ الله تَعَالَى بِيَدِهِ أَي نجاه وخلصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 كَمَا يُقَال أَخذ الله بِيَدِك على أَنه نصرك ونجاك وَكَذَلِكَ قَوْله فَأدْخلهُ الله عَلَيْهِ أَي أدخلهُ فِي رَحمته وكرامته وَهَذَا كَقَوْل الْحجَّاج أَتَيْنَاك شعثا غبرا وكقولهم للحجاج إِنَّهُم زوار الله فَأَما قَوْلهم فِي تَأْوِيل قَوْله وَزِيَادَة فَيكْشف لَهُم عَن الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يرجع إِلَى رفع الْمَانِع عَن الرُّؤْيَة من الممنوعين عَن رُؤْيَته من الْخلق فَأَما مَا ذكر فِي وَصِيَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام ابْنه قَالَ أَنهَاك عَن الْكبر والشرك فَإِن الله يحتجب عَنْهُمَا فَإِن ذَلِك يُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ أَن يكون حجاب واحتجاب لَا على معنى التغطية والستر لِأَن احتجاب الله عز وَجل من الْكبر والشرك لَيْسَ احتجابا عَن سَاتِر ومغط وحاجب ومانع بل ذَلِك هُوَ منع المتكبر والمشرك مَا عِنْده من الرَّحْمَة للْمُؤْمِنين وَصرف النِّعْمَة عَنْهُم فَسُمي ذَلِك احتجابا عَنْهُم فَأَما قَول عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ أَن دون الله يَوْم الْقِيَامَة سَبْعُونَ ألف حجاب فقد بَينا أَنَّهَا حجاب للمخلوقين لَا لله وَلم يذكر أَيْضا أَنَّهَا حجاب الله عزوجل وَقد ذكرنَا وَجه تَسْمِيَة الحوائل والسواتر حجبا وحجابا وَأَن ذَلِك يرجع إِلَى تَسْمِيَة مَا يحدث عِنْده وَذَلِكَ أَن الْمَنْع اللرائي يحصل عِنْده فيسمى حِجَابا والحجاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 هُوَ الْمَنْع الَّذِي يضاد رُؤْيَة المحجوب بِهِ على معنى أَنه يمْنَع الرُّؤْيَة فعلى هَذَا فرتب مَا ذكر من لفظ الْحجاب فَأَما الْآيَة فقد تقدم تَأْوِيلهَا فِيمَا قبل فأغنى عَن إِعَادَته فصل آخر فِيمَا رُوِيَ من الْأَخْبَار الَّتِي ذكرهَا فِي التجلي رُوِيَ أَبُو بردة عَن أبي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتجلى رَبنَا ضَاحِكا يَوْم الْقِيَامَة وروى ثَابت عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي هَذِه الْآيَة {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} قَالَ بدا مِنْهُ قدر هَذَا وَعَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 مَا تجلى مِنْهُ إِلَى قدر الْخِنْصر فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك وَبَيَان تَأْوِيله أعلم أَن معنى التجلي الظُّهُور يُقَال تجلى لي الرَّأْي إِذا ظهر لَهُ الرَّأْي وَلم يكن ظَاهرا فَإِذا تجلى الرب فَمَعْنَاه يتَوَجَّه على وَجْهَيْن أَحدهمَا بِإِظْهَار أَفعاله الدَّالَّة عَلَيْهِ على معنى أَنه يضع العلامات الَّتِي بهَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَن يكون بِمَعْنى مَا يخلق من الرُّؤْيَة فيهم أَي مَا يخلق رُؤْيَة يَوْم الْقِيَامَة للْمُؤْمِنين فيتجلى لَهُم عِنْدهَا وَهَذَا غَايَة مَا يكون من التجلي لِأَن الْمعرفَة بالشي بعد مالم يكن تجل والرؤية لَهُ أَيْضا بعد مَا لم يره تجلي والعيان فِي التجلي أبلغ وَأما معنى الضحك فقد بَينا فِيمَا قبل أَنه هُوَ بِمَعْنى إِظْهَار النِّعْمَة وَأَن الله عز وَجل يظْهر النِّعْمَة يَوْم الْقِيَامَة لأوليائه فِي الْجنَّة فَكَأَنَّهُ قَالَ يتجلى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة بنعمه وأياديه وأحسانه وفضله وَأعظم مَا يتفضل بِهِ على أهل الْجنَّة مَا يخلق لَهُم من رُؤْيَتهمْ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فَأَما معنى قَوْله {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} فقد ذكرنَا فِيهِ جوابين أَحدهمَا أَنه جعل الْجَبَل حَيا عَالما رائيا حَتَّى رَآهُ فَذَلِك تجليه لَهُ وَالثَّانِي أَن ذَلِك تجل بِإِظْهَار الْفِعْل وَالتَّدْبِير وَأما معنى قَوْله بدا مِنْهُ قدر هَذَا فَالْمُرَاد بِهِ الْإِشَارَة إِلَى الشَّيْء الْيَسِير من آيَاته يُرِيد أَن مَا أظهر الله فِي الْجَبَل من الْآيَة كَانَ قدرا يَسِيرا فِي جنب مَا يقدر عَلَيْهِ بِالْإِضَافَة إِلَى مَا يبديه من علاماته ويظهره من آيَاته يَوْم الْقِيَامَة وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل قَول ابْن عَبَّاس مَا تجلى مِنْهُ إِلَّا قدر الْخِنْصر وَذَلِكَ أَنه مثل يضْرب عِنْد تقليل الشَّيْء وَقد جرت الْعَادة فِي لُغَة الْعَرَب والعجم على هَذَا النَّحْو وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لإستحالة أَن يُوصف الله عز وَجل بالتبعيض والتجزئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فصل مِمَّا ذكر فِيهِ النُّزُول والمجيء مَعَ أَلْفَاظ زَائِدَة على مَا تقدم ذكرهَا وَبَيَان تَأْوِيلهَا وَمَا ذكر فِي بعض الْأَخْبَار من ذكر الْعُلُوّ والصعود وَمِمَّا لم يتَقَدَّم ذكره وَلَا بَيَان تَأْوِيله فَمن ذَلِك مَا روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} قَالَ ينزل الْجَبَّار جلّ جَلَاله يَوْم الْقِيَامَة فِي سَحَاب قد قطع كَهَيئَةِ الطاقات وروى شهر بن حَوْشَب عَن ابْن عَبَّاس قَالَ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مدت الأَرْض مد الْأَدِيم وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فلأهل السَّمَاء السَّابِعَة أَكثر من أهل السَّمَوَات السِّت وَأهل الأَرْض بالضعف فَيَجِيء الله تبَارك وَتَعَالَى فيهم والأمم وَعَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد أَنَّهُمَا شَهدا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله يُمْهل حَتَّى إِذا كَانَ الأول هَبَط إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَقَالَ هَل من مذنب فيتوب الْخَبَر // أخرجه الْأَمَام مُسلم // وروى عَطاء بن يسَار عَن رِفَاعَة بن عرابة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 إِذا مضى شطر اللَّيْل أَو قَالَ ثلثا اللَّيْل ينزل الله تبَارك وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول لَا يسْأَل عَن عبَادي أحد غَيْرِي من ذَا الَّذِي يسألني فَأعْطِيه // أخرجه الْأَمَام مُسلم // وروى جَابر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا من أَيَّام أفضل عِنْد الله من أَيَّام عَرَفَة ينزل الله إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فيباهي بِأَهْل الأَرْض // أخرجه الْأَمَام مُسلم // وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة وَهُوَ يَوْم المباهاة ينزل الله إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول للْمَلَائكَة أنظروا إِلَى عبَادي وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَرَأَ هَذِه الْآيَة {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام وَنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا} أهل السَّمَاء الدُّنْيَا وهم أَكثر من أهل الأَرْض من الْجِنّ وَالْإِنْس فَيَقُول أهل الأَرْض أفيكم رَبنَا فَيَقُولُونَ لَا وَسَيَأْتِي وَذكر الحَدِيث وَقَالَ وَفِيه تشقق السَّمَاء السَّابِعَة وهم أَكثر مِمَّن أَسْفَل مِنْهُم من أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض فَيَقُولُونَ أفيكم رَبنَا فَيَقُولُونَ لَا وَسَيَأْتِي ثمَّ يَأْتِي الرب فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الكروبيين وهم أَكثر من أهل السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرضين // أخرجه عبد بن حميد وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينزل رَبنَا تبَارك وَتَعَالَى كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فَيكون كَذَلِك حَتَّى يصبح الصُّبْح ثمَّ يَعْلُو رَبنَا إِلَى كرسيه وَعَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ جَاءَ رجل من بني سليم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن رَآهُ إِلَّا بِمَكَّة يُقَال لَهُ عَمْرو بن عبسة فَقَالَ يَا رَسُول الله عَلمنِي مِمَّا أَنْت بِهِ عَالم وَأَنا بِهِ جَاهِل أَي صَلَاة المتطوعين أفضل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مضى نصف اللَّيْل أَو ثلث اللَّيْل فَتلك سَاعَة ينزل الله فِيهَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ إِلَى أَن قَالَ حَتَّى ينفجر الصُّبْح فَإِذا انفجر الصُّبْح صعد الرَّحْمَن إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فصل الْجَواب عَن هَذَا الْبَاب وَبَيَان تَأْوِيله أعلم أَنا قد بَينا فِيمَا قبل معنى هَذَا الْخَبَر وَأَن النُّزُول يَنْقَسِم إِلَى أَقسَام وَلَيْسَ مَعْنَاهُ يخْتَص النُّزُول بالنقلة والتحويل فَقَط بل مَعْنَاهُ فِي غير الْحَرَكَة أَكثر مِنْهُ يُقَال نزل فلَان من معالي الْأُمُور ومكارمها إِلَى سفاسفها وَيُقَال نزل فلَان عَن رَأْيه وَأنزل فلَان فلَانا عَن دَرَجَته ورتبته وَقَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ} وَقَالَ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} فِي صفة الْقُرْآن وَأخْبر عَن الْمُشْركين أَنهم قَالُوا {سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} وَيُقَال نزل بني فلَان خير وخصب وارتفع عَنْهُم جَدب وقحط وَلَيْسَ يُرَاد بذلك معنى النقلَة والتحويل من مَكَان إِلَى مَكَان وَمَعَ ذَلِك فَمَعْنَى النُّزُول فِيهِ صَحِيح على الْوَجْه الَّذِي يَلِيق بِهِ كَذَلِك معنى مَا وصف بِهِ الرب من النُّزُول وَإِن لم يكن معنى النقلَة سَائِغ فِي لُغَة الْعَرَب وَذكرنَا أَن ذَلِك يرجع تَأْوِيله إِلَى إِظْهَار فعل وتدبير فِي عباده يُسَمِّيه نزولا وَأَنه يحْتَمل أَن يُقَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 إِن مَعْنَاهُ أَن يظْهر رَحمته لَهُم وإجابته لدعائهم وَأَنه من لَهُ أَن لَا يُجيب وَلَا يرحم لِأَن الْإِجَابَة مِنْهُ فضل وَتركهَا مِنْهُ عدل فَإِذا أجابهم فقد نزل عماله أَن يفعل بهم من ترك الْإِجَابَة إِلَى أَن يفعل بهم مَا يكون من فعله متفضلا وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون مَعْنَاهُ نزُول مَلَائكَته بأَمْره فيضاف إِلَيْهِ النُّزُول على معنى مَا وَقع بأَمْره كَمَا يُقَال نزل الْأَمِير بِموضع كَذَا إِذا نزل أَصْحَابه بأَمْره وَنفذ فِيهِ حكمه وسلطانه وَإِذا كَانَ ذَلِك مِمَّا يحْتَملهُ اللَّفْظ وَيصِح مَعْنَاهُ وَكَانَ حمله على بَعْضهَا لَا يُؤَدِّي إِلَى وصف الله جلّ ذكره مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ كَانَ أولى مِمَّا قَالُوا وَأما اللَّفْظ الآخر الَّذِي ذكره فِي الْخَبَر وَهُوَ قَوْله فَيَجِيء الله تبَارك وَتَعَالَى فيهم فتأويله على نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} أَحدهمَا أَن يكون المُرَاد بِهِ إِظْهَار فعل يُسمى مجيئا وَالثَّانِي أَن يكون يَجِيء فيهم أَي يَجِيء بهم وَهَذَا نَحْو مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {فِي ظلل من الْغَمَام} أَن مَعْنَاهُ بظلل وَمَا ذكرنَا فِي تَأْوِيل النُّزُول والمجيء فَهُوَ تَأْوِيل الهبوط وَأَن ذَلِك أَيْضا لَيْسَ هُوَ بِمَعْنى التَّحْوِيل من مَكَان إِلَى مَكَان فَأَما مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله إِن الْحَج الْأَكْبَر يَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 عَرَفَة وَأَن ذَلِك يَوْم المباهاة وَأَن الله تَعَالَى يَقُول للْمَلَائكَة انْظُرُوا إِلَى عبَادي فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنكر وَمعنى المباهاة تَعْرِيف الْمَلَائِكَة مَا يفضل بِهِ على بني آدم من الواقفين بِعَرَفَة من توفيقه إيَّاهُم لطاعته وإحتمالهم المشاق فِيهَا فَأَما ذكره فِي الْخَبَر الآخر من قَوْله وَسَيَأْتِي فَهُوَ بِمَعْنى قَوْلنَا يَجِيء وَجَاء ينزل ويأتيهم الله فِي ظلل وَلَيْسَ معنى شَيْء من ذَلِك هُوَ على الْحَد الَّذِي لَا يَلِيق بِاللَّه تَعَالَى من الْحَرَكَة والنقلة والزوال من مَكَان إِلَى مَكَان بل كل ذَلِك على معنى ظُهُور فعله وتدبيره أَو على معنى ظُهُور الْفِعْل من غير بأَمْره وَحكمه فيضاف إِلَيْهِ اللَّفْظ الَّذِي يكون من قبله على معنى أَنه بأَمْره وَحكمه وَقع وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل مَا ذكر فِيهِ من الْعُلُوّ والصعود وَأَنه لَا يَخْلُو المُرَاد فِيهِ من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ علو الْأَمْلَاك الَّذين نزلُوا بأَمْره إِلَى حَيْثُ يُرِيد من فَوق بأَمْره أَيْضا فيضاف الْفِعْل إِلَيْهِ كَمَا قُلْنَا أَنهم يَقُولُونَ ضرب الْأَمِير اللص وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ أَمر بذلك وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون مَعْنَاهُ ظُهُور فعل بعد فعل فَإِذا كَانَ فعله فضلا سمي نزولا وَإِذا كَانَ عدلا سمي صعُود الْأَجَل مَا يرجع إِلَى الْمَعْقُول فِيهِ وَإِلَى صفة الْفَاعِل فِيمَا لَهُ أَن يفعل وَأَن لَا يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فصل فِي ذكر أَلْفَاظ زَائِدَة فِي الْأَخْبَار الَّتِي فِيهَا الضحك فَمن ذَلِك مَا روى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِنِّي لأعْلم آخر أهل النَّار خُرُوجًا من النَّار وَآخر أهل الْجنَّة دُخُولا الْجنَّة رجل يُقَال لَهُ ادخل الْجنَّة فيأتيها فَيرى أَنَّهَا ملئت فَيرجع فَيَقُول يَا رب قد امْتَلَأت فَيَقُول ارْجع ثَلَاث مَرَّات ثمَّ يَقُول لَهُ لَك مثل الدُّنْيَا وَلَك مثل عشرَة أَمْثَالهَا فَيَقُول أتضحك بِي وَأَنت الْملك قَالَ ورأيته يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله ليضحك من إِيَاس العَبْد وقنوطه وَقرب الرَّحْمَة مِنْهُ // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَعَن طَلْحَة بن الْبَراء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخبر بِمَوْت طَلْحَة رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء وَقَالَ اللَّهُمَّ القه وَهُوَ يضْحك وَأَنت تضحك إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يضْرب الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فَيَقُول يَا ابْن آدم مَا أغدرك تُعْطِي عهودك ومواثيقك أَن لَا تَسْأَلنِي غير مَا أَعْطَيْت فَيَقُول أَي يَا رب لَا أكون أَشْقَى خلقك فَلَا يزَال يَدْعُو حَتَّى يضْحك الرب مِنْهُ فَإِذا ضحك مِنْهُ قَالَ لَهُ ادخل الْجنَّة وَعَن عَاصِم بن لَقِيط بن عَامر خرج وافدا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فوافينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين انْصَرف من صَلَاة الْغَدَاة فَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فيظل يضْحك قد علم أَن دعوتكم قريب قَالَ لَقِيط لن نعدم من رب يضْحك خيرا // أخرجه أَبُو حميد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 فصل فِي بَيَان تَأْوِيله أعلم أَن الضحك لَيْسَ هُوَ مَخْصُوصًا بتكشر الْفَم وَظُهُور الْأَسْنَان وَتغَير الْحَال على الْإِنْسَان بِهِ بل مَعْنَاهُ مُشْتَرك قَالَت الْعَرَب ضحِكت الأَرْض بالنبات إِذا ظهر فِيهَا النَّبَات قَالَ الشَّاعِر (تضحك الأَرْض من بكاء السَّمَاء ... ) يُرِيد بذلك مَا تظهر الأَرْض من النَّبَات وأنواره عَن مطر السَّمَاء فَأَما وصف الله جلّ ذكره بِهِ فَذَلِك رَاجع إِلَى مَا يظْهر من نعمه ويبديه من مننه فَأَما مَا قيل فِي خبر من يدْخل الْجنَّة آخرا أتضحك بِي وَأَنت الْملك فقد قيل فِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا فِي مثل هَذَا الْموضع مِنْهُ أتستهزيء وَأَنت رب الْعِزَّة وَلَيْسَ المُرَاد بذلك إِلَّا مَا يَقع فِي وهم هَذَا الْقَائِل أَن مَا يطْمع فِيهِ ويرجى غير موثوق بِهِ وَلَا مُتَحَقق لما رَجَعَ إِلَى مُتَحَقق حَالَة نَفسه فِي خُرُوجه من النَّار وَالْعَذَاب وَذَلِكَ أَيْضا مجَاز فِي الْكَلَام أَي يفعل مثل مَا يَفْعَله من لَا يُحَقّق مَا يَقُول والمشبه بالشَّيْء قد يُسمى بإسمه قَالَ الله تَعَالَى {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} وَقَوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} فَأَما قَوْله فِي الْخَبَر الآخر {إِن الله يضْحك من يأس العبيد وقنوطهم} فَيحْتَمل أَن يُقَال إِن مَعْنَاهُ أَنه عِنْد يأس العَبْد مِمَّا سوى الله جلّ ذكره يظْهر الله رَحمته وَعطفه ولطفهم فيرحمهم وَلَيْسَ ذَلِك يرجع إِلَى يأس العَبْد من الله جلّ وَعز لِأَن من كَانَ كَذَلِك لم يظْهر لَهُ نعم الله جلّ ذكره فَأَما قَوْله اللَّهُمَّ ألقه وَهُوَ يضْحك وَأَنت تضحك إِلَيْهِ فَضَحِك الله إِلَيْهِ إِظْهَار لكرامته وضحكه ظُهُور الْفَرح فِيهِ بِمَا يظْهر الله من النعم عَلَيْهِ وَفِيه فَأَما قَوْله فِي الْخَبَر الآخر وَإِذا ضحك رَبك إِلَى عبد فِي موطن فَلَا حِسَاب عَلَيْهِ فَالْمُرَاد أَيْضا نظره لَهُ وَرَحمته وَأَنه إِذا أبدى نعمه على عبد رفع عَنهُ الْحساب فِيهَا إتماما لنعمه وإكمالا لَهَا ولمننه وفضله فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْله فَلَا يزَال حَتَّى يضْحك الله مِنْهُ فَإِذا ضحك مِنْهُ قَالَ لَهُ ادخل الْجنَّة فَالْمَعْنى إِظْهَار إجَابَته والإنعام عَلَيْهِ وإبتداؤه بِالْكَرمِ وَالرَّحْمَة وَلَيْسَ يخرج جَمِيع مَا وصف بِهِ الرب سُبْحَانَهُ من الضحك من أَن يكون مَعْنَاهُ رَاجع إِلَى مَا قُلْنَا فعلى ذَلِك فرتبه للإستحالة فِي وصف الله جلّ وَعز بِمَا هُوَ تكشر الْفَم وَظُهُور الْأَسْنَان وَتغَير الْأَحْوَال لِأَن ذَلِك من صِفَات الْأَجْسَام المحدثة الَّذِي يدل تعاقب الْحُدُوث عَلَيْهَا على حدثها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 فصل فِي ذكر مَا رُوِيَ من أَلْفَاظ الْفَرح والإستبشار روى النُّعْمَان بن بشر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لله أفراح بتوبة العَبْد من رجل كَانَ فِي سفر مَعَه رَاحِلَته // أخرجه الْأَمَام مُسلم // الحَدِيث وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَقُول الله عز وَجل أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي وَأَنا مَعَه إِذا ذَكرنِي وَالله أفرح بتوبة عَبده من الرجل يجد ضالته بالفلاة // أخرجه الْأَمَام البُخَارِيّ // وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاستبشار الله بتوبة أحدكُم أفضل من استبشار أحدكُم بضالته علهيا زَاده ومتاعه وسقاؤه وَمَا يصلحه // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وروى أَبُو الدَّرْدَاء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ثَلَاثَة يُحِبهُمْ الله ويضحك إِلَيْهِم ويستبشر بهم الَّذِي إِذا اكشفت فِئَة قَاتل وَرَاءَهَا بِنَفسِهِ لله وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَوَضَّأ أحدكُم فَيحسن وضوءه ويسبغه حَتَّى يَأْتِي الْمَسْجِد لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ إِلَّا يستبشر الله تَعَالَى بِهِ كَمَا يستبشر أهل الْغَائِب بطلعته // أخرجه ابْن خزيمه // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 فصل الْجَواب فِي ذَلِك أعلم أَن معنى مَا وصف بِهِ الله جلّ ذكره من الْفَرح فَهُوَ بِمَعْنى الرِّضَا لِأَن الْفَرح يَنْقَسِم مَعْنَاهُ إِلَى السرُور وَالرِّضَا وَلَا يَلِيق بِاللَّه تَعَالَى السرُور لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تغير صفته وحدوث الْحَوَادِث فِيهِ فَأَما الَّذِي هُوَ بِمَعْنى الرِّضَا فَصَحِيح فِي وَصفه وَيكون مَعْنَاهُ إِرَادَته الإنعام على من هُوَ رَاض عَنهُ وَمن تَابَ الله عز وَجل عَلَيْهِ فقد فَرح بِهِ على معنى أَنه رَاض عَنهُ وَأَرَادَ الإنعام عَلَيْهِ فَأَما معنى استبشاره بتوبة العَبْد فراجع أَيْضا إِلَى مَا يظْهر للْعَبد من الْكَرَامَة واللطف وَالنعْمَة وأفعاله لَا تحله وَلَا تحدث فِي ذَاته بل تحدث فِي غَيره فَأَما البشبشة فَهُوَ بِمَعْنى الإستبشار لِأَنَّهُ يُقَال فِي فلَان بشبشة وهشاشة وبشاشة وَفُلَان باش إِذا كَانَ مظهر الرِّضَا بِمَا يستقبله فَلَمَّا كَانَ الله عز وَجل رَاضِيا عَن التائب عَن عبيده مظْهرا للنعم لَدَيْهِ بتوفيقه إِيَّاه للتَّوْبَة أَولا وتثبيته عَلَيْهَا ثَانِيًا ومثوبته ثَالِثا كَانَ ذَلِك مِنْهُ إستبشارا وبشبشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فصل فِي ذكر مَا رُوِيَ من أَلْفَاظ الإستحياء روى أَبُو وَاقد اللَّيْثِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد وَالنَّاس مَعَه إِذْ أقبل ثَلَاثَة نفر فَأقبل إثنان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذهب وَاحِدًا قَالَ فَوقف على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما أَحدهمَا فَرَأى فُرْجَة فِي الْحلقَة فَجَلَسَ فِيهَا فَأَما الآخر فَجَلَسَ خَلفهم وَأما الثَّالِث فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَلا أخْبركُم عَن الثَّلَاثَة نفر أما أَحدهمَا فأوى إِلَى الله فآواه الله وَالْآخر فاستحيا فاستحيا الله مِنْهُ وَأما الآخر فَأَعْرض الله عَنهُ // أخرجه الْأَمَام البُخَارِيّ // وَعَن أبي حنيس الْغِفَارِيّ قَالَ خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تهَامَة قَالَ خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء ثَلَاثَة نفر فَجَلَسَ إثنان مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا أخْبركُم عَن النَّفر الثَّلَاثَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 أما أَحدهمَا فاستحيا فاستحيا الله مِنْهُ وَأما الآخر فَأقبل تَائِبًا إِلَى الله فَتَابَ الله عَلَيْهِ وَأما الآخر فَأَعْرض فَأَعْرض الله عَنهُ وَعَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِن ربكُم حَيّ كريم يستحي أَن يمد عَبده إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَن يردهما خائبتين وَعَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله يستحي من عَبده أَو أمته يعذبهما بعد مَا شَابًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن الإستحياء من الله عز وَجل بِمَعْنى التّرْك وعَلى ذَلِك تَأَول المتأول قَوْله {إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا} وَأَن مَعْنَاهُ أَنه لَا يتْرك وَأما قَوْله وَأما الآخر فاستحيا فأستحيا الله مِنْهُ فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ ترك أَذَى الْقَوْم بمزاحمتهم فِي الْحلقَة فَجَلَسَ خَلفهم فَترك الله عز وَجل عُقُوبَته وَعَفا عَن ذنُوبه وَكَذَلِكَ معنى قَوْله إِن ربكُم حَيّ كريم أَنه يتْرك عُقُوبَة العَبْد عَن خطيئته وَيَعْفُو عَن زلته بكرامته فَإِذا رَجَعَ إِلَيْهِ سَائِلًا مُسْتَغْفِرًا أَجَابَهُ وَغفر لَهُ وَكَذَلِكَ معنى قَوْله إِن الله يستحي من عَبده أَو أمته أَن يعذبهما بعد مَا شَابًّا أَنه يتْرك عذابهما إِذا شَابًّا فِي الْإِسْلَام وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الْحيَاء الَّذِي هُوَ الإنقباض بِتَغَيُّر الْأَحْوَال وحدوث الْحَوَادِث فِيمَن يتَغَيَّر بِهِ لَا يجوز على الله عز وَجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 فصل آخر فِي معنى مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وصف الله تَعَالَى بِالصبرِ وَالْغَضَب والبغض روى أَبُو مُوسَى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا أحد أَصْبِر على أَذَى يسمعهُ من الله تَعَالَى إِنَّه يُشْرك بِهِ وَيجْعَل لَهُ ولدا ويرزقهم وَيدْفَع عَنْهُم ويعافيهم // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وروى أَبُو الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله يبغض الْفَاحِش الْبَذِيء وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لم يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم أحد أَشْتَدّ غضب الله عز وَجل على قوم قسموا الْبَيْضَة على رَأس نَبِيّهم وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الله عز وَجل // أخرجه ابْن حميد // وَعَن سَلام عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَدَّ غضب الله على امْرَأَة ألحقت ولدا بِقوم لَيْسَ مِنْهُم يشركهم فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أَمْوَالهم ويطلع على عَوْرَاتهمْ // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَعَن جَابر قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اشْتَدَّ غضب الله على من كذب عَليّ مُتَعَمدا // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَدْنُو الشَّمْس فَيبلغ النَّاس من الكرب وَالْغَم مَالا يُطِيقُونَ وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ فَيَأْتُونَ آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُونَ أشفع لنا إِلَى رَبك فَيَقُول إِن رَبِّي قد غضب الْيَوْم غَضبا لم يغْضب مثله قبله وَلَا يغْضب مثله بعده // أخرجه الْأَمَام مُسلم // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن معنى وصف الله جلّ ذكره بِالصبرِ فَهُوَ بِمَعْنى الْحلم وَمعنى وصف الله جلّ ذكره بالحلم فَهُوَ تَأْخِير الْعقُوبَة عَن الْمُسْتَحقّين لَهَا وَوصف الله بِالصبرِ لم يرد بِهِ الْكتاب وَإِنَّمَا ورد فِي نوع من هَذِه الْأَخْبَار وتأوليه على معنى تَأْوِيل الْحلم فَأَما وَصفه بِالْغَضَبِ فقد ورد بِهِ الْكتاب وَمَعْنَاهُ إِرَادَة الْعقُوبَة لأَهْلهَا وَمن علم أَنه يُعَاقب عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ نقُول فِي الرِّضَا أَنه إِرَادَة التَّنْعِيم والتفضيل لمن علم أَنه أهل لذَلِك وَذَلِكَ من صِفَات الذَّات لِأَن تَأْوِيله يرجع إِلَى الْإِرَادَة وَإِرَادَة الله تَعَالَى من صِفَات ذَاته فَأَما معنى اشْتَدَّ غَضَبه فَالْمُرَاد بِهِ مَا يبديه من زِيَادَة الْعقُوبَة على بَعضهم دون بعض فَأَما مَا هُوَ صفة الذَّات فَلَا يجوز وَصفه بالتزايد وَإِنَّمَا يرجع التزايد إِلَى الْأَفْعَال الصادرة عَن الْإِرَادَة وَأما معنى السخط فَهُوَ بِمَعْنى الْغَضَب وَأما معنى البغض فَهُوَ بِمَعْنى الْكَرَاهِيَة فَإِذا قيل أبْغض الله فلَانا من خلقه فَالْمُرَاد بِهِ كَرَاهَته الْفضل عَلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ وَالرَّحْمَة لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وَإِذا قيل للموجود إِن الله يبغضه فَالْمَعْنى فِيهِ أَنه يكره أَن يكون بِخِلَاف مَا هُوَ بِهِ وعَلى ذَلِك يتَأَوَّل قَوْله إِن الله يبغض الْفَاحِش الْبَذِيء فصل آخر فِي ذكر مَا ورد فِي السّنة من وصف الله جلّ ذكره بِالْإِعْرَاضِ رُوِيَ عَن وَائِل بن حجر اخْتصم رجل من حَضرمَوْت وَرجل من كِنْدَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الحَدِيث وَقَالَ فِيهِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما إِنَّه حلف على مَاله ليأكله ظلما ليلقين الله عز وَجل وَهُوَ عَنهُ معرض // أخرجه النَّسَائِيّ // وروى عَطاء عَن أبي أَيُّوب قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِجْرَة الْمُؤمن ثَلَاث فَإِن تكلما وَإِلَّا أعرض الله عَنْهُمَا حَتَّى يتكلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن وصف الله جلّ ذكره بِالْإِعْرَاضِ عِنْد العَبْد يرجع إِلَى تَركه توفيقه لخيرو معونته عَلَيْهِ أَو عَن إثْبَاته وإكرامه فَإِذا قيل للْعَبد إِنَّه معرض عَن الله عز وَجل فَالْمُرَاد بِهِ أَنه منصرف عَن طَاعَته وَكَذَلِكَ يُقَال فِي الإقبال إِذا قيل إِن الله مقبل على عبد أَو قيل للْعَبد إِنَّه مقبل على الله أَو إِلَى الله جلّ ذكره فَالْمُرَاد بِهِ وصف الله تَعَالَى بِهِ مَعُونَة العَبْد على فعل الْخَيْر بتيسيره لَهُ طَرِيق الطَّاعَة وَإِذا وصف بِهِ العَبْد فَالْمُرَاد بِهِ اسْتِعْمَاله بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لإستحالة أَن يُوصف الله عز وَجل بالملاقاة والمقابلة فَيكون إعراضه والإعراض عَنهُ حسب الْإِعْرَاض عَن الْأَجْسَام والإقبال عَلَيْهَا بتلقي الْمُحَاذَاة لَهَا وَوجه الْمُقَابلَة وَذَلِكَ لإستحالة كَونه جسما أَو جورها وموصوفا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى وَصفه بالحدوث وسماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فصل آخر فِي ذكر مَا رُوِيَ فِي الإثارة فِي المبالاة فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابه {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} وروى نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من جعل الْهم هما وَاحِدًا كَفاهُ الله هم دُنْيَاهُ وَمن تشعبته الهموم لم يبال الله فِي أَي أَوديَة الدُّنْيَا هلك // أخرجه الْبَيْهَقِيّ // وروى حَمَّاد عَن ثَابت عَن شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وروى خَالِد بن عبد الله عَن بَيَان عَن قيس بن مرداس الْأَسْلَمِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 يذهب الصالحون الأول فَالْأول وَتبقى حثالة كحثالة الشّعير أَو التَّمْر لَا يباليهم الله باله // أخرجه الْأَمَام فِي مُسْنده // وروى شهر بن حَوْشَب عَن معدي كرب عَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرويهِ عَن ربه جلّ وَعز يَا ابْن آدم إِن تذنب حَتَّى يبلغ ذنوبك عنان السَّمَاء ثمَّ تستغفرني غفرت لَك لَا أُبَالِي // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن كل مَا وصف بِهِ الله عز وَجل من أَمْثَال هَذِه الْأَلْفَاظ فَالْمُرَاد بِهِ الْأَخْبَار عَن غناهُ عز وَجل وَأَنه مِمَّن لَا ينتقص شَيْء مِمَّا يَفْعَله وَكَذَلِكَ معنى مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي القبضتين اللَّتَيْنِ أخرجهُمَا من صلب آدم عَلَيْهِ السَّلَام للنار وَلَا أُبَالِي وللجنة وَلَا أُبَالِي وَأفَاد بذلك أَنه يُوصل فَضله وعدله إِلَى مَا شَاءَ من خلقه من غير أَن يزْدَاد عَن فعل الْفضل أَو يكون لَهُ نقص بِفعل الْعدْل من تعذيبهم ابْتِدَاء من غير جرم وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ معنى الْآيَة مَحْمُولا عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فصل آخر فِي الْبَيَان عَمَّا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وصف الله بالمباهاة روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله يباهي بِأَهْل عَرَفَات فَيَقُول يَا ملائكتي أنظروا إِلَى عبَادي جاؤوني من كل فج عميق أشهدكم أَنِّي غفرت لَهُم وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير أَن نَوْفًا الْبكالِي وعبد الله بن عَمْرو اجْتمعَا فَقَالَ عبد الله بن عَمْرو أَنا أحَدثك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلينَا مَعَه الْمغرب ذَات لَيْلَة فَرجع من رَجَعَ وعقب من عقب فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبل أَن يثوب النَّاس لصَلَاة الْعشَاء وَقد حفزه النَّفس وَهُوَ رَافع إصبعيه إِلَى السَّمَاء وَهُوَ يَقُول أَبْشِرُوا يَا معشر الْمُسلمين هَذَا ربكُم فتح بَابا من أَبْوَاب السَّمَاء يباهي بكم الْمَلَائِكَة فَيَقُول أنظروا عبَادي قضوا فَرِيضَة وهم ينتظرون أُخْرَى وَرُوِيَ أَن مُعَاوِيَة خرج على أنَاس وهم جالسون فَقَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَلقَة وهم جُلُوس فَقَالَ مَا أجلسكم قَالُوا جلسنا نذْكر الله ونحمده على مَا هدَانَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 لِلْإِسْلَامِ وَمن علينا بك فَقَالَ الله مَا أجلسكم إِلَّا ذَلِك قَالُوا آللَّهُ مَا أجلسنا إِلَّا ذَلِك قَالَ إِنِّي لم أستحلفكم تُهْمَة لكم وَلَكِنِّي أَخْبرنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يباهي بكم الْمَلَائِكَة فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن معنى المباهاة هُوَ أَن الله عز وَجل يظْهر من فعله للْمَلَائكَة مَا يحقرون طاعتهم وعبادتهم فِي عِبَادَتهم وأصل المباهاة هُوَ مفاعلة من الْبَهَاء والبهاء من العظمة فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن الله عز وَجل يظْهر من عَظمَة هَؤُلَاءِ المطيعين وبهائهم فِيهَا مَا يزِيد على بهاء الْمَلَائِكَة وحالهم فِي طاعتهم وعبادتهم وَالْغَرَض فِي معنى هَذَا الْخَبَر وَفَائِدَته تَعْرِيف الْخلق من الْآدَمِيّين مَوَاضِع الْفضل فِي طاعتهم وعبادتهم وَأَنَّهُمْ قد تبلغ طاعتهم مبلغا يزِيد قدره على قدر طَاعَة الملائة وَهَذَا مِمَّا يُمكن أَن يسْتَدلّ بِهِ أَن أفاضل الْآدَمِيّين أفضل من الْمَلَائِكَة لِأَنَّهُ لَا يباهي إِلَّا بالأفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 فصل آخر مِمَّا ذكر فِي الْخَبَر من معنى الْمُنَاجَاة روى حميد الطَّوِيل عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى نخامة فِي قبْلَة الْمَسْجِد فشق عَلَيْهِ حَتَّى عرف ذَلِك فِي وَجهه فحكسه وَقَالَ إِن أحدكُم إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربه وَإِن ربه بَينه وَبَين الْقبْلَة // أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم // وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا سلم فَإِذا رجل فِي آخر الصَّفّ قَالَ يَا فلَان أَلا تتقي الله أَلا تنظر كَيفَ تصلي فَإِن أحدكُم إِذا قَامَ يُصَلِّي يقوم يُنَاجِي ربه فَلْينْظر كَيفَ يناجيه // أخرجه الْحَاكِم // وَعَن صَفْوَان بن مُحرز قَالَ بَيْنَمَا أَنا أَسِير مَعَ عبد الله بن عمر آخِذا بِيَدِهِ إِذْ عرض لَهُ رجل فَقَالَ كَيفَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي النَّجْوَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يدنى مِنْهُ الْمُؤمن فَيَقُول أتعرف كَذَا أتعرف ذَنبا كَذَا // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 فصل الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن معنى الْمُنَاجَاة هُوَ مُخَاطبَة الْمُخَاطب على الْوَجْه الَّذِي يخْتَص بِهِ وَلَا يُشَارِكهُ فِي سَماع الْخطاب غَيره وَذَلِكَ إِذا وصف الله تَعَالَى بِهِ فَالْمُرَاد إسماع الله تَعَالَى وإفهامه من أَرَادَ من خلقه على الْوَجْه الَّذِي يختصون بِهِ من غير أَن يشاركوا فِي إسماع مَا يسمعُونَ وإفهام مَا يفقهُونَ وَهَذَا هُوَ معنى النَّجْوَى يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهُ تَعَالَى يسمع من يَشَاء من خلقه خطابه على التَّخْصِيص بِالْخِطَابِ من غير أَن يُشَارِكهُ فِي سَماع ذَلِك الْخطاب غَيره وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وسيخلو لله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان ومناجاة العَبْد لله عز وَجل هُوَ إخفاء الْخطاب من غير أَن يسمع غَيره وَهُوَ أَن يذكر الله تَعَالَى سرا فعلى ذَلِك يحمل معنى الْمُنَاجَاة إِذا وصف بِهِ الله عز وَجل أَو وصف بِهِ الْخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 فصل آخر فِي تَأْوِيل مَا رُوِيَ من النفخ وَهُوَ مَا ذكر فِي قَوْله عز وَجل {فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي} وَقَالَ {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} وَعَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع الله النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فَيَهْتَمُّونَ لذَلِك فَيَقُولُونَ لَو تشفعنا على رَبنَا حَتَّى يُرِيحنَا من مَكَاننَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدم فَيَقُولُونَ أَنْت آدم الَّذِي خلقه الله بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه وَعَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَقِي آدم مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْت الَّذِي خلقك الله بِيَدِهِ وأسكنك جنته وأسجد لَك مَلَائكَته وَنفخ فِيك من روحه ثمَّ فعلت مَا فعلت // أخرجه الْأَمَام أَحْمد // وَذكر الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 فصل فِي الْجَواب عَن ذَلِك أعلم أَن مَا يُوصف بِهِ الله عز ذكره من نفخ الرّوح فَالْمُرَاد بِهِ خلقه الرّوح فِيمَن يخلقه فِيهِ وأفعال الرب جلّ ذكره غير وَاقعَة على طَرِيق الْمُبَاشرَة والتولد بل أَفعاله كلهَا ابْتِدَاء إختراع من قبل أَن الله عز وَجل لَا يَقْتَضِي تغير المخترع بِهِ وَلَا حُدُوث شَيْء مِنْهَا فِيهِ فَأَما وَجه إِضَافَة الرّوح إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ وَفَائِدَته فَهُوَ تَخْصِيص تشريف لِأَن الْمَذْكُور قد يخص بِالذكر تَشْرِيفًا لَهُ وَإِن كَانَ غَيره فِي مَعْنَاهُ كَمَا قيل بَيت الله وعبد الله وناقة الله تَخْصِيصًا بِالذكر من جملَة المسميات وإبانة بِالْفَضْلِ وأمارة لَهُ يبين بهَا عَمَّا سواهُ للتنويه بِذكرِهِ وَالرَّفْع من حَاله وعَلى هَذَا الْوَجْه أضَاف روح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ فَقَالَ روح الله وَذَلِكَ أحد وُجُوه الإضافات مِمَّا مَعْنَاهُ لَا يخرج عَن الْملك والخلق وَالتَّدْبِير وَالْقُدْرَة لإستحالة الْإِضَافَة إِلَيْهِ من طَرِيق الْمُجَاورَة لَهُ والتغيير بِهِ لإستحالة أَن يكون جسما أَو جوهرا فيتغير بِمَا يحدث فِيهِ أَو يجاوره فعلى ذَلِك فرتب هَذِه الْأَبْوَاب إِن شَاءَ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 فصل آخر فِي الْكَلَام على من قَالَ إِن مَا روينَا من هَذِه الْأَخْبَار وَذكرنَا فِي أَمْثَال السّنَن والْآثَار مِمَّا لَا يجب الإشتغال بتأويله وتخريجه وَتبين مَعَانِيه وَتَفْسِيره أعلم أَن أول مَا فِي ذَلِك أَنا قد علمنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا خاطبنا بذلك ليفيدنا أَنه خاطبنا على لُغَة الْعَرَب بألفاظها المعقولة فِيمَا بَينهَا المتداولة عِنْدهم فِي خطابهم فَلَا يَخْلُو أَن يكون قد أَشَارَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ إِلَى معَان صَحِيحَة مفيدة أَو لم يشر بذلك إِلَى معنى وَهَذَا مِمَّا يجل عَنهُ أَن يكون كَلَامه يَخْلُو من فَائِدَة صَحِيحَة وَمعنى مَعْقُول فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا بُد أَن يكون لهَذِهِ الْأَلْفَاظ معَان صَحِيحَة وَلَا يَخْلُو أَن يكون إِلَى مَعْرفَتهَا طَرِيق أَو لَا يكون إِلَى مَعْرفَتهَا طَرِيق فَإِن لم يكن إِلَى مَعْرفَتهَا طَرِيق وَجب أَن يكون تعذر ذَلِك لأجل أَن اللُّغَة الَّتِي خاطبنا بهَا غير مفهومة الْمَعْنى وَلَا مَعْقُول المُرَاد وَالْأَمر بِخِلَاف ذَلِك فَعلم أَنه لم يعم على المخاطبين من حَيْثُ أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ غير مَا وضعت لَهَا أَو مَا يُقَارب مَعَانِيهَا مِمَّا لَا يخرج من مَفْهُوم خطابها إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ تعرف مَعَانِيهَا مُمكنا والتوصل إِلَى المُرَاد بِهِ غير مُتَعَذر فَعلم أَنه مِمَّا لَا يمْتَنع الْوُقُوف على مَعْنَاهُ ومغزاه وَأَن لَا معنى لقَوْل من قَالَ إِن ذَلِك مِمَّا لَا يفهم مَعْنَاهُ أذ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ خطابه خلوا من الْفَائِدَة وَكَلَامه معنى عَن مُرَاد صَحِيح وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فَإِن قيل ألستم تَقولُونَ فِي متشابه الْقُرْآن أَنه مِمَّا لَا يُوقف على مَعْنَاهُ وَإِن كَانَ على لُغَة الْعَرَب وَلَا بُد فِيهِ من فَائِدَة قيل فِيهِ جوابان من أَصْحَابنَا من قَالَ إِن فِي مُشكل الْقُرْآن مَالا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ وَلَا نعلم تَأْوِيله لَكِن الله هُوَ الْمَخْصُوص بِمَعْرِِفَة تَأْوِيله وَلَكِن فَائِدَته التِّلَاوَة الَّتِي هِيَ طَاعَة وَهِي مَنْدُوب إِلَيْهَا مثاب على فعلهَا وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه لَا متشابه فِي الْقُرْآن إِلَّا والراسخون فِي الْعلم يعْرفُونَ تَأْوِيله وَأَن قَوْله والراسخون مَعْطُوف على قَوْله إِلَّا الله على ذَلِك يسْقط هَذَا السُّؤَال فَإِن قيل أَلَيْسَ مَعَاني هَذِه أَلْفَاظ الَّتِي وَردت فِي هَذِه الْآثَار إِذا حملت على الْمَعْقُول فِيمَا بَيْننَا لم يَصح فِي وصف الله تَعَالَى ذكره وَإِذا خرجت عَن مَعَانِيهَا المعقولة أدّى إِلَى أَن لَا تكون على حسب اللُّغَة وَأَن يكون ذَلِك مِمَّا يخْتَص بِعلم الله قيل إِن مَعَانِيهَا معقولة على حسب مَا يَصح فِي وصف الله تَعَالَى مَحْمُولَة على ذَلِك وسبيلها كسبيل سَائِر الْأَوْصَاف الَّتِي وَردت فِي الْكتاب من ذكر الله سُبْحَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 بالنعوت الَّتِي حصلت فِيهَا النُّصُوص والتوقيف وَكَانَت مَعَانِيهَا معقولة ومرتبة على حسب مَا نزلتها الْعُقُول على حسب إختلاف الموصوفين بهَا بعد أَن لَا تخرج عَن حقائقها وحدودها وأحكامها اللَّازِمَة وَلَو وَجب الْوُقُوف فِي مَعَاني هَذِه الْأَلْفَاظ لهَذِهِ الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي وصف الله جلّ ذكره لأجل مَا قَالُوا لزم الْوُقُوف فِي سَائِر وصف الله مِمَّا ورد فِي الْكتاب لمشاركتها لهَذِهِ فِي مثل هَذَا الْمَعْنى فَلَمَّا لم يجز ذَلِك وَكَانَ سَائِر مَا ورد من وَصفه مَحْمُولا على مَا يَصح غير مُتَوَقف فِي مَعْنَاهُ فَكَذَلِك سَبِيل هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي وَردت فِي هَذِه الْآثَار فَإِن قيل إِنَّكُم لَا توجبون الْعلم وَالْقطع بأمثال هَذِه الْأَخْبَار لِأَنَّهَا آحَاد وَمَا فِي مَعَانِيهَا فَكيف تجمعون بَينهَا وَبَين مَا فِي الْكتاب قيل طَرِيق الْجمع بَينهَا من وَجه آخر وَهُوَ أَنه مِمَّا طلق فِي وصف الله جلّ ذكره وَله معنى صَحِيح مَعْقُول وَإِذا كَانَ أَحدهمَا مَقْطُوعًا بِهِ وَالْآخر مجوزا وَلَيْسَ لإختلافهما فِي طريقهما مَا يُوجب إختلاف حكمهَا فِي جَوَاز الْإِطْلَاق حمل مَعَانِيهَا الْوَجْه الصَّحِيح فَإِن قيل فَإِذا لم يكن خبر الْوَاحِد مُوجبا للإعتقاد وَالْقطع وَلَيْسَ فِي هَذِه الْأَخْبَار عمل يَقْتَضِي ذَلِك مِنْهَا بِحَسبِهِ فعلى مَاذَا تحملونها قيل إِنَّهَا وَإِن لم تكن مُوجبَة للْقطع بهَا مقتضية للْعلم فَإِنَّهَا مجوزة مغلبة وَقد يُفِيد الْخَبَر التجويز من جِهَة إِطْلَاق اللَّفْظَة وَقد يُفِيد ذَلِك من طَرِيق الْقطع والإعتقاد وَإِذا كَانَ طَرِيقه تواترا وإجماعا ظَاهرا أَو كتابا ناطقا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الأعتقاد وَالْقطع بِحَسبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وَإِن كَانَ ذَلِك مُسْتَندا إِلَى أَخْبَار آحَاد وعدول ثِقَات كَانَ الحكم بهَا على الظَّاهِر وَاجِبا من طَرِيق التجويز وَرفع الإحالة وَإِن لم يكن فِيهَا الْقطع والإعتقاد فَلذَلِك رتبنا هَذِه الْأَخْبَار على هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا وَأعلم أَنه إِذا كَانَ لَا بُد من قبُول أَخْبَار الْعُدُول وَلَا بُد أَيْضا من أَن يكون لكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَثر والفائدة وَكَانَ التَّوَقُّف فِيمَا يُمكن معرفَة مَعْنَاهُ لَا وَجه لَهُ وَكَانَ تَعْطِيل هَذِه الْأَخْبَار لأجل توهم تعذر تخريجها وترتيبها لَا وَجه لَهُ وَكَانَ بَعضهم مِمَّن يتَوَهَّم أَنه لَا سَبِيل إِلَى تخريجها يذهب إِلَى أبطالها وَبَعْضهمْ يذهب إِلَى إِيجَاب التَّشْبِيه بهَا وَبَعْضهمْ يذهب إِلَى إخلائها من معَان صَحِيحَة وَجب أَن يكون الْأَمر فِيهَا على مَا قُلْنَا ورتبنا وَأَن يكون أَوْهَام المعطلين من الملحدة والمبتدعة والمشبهة لله بخلقه فَاسِدَة بَاطِلَة وَأَن يكون مَعَاني هَذِه الْآثَار صَحِيحَة معقولة على الْوَجْه الَّتِي رتبناها وَبَطل توهم من يَدعِي أَن ذَلِك مِمَّا لَا يجوز تَأْوِيله وَلَا يَصح تَفْسِيره وَوَجَب أَيْضا أَن يكون معنى قَول من قَالَ بإمرارها على مَا جَاءَت مَحْمُولا على أَنه لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص مِنْهَا لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى وُقُوع الْغَلَط فِيهَا وخاصة إِذا خَاضَ فِي تَأْوِيلهَا من لم يكن لَهُ دربة بطرِيق التَّوْحِيد وَمَعْرِفَة الْحق فِيهَا وَلذَلِك حملنَا هَذَا القَوْل على هَذَا الْمَعْنى من قَائِله وَإِن لم يكن أَرَادَ ذَلِك فَإنَّا بَيناهُ لتوضيح بطلَان مَا قَالَه وَتَصْحِيح مَا قُلْنَا فعلى ذَلِك فلترتب إِن شَاءَ الله تَعَالَى كمل بَيَان مَا أشكل ظَاهره من صَحِيح الحَدِيث مِمَّا أوهم التَّشْبِيه وَلبس بذلك المجسمون وازدراه الْمُلْحِدُونَ وَطعن فِي رِوَايَته المبتدعون وإيضاح مَا خَفِي بَاطِنه مِمَّا أغفله الجاهلون وَأنْكرهُ المعطلون وَشرح ذَلِك وتنزيله مَا يَلِيق بِوَصْف الله تَعَالَى بالدلائل الَّتِي لَا شكّ فِيهَا وموافقة السّنة الْمَعْمُول بهَا واللغة الْمُجْتَمع عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 تمّ الْكتاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500