الكتاب: كتاب بغداد المؤلف: أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر ابن طيفور (المتوفى: 280هـ) المحقق: السيد عزت العطار الحسيني الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة / مصر الطبعة: الثالثة، 1423هـ - 2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- كتاب بغداد ابن طيفور الكتاب: كتاب بغداد المؤلف: أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر ابن طيفور (المتوفى: 280هـ) المحقق: السيد عزت العطار الحسيني الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة / مصر الطبعة: الثالثة، 1423هـ - 2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم (ذكر خلَافَة عبد اللَّهِ بن هَارُون الرشيد الْمَأْمُون) قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: قد ذكرنَا من خبر مُحَمَّد، والمأمون وَمَا كَانَ من اخْتِلَافهمَا وَالْحَرب بَينهمَا إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من مقتل مُحَمَّد بن هَارُون، وَالْحَرب الَّتِي كَانَت بَين مُحَمَّد بن أبي خَالِد، وَعِيسَى بن مُحَمَّد، وَالْحسن بن سهل إِلَى مخرج أبي السَّرَايَا، وَذكر إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي إِلَى آخر حربهم وانقضائها وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ. وابتدأنا بِخَبَر شخوص الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد من خرا سان وَمَا كَانَ من أخباره بِبَغْدَاد إِلَى وَقت شخوصه عَنْهَا ووفاته ذكر جمَاعَة من الروَاة مِنْهُم: إِسْحَاق بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، وَأَبُو حسان الزيَادي وَابْن شبانة الْمروزِي فِيمَا حملُوا من كتب التَّارِيخ وَاتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَيْهِ: إِن دُخُول الْمَأْمُون بَغْدَاد مُقَدّمَة من خُرَاسَان كَانَ فِي يَوْم السبت ارْتِفَاع النَّهَار لَا ربع عشرَة لَيْلَة بقيت من صفر سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ لِبَاسه ولباس أَصْحَابه جَمِيعًا أقبيتهم، وَقَلَانِسِهِمْ، وطراداتهم، وأعلامهم الخضرة. قَالُوا: فَلَمَّا قدم نزل الرصافة، وَقد كَانَ قبل ذَلِك قدم إِلَى النهروان يَوْم السبت فَأَقَامَ بِهِ ثَمَانِيَة أَيَّام وَخرج إِلَيْهِ أهل بَيته، ووجوه أهل بَغْدَاد فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت الآخر دخل إِلَى بَغْدَاد، وَكَانَ قد كتب إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن وَكَانَ بالرقة أَن يوافيه بالنهروان. فَقدم طَاهِر وَدخل عَلَيْهِ وَأمره أَن ينزل الخيزرانية هُوَ وأصحابة، ثمَّ أَنه تحول فَنزل قصره على شاطئ دجلة. وَأمر حميد بن عبد الحميد، وَعلي بن هِشَام وكل من كَانَ فِي عَسَاكِر هما أَن ينزلُوا فِي عسكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قَالُوا جَمِيعًا: فَكَانُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْمَأْمُون فِي كل يَوْم مُسلمين ولباسهم الثِّيَاب الْخضر، وَلم يكن أحد يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا فِي خضرَة، وَلبس ذَلِك أهل بَغْدَاد أَجْمَعُونَ؛ وَكَانُوا يخرقون كل شَيْء رَأَوْهُ من السوَاد على أحد إِلَّا القلانس فَإِن الْوَاحِد بعد الْوَاحِد كَانَ يلبسهَا متخوفا ووجلا. فَأَما قبَاء أَو علم فَلم يكن أحد يجترئ أَن يلبس شَيْئا من ذَلِك، وَلَا يحملهُ. فَمَكَثُوا بذلك ثَمَانِيَة أَيَّام، وَتكلم فِيهَا بَنو هَاشم من ولد الْعَبَّاس خَاصَّة وَقَالُوا لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تركت لِبَاس أهل بَيْتك ودولتهم ولبست الخضرة. قَالُوا وَكتب إِلَيْهِ فِي ذَلِك قواد أهل خُرَاسَان وَتكلم فِي ذَلِك دون النَّاس جَمِيعًا لما قدم طَاهِر بن الْحُسَيْن فأظهر لَهُ الْإِجَابَة وَلما يفعل، وَلما رأى طاعتهم لَهُ فِي لِبَاس الخضرة وكراهتهم لَهَا جلس يَوْم السبت وَعَلِيهِ ثِيَاب خضر، فَلَمَّا اجْتَمعُوا عِنْده دَعَا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سَواد فكساها طَاهِر بن الْحُسَيْن، وخلع على عدَّة من قواده أقبية وقلانس سُودًا. فَلَمَّا خَرجُوا من عِنْده وَعَلَيْهِم السوَاد طرح سَائِر القواد الخضرة ولبسوا السوَاد. وَقد كَانَ الْجند كتبُوا إِلَى الْمَأْمُون كتبا، وطرحوا رِقَاعًا فِي الْمَسْجِد يسألونه أَرْزَاقهم، وَكَانَ قد وعدهم أَن يعطيهم أرزاق سِتَّة أشهر وَيُحَاسب كل من أعطَاهُ حميد بن عبد الحميد من الْجند طَعَاما على مَا أَخذ وَيدْفَع إِلَيْهِم تَمام رزق سِتَّة أشهر على خواصهم الْمَعْرُوفَة. قَالُوا: فَأَعْطَاهُمْ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس لسبع بَقينَ من صفر فَتَوَلّى أعطاء أهل الْجَانِب الغرب حميد، وَوَعدهمْ أَن يعطيهم رزق شَهْرَيْن لتَمام سِتَّة أشهر إِذا فرغ من إعطائهم هَذِه الْأَرْبَعَة الْأَشْهر فرضوا بذلك. قَالَ يحيى بن الْحسن: لبس الْمَأْمُون الخضرة بعد دُخُوله بَغْدَاد تِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ مزقت. قَالُوا جَمِيعًا: وَلم يزل أَمِير الْمُؤمنِينَ مُقيما بِبَغْدَاد فِي الرصافة حَتَّى بني منَازِل على شط دجلة عِنْد قصره الأول وَفِي بُسْتَان مُوسَى فَأَقَامَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قَالُوا: وَلما كَانَ بعد دُخُول الْمَأْمُون بأيام وثب ابْن لإسحاق بن مُوسَى الْهَادِي يَوْم السبت لليلة بقيت من شهر ربيع الأول بِأَبِيهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ولي عَهده من بعده هُوَ وَخصي لِأَبِيهِ إِسْحَاق بن مُوسَى فوجياه بسكين حَتَّى قتلاه، فأخذا فَأتي بهما الْمَأْمُون فَأمر بقتل الْخصي فَأَخذه عبد اللَّهِ بن مُوسَى فَقتله وَحبس الابْن. فَقَالَ أَخُوهُ إِسْحَاق: لَا نرضي حَتَّى يقتل مَعَ الْخصي. فَأمر بقتْله فَأَخذه عبد اللَّهِ بن مُوسَى فَضرب عُنُقه. وَكَانَ قَتله لَهما يَوْم الْأَحَد لَا نسلاخ شهر ربيع الآخر. ذكر إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الْكَاتِب، عَن عَمْرو بن مسْعدَة، وحَدثني سهل بن عُثْمَان قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن النُّعْمَان. . قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول قَالَ: لما قدمنَا من خُرَاسَان مَعَ الْمَأْمُون فصرنا فِي عقبَة حلوان وَكنت زميله قَالَ لي الْمَأْمُون يَا أَحْمد: إِنِّي أجد رَائِحَة الْعرَاق. قَالَ: فأجبته بِغَيْر جَوَابه وَقلت لَهُ: مَا اخلقه. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا جوابي وَلَكِنِّي أحسبك سَهَوْت أَو كنت مفكرا. قَالَ: قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فيمَ فَكرت؟ قَالَ قلت: فَكرت فِي هجومنا على بَغْدَاد وَلَيْسَ مَعنا إِلَّا خَمْسُونَ ألف دِرْهَم مَعَ فتْنَة غلبت على قُلُوب النَّاس واستعذبوها فَكيف يكون حَالنَا إِن هاج هائج أَو تحرّك متحرك؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثمَّ قَالَ: صدقت يَا أَحْمد مَا أحسن مَا فَكرت وَلَكِنِّي أخْبرك: النَّاس على طَبَقَات ثَلَاث فِي هَذِه الْمَدِينَة يَعْنِي بَغْدَاد: ظَالِم ومظلوم، وَلَا ظَالِم وَلَا مظلوم. فَأَما الظَّالِم فَلَيْسَ يتَوَقَّع إِلَّا عَفَوْنَا وإمساكنا، وَأما الْمَظْلُوم فَلَيْسَ يتَوَقَّع أَن ينصف إِلَّا بِنَا. وَمن كَانَ لَا ظَالِما وَلَا مَظْلُوما فبيته يَسعهُ. فوَاللَّه مَا كَانَ إِلَّا كَمَال قَالَ. وَذكر إِسْمَاعِيل بن أبي مُحَمَّد اليزيدي قَالَ: كُنَّا مَعَ الْمَأْمُون منصرفة من خُرَاسَان إِلَى بَغْدَاد فَلَمَّا دخل قرماسين أَقَامَ بهَا أَيَّامًا فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: هَذَا منزل طيب فَلَو أَقمت بهَا أَيَّامًا حَتَّى يَأْتِيك خبر إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بِبَعْض مَا تحب. قَالَ: لَا وَالله قَالُوا: فأننا نتخوف أَن يكون دِمَاء فَتكون هَاهُنَا حَتَّى يقْضِي اللَّهِ من أمره مَا يقْضِي. قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أتري إِن شم إِبْرَاهِيم ريحى يقدم على. لَا وَالله مَا ذَاك ظَنِّي بِهِ. قَالَ: وارتحل فَمَا بلغنَا حلوان حَتَّى جَاءَنَا الْخَبَر بِأَنَّهُ قد أختفي. وَذكر عَمْرو بن مسْعدَة قَالَ: لما صَار الْمَأْمُون إِلَى الرّيّ منصرفة إِلَى الْعرَاق ذكر عَليّ بن صَالح صَاحب الْمُصَلِّي إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان وَكَانَ لَهُ صديقا. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: رجل من أهلك ركب عَظِيمَة وَجَاء شَيْئا إدا، وَقد آمَنت الْأَحْمَر وَالْأسود فَأن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَخُصُّهُ بِأَمَان يسمه بِهِ فَإِن عفوا اللَّهِ لَك بازاء عفوك عَنهُ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت شهيدي أَنِّي قد عَفَوْت عَن الْأَحْمَر وَالْأسود، وأعطيتهم أمانك وذمتك وخصصت بذلك إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وعممت النَّاس كلهم حَتَّى ابْن دُحَيْم الْمدنِي، وسعيدا الْخَطِيب. قَالَ: وَكَانَ ابْن دُحَيْم هَذَا يصعد مِنْبَر الْمَدِينَة وَلَا يدع من قَول الْقَبِيح شَيْئا إِلَّا ذكر بِهِ الْمَأْمُون. وحَدثني الْفضل بن مُحَمَّد الْعلوِي قَالَ: لما قدم الْمَأْمُون تَلقاهُ عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس ابْن الْحسن بن عبيد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بن عَليّ بن أبي طَالب فَقَالَ: جعل اللَّهِ قدومك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِفْتَاح رَحْمَة لَك، وَلمن قدمت عَلَيْهِ من رعيتك، فقد اشرقت الْبِلَاد حِين حللت بهَا، وآنس اللَّهِ بقربك أَهلهَا، ونصبت الرّعية إِلَيْك أعينها، ومدت إِلَى اللَّهِ فِيك وَلَك أيديها، لتصيب من مقدمك عدلا يُحْيِيهَا، وَمن نيل يدك فضلا يغنيها. وَذكر عَمْرو بن مسْعدَة قَالَ ك لما قدم الْمَأْمُون بَغْدَاد أهدي إِلَيْهِ الْفضل بن الرّبيع فص ياقوت لم ير مثله. قَالَ: واحب الْمَأْمُون الفص وَجعل يقلبه فِي يَده وَينظر إِلَى وبيصة، ويحوله من يَد إِلَى يَد وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَتى رَأَيْت فصا أحسن من هَذَا؟ . قَالَ: وَأَنْشَأَ يحدث الْقَوْم الحَدِيث عَن فص كَانَ للمهدي وهبه للرشيد. فَقَالَ: كَانَ أَبُو مُسلم وَجه زِيَاد بن صَالح إِلَى الصين فَبعث إِلَيْهِ بِهَذَا الفص فَصَارَ إِلَى أبي الْعَبَّاس، فوهبه إِلَى عبد اللَّهِ بن عَليّ، فوهبه عبد اللَّهِ بن عَليّ للمهدي، فوهبه الْمهْدي للرشيد. فَبينا الرشيد يناظر يحيى بن خَالِد يَوْمًا فِي قَوس جلا هق إِذْ ندر الفص من يَده فكرر الْموضع فَلم ير لَهُ عين وَلَا أثر فأغتنم الرشيد لذهابه. فَقيل لَهُ أَن صَالحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 صَاحب الْمُصَلِّي اشْترى فصا من عون الْعَبَّادِيّ بِعشْرين ألف دِينَار لَيْسَ لأحد مثله فَوجه إِلَيْهِ فَبعث بِهِ. فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: وَأَيْنَ هَذَا من فصي. قَالَ: ثمَّ قَالَ الْمَأْمُون: أما وَالله لأضعن من قدر هَذِه الْحِجَارَة الَّتِي لَا معنى لَهَا ورد الفص على الْفضل وَقَالَ لرَسُوله: قل لَهُ وهبت دولتك يَا أَبَا الْعَبَّاس. فَلَمَّا رَجَعَ الفص إِلَى الْفضل أغتم وَقَالَ لرجل من بطانته: أما إِنَّه لَا يعِيش من يَوْمه هَذَا إِلَّا أقل من سنة. فَمَا أَمْسَى الْمَأْمُون حَتَّى أَتَاهُ الْخَبَر بهَا. قَالَ: قَالَ: فَسكت عَنهُ وَلم يخبر بِهِ أحدا. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ الْعَبَّاس بن الْمسيب وَكَانَ صَاحب شرطته ركب الْمَأْمُون فِي جنَازَته فَعرض لَهُ بعض أَوْلَاد الْفضل بن الرّبيع وَهُوَ بِبَاب الشَّام. فَدَعَا لَهُ وانتسب فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أدن. فَدَنَا. ثمَّ قَالَ لَهُ: أدن. فَدَنَا. حَتَّى قرب من ركابه فأدني مِنْهُ رَأسه كَأَنَّهُ يسر إِلَيْهِ وَقَالَ: إعلم أَبَا الْعَبَّاس أَن الْوَقْت قد مضى. قَالَ: فَرجع الْفَتى إِلَى الْفضل فَأخْبرهُ. فَلم يزل على حذر مِنْهُ أَن يحقدها عَلَيْهِ. وَذكر عَن عَمْرو بن مسْعدَة قَالَ: اسْتقْبل الْمَأْمُون فِي منصرفة من خُرَاسَان الطالبيون بِبَعْض طَرِيقه وَاعْتَذَرُوا مِمَّا كَانَ مِنْهُم من الْخُرُوج. فَقَالَ الْمَأْمُون لمتكلمهم: كف واستمع مني. أولنا وأولكم مَا تَعْمَلُونَ، وآخرنا وآخركم إِلَى مَا ترَوْنَ، وتناسوا مَا بَين هذَيْن. قَالَ ابْن أبي طَاهِر: لما دخل الْمَأْمُون مَدِينَة السَّلَام تَلَقَّتْهُ الْأَنْصَار فَقَالَت: الْحَمد لله الَّذِي شدّ بك الْحق وردك إِلَى دَارك مدفوعا عَنْك - مستجابا لنا فِيك - فَأَنت كَمَا قَالَ ابْن عمنَا حسان فِي ابْن عمك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم دخل الْمَدِينَة: (وَكُنَّا حِين تذكر مِنْك نعمي ... يجل الْوَصْف عَن وصف الْمقَال) (بِحَمْد اللَّهِ حِين حللت فِينَا ... بنورك نجتلي ظلم الضلال) (وَكنت كَرَامَة نزلت علينا ... بِأَسْعَد طَائِر وبخير حَال) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قَالَ: أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن الْحسن بن عبد الْحق: كَانَ قدوم الْمَأْمُون بَغْدَاد فِي النّصْف من ربيع الأول سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ، وَدخل بَغْدَاد من بَاب خُرَاسَان والحربة بَين يَدَيْهِ فِي يَد مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن الْمسيب بن زُهَيْر وَكَانَ خَليفَة لِأَبِيهِ على الحربة وَالْعَبَّاس بن الْمسيب بن زُهَيْر وَرَاء ابْنه، وَكَانَ منقرسا بَين يَدي الْمَأْمُون. وَذكر يحيى بن الْحسن بن عبد الْخَالِق، عَن عَليّ بن أبي سعيد أَنه حَدثهُ قَالَ: لَقِي الْفضل بن الرّبيع طَاهِر بن الْحُسَيْن عِنْد دُخُول الْمَأْمُون بَغْدَاد فثني عنانه مَعَه وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الطّيب. مَا ثنيت عناني مَعَ أحد قطّ قبلك إِلَّا مَعَ خَليفَة ولي حَاجَة. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الرضاء عني وتعجل ذَلِك. قَالَ: فَمضى طَاهِر من فوره ذَلِك وكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ فَأمره بِإِدْخَال الْفضل عَلَيْهِ قَالَ: فَقَالَ طَاهِر: فأدخلته حاسرا لَا سيف عَلَيْهِ، وَلَا طيلسان، وَلَا قلنسوة. فَلَمَّا توَسط الدَّار وثب الْمَأْمُون عَن عَرْشه فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ الْتفت إِلَيْهِ قبل أَن يسلم عَلَيْهِ بالخلافة. فَقَالَ: أَتَدْرِي لم صليت يَا فضل؟ . فَقَالَ: لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: شكرا لله إِذْ رَزَقَنِي الْعَفو عَنْك، قد كلمني أَبُو الطّيب فِيك وَقد عَفَوْت عَنْك. قَالَ: فَقَالَ الْفضل: فلي حَاجَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَا هِيَ؟ . قَالَ: الرضاء. قَالَ أجل لَا يكون الْعَفو إِلَّا مَعَ الرضاء. قَالَ: أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تجْعَل لي مرتبَة فِي الدَّار. قَالَ: عجلت يَا فضل أخرج فَخرج. قَالَ: وَقَالَ لَهُ يَوْمًا وَقد دخل عَلَيْهِ: أَخْبرنِي يَا فضل عَن شتمك إيَّايَ، ومقاماتك الَّتِي كنت تقوم بهَا على وتثلبني بهَا كَيفَ أمنت أَن أسْرع إِلَى غضبة من الغضبات فأفعل فعلا أندم عَلَيْهِ حِين لَا تَنْفَع الندامة. قَالَ. فأنشده لبَعض الشُّعَرَاء فِيهِ. (صفوح عَن الأجرام حَتَّى كَأَنَّهُ ... من الْعَفو لم يعرف من النَّاس مجر مَا) (وَلَيْسَ يُبَالِي أَن يكون بِهِ الأذي ... إِذا مَا الأذي لم يغش بالكره مُسلما) قَالَ عبد اللَّهِ بن عَمْرو. حَدثنِي جَعْفَر بن الْمَأْمُون قَالَ: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد لقِيه الْفضل بن الرّبيع مَعَ طَاهِر فَلَمَّا رأى الْفضل نزل من قُبَّته وَكَانَ عديله على بن هِشَام وَمر يعدو حَتَّى سجد. فَقَالَ الْمَأْمُون: الْحَمد لله قَدِيما مَا كنت أسلم عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فَأَفْرَح برده فسبحان الَّذِي الهمني الصفح عَنهُ فَلذَلِك سجدت. قَالَ: فَقَالَ طَاهِر: فعجبت لسعة حلمه. وَذكر زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: لما كَانَ فِي الْعِيد بعد قدوم الْمَأْمُون سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ والمأمون يتغدي وعَلى مائدته طَاهِر بن الْحُسَيْن، وَسَعِيد بن سلم، وَحميد بن عبد الحميد، وعَلى رَأسه سعيد الْخَطِيب وَهُوَ يقرظه وَيذكر مناقبه، ويصف سيرته ومجلسه إِذا أنهملت عينا الْمَأْمُون بالدموع فَرفع يَده عَن الطَّعَام فَأمْسك الْقَوْم حِين رَأَوْهُ بِتِلْكَ الْحَال حَتَّى إِذا كف قَالَ لَهُم: كلوا. قَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهل نسيغ طَعَاما، أَو شرابًا وَسَيِّدنَا بِهَذَا الْحَال. قَالَ: أما وَالله مَا ذَلِك من حدث، وَلَا لمكروه هَمَمْت بِهِ بِأحد وَلكنه جنس من أَجنَاس الشُّكْر لله لعظمته وَذكر نعْمَته الَّتِي أتمهَا على كَمَا أتمهَا على أَبَوي من قبل. أما ترَوْنَ ذَاك الَّذِي فِي صحن الدَّار يَعْنِي الْفضل بن الرّبيع. قَالَ: وَكَانَت الستور قد رفعت وَوضعت الموائد للنَّاس على مَرَاتِبهمْ وَكَانَ يجلس الْفضل مَعَ أَصْحَاب الحرس، وَكَانَ فِي أَيَّام الرشيد وحاله حَاله يراني بِوَجْه أعرف فِيهِ الْبغضَاء والشنآن، وَكَانَ لَهُ عِنْدِي كَالَّذي لي عِنْده، وَلَكِنِّي كنت ادارية خوفًا من سعايته، وحذرا من اكاذيبه، فَكنت إِذا سلمت عَلَيْهِ فَرد على أظل لذَلِك فَرحا، وَبِه مبتهجا وَكَانَ صَفوه إِلَى المخلوع فَحَمله على أَن أغراه بِي، وَدعَاهُ إِلَى قَتْلِي، وحرك الآخر مَا يُحَرك الْقَرَابَة وَالرحم الماسة فَقَالَ: أما الْقَتْل فَلَا اقتله وَلَكِنِّي اجْعَلْهُ بِحَيْثُ إِذا قَالَ لم يطع، وَإِذا دَعَا لم يجب فَكَانَ أحسن حالاتي عِنْده أَن وَجه مَعَ عَليّ بن عِيسَى قيد فضَّة بعد مَا تنازعنا فِي الْفضة وَالْحَدِيد ليقيدني بِهِ وَذهب عَنهُ قَول اللَّهِ جلّ وَعز: {ثمَّ من بغي عَلَيْهِ لينصرنه اللَّهِ} فَذَاك مَوْضِعه من الدَّار باخس مجالسها، وأدني مراتبها وَهَذَا الْخَطِيب على رَأْسِي وَكَانَ بالْأَمْس يقف على هَذَا الْمِنْبَر الَّذِي بإزائي مرّة، وعَلى الْمِنْبَر الغربي أُخْرَى فيزعم أَنِّي الْمَأْمُون وَلست بالمأمون. ثمَّ هُوَ السَّاعَة يقرظني تقريظة الْمَسِيح، ومحمدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 عَلَيْهِمَا السَّلَام. قَالَ: فَقَالَ طَاهِر بن الْحُسَيْن يَا سيدنَا. فَمَا عندنَا فيهمَا، وَقد أباحك اللَّهِ أراقه دمائهما فحصنتهما بِالْعَفو والحلم. قَالَ: فعلت ذَلِك لموْضِع الْعَفو من اللَّهِ ثمَّ قَالَ: مدوا أَيْدِيكُم إِلَى طَعَامكُمْ قَالَ: فَأكل وأكلوا. حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَاق بن برصوما. قَالَ: حَدثنِي أَيُّوب بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان قَالَ: كُنَّا مَعَ الْمَأْمُون بعد مقدمه بَغْدَاد بأشهر يَوْمًا وَهُوَ رَاكب وَالْفضل بن الرّبيع وَاقِف لَهُ على مدرجته فرميناه بِأَبْصَارِنَا نَنْظُر مَا يكون مِنْهُ. قَالَ: فَمر طَاهِر وَمَعَهُ الحربة بَين يَدي الْمَأْمُون: فَنظر الْمَأْمُون إِلَى الْفضل بن الرّبيع وَصرف وَجهه عَنهُ. ثمَّ أقبل الْعَجم مَعَهم القسي والنشاب وطلع الْمَأْمُون ينظر إِلَى الْفضل بمؤخر عينه مصروفا عَنهُ وَجهه. قَالَ /: فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعَجم كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَن ينحوه بعنف فَأقبل الْمَأْمُون يَكفهمْ بِيَدِهِ وَوَجهه محول عَنهُ: قَالَ أَحْمد بن إِسْحَاق. وحَدثني: بشر السَّلمَانِي. قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن أبي خَالِد يَقُول: كَانَ الْمَأْمُون إِذا أمرنَا بِأَمْر فَظهر من أَحَدنَا فِيهِ تَقْصِير يَقُول: أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا عرف رجلا ببابي لَو قلدته أموري كلهَا لقام بهَا. قَالَ بشر: فَقلت لِأَحْمَد ابْن أبي خَالِد: يَا أَبَا الْعَبَّاس من يَعْنِي؟ قَالَ: الْفضل بن الرّبيع. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حَدثنِي رجل مِمَّن كَانَ يدْخل الدَّار ذهب عني اسْمه. قَالَ: لما أذن الْمَأْمُون للفضل بن الرّبيع فِي لبس السوَاد وَمنعه من الرّكُوب بِسيف حمائل. فَكَانَ يلبس سَيْفا بمعاليق. قَالَ: فَأَنا ذَات يَوْم فِي الدَّار إِذْ جَاءَ الْفضل فَوقف على الْبَاب الْخَارِج وَدخل عَليّ بن صَالح وَهُوَ الْحَاجِب فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْفضل بن الرّبيع بِالْبَابِ، فِي أَي الْمَرَاتِب أنزلهُ؟ قَالَ: فِي أخسها. قَالَ: فَخرج إِلَيْهِ على مَاشِيا إِلَى الْبَاب الْخَارِج فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس: أنزل فَهَذِهِ مرتبتك. قَالَ: فَجَلَسَ وَجَلَست قَرِيبا مِنْهُ. وَقَامَ الْمَأْمُون فَدخل فَلم يمر بِالْفَضْلِ أحد من بني هَاشم والقواد إِلَّا جلس إِلَيْهِ فَكَانَ آخر من جَاءَ حميد الطوسي فَلم يزل الْفضل يحضر الدَّار كل اثْنَيْنِ وكل خَمِيس فيجلس على الْبسَاط فَإِذا انْصَرف النَّاس قعدوا لَهُ. فَأَنا ذَات يَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 عِنْده إِذا جَاءَ السندي بن شاهك آخر من جَاءَ. فَقَالَ الْفضل بِيَدِهِ مَا الْخَبَر؟ . وَكَانَ السندي بن شاهك جَهورِي الصَّوْت لَا يقدر أَن يتَكَلَّم سرا. قَالَ: خبر عَجِيب قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: سمعته الْيَوْم قدم على بن أبي طَالب على الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَمَا ظَنَنْت أَنِّي أعيش حَتَّى أسمع عباسيا يَقُول هَذَا. فَقَالَ لَهُ الْفضل: تعجب من هَذَا؟ هَذَا وَالله كَانَ قَول أَبِيه قبله. قَالَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن إِسْحَاق: وَأول غضب الْمَأْمُون على الْفضل أَن الرشيد كَانَ أوصى الْفضل بن الرّبيع إِن حدث بِهِ حدث أَن يَجْعَل خزائنه، وأمواله وسلاحه، وَجَمِيع عَسْكَر إِلَى الْمَأْمُون، فَلَمَّا توفّي الرشيد حمل ذَلِك كُله إِلَى مُحَمَّد. وحَدثني الْحسن بن عبد الْخَالِق قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي عَوْف وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى عَليّ بن صَالح قَالَ: حضرت عَليّ بن صَالح عَشِيَّة فِي أول مدْخل الْمَأْمُون بَغْدَاد فجَاء آذنه فَقَالَ لَهُ: بِالْبَابِ أَبُو الْقَاسِم اللهبي؛ وَمُحَمّد بن عبد اللَّهِ العثماني، وَمصْعَب ابْن عبد اللَّهِ الزبيرِي قَالَ: فأئذن لأبي الْقَاسِم اللهبي فَدخل فأجلسه فِي صدر مَجْلِسه. ثمَّ إِذن للعثماني والزبيري فَأقْعدَ العثماني عَن يَمِينه، والزبيري عَن يسَاره ثمَّ تحدثُوا فَذكرُوا الْفضل بن الرّبيع. فَقَالَ اللهبي: أحسن اللَّهِ جَزَاء الْفضل عَنَّا فقد كَانَ برا بِنَا، وَقَالَ العثماني: كَانَ وَالله مَا علمنَا قَضَاء لحوائجنا عَارِفًا بإقدارنا، مُوجبا لحقوقنا وَقَالَ الزبيرِي: لقد كَانَت يَده عندنَا وَعند آبَائِنَا. فَقَالَ عَليّ بن صَالح: أما إِذا ذكرْتُمْ ذَلِك فَأَنِّي كنت عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه اللَّهِ أمس فَقَالَ لي يَا عَليّ: مَتى عَهْدك بصديقك؟ قَالَ: فَقلت أَطَالَ اللَّهِ بَقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ صديقي كثير فَعَن أَيهمْ يسألني أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: عَن الْفضل بن الرّبيع. قَالَ: قلت أمس الأدني وجد عِلّة فِي يَوْمه فَأَتَيْته عَائِدًا. قَالَ: وَلم تأته إِلَّا فِي يَوْم علته؟ قَالَ قلت: كَذَا عودته. قَالَ: فَكَأَنِّي إِذا جلس الْآن وَجَلَست أَنْت وَسَعِيد بن سلم، وَعبد اللَّهِ بن مَالك وَجعل وسَادَة على رُكْبَتَيْهِ ثمَّ قَالَ: وَقد وضع يَدَيْهِ عَلَيْهَا قَالَ لي الْمَنْصُور وَقلت لَهُ فَأَما الرشيد فَلَا يحْتَاج إِلَى كَلَام فِيهِ قلت: أدني ذَلِك أمس مَا زَالَ يحدثنا عَن الْمَنْصُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أ وَعَن مَكَانَهُ وَمَكَان أَبِيه مِنْهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: مَا أعجب أُمُور الْخُلَفَاء يَنْبُتُونَ الرجل ثمَّ يخطؤنه فَلَا يبقون غَايَة من الْأُمُور الا بلغوه إِيَّاهَا فِي مِقْدَار قريب. قَالَ ثمَّ أمسك وَأَمْسَكت ثمَّ قَالَ: يَا عَليّ كَأَنِّي فِي نَفسك السَّاعَة تَقول كَيفَ أخطيت الْفضل بن الرّبيع؟ نعم. كَانَ يدبر الْخَطَأ فَيَقَع صَوَابا، وَيبْعَث بالجيش الضَّعِيف فَيَقَع بِهِ النَّصْر وادبر أَنا فَيَقَع بِغَيْر ذَلِك، فَلَمَّا وقفت على البصيرة من أَمْرِي، وفكرت فِي نَفسِي، وعملت بالاحزم فِي ذَلِك ملت إِلَى الحزم فوردت الْعرَاق، وَإِن الْفضل ابْن الرّبيع بَقِيَّة الموَالِي فَلَا تخبره بذلك عني فَإِنِّي أكره أَن يبلغهُ عني مَا يسره. وحَدثني يحيى بن الْحسن قَالَ: كَانَ على بن صَالح إِذا جَاءَهُ خبر يسره من قبل الْمَأْمُون فِي الْفضل قَالَ الخادمة يسر: قل لنجاح خَادِم الْفضل كَذَا. وَكَذَا. لِئَلَّا يَحْنَث إِن وَقعت يَمِين. وحَدثني: يحيى بن الْحسن قَالَ: كَانَ الْفضل يَقُول فِي أَيَّام الْمَأْمُون: مَا بَقِي لي من عَقْلِي أحب إِلَيّ مِمَّا ذهب من مَالِي. قَالَ: وَأَخْبرنِي أَبُو الْحسن بن عبد الْخَالِق قَالَ: كَانَ الْفضل يَقُول: لَا يسود الرجل حَتَّى يشْتم، ويعرض، ويحلم. وحَدثني يحيى بن الْحسن قَالَ: رَأَيْت الْفضل بن الرّبيع وَقد دخل الْمَقْصُورَة يَوْم الْجُمُعَة أَيَّام الْمَأْمُون فَقدم دَابَّته حَيْثُ خرج فَوق مرتبته. فَقَالَ يَا غُلَام: أردد الدَّابَّة لست أركب من هَا هُنَا. وحَدثني يحيى. قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن بن عبد الْخَالِق قَالَ: كنت عِنْد الْفضل ابْن الرّبيع ذَات عَشِيَّة فِي أَيَّام الْمَأْمُون وَهُوَ فِي منظرته الَّتِي تشرع إِلَى الميدان وَمَعَهُ فِي مجْلِس المنظرة امْرَأَة تحدثه لَا أدرى من هِيَ وَهُوَ مقبل عَلَيْهَا وَذَلِكَ فِي الدَّار الَّذِي حوله الْمَأْمُون إِلَيْهَا وَهِي دَار الْعَبَّاس ابْنه وَكَانَ يُؤَدِّي عَنْهَا ألفا فِي الشَّهْر إِذْ دخل عَلَيْهِ أَبُو حَلِيم خادمة فَقَالَ: أَبُو الْعَتَاهِيَة بِالْبَابِ. قَالَ: أدخلهُ. قَالَ: فَدخل فحادثه سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاق فِي قَلْبك من عتبَة شَيْء؟ قَالَ ذهب ذَاك وَخرج قَالَ: فَبَقيت مِنْهُ بَاقِيَة؟ قَالَ لَا وَالله. قَالَ: فَهَذِهِ وَالله عتبَة. قَالَ: فَنظر إِلَيْهَا وَخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 يعدو وَترك نَعْلَيْه. حَدثنِي أَحْمد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مَيْمُون قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: لما قدم الْمَأْمُون بَغْدَاد بعثت أم جَعْفَر إِلَى أبي الْعَتَاهِيَة أحب أَن تَقول أبياتا تعطف بهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ على فَبعث إِلَيْهَا بِهَذِهِ الأبيات: - (أَلا إِن ريب الدَّهْر يدني وَيبعد ... وَيُؤْنس بالألاف طورا ويفقد) (أَصَابَت لريب الدَّهْر مني يَدي يَدي ... فَسلمت للأقدار وَالله أَحْمد) (وَقلت لريب الدَّهْر إِن ذهبت يَد ... فقد بقيت وَالله يَا دهر لي يَد) (إِذا بَقِي الْمَأْمُون لي فالرشيد لي ... ولي جَعْفَر لم يفقدا وَمُحَمّد) قَالَ: فَبعثت بهَا لى الْمَأْمُون فَلَمَّا قَرَأَهَا بَكَى وَزَاد فِي ألطافها ورق لَهَا وَعطف عَلَيْهَا. وَقَالَ أَصْحَاب التَّارِيخ: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد أَقَامَ بالرصافة إِلَى أَن بنى منزله على شط دجلة عِنْد قصره الأول فأنتقل إِلَيْهِ، وَكَانَ يسْأَل عَن أُمُور النَّاس وَمَا يصلحها، فَرفع إِلَيْهِ فِي شهر رَمَضَان أَن التُّجَّار يعتدون على ضعفاء النَّاس فِي الْكَيْل فَأمر بغفيز يسع ثَمَان مكاكيك سرد مُرْسل وصير فِي وَسطه عمودا وَسمي الملجم وَأمر التُّجَّار يعيروا مكاكيكهم عَلَيْهَا صغارها وكبارها فَفَعَلُوا ذَلِك وَرَضي النَّاس قَالَ: وَلما كَانَ يَوْم الْفطر خرج فصلى بِالنَّاسِ فِي عيساباذ وعبأ الْجند تعبئة لم ير مثلهَا قبل ذَلِك لأحد من الْخُلَفَاء من إِظْهَار السِّلَاح وكثرته وَكَثْرَة الْجند وَلم يصل بِالنَّاسِ صَلَاة الْعِيد حَتَّى قرب نصف النَّهَار. وَذكر: أَبُو حسان الزيَادي وَغَيره من أَصْحَاب الاخبار أَنه ولي مَكَّة وَالْمَدينَة فِي سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ عبد اللَّهِ بن الْحسن بن عبيد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بن عَليّ بن أبي طَالب عِنْد قدومه بَغْدَاد. فَلَمَّا حضر الْمَوْسِم كتب إِلَيْهِ بِالْولَايَةِ على الْمَوْسِم وَأَن يُقيم الْحَج بِالنَّاسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قَالُوا: وَلما دخلت سنة خمس وَمِائَتَيْنِ ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ طَاهِر بن الْحُسَيْن الجزيرة وَالشّرط والجانبين وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْأَحَد وَقعد طَاهِر للنَّاس من عين الْيَوْم الَّذِي ولي فِيهِ وَكَانَ يَوْم عَاشُورَاء. فَحَدثني يحيى بن الْحسن بن عبد الْخَالِق قَالَ: لما انْقَضتْ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وعَلى شرطة الْمَأْمُون الْعَبَّاس بن الْمسيب بن زُهَيْر وَكَانَ منقرسا. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: قد كَبرت وثقلت عَن حمل الحربة. قَالَ: فَهَذَا ابْني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَكَاني وَهِي صناعتي وصناعة أبي. وَقد علمت أَن الرشيد يتبرك بِحمْل الحربة فِي يَد الْمسيب وَنحن أَهلهَا قَالَ: فقد رَأَيْت تَوْلِيَة طَاهِر. قَالَ: فَرَأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أفضل وأصوب. قَالَ: فولي طَاهِر بن الْحُسَيْن. وَقَالَ يحيى: فَكتب طَاهِر إِلَى الْفضل بن الرّبيع وَكَانَ بَينهمَا صداقة: إِن فِي رَأْيك الْبركَة، وَفِي مشورتك الصَّوَاب فَإِن رَأَيْت تخْتَار لي رجلَيْنِ للجسر. فَكتب إِلَيْهِ: قد وجدتهما لَك وهما: خِيَار السندي بن يحيى وَعَيَّاش بن الْقَاسِم فولاهما الجسرين قَالَ: وَكَانَ الْمَأْمُون فِي الْيَوْم الَّذِي ولي طَاهِرا فِيهِ الشرطة قد ولي جمَاعَة من الهاشميين كور الشأم كورة. كورة فَلم يتم لَاحَدَّ مِنْهُم شَيْء من ولَايَته حَتَّى انْقَضتْ السّنة. قَالَ يحيى البوشنجي الْقصير حَاجِب ذِي اليمينين طَاهِر بن الْحُسَيْن قَالَ: لما ولي طَاهِر بن الْحُسَيْن الشرطة رفع إِلَيْهِ أَن فِي الْحَبْس رجلا تنصر فَأمر يحيى هَذَا أَن يحمل السَّيْف والنطع وَيَأْتِي بِهِ دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى مَجْلِسه، ثمَّ أَتَى دَار الْمُؤمنِينَ فَدَعَا بِالرجلِ فَقَالَ: يَا عَدو اللَّهِ تنصرت بعد الاسلام؟ قَالَ: اصلح اللَّهِ الْأَمِير وَالله مَا تنصرت وَمَا أَنا إِلَّا مُسلم ابْن مُسلم وَلَكِن حبست فِي كسَاء بِدِرْهَمَيْنِ سنتَيْن فَلَمَّا رَأَيْت أَمْرِي قد طَال وَلَيْسَ لي مُذَكّر يذكرنِي قلت إِنِّي مصر إِنِّي وَأَنت أَيهَا الْأَمِير مصراني وَهَذَا مصراني وَأَنا رجل من أَصْحَابك أَيهَا الْأَمِير. فَكبر طَاهِر وَدخل على الْمَأْمُون فَأخْبرهُ الْخَبَر وَأمر أَن يُوهب لَهُ ثلثمِائة دِرْهَم وَأَن يخلى سَبيله فَأمر طَاهِر بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فَقَالَ الرجل: لَا وَالله أَيهَا الْأَمِير مَا أقدر أَن أَمْشِي فَادع لي بِحِمَار فَدَعَا لَهُ بِحِمَار وخلي سَبيله. وَذكر أَبُو حسان الزيَادي: أَن الْعَبَّاس بن عبد اللَّهِ الْمَأْمُون قدم من خُرَاسَان فِي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ دُخُوله بَغْدَاد يَوْم الْخَمِيس لَا ربع عشرَة لَيْلَة بَقينَ من شعْبَان وَقدم مَعَه من خُرَاسَان مُوسَى وَعبد اللَّهِ ابْنا مُحَمَّد المخلوع فِي ذَلِك الْيَوْم واستقبله وُجُوه النَّاس من بني هَاشم والقواد حَتَّى دخل على أَمِير الْمُؤمنِينَ. حَدثنَا أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن الْحسن قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن الْعَبَّاس ابْن مُحَمَّد قَالَ: دخل طَاهِر بن الْحُسَيْن على الْمَأْمُون وَعِنْده عبد اللَّهِ بن مُوسَى الْهَادِي فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: مرْحَبًا بك يَا ذَا اليمينين. فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ بن مُوسَى: وَالله مَا جعله اللَّهِ أَهلا لعينين فَكيف يمينين. فَقَالَ لَهُ طَاهِر: لَكِن اللَّهِ جعل لامك زَوْجَيْنِ. قَالَ وَيلك تعيرني بخليفتين. قَالَ: فَأمر الْمَأْمُون بِعَبْد اللَّهِ بن مُوسَى فأقيم وَكَانَت أم عبد اللَّهِ أمة الْعَزِيز أم ولد مُوسَى الْهَادِي ثمَّ تزَوجهَا هَارُون الرشيد. قَالَ: وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْمَأْمُون يَوْمًا فِي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ وَقد خرج إِلَى منتزه لَهُ وَمَعَهُ طَاهِر بن الْحُسَيْن فَبينا هُوَ يسايره إِذْ قَالَ لَهُ يَا أَبَا الطّيب: مَا أطول صُحْبَة هَذَا البرذون لَك؟ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: بركَة الدَّابَّة طول صحبتهَا، وَقلة عَلفهَا قَالَ فَكيف سيره؟ . قَالَ سيره أَمَامه، وَسَوْطه عنانه وَمَا ضرب قطّ إِلَّا ظلما. حَدثنِي الْفضل بن مُحَمَّد الْعلوِي قَالَ: قَالَ عبيد اللَّهِ بن الْحسن لِلْمَأْمُونِ لما دخل بَغْدَاد وطاهر يُسَايِر الْمَأْمُون، ملأك اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ النِّعْمَة - وَجعله مقدم سَلامَة، وأدام لَك الْعِزّ والسلامة - وَالْحَمْد لله الَّذِي تلاقا نَا عِنْد ظُهُور الْفِتْنَة وشمولها - وتراخي دَارنَا عَنْك واغترابها - بِذِي اليمينين صنيعتك - وسيفك المسلول على أهل معصيتك - فجمعنا على طَاعَتك - حَتَّى أَنا بِحَمْد اللَّهِ من عِنْد أخرانا كالنبال المطرورة نصالها - المقومة صعارها - إِن نقرتها حنت لَك وَإِن أزللتها - عَن كبد قوسك شكت عَدوك - فنسأل اللَّهِ أَن يحسن جزاءك - عَنَّا - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وجزاؤه على مَا حفظ فِينَا - من غيبك - وَركب منا من منهجك وقصدك. قَالَ: وَقَالَ الْمَأْمُون لطاهر بن الْحُسَيْن يَا أَبَا الطّيب صف لي أَخْلَاق المخلوع. قَالَ: كَانَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَاسع الطَّرب، ضيق الْأَدَب، يُبِيح نَفسه مَا تعافاه همم ذَوي الأقدار، قَالَ: فَكيف كَانَت حروبة؟ قَالَ. كَانَ يجمع الْكَتَائِب ويفضها بِسوء التَّدْبِير. قَالَ: فَكيف كُنْتُم لَهُ؟ قَالَ: كُنَّا أسودا تبيت وَفِي أشداقها غلق النَّاكِثِينَ. وتصبح وَفِي صدورها قُلُوب المارقين. قَالَ: أما إِنَّه أول من يُؤْخَذ بدمه يَوْم الْقِيَامَة ثَلَاثَة لست أَنا وَلَا أَنْت رابعهم وَلَا خامسهم وهم: الْفضل بن الرّبيع، وَبكر بن الْمُعْتَمِر، والسندي بن شاهك هم وَالله ثأر أخي وَعِنْدهم دَمه. وحَدثني مُحَمَّد بن عِيسَى كَاتب مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن طَاهِر قَالَ: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد. ضمن لطاهر بن الْحُسَيْن قَضَاء كل مَا يسْأَله من حَاجَة فَمَا سَأَلَهُ حَاجَة لنَفسِهِ وَلَا لوَلَده وَلكنه وَلكنه سَأَلَهُ الْعَفو عَن الْمُجْرمين فِي الْفِتْنَة وإلحاقهم بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قبله فِي دواوينهم وطبقات عطائهم وَأَن يُضَاعف أجر الْمُحْسِنِينَ فَفعل ذَلِك، ثمَّ دَعَاهُ لرفع حَوَائِجه فَلم يسْأَله شَيْئا إِلَّا أقامة الدولة لأَهْلهَا ورد لِبَاس السوَاد، وإطراح الخضرة فَأَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ من ذَلِك. وَحدثنَا يحيى بن الْحسن قَالَ: حَدثنِي أَبُو زيد الحامض قَالَ: حَدثنِي حَمَّاد بن الْحسن قَالَ: حَدثنِي بشر بن غياث المريسي قَالَ: حضرت عبد اللَّهِ الْمَأْمُون أَنا، وثمامة، وَمُحَمّد ابْن أبي الْعَبَّاس، وَعلي بن الْهَيْثَم فتناظر وافي التَّشَيُّع فنصر مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس الإمامية وَنصر عَليّ بن الْهَيْثَم الزيدية وَجرى الْكَلَام بَينهمَا إِلَى أَن قَالَ مُحَمَّد لعلى يَا نبطي مَا أَنْت وَالْكَلَام؟ . قَالَ فَقَالَ الْمَأْمُون - وَكَانَ مُتكئا فَجَلَسَ - الشتم عى، وَالْبذَاء لؤم إِنَّا قد أبحنا الْكَلَام وأظهرنا المقالات فَمن قَالَ بِالْحَقِّ حمدناه، وَمن جهل ذَلِك وقفناه وَمن جهل الْأَمريْنِ حكمنَا فِيهِ بِمَا يجب فأجعلا بَيْنكُمَا أصلا فَإِن الْكَلَام فروع فَإِذا أفتر عتم شَيْئا رجعتم إِلَى الْأُصُول قَالَ: فَأَنا نقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ وَإِن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأذكروا الْفَرَائِض والشرائع فِي الأسلام وتناظروا بعد ذَلِك. فَأَعَادَ مُحَمَّد لعلى بِمثل الْمقَالة الأولى فَقَالَ على: وَالله لَوْلَا جلالة مجلسة، وَمَا وهب اللَّهِ من خِلَافَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ورأفته، وَلَوْلَا مَا نهى عَنهُ لأعرقت جبينك وَبِحَسْبِكَ من جهلك غسلك الْمِنْبَر بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: فَجَلَسَ الْمَأْمُون وَكَانَ مُتكئا فَقَالَ: وَمَا غسلك الْمِنْبَر التَّقْصِير مني فِي أَمرك أم لتقصير الْمَنْصُور كَانَ فِي أَمر أَبِيك لَوْلَا أَن الْخَلِيفَة إِذا وهب شَيْئا أستحي أَن يرجع فِيهِ لَكَانَ أقرب شَيْء بيني وَبَيْنك إِلَى الأَرْض رَأسك قُم وَإِيَّاك وَمَا عدت. قَالَ: فَخرج مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس ومضي إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن وَكَانَ زوج أُخْته فَقَالَ لَهُ كَانَ من قصتي كَيْت وَكَيْت وَكَانَ يَحْجُبهُ على النَّبِيذ فتح الْخَادِم، وياسر يتَوَلَّى الْخلْع وحسين يسْقِي، وَأَبُو مَرْيَم غُلَام سعيد الْجَوْهَرِي يتَخَلَّف فِي الْحَوَائِج، فَركب طَاهِر إِلَى الدَّار فَدخل فتح فَقَالَ: طَاهِر بِالْبَابِ. فَقَالَ إِنَّه لَيْسَ من أوقاته. إئذن لَهُ فَدخل طَاهِر فَسلم فَرد عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ: اسقوه رطلا فَأَخذه فِي يَده اليمني وَقَالَ لَهُ: أَجْلِس فَخرج وشربه، ثمَّ عَاد وَقد شرب الْمَأْمُون رطلا آخر فَقَالَ: اسقوه الثَّانِي. فَفعل كَفِعْلِهِ الأول. ثمَّ دخل فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون أَجْلِس فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ لصَاحب الشرطة أَن يجلس بَين يَدي سَيّده. قَالَ الْمَأْمُون ذَاك فِي مجْلِس الْعَامَّة فَأَما مجْلِس الْخَاصَّة فَطلق. قَالَ: وبكي الْمَأْمُون وتغرغرت عَيناهُ فَقَالَ لَهُ طَاهِر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم تبْكي لَا أبْكِي اللَّهِ عَيْنك، فو اللَّهِ لقد دَانَتْ لَك الْبِلَاد، وأذعن لَك الْعباد، وصرت إِلَى الْمحبَّة فِي كل أَمرك. فَقَالَ: أبْكِي لَا مر ذكره ذل وستره حزن، وَلنْ يَخْلُو أحد من شجن فَتكلم بحاجة إِن كَانَت لَك. قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مُحَمَّد [بن أبي الْعَبَّاس] أَخطَأ فأقله عثرته وَأَرْض عَنهُ. قَالَ: قد رضيت عَنهُ وَأمرت بصلته ورد مرتبته وَلَوْلَا أَنه لَيْسَ من أهل الْأنس لأحضرته. قَالَ: وَانْصَرف طَاهِر فَأعْلم ابْن أبي الْعَبَّاس ذَلِك ثمَّ دَعَا بهَارُون بن جيغويه فَقَالَ: إِن للْكتاب عشيرة وَإِن أهل خُرَاسَان يتعصب بَعضهم لبَعض فَخذ مَعَك ثَلَاثمِائَة ألف دِرْهَم فأعط الْحُسَيْن الْخَادِم مِائَتي ألف، وَأعْطِ كَاتبه مُحَمَّد بن هَارُون مائَة ألف وسله أَن يسْأَل الْمَأْمُون لم بكي؟ قَالَ: فَفعل ذَلِك. قَالَ: فَلَمَّا تغدى قَالَ يَا حُسَيْن: أسقني. قَالَ: لَا. وَالله لَا سقيتك أَو تَقول لي لم بَكَيْت حِين دخل عَلَيْك طَاهِر؟ قَالَ يَا حُسَيْن: وَكَيف عنيت بِهَذَا حَتَّى سَأَلتنِي عَنهُ؟ . قَالَ لغمي بذلك. قَالَ هُوَ أَمر إِن خرج من رَأسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قتلتك. قَالَ يَا سَيِّدي وَمَتى أخرجت لَك سرا؟ . قَالَ: إِنِّي ذكرت مُحَمَّدًا أخي وَمَا ناله من الذلة فخنقتني الْعبْرَة فأسترحت إِلَى الْإِفَاضَة وَلنْ يفوت طَاهِر مني مَا يكره. قَالَ: فَأخْبر حُسَيْن طَاهِرا بذلك فَركب طَاهِر إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد فَقَالَ لَهُ: أَن الثَّنَاء مني لَيْسَ برخيص وَإِن الْمَعْرُوف عِنْدِي لَيْسَ بضائع، فغيبني عَن عينه. فَقَالَ لَهُ سأفعل فبكر على غَدا. قَالَ: وَركب ابْن أبي خَالِد إِلَى الْمَأْمُون فَلَمَّا فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ مَا نمت اللَّيْلَة. فَقَالَ لَهُ: وَلم وَيحك. قَالَ: لِأَنَّك وليت غَسَّان خُرَاسَان وَهُوَ وَمن مَعَه أَكلَة رَأس فَأَخَاف أَن يخرج عَلَيْك خَارِجَة من التّرْك فتصطلمه. فَقَالَ: لقد فَكرت فِيمَا فَكرت فِيهِ. قَالَ: فَمن ترى؟ قَالَ: طَاهِر بن الْحُسَيْن قَالَ: وَيلك يَا أَحْمد هُوَ وَالله خَالع. قَالَ: أَنا الضَّامِن لَهُ. قَالَ لَهُ: فأنفذه قَالَ: فَدَعَا بطاهر من سَاعَته فَنزل فِي بُسْتَان خَلِيل بن هَاشم فَحصل إِلَيْهِ فِي كل يَوْم أَقَامَ فِيهِ مائَة ألف فَأَقَامَ شهرا فَحملت إِلَيْهِ عشرَة آلَاف ألف الَّتِي تحمل إِلَى صَاحب خُرَاسَان قَالَ أَبُو حسان الزيَادي: وَكَانَ قد عقد لَهُ على خُرَاسَان وَالْجِبَال من حلوان إِلَى خُرَاسَان وَكَانَ شخوصه من بَغْدَاد يَوْم الْجُمُعَة لليلة بقيت من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَمِائَتَيْنِ وَقد كَانَ عَسْكَر قبل ذَلِك بشهرين فَلم يزل مُقيما فِي عسكره. قَالَ أَبُو حسان وَكَانَ سَبَب ولَايَته فِيمَا أجمع النَّاس عَلَيْهِ أَن عبد الرَّحْمَن المطوعي [جمع جموعا بنيسابور لِيُقَاتل بهم الحرورية] بِغَيْر أَمر وَإِلَى خُرَاسَان فتخوفوا أَن يكون ذَلِك لأجل عمل عمله وَكَانَ غَسَّان بن عباد يتَوَلَّى خُرَاسَان من قبل الْحسن بن سهل وَهُوَ ابْن عَم الْفضل بن سهل. وَذكر أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عَليّ بن طَاهِر عَن عَليّ بن هَارُون أَن طَاهِر ابْن الْحُسَيْن قبل خُرُوجه إِلَى خُرَاسَان وتوليته لَهَا نَدبه الْحسن بِهِ سهل لِلْخُرُوجِ إِلَى محاربة نصر بن شبث فَقَالَ حَارَبت خَليفَة وسقت الْخلَافَة [إِلَى خَليفَة] وأومر بِمثل هَذَا وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَن توجه لهَذَا قائدا من قوادي فَكَانَ سَبَب المصارمة بَين طَاهِر وَالْحسن. قَالَ: وَخرج طَاهِر إِلَى خُرَاسَان لما تولاها وَهُوَ لَا يكلم الْحسن بن سهل فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: مَا كنت لأحل عقدَة عقدهَا لي فِي مصارمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ذكر خُرُوج عبد اللَّهِ بن طَاهِر إِلَى مُضر لمحاربة نصر بن شبث واستخلافه إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم على مَدِينَة السَّلَام حَدثنِي يحيى بن الْحسن بن عبد الْخَالِق قَالَ: لما كَانَ فِي شهر رَمَضَان من سنة خمس أوست دَعَا الْمَأْمُون عبد اللَّهِ بن طَاهِر فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يَا عبد اللَّهِ: إِنِّي استخير اللَّهِ مُنْذُ شهر وَأَرْجُو أَن يُخَيّر اللَّهِ لي، وَرَأَيْت الرجل يصف ابْنه ليطريه لرأيه فِيهِ وليرفعه ورأيتك فَوق مَا قَالَ أَبوك فِيك وَقد مَاتَ يحيى بن معَاذ واستخلف ابْنه أَحْمد بن يحيى وَلَيْسَ بِشَيْء، وَقد رَأَيْت توليتك مُضر ومحاربة نصر بن شبث. فَقَالَ: السّمع وَالطَّاعَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأَرْجُو أَن يَجْعَل اللَّهِ لأمير الْمُؤمنِينَ الْخيرَة وللمسلمين. قَالَ فعقد لَهُ. ثمَّ أَمر أَن تقطع حبال القصارين عَن طَرِيقه [وَتَنَحَّى] عَن الطرقات [المظال] لِئَلَّا يكون فِي طَرِيقه مَا يرد لِوَاءُهُ ثمَّ عقد لَهُ لِوَاء [مَكْتُوبًا] عَلَيْهِ بصفرة مَا يكْتب على الألوية وَزَاد فِيهِ الْمَأْمُون يَا مَنْصُور. وَخرج وَمَعَهُ النَّاس فَصَارَ إِلَى منزله , وَلما كَانَ من غَد ركب إِلَيْهِ النَّاس وَركب الْفضل بن الرّبيع فَأَقَامَ عِنْده اللَّيْل. قَالَ: فَقَامَ الْفضل فَقَالَ عبد اللَّهِ: يَا أَبَا الْعَبَّاس قد تفضلت وأحسنت وَقد تقدم أبي وأخوك إِلَى أَن لَا أقطع أمرا دُونك، وَاحْتَاجَ أَن استطلع رَأْيك وأستضئ بمشورتك، فَإِن رَأَيْت أَن تقيم عِنْدِي إِلَى أَن نفطر فأفعل؟ قَالَ: فَقَالَ الْفضل: إِن لي حالات لَيْسَ يمكنني مَعهَا الْإِفْطَار هَهُنَا. قَالَ: إِن كنت تكره طَعَام أهل خُرَاسَان فَابْعَثْ إِلَى مطبخك يَأْتُوا بطعامك فَقَالَ لَهُ: إِن لي رَكْعَات بَين الْعشَاء وَالْعَتَمَة. قَالَ: فَفِي حفظ اللَّهِ قَالَ: وَخرج مَعَه إِلَى صحن دَاره يشاوره فِي خَالص أُمُوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قَالَ وَكَانَ خُرُوج عبد اللَّهِ الصَّحِيح إِلَى مُضر لقِتَال نصر بن شبث بعد خُرُوج أَبِيه إِلَى خُرَاسَان بِسِتَّة أشهر وأستخلف إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم على بَغْدَاد والسندي ابْن يحيى على الْجَانِب الشَّرْقِي، وَعَيَّاش بن الْقَاسِم على الْجَانِب الغربي قَالَ: وَلما ولى طَاهِر ابْنه عبد اللَّهِ ديار ربيعَة كتب إِلَيْهِ كتابا نسخته: - عَلَيْك بتقوى اللَّهِ وَحده، لَا شريك لَهُ، وخشيته ومراقبته، ومزايلة سخطه، وَحفظ رعيتك، وَلُزُوم مَا ألبسك اللَّهِ من الْعَافِيَة بِالذكر لمعادك وَمَا أَنْت صائر إِلَيْهِ وَمَوْقُوف عَلَيْهِ، ومسئوول عَنهُ، وَالْعَمَل فِي ذَلِك كُله بِمَا يَعْصِمك اللَّهِ، وينجيك يَوْم لِقَائِه من عَذَابه وأليم عِقَابه، فَإِن اللَّهِ قد أحسن إِلَيْك وواجب عَلَيْك الرأفة بِمن أسترعاك أَمرهم من عباده، وألزمك الْعدْل عَلَيْهِم، وَالْقِيَام بِحقِّهِ وحدوده فيهم، والذب عَنْهُم وَالدَّفْع عَن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبلهم، وَإِدْخَال الرَّاحَة عَلَيْهِم فِي مَعَايشهمْ، ومؤاخذك بِمَا فرض عَلَيْك من ذَلِك وموقفك عَلَيْهِ وسائلك عَنهُ ومثيبك عَلَيْهِ بِمَا قدمت وأخرت، ففرغ لذَلِك فكرك، وعقلك، وبصرك ورؤيتك وَلَا يذهلك عَنهُ ذاهل، وَلَا يشغلك عَنهُ شاغل، فَإِنَّهُ رَأس أَمرك، وملاك شَأْنك، وَأول مَا يوفقك اللَّهِ بِهِ لرشدك. وَليكن أول مَا تلْزم بِهِ نَفسك، وتنسب إِلَيْهِ فعالك الْمُوَاظبَة على مَا أفترض اللَّهِ عَلَيْك من الصَّلَوَات الْخمس وَالْجَمَاعَة عَلَيْهَا بِالنَّاسِ قبلك فِي مواقيتها وعَلى سننها فِي إسباغ الْوضُوء لَهَا، وافتتاح ذكر اللَّهِ فِيهَا، وترتل فِي قراءتك وَتمكن فِي ركوعك وسجودك، وتشهدك ولتصدق فِيهَا لِرَبِّك نيتك، واحضض عَلَيْهَا جمَاعَة من مَعَك، وَتَحْت يدك، وادأب عَلَيْهَا فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ اللَّهِ، تَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وتنتهي عَن الْمُنكر، ثمَّ أتبع ذَلِك الْأَخْذ بسنن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمثابرة على فَرَائِضه [خلائقه] واقتفاء آثَار السّلف الصَّالح من بعده، وَإِذا ورد عَلَيْك أَمر فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ باستخارة اللَّهِ وتقواه، وَلُزُوم مَا أنزل اللَّهِ فِي كِتَابه من أمره وَنَهْيه، وَحَلَاله وَحَرَامه، وائتمام مَا جَاءَت بِهِ الْآثَار عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ قُم فِيهِ بِمَا يحِق لله عَلَيْك، وَلَا تمل عَن الْعدْل فِيمَا أَحْبَبْت أَو كرهت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لقريب من النَّاس أَو بعيد، وآثر الْفِقْه وَأَهله، وَالدّين وَحَمَلته، وَكتاب اللَّهِ والعاملين بِهِ فَإِن أفضل مَا تزين بِهِ الْمَرْء الْفِقْه فِي دين اللَّهِ والطلب لَهُ، والحث عَلَيْهِ، والمعرفة بِمَا يتَقرَّب فِيهِ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ الدَّلِيل على الْخَيْر كُله، والقائد لَهُ والآمر بِهِ والناهي عَن الْمعاصِي والموبقات كلهَا، وَبهَا مَعَ توفيق اللَّهِ تزداد الْعباد معرفَة بِاللَّه تَعَالَى ذكره وإجلالا لَهُ، ودركا للدرجات الْعلي فِي الْمعَاد مَعَ مَا فِي ظُهُوره للنَّاس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك. والأنسة بك، والثقة بعدلك وَعَلَيْك بالاقتصاد فِي الْأُمُور كلهَا، فَلَيْسَ شَيْء أبين نفعا، وَلَا أحضر أمنا، وَلَا أجمع فضلا من الْقَصْد، وَالْقَصْد دَاعِيَة إِلَى الرشد دَلِيل على التَّوْفِيق، والتوفيق منقاد إِلَى السَّعَادَة. وقوام الدّين وَالسّنَن الهادية بالاقتصاد، فآثره فِي دنياك كلهَا، وَلَا تقصر فِي طلب الْآخِرَة، وَطلب الْأجر والأعمال الصَّالِحَة، وَالسّنَن الْمَعْرُوفَة، ومعالم الرشد، فَلَا غَايَة للاستكثار من الْبر وَالسَّعْي لَهُ إِذا كَانَ يطْلب بِهِ وَجه اللَّهِ ومرضاته، ومرافقة أوليائه فِي دَار كرامته، وَأعلم أَن الْقَصْد فِي شَأْن الدُّنْيَا يُورث الْعِزّ ويحصن من الذُّنُوب وَإنَّك لن تحوط نَفسك وَمن يليك، وَلَا تستصلح أمورك بِأَفْضَل مِنْهُ فأته وأهتد بِهِ تتمّ أمورك وتزد بِهِ مقدرتك، وَتصْلح بِهِ خاصتك وعامتك وَأحسن الظَّن بِاللَّه جلّ ذكره يستقم لَك رعيتك، وَالْتمس الْوَسِيلَة إِلَيْهِ فِي الْأُمُور كلهَا تستدم بِهِ بِالنعْمَةِ عَلَيْك، وَلَا تنهض أحدا من النَّاس فِيمَا تَوْلِيَة من عَمَلك قبل تكشف أمره بالتهمة، فَإِن إِيقَاع التهم بالبراء والظنون السَّيئَة بهم مأثم، وَأَجْعَل من شَأْنك حسن الظَّن بِأَصْحَابِك واطرد عَنْك سوء الظَّن بهم وأرفضه عَنْهُم، يعنك ذَلِك على أصطناعهم ورياضتهم، وَلَا يجدن عَدو الله الشَّيْطَان فِي أَمرك مغمزا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ من وهنك فَيدْخل عَلَيْك من الْغم فِي سوء الظَّن مَا ينغصك لذاذة عيشك. وَأعلم أَنَّك تَجِد بِحسن الظَّن قُوَّة وراحة , وتكفي بِهِ مَا أَحْبَبْت كِفَايَته من أمورك، وَتَدْعُو بِهِ النَّاس إِلَى محبتك، والاستقامة فِي الْأُمُور كلهَا لَك، وَلَا يمنعك حسن الظَّن بِأَصْحَابِك، والرأفة برعيتك أَن تسْتَعْمل الْمَسْأَلَة والبحث عَن أمورك والمباشرة لأمور الْأَوْلِيَاء، والحياطة للرعية، وَالنَّظَر فِيمَا يقيمها ويصلحها، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لتكن الْمُبَاشرَة لأمور الْأَوْلِيَاء، والحياطة للرعية، وَالنَّظَر فِي حوائجهم، وَحمل مؤوناتهم آثر عنْدك وَأوجب إِلَيْك مِمَّا سوى ذَلِك؛ فَإِنَّهُ أقوم للدّين، وَأَحْيَا للسّنة وأخلص نيتك فِي جَمِيع هَذَا، وَتفرد بتقويم نَفسك تفرد من يعلم أَنه مسئول عَمَّا صنع، ومجزي بِمَا أحسن، ومأخوذ بِمَا أَسَاءَ، فَإِن اللَّهِ جعل الدّين حرْزا وَعزا، وَرفع من اتبعهُ وعززه فاسلك بِمن تسوسهم وترعاهم نهج الدّين وَطَرِيقَة الْهدى. وأقم حُدُود أَصْحَاب الجرائم على قدر مَنَازِلهمْ وَمَا استحقوا، وَلَا تعطل ذَلِك وَلَا تهاون بِهِ، وَلَا تُؤخر عُقُوبَة أهل الْعقُوبَة فَإِن تفريطك فِي ذَلِك مِمَّا يفْسد عَلَيْك حسن ظَنك، وأعزم على أَمرك فِي ذَلِك بالسنن الْمَعْرُوفَة، وجانب الْبدع والشبهات يسلم لَك دينك، وتقم لَك مروتك، وَإِذا عَاهَدت عهدا أَقف بِهِ، وَإِذا وعدت بِالْخَيرِ فأنجزه وَاقْبَلْ الْحَسَنَة وانتفع بهَا وأغمض عَن عيب كل ذِي عيب من رعيتك، وَاشْدُدْ لسَانك عَن قَول الْكَذِب والزور، وَأبْغض أَهله، وأقص أهل النميمة فَإِن أول فَسَاد أَمرك فِي عَاجل الْأُمُور أجلهَا تقريب الكذبة وَأهل الجرأة على الْكَذِب لِأَن الْكَذِب رَأس المآثم، والزور [والنميمة خاتمتها لِأَن] صَاحب النميمة لَا يسلم لَهُ صَاحب، وَلَا يستقم لمطيعة أَمر، وأحبب أهل الصّلاح والصدق وأعن الاشراف بِالْحَقِّ، وواس الضُّعَفَاء، وصل الرَّحِم، وابتغ بذلك وَجه اللَّهِ، وَعزة أمره وَالْتمس فِيهِ ثَوَابه وَالدَّار الْآخِرَة مِنْهُ، واجتنب سوء الْأَهْوَاء والجور وأصرف عَنْهُمَا رَأْيك، وَأظْهر براءتك من ذَلِك لرعيتك، وأنعم بِالْعَدْلِ سياستهم وقم بِالْحَقِّ فيهم وبالمعرفة الَّتِي تَنْتَهِي بك إِلَى سَبِيل الْهدى. وأملك نَفسك عِنْد الْغَضَب وآثر الْوَقار والحلم، وَإِيَّاك والحدة، والطيرة والغرور فِيمَا أَنْت بسبيله، وَإِيَّاك تَقول إِنِّي مسلط أفعل مَا أَشَاء فَإِن ذَلِك سريع فِيك إِلَى نقص الرَّأْي، وَقلة الْيَقِين بِاللَّه وَحده لَا شريك لَهُ. أخْلص اللَّهِ لنا وَلَك النِّيَّة فِيهِ، وَالْيَقِين بِهِ. وَأعلم أَن الْملك لله يُعْطِيهِ من يَشَاء، وينزعه مِمَّن يَشَاء، وَلنْ تَجِد تغير النِّعْمَة وحلول نقمة إِلَى أحد أسْرع مِنْهُ إِلَى حَملَة النِّعْمَة من أَصْحَاب السُّلْطَان، والمبسوط لَهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فِي الدولة إِذا كفرُوا بِنِعْمَة اللَّهِ وإحسانه واستطالوا بِمَا آتَاهُم اللَّهِ من فَضله. ودع عَنْك شرة نَفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الَّتِي تذخر وتكنز الْبر وَالتَّقوى والمعدلة واستصلاح الرّعية وَعمارَة بِلَادهمْ، والتفقد لأمورهم، وَالْحِفْظ لدهمائهم، والإغاثة لملهوفهم. وَأعلم أَن الْأَمْوَال إِذا كثرت وذخرت فِي الخزائن لَا تثمر، وَإِذا كَانَت فِي صَلَاح الرّعية وَإِعْطَاء حُقُوقهم، وكف المؤونة عَنْهُم نمت، وزكت، وصلحت بِهِ الْعَامَّة، وتزينت بِهِ الْوُلَاة، وطاب بِهِ الزَّمَان، وأعقب فِيهِ الْعِزّ والمنعة. فَلْيَكُن أَكثر خزائنك تَفْرِيق الْأَمْوَال فِي عمَارَة الْإِسْلَام وَأَهله، ووفر مِنْهُ على أَوْلِيَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ قبلك حُقُوقهم، وأوف رعيتك من ذَلِك حصصهم، وتعهد مَا يصلح أُمُورهم ومعايشهم فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك قرت النِّعْمَة عَلَيْك، وأستوجبت الْمَزِيد من اللَّهِ. وَكنت بذلك على جباية خراجك وَجمع أَمْوَال رعيتك وعملك أقدر، وَكَانَ الْجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وَأطيب أنفسا لكل مَا أردْت فأجهد نَفسك فِيمَا حددت لَك فِي هَذَا الْبَاب، ولتعظم خشيتك فِيهِ فَإِنَّمَا يبْقى من المَال مَا أنْفق فِي سَبِيل حَقه. وَأعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عَلَيْهِ، وأياك أَن تنسيك الدُّنْيَا وغرورها هول الْآخِرَة فتتهاون بِمَا يحِق عَلَيْك فَإِن التهاون يُورث التَّفْرِيط، والتفريط يُورث الْبَوَار، وَليكن عَمَلك لله وَفِيه تَعَالَى وأرج الثَّوَاب فَإِن اللَّهِ قد أَسْبغ عَلَيْك نعْمَته وَأظْهر عَلَيْك فَضله فاعتصم بالشكر وَعَلِيهِ فاعتمد يزدك اللَّهِ خيرا وإحسانا، فَإِن اللَّهِ يثيب بِقدر شكر الشَّاكِرِينَ، وسيرة الْمُحْسِنِينَ، وأقض الْحق فِيمَا حمل من النَّعيم وألبس من الْعَافِيَة والكرامة. وَلَا تحقرن ذَنبا، وَلَا تمايلن حَاسِدًا، وَلَا ترحمن فأجرا وَلَا تصلن كفورا، وَلَا تداهنن عدوا، وَلَا تصدقن نماما. وَلَا تأتمنن غدارا. وَلَا توالين فَاسِقًا، وَلَا تتبعن غاويا وَلَا تحمدن مرائيا، وَلَا تجفون أنسانا، وَلَا تردن سَائِلًا فَقِيرا، وَلَا تجيبن بَاطِلا وَلَا تلاحظن مضحكا، وَلَا تخلفن وَعدا وَلَا ترهبن فخرا، وَلَا تعملن غَضبا، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تأتين بذخا، وَلَا تمشين مرحا، وَلَا تركبن سفها، وَلَا تفرطن فِي طلب الْآخِرَة وَلَا تدفع الأيامي عباسا، وَلَا تغمض عَن ظَالِم رهبة مِنْهُ ومحاباه، وَلَا تَطْلُبن ثَوَاب الْآخِرَة فِي الدُّنْيَا وَأكْثر مُشَاورَة الْفُقَهَاء، وَاسْتعْمل نَفسك بالحلم، وَخذ عَن أهل التجارب وَذَوي الْعقل والرأي وَالْحكمَة، وَلَا تدخلن فِي مشورتك أهل الدقة وَالْبخل، وَلَا تسمعن لَهُم قولا، فَإِن ضررهم أَكثر من منفعتهم، وَلَيْسَ شَيْء أسْرع فَسَادًا لما اسْتقْبلت فِي أَمر رعيتك من الشُّح، وَأعلم أَنَّك إِذا كنت حَرِيصًا كنت كثير الْأَخْذ، قَلِيل الْعَطِيَّة، وَإِذا كنت كَذَلِك لم يستقم لَك أَمرك إِلَّا قَلِيلا فَإِن رعيتك إِنَّمَا تعتقد على محبتك بالكف عَن أَمْوَالهم، وَترك الْجور عَلَيْهِم، ويدوم صفاء أوليائك لَك بالإفضال عَلَيْهِم، وَحسن الْعَطِيَّة لَهُم، وأجتنب الشُّح وَاعْلَم أَنه أول مَا عصى بِهِ الْإِنْسَان ربه وَإِن العَاصِي منزله خزي وَهُوَ قَول اللَّهِ عز وَجل فِي كِتَابه: {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} فسهل طَرِيق الْجُود بِالْحَقِّ، وَاجعَل للْمُسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقن أَن الْجُود أفضل أَعمال الْعباد، وأعدد لنَفسك خلقا وَأَرْض بِهِ عملا ومذهبا، وتفقد أُمُور الْجند فِي دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عَلَيْهِم أَرْزَاقهم ووسع عَلَيْهِم فِي مَعَايشهمْ يذهب اللَّهِ بذلك فاقتهم، ويقوى لَك أَمرهم، وَيزِيد بِهِ قُلُوبهم فِي طَاعَتك وأمرك اخلاصا وانشراحا، وَحسب ذِي السُّلْطَان من السَّعَادَة أَن يكون على جنده ورعيته ذَا رَحْمَة فِي عدله، وحيطته، وإنصافه، وعنايته، وشفقته، وبره وتوسعته. فزايل مَكْرُوه أحد الْبَابَيْنِ بإستشعار فَضِيلَة الْبَاب الآخر، وَلُزُوم الْعلم بِهِ تلق إِن شَاءَ اللَّهِ نجاحا، وصلاحا، وفلاحا. وَاعْلَم أَن الْقَضَاء من اللَّهِ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَيْسَ بِهِ شَيْء من الْأُمُور لِأَنَّهُ ميزَان اللَّهِ الَّذِي يعتدل عَلَيْهِ أَحْوَال الْجَمِيع فِي الأَرْض وبإقامة الْعدْل فِي الْقَضَاء وَالْعَمَل تصلح الرّعية، وتأمن السبل، وينتصف الْمَظْلُوم؛ وَيَأْخُذ النَّاس حُقُوقهم، وتحسن الْمَعيشَة وَيُؤَدِّي حق الطَّاعَة، ويرزق اللَّهِ الْعَافِيَة والسلامة، وَيقوم الدّين، وتجرى السّنَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والشرائع. وعَلى مجاريها يتجز الْحق وَالْعدْل فِي الْقَضَاء. وَاشْتَدَّ فِي أَمر اللَّهِ، وتورع عَن النطف، وامض لإِقَامَة الْحُدُود، وأقلل العجلة، وَأبْعد من الضجر والقلق، وأقنع بالقسم، ولتسكن رِيحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك وانتبه فِي صمتك وأسدد فِي منطقك، وأنصف الْخصم، وقف عِنْد الشُّبْهَة، وابلغ فِي الْحجَّة، وَلَا يأخذك فِي أحد من رعيتك مُحَابَاة، وَلَا محاماة وَلَا لومة لائم، وَتثبت وتأن، وراقب، وَانْظُر وتدبر وتفكر وَاعْتبر وتواضع لِرَبِّك وارأف بِجَمِيعِ الرّعية وسلط الْحق على نَفسك وَلَا تسرعن إِلَى سفك دم فَإِن الدِّمَاء من الله بمَكَان عَظِيم انتهاكا لَهَا بِغَيْر حَقّهَا وَأنْظر هَذَا الْخراج الَّذِي قد استقامت عَلَيْهِ الرّعية وَجعله الله لِلْإِسْلَامِ عزا وَرَفعه ولأهله سَعَة ومنعة ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، وَلأَهل الْكفْر من معاهدتهم ذلا وصغارا، فوزعه بَين أَصْحَابه بِالْحَقِّ وَالْعدْل والنسوية، والعموم فِيهِ. وَلَا ترفعن مِنْهُ شَيْئا عَن شرِيف لشرفه، وَلَا عَن غَنِي لغناه، وَلَا عَن كَاتب لَك، وَلَا أحد من خاصتك، وَلَا تأخذن مِنْهُ فَوق الِاحْتِمَال لَهُ، وَلَا تكلفن امرا فِيهِ شطط، واحمل النَّاس كلهم على أَمر الْحق، فَإِن ذَلِك أجمع لألفتهم والزم لرضى الْعَامَّة. وَأعلم أَنَّك جعلت بولايتك خَازِنًا، وحافظا، وراعيا وَإِنَّمَا سمي أهل عَمَلك رعيتك لِأَنَّك راعيهم وقيمهم تَأْخُذ مِنْهُم مَا أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه فِي قوام أَمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم فأستعمل عَلَيْهِم فِي كور عَمَلك ذَوي الرَّأْي وَالتَّدْبِير، والتجربة، والخبرة بِالْعَمَلِ، وَالْعلم بالسياسة والعفاف ووسع عَلَيْهِم فِي الرزق فَإِن ذَلِك من الْحُقُوق اللَّازِمَة لَك فِيمَا تقلدت وَأسْندَ إِلَيْك، وَلَا يشغلنك عَنهُ شاغل، وَلَا يصرفنك عَنهُ صَارف فَإنَّك مَتى آثَرته وَقمت فِيهِ بِالْوَاجِبِ استدعيت بِهِ زِيَادَة النِّعْمَة من رَبك، وَحسن الأحدوثة فِي عَمَلك وأحترزت الْمحبَّة من رعيتك وأعنت على الْإِصْلَاح فَدرت الْخيرَات ببلدك، وفشت الْعِمَارَة بناحيتك، وَظهر الخصب فِي كورك، فَكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 جندك، وإرضاء الْعَامَّة بِإِضَافَة الْعَطاء فيهم من نَفسك، وَكنت مَحْمُود السياسة، ومرضى الْعدْل فِي ذَلِك عِنْد عَدوك، وَكنت فِي أمورك كلهَا ذَا عدل وَقُوَّة، وَآله وعدة، فنافس فِي هَذَا وَلَا تقدم عَلَيْهِ شَيْئا تَجِد مغبة أَمرك إِن شَاءَ اللَّهِ. وَأَجْعَل فِي كل كورة من عَمَلك أَمينا يُخْبِرك أَخْبَار عمالك، وَيكْتب إِلَيْك بسيرهم وأعمالهم حَتَّى كَأَنَّك مَعَ كل عَامل فِي عمله معاين لأموره كلهَا، وَإِن أردْت أَن تَأمره بِأَمْر فَأنْظر فِي عواقب مَا أردْت من ذَلِك فَإِن رَأَيْت السَّلامَة فِيهِ والعافية ورجوت فِيهِ حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضيه، وَإِلَّا فتوقف عَنهُ وراجع أهل الْبَصَر وَالْعلم بِهِ. ثمَّ خُذ فِيهِ عدته فَإِنَّهُ رُبمَا نظر الرجل إِلَى أَمر من أمره قد واتاه على مَا يهوى فقواه ذَلِك وَأَعْجَبهُ، وَإِن لم ينظر فِي عواقبه أهلكه وَنقض عَلَيْهِ أمره، فَاسْتعْمل الحزم فِي كل مَا أردْت، وباشره بعد عون الله بِالْقُوَّةِ، واكثر إستخارة رَبك فِي جَمِيع أمورك. وافرغ من عمل يَوْمك وَلَا تؤخره لغدك، وَأكْثر مُبَاشَرَته بِنَفْسِك فَإِن لغد أمورا وحوادث تلهيك عَن عمل يَوْمك الَّذِي أخرت؛ وَأعلم أَن الْيَوْم إِذا مضى ذهب بِمَا فِيهِ، وَإِذا أخرت عمله أجتمع عَلَيْك أُمُور يَوْمَيْنِ فيشغلك ذَلِك حَتَّى تعرض عَنهُ، وَإِذا أمضيت لكل يَوْم عمله أرحت نَفسك؛ وبدنك وأحكمت أُمُور سلطانك، وَانْظُر أَحْرَار النَّاس وَذَوي الشّرف مِنْهُم ثمَّ استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مَوَدَّتهمْ لَك؛ ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أَمرك؛ فأستصلحهم وَأحسن إِلَيْهِم. وتعاهد أهل الببوتات مِمَّن قد دخلت عَلَيْهِم الْحَاجة فَاحْتمل مؤونتهم وَأصْلح حَالهم، حَتَّى لَا يَجدوا لخلتهم مسا، وأفرد نَفسك للنَّظَر فِي أُمُور الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، وَمن لَا يقدر على رفع مظلمته إِلَيْك؛ والمحتقر الَّذِي لَا علم لَهُ بِطَلَب حَقه فسل عَنهُ أُخْفِي مسَائِله /، ووكل بأمثاله أهل الصّلاح من رعيتك، ومرهم بِرَفْع حوائجهم وحالاتهم إِلَيْك لتنظر فِيهَا بِمَا يصلح اللَّهِ أَمرهم، وتعاهد ذَوي البأساء ويتاماهم وأراملهم وَاجعَل لَهُم أرزاقا من بَيت المَال إقتداء بأمير الْمُؤمنِينَ أعزه اللَّهِ فِي الْعَطف عَلَيْهِم والصلة لَهُم، ليصلح اللَّهِ بذلك عيشهم ويرزقك بِهِ بركَة وَزِيَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَأجر للأضراء من بَيت المَال، وَقدم حَملَة الْقُرْآن مِنْهُم والحافظين لأكثره فِي الجراية على غَيرهم، وانصب لمرضى الْمُسلمين دورا تؤويهم، وقواما يرفقونهم؛ وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم مَا لم يؤد ذَلِك إِلَى سرف فِي بَيت المَال. وَاعْلَم أَن النَّاس إِن أعْطوا حُقُوقهم، وَأفضل أمانيهم لم يرضهم ذَلِك، وَلم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إِلَى ولاتهم طَمَعا فِي نيل الزِّيَادَة، وَفضل الترفق مِنْهُم؛ وَرُبمَا برمالمتصفح لأمور النَّاس بِكَثْرَة مَا يرد عَلَيْهِ ويشغل ذهنه وفكره مِنْهَا مَا يَنَالهُ بِهِ مؤونة ومشقة، وَلَيْسَ من يرغب فِي الْعدْل، وَيعرف محَاسِن أُمُوره فِي العاجل، وَفضل ثَوَاب الآجل كَالَّذي يسْتَقْبل مَا يقر بِهِ إِلَى اللَّهِ جلّ وَعز ويلتمس رَحمته بِهِ. وَأكْثر الْإِذْن للنَّاس عَلَيْك، وأبرز لَهُم وَجهك، وَسكن لَهُم أحراسك واخفض لَهُم جناحك، واظهر لَهُم بشرك، ولاين لَهُم فِي الْمَسْأَلَة والمنطق واعطف عَلَيْهِم بجودك وفضلك، وَإِذا أَعْطَيْت فاعط بسماحة وَطيب نفس والتماس للصنيعة وَالْأَجْر غير مكدر وَلَا منان؛ فَإِن الْعَطِيَّة على ذَلِك تِجَارَة مربحة إِن شَاءَ اللَّهِ. وَاعْتبر بِمَا ترى من أُمُور الدُّنْيَا، وَمن مضى قبلك من أهل السُّلْطَان والرئاسة فِي الْقُرُون الخالية. والأمم البائدة. ثمَّ اعْتصمَ فِي أحوالك كلهَا بِأَمْر اللَّهِ، وَالْوُقُوف عِنْد محبته، وَالْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ وسنته، وَإِقَامَة دينه وَكتابه، واجتنب مَا فَارق ذَلِك وَخَالفهُ ودعا إِلَى سخط اللَّهِ، وَأعرف مَا تجمع عمالك من الْأَمْوَال وينفقون مِنْهَا، وَلَا تجمع حَرَامًا وَلَا تنْفق إسرافا، وَأكْثر مجالسة الْعلمَاء ومشاورتهم ومخالطتهم وَليكن أكْرم دخلائك وخاصتك عَلَيْك من إِذا رأى عَيْبا فِيك لم يمنعهُ هيبتك من من إنهاء ذَلِك إِلَيْك فِي سر، وإعلامك مَا فِيهِ من النَّقْص فَإِن أُولَئِكَ أنصح أوليائك ومظاهريك. وَانْظُر عمالك الَّذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل مِنْهُم فِي كل يَوْم وقتا يدْخل عَلَيْك فِيهِ بكتبه ومؤامرته وَمَا عِنْده من حوائج عمالك وَأُمُور كورك ورعيتك، ثمَّ فرغ لما يُورِدهُ عَلَيْك من ذَلِك سَمعك وبصرك، وفهمك، وعقلك وَكرر النّظر إِلَيْهِ وَالتَّدْبِير لَهُ، فَمَا كَانَ مُوَافقا للحزم وَالْحق فأمضه واستخر اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فِيهِ وَمَا كَانَ مُخَالفا ذَلِك فاصرفه إِلَى التثبت فِيهِ، وَالْمَسْأَلَة عَنهُ، وَلَا تمنن على رعيتك وَلَا غَيرهم بِمَعْرُوف تَأتيه إِلَيْهِم، وَلَا تقبل من أحد مِنْهُم إِلَّا الْوَفَاء والاستقامة والعون فِي أُمُور أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَا تصنعن الْمَعْرُوف إِلَّا على ذَلِك. وتفهم كتابي إِلَيْك وَأكْثر النّظر فِيهِ وَالْعَمَل بِهِ، واستعن بِاللَّه على جَمِيع أمورك واستخره فَإِن اللَّهِ جلّ وَعز مَعَ الصّلاح وَأَهله، وَليكن أعظم سيرتك، وَأعظم رغبتك مَا كَانَ لله جلّ وَعز رَضِي، ولدينه نظاما، ولأهله عزا وتمكينا، وللملة والذمة عدلا وصلاحا، وَأَنا أسأَل اللَّهِ أَن يحسن عونك، وتوفيقك، ورشدك، وكلاءتك. وَأَن ينزل عَلَيْك فَضله وَرَحمته بِتمَام فَضله عَلَيْك وكرامته لَك حَتَّى يجعلك أفضل أمثالك نَصِيبا، وأوفرهم حظا، وأسناهم ذكرا وأمرا، وَأَن يهْلك عَدوك، وَمن ناو أك وبغى عَلَيْك ويرزقك من رعيتك الْعَافِيَة، ويحجز الشَّيْطَان عَنْك ووساوسه حَتَّى يستعلى أَمرك بالعز وَالْقُوَّة والتوفيق إِنَّه قريب مُجيب. قَالَ: وَلما عهد طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى عبد اللَّهِ ابْنه هَذَا الْعَهْد تنازعه النَّاس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حَتَّى بلغ الْمَأْمُون فَدَعَا بِهِ وَقُرِئَ عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بقى أَبُو الطّيب شَيْئا من أَمر الدّين وَالدُّنْيَا، وَالتَّدْبِير والرأى، والسياسة وَإِصْلَاح الْملك، والرعية وَحفظ الْبيعَة، وَطَاعَة الْخُلَفَاء وتقويم الْخلَافَة إِلَّا وَقد أحكمه وَأوصى بِهِ وَتقدم فِيهِ. وَأمر أَن يكْتب بذلك إِلَى جَمِيع الْعمَّال فِي نواحي الْأَعْمَال. وَتوجه عبد اللَّهِ إِلَى عمله فَسَار بسيرته وَاتبع أمره وَعمل بِمَا عهد إِلَيْهِ. وَذكر أَبُو حسان الزيَادي وَغَيره: أَن طَاهِرا لما تولى خُرَاسَان كَانَ خُرُوجه من بَغْدَاد يَوْم الْأَحَد لليلة بقيت من ذِي الْقعدَة وَكَانَ عَسْكَر قبل ذَلِك بشهرين فَلم يزل مُقيما فِي عسكره حَتَّى خرج فِي هَذَا الْيَوْم، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَب ولَايَته أَنه قتل عبد الرَّحْمَن المطوعي الحرورى بِغَيْر أَمر والى خُرَاسَان فتخوفوا أَن يكون لذَلِك أصل وَكَانَ وَالِي خُرَاسَان غَسَّان بن عباد ابْن عَم الْفضل بن سهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَقَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ المنجم: عقد الْمَأْمُون لِوَاء ذِي اليمينين طَاهِر ابْن الْحُسَيْن على الغرب كُله بعد قدومه مَدِينَة السَّلَام بِشَهْر، وَكَانَ طَاهِر كلم الْمَأْمُون فِي لِبَاس الخضرة فطرحها بعد دُخُوله بَغْدَاد بِثمَانِيَة أَيَّام، وَلما تولى طَاهِر بِبَغْدَاد الشرطة لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من ذِي الْقعدَة. ثمَّ ولى طَاهِر خُرَاسَان فِي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ فِي ذِي الْقعدَة وَخرج طَلْحَة بن طَاهِر على مقدمته إِلَى خُرَاسَان؛ ثمَّ كَانَ خُرُوجه من بَغْدَاد إِلَى خُرَاسَان فِي ذِي الْحجَّة، وَكَانَ خُرُوج أبي الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن طَاهِر بعد خُرُوج طَاهِر إِلَى خُرَاسَان إِلَى الجزيرة لمحاربة نصر بن شبث الْعقيلِيّ، وَكَانَ ظفر عبد اللَّهِ بن طَاهِر بنصر بن شبث وادخاله مَدِينَة السَّلَام يَوْم الِاثْنَيْنِ لِلنِّصْفِ من رَجَب سنة تسع وَمِائَتَيْنِ. قَالَ الْقَاسِم بن سعيد: سَمِعت الْفضل بن مَرْوَان يَقُول ركب طَاهِر بن الْحُسَيْن وَيحيى بن معَاذ، وَأحمد بن أبي خَالِد يَوْمًا من الْأَيَّام بعد دُخُول الْمَأْمُون بَغْدَاد حراقة وعصفت عَلَيْهِم الرّيح عصوفا شَدِيدا وَقد قربوا من دَار أبي إِسْحَاق فَقَالُوا: نخرج إِلَى أبي إِسْحَاق فَإِن الرّيح قد منعتنا من السّير. قَالَ: فَخَرجُوا إِلَى أبي إِسْحَاق فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْقِيَامَة لمفاجأتهم اياه. قَالَ: وَلم يكن تغدى بعد فوظيفته على حَالهَا قَالَ الْفضل: فوجهت فِي الإزدياد، وَأمرت بطبق صَغِير فِيهِ رغيف أَو اثْنَان وفروج وَمَا أشبه ذَلِك فَوضع بَين أَيْديهم ليتشاغلوا بِهِ إِلَى أَن يدْرك مَا تقدّمت فِي تهيئته. قَالَ: فَقَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: لَيْسَ هَذَا وَقت طَعَام ارْفَعُوا هَذَا السَّاعَة. فَقَالَ طَاهِر: أما إِذْ كَانَ هَذَا لَيْسَ وَقت طَعَام لِأَحْمَد بن يزِيد فَلَيْسَ وَقت طعامنا نَحن إِلَّا بعد ثَلَاثَة أَيَّام. قَالَ: ثمَّ أدْرك الطَّعَام فَكَانَ الْأَمر جميلا جدا. وَبلغ الْمَأْمُون فَسَأَلَ أَبَا اسحاق عَنهُ. فَأخْبرهُ فَجعل يَقُول: لقد احتال الْفضل وملح طَاهِر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 (سيرة الْمَأْمُون بِبَغْدَاد وطرائف من أخباره وأخبار أَصْحَابه، وقواده، وَكتابه، وحجابه) قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الْأنمَاطِي: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد وقربها قراره وَأمر أَن يدْخل عَلَيْهِ من الْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَأهل الْعلم جمَاعَة يختارهم لمجالسته ومحادثته وَكَانَ يقْعد فِي صدر نَهَاره على لبود فِي الشتَاء، وعَلى حصر فِي الصَّيف لَيْسَ مَعَهُمَا شَيْء من سَائِر الْفرش، وَيقْعد للمظالم فِي كل جُمُعَة مرَّتَيْنِ لَا يمْتَنع مِنْهُ أحد. قَالَ: واختير لَهُ من الْفُقَهَاء لمجالسته مائَة رجل فَمَا زَالَ يختارهم طبقَة بعد طبقَة حَتَّى حصل مِنْهُم عشرَة كَانَ أَحْمد بن أبي دَاوُد أحدهم، وَبشر المريسي. قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الْأنمَاطِي وَكنت أحدهم. قَالَ: فتغدينا يَوْمًا عِنْده فَظَنَنْت أَنه وضع على الْمَائِدَة أَكثر من ثَلَاثمِائَة لون فَكلما وضع لون نظر الْمَأْمُون إِلَيْهِ فَقَالَ: هَذَا يصلح لكذا وَهَذَا نَافِع لكذا. فَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب بلغم ورطوبة فليجتنب هَذَا. وَمن كَانَ صَاحب صفراء فَليَأْكُل من هَذَا، وَمن غلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء فَليَأْكُل من هَذَا، وَمن أحب الزِّيَادَة فِي لَحْمه فَليَأْكُل من هَذَا /، وَمن كَانَ قَصده قلَّة الْغذَاء فليقتصر على هَذَا قَالَ: فوَاللَّه مَا زَالَت تِلْكَ حَاله فِي كل لون يقوم حَتَّى رفعت الموائد. قَالَ: فَقَالَ لَهُ يحيى بن اكثم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن خضنا فِي الطِّبّ كنت جالينوس فِي مَعْرفَته، أَو فِي النُّجُوم كنت هرمس فِي حسابه، أَو فِي الْفِقْه كنت على بن أبي طَالب صلوَات اللَّهِ عَلَيْهِ فِي علمه، أَو ذكر السخاء فَأَنت فَوق حَاتِم فِي جوده، أَو ذكرنَا صدق الحَدِيث كنت أَبَا ذَر فِي صدق لهجته، أَو الْكَرم كنت كَعْب بن مامة فِي إيثاره على نَفسه قَالَ: فسر بذلك الْكَلَام. وَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد: إِن الْإِنْسَان إِنَّمَا فضل على غَيره من الْهَوَام بِفِعْلِهِ، وعقله، وتمييزه. وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن لحم أطيب من لحم. وَلَا دم أطيب من دم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَذكر لنا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْفَارِسِي، عَن ثُمَامَة بن اشرس قَالَ: لما قدم الْمَأْمُون من خُرَاسَان وَصَارَ إِلَى بَغْدَاد أَمر أَن يُسمى قوم من أهل الْأَدَب يجالسونه، ويؤامرونه فَذكر لَهُ جمَاعَة مِنْهُم: الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك وَكَانَ من جلساء مُحَمَّد المخلوع فَقَرَأَ أَسْمَاءَهُم حَتَّى بلغ إِلَى اسْم الْحُسَيْن فَقَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي يَقُول فِي المخلوع: - (هلا بقيت لسد فاقتنا ... فِينَا وَكَانَ لغيرك التّلف) (فَلَقَد خلفت خلائفا سلفوا ... ولسوف يعوز بعْدك الْخلف) لَا حَاجَة لي بِهِ لَا يراني وَالله إِلَّا فِي الطَّرِيق، وَلم يُعَاقب الْحُسَيْن على مَا كَانَ مِنْهُ فِي هجائه لَهُ والتعريض بِهِ. وَحدث مُحَمَّد بن عِيسَى، عَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون إِذا أَمر أَصْحَابه أَن يعودوا للغداء وَالْمقَام قَالَ لبَعض غلمائه: أعلم الخباز أَنا قد أمرناهم بِالْعودِ. قَالَ: فَرَآهُمْ كَأَنَّهُمْ يعْجبُونَ من ذَلِك فَقَالَ: أظنكم أنكرتم مَا تَسْمَعُونَ؟ قَالُوا: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لأَنا لَا نشك أَن كلما نحتاج إِلَيْهِ عتيد. قَالَ: يهيء لنا مَا يهيء فَيكون فَضله للغلمان فَإِذا احتبسناكم استغرقتم مَا يكون لَهُم فنأمرهم أَن يزدادوا مَا يفضل عَنَّا لَهُم. قَالَ: وعاتب الْمَأْمُون الْمطلب بن عبد الله بن مَالك فَأَجَابَهُ الْمطلب بِالنَّفْيِ عَن نَفسه فَقَالَ: تَقول هَذَا وَأَنت أول كل فتْنَة وَآخِرهَا وَمن فعلك وفعلك. فَقَالَ لَهُ الْمطلب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يدعونك استبطاؤك نَفسك إِلَى كَثْرَة التجني على مِمَّا لعلى بَرِيء مِنْهُ. قَالَ: أسْتَغْفر اللَّهِ أرضيت؟ قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَذكر عَن ثُمَامَة قَالَ: أرتد رجل من أهل خُرَاسَان فَأمر الْمَأْمُون بِحمْلِهِ إِلَى مَدِينَة السَّلَام فَلَمَّا أَدخل عَلَيْهِ أقبل بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ ثمَّ قَالَ لَهُ: لِأَن أستحييك بِحَق وَاجِب أحب إِلَى من أَن أَقْتلك بِحَق، وَلِأَن أدفَع عَنْك بالتهمة وَقد كنت مُسلما بعد أَن كنت نَصْرَانِيّا وَكنت فِي الاسلام أفيح [مَكَانا] وأطول أَيَّامًا فاستوحشت مِمَّا كنت بِهِ آنسا ثمَّ لم تلبث أَن رجعت عَنَّا نافرا فخبرنا عَن الشَّيْء الَّذِي أوحشك من الشَّيْء الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 صَار آنس لَك من ذَلِك الْقَدِيم وأنسك الأول، فَإِن وجدت عندنَا دَوَاء داءك تعالجت بِهِ إِذْ كَانَ الْمَرِيض يحْتَاج إِلَى مُشَاورَة الْأَطِبَّاء، فَإِن أخطأك الشِّفَاء، ونبا عَن داءك الدَّوَاء وَكنت قد أعذرت، وَلم ترجع عَن نَفسك بلائمة فَإِن قتلناك بِحكم الشَّرِيعَة ترجع أَنْت فِي نَفسك إِلَى الاستبصار والثقة، وَتعلم أَنَّك لم تقصر فِي اجْتِهَاد، وَلم تدع الْأَخْذ بالحزم. فَقَالَ الْمُرْتَد: أوحشني مَا رَأَيْت من كَثْرَة الِاخْتِلَاف فِي دينكُمْ. قَالَ الْمَأْمُون: فَإِن لنا اختلافين. أَحدهمَا: كالاختلاف فِي الْأَذَان، وتكبير الْجَنَائِز وَالِاخْتِلَاف فِي التَّشَهُّد، وَصَلَاة الأعياد وتكبير التَّشْرِيق، ووجوه القراءآت، وَاخْتِلَاف وُجُوه الْفتيا وَمَا أشبه ذَلِك وَلَيْسَ هَذَا باخْتلَاف إِنَّمَا هُوَ تخير وتوسعة وَتَخْفِيف من المحنة. فَمن أذن مثني، وَأقَام فرادي. لم يؤثم. من أذن مثني وَأقَام مثنى لَا يتعايرون وَلَا يتعايبون، أَنْت ترى ذَلِك عيَانًا، وَتشهد عَلَيْهِ بَيَانا. وَالِاخْتِلَاف الآخر: كنحو الِاخْتِلَاف فِي تَأْوِيل الْآيَة من كتَابنَا، وَتَأْويل الحَدِيث عَن نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ إجماعنا على أصل التَّنْزِيل، واتفاقنا على عين الْخَبَر، فَإِن كَانَ الَّذِي أوحشك هَذَا حَتَّى أنْكرت كتَابنَا، فقد يَنْبَغِي أَن يكون اللَّفْظ بِجَمِيعِ مَا فِي التوارة وَالْإِنْجِيل مُتَّفقا على تَأْوِيله كالاتفاق على تَنْزِيله، وَلَا يكون بَين الملتين من الْيَهُود وَالنَّصَارَى اخْتِلَاف فِي شَيْء من التأويلات، وَيَنْبَغِي لَك أَلا ترجع إِلَّا إِلَى لُغَة لَا اخْتِلَاف فِي ألفاظها، وَلَو شَاءَ اللَّهِ أَن ينزل كتبه وَيجْعَل كَلَام أنبياءه، وورثة رسله لَا تحْتَاج إِلَى تَفْسِير لفعل. وَلَكنَّا لم نر شَيْئا من الدّين وَالدُّنْيَا دفع إِلَيْنَا على الْكِفَايَة، وَلَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لسقطت الْبلوى والمحنة، وَذَهَبت الْمُسَابقَة والمنافسة وَلم يكن تفاضل، وَلَيْسَ على هَذَا بني اللَّهِ جلّ وَعز الدُّنْيَا. فَقَالَ الْمُرْتَد: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن الْمَسِيح عبد اللَّهِ وَرَسُوله. وَأَن مُحَمَّدًا صلى اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ِ عَلَيْهِ صَادِق. وَأَنَّك أَمِير الْمُؤمنِينَ حَقًا. قَالَ: فانحرف الْمَأْمُون نَحْو الْقبْلَة فَخر سَاجِدا ثمَّ أقبل على أَصْحَابه فَقَالَ: وفروا عَلَيْهِ عرضه. وَلَا تبروه فِي يَوْمه ريثما يعْتق اسلامه كَيْلا يَقُول عدوه أَنه يسلم رَغْبَة، وَلَا تنسوا نصيبكم من بره ونصرته وتأنيسه والفائدة عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 حَدثنِي عبد اللَّهِ بن غَسَّان بن عباد: أَن أَبَاهُ قدم من السَّنَد بسبعة آلَاف ألف فعرضها على الْمَأْمُون وَقَالَ: هَذَا المَال فضل معي عَن النَّفَقَة. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: خُذْهُ فهولك. قَالَ: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أقبله. فَقَالَ: خُذ مِنْهُ خَمْسَة آلَاف ألف فأمتنع من ذَلِك فَأمره أَن يَأْخُذ أَرْبَعَة آلَاف ألف وَقَالَ: لَا أشفعك فِي امتناعك من ذَلِك. فَأَخذهَا وَفرق المَال على ولد الْمَأْمُون. وَأُمَّهَات أَوْلَاده، وحشمة فارتجع الْمَأْمُون المَال وَقَالَ: إِنَّمَا دفعناه إِلَيْك لتنتفع بِهِ لَيْسَ لتنفعنا بِهِ. فَكنت أَنا مِمَّن أرتجع مِنْهُ من هَذَا المَال ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. وَقَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: قَالَ مُحَمَّد بن سعد كَاتب الْوَاقِدِيّ: رفع الْوَاقِدِيّ رقْعَة إِلَى الْمَأْمُون يشكو عَلَيْهِ الدّين فَوَقع فِيهَا بِخَطِّهِ: فِيك خلَّتَانِ. السخاء، وَالْحيَاء، فَأَما السخاء فَهُوَ الَّذِي أطلق يَديك بِمَا ملكت، وَأما الْحيَاء فَهُوَ الَّذِي حملك على ذكر بعض دينك. وَقد أمرنَا لَك بِضعْف مَا ذكرت، فَإِن قَصرنَا عَن بُلُوغ حَاجَتك فبجنايتك على نَفسك، وَإِن كُنَّا بلغنَا بغيتك فزد فِي بسط يدك فَإِن خَزَائِن اللَّهِ مَفْتُوحَة، وَيَده بِالْخَيرِ مبسوطة. وَذكر عَن ثُمَامَة قَالَ: لما دخل الْمَأْمُون مَدِينَة السَّلَام حضرت مَجْلِسه يَوْمًا وَقد جَاءُوهُ بِرَجُل زعم أَنه خَلِيل الرحمان فَقَالَ لي الْمَأْمُون: سَمِعت أحدا أجرأ على اللَّهِ من هَذَا؟ . فَقلت: أَن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْذَن لي فِي مناظرته؟ قَالَ شَأْنك بِهِ. قَالَ فَقلت لَهُ: يَا هَذَا: إِن إِبْرَاهِيم كَانَت مَعَه براهين وآيات. قَالَ: وَمَا كَانَت براهينه وآياته؟ . قلت أضرمت لَهُ نَار وَألقى فِيهَا فَصَارَت عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا فَنحْن نضرم لَك نَار نطرحك فِيهَا فَإِن كَانَت عَلَيْك بردا وَسلَامًا صدقناك وآمنا بك. قَالَ: هَات غير هَذَا. قلت: براهين مُوسَى. قَالَ وَمَا براهينه؟ قلت عَصَاهُ الَّتِي أَلْقَاهَا فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى، وفلق بهَا الْبَحْر فَصَارَ يبسا، وَأَلْقَاهَا فالتقفت مَا افك السَّحَرَة قَالَ: هَات غير هَذَا. قلت: براهين عِيسَى. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قلت: يحيى الْمَوْتَى وَيُبرئ الأكمه والأبرص ويخبر بِمَا فِي الضَّمِير. قَالَ: مَا معي من هَذَا الضَّرْب شَيْء وَقد قلت لجبريل إِنَّكُم توجهوني إِلَى شياطين فأعطوني حجَّة أذهب بهَا وَإِلَّا لم أذهب فَقَالَ لي جِبْرِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَغَضب: قد جِئْت بِالشَّرِّ من السَّاعَة أذهب أَولا فَأنْظر مَا يَقُول لَك الْقَوْم؟ فَضَحِك الْمَأْمُون وَقَالَ: هَذَا طيب. قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: هَذَا رجل هاج بِهِ الْمرة وأعلام ذَلِك بَينه فِيهِ. قَالَ: صدقت. وَأمر بِهِ إِلَى الْحَبْس، وَأَن يعالج من مرّة إِن كَانَ بِهِ. قَالَ بعض أَصْحَابنَا، عَن أَبِيه، قَالَ: بَينا الْحسن اللؤْلُؤِي فِي مجْلِس الْمَأْمُون وَهُوَ يطارحه شَيْئا من الْفِقْه والمسائل إِذْ نعس الْمَأْمُون فَقَالَ لَهُ اللؤْلُؤِي: أنمت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَفتح الْمَأْمُون عينه ثمَّ قَالَ: سوقي وَالله يَا غُلَام خُذ بِيَدِهِ فجَاء الغلمان فأقاموه. وَقَالَ: لَا يدْخل مثل هَذَا على. قَالَ: فتمثل بعض أَصْحَابه: - (وَهل ينْبت الخطي إِلَّا وشيجة ... وتنبت إِلَّا فِي مغارسها النّخل) وَذكر الْقَاسِم بن سعيد أَن هَذَا الْخَبَر كَانَ والمأمون ولي عهد بالرقة فِي حَيَاة الرشيد فَبلغ الرشيد ذَلِك فتمثل بِبَيْت زُهَيْر. وحَدثني أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد ختن على بن الْهَيْثَم وَكيل ولد الْمَأْمُون. قَالَ أَخْبرنِي هَارُون بن الْمَأْمُون بن سندس وَكَانَ بَيت الاعتزال أَن الْمَأْمُون قَالَ لَهُ: لأجمعن بَيْنك وَبَين بشر فَإِن وَجَبت عَلَيْك الْحجَّة ضربت عُنُقك، وَكَانَ هَارُون يَقُول: لم أزل أتجنت مجْلِس بشر عِنْد الْمَأْمُون إِلَى أَن فرق الدَّهْر بَيْننَا. حَدثنِي الرامَهُرْمُزِي وَكَانَ قدريا، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم اليزيدي أَنه سمع ثُمَامَة يَقُول: إِن الْمَأْمُون عَامي لتَركه القَوْل بِالْقدرِ. حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَاق بن جرير المرزري قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن السندي يَقُول: بعث الْمَأْمُون إِلَى فَأَتَيْته فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم أَنِّي أريدك لأمر جلل وَالله مَا شاورت فِيك أحدا، وَلَا أشاور بك على أحد فَاتق اللَّهِ وَلَا تفضحني. قَالَ: قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: وَالله لَو كنت شَرّ من ذرأه اللَّهِ لقدح فِي هَذَا الْكَلَام من مولَايَ فَكيف ونيتي فِي طَاعَته نِيَّة العَبْد الذَّلِيل لمَوْلَاهُ قَالَ: قد رَأَيْت توليتك خبر مَا وَرَاء بَابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إِلَى مصر فَانْظُر أَن تعْمل بِمَا يجب لله عَلَيْك وَلَا تراقب أحدا غَيره. قلت: فَإِنِّي أستعين بِاللَّه على مرضاته وأستوفقه لطاعة مولاى ثمَّ نهضت فبثثت أَصْحَاب الْأَخْبَار فِي أَربَاع بَغْدَاد فَرفع إِلَى أَن صَاحب الحرس أَخذ أمْرَأَة مَعَ رجل نَصْرَانِيّ من تجار الكرخ فهجم عَلَيْهِمَا فافتدي النَّصْرَانِي نَفسه بِأَلف دِينَار. قَالَ: فَرفعت الْخَبَر بِهَذَا إِلَى الْمَأْمُون فَدَعَا الْمَأْمُون عبد اللَّهِ بن طَاهِر وَهُوَ بِبَغْدَاد فَقَالَ: انْظُر فِي هَذَا الْخَبَر الَّذِي رَفعه إِبْرَاهِيم بن السندي فقرأه فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رفع إِلَيْك الْبَاطِل والزور وَجعل يغريه بِي ويحمله على وَكَانَ الْمَأْمُون لين المكسر. قَالَ: فأثر ذَلِك فِي قلبه فَبعث إِلَى فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيم. ترفع إِلَى الْكَذِب وتحملني على عمالي. قَالَ: فَكتبت رقْعَة ووجهتها إِلَى فتح غُلَامه ليوصلها إِلَيْهِ وَقلت فِيهَا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَتى وقف صَاحب خبر على مَا وقفت عَلَيْهِ، وَلَو كَانَت الْأَخْبَار لَا تصح إِلَّا بشاهدي عدل مَا صَحَّ خبر وَلَا كتبت بِهِ، وَلَكِن مَجِيء الْأَخْبَار أَن لم يحضرها أَقوام على غير تواطئ وَلَا تشاعر من كَانُوا وَمن حَيْثُ كَانُوا، وأنما يحضر الْأَخْبَار الطِّفْل وَالْمَرْأَة والمحتال والذمر وَابْن السَّبِيل فَإِن كَانَ أحب الْأَمريْنِ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا نكتب بِخَبَر وَلَا نرفعه حَتَّى يَصح بالعدول وَيصِح بالبراهين فعلت ذَلِك. وعَلى أَن لَا يتهيأ ذَلِك فِي سنة إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ. قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَ الْمَأْمُون الرقعة جَاءَنِي رَسُوله مَعَ طُلُوع الْفجْر فَقَالَ: أجب. فَأَتَيْته بعدان صليت فَدخلت من بَاب الْحمام فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أطمأن ثمَّ قَامَ وَقد طلعت الشَّمْس فصلى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فيهمَا ثمَّ سلم والتفت إِلَى وَمَا فِي مَجْلِسه أحد ثمَّ قَالَ يَا إِبْرَاهِيم إِنِّي إِنَّمَا قُمْت إِلَى الصَّلَاة ليسكن بهرك، ويفرج روعك، وتقوى متنك، وَتمكن فِي قعودك. قَالَ: وَكنت قعدت على ركبتي فَقلت: وَالله. وَالله لَا أَضَع قدر الْخلَافَة وَلَا أَجْلِس إِلَّا جُلُوس العَبْد بَين يَدي مَوْلَاهُ. قَالَ: فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ دون الأولتين ثمَّ سلم وَحمد اللَّهِ وأثني عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذِه رقعتك فِي ثني وِسَادَتِي قد قرأتها اللَّيْلَة أَربع مَرَّات وَقد صدقت فِيمَا قلت أَلا أَنِّي آمُر وأداري عمالي وعمالهم مَدَاره الْخَائِف وَالله مَا أجد إِلَى حملهمْ على المحجة الْبَيْضَاء سَبِيلا فأعمل لي على حسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مَا تراني أعمل وَلنْ لَهُم تسلم لَك أيامك، وَبَعض دينك وَفِي حفظ اللَّهِ إِذا شِئْت. قَالَ: فَانْصَرَفت ودعوت أَصْحَاب الْأَخْبَار فَقلت داروا هَؤُلَاءِ الْقَوْم وارفقوا بهم. وَذكر إِبْرَاهِيم بن السندي قَالَ: وجدنَا رِقَاعًا فِي طرقات بَغْدَاد فِيهَا شتم للسُّلْطَان وَكَلَام قَبِيح فَكرِهت رَفعهَا على جهرتها لما فِيهَا، وكرهت أَن أطوى ذكرهَا وَأَنا صَاحب خبر فينقلها من جِهَة أُخْرَى فيلحقني مَا أكره فَكتبت: إِنَّا أصبْنَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رِقَاعًا فِيهَا كَلَام السُّفَهَاء والسفلة، وفيهَا تهدد ووعيد، وَبَعضهَا عندنَا مَحْفُوظَة إِلَى أَن يَأْمر أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهَا بأَمْره. فَكتب إِلَى بِخَطِّهِ: هَذَا أَمر إِن أكبرناه كثر غمنا بِهِ، واتسع علينا خرقه. فَمر أَصْحَاب أخبارك مَتى وجدوا من هَذِه الرّقاع رقْعَة أَن يمزقوها قبل أَن ينْظرُوا فِيهَا فَإِنَّهُم إِذا فعلوا ذَلِك لم ير لَهَا أثر وَلَا عين. قَالَ إِبْرَاهِيم: فَفَعَلْنَا ذَلِك فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ. حَدثنِي عَمْرو بن سُلَيْمَان بن بشير بن مُعَاوِيَة قَالَ: أَخْبرنِي أبي أَن الْمَأْمُون ولي إِبْرَاهِيم بن السندي الْخَبَر بِمَدِينَة السَّلَام، وَعَيَّاش بن الْقَاسِم يتَوَلَّى الجسرين قبل عبد اللَّهِ بن طَاهِر أَيَّام الْمَأْمُون. قَالَ: فَركب إِبْرَاهِيم إِلَى الجسر فِي أول يَوْم تولى فَدَعَا عَيَّاش بِقوم من أهل الجرائم للعرض فَمر بِهِ رجل من الْأَبْنَاء فشتمه وتناوله فَرد الرجل عَلَيْهِ مثل ذَلِك فأختلط عَيَّاش من رده عَلَيْهِ وَشَتمه أقبح الشتم فَرد عَلَيْهِ الرجل أَيْضا مثل ذَلِك فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن السندي: لَيْسَ لَك أَن تشتمه إِنَّمَا لَك أَن تمتثل مَا أمرت بِهِ وَمَا لَك أَن تتعدى ذَلِك إِلَى شَتمه فيلزمك الْحَد لَهُ. فَقَالَ لَهُ عَيَّاش: إِنَّمَا أَنْت صَاحب خبر تكْتب مَا تسمع وَمَا ترى، وَلَيْسَ لَك أَن تَتَكَلَّم فِي مجلسي وأمري وَنهي فَإِن أَمْسَكت وَإِلَّا أمرت من يجر برجلك حَتَّى يَرْمِي بك فِي دجلة. قَالَ: فَقَامَ إِبْرَاهِيم من الْمجْلس مغضبا فَقَالَ لعياش: سأعرفك نبأ مَا تَكَلَّمت بِهِ وَصَارَ من فوره إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ فَخرج إِلَيْهِ فتح. فَقَالَ لَهُ: مَالك؟ فَقَالَ لَهُ: أَن عَيَّاش ابْن الْقَاسِم فعل كَذَا. وَكَذَا وقص عَلَيْهِ قصَّته إِلَى آخرهَا. فَقَالَ فتح لإِبْرَاهِيم: فتحب أَن أنهى ذَلِك إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: نعم لم أحضر إِلَّا لهَذَا. فَدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فتح إِلَى الْمَأْمُون فَقَالَ: مَا وَرَاءَك؟ . قَالَ: إِبْرَاهِيم بن السندي مَوْلَاك يخبر بِكَذَا. وَكَذَا قَالَ: أحضر إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. قَالَ فأحضر إِسْحَاق وَإِبْرَاهِيم جَالس. فَقَالَ الْمَأْمُون لإسحاق أَلا تَأْخُذ على أَيدي عمالك وتنهاهم عَن الْخرق بِالنَّاسِ والسفه وأعلمه مَا كَانَ من أَمر عَيَّاش وَتقدم إِلَيْهِ فِي نَهْيه عَمَّا كَانَ مِنْهُ. قَالَ: فأنصرف إِسْحَاق إِلَى منزله وَأرْسل إِلَى عَيَّاش بن الْقَاسِم، والسندي بن الحدثي وَإِبْرَاهِيم بن السندي بن شاهك حَاضر فشتمهما واستخف بهما. فَلَمَّا كَانَ من بعد ذَلِك الْيَوْم ولي الْمَأْمُون من قبل بشر بن الْوَلِيد القَاضِي من الْجَانِب الغربي الْحُسَيْن القَاضِي حُضُور الجسر مَعَ عَيَّاش، وَولى عِكْرِمَة أَبَا عبد الرَّحْمَن الجسر الشَّرْقِي مَعَ السندي فَلم يكن لعياش وَلَا للسندي نهى فِي أَصْحَاب الْجِنَايَات، إِلَّا بحضورهما. قَالَ: وَلم يزل ذَلِك كَذَلِك إِلَى آخر أَيَّام الْمَأْمُون وَكَانَ صَاحب الجسر إِذا انْصَرف عَيَّاش من مَجْلِسه جلس فِي الْمَسْجِد الَّذِي فِي ظهر مجْلِس الشرطة، وَكَانَ الآخر إِذا انْصَرف السندي صَار إِلَى مَسْجِد حَسَنَة أم ولد الْمهْدي وَهُوَ الْمَسْجِد الَّذِي بِبَاب الطاق فِي الحدادين وهنالك دَار حَسَنَة. وَذكر لي: أَن رجلَيْنِ تنَازعا بِبَاب الجسر أَحدهمَا من العظماء. وَالْآخر من السوقة. فقنع الَّذِي من الْخَاصَّة الَّذِي من الْعَامَّة فصاح الْعَاميّ: واعمراه ذهب الْعدْل مذ ذهبت فَأخذ الرجل وَكتب إِبْرَاهِيم بن السندي بِخَبَرِهِ. فَدَعَا بِهِ الْمَأْمُون فَقَالَ: مَا كَانَت حالك؟ فَأخْبرهُ. فأحضر خَصمه فَقَالَ لَهُ: لم قنعت هَذَا الرجل؟ . قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن هَذَا الرجل يعاملني وَكَانَ سيئ الْمُعَامَلَة فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْيَوْم مَرَرْت بِبَاب الجسر فَأخذ بلجامي ثمَّ قَالَ: لَا أُفَارِقك حَتَّى تخرج لي من حَقي وغرمه. إِنِّي كنت صبورا على سوء مُعَامَلَته لى. فَقلت لَهُ: إِنِّي أُرِيد دَار إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. فَقَالَ: وَالله لَو جَاءَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم مَا فارقتك، وَلَو جَاءَ من ولي إِسْحَاق وعنف بِي فَمَا صبرت حِين عرض بالخلافة ووهن من ذكرهَا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 قنعته فصاح وأعمراه ذهب الْعدْل مذ ذهبت. فَقَالَ للرجل مَا تَقول فِيمَا قَالَ خصمك؟ فَقَالَ: كذب على، وَقَالَ الْبَاطِل. فَقَالَ خَصمه: لي جمَاعَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تشهد على مقَالَته، وَإِن أذن لي أَمِير الْمُؤمنِينَ أحضرتهم. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون للرجل: مِمَّن أَنْت؟ . فَقَالَ: من أهل فاميه فَقَالَ: أما أَن عمر بن الْخطاب رَحمَه اللَّهِ كَانَ يَقُول: من كَانَ جَاره نبطيا وَاحْتَاجَ إِلَى ثمنه فليبعه فَإِن كنت إِنَّمَا طلبت سيرة عمر فَهَذَا حكمه فِي أهل فامية ثمَّ أَمر لَهُ بِأَلف دِرْهَم وَأطْلقهُ. فَقَالَ لي الَّذِي حَدثنِي بِهَذَا الحَدِيث فَحدثت هَذَا الحَدِيث بعض مَشَايِخنَا فَقَالَ أما الَّذِي عندنَا: فخلاف هَذَا: إِنَّمَا مر بعض الزهاد فِي زورق فَلَمَّا نظر إِلَى بِنَاء الْمَأْمُون وأبوابه صَاح، واعمراه. فَسَمعهُ الْمَأْمُون فَأمر بأحضاره ثمَّ دَعَا بِهِ فَلَمَّا صَار بَين يَدَيْهِ قَالَ: مَا أحرجك إِلَى أَن قلت مَا قلت؟ : قَالَ رَأَيْت آثَار الأكاسرة وَبِنَاء الْجَبَابِرَة. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَفَرَأَيْت أَن تحولت من هَذِه الْمَدِينَة فَنزلت إيوَان كسْرَى بِالْمَدَائِنِ كَانَ لَك أَن تعيب نزولي هُنَاكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأَرَاك إِنَّمَا عبت إسرافي فِي النَّفَقَة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَلَو وهبت قيمَة هَذَا الْبناء أَكنت تعيب ذَاك. قَالَ: لَا قَالَ: فَلَو بني ذَلِك الرجل بِمَا كنت أهب لَهُ بِنَاء أَكنت تصيح بِهِ كَمَا صحت بِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأَرَاك أَنما قصدتني لخاص نَفسِي لَا لعِلَّة هِيَ غَيْرِي. قَالَ: وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم حَاضر قَالَ: فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مثل هَذَا لَا يقومه القَوْل دون السَّوْط، أَو السَّيْف؟ . قَالَ: هما أرش جِنَايَته ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِن هَذَا أول مَا بنيناه وَآخره، وَإِنَّمَا بلغت النَّفَقَة عَلَيْهِ ثَلَاثَة الآلف ألف وَهُوَ ضرب من مكايدتنا الْأَعْدَاء من مُلُوك الْأُمَم كَمَا تَرَانَا نتَّخذ السِّلَاح والادراع، والجيوش، والجموع، وَمَا بِنَا إِلَى أَكْثَرهَا حَاجَة السَّاعَة. وَأما ذكرك سيرة عمر رَحمَه اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يسوس أَقْوَامًا كراما قد شهدُوا نَبِيّهم صلى اللَّهِ عَلَيْهِ وَنحن إِنَّمَا نسوس أهل بز وفر، وفامية، ودستميسان وَمن أشبه هَؤُلَاءِ الَّذين إِن جَاءُوا أكاوك، وَإِن شَبِعُوا قهروك، وَإِن ولوا عَلَيْك استعبدوك، وَكَانَ عمر يسوس قوما قد تأدبوا بأخلاق نَبِيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطاهرة، وصانوا أحسابهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الشَّرِيفَة، وَمَا أثله لَهُم آباؤهم فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام من الْأَفْعَال الرضية، والشيم الْكَرِيمَة وَنحن نسوس من ذكرنَا لَك من هَؤُلَاءِ الاقوام الخبيثة. قَالَ: ثمَّ أَمر بصلته فَقَالَ: لَا تعودن إِلَى مثل هَذَا فتمسك عقوبتي فَإِن الْحفظَة رُبمَا صرفت رَأْي ذِي الرَّأْي إِلَى هَوَاهُ فأستعمله وخلى سَبِيل الْحلم. قَالَ التغلبي: سَمِعت يحيى بن أَكْثَم يَقُول: أَمرنِي الْمَأْمُون عِنْد دُخُوله بَغْدَاد أَن أجمع لَهُ وُجُوه الْفُقَهَاء وَأهل الْعلم من أهل بَغْدَاد فاخترت لَهُ من أعلامهم أَرْبَعِينَ رجلا وأحضرتهم وَجلسَ لَهُم الْمَأْمُون فَسَأَلَ عَن مسَائِل وأفاض فِي فنون الحَدِيث وَالْعلم. فَلَمَّا انقضي ذَلِك الْمجْلس الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّظَر فِي أَمر الدّين قَالَ الْمَأْمُون: يَا أَبَا مُحَمَّد كره هَذَا الْمجْلس الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّظَر طوائف من النَّاس بتعديل أهوائهم، وتزكية أرائهم فطائفة عابوا علينا مَا نقُول فِي تَفْضِيل على بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ وظنوا أَنه لَا يجوز تَفْضِيل على إِلَّا بإنتقاص غَيره من السّلف وَالله مَا اسْتحلَّ أَو قَالَ مَا استجيز أَن انْتقصَ الْحجَّاج فَكيف السّلف الطّيب. وَإِن الرجل ليَأْتِيَن بالقطعة من الْعود، أَو بالخشبة، أَو بالشَّيْء الَّذِي لَعَلَّ قِيمَته لَا تكون إِلَّا درهما أَو نَحوه فَيَقُول: إِن هَذَا كَانَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو قد وضع يَده عَلَيْهِ، أَو شرب فِيهِ، أَو مَسّه وَمَا هُوَ عِنْدِي بِثِقَة وَلَا دَلِيل على صدق الرجل إِلَّا أَنِّي بفرط النِّيَّة والمحبة أقبل ذَلِك فاشتريه بِأَلف دِينَار وَأَقل وأكثركم أَضَعهُ على وَجْهي وعيني وأتبرك بِالنّظرِ إِلَيْهِ وبمسه فأستشفي بِهِ عِنْد الْمَرَض يُصِيبنِي أَو يُصِيب من أهتم بِهِ فأصونه كصيانتي نَفسِي وَإِنَّمَا هُوَ عود لم يفعل هُوَ شَيْئا وَلَا فَضِيلَة لَهُ تستوجب بِهِ الْمحبَّة إِلَّا مَا ذكر من مس رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسلم لَهُ: فَكيف لَا أرعى حق أَصْحَابه وَحُرْمَة من قد صَحبه وبذل مَاله وَدَمه دونه وصبر مَعَه أَيَّام الشدَّة، وأوقات الْعسرَة وعادي العشائر والعمائر. والأقارب، وَفَارق الْأَهْل وَالْأَوْلَاد واغترب عَن دَاره ليعز اللَّهِ دينه وَيظْهر دَعوته. يَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالله لَو لم يكن هَذَا فِي الدّين مَعْرُوفا لَكَانَ فِي الْأَخْلَاق جميلا، وَإِن من الْمُشْركين لمن يرْعَى فِي دينه من الْحُرْمَة مَا هُوَ أقل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 هَذَا. معَاذ اللَّهِ مِمَّا نطق بِهِ الجاهلون. ثمَّ لم ترض هَذِه الطَّائِفَة بِالْعَيْبِ لمن خالفها حَتَّى نسبته إِلَى الْبِدْعَة فِي تفضيله رجلا على أَخِيه وَنَظِيره وَمن يفار بِهِ فِي الْفضل وَقد قَالَ اللَّهِ جلّ من قَائِل: {وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض} ثمَّ وسع لنا فِي جهل الْفَاضِل من الْمَفْضُول فَمَا فرض علينا ذَلِك وَلَا ندبنا إِلَيْهِ إِذْ شَهِدنَا لجماعتهم بِالنُّبُوَّةِ فَمن دون النَّبِيين من ذَلِك بعد إِذْ أشهد لَهُم بِالْعَدَالَةِ والتفضيل أَمر لَو جَهله جَاهِل رجونا أَلا يكون أجترح إِثْمًا وهم لم يَقُولُوا بِدعَة؟ . فَمن قَالَ بقول وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشك الآخر وَاحْتج فِي كَسره وإبطاله من الْأَحْكَام فِي الْفروج، والدماء وَالْأَمْوَال الَّتِي النّظر فِيهَا أوجب من النّظر فِي التَّفْضِيل فيغلظ فِي مثل هَذَا أحد يعرف شَيْئا أَو لَهُ رُؤْيَة، أَو حسن نظر، أَو يَدْفَعهُ من لَهُ عقل أَو معاند يُرِيد الإلطاط، أَو مُتبع لهواه ذاب عَن رئاسة اعتقدها، وَطَائِفَة قد اتخذ كل رجل مِنْهُم مَجْلِسا اعْتقد بِهِ رئاسة لَعَلَّه يَدْعُو فِئَة إِلَى ضرب من الْبِدْعَة؛ ثمَّ لَعَلَّ كل رجل مِنْهُم يعادي من خَالفه فِي الْأَمر الَّذِي قد عقد بِهِ رئاسة بِدعَة، ويشيط بدمه وَهُوَ قد خَالفه من أَمر الدّين بِمَا هُوَ أعظم من ذَلِك إِلَّا أَن ذَلِك أَمر لَا رئاسة لَهُ فِيهِ فسالمة عَلَيْهِ، وَأمْسك عَنهُ عِنْد ذكر مُخَالفَته أَيَّاهُ فِيهِ، فَإِذا خُولِفَ فِي نحلته ولعلها مِمَّا وسع اللَّهِ فِي جَهله أَو قد اخْتلف السّلف فِي مثله فَلم يُعَاد بَعضهم بَعْضًا، وَلم يرَوا فِي ذَلِك أثما، وَلَعَلَّه يكفر مُخَالفَة، أَو يبدعه، أَو يرميه بالأمور الَّتِي حرمهَا اللَّهِ عَلَيْهِ من الْمُشْركين دون الْمُسلمين بغيا عَلَيْهِم وهم المترقبون للفتن، والراسخون فِيهَا لينتهبوا أَمْوَال النَّاس ويستحلوها بالغلبة، وَقد حَال الْعدْل بَينهم وَبَين مَا يُرِيدُونَ، يزأرون على الْفِتْنَة زئيرا الْأسد على فرائسها وَإِنِّي لأرجو أَن يكون مَجْلِسنَا هَذَا بِتَوْفِيق اللَّهِ وتأييده ومعونته على إِتْمَامه سَببا لِاجْتِمَاع هَذِه الطوائف على مَا هُوَ أرْضى وَأصْلح للدّين. أما شَاك فيتبين ويتثبت فينقاد طَوْعًا، وَأما معاند فَيرد بِالْعَدْلِ كرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أخبرنَا عبد الْعَزِيز. الْمَكِّيّ الْكِنَانِي الْمُتَكَلّم قَالَ: اجْتمعت أَنا وَبشر المريسي عِنْد الْمَأْمُون فَقَالَ لي ولبشر: قد اجتمعتما على نفي النشبيه ورد الْأَحَادِيث الكاذبة عَن رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتكلموا فِي الْكفْر وَالْإِيمَان. قَالَ قلت: وفقك اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أما إِن مطهرا البابي أَخْبرنِي. قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الزبير، عَن جَابر ابْن عبد اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الْيَهُود كذبت على مُوسَى، وَإِن النَّصَارَى كذبت على عِيسَى وسيكذب على أنَاس من أمتِي فَإِذا بَلغَكُمْ عني حَدِيث مُنكر فأعرضوه على كتاب اللَّهِ، فَمَا وَافق كتاب اللَّهِ فَهُوَ مني وَأَنا قلته، وَمَا خَالف كتاب اللَّهِ فَلَيْسَ مني وَلم أَقَله ". فَكيف يَقُول رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخِلَاف كتاب اللَّهِ، وبكتاب اللَّهِ هدى اللَّهِ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثمَّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَوْم شركاؤنا فِي الْمجْلس فَهَل ينصب بشر علما نَعْرِف بِهِ انْتِقَاض المنتقض وَصِحَّة الصَّحِيح؟ قَالَ: فَقَالَ بشر: نعم. حَدثنِي مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف. قَالَ: أَخْبرنِي زبيد الايامي عَن مرّة الْهَمدَانِي، عَن رجل من بني هَاشم قَالَ: قَالَ: رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل قوم أولى رُتْبَة من أَمرهم، ومصلحة من أنفسهم يردون على من سواهُم ويتبين الْحق من ذَلِك بالملابسة بِالْعَدْلِ عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب "، قَالَ: والهاشمي عَليّ بن أبي طَالب رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَكِّيّ فَقلت هَل تذكر شَيْئا تعرف بِهِ صَحِيح الْقيَاس من متناقضة؟ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْء أَكثر من هَذَا. قلت: وَلَكِن عِنْدِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهِي أحد المخبآت الَّتِي أَعدَدْت لهَذَا الْمجْلس مُنْذُ نَحْو ثَلَاثِينَ سنة. قَالَ: فَقَالَ بشر. مَا كَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تكْتم علما عنْدك. قلت: إِن لأهل الْعلم حلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يتزينون بهَا، ويزينون بهَا مقالتهم، وَلَا يعلمونها أهل الْبدع لِئَلَّا يزينوا بهَا بدعهم وَقد أَقَامُوا حجتهم فِي سوى ذَلِك على مخالفيهم قَالَ: قلت أَن النَّاس اخْتلفُوا ثمَّ تحاجوا بعد الِاخْتِلَاف فَلَو كَانَت غايتهم فِي الِاحْتِجَاج التخطئة كَانَ أحدهم قد خطأ صَاحبه فِي الِابْتِدَاء فَمَا أَرَادَ إِلَى العناء وَلكنه أَرَادَ النَّقْض أَو ينصب لَهُ علما يعرف بِهِ فَإِن الْقَوْم شركاؤنا فِي الْمجْلس. قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ: هَات. قلت: يعرف انْتِقَاض كل منتقض تكلم النَّاس فِيهِ من طب، أَو نُجُوم، أَو فتيا، أَو عَرَبِيَّة، أَو كَلَام بِأحد وُجُوه ثَلَاثَة. . فَكل قَول دخله وَاحِد مِنْهَا فَهُوَ المتناقض. فَقَالَ: عِنْد هَذَا فَإِن الْمعرفَة قَول. قَالَ اللَّهِ عز وَجل (وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم) قلت: يُسمى الْفِعْل قولا فِي اللُّغَة وَقد يَقُول الرجل قولا بِيَدِهِ قَالَ الشَّاعِر: - (وَقَالَت لَهَا العينان سمعا وَطَاعَة ... وحدرتا كالدر لما يثقب) فقولهما أَنَّهُمَا تهميان بالدمع. وَقد قَالَ اللَّهِ عز وَجل: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وقولهما هُوَ مجيئهما فَترك هَذَا} . قَالَ: وحَدثني عَن مُشْرك كَانَ زَانيا فَتَابَ عَن شركه وَأقَام على الزِّنَى أَلَيْسَ قد خرج من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان [قلت] وَلم يخرج الْإِيمَان الَّذِي يسْتَوْجب بِهِ الِاسْم حَتَّى يدع الزِّنَى قَالَ: وَالله ليدخلن الْجنَّة وَلَو بعد ألف سنة. قلت: مَا هَذَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ. هَذَا جَوَاب أَو مَسْأَلَة؟ فَأنْكر ذَلِك الْمَأْمُون. قَالَ ثمَّ قلت لَهُ: حَدثنِي عَن الْإِيمَان مَا هُوَ؟ قَالَ: معرفَة اللَّهِ بِحجَّة. قلت: بخصلة هُوَ أم بخصال؟ . قَالَ: خصْلَة تنتظم مَعَاني. قلت: فَهَذَا الْمَعْنى هُوَ مِنْهَا ذَلِك الْمَعْنى الآخر؟ فخلط وَتَركه. فَقَالَ آتِيك بِمَا هُوَ أسهل من هَذَا أكلف اللَّهِ جلّ وَعز أهل زمَان عِيسَى فِي زمَان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ كلفهم أَن يعلمُوا أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 سيبعثه رَسُولا. قلت فَمَا كلفنا نَحن؟ . قَالَ: إِن نعلم أَنه قد بَعثه. قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أفكلام هَذَا؟ قَالَ: لَا. قلت: فَإِذا عزمت أسأله. . قَالَ: سل. قلت: حَدثنِي عَمَّن آمن بمُوسَى وَعِيسَى وَلم يسمع بِأَن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سيبعث هُوَ مُؤمن؟ قَالَ: فلست إِذا من المرجئة إِن لم أقل هُوَ مُؤمن. قلت: فَإِن سمع بعد ذَلِك بِمُحَمد وَلَقي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام هَل أصَاب الْإِقْرَار بِهِ إِيمَانًا لم يكن أَصَابَهُ قبل ذَلِك فَعلم أَنه لَيْسَ لَهُ حِيلَة. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: على فِي الْوضُوء شدَّة فَأذن لَهُ. قَالَ: الْمَكِّيّ وَقلت لِلْمَأْمُونِ بعد الْخطْبَة فِي مجلسي: أعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كل سَبَب اتَّصل، أَو أخاء انْعَقَد على غير التَّذْكِير بِاللَّه فَهُوَ عِنْده يبور وقديما مَا تمنى لى أخواني هَذَا المقعد، وَمَا أمكنني أَلا فِي ظلّ سلطانك بخروجك من طبع الْحِرْص وفرط الشره وأطراحك مَا كَانَ يلهج بِهِ غَيْرك من مُلُوك وسوقة عتوا فِيمَا [جرت بِهِ] الْمَقَادِير قدرهَا اللَّهِ فأنقرضوا، وأضحت دِيَارهمْ عَافِيَة، ومساكنهم خاوية، لَا يقترفون سَيِّئَة، وَلَا يَعْتَذِرُونَ من أُخْرَى سلفت، وَلَا يزِيدُونَ فِي حَسَنَة، قد غلقت رهون أَكْثَرهم، وَوَجَبَت شقوتهم، وَانْقطع من الْفرج رجاؤهم، وَإِنَّمَا ينْتَظر بهم لحاق هَذَا الْخلق، عتوا قَلِيلا، وشقوا طَويلا، وأضحوا موعوظا بهم وأدبا لغَيرهم بِحجَّة اللَّهِ عَلَيْهِم. قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ ". وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاء يكثر بِأَن يَقُول: يَا أهل الشَّام: مَالِي أَرَاكُم تجمعون مَا لَا تَأْكُلُونَ، وتبنون مَالا تسكنون أَلا أَن عادا أَعْطَيْت أنعاما وماشية وَمد لَهَا مَا بَين صنعاء إِلَى الشَّام فَمن يشترى ذَلِك الْيَوْم مني بِربع دِينَار. وَأعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أَن النَّاس إِنَّمَا يرهبون يَوْم الْقِيَامَة من إِحْدَى ثَلَاث لَيست هُنَاكَ رَابِعَة: نقصة عملوها، وسهوة ارتكبوها، أَو شُبْهَة فِي الدّين انتحلوها، والداء الْأَعْظَم الشُّبْهَة هِيَ الَّتِي يظنّ صَاحبهَا الْحق بَاطِلا، وَالْبَاطِل حَقًا فَهُوَ كمخطئ الطَّرِيق إِذا ركض ازْدَادَ من الطَّرِيق بعدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَذكر عبيد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن جَعْفَر الحسني قَالَ: تَذَاكَرُوا الشجَاعَة يَوْمًا فِي مجْلِس الْمَأْمُون، وَذكرهَا الفرسان والأبطال فَقَالَ الْمَأْمُون: لم يكن فِي الْإِسْلَام بعد عَليّ بن أبي طَالب صلوَات اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام أهل بَيت شهرتهم الشجَاعَة كالمهلب بن أبي صفرَة وَآله، وَلَقَد حدثت عَن دَاوُد بن الْمسَاوِر الْعَبْدي قَالَ: لما دَخَلنَا على يزِيد بن الْمُهلب حِين ظفر بعدِي بن أَرْطَاة وَغلب على الْبَصْرَة قَالَ:: بَينا نَحن عِنْده إِذْ أَتَاهُ رجل من الْعَرَب فَقَالَ: أصلح اللَّهِ الْأَمِير إِنِّي - جعلني اللَّهِ فدَاك - جعلت على نذرا إِن أَرَانِي اللَّهِ وَجهك فِي هَذَا الْقصر أَمِيرا أَن أقبل رَأسك. فَقَالَ يزِيد: فَمَا للرجل وَالنُّذُور فِي الْقبل؟ لله در عسكرين كُنَّا فِي أَحدهمَا والأزارقة فِي الآخر مَا كَانَ أبعدهم أَن يكون نذورهم مثل نذرك يَا شيخ: لقد رَأَيْتنِي يَوْمًا وَأَنا وَاقِف بَين الْحَرِيش بن هِلَال السَّعْدِيّ وَبَين مولى لَهُ إِذْ خرج ثَلَاثَة نفر من صف الْخَوَارِج فشدوا على صفنا فخرقوه حَتَّى وصلوا إِلَى عسكرنا فَفَعَلُوا مَا أَرَادوا ثمَّ رجعُوا سَالِمين وأحدهم آخذ بسنان رمحه يجره فِي الأَرْض وَهُوَ يَقُول: (وَإِنَّا لقوم مَا نعود خَيْلنَا ... إِذا مَا الْتَقَيْنَا أَن تحيد وتنفرا) (وَلَيْسَ بِمَعْرُوف لنا أَن نردها ... صحاحا وَلَا مستنكر أَن تعفرا) فَقلت عِنْد ذَلِك مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ ثَلَاثَة بلغُوا من عَسْكَر فِيهِ من فِي مثل عسكرنا مَا بلغ هَؤُلَاءِ فَقَالَ الْحَرِيش: فَمَا يمنعك من مثلهَا أَبَا خَالِد؟ فَقلت: بِمن؟ فَقَالَ: بِي وَبِك وبمولاي هَذَا وشددنا ثَلَاثَة فصنعنا بصفهم كَمَا صَنَعُوا بصفنا ثمَّ خرج الْحَرِيش وَأخذ بزج رمحه بحره وَهُوَ يَقُول: - (حَتَّى خرجن بِنَا من تَحت كوكبهم ... حمرا من الطعْن أعناقا وأكفالا) (تِلْكَ المكارم لاقعبان من لبن ... شيبا بِمَاء فعادا بعد أبوالا) فَمثل هَذَا فأفعلوا وانذروا وَلَا تنذروا نذر الْعَجَائِز والضعاف. ثمَّ قَالَ: ادن يَا شيخ فأوف بِنَذْرِك فَدَنَا فَقبل رَأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 حَدثنِي: رجل من أَصْحَاب الْمَأْمُون قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن رشيد قَالَ: حَدثنِي من سمع الْمَأْمُون يَقُول: الإرجاء دين الْمُلُوك. حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ قَالَ: دخل أَبُو عمر الْخطابِيّ على الْمَأْمُون فتذاكروا عمر ابْن الْخطاب رَحمَه اللَّهِ فَقَالَ الْمَأْمُون: إِلَّا أَنه غصبنا. فَقَالَ لَهُ أَبُو عمر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: يكون الْغَصْب إِلَّا بِحَق يَد فَهَل كَانَت لكم يَد؟ . قَالَ: فَسكت الْمَأْمُون عَنهُ واحتملها لَهُ. قَالَ وَأُصِيب الْمَأْمُون بابنة لَهُ كَانَ يجد بهَا وجدا شَدِيدا فَجَلَسَ للنَّاس وَأمر أَن يُؤذن لمن دخل فَدخل عَلَيْهِ الْعَبَّاس بن الْعلوِي الْعلوِي فَقَالَ لَهُ ياأمير الْمُؤمنِينَ إِنَّا لم نأتك معزين وَلَكِن أَتَيْنَاك مقتدين. وَدخل الْعَبَّاس بن الْحسن على الْمَأْمُون فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن لساني ينْطَلق بمدحك غايبا، وَأحب أَن يتزيد عنْدك حَاضرا أفتأذن فَأَقُول؟ قَالَ: قل فَإنَّك تَقول فتحسن، وَتشهد فتزين، وتغيب فتؤتمن. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مَا أَقُول بعد هَذَا؟ لقد بلغت من مدحي مَا لَا أبلغه من مدحك. وَقَالَ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن دَاوُد: دخل أبي عَليّ الْمَأْمُون فَكَلمهُ بِكَلَام كثير ثمَّ حصر فَسكت عَنهُ الْمَأْمُون ليسكن فَلَمَّا سكن عَاد إِلَى الْكَلَام فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: هَذَا مقَام لَا يعاب أحد بالتقصير فِيهِ عَمَّا يسْتَحق أَمِير الْمُؤمنِينَ من الثَّنَاء عَلَيْهِ وَالدُّعَاء لَهُ يدْخلهُ من هَيْبَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وإجلاله. قَالَ: صدقت يَا إِبْرَاهِيم وَقَالَ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم: قَالَ جدي إِسْمَاعِيل بن دَاوُد لِلْمَأْمُونِ وَذكروا الْمسَاوِي والمحاسن فِي مَجْلِسه: مَا من كريم إِلَّا وَفِيه خصْلَة تعفي على مساويه، وَلَا من سفلَة إِلَّا وَفِيه خصْلَة تعفي على محَاسِن أَن كَانَت فِيهِ. فَقَالَ: صدقت يَا إِسْمَاعِيل. قَالَ: وَقَالَ الْمَأْمُون لمُحَمد بن عباد المهلبي: بَلغنِي أَن فِيك سَرفًا. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن من منح الْمَوْجُود متوطن بِاللَّه، وَإِنِّي لاهم بالإمساك فأذكر قَول أَشْجَع السّلمِيّ لجَعْفَر بن يحيى: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 (يحب الْمُلُوك ندى جَعْفَر ... وَلَا يصنعون كَمَا يصنع) (وَلَيْسَ بأوسعهم فِي الْغنى ... وَلَكِن مَعْرُوفَة أوسع) (وَكَيف ينالون غاياته ... وهم يجمعُونَ وَلَا يجمع) وَكَيف السَّبِيل إِلَى الْإِمْسَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بعد قَول صَالح المري: لَا تنَال كثيرا مِمَّا تحب حَتَّى تصبر على كثير مِمَّا تكره، وَلَا تنجو مِمَّا تكره حَتَّى تصبر على كثير مِمَّا تحب. قَالَ: فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِمِائَة ألف دِرْهَم وَقَالَ: اسْتَعِنْ بهَا على مروتك. قَالَ: وَسَأَلَ موبذ موبذان فَقَالَ لَهُ: مَا ثَمَرَة الْعقل. قَالَ: ثماره الْكَرِيمَة كَثِيرَة مِنْهَا. أحراز الْمَرْء نصِيبه من الشُّكْر، وَأَن تتمّ نِيَّته فِي الْحِرْص على مُكَافَأَة كل ذِي نعْمَة ويبلغ من ذَلِك بِالْفِعْلِ غَايَة الْقُدْرَة. وَمِنْهَا أَن لَا يسكن إِلَى الدُّنْيَا على حَال، وَلَا يطيعها فِي التَّفْرِيط فِي الاستعداد. وَمِنْهَا أَن لَا يدع السرُور، وَلَا يتَعَرَّض لزوَال النِّعْمَة. وَمِنْهَا: أَلا يعْمل عملا فِي غير مَوْضِعه، وَلَا يغفله فِي مَوْضِعه إِلَّا بعد النّظر والتثبت. وَمِنْهَا: أَلا تبطره السَّرَّاء وَلَا يشتكي الضراء. وَمِنْهَا: أَن يسير مَا بَينه وَبَين صديقه سيرة لَا يتَجَاوَز مَعهَا طعن حَاكم، ويسير مَا بَينه وَبَين عدوه رفقا يشركهم بِهِ فِي حسناتهم. وَمِنْهَا: أَن لَا يبْدَأ أحد بأذى، وَإِذا أوذي لم يتَجَاوَز فِي الانتقام حد الْعدْل وَمِنْهَا: أَن يكون الْهوى مَعَ الْحق حَيْثُ كَانَ. وَمِنْهَا: أَن لَا يفرحه مدح المادح بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَلَا يَجْعَل عيب من عابه بِمَا هُوَ مِنْهُ برِئ. وَمِنْهَا: أَن لَا يعْمل عملا يكْتَسب مِنْهُ ندما. وَمِنْهَا: احْتِمَال نصب الْبر وسخاء النَّفس عَن كل لَذَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قَالَ اليزيدي: قَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا فِي مجْلِس وَعِنْده جمَاعَة من قُرَيْش: أَيّكُم يحفظ أَبْيَات عبد اللَّهِ بن الزبعري الَّتِي يعْتَذر فِيهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صلى اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ مُصعب ابْن عبد اللَّهِ الزبيرِي: أَنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فأنشدنا. فَأَنْشد: - (منع الرقاد بلابل وهموم ... وَاللَّيْل معتلج الرواق بهيم) (مِمَّا أَتَانِي أَن أَحْمد لامني ... فِيهِ فَبت كأنني مَحْمُوم) (يَا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح الْيَدَيْنِ رسوم) (إِنِّي لمعتذر إِلَيْك من الَّذِي ... أنشأت إِذْ أَنا فِي الْبِلَاد أهيم) (أَيَّام يَأْمُرنِي بأغوى خطة ... سهم ويأمرني بِهِ مَخْزُوم) (وأقود أَسبَاب الردى ويقودني ... أَمر الغواة وَأمرهمْ مبروم) (فاليوم آنس بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد ... قلبِي ومخطئ هَذِه محروم) (فَاغْفِر فدا لَك والداى كِلَاهُمَا ... ذَنبي فأنك رَاحِم مَرْحُوم) (وَعَلَيْك من علم المليك عَلامَة ... نور أغر وَخَاتم مختوم) (أعْطى الْإِلَه نبيه برهانه ... شرفا وبرهان الْإِلَه عَظِيم) (قرم على تبيانه من هَاشم ... فرع تمكن فِي الذري وأروم) (وَلَقَد شهِدت بِأَن دينك صَادِق ... حق وَأَنَّك فِي الْأَنَام عَظِيم) (وَالله يعلم أَن أَحْمد مصطفى ... متقبل فِي الصَّالِحين عَظِيم) (مَضَت الْعَدَاوَة فانقضت أَسبَابهَا ... ودعت أواصر بَيْننَا وحلوم) قَالَ: فَأمر الْمَأْمُون لمصعب بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَقَالَ: ليكن الْقرشِي مثلك. قَالَ: وَقَالَ الْمَأْمُون للْعَبَّاس يَوْمًا وَهُوَ يعظه: يَنْبَغِي يَا بني لمن اسبغ الله عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 نعمه؛ وشركه فِي ملكه وسلطانه، وَبسط لَهُ فِي الْقُدْرَة أَن ينافس فِي الْخَيْر مِمَّا يبْقى ذكره، وَيُحب أجره، ويرجى ثَوَابه وَإِن يَجْعَل همته فِي عدل ينشره، أَو جور يدفنه، وَسنة صَالِحَة يحيها، أَو بِدعَة يميتها، أَو مكرمَة يعتقدها، أَو صَنِيعَة يسديها أَو يَد يودعها ويوليها، أَو أثر مَحْمُود يتبعهُ. قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون قد هم بلعن مُعَاوِيَة، وَأَن يكْتب بذلك كتابا يقْرَأ يَوْم الدَّار، وجفل النَّاس ففتاه عَن ذَلِك يحيى بن أَكْثَم وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن الْعَامَّة لَا تحْتَمل هَذَا وسيما أهل خُرَاسَان وَلَا تأمن أَن تكون لَهُم نفرة، وَإِن كَانَت لم تدر مَا عَاقبَتهَا والرأي أَن تدع النَّاس على مَا هم عَلَيْهِ، وَلَا تظهر لَهُم إِنَّك تميل إِلَى فرقة من الْفرق فَإِن ذَلِك أصلح فِي السياسة وَأَحْرَى فِي التدبر. قَالَ: فركن الْمَأْمُون إِلَى قَوْله فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَ يَا ثُمَامَة: قد علمت مَا كُنَّا دبرناه فِي مُعَاوِيَة وَقد عَارَضنَا رأى هُوَ أصلح فِي تَدْبِير المملكة وَأبقى ذكرا فِي الْعَامَّة ثمَّ أخبرهُ أَن ابْن أَكْثَم خَوفه إِيَّاهَا، وَأخْبرهُ بنفورها عَن هَذَا الرأى. فَقَالَ ثُمَامَة: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ والعامة فِي هَذَا الْموضع الَّذِي وَضعهَا بِهِ يحيى. وَالله لَو وجهت أنسانا على عَاتِقه سَواد وَمَعَهُ عَصا لساق إِلَيْك بعصاه عشْرين ألفا مِنْهَا، وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مَا رَضِي اللَّهِ جلّ ثناءه أَن سواهَا بالأنعام حَتَّى جعلهَا أضلّ مِنْهَا سَبِيلا فَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لقد مَرَرْت مذ أَيَّام فِي شَارِع الْخلد وَأَنا أُرِيد الدَّار فَإِذا إِنْسَان قد بسط كساءه وَألقى عَلَيْهِ أدوية وَهُوَ قَائِم يُنَادي عَلَيْهَا هَذَا الدَّوَاء لبياض الْعين، والغشاء والغشاوة، والظلمة، وَضعف الْبَصَر وَإِن إِحْدَى عَيْنَيْهِ لمطموسة وَفِي الْأُخْرَى مؤسى لَهُ وَالنَّاس قد انثالوا عَلَيْهِ وأجفلوا إِلَيْهِ يستوصفونه فَنزلت عَن دَابَّتي نَاحيَة وَدخلت فِي غمار تِلْكَ الْجَمَاعَة فَقلت: يَا هَذَا: أرى عَيْنك أحْوج هَذِه الْأَعْين إِلَى العلاج، وَأَنت تصف هَذَا الدَّوَاء وتخبر أَنه شِفَاء لوجع الْعين فَلم لَا تستعمله؟ : فَقَالَ: أَنا فِي هَذَا الْموضع مُنْذُ عشر سِنِين مَا مر بِي شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أَجْهَل مِنْك. قَالَ: فَقلت وَكَيف ذَاك؟ قَالَ يَا جَاهِل: أَيْن اشتكت عَيْني؟ . قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: بِمصْر. قَالَ: فَأَقْبَلت على تِلْكَ الْجَمَاعَة فَقَالُوا: صدق الرجل أَنْت جَاهِل وهموا بِي. قَالَ: فَقلت لَا وَالله مَا علمت أَن عينه اشتكت بِمصْر. قَالَ: فَمَا تخلصت مِنْهُم إِلَّا بِهَذِهِ الْحجَّة. فَضَحِك الْمَأْمُون وَقَالَ: مَا ألقيت مِنْك الْعَامَّة. قَالَ الَّذِي لقِيت من اللَّهِ من سوء الثَّنَاء وقبح الذّكر أَكثر، قَالَ أجل. (ذكر حلم الْمَأْمُون ومحاسن أَفعاله وَمَكَارِم أخلاقه) قَالَ ابْن أبي طَاهِر: بَلغنِي أَن الْمَأْمُون قَالَ: إِنِّي لألذ الْحلم حَتَّى أحسبني لَا أوجر عَلَيْهِ. وَقَالَ قَاسم التمار: قَالَ الْمَأْمُون: لَيْسَ على فِي الْحلم مؤونة ولوددت أَن أهل الجرائم علمُوا رَأْيِي فِي الْعَفو فَذهب عَنْهُم الْخَوْف فتخلص لي قُلُوبهم. وَقَالَ جَعْفَر ابْن أُخْت الْعَبَّاس وَذكر حلم الْمَأْمُون فَقَالَ: لحلمه وَالله أرجح من حلوم ألف كلهم حَلِيم لَيْسَ فيهم ملك وَلَا خَليفَة ثمَّ أنشأ يحدثنا فَقَالَ: دخلت عَلَيْهِ أمس وَإِذا يَده معلقَة من شَيْء رطب أكله قد مسته النَّار وَهُوَ يَصِيح يَا غُلَام وَكلهمْ يسمع صَوته فَمَا مِنْهُم أحد يجِيبه فَخرجت إِلَيْهِم وَأَنا أفور غَضبا فَإِذا بَعضهم يلْعَب بالكعاب، وَبَعض يلْعَب بالشطرنج، وَبَعض يحارش بَين الديوك. فَقلت يَا بني الفواعل: أما تَسْمَعُونَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يدعوكم؟ فَقَالَ وَاحِد: حَتَّى أَقيس هَذَا الكعب وأجئ،: وَقَالَ الآخر قد بقيت لي على هَذَا ضَرْبَة، وَقَالَ آخر: أذهب فَإِنِّي أتبعك. فَمَا علمت مَا كنت أخاطب بِهِ من الغيظ والحنق عَلَيْهِم. قَالَ: فَإِذا الْمَأْمُون قد صَوت بِي وَأَنا أقذف أمهاتهم فَأَتَيْته وَهُوَ يضْحك فَقَالَ: أرْفق بهم فأنهم بشر مثلك قَالَ قلت: والعق أَنْت يدك. فَضَحِك وَقَالَ هَذَا معاشرتك خدمك؟ قَالَ قلت: وَالله لَو فعل بِي ابْني هَذَا دون خدمي لقتلته. قَالَ: هَذِه أَخْلَاق السوقة وأخلاقنا أَخْلَاق الْمُلُوك. قَالَ قلت: لَا وَالله مَا هَذِه أَخْلَاق الْمُلُوك وَلَا أَخْلَاق الْأَنْبِيَاء أَيْضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 حَدثنِي هَارُون بن مُسلم. قَالَ:: حَدَّثتنِي شكر مولاة أم جَعْفَر بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور قَالَت: سَمِعت الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَت عِنْده أم جَعْفَر فَدَعَا بمقاريض قَالَت: أَو بمقراض قَالَ: فَقَالَ الْغُلَام: قد ذهب بِالْمَقَارِيضِ إِلَى الشماسية ثمَّ قَالَ يَا غُلَام: بل لنا الخيش فَوق. فَقَالَ الْغُلَام: لَا. قَالَ: يبل فَقَالَت أم جَعْفَر: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هَذَا؟ . وَأنْكرت أَن يكون سَأَلَ عَن شَيْئَيْنِ فَلم يعملا. فَقَالَ الْمَأْمُون: من قدرت على عُقُوبَته لسوء فعله، وقبيح جرمه فقدرتك عَلَيْهِ كافيتك نصرا لَك مِنْهُ وَلَا معنى لعقوبة بعد قدرَة، الْحلم عَن الذَّنب أبلغ من الْأَخْذ بِهِ. قَالَ: وَكَانَ لِلْمَأْمُونِ خَادِم يتَوَلَّى وضوءه فَكَانَ يسرق طساسه فَبلغ ذَلِك الْمَأْمُون فَعَاتَبَهُ ثمَّ قَالَ لَهُ يَوْمًا وَهُوَ يوضيه وَيحك لم تسرق هَذِه الطست، لَو كنت إِذا سرقتها اتيتني بهَا اشْتَرَيْتهَا مِنْك. قَالَ: فأشتر هَذَا الَّذِي بَين يَديك. قَالَ: بكم؟ . قَالَ: بدينارين. قَالَ الْمَأْمُون: أَعْطوهُ دينارين. قَالَ: هَذَا الْآن فِي الْأمان؟ . قَالَ: نعم. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر أنْشد الْحسن بن رَجَاء لنَفسِهِ يصف حلم الْمَأْمُون وعفوه: - (صفوح عَن الإجرام حَتَّى كَأَنَّهُ ... من الْعَفو لم يعرف من النَّاس مجرما) (وَلَيْسَ يُبَالِي أَن يكون بِهِ الْأَذَى ... إِذا مَا الْأَذَى لم يغش بالكره مُسلما) وَأنْشد لآخر فِيهِ: (أَمِير الْمُؤمنِينَ عَفَوْت حَتَّى ... كَأَن النَّاس لَيْسَ لَهُم ذنُوب) قَالَ رزقان: قَالَ بشر بن الْوَلِيد لِلْمَأْمُونِ: إِن بشرا المريسي يشتمك، ويعرض بك، ويزري عَلَيْك، قَالَ فَمَا أصنع بِهِ؟ ثمَّ دس الْمَأْمُون إِلَيْهِ رجلا فَحَضَرَ مَجْلِسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَتسمع مَا يَقُول فَأَتَاهُ الرجل يَوْمًا فَقَالَ: سمعته يَقُول حِين أَرَادَ الْقيام وَفرغ من الْكَلَام بعد حمد اللَّهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ الْعَن الظلمَة، وَأَبْنَاء الظلمَة من آل مَرْوَان وَمن سخطت عَلَيْهِ مِمَّن آثر هَوَاهُ على كتابك وَسنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. اللَّهُمَّ وَصَاحب البرذون الْأَشْهب فالعنة. فَقَالَ الْمَأْمُون: أَنا صَاحب البرذون الْأَشْهب وَسكت عَلَيْهَا. فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ بشر قَالَ لَهُ بعد أَن سَاءَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن مَتى عَهْدك بلعن صَاحب الْأَشْهب؟ فطأطأ بشر رَأسه ثمَّ لم يعد بعد ذَلِك إِلَى ذكره وَلَا التَّعَرُّض بِهِ. قَالَ الْعُتْبِي: جَاءَنِي رجل من أَصْحَاب الصَّنْعَة فَقَالَ أذكرني لأمير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي أحل الطلق بَين يَدَيْهِ فِي يَوْم وَبَعض آخر. فَقلت يَا هَذَا:: أربح العناء وأجلس فِي بَيْتك وَلَا تعرض لأمير الْمُؤمنِينَ من نَفسك. قَالَ: فالحل عَلَيْهِ حرَام، وَمَاله صَدَقَة، وكل مَمْلُوك لَهُ حر إِن كَانَ كَذبك فِيمَا قَالَ:. ثمَّ قَالَ. وَأُخْرَى وَالله مَا آخذ مِنْكُم شَيْئا عَاجلا، وَقد أدعيت أمرا فأمتحنوني فِيهِ فَإِن جاءكما أدعيت كَانَ الْأَمر فِي اليكم، وَإِن وَقع بِخِلَاف ذَلِك انصرفت إِلَى منزلي. فَأخْبرت الْمَأْمُون بهَا. قَالَ: فتمثل بَيت الفرزدق: - (وقبلك مَا أعييت كاسر عينه ... زيادا فَلم يقدر على حبائله) ثمَّ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا أَرَادَ أَن يصل إِلَيْنَا فأحتال بِهَذِهِ الْحِيلَة؛ وَلَيْسَ الرأى إِن يعرض علينا أحد علما فنظهر الزّهْد فِيهِ فَأحْضرهُ. قَالَ: فَجئْت بِالرجلِ وَقعد لَهُ الْمَأْمُون وأحضرت أَدَاة الْعَمَل. قَالَ: فَإِذا هُوَ بِحل الطلق أفضل مني بِمَا فِي السَّمَاء السَّابِعَة. فَنظر إِلَى الْمَأْمُون وَقَالَ: ألم تزْعم أَنه قد حلف لَك بِالطَّلَاق، وَالْعتاق، وَصدقَة مَا يملك، قلت. بلَى قَالَ: قد حنث. فَقلت للرجل والمأمون يسمع: ألم تحلف بِالطَّلَاق؟ قَالَ: لَيست لي امْرَأَة، قلت: فالعتاق؟ . قَالَ: وَمَالِي مَمْلُوك قلت: فصدقة مَا تملك؟ . قَالَ: مَا أملك خيطا ومخيطا. قلت كذب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 مَعَه دَابَّة وَله غُلَام. قَالَ: هَذَا عَارِية. فَتَبَسَّمَ الْمَأْمُون وَقَالَ: هَذَا بِحل الدَّرَاهِم أعلم مِنْهُ بِحل الطلق ثمَّ أَمر أَن يُعْطي خَمْسَة ألف دِرْهَم فَلَمَّا خرج قَالَ للعتبي: رده. فَرده وَقَالَ: زيدوه مثلهَا فَلَيْسَ يجد فِي كل وَقت من يمخرق عَلَيْهِ. فَقَالَ الرجل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْدِي بَاب من الحملان لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مثله. قَالَ أحملهُ على هَذِه الدَّرَاهِم فَإِن كنت صَادِقا صرت ملكا. قَالَ بعض القحاطبة وَذكر الْمَأْمُون فَقَالَ: ولي صاحبنا قَحْطَبَةَ بن الْحسن همذان، وأعمالا من أَعمال الْجَبَل فدق عَلَيْهِ خراجه فحبسه بِهِ فَكَانَ إِذا جَاءَهُ الْمُسْتَخْرج لحمله على أَدَاء مَا احتجن قَامَ فصلى فَلَا يزَال رَاكِعا وساجدا حَتَّى ينْصَرف ويتركه فَأخْبر بذلك الْمَأْمُون. فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذِه النَّوَافِل لَا يقبلهَا اللَّهِ حَتَّى تُؤدِّي الْفَرَائِض أحمل إِلَيْنَا مَا لنا قبلك فَكَانَ لَا يزيدهم على الصَّلَاة فَلَمَّا كشف على الْمَأْمُون ذَلِك وَقع يُطلق قَحْطَبَةَ ويسوغ مَا صَار إِلَيْهِ وَلَا يستعان بِهِ إِلَّا أَن يتْرك التَّسْبِيح وَصَلَاة الضُّحَى والنوافل ظَاهرا. حَدثُونِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي قَالَ: قَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا وَفِي مَجْلِسه جمَاعَة: هاتوا من فِي عسكرنا من يطْلب مَا عندنَا بالرياء. قَالَ: فَقَالَ كل وَاحِد بِمَا عِنْده، أما أَن يَقُول فِي عَدو بِمَا يقْدَح فِيهِ أَو يَقُول بِمَا يعلم أَنه يسر خَلِيفَته. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِك قَالَ: مَا أرى عِنْد أحد مِنْكُم مَا يبلغ إرادتي ثمَّ أنشأ يحدث عَن أهل عسكره أهل الرِّيَاء حَتَّى وَالله لَو كَانَ قد أَقَامَ فِي رجل كل وَاحِد مِنْهُم حولا محرما مَا زَاد على مَعْرفَته. قَالَ: فَكَانَ مِمَّا حفظت عَنهُ فِي ثلب أَصْحَابه أَن قَالَ حِين ذكر أهل الرِّيَاء وَمَا يعاملون بِهِ النَّاس: تَسْبِيح حميد الطوسي، وَصَلَاة قَحْطَبَةَ، وَصِيَام النوشجاني، ووضوء المريسي، وَبِنَاء مَالك بن شاهي الْمَسَاجِد، وبكاء إِبْرَاهِيم بن بريهة على الْمِنْبَر، وَجمع الْحسن بن قُرَيْش الْيَتَامَى، وقصص منجا، وَصدقَة على بن الْجُنَيْد، وحملان إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فِي السَّبِيل، وَصَلَاة أبي رَجَاء الضُّحَى، وَجمع على بن هِشَام الْقصاص. قَالَ: حَتَّى عددنا جمَاعَة كَثِيرَة. فَقَالَ لي رجل من عُظَمَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الْعَسْكَر حِين خرجنَا من الدَّار بِاللَّه هَل رَأَيْت أَو سَمِعت بِملك قطّ أعلم برعيته وَلَا أَشد تنقيرا من هَذَا؟ قلت: اللَّهُمَّ لَا. فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث رجلا من أَصْحَاب الْأَخْبَار وَالْعلم فَقَالَ: وَمَا نصْنَع بِهَذَا قد شهِدت رسَالَته إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فِي الْفُقَهَاء يخبر بمعائبهم رجلا رجلا حَتَّى لَهو بهَا أعلم مِنْهُم بِمَا فِي مَنَازِلهمْ. قَالَ: وَقعد الْمَأْمُون يَوْمًا للمظالم فَقدم سلم صَاحب الْحَوَائِج بضعَة عشر رجلا فَنظر فِي مظالمهم وَأمر فَقضى حوائجهم وَكَانَ فيهم نَصْرَانِيّ من أهل كشكر كَانَ قد صَاح بالمأمون غير مرّة وَقعد لَهُ فِي طَرِيقه فَلَمَّا بصر بِهِ الْمَأْمُون اثبته معرفَة فَقَالَ ابطحوه: فَضَربهُ عشْرين درة ثمَّ قَالَ لسلم قل لَهُ: تعود تصيح بِي؟ فَقَالَ لَهُ سلم وَهُوَ مبطوح فَقَالَ النَّصْرَانِي قل لَهُ: أَعُود، وأعود وأعود، حَتَّى تنظر فِي حَاجَتي فأبلغه سلم مَا قَالَ. فَقَالَ: هَذَا مظلوم موطن نَفسه على الْقَتْل أَو قَضَاء حَاجته، ثمَّ قَالَ لأبي عباد: اقْضِ حَاجَة هَذَا كَائِنا مَا كَانَت السَّاعَة. حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ: شهِدت الْمَأْمُون وَقد ركب بالشماسية وَخلف ظَهره أَحْمد بن هِشَام فصاح بِهِ رجل من أهل فَارس. اللَّهِ. اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن أَحْمد بن هِشَام ظَلَمَنِي واعتدى على. فَقَالَ: كن بِالْبَابِ حَتَّى أرجع، ثمَّ مضى فَلَمَّا جَازَ الْموضع بعدوة الْتفت إِلَى أَحْمد فَقَالَ: مَا أقبح بِنَا وَبِك أَن تقف وَصَاحِبك هَذَا على رُؤُوس هَذِه الْجَمَاعَة وتقعد فِي مجْلِس خصمك، وَيسمع مِنْهُ كَمَا يسمع مِنْك ثمَّ تكون محقا أم تكون مُبْطلًا فَكيف إِن كنت فِي صفته لَك، فَوجه إِلَيْهِ من يحوله من بابنا إِلَى رحلك وأنصفه من نَفسك، وأعطه مَا أنْفق فِي طَرِيقه إِلَيْنَا، وَلَا تجْعَل لنا ذَرِيعَة إِلَى مَا تكره من لائمتك فوَاللَّه لَو ظلمت الْعَبَّاس ابْني كنت أقل نكيرا عَلَيْك من أَن تظلم ضَعِيفا لَا يجدني فِي كل وَقت، وَلَا مجلوا لَهُ وجهى وسيما من تجشم السّفر الْبعيد وكابد حر الهواجر وَطول الْمسَافَة. قَالَ: فَوجه إِلَيْهِ أَحْمد فجَاء بِهِ وَكتب إِلَى عَامله يرد عَلَيْهِ مَا أَخذ مِنْهُ ويشتمه ويعنفه وَوصل الرجل بأَرْبعَة ألف دِرْهَم وَأمره بِالْخرُوجِ من يَوْمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 حَدثنِي أَبُو زيد الحكم بن مُوسَى بن الْحسن قَالَ: شهِدت أبي وقف لِلْمَأْمُونِ فِي مربعة الْخَرشِيّ وَكَانَ يتظلم إِلَيْهِ من مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس الطوسي فَلَمَّا أقبل الْمَأْمُون من دَاره يُرِيد الشماسية فَصَارَ إِلَى المربعة عِنْد الرّبع نزل أَبُو الْحُسَيْن يَعْنِي اباه وَنظر إِلَيْهِ الْمَأْمُون فَأقبل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: - (دَعَوْت حران مَظْلُوما ليأتيكم ... فقد أَتَاك غَرِيب الدَّار مظلوم) فَوقف الْمَأْمُون عَلَيْهِ فَقَالَ: مِمَّن تتظلم؟ قَالَ: من مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس الطوسي. قَالَ يَا عَمْرو: انْظُر فِي حَاجَة الشَّيْخ وأنصفه وأعلمني مَا يكون، ثمَّ أَو مَا إِلَى الشَّيْخ أَن أركب فَركب وَجَاز الْمَأْمُون فَوقف النَّاس ينظرُونَ إِلَى أبي الْحُسَيْن يعْجبُونَ مِنْهُ وَمن اقدامه وَمن اكرام الْخَلِيفَة لَهُ. قَالَ: قَالَ قثم بن جَعْفَر: قَالَ الْمَأْمُون فِي يَوْم خَمِيس وَقد حضر النَّاس الدَّار لعلى ابْن صَالح: ادْع إِسْمَاعِيل. قَالَ: فَخرج فَأدْخل إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر. وَأَرَادَ الْمَأْمُون إِسْمَاعِيل بن مُوسَى فَلَمَّا بصر بِهِ من بعيد وَكَانَ أَشد النَّاس لَهُ بغضا رفع يَدَيْهِ مَا دهما إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أبدلني من ابْن صَالح مُطيعًا فَإِنَّهُ لصداقته لهَذَا آثر هَوَاهُ على هواى ". قَالَ: فَلَمَّا دنا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر سلم فَرد عَلَيْهِ ثمَّ دنا فَقبل يَده فَقَالَ: هَات حوائجك. قَالَ: ضيعتي بالمغيثة غصبتها وقهرت عَلَيْهَا. قَالَ: نأمر بردهَا عَلَيْك. ثمَّ قَالَ: حَاجَتك: قَالَ: يَأْذَن لي أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْحَج. قَالَ: قد أذنا لَك. ثمَّ قَالَ: حَاجَتك. قَالَ: وقف أبي أخرج من يَدي وَصَارَ إِلَى قثم وَالقَاسِم ابْني جَعْفَر. قَالَ: فتريد مَاذَا؟ . قَالَ: يرد إِلَى. قَالَ: أما مَا كَانَ يمكنا من أَمرك فقد جدنا لَك، وَأما وقف أَبِيك فَذَاك إِلَى ورثته ومواليه فَإِن رَضوا بك واليا عَلَيْهِم وقيما لَهُم رددناه إِلَيْك، وَإِلَّا أقررناه فِي يَد من هُوَ فِي يَده ثمَّ خرج. فَقَالَ الْمَأْمُون لعَلي بن صَالح: مَا لي وَلَك عافاك الله مَتى رَأَيْتنِي نشطت لإسماعيل بن جَعْفَر وعنيت بِهِ وَهُوَ صَاحِبي بالْأَمْس بِالْبَصْرَةِ. قَالَ: ذهب عَن فكري يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: صدقت. لعمري ذهب عَن فكرك مَا كَانَ يحب عَلَيْك حفظه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَحفظ فكرك مَا كَانَ يجب عَلَيْك أَلا يخْطر بِهِ. فَأَما إِذا خطأت فَلَا تعلم إِسْمَاعِيل مَا دَار بيني وَبَيْنك فِي أمره. فَظن على أَنه عَنَّا بقوله هَذَا إِسْمَاعِيل بن مُوسَى فَأخْبر إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْقِصَّة حرفا. حرفا فأذاعها. وَبلغ الْخَبَر الْمَأْمُون فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وهب لي هَذِه الْأَخْلَاق الَّتِي أَصبَحت أحتمل بهَا على بن صَالح، وَابْن عمرَان وَابْن الطوسي، وَحميد بن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن النُّعْمَان، ورعامش. قَالَ: وَبَلغنِي أَن الْمَأْمُون قَالَ لأبي كَامِل الطباخ يَوْمًا وَعلي بن هِشَام عِنْده اتخذ لنا رُؤُوس حملان تكون غداءنا غَدا. قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَقَالَ لعلى بن هِشَام: إِن من آئن الرؤوس أَن توكل فِي الشتَاء خَاصَّة، وَأَن يبكر آكلها عَلَيْهَا، وَألا يخلط بهَا غَيرهَا، وَلَا يسْتَعْمل بعقبها المَاء، فصل الْغَدَاة وصر إِلَيْنَا. فَلَمَّا صلى على جَاءَ ودعا الْمَأْمُون أَبَا كَامِل فَقَالَ: أحضر الْمَائِدَة وَقدم الرؤوس. فَقَالَ: إِن آدم نسى فنسيت. فَقَالَ: خُذ لنا السَّاعَة من فرْصَة جَعْفَر قدر باقلي يكون غداءنا مِنْهُ وَأحب أَن لَا تنسى. قَالَ: وَدخل أَبُو طَالب صَاحب الطَّعَام على لِلْمَأْمُونِ وَكَانَ من أسخف النَّاس وأجهلهم فَقَالَ الْمَأْمُون: كَانَ أَبوك يابا صديقنا، وَكُنَّا يَا بابحارة، وَأَنت يَا با لَا تعرف حَقنا وَلَا ترفع بِنَا رَأْسا، وَنحن يابا جيرانك، وَأَنت يابا لَا تبيعنا وَنحن يابا نوفيك. قَالَ:: والمأمون يطْرق مَا يرد عَلَيْهِ شَيْئا وَلَا يزِيدهُ على التبسم. قَالَ: وحَدثني أَحْمد بن الْخَلِيل. قَالَ: حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عباد. قَالَ: حَدثنِي أبي. قَالَ: دخلت على الْمَأْمُون وَعَلِيهِ مبطنة فِيهَا رقاع وَهُوَ جَالس على لبد فِي يَده عود وَهُوَ يقلب جمرا بَين يَدَيْهِ فِي كانون. قَالَ: فَبَقيت انْظُر إِلَى مبطنته. قَالَ: فَفطن لي: فَقَالَ: لَعَلَّك تنظر إِلَى الرّقاع الَّتِي فِي منطقتي يَا مُحَمَّد؟ . قَالَ: قلت نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أما سَمِعت قَول الشَّاعِر: - (إلبس جديدك إِنِّي لابس خلقي ... وَلَا جَدِيد لمن لَا يلبس الخلقا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قَالَ: قَالَ وَرَأَيْت الْمَأْمُون فِي الحلبة وَجَاء فرس لغيره سَابِقًا فَوَثَبَ إِلَيْهِ فَضرب وَجهه قَالَ: فَسمِعت البحتري يَقُول لَهُ: يَا دغاء. يَا دغاء. يُرِيد يَا ضغاء (وَمن أَخْبَار طَاهِر بن الْحُسَيْن) قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: حَدثنِي أبوالعباس مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن طَاهِر قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن عِيسَى الْكَاتِب. قَالَ: حَدثنِي عبد اللَّهِ بن جَعْفَر الْبَغَوِيّ. قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن يَقْطِين بمرو وَهُوَ على حرس ذِي اليمينين بخراسان يَقُول: مَا أعجب أَشْيَاء حدثها الْأَمِير يَعْنِي ذَا اليمينين من تَوليته عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن الحجابة وَهُوَ كَاتب. وتوليته سعيد بن الْجُنَيْد ديوَان الْخراج وَهُوَ بستاني وبا دَاب الْبَقر أحذق مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ، وتوليته فلَانا وَكَانَ الْبَغَوِيّ يكنى عَنهُ. قَالَ: أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عَليّ وَولى أَبَا زيد ديوَان التوقيع والخاتم وَهُوَ لَا يحسن من الْكِتَابَة قَلِيلا وَلَا كثيرا. قَالَ: فَقلت لَهُ يَا أَبَا جَعْفَر أحكى هَذَا للأمير عَنْك؟ . فَقَالَ: مَا هُوَ: مَا هُوَ شَيْء أقوله أَنا وحدي. فأكره أَن يرجع إِلَيْهِ وأحسبك قد سَمِعت مَا سَمِعت. قلت: أجل. وَلَكِن لَهُ عَنْك موقعه فَأذن لي فِي أخباره. قَالَ وَكَانَ طَاهِر ذُو اليمينين إِذا تغدينا مَعَه وَخرج عَن حد الْجد بسطنا فِي أَخْبَار الْعَامَّة وَفِيمَا يحسن من الْهزْل. فَقلت لَهُ يَوْمًا بعقب مَا سَمِعت من مُحَمَّد: عِنْدِي أعز اللَّهِ الْأَمِير حَدِيث ظريف مِمَّا آثره عَن بعض أَوْلِيَاء الْأَمِير وخدمة. فَقَالَ: مَا الحَدِيث، وَعَن من هُوَ؟ . فخبرته قَالَ قل لَهُ: تزيد فِيهِ وكما وليتك حرس خُرَاسَان وَكَانَ أَبوك أبزاريا. ثمَّ قَالَ لي أخْبرك بمعان فِي هَذِه الْأَشْيَاء: أما توليتي عِيسَى الحجابة فَإِنَّهُ رجل خراساني الدَّار عراقي الاب لَهُ ظرف الْكتاب ولباقتهم وذكاؤهم وفهمهم وموقعه مني الْموقع الَّذِي لَا احتشمه فِي كل حالاتي فَأَرَدْت أَن يكون بيني وَبَين النَّاس من يفهمني وَيفهم عني، ويخبرني عَن الْوَارِد يَأْتِي إِذا ورد والداخل على إِذا دخل بِمَا أكتفى بِهِ عَن بحث الرجل عَن اسْمه وَنسبه وَأَصله. ويخبر الرجل بِمَا يجب أَن يلقاني بِهِ ويخاطبني بِمَا يضع عني مؤونة العناء. وَلم انتقصه عمله الَّذِي هُوَ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فَإِنَّمَا كَانَ توليتي أَيَّاهُ الحجابة عَبَثا، ثمَّ نقلته من عمل إِلَى عمل فَأَما وَقد زِدْته فَلَيْسَ بِعَيْب عِنْد من يفهم وَيعرف حجتي قَالَ: ثمَّ قَالَ لي خرجت من هَذِه الْوَاحِدَة؟ . قلت: نعم أعز اللَّهِ الْأَمِير. قَالَ: وَأما توليتي سعيدا ديوَان الْخراج فَإِنَّهُ رجل لي بِهِ حُرْمَة وخدمة فَأَرَدْت أَن أنوه بأسمه عِنْد من يعرفهُ وعرفني وَأَن أنفعه برزق هَذَا الدِّيوَان، وأحببت مَعَ ذَلِك أَن يعرف أَمِير الْمُؤمنِينَ أَولا، ثمَّ مُوسَى بِهِ خاقَان، وَمُحَمّد بن يزِيد أَنِّي لم أفتقر إِلَيْهِمَا حِين قعد عني مُوسَى واستعفى مُحَمَّد ين يزْدَاد أَمِير الْمُؤمنِينَ حِين ضمه إِلَيّ وَأَن يعلم النَّاس أَنِّي الْمُتَوَلِي لأعمالي لَا كتابي، وَأَن الدَّلِيل على ذَلِك أَنِّي وضعت فِي ديوَان الْخراج حمارا هُوَ عِنْدهم كَمَا وضعت لَو ظَنَنْت أَنه ينفذ لَهُ أَمر فِي ديوَان الْخراج فِي سحاءة مَا أقررته سَاعَة وَلَكِنِّي جعلت الِاسْم لما وصفت، ونصبت لَهُ خَليفَة يعاملني فِي أَخذه بِخَير ذَلِك الدِّيوَان وشره. خرجت من هَذِه الثَّانِيَة؟ قلت. نعم: وَالله انهى الْأَمِير وَكَانَ ذَلِك الرجل الْمَنْصُوب لخلافة سعيد مُوسَى بن الْفضل. قَالَ: وَأما توليتي أَبَا زيد فَرجل بيني وَبَينه إلْف الصبى، وَأنس الحداثة، وَلم أتسع لَهُ فِي عَاجل أيامي بِكُل مَا أحب من خَالص مَالِي فَأَحْبَبْت أَن يكون اسْمه بِهَذَا الدِّيوَان إِلَى مَا أجْرى لَهُ من مَالِي فتعجل نَفعه، وَلَيْسَ فِي هَذَا الدِّيوَان كثير عمل فاخترته لِئَلَّا يظْهر قلته فِي الْكِتَابَة؛ وَأَنا بعد من وَرَاء أتصفح عمله وَعمل غَيره. خرجت من هَذِه أَيْضا؟ . قلت: نعم وَالله أعز اللَّهِ الْأَمِير. قَالَ: واستحسنته فِي كل مَا أجَاب مِنْهَا. فَقلت لَهُ: فأحدث بِهَذَا عَن الْأَمِير؟ قَالَ: أفعل وددت أَن النَّاس كلهم عرفُوا عُذْري فِيمَا آتى وأذر لتخف على المؤونة وَيسلم صَدْرِي للْجَمِيع. قَالَ وحَدثني مُحَمَّد بن عِيسَى قَالَ: حدث أَحْمد بن خَالِد بن حَمَّاد، عَن أَبِيه خَالِد ابْن حَمَّاد قَالَ: كَانَ ذُو اليمينين لما صَار إِلَى خُرَاسَان ولي الْعَبَّاس بن عبد اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ابْن حميد بن رزين سَمَرْقَنْد فنسخط ذَلِك، وَأَرَادَ أَن يجمع لَهُ مَا وَرَاء النَّهر كلهَا فأستعفى فَوجدَ عَلَيْهِ ذُو اليمنيين من ذَلِك فَطلب إرضاءه فتعسر عَلَيْهِ وَكَانَ مِمَّن رام ذَلِك من قبله خَالِد بن حَمَّاد فَلم يجبهُ فَصَارَ الْعَبَّاس بعد أشهر إِلَى خَالِد يسْأَله الرّكُوب فِي أمره قَالَ لَهُ خَالِد: مَا كنت لأعاوده فِي شَيْء ردني عَنهُ، وَلَا أعلمهُ أَنه ردني مُنْذُ قدم فِي خُرَاسَان فِي حَاجَة. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: لست أَسأَلك كَلَامه وَلَكِنِّي أسأَل أَن تحضر إِيصَال سعيد بن الْجُنَيْد رقْعَة لي فَإِن وجدت مقَالا قلت قَالَ: أما هَذَا فَلَا أمتنع مِنْهُ عَلَيْك. قَالَ خَالِد: فصرت إِلَى ذِي اليمينين وَكنت أتحرى أَن يكون حضوري فِي آخر مَجْلِسه لِأَنَّهُ كَانَ يشْتَغل بِي إِذا دخلت عَلَيْهِ، وَيُوجب لي مَا كَانَ يُوجب ظَاهرا من إِيجَابه، وَكَانَ لَا يسْتَأْذن لي عَلَيْهِ لبروزه أبدا. فَدخلت فَأَلْفَيْته قد اسْتلْقى مُعْتَمدًا على يَدَيْهِ وَلما تمكن الأَرْض من ظَهره فأنتصب حِين سمع الوطئ حَتَّى فهمني ثمَّ عَاد إِلَى حَالَته الأولى. فَلَمَّا دَنَوْت من الْبسَاط اسْتَوَى جَالِسا فَرد ورحب كَمَا كَانَ يفعل، واستدناني إِلَى حَيْثُ كنت أَجْلِس فَسَأَلَ بِي وسألني وَقَالَ: وقفت على معناي فِي الانتصاب، ثمَّ عودي إِلَى حالى والاعتماد على يَدي؟ قلت: نعم أعز اللَّهِ الْأَمِير: أردْت أَن تعلمني أَنَّك لم تحتشمني. قَالَ: أجل. قَالَ: خُذُوا مَا بَين أَيْدِينَا من الْكتب والدواة وهاتوا الطَّعَام. وَقل مَا كنت أصير إِلَيْهِ إِلَّا حَبَسَنِي فتغديت عِنْده. فَلَمَّا بلغ سعيدا حضوري عِنْده ودعاءه بِالطَّعَامِ دخل ودناو أظهر من طرف كمه رقْعَة. فَقَالَ لَهُ ذُو اليمينين مَا هَذِه مَعَك؟ . وَكَانَ كثيرا مَا يفعل ذَلِك. قَالَ:: رقْعَة للْعَبَّاس بن عبد اللَّهِ بن حميد بن رزين. قَالَ: أتنكر بعد انْشِرَاح وَطيب نفس معي أَو سعتها رَأيا، وَأحسن بهَا كَذَا من نَفسك لَا يكنى عَن السوءة مفصحا بهَا. فتراجع سعيد وَخرج وأوتينا بالمائدة وَدخل من كَانَت لَهُ نوبَة فِي مؤاكلته فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابه الَّذين يَأْكُلُون مَعَه مؤاكلتهم أَيَّاهُ نَوَائِب بَينهم، وَكَانَ إِذا بَلغهُمْ أَنه قد دَعَا بالمائدة دخل من كَانَت لَهُ نوبَة وَانْصَرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الْبَاقُونَ لَا يحْتَاج من كَانَت نوبَته إِلَى أَن يدعى، إِلَّا أَن يشتهى ذُو اليمينين أَن يَدْعُو رجلا فِي غير نوبَته فيدعو بِهِ فَلَمَّا أَخذنَا فِي الْأكل لم يرني أنبسط فِي الحَدِيث كَمَا كنت أفعل، أَو كَمَا كَانَ يُريدهُ من جَمِيع مؤاكلته من الانشراح وَترك الانقباض واستطابة الطّيب فَقَالَ لي يَا أَبَا الْهَيْثَم: أحسبك أنْكرت مَا أجبْت بِهِ سعيدا؟ . قَالَ قلت: إِي وَالله أصلح اللَّهِ الْأَمِير ولوددت إِنِّي لم أكن حضرت هَذَا الْيَوْم. فَقَالَ لي يَا أَبَا الْهَيْثَم: أَنِّي منيت بِأَمْر عَظِيم، وَوَقعت بَين خطتين صعبتين خرجت من خُرَاسَان وَأَنا رجل من أَهلهَا إِن لم أكن من أرفعهم قدرا فَلم أكن من أوضعهم حَالا وَلَيْسَ بخراسان أهل بَيت من أهل بيوتاتها، وَلَا أهل نعْمَة إِلَّا وبيننا وَبينهمْ معاشرة ومخاتنة أَو مصاهرة، أَو مجاورة فَهَذَا توسطنا بَين الْقَوْم وَمن كَانَ هَذَا موقعه لم يخل من صديق، وعدو، وَولى، وحاسد ثمَّ ندبت لهَذَا الْوَجْه فخشى الوالى أَن لَا أَفِي لَهُ فأغتم وساءه، وَرَأى مَا كنت فِيهِ بَين أظهرهم وتحرك من اسْمِي بَينهم مَا كَانَ كَافِيا لي وَلَهُم فِي يومهم، وسر الْعَدو والحاسد وَرَجا أَن يكون قصوري عَن الْقيام بِمَا أهيب بِي إِلَيْهِ تسقطني فَخرجت على هَذَا الْخطر الْعَظِيم فَأعْطى اللَّهِ جلّ وَعز أَكثر من الأمنية وَله الْحَمد. وَلم يكن لي غَايَة بعد مَا منح اللَّهِ وَأحسن إِلَّا أَن أرجع بنعمتي وجاهي وعزي إِلَى بلدي وداري، وإخواني، وجيراني ومعارفي ليشركوني فِي ذَلِك كَمَا شركوني فِي الِاعْتِدَاد بِهِ وليغيظ الْعَدو والحاسد من ذَلِك مَا يغِيظ. فَلَمَّا ولاني أَمِير الْمُؤمنِينَ خُرَاسَان لم أَضَع ثِيَابِي فِي منزلي حينا حَتَّى نَدِمت وأظهرت ذَلِك لمن حضرني مِمَّن آنس بِهِ فِي الْإِفْضَاء بِمثل ذَلِك إِلَيْهِ، وفكرت فِيمَا يلْزَمنِي من حق السُّلْطَان وَحقّ الإخوان ومثلت فِيمَا أوجب للصنفين فَرَأَيْت أَنِّي إِن وفرت على السُّلْطَان كل حَقه أخللت بالإخوان، وَإِذا أخللت بهم وأخطأهم مَا كَانُوا يقدرُونَ قَالُوا: لَا كَانَ هَذَا وَلَا كَانَ يَوْمه الَّذِي كُنَّا نؤمله وتعلقت أطماعنا بِهِ، وَإِن وفرت عَلَيْهِم مَا كَانُوا يقدرُونَ فِي أنفسهم لم يجز ذَلِك فِي التَّدْبِير وأخللت بالسلطان وَلم يكن ذَلِك حَقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 على وَلم يتحمله لي أَيْضا فَمَا ظَنك يَا أَبَا الْهَيْثَم بِمن يُرِيد أَن يسْقط بَين هذَيْن مَا يلْزمه لكل وَاحِد مِنْهُمَا كَيفَ لَا تكون حَالَته إِلَّا حَالَة صعبة. هَذَا الْعَبَّاس بن عبد اللَّهِ بن حميد أحد من لَا أدفَع أَسبَابه فَإِن رزينا وزريقا قدما خُرَاسَان، فِي وَقت وَاحِد ثمَّ لم يَزَالَا مُنْذُ ذَلِك على الْمَوَدَّة والائتلاف، وأورثنا ذَلِك أعقابهما إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وليت الْعَبَّاس مَا وليت فتسخط واراد أَكثر مِمَّا سميت لَهُ وَعمل على مَا أستوجبه فِي نَفسه بموالاته. وَلم يجز فِي التَّدْبِير إِلَّا مَا فعلت فأحتاج إِلَى أَن يترضى وَيطْلب مَا كَانَ عَنهُ غَنِيا لَو نفذ لوجهه وَطلب لَكَانَ مَا يروم أسهل من أَن يطْلب. مَا هَذِه الدَّالَّة والتحكم فِي هَذَا الْوَقْت. قَالَ: قلت: أصلح اللَّهِ الْأَمِير اغتممت بعدوتي هَذِه وَقد سررت بِمَا سَمِعت من الْأَمِير أبقاه اللَّهِ وَأَنا فِي أذن أَن أحكيه. قَالَ: شَدِيدا يَا أَبَا الْهَيْثَم وأبدي من عنْدك بِمَا رَأَيْت، وعَلى حسب مَا عرفت من مَعَاني فِيهِ فَإِنِّي أحب أَن تحدث بِهِ عني وتقرره عِنْد الْجَمِيع. حَدثنِي عبد اللَّهِ بن عَمْرو، عَن رجل من آل عِيسَى بن مُحَمَّد بن أبي خَالِد، عَن عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ: خرج مهزم بن الفرز مَعَ طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى خُرَاسَان فَلَمَّا جَاءَ الشتَاء قسم طَاهِر الْوَبر على أَصْحَابه وأغفل حَظّ مهزم فَدخل مهزم إِلَيْهِ فَقَالَ أَيهَا الْأَمِير: قلت بَيْتا. قَالَ: أنْشدهُ. فَقَالَ: - (كفى حزنا أَن الْفراء كَثِيرَة ... وَأَنِّي بمرو الشاهجان بِلَا فرو) فَقَالَ لمن حضر: أجِيبُوا الرجل فَكَأَنَّهُ أرتج عَلَيْهِم فَقَالَ مهزم: أَنا أولى بإجابة نَفسِي. قَالَ: فأفعل فَقَالَ: - (صدقت لعمري إِنَّهَا لكثيرة ... وَلكنهَا عِنْد الْكِرَام أولى السرو) (فَإِن كنت عبديا فَمَا بك حَاجَة ... إِلَى لبس فرو فِي الشتَاء مَعَ الفسو) قَالَ: فَضَحِك طَاهِر مِنْهُ وَقَالَ: أما لإن أغفلناك حَتَّى حملناك على سوء القَوْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فِي نَفسك لنحسنن صفدك فَأمر لَهُ بِعشْرَة أَثوَاب وبر بالخز والوشي فَبَاعَ مِنْهَا تسعا بتسعين ألفا وَأمْسك وَاحِدًا. حَدثنَا يحيى بن الْحسن قَالَ: كَانَ طَاهِرا يتَمَنَّى أَن يخْطب على مِنْبَر مرو فوليها سنة خمس وست ومأتين وخطب فِي سنة سبع لم يصل بهم إِلَّا ذَلِك الْيَوْم فَإِنَّهُ صعد الْمِنْبَر فَحَمدَ اللَّهِ وَأثْنى عَلَيْهِ وَلم يدع لِلْمَأْمُونِ وَكَانَ على الْبَرِيد رجل يُقَال لَهُ كُلْثُوم بن ثَابت بن أبي سعد النَّخعِيّ وَهُوَ مولى مُحَمَّد بن عمرَان من فَوق فولاه مُحَمَّد بن عمرَان بريد خُرَاسَان قَالَ: فَقلت الْمَأْمُون رجل كريم من قتل فِي طَاعَته فَكَانَ لَهُ خلف يصلح للولاية ولاه ولى ابْن واخ. قَالَ: فَدخلت منزلي وَعلمت أَنه يقتلني فَلبِست ثِيَاب الأكفان وتطيبت لذَلِك وخرطت الخريطة إِلَى الْمَأْمُون بِالْخلْعِ وَقد كتب هَذَا الْخَبَر فِي وَقت موت طَاهِر على تَمَامه. وَقَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر كَانَ طَاهِر بن الْحُسَيْن بخراسان قبل أَن يَتَحَرَّك بِهِ الْحَال يتعشق جَارِيَة فِي جِيرَانه يُقَال لَهَا ديذا، وَكَانَت تُوصَف بِجَمَال عَجِيب وَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهَا فَلَمَّا تحركت بِهِ الْحَال وَصَارَ إِلَى مَدِينَة السَّلَام وَقع فِي سجنه جَار، لديذا بحرم خَفِيف وَطَالَ حَبسه وَلم يعرف أحدا يشفع فِيهِ فأحتال بِمن يرفع رقْعَة لَطِيفَة فوصلت لَهُ إِلَى طَاهِر تخبره أَنه حبس بجرم يسير وَلَيْسَ لَهُ أحد يسْعَى فِي أمره وتوسل إِلَيْهِ بجوار ديذا فَلَمَّا قَرَأَ طَاهِر الرقعة كتب فِي ظهرهَا: - (وَيَا جَار ديذا لَا تخف سجن طَاهِر ... فوليك لَو تَدْرِي عَلَيْك شفيق) (أيا جَار ديذا أَنْت فِي سجن طَاهِر ... وَأَنت لديذا مَا علمت طليق) ثمَّ كتب فِي أَسْفَل الْبَيْتَيْنِ يخلى سَبيله وَيُعْطى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَعَلِيهِ لعنة اللَّهِ فقد حرك مني سَاكِنا. وحَدثني أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن المهلبي قَالَ: ديذا صناجة كَانَت بنيسابور بارعة فِي صناعتها تنزل فِي مَوضِع يُقَال لَهُ " دروان كوش " بنيسابور وفيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 يَقُول طَاهِر فِي شعر لَهُ: - (فيا لَيْت شعري هَل أبيتن بعْدهَا ... بليلة مسرور بِحَيْثُ أُرِيد) (وَهل ترجعن خيلي إِلَى ربطاتها ... ويجمعني والمازقين صَعِيد) (وَهل عرفت ديذا مقَامي وموقفي ... إِذا أضرمت نَار وَلَيْسَ رقود) قَالَ: وَكَانَ كثيرا مَا يحارب الشراة فِي أول أمره وَيجمع لَهُم الجموع يدفعهم عَن بَلَده بوشنح وَغَيرهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عَليّ بن طَاهِر: كَانَت ديذا الصناجة تنزل عِنْد ميدان زِيَاد وَفِي ديذا يَقُول طَاهِر بن الْحُسَيْن: - (أما أَنِّي لَك ديذا أَن تزوريني ... يَوْمًا إِلَى اللَّيْل أَو أَن تستزيريني) حَدثنِي: مُحَمَّد بن الْعَبَّاس ثَعْلَب الْكَاتِب حَاجِب طَاهِر عَن أَبِيه الْعَبَّاس قَالَ: أرسل طَاهِر إِلَى جَارِيَة لَهُ يعلمهَا أَنه يصير إِلَيْهَا فِي يَوْمه فأصلحت مَا تريدان تصلحه ثمَّ خرج يريدها فأعترضته فِي قصره جَارِيَة أُخْرَى فأجتذبته فَدخل إِلَيْهَا وَأقَام عِنْدهَا بَاقِي يَوْمه فَلَمَّا كَانَ من الْغَد كتبت إِلَيْهِ الأولى: - (أَلا يَا أَيهَا الْملك الْهمام ... لأمرك طَاعَة وَلنَا ذمام) (خلقنَا للزيارة واغتفلنا ... وَلم يَك غير ذَلِك وَالسَّلَام) وحَدثني أَبُو طَالب الْجَعْفَرِي قَالَ: قَالَ لي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن طَاهِر رَأَيْت ذَا اليمينين؟ . قلت نعم أصلحك اللَّهِ رَأَيْته على أَشهب هملاج مجدوف فأنكرت. هملاج مجدوف. فَقَالَ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ تَدْرِي مَا الْعلَّة فِي ذَلِك؟ قلت لَا. قَالَ: إِن ذَا اليمينين لما كَانَ يحارب رَافع وَهَذَا من أسرارا أخبارنا كَانَ وَاقِفًا فِي يَوْم نوبَته على دَابَّته فحرك الدَّابَّة ذَنبه فألقا فِي عينه الصَّحِيحَة طينا من ذَنبه فَتنحّى نَاحيَة حَتَّى أخرج مَا فِي عينه ثمَّ رَجَعَ إِلَى مقَامه فَجعل على نَفسه أَلا يركب إِلَّا مجدوفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عَليّ بن طَاهِر قَالَ: كَانَ أَسد بن أبي الْأسد مِمَّن خرج مَعَ جدي طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى خُرَاسَان: فَلَمَّا كَانَ بمرو أحتاج أَن يُوَجه قوما إِلَى خوارزم، وبخاري فَسمى فِيمَن سمى مَعَ الْقَائِد الَّذِي يتَوَجَّه إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة فالتوى وَرفع كتابا يشتط فِي الْمَسْأَلَة والأرزاق فَوَقع فِي كِتَابه بَيت: - (لَا تكونن جَاهِلا ... أَنْت فِي الْبَعْث يَا أَسد) فعاوده وَضرب أَصْحَابه حَتَّى كَاد أَن يبطل أَمر الْقَائِد المتوجه إِلَى النَّاحِيَة فَدَعَا بِهِ فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّك تحسبك بِبَغْدَاد تُرِيدُ أَن تفْسد عَمَلي فَأمر فَضربت عُنُقه بَين يَدَيْهِ. حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن طهْمَان قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن سعيد أَخُو غَالب الصغدي قَالَ: كَانَ أَبُو عِيسَى وطاهر يتغذيان مَعَ الْمَأْمُون فَأخذ أَبُو عِيسَى هندباة فغمسها فِي الْخلّ وَضرب بهَا عين طَاهِر الصَّحِيحَة فَغَضب طَاهِر وَعظم ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِحْدَى عَيْني ذَاهِبَة وَالْأُخْرَى على يَدي عدل يعْمل بِي هَذَا بَين يَديك. فَقَالَ يَا أَبَا الطّيب: إِنَّه وَالله يعبث معي بِأَكْثَرَ من هَذَا الْعَبَث. قَالَ: وَكَانَ أَبُو عِيسَى عبيثا. وَذكر عَن يحيى بن أَكْثَم عَن الْمَأْمُون أَنه كَانَ يَقُول: مَا حابي طَاهِر فِي جَمِيع مَا كَانَ فِيهِ أحدا وَلَا مَالا أحدا، وَلَا داهن، وَلَا وَهن، وَلَا وني، وَلَا قصر فِي شَيْء، وَفعل فِي جَمِيع مَا ركن إِلَيْهِ ووثق بِهِ فِيهِ أَكثر مِمَّا ظن بِهِ وأمله، وَأَنه لَا يعرف أحدا من نصحاء الْخُلَفَاء وكفاءتهم فِيمَن سلف عصره وَمن بقى فِي أَيَّام دولته على مثل طَرِيقَته، ومناصحته، وغنائه، وأجرائه. قَالَ: ثمَّ كَانَ يحلف على صدق مَا يَقُول فِي ذَلِك مُجْتَهدا مؤكدا للْيَمِين على نَفسه. قَالَ: شكي مَنْصُور النمري إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن كُلْثُوم بن عمر والعتابي فَبعث طَاهِر إِلَى العتابي وأخفى منصورا فِي مَجْلِسه فَسَأَلَ طَاهِر العتابي أَن يصفح عَن مَنْصُور فَقَالَ: أصلح اللَّهِ الْأَمِير إِنَّه لَا يسْتَحق ذَاك، فَدَعَا منصورا فَخرج إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: وَلم لَا أستحق ذَاك مِنْك؟ . فَقَالَ لَهُ العتابي لِأَنِّي: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 (أصحبتك الْفضل إِذْ لَا أَنْت معربه ... كلا وَلَا لَك فِي استصحابه أرب) (لم ترتبطك على وَصلى مُحَافظَة ... وَلَا أجارك مَا أعثى بك الْأَدَب) (مَا من جميل وَلَا عرف نطقت بِهِ ... إِلَّا إِنِّي وَإِن أنْكرت تنتسب) فَأصْلح بَينهمَا طَاهِر بن الْحُسَيْن وَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. قَالَ: وَكَانَ مَنْصُور النمري مِمَّن علمه العتابي الْكَلَام. (وَمن كَلَام طَاهِر بن الْحُسَيْن وتوقيعاته) قَالَ احْمَد بن أبي طَاهِر: قَالَ مُحَمَّد بن عِيسَى الهزوي: حَدثنِي أَبُو زيد مُحَمَّد هَانِئ قَالَ: كَانَ ذُو اليمينين طَاهِر بن الْحُسَيْن يَقُول: لَا تستعن بِأحد فِي خَاص عَمَلك إِلَّا من ترى أَن نِعْمَتك نعْمَته تَزُول عَنهُ بزوالها عَنْك وتدوم عِنْده بدوامها لَك. قَالَ: ثمَّ الْتفت إِلَى أبي زيد أَو إِلَى من كَانَ يحدثه فَقَالَ لَهُ: لَا يكون هَذَا إِلَّا عِنْد من أكمله اللَّهِ بِالْعقلِ ثمَّ قَالَ مُحَمَّد بن هَانِئ مقرظا لذِي اليمينين: أَو تعلم لما جعله بِالْعقلِ كَامِلا، قَالَ مُحَمَّد بن عِيسَى الهزوي: فَقلت لَهُ نعم. لِأَن الْآدَاب والعلوم لَو حويت لرجل وَمنع الْعقل لَكَانَ منقوصا مَدْخُولا، وَلَو حرم الْآدَاب وَكَانَ مطبوعا على الْعقل مركبا ذَلِك فِيهِ كَانَ تَاما كَامِلا يدبر بِهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالَ: صدقت. توقيع لذِي اليمينين طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى يحيى بن حَمَّاد الْكَاتِب النَّيْسَابُورِي قلَّة نظرك لنَفسك حرمتك سني الْمنزلَة، غفلتك عَن حظك حطتك عَن درجتك وجهلك بِموضع النِّعْمَة أحل بك الْغَيْر وَالنعْمَة، وعماؤك عَن سَبِيل الدعة أسلكك فِي طَرِيق الْمَشَقَّة حَتَّى صرت من قُوَّة الأمل معتاضا شدَّة الوجل، وَمن رَجَاء الْغَد معقبا بإياس الْأَبَد، حَتَّى ركبت مَطِيَّة الْخَوْف بعد مجْلِس الْأَمْن والكرامة، وصرت موضعا للرحمة بعد أَن تكنفتك الْغِبْطَة على أَنِّي أرى أمثل أمريك ادعاهما للمكروه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 إِلَيْك، وأنفع حالتيك أضيقهما متنفسا بقول الْقَائِل: - (إِذا مَا بدأت أمرءا جَاهِلا ... ببر فقصر عَن حمله) (وَلم تلفه قَائِلا بالجميل ... وَلَا عرف الْعِزّ من ذله) (فسمه الهوان فَإِن الهوان ... دَوَاء لذِي الْجَهْل من جَهله) وَقد قَرَأت كتابك بإغراقك وإطنابك فَوجدت أرجأه عنْدك آيسه لَك، وأرقه فِي نَفسك أقساه لقلبي عَلَيْك، وَمن صافه مَا أذهبت وخامره مَا ذكرت خرس عَن تشقيق وتزويق الْكَذِب والآثام، ولعمري لَوْلَا تعلقك مني بِحرْمَة المعاينة، واتصالك مني بِسَبَب الْمُفَاوضَة، وإنحائي بهما لمن نالهما بسط الْمَنْفَعَة، وَقبض الْأَذَى والمعرة مَعَ إستدامتي النِّعْمَة بِالْعَفو عَن ذِي الجريمة، واستدعائي الزِّيَادَة بالتجاوز عَن ذِي الهفوة، واستقالتي العثرة بإقالة الزلة لنا لَك من عقوبتي مَا يُؤْذِيك، ومسك من سطوتي مَا ينهكك، وَبِحَسْبِكَ مَا أجترمته لنَفسك من الْعَجز ذلا وجهلا، وَمَا أخلدت إِلَيْهِ من الخمول وضعا، وَبِمَا حرمته من الْفضل عُقُوبَة ونقصا، وَفِي كِفَايَة اللَّهِ غنى عَنْك، وَفِي عَادَته الجميلة عوض مِنْك، وحسبنا اللَّهِ وَنعم الْوَكِيل أقوى معِين وَأهْدى دَلِيل. وَهَذَا نُسْخَة كتاب يحيى بن حَمَّاد الَّذِي هَذَا التوقيع جَوَاب عَنهُ لما حَبسه لتَركه مَا أَرَادَ أَن يقلده من كِتَابَته. " بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم: تمم اللَّهِ للأمير السَّلامَة، وأدم لَهُ الْكَرَامَة، وَوصل نعْمَة عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ، وقوى إحسانه إِلَيْهِ بالسعادة ضعف صبري أعز اللَّهِ الْأَمِير عَمَّا أقاسي من ثقل الْحَدِيد، ومكابدة الهموم، ومصاحبة الوحشة فِي دَار الغربة عَن انْقِطَاع الْأَهْل، وَتعقب الوحل، واستخلاف الْبلَاء من وثيق الرَّجَاء وتذكري مَا أفاتني الْقَضَاء الْمَاضِي من رأى الْأَمِير أعزه اللَّهِ فِي، وموجدته على، لقد تخوفت أَن يسْرع لُزُوم الفكرة إيَّايَ فِي فسادي، وَيصير بِي تمكن الْهم إِلَى تغير حَالي وَلَوْلَا أَن سخط الْأَمِير ايده اللَّهِ لَا يصبر عَلَيْهِ، ووجده لَا يُقَام لَهُ لرأيت الامساك عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ذكر أَمْرِي وشكوى مَا بِي إِلَى أَن يستوى غيرما أَنا فِيهِ لسرور مَا كنت صرت إِلَيْهِ من أكرام الْأَمِير أيده اللَّهِ وبره وتشريفه وتقريبه، ولعمري أَن شَدِيد مَا أقاسي وَلَو دَامَ حينا من دهري ليصغر عِنْد لَحْظَة لحظها إِلَى ببره فضلا عَن رَأْيه الَّذِي جلّ عَن قدري، وَعجز عَن أحتماله شكري، وَقد تبين للأمير أعزه اللَّهِ أَمْرِي، وَتَحْقِيق شأني، فَإِن كَانَ مَا أَنا فِيهِ للهفوة الَّتِى كَانَت مني، وَالْجِنَايَة الَّتِي جنيتها على نَفسِي بِالْجَهْلِ بصباي، فقد وضع اللَّهِ عَن الصَّبِي فَرَائِضه علما بِحَالهِ وَكَانَت حَالي فِي الصباء قريبَة من حَاله، والأمير أعزه اللَّهِ أولى من عطف فِي ذَات اللَّهِ عَن زلتي، وأحتسب الْأجر فِي أقالة عثرتي وهفوتي؛ فَإِن رَأْي الْأَمِير أبقاه اللَّهِ أَن يَأْمر بِالدُّعَاءِ بِي وأستماع مني فعل منعما إِن شَاءَ اللَّهِ ". قَالَ: وَوَقع طَاهِر فِي قصَّة رجل متظلم من إصحاب نصر بن شبث: طلبت الْحق فِي دَار الْبَاطِل -. وَوَقع فِي قصَّة قهرمان لَهُ شكا سوء مُعَاملَة: - أسمح يسمح لَك -. قَالَ: وَوَقع إِلَى رجل يطْلب قبالة بعض أَعماله: - القبالة فَسَاد وَلَو كَانَت صلاحا لم تكن لَهَا موضعا. قَالَ: وَوَقع إِلَى السندي بن شاهك جَوَاب كِتَابه إِلَيْهِ يسْأَله الْأمان: - عش مَا لم أرك -. وَوَقع إِلَى خُزَيْمَة بن خازم فِي كِتَابه إِلَيْهِ -. الْأَعْمَال بخواتهما، والصنيعة بإستدامتها، وَإِلَى الْغَايَة مَا جرى الْجواد يحمد السَّابِق ويذم السَّاقِط -. وَوَقع إِلَى الْعَبَّاس ابْن مُوسَى استبطاءه فِي خراج الْكُوفَة: - (وَلَيْسَ أَخُو الْحَاجَات من بَات ساهرا ... وَلَكِن أَخُوهَا من يبيت على وَجل) وَوَقع فِي قصَّة رجل شكا أَن بعض قواده نزل فِي دَار لَهُ وفيهَا حرمه -. إِذا رَأَيْته فِي نَاحيَة دَارك فقد حل لَك قَتله - وَوَقع فِي قصَّة رجل ذكر أَن أَخَاهُ قتل فِي طَاعَة الْمَأْمُون - سالك طَاعَة اللَّهِ وَهُوَ ولي جزاءه - وَوَقع فِي قصَّة رجل ذكر أَنه قتل فِي يَوْم وَاحِد عشرَة من أَصْحَاب المخلوع - لَو كنت كَمَا وصفت لم يُخَفف علينا مَا ذكرت - وَوَقع فِي قصَّة رجل ذكر أَن منزله أحرق بالنَّار - أخطاءك من قصدك -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قَالَ: وَدخل على طَاهِر بن الْحُسَيْن ذِي اليمينين كَاتب الْعَبَّاس بن مُوسَى وَكَانَ ركيكا فَقَالَ: أَخِيك إِن مُوسَى يُقْرِئك السَّلَام. قَالَ: وَمَا تلِي من أمره؟ قَالَ: أَنا كَاتبه الَّذِي أطْعمهُ الْخبز فَوَقع - يعْزل الْعَبَّاس بِسوء اخْتِيَاره للإكفاء - وَوَقع فِي قصَّة رجل مَحْبُوس - يخرج وَلَا يحوج - وَوَقع فِي قصَّة آخر -. يُطلق وَيعتق -. وَوَقع فِي قصَّة مستمنح -. يبل حَاله -. وَوَقع فِي قصَّة مستوصل -. يُقَام أوده -. وَوَقع فِي قصَّة مستجير - أَنا جَاره -. وَوَقع فِي قصَّة مستأمن -. يُؤمن سربه -. وَوَقع فِي قصَّة قَاتل -. لَا يُؤَخر قَتله -. وَوَقع فِي قصَّة شَاعِر -. يعجل ثَوَابه -. وَوَقع فِي قصَّة لص -. ينفذ حكم اللَّهِ فِيهِ -. وَوَقع فِي قصَّة ساع -. لَا يلْتَفت إِلَيْهِ -. وَوَقع فِي قصَّة قوم شغبوا على عاملهم -. الشغب للفرقة سَبَب، فلتمح أَسمَاؤُهُم، وَيحسن آدابهم، وَيقطع بِالنَّفْيِ آثَارهم ذكر وَفَاة طَاهِر بن الْحُسَيْن وَولَايَة طَلْحَة ابْنه قَالَ أَبُو مُحَمَّد مطهر بن طَاهِر: كَانَت وَفَاة ذِي اليمينين من حمى وحرارة أَصَابَته وَأَنه وجد مَيتا فِي فرَاشه وَقيل أَن عميه على بن مُصعب، وَأحمد بن مُصعب صَارا إِلَيْهِ يعودانه فسألا الْخَادِم عَن خَبره وَكَانَ يغلس بِصَلَاة الصُّبْح فَقَالَ الْخَادِم: هُوَ نَائِم لم ينتبه فأنتظراه سَاعَة. فَلَمَّا أنبسط الْفجْر وَتَأَخر عَن الْحَرَكَة فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ يقوم فِيهِ للصَّلَاة أنكرا ذَلِك. وَقَالا للخادم: ايقظه. فَقَالَ الْخَادِم: لست أجسر على ذَلِك. فَقَالَا لَهُ: طرق لنا ندخل عَلَيْهِ فدخلا فوجداه ملتفا فِي دواج قد أدخلهُ تَحْتَهُ وشده عَلَيْهِ من عِنْد رَأسه وَرجلَيْهِ فحركاه فَلم يَتَحَرَّك فكشفا عَن وَجهه فوجداه قد مَاتَ، وَلم يعلمَا الْوَقْت الَّذِي توفّي فِيهِ، وَلَا وقف أحد من خدمه على وَقت وَفَاته، وسألا الْخَادِم عَن خَبره، وَعَن آخر مَا وقف عَلَيْهِ مِنْهُ فَذكر: أَنه صلى الْمغرب، وَالْعشَاء الْآخِرَة ثمَّ ألتف فِي دواجه قَالَ الْخَادِم: وسمعته يَقُول بِالْفَارِسِيَّةِ كلَاما وَهُوَ: " در مرك نيز مردي بايد " تَفْسِيره أَنه يحْتَاج فِي الْمَوْت أَيْضا إِلَى الرجولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قَالَ: وَجَاء نعى طَاهِر بن الْحُسَيْن فِي سنة سبع وَمِائَتَيْنِ. فَحَدثني يحيى بن الْحسن إِن عبد الْخَالِق، عَن أبي زيد حَمَّاد بن الْحسن، قَالَ: حَدثنِي كُلْثُوم بن ثَابت ابْن أبي سعد وَكَانَ يكنى أَبَا سعدة. قَالَ: كنت على بريد خُرَاسَان ومجلسي يَوْم الْجُمُعَة فِي أصل الْمِنْبَر. فَلَمَّا كَانَ فِي سنة سبع وَمِائَتَيْنِ بعد ولَايَة طَاهِر بِسنتَيْنِ حضرت الْجُمُعَة فَصَعدَ طَاهِر الْمِنْبَر فَخَطب فَلَمَّا بلغ إِلَى ذكر الْخَلِيفَة أمسك عَن الدُّعَاء لَهُ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ أصلح أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا أصلحت بِهِ أولياءك، وأكفها مؤونة من بغى فِيهَا وحسد عَلَيْهَا من لم الشعث وحقن الدِّمَاء وأصلاح ذَات الْبَين. قَالَ: فَقلت فِي نَفسِي أَنا أول مقتول لِأَنِّي لَا أكتم الْخَبَر فأنصرفت وأغتسلت بِغسْل الْمَوْتَى، وائتزرت بازار، ولبست قَمِيصًا، وارتديت رِدَاء وطرحت السوَاد وكتبت إِلَى الْمَأْمُون. قَالَ: فَلَمَّا صليت الْعَصْر دَعَاني وَحدث بِهِ حَادث فِي جفن عَيْنَيْهِ وَفِي مآقيه فَسقط مَيتا. قَالَ: فَخرج طَلْحَة بن طَاهِر فَقَالَ: ردُّوهُ. ردُّوهُ. وَقد خرجت فردوني. فَقَالَ: هَل كتبت بِمَا كَانَ؟ . قلت: نعم. قَالَ: فأكتب بوفاته وَأَعْطَانِي خَمْسمِائَة ألف ومائتي ثوب فَكتبت بوفاته وبقيام طَلْحَة بالجيش. قَالَ: فوردت الخريطة على الْمَأْمُون بخلعه غدْوَة فدعى ابْن أبي خَالِد فَقَالَ: أشخص فأت بِهِ كَمَا زعمت وضمنت. قَالَ: أَبيت لَيْلَتي. قَالَ: لَا لعمري لَا تبيت إِلَّا على ظهر. فَلم يزل يناشده حَتَّى أذن لَهُ فِي الْمبيت، ووافت الخريطة بِمَوْتِهِ لَيْلًا فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: قد مَاتَ فَمن ترى؟ قَالَ: ابْنه طَلْحَة. قَالَ: الصَّوَاب. فأكتب بتوليته. فَكتب بذلك وَأقَام طَلْحَة فِيمَا ذكر لنا يحيى بن الْحسن واليا على خُرَاسَان فِي أَيَّام الْمَأْمُون سبع سِنِين بعد موت طَاهِر، ثمَّ توفّي وَولى عبد اللَّهِ بن طَاهِر خُرَاسَان وَكَانَ يتَوَلَّى حَرْب بابك فَأَقَامَ بالدينور وَوجه الجيوش ووردت وَفَاة طَلْحَة على الْمَأْمُون فَبعث إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر بِيَحْيَى بن أَكْثَم يعزيه عَن أَخِيه ويهنئه بِولَايَة خُرَاسَان وَولى عَليّ بن هِشَام حَرْب بابك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وحَدثني يحيى بن الْحسن قَالَ: لما مَاتَ طَاهِر بن الْحُسَيْن بخراسان كتم الْمَأْمُون عبد اللَّهِ بن طَاهِر مَوته قَالَ: وَكتب إِلَى عبد اللَّهِ مولى لَهُم كَانَ أسلم على يَد طَاهِر: أَن أَبَاك قد مَاتَ فتحرز. فَكتب عبد اللَّهِ إِلَى الْمَأْمُون يستعلمه موت طَاهِر. فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون: لم أستر عَنْك علمه إِلَّا لِأَنِّي خشيت إِن تضعف وَأَنت فِي وَجه حَرْب فَخفت عَلَيْك من الفكرة والتواني وَقد كَانَ ذَلِك فرحمه اللَّهِ. قَالَ: وَكتب إِلَيْهِ القواد وَالْوُجُوه يعزونه وَكتب إِلَيْهِ الْفضل بن الرّبيع يعزيه وَكتب: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ ستر عَنْك موت أَبِيك خوف التواني فجد فِي الْأَمر الَّذِي أَنْت فِيهِ، مُتَوَلِّيًا لَهُ بِمَا يرضيه، وَمَا تعلم بِهِ أَنَّك قد قُمْت بِالْوَاجِبِ وأثره أثرا تعجله فِي الْكَلْب الَّذِي أَنْت بإزائه وأصدقه فَإِنِّي أعلم أَنَّك ستظفر بِهِ وَأَنا عَارِف بضعفه. قَالَ: أَبُو زَكَرِيَّا: حَدثنِي يزِيد بن عقال بذلك. قَالَ وَكتب إِلَيْهِ عبد اللَّهِ يُخبرهُ بِخَبَر نصر. وحَدثني بعض الْوُجُوه من أهل الْعَسْكَر وَأَصْحَاب السُّلْطَان قَالَ: أشهد أَنِّي كنت عِنْد الْعَبَّاس، وَكَانَ بِي آنسا، ولي مكرما فَحَدثني أَنه شهد مجْلِس الْمَأْمُون وَقد أَتَاهُ نعى طَاهِر فَقَالَ. لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ الْحَمد لله الَّذِي قدمه وأخرنا، ثمَّ ذكر بعد ذَلِك كلَاما طَويلا تَرَكْنَاهُ على عمد وَإِن كَانَ من حسن مَا ألفنا من هَذَا الْكتاب. فَأَما أَصْحَاب الْأَخْبَار والتاريخ فَذكرُوا أَن طَاهِرا لما مَاتَ بخراسان وثب الْجند بهَا فأنتبهوا بعض خزائنه وسلاحه ومتاعه فَقَامَ بأمرهم سَلام الابرش الْخصي وَأَعْطَاهُمْ رزق سِتَّة أشهر حَتَّى رَضوا وَسَكنُوا، وَأَن الْمَأْمُون ولي عبد اللَّهِ مَكَانَهُ وَكَانَ مُقيما بالرقة قد ولاه الْمَأْمُون إِيَّاهَا وَجمع لَهُ الشأم مَعهَا فَبعث إِلَيْهِ بعهده على خُرَاسَان، فضم إِلَيْهِ عمل أَبِيه فولى أَخَاهُ طَلْحَة خُرَاسَان وأستخلف بِمَدِينَة السَّلَام إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم وَذكروا أَن سعر الطَّعَام كَانَ فِي سنة سبع وَمِائَتَيْنِ بِبَغْدَاد، والكوفة، وَالْبَصْرَة غاليا وَأَن قفير الْحِنْطَة بالهاروني بلغ أَرْبَعِينَ درهما إِلَى الْخمسين بالقفيز الملجم. وحَدثني الْقَاسِم بن سعيد الْكَاتِب قَالَ: لما توفّي طَاهِر بن الْحُسَيْن بخراسان وَعبد اللَّهِ بن طَاهِر فِي وَجه نصر بن شبث كتب الْمَأْمُون إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر يعزيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قَالَ: وَكتب إِلَيْهِ أَحْمد بن يُوسُف بن الْقَاسِم بن صبيح يعزيه عَن نَفسه أما بعد: فَإِنَّهُ قد حدث من أَمر الرزء الْعَظِيم بوفاة ذِي اليمينين مَا إِلَى اللَّهِ جلّ وَعز فِيهِ المفزع والمرجع وَفِيه عَلَيْهِ الْمُسْتَعَان وَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون إتباعا لأمر اللَّهِ، واعتصاما بِطَاعَتِهِ وتسليما لنازل قَضَائِهِ، ورجاء لما وعد الصابرين من صلواته وَرَحمته وهداه وَعند اللَّهِ نحتسب مُصِيبَتنَا بِهِ وَقد كَانَ سبق إِلَى الْقُلُوب عِنْد بداهة الْخَبَر من اللوعة واطلاع الفجيعة مَا كُنَّا نَخَاف أحباطه من الْأجر لَوْلَا مَا تدارك اللَّهِ بِهِ من الذّكر بِمَا وعد أهل الصَّبْر، فنسأل اللَّهِ أَن يذاب هَذِه الثلمة، ويسد هَذِه الْخلَّة بأمير الْمُؤمنِينَ أَولا، وَبِك ثَانِيًا وَأَن يعظم مثوبتك، وَيحسن عقباك، ويخلف بك ذُو اليمينين، ويعمر بك مَكَانَهُ من أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمن كَافَّة الْمُسلمين، فَأَما مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من التسلية والتعزية فَإنَّك فِي فضل رَأْيك، واتساع لبك فِي حَالَة الْعِزَّة والنماء لم تكن تَخْلُو من عوارض الذّكر، وخواطر الْفِكر فِيمَا تعرو بِهِ الايام من نوائبها وَيبْعَث بِهِ من حوادثها وَفِي هَذَا الْمَنّ وفْق لَهُ أعداد للنوازل، وتوطين الْأَنْفس على المكاره فَلَا يكون مَعَه هلع، وَلَا إفراط وَلَا جزع بِإِذن اللَّهِ مَعَ أَن مرد كل ذِي جزع إِلَى سلوة لاثبات عَلَيْهَا فَأولى بالراغب فِي ذَات اللَّهِ يبتهل إِلَى اللَّهِ مثوبته فِي أوانها من بعض الأسى، وفجأة النكبة، وَأولى بِذِي اللب إِذا علم مَا هُوَ لَا بُد صائر إِلَيْهِ أَلا يبعد مِنْهُ أبعادا يلْزمه التَّفَاوُت عِنْد التَّأَمُّل وَاخْتِلَاف الْحَالين فِي بعد الأمد بَينهمَا وَقد كنت أحب أَلا أقنع فِي تعزيتك برَسُول وَلَا كتاب دون الشخوص إِلَيْك بنفسي لَو امكنني الْمسير أجلالا للمصيبة، وتأنسا بقربك بعد الَّذِي دخلني من الوحشة، فقد عرفت مَا خصني من المرزئة بِذِي اليمينين لما كنت اتعرف من جميل رَأْيه، وعظيم بره حَاضرا وَمَا كَانَ يذكرنِي بِهِ غَائِبا ذكره اللَّهِ فِي الرفيق الاعلى وَأَنت وَارِث حَقه على إِلَى مَا كنت لَك عَلَيْهِ من صدق الْمَوَدَّة وخالص النَّصِيحَة وَإِلَى اللَّهِ جلّ وَعز أَرغب فِي تأدية شكره وَالْقِيَام بِمَا أوجبه لَك فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بِالْكتاب إِلَى بِمَا أبلاك اللَّهِ فِي نَفسك، وألهمك من العزاء وَالصَّبْر مَعَ مَا أَحْبَبْت وَبِذَلِك فعلت إِن شَاءَ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 (وَمن أَخْبَار ابْن طَاهِر بن الْحُسَيْن) وحَدثني: مُحَمَّد بن الْهَيْثَم أَن عبد اللَّهِ لما خرج إِلَى نصر بن شبث بعد أَن استحكم أمره، واشتدت شوكته، وَهزمَ جيوشه فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون كتابا يَدعُوهُ فِيهِ إِلَى طَاعَته، والمفارقة لمعصيته والمخالفة لَهُ فَلم يقبل. قَالَ: فَكتب عبد اللَّهِ إِلَيْهِ وَكَانَ الْكتاب إِلَى نصر من الْمَأْمُون كتبه عَمْرو بن مسْعدَة: أما بعد: فَإنَّك يَا نصر بن شبث قد عرفت الطَّاعَة وعزها. وَبرد ظلها، وَطيب مرتعها، وَمَا فِي خلَافهَا من النَّدَم والخسار، وَإِن طَالَتْ مُدَّة اللَّهِ بك فَإِنَّهُ إِنَّمَا يملى لمن يلْتَمس مُظَاهرَة الْحجَّة عَلَيْهِ لتقع عبره بِأَهْلِهَا على قدر إضرارهم واستحقاقهم وَقد رَأَيْت أذكارك وتبصيرك لما رَجَوْت أَن يكون لما أكتب بِهِ إِلَيْك موقع مِنْك. فَإِن الصدْق صدق، وَالْبَاطِل بَاطِل. وَإِنَّمَا القَوْل بمخارجه وبأهله الَّذين يعنون بِهِ، وَلم يعاملك من عُمَّال أَمِير الْمُؤمنِينَ أحد أنصح لَك فِي مَالك وَدينك، ونفسك، وَلَا أحرص على استنقاذك والانتياش لَك من خطائك مني فَبِأَي أول أَو آخر أوسطه أَو إمرة إقدامك يَا نصر على أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمْوَاله، وتتولى دونه مَا ولاه اللَّهِ وتريد أَن تبيت آمنا أَو مطمئنا، أَو وادعا، أَو سَاكِنا، أَو هادئا فوعالم السِّرّ والجهر لَئِن لم تكن للطاعة مراجعا، وَبهَا خانعا لتستو بلن وخم الْعَاقِبَة، ثمَّ لأبد أَن بك قبل كل عمل، فَإِن قُرُون الشَّيْطَان إِذا لم تقطع كَانَت فِي الأَرْض فتْنَة وَفَسَاد كَبِير، ولأطأن بِمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أَصْحَابك، وَمن تأشب إِلَيْك من داني الْبلدَانِ، وقاصيها، وطغامها، وأوباشها وَمن أنضوى إِلَى حوزتك من خراب النَّاس، وَمن لَفظه بَلَده، ونفته عشيرته لسوء مَوْضِعه فيهم وَقد أعذر من أنذر وَالسَّلَام. قَالَ: وَأقَام عبد اللَّهِ بن طَاهِر على محاربة نصر بن شبث خمس سِنِين حَتَّى طلب الْأمان. فَكتب عبد اللَّهِ إِلَى الْمَأْمُون يُعلمهُ أَنه حصره وضيق عَلَيْهِ. وَأَنه قد عاذ بالأمان وَطَلَبه. فَأمر الْمَأْمُون أَن يكْتب لَهُ كتاب أَمَان نسخته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أما بعد: فَإِن الْإِعْذَار بِالْحَقِّ حجَّة اللَّهِ المقرون بهَا النَّصْر، والاحتجاج بِالْعَدْلِ دَعْوَة اللَّهِ الْمَوْصُول بهَا الْعِزّ، وَلَا يزَال المعذر بِالْحَقِّ، المحتج بِالْعَدْلِ فِي استفتاح أَبْوَاب التأييد، واستدعاء أَسبَاب التَّمْكِين حَتَّى يفتح اللَّهِ وَهُوَ خير الفاتحين وَيُمكن وَهُوَ خير الممكنين، وَلست تعدو أَن تكون فِيمَا لهجت بِهِ أحد ثَلَاثَة، طَالب دين، أَو ملتمس دنيا، أَو متهورا يطْلب الْغَلَبَة ظلما، فَإِن كنت للدّين تسْعَى بِمَا تصنع فأوضح ذَلِك لأمير الْمُؤمنِينَ يغتنم قبُوله، إِن كَانَ حَقًا فلعمري مَا همته الْكُبْرَى، وَلَا غَايَته القصوى إِلَّا الْميل مَعَ الْحق حَيْثُ مَال، والزوال مَعَ الْعدْل حَيْثُ زَالَ، وَإِن كنت للدنيا تقصد فأبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ غايتك فِيهَا وَالْأَمر الَّذِي تستحقها بِهِ فَإِن أستحققتها وَأمكنهُ ذَلِك فعله بك فلعمري مَا يستجيز منع خلق مَا يسْتَحقّهُ وَإِن عظم، وَإِن كنت متهورا فسيكفي اللَّهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ مؤنتك. ويعجل ذَلِك كَمَا عجل كِفَايَته مُؤَن قوم سلكوا مثل طريقك كَانُوا أقوى يدا، وأكثف جندا، وَأكْثر جمعا وعددا ونصرا مِنْك فِيمَا أصارهم إِلَيْهِ من مصَارِع الخاسرين، وَأنزل بهم من حوائج الظَّالِمين وأمير الْمُؤمنِينَ يخْتم كِتَابه بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وضمانه لَك فِي دينه وذمته الصفح عَن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك مَا تستأهل من منَازِل الْعِزّ والرفعة إِن أتيت وراجعت إِن شَاءَ اللَّهِ وَالسَّلَام. أَبُو إِسْحَاق أَحْمد ابْن إِسْحَاق. قَالَ: حَدثنِي بشر السَّلمَانِي: قَالَ سَمِعت أَحْمد بن أبي خَالِد يَقُول: كَانَ الْمَأْمُون إِذا أمرنَا بِأَمْر فَظهر من أَحَدنَا فِيهِ تَقْصِير أنكرهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَحَدثني جَعْفَر ابْن مُحَمَّد الرقي العامري قَالَ: قَالَ الْمَأْمُون لثمامة بن أَشْرَس الا تدلني على رجل من أهل الجزيرة لَهُ عقل وَبَيَان وَمَعْرِفَة يُؤَدِّي عني مَا أوجهه بِهِ إِلَى نصر بن شبث؟ قَالَ بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: رجل من بني عَامر يُقَال لَهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد. قَالَ لَهُ: أحضرنيه قَالَ جَعْفَر فأحضرني ثُمَامَة فَأَدْخلنِي عَلَيْهِ فكلمني بِكَلَام كثير، ثمَّ أَمرنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أَن أبلغه نصر بن شبث. قَالَ. فَأتيت نصرا وَهُوَ بِكفْر عزون بسروج فأبلغته رسَالَته فأذعن وَشرط شُرُوطًا مِنْهَا: أَلا يطَأ بساطه قَالَ: فَأتيت الْمَأْمُون فَأَخْبَرته فَقَالَ: لَا أُجِيبهُ وَالله إِلَى هَذَا أبدا وَلَو أفضت إِلَى بيع قَمِيصِي هَذَا حَتَّى يطَأ بساطي. وَمَا باله ينفر مني؟ قَالَ: قلت لجرمه وَمَا تقدم مِنْهُ. فَقَالَ: أتراه أعظم جرما عِنْدِي من الْفضل بن الرّبيع، وَمن عِيسَى بن أبي خَالِد أَتَدْرِي مَا صنع بِي الْفضل؟ أَخذ قوادي وأموالى، وجنودى، وسلاحي وَجَمِيع مَا أوصى بِهِ أبي لي فَذهب بِهِ إِلَى مُحَمَّد وَتَرَكَنِي بمرو وحيدا فريدا وأسلمني وأفسد على أخي حَتَّى كَانَ من أمره مَا كَانَ وَكَانَ أَشد على من كل شَيْء، أَتَدْرِي مَا صنع بِي عِيسَى بن أبي خَالِد؟ ، طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبَائِي،، وَذهب بخراجى وفيئ، وأخرب على دياري، وأقعد إِبْرَاهِيم خَليفَة دوني وَدعَاهُ باسمى. قَالَ قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أتأذن فِي الْكَلَام فأتكلم. قَالَ: تكلم. قلت الْفضل بن الرّبيع رضيعكم ومولاكم وَحَال سلفه حَالهم ترجع عَلَيْهِ بضروب كلهَا تردك إِلَيْهِ. وَعِيسَى بن أبي خَالِد رجل من أهل دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم ترجع عَلَيْهِ بذلك. وَهَذَا رجل لم تكن لَهُ يَد قطّ فَيحْتَمل عَلَيْهَا وَلَا لمن مضى من سلفه إِنَّمَا كَانُوا جند بنى أُميَّة. قَالَ: إِن ذَاك كَمَا تَقول فَكيف بالحنق والغيظ وَلَكِنِّي لست أقلع عَنهُ حَتَّى يطَأ بساطي. قَالَ: فَأتيت نصرا فَأَخْبَرته بذلك. قَالَ: فصاح بِالْخَيْلِ صَيْحَة فجالت ثمَّ قَالَ: ويلي عَلَيْهِ هُوَ لم يقو على أَربع مائَة ضفدع تَحت جنَاحه يَعْنِي الزط يقوى على جلبة الْعَرَب. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر فَحدثت أَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر لما جَاءَهُ لِلْقِتَالِ وحصره وَبلغ مِنْهُ أعْطى الضمة وَطلب الْأمان فَأعْطَاهُ وتحول من مُعَسْكَره إِلَى الرقة سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَصَارَ إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر فَوجه بِهِ إِلَى الْمَأْمُون فَكَانَ دُخُوله بَغْدَاد يَوْم الثُّلَاثَاء لسبع خلون من صفر سنة عشر وَمِائَتَيْنِ وَأنزل مَدِينَة أبي جَعْفَر ووكل بِهِ من يحفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فَحدثت ان الْمَأْمُون، وَأَبا إِسْحَاق المعتصم وَآخر من القواد ذهب عني اسْمه اخْتلفُوا فِي ذكر الشجعاء من القواد، والجند، وَالْموالى فَقَالَ الْمَأْمُون: مَا فِي الدُّنْيَا أحد أَشْجَع من عجم أهل خُرَاسَان، وَلَا أَشد شكوة، وَلَا أثقل وَطْأَة على عَدو. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: مَا فِي الدُّنْيَا سود الرؤوس أَشْجَع وَلَا أرما، وَلَا أثبت أقداما على الْأَعْدَاء من الأتراك وَبِحَسْبِكَ أَنهم بازاء كل أمة من أعدائهم فهم ينتصفون مِنْهُم ويغزونهم فِي بِلَادهمْ، وَلَا يغزوهم أحد، فَقَالَ الْقَائِد مَا فِي الدُّنْيَا قوم أَشْجَع من أَبنَاء خُرَاسَان المولدين، وَلَا أفتك مِنْهُم فَإِنَّهُم هم الَّذين أدخلُوا الاتراك فِي السواجير وآباؤهم هم الَّذين قادوا الدولة، وهم قَامُوا بِحَرب أَمِير الْمُؤمنِينَ ثمَّ أطاعوه فاستقامت الْخلَافَة بهم. فَقَالَ الْمَأْمُون: مَا تَصْنَعُونَ بإختلافنا.؟ هَذَا نصر بن شبث نرسل إِلَيْهِ فنسأله عَن أَشْجَع من لقى من جندنا وقوادنا من الْقَوْم جَمِيعًا. فَأمر بنصر فأحضر وَسَأَلَهُ عَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: الْحق أولى مَا أسْتَعْمل كل هَؤُلَاءِ قد لقِيت: أما الأتراك: فَإِنَّمَا التركي بسهامه فَإِذا أنفذها أَخذ بِالْيَدِ وَأما العجمي فبسيفه: فَإِذا كل استبسل. وَأما الْأَبْنَاء فَلم أر مثلهم لَا يكلون، وَلَا يملون، وَلَا ينهزمون يُقَاتلُون فِي شدَّة الْبرد فِي الأزر الْخلق بِلَا درع، وَلَا جوشن وَلَا مجن، وَمرَّة بِالرُّمْحِ وَمرَّة بِالسِّهَامِ يَخُوضُونَ الثَّلج فِي الْأَنْهَار ويخوضون فِي الهجير النَّار لَا يكلون وَلَا يملون. فَقَالَ الْقَائِد: حَسبنَا بك حكما بَيْننَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ذكر تَوْجِيه تَوْجِيه عبد اللَّهِ بن طَاهِر إِلَى عبيد اللَّهِ بن السّري قَالَ أَبُو حسان الزيَادي، والهاشمي، والخوارزمي وَجَمِيع أَصْحَاب التَّارِيخ كتب الْمَأْمُون إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر لما وَجه بنصر بن شبث إِلَى بَغْدَاد فِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ أَن يتَوَجَّه إِلَى مصر وَكَانَ بَينه وَبَين ابْن السرى خلاف وَمنعه من الدُّخُول فَكتب بذلك إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمه مَا كَانَ مِنْهُ فَكتب إِلَيْهِ فِي محاربته إِن أمتنع فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى طلب الْأمان. فَحَدثني الْحَرَّانِي قَالَ: ذكر عَطاء صَاحب مظالم عبد اللَّهِ بن طَاهِر قَالَ: قَالَ رجل من أخوة أَمِير الْمُؤمنِينَ لِلْمَأْمُونِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن عبد اللَّهِ بن طَاهِر يمِيل إِلَى ولد أبي طَالب وَكَذَا كَانَ أَبوهُ وجده. قَالَ فَدفع الْمَأْمُون ذَلِك وَأنْكرهُ. ثمَّ عَاد بِمثل هَذَا القَوْل فَدس إِلَيْهِ الْمَأْمُون رجلا ثمَّ قَالَ لَهُ: امْضِ فِي هَيْئَة الْغُزَاة أَو النساك إِلَى مصر فَادع جمَاعَة من كبرائها إِلَى الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن طَبَاطَبَا وَاذْكُر مناقبه، وَعلمه، وفضائله، ثمَّ صر بعد ذَلِك إِلَى بعض بطانة عبد اللَّهِ بن طَاهِر، ثمَّ ائته فَأَدَعُهُ، ورغبه فِي استجابته لَهُ، وابحث عَن دَقِيق نِيَّته بحثا شافيا وأتني بِمَا تسمع مِنْهُ. قَالَ: فَفعل الرجل مَا قَالَ لَهُ وَأمره بِهِ حَتَّى إِذا دَعَا جمَاعَة من الرؤساء والأعلام قعد يَوْمًا بِبَاب عبد اللَّهِ وَقد ركب إِلَى عبيد اللَّهِ بن السّري بعد صلحه وَأَمَانَة فَلَمَّا انْصَرف قَامَ إِلَيْهِ الرجل فَأخْرج من كمه رقْعَة فَدَفعهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَأَخذهَا بِيَدِهِ. قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن دخل فَخرج الْحَاجِب إِلَيْهِ فَأدْخلهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَاعد على بِسَاط مَا بَينه وَبَين الأَرْض غَيره وَقد مد رجلَيْهِ وخفاه فيهمَا فَقَالَ لَهُ: قد فهمت مَا فِي رقعتك من جملَة كلامك فهات مَا عنْدك. قَالَ: ولى أمانك وَذمَّة اللَّهِ مَعَك؟ . قَالَ: لَك ذَلِك. قَالَ: فأظهر لَهُ مَا أَرَادَ وَدعَاهُ إِلَى الْقَاسِم وَأخْبرهُ بفضائله، وَعلمه، وزهده فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ أتنصفني؟ . قَالَ: نعم، قَالَ: هَل يجب شكر اللَّهِ على الْعباد؟ . قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 نعم. قَالَ: فَهَل يجب شكر بَعضهم لبَعض عِنْد الْإِحْسَان والْمنَّة، والتفضل؟ قَالَ نعم. قَالَ: فتجئ إِلَى وَأَنا فِي هَذِه الْحَال الَّتِي ترى لي خَاتم فِي الْمشرق جَائِز، وَفِي الْمغرب كَذَلِك وَفِيمَا بَينهمَا أَمْرِي مُطَاع، وَقَوْلِي مَقْبُول، ثمَّ مَا الْتفت يَمِيني وَلَا شمَالي وورائي، وقدامي إِلَّا رَأَيْت نعْمَة لرجل أنعمها على، وَمِنْه ختم بهَا رقبتي، ويدا لائحة بَيْضَاء ابتدأني بهَا تفضلا وكرما فتدعوني إِلَى الْكفْر بِهَذِهِ النِّعْمَة، وَهَذَا الْإِحْسَان وَتقول أغدر بِمن كَانَ أَولا لهَذَا واخرا، وَاسع فِي إِزَالَة خيط عُنُقه وَسَفك دَمه تراني لَو دعوتني إِلَى الْجنَّة عيَانًا من حَيْثُ أعلم أَكَانَ الله يحب أَن أغدر بِهِ، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعَته ... . فَسكت الرجل. فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ: أما إِنَّه قد بَلغنِي أَمرك وتالله مَا أَخَاف عَلَيْك الا نَفسك فأرحل عَن هَذَا الْبَلَد فَإِن السُّلْطَان الْأَعْظَم إِن بلغه أَمرك وَمَا أَمن ذَلِك عَلَيْك كنت الْجَانِي على ظهرك وَظهر غَيْرك. قَالَ: فَلَمَّا أيس الرجل مِمَّا عِنْده جَاءَ إِلَى الْمَأْمُون فَأخْبرهُ الْخَبَر فَاسْتَبْشَرَ وَقَالَ: ذَاك غرس يَدي، وإلف أدبي. وترب تلقيحي وَلم يظْهر من ذَلِك لأحد شَيْئا ولأعلم بِهِ عبد اللَّهِ أَلا بعد موت الْمَأْمُون. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَالَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر وَهُوَ بِمصْر يحاصر لِعبيد اللَّهِ ابْن السّري: (بكرت تسبل دمعا ... إِذْ رَأَتْ وَشك براحي) (وتبدلت صقيلا ... ويمينا بوشاحي) ( [وتماديت بسير ... لغدو ورواح] ) (زعمت جهلا بإنى ... تَعب غير مراح) (أقصري عني فإنى ... سالك قصد فلاحى) (أَنا لِلْمَأْمُونِ عبد ... مِنْهُ فِي ظلّ جنَاح) (إِن يعاف اللَّهِ يَوْمًا ... فقريب مستراحي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 (أَو يكن هلك فَقولِي ... بعويل وصياح) (حل فِي مصر قَتِيل ... ودعى عَنْك التلاحي) وحَدثني أَحْمد بن مُحَمَّد الثوابي، عَن ابْن ذِي القلمين قَالَ: بعث عبيد اللَّهِ بن السرى إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر لما ورد مصر جمَاعَة صانعوه من دُخُولهَا بِأَلف وصيف ووصيفة، مَعَ كل وصيف ألف دِينَار فِي كيس حَرِير وَبعث بهم إِلَيْهِ لَيْلًا فَرد ذَلِك عبد اللَّهِ عَلَيْهِ وَكتب إِلَيْهِ: لَو قبلت هديتك لَيْلًا لقبلتها نَهَارا {بل أَنْتُم بهديتكم تفرحون ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجنهم مِنْهَا أَذِلَّة وهم صاغرون} قَالَ: فَحِينَئِذٍ طلب الْأمان مِنْهُ وَخرج إِلَيْهِ. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: خرج عبيد اللَّهِ بن السّري إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر يَوْم الْخَمِيس لخمس بَقينَ من رَجَب سنة أحدى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَأدْخل عبد اللَّهِ ابْن السرى لسبع بَقينَ من رَجَب وَأنزل مَدِينَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. قَالَ: وَأقَام عبد اللَّهِ بن طَاهِر بِمصْر واليا عَلَيْهَا وَسَائِر الشأم. حَدثنِي طَاهِر بن خَالِد بن نزار الغساني قَالَ: كتب الْمَأْمُون إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر وَهُوَ بِمصْر حِين فتح مصر فِي أَسْفَل كتاب لَهُ: - (أخي أَنْت ومولاي ... الَّذِي أشكر نعماه) (فَمَا أَحْبَبْت من أَمر ... فَإِنِّي الْيَوْم أهواه) (وَمَا تكره من شَيْء ... فَإِنِّي لست أرضاه) (لَك اللَّهِ على ذَاك ... لَك اللَّهِ لَك اللَّهِ) وحَدثني عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن يُوسُف: إِن أَبَاهُ كتب إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر عِنْد خُرُوج عبيد اللَّهِ بن السّري يهنئه بذلك الْفَتْح عَلَيْهِ: بَلغنِي أعز اللَّهِ الْأَمِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مَا فتح اللَّهِ عَلَيْك، وَخُرُوج ابْن السّري إِلَيْك، فَالْحَمْد لله النَّاصِر لدينِهِ، الْمعز لوَلِيِّه وخليفته على عباده، المذل لمن عِنْد عَنهُ وَعَن حَقه؛ وَرغب فِي طَاعَته، ونسأل اللَّهِ أَن يظاهر لَهُ النعم، وَيفتح لَهُ بلدان الشّرك، وَالْحَمْد لله على مَا ولاك بِهِ مُنْذُ ظعنت لوجهك، فَإنَّا وَمن قبلنَا نتذكر سيرتك فِي حربك وسلمك، ونكثر التَّعَجُّب لما وفقت لَهُ من الشدَّة والليان ومواضعهما؛ وَلَا نعلم سائس جند، وَلَا رعية عدل بَينهم عدلك، وَلَا عَفا بعد الْقُدْرَة عَمَّن آسفه وأضغنه عفوك وَأَقل مَا رَأينَا ابْن شرف لم يلق بِيَدِهِ متكلا على مَا قدمت لَهُ أبوته وَمن أُوتِيَ حظا وكفاية وسلطانا وَولَايَة لم يخلد إِلَى مَا عَفا لَهُ حَتَّى يخل بمساماة مَا أُمَامَة، ثمَّ لَا نعلم سائسا اسْتحق النجح لحسن السِّيرَة، وكف معرة الِاتِّبَاع استحقاقك، وَمَا يستجيز أحد مِمَّن قبلنَا أَن يقدم عَلَيْك أحدا يهوى عِنْد الحاقة والنازلة المعضلة فليهنك هبة اللَّهِ ومزيده، وسوغك اللَّهِ هَذِه النعم الَّتِى حواها لَك بالمحافظة على مَا بِهِ تمت لَك من التَّمَسُّك بِحَبل إمامك ومولاك وَمولى جَمِيع الْمُسلمين، وملاك وأيانا الْعَيْش بِبَقَائِهِ،، وَأَنت تعلم أَنَّك لم تزل عندنَا وَعند من قبلنَا مكرما. مقدما، مُعظما، وَقد زادك اللَّهِ فِي أعين الْخَاصَّة والعامة جلالة وبجالة فأضحوا يرجونك لأَنْفُسِهِمْ، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم، وارجو أَن يوفقك اللَّهِ لمحابة، كَمَا وفْق لَك صنعه وتوفيقه، فقد أَحْسَنت جوَار النِّعْمَة فَلم تطغك، وَلم تَزْدَدْ أَلا تذللا وتواضعا فَالْحَمْد لله على مَا آتاك، وأبلاك، وأودع فِيك وَالسَّلَام. قَالَ: وَكتب إِلَى عبد اللَّهِ طَاهِر الهدير بن صبح يستمنحه لشاعر مدحه: جعلت فدَاك أَيهَا الْأَمِير، وَمد اللَّهِ لَك فِي الْعُمر ممتعا بِالنعَم، مكفيا نَوَائِب الدَّهْر، أَنْت أَيهَا الْأَمِير سَمَاء تمطر، وبحر لَا يكدر، وغيث ممرع يحيا بِهِ المجدب، وَأَنت مُنْتَهى أبصار الْقَوْم، ومثنى أَعْنَاقهم. أَصبَحت لَهُم كالوالد تكرم زائرهم، وتصفد مادحهم وتصدر وأردهم وَقد انفرجت عَنهُ الضيقة، وأنزاحت عَنهُ الْكُرْبَة وَكَذَلِكَ كَانَ آباؤك للمتعلقين بهم، والموجهين رعيتهم نحوهم، وَإِن كنت قد تمهلت وسبقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 سبقا بَينا، وَذَهَبت بِحَيْثُ لَا يشق أحد غبارك، وَلَا يجْرِي إِلَى غايتك، وَفتحت يدا مخلصة مندفعة بالنوال والإفضال على الْحَالين بساحتك، والمنتجعين خصب جنابك. وَأَنا أقدم عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير فِي أَشْيَاء تشبه قدرك، وَأحب أَن تكون أَكثر زادك مِمَّا أفادك اللَّهِ صَنِيعَة تصنعها، ونعمة تشكرها وتحوز أجرهَا وَتصدق الظَّن فِيهَا، وَفُلَان فِي الصُّحْبَة من ذَوي البيوتات الَّتِي ترغب فِي الصَّنَائِع عِنْدهَا، والتوسط من الإداد الَّتِي توجب أحتمال من حملهَا، وَقد أهْدى إِلَى الْأَمِير شعرًا يتَوَصَّل بِهِ إِلَيْهِ، ويستهدي من فَضله وَكَرمه مَا أعلم أَنه يُعينهُ فِي مثله، وسألني أَن أكون سَبَب ذَلِك وفاتحة، وَأولى النَّاس بالاعتداد بِمَا ذكر والتطاول والابتهاج بِهِ رَهْط الْأَمِير الأدنون. وأسرته الأقربون الَّذين جعلهم اللَّهِ سهمهم الَّذِي بِهِ يقارعون وعزهم الَّذِي بِهِ يعتزون، وسندهم الَّذِي بِهِ يلجؤون، ومعقلهم الَّذِي بِهِ يؤون فراى الْأَمِير فِي هديته واستماعها مِنْهُ وَوَضعه بِحَيْثُ وَضعه أمله ورجاؤه. قَالَ: فَدَعَا عبد اللَّهِ بن طَاهِر بالشاعر الَّذِي وَجهه إِلَيْهِ، وأستمع مِنْهُ، وَأحسن جائزته وَصَرفه إِلَيْهِ. قَالَ عبد اللَّهِ بن عَمْرو: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد الْعَبَّاس بن عبد اللَّهِ بن أبي عِيسَى الترقفي قَالَ حَدثنِي: أَبُو النَّهْي. قَالَ: كنت حَاضرا لما جَاءَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر إِلَى مُحَمَّد بن يُوسُف الفاريابي مخرج عبد اللَّهِ إِلَى مصر؛ وَكَانَ مُحَمَّد بن يُوسُف بقيسارية وَبَينهَا وَبَين الطَّرِيق أَمْيَال وَعبد اللَّهِ فِي خيله وَرجله. قَالَ: فجَاء صَاحب لوائه حَتَّى وقف على الْبَاب ثمَّ جَاءَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر فَوقف وَخرج ابْن لمُحَمد بن يُوسُف فَسلم على عبد اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: أردْت الشَّيْخ قَالَ: فَدخل وَمَعَهُ ختن لمُحَمد بن يُوسُف ورجلان سماهما قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: عبد اللَّهِ بن طَاهِر الْأَمِير بِالْبَابِ، وعظمنا أمره فَقَالَ: لَا أخرج إِلَيْهِ. قَالَ: فجهدنا بِهِ فَلم يفعل. قَالَ: فَقُلْنَا مَا نقُول لَهُ؟ قَالَ: فاضطجع ثمَّ قَالَ: قُولُوا لَهُ أَنه صَاحب فرَاش. فرجعنا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: شيخ كَبِير صَاحب فرَاش. فَقَالَ: مَا جِئْنَا إِلَى هَا هُنَا إِلَّا وَنحن نُرِيد الدُّخُول عَلَيْهِ، فرجعنا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ. فَقَالَ: مَا آذن لَهُ. فَلم نزل بِهِ فَإِنِّي أردْت أَن يَأْذَن لَهُ فَقُلْنَا: مَا نقُول لَهُ؟ فَقَالَ: قُولُوا صَاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بَوْل. قَالَ: فصعر وَجهه ثمَّ قَالَ: نَحن فِي سوادنا أزهد من هَؤُلَاءِ فِي صوفهم ثمَّ مضى وَلم يلقه وَلَا عرض لَهُ. حَدثنِي عبد اللَّهِ بن عَمْرو: قَالَ: حَدثنِي عبد اللَّهِ بن الْحَارِث بن الْحَارِث بن ملك ابْن رزين المرزوي الْعَدْوى التَّمِيمِي. قَالَ: أَخْبرنِي عَبْدَانِ بن كيلة بن عبد اللَّهِ بن عُثْمَان ابْن جبلة بن أبي رواد قَالَ: سَأَلَني عبد اللَّهِ بن طَاهِر عَن موت عبد اللَّهِ بن الْمُبَارك فَقلت لَهُ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة. فَقَالَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر: مولدنا. وَقَالَ حَدثنِي هَارُون بن عبد اللَّهِ بن مَيْمُون الْخُزَاعِيّ. قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي شيخ من أهل الرقة. قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن يزِيد بن أَسد السّلمِيّ قَالَ: كنت مَعَ طَاهِر بن الْحُسَيْن بالرقة وَأَنا أحد قواده، وَكَانَت لى بِهِ خاصية أَجْلِس عَن يَمِينه فَخرج علينا يَوْمًا رَاكِبًا ومشينا بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يتَمَثَّل: - (عَلَيْكُم بداري فأهدموها فَإِنَّهَا ... تراث كريم لَا يخَاف العواقبا) (إِذا هم ألْقى بَين عَيْنَيْهِ عزمه ... وَأعْرض عَن ذكر العواقب جانبا) (سأدحض عني العاربا بِالسَّيْفِ جالبا ... على قَضَاء اللَّهِ مَا كَانَ جالبا) فدار حول الرافقة ثمَّ رَجَعَ فَجَلَسَ فِي مَجْلِسه ثمَّ نظر فِي قصَص ورقاع فَوَقع فِيهَا صلات أحصيت ألف ألف وَسبع مائَة ألف فَلَمَّا فرغ نظر إِلَى مستطعما للْكَلَام فَقلت أصلح اللَّهِ الْأَمِير: مَا رَأَيْت أنبل من هَذَا الْمجْلس وَلَا أحسن فدعوت لَهُ ثمَّ قلت: لكنه سرف. فَقَالَ: السَّرف من الشّرف. فَأَرَدْت الْآيَة الَّتِي فِيهَا: {إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا} فَجئْت بِالْأُخْرَى: {إِن اللَّهِ لَا يحب المسرفين} فَقَالَ طَاهِر: صدق اللَّهِ وَمَا قُلْنَا كَمَا قُلْنَا، ثمَّ مَا ضرب الدَّهْر حَتَّى اجْتَمَعنَا مَعَ ابْنه عبد اللَّهِ ابْن طَاهِر فِي ذَلِك الْقصر بِعَيْنِه فَخرج علينا رَاكِبًا وَهُوَ يتَمَثَّل: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 (يأيها المتمنى أَن يكون فَتى ... مثل ابْن ليلى لقد خلى لَك السبلا) (أنظر ثَلَاث خلال قد جمعن لَهُ ... هَل سبّ من أحد أوسب أَو بخلا) ثمَّ دَار حول الرافقة ثمَّ انْصَرف وَجلسَ مَجْلِسه وحضرنا وأحضرت رقاع وقصص فَجعل يُوقع فِيهَا وَأَنا أحصى فبلغت صلَاته إلفي ألف وَسبع مائَة ألف زِيَادَة ألف ألف على مَا وصل أَبوهُ ثمَّ ألتفت لي مستطعما لكلامي فدعوت لَهُ وَحسنت فعالة ثمَّ اتبعت ذَلِك بِأَن قلت لكنه سرف. فَقَالَ: السَّرف من الشّرف. السَّرف من الشّرف. كررها فَقلت: إِنِّي كنت أسقطت عِنْد ذِي اليمينين وحدثته الحَدِيث فَمَا زَالَ يضْحك. حَدثنِي أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد المهلبي قَالَ: حَدثنِي يحيى بن الْحسن بن عَليّ بن معَاذ بن مُسلم قَالَ: إِنِّي كنت بالرقة بَين يَدي مُحَمَّد بن طَاهِر بن الْحُسَيْن على بركَة إِذْ دَعَوْت بِغُلَام لي فكلمته بِالْفَارِسِيَّةِ فَدخل العتابي وَكَانَ حَاضرا فِي كلامنا فَتكلم معي بِالْفَارِسِيَّةِ. فَقلت لَهُ: أَبَا عَمْرو مَالك وَهَذِه الرطانة؟ . قَالَ: فَقَالَ لي: قدمت بلدكم هَذِه ثَلَاث قدمات وكتبت كتب الْعَجم الَّتِي فِي الخزانة بمرو، وَكَانَت الْكتب سَقَطت إِلَى مَا هُنَاكَ مَعَ يزدْ جرد فَهِيَ قَائِمَة إِلَى السَّاعَة. فَقَالَ: كتبت مِنْهَا حَاجَتي ثمَّ قدمت نيسابور وجزتها بِعشر فراسخ إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا ذودر فَذكرت كتابا لم أقض حَاجَتي مِنْهُ فَرَجَعت إِلَى مرو فأقمت أشهرا. قَالَ: قلت أَبَا عَمْرو: لم كتبت كتب الْعَجم؟ فَقَالَ لي: وَهل الْمعَانِي إِلَّا فِي كتب الْعَجم والبلاغة. اللُّغَة لنا والمعاني لَهُم ثمَّ كَانَ يذاكرني ويحدثني بِالْفَارِسِيَّةِ كثيرا. قَالَ: وحَدثني عبد الْغفار بن مُحَمَّد النَّسَائِيّ. قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن حَفْص بن عمر، عَن أبي السمراء قَالَ: خرجنَا مَعَ الْأَمِير عبد اللَّهِ بن طَاهِر متوجهين إِلَى مصر حَتَّى إِذا كُنَّا بَين الرملة ودمشق إِذا نَحن بأعرابي قد اعْترض فَإِذا شيخ فِيهِ بَقِيَّة على بعير لَهُ أَوْرَق فَسلم علينا. فَرددْنَا عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ أَبُو السمراء: وَأَنا وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الرافقي، وَإِسْحَاق بن أبي ربعي وَنحن نساير الْأَمِير وَكُنَّا يؤمئذ أفره من الْأَمِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 دَابَّة وأجود مِنْهُ كسْوَة قَالَ: فَجعل الْأَعرَابِي ينظر فِي وُجُوهنَا قَالَ فَقلت: يَا شيخ قد ألححت فِي النّظر أعرفت شَيْئا أم أنكرته؟ قَالَ: لَا وَالله مَا عرفتكم قبل يومي هَذَا، وَلَا أنكرتكم لسوء أرَاهُ بكم وَلَكِنِّي رجل حسن الفراسة فِي النَّاس جيد الْمعرفَة بهم. قَالَ: فأشرت إِلَى إِسْحَاق بن أبي ربعي فَقلت مَا تَقول فِي هَذَا؟ فَقَالَ: - (أرى كَاتبا داهي الْكِتَابَة بَين ... عَلَيْهِ وتأديب الْعرَاق مُنِير) (لَهُ حركات قد يشاهدن أَنه ... عليم بتقسيط الْخراج بَصِير) قَالَ: وَنظر إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الرافقي فَقَالَ: - (ومظهر نسك مَا عَلَيْهِ ضَمِيره ... يحب الْهَدَايَا بِالرِّجَالِ مكور) (إخال بِهِ جبنا وبخلا وشيمة ... تخبر عَنهُ أَنه لوزير) ثمَّ نظر إِلَيّ وَأَنْشَأَ يَقُول: - (وَهَذَا نديم الْأَمِير ومؤنس ... يكون لَهُ بِالْقربِ مِنْهُ سرُور) (إخَاله الْأَشْعَار وَالْعلم رَاوِيا ... فبعض نديم مرّة وسمير) ثمَّ نظر إِلَى الْأَمِير فَأَنْشَأَ يَقُول: - (وَهَذَا الْأَمِير المرتجى سيب كَفه ... فَمَا إِن لَهُ فِيمَن رَأَيْت نَظِير) (عَلَيْهِ رِدَاء من جمال وهيبة ... وَوجه بِإِدْرَاك النجاح بشير) (لقد عصم الْإِسْلَام مِنْهُ ندا يَد ... بِهِ عَاشَ مَعْرُوف وَمَات نَكِير) (أَلا إِنَّمَا عبد الْإِلَه بن طَاهِر ... لنا وَالِد بر بِنَا وأمير) قَالَ: فَوَقع ذَلِك أحسن موقع من عبد اللَّهِ وَأَعْجَبهُ مَا قَالَ الشَّيْخ فَأمر لَهُ بِخَمْسِمِائَة دِينَار وَأمره أَن يَصْحَبهُ. قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن سعد الفِهري. قَالَ: لَقينَا البطين الشَّاعِر الْحِمصِي وَنحن مَعَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر فِيمَا بَين سَلمَة وحمص فَوقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 على الطَّرِيق فَقَالَ لعبد اللَّهِ بن طَاهِر: - (مرْحَبًا مرْحَبًا أَهلا وسهلا ... بِابْن ذِي الْجُود طَاهِر بن الْحُسَيْن) (مرْحَبًا مرْحَبًا أَهلا وسهلا ... بِابْن ذِي الغرتين فِي الدعوتين) (مرْحَبًا مرْحَبًا بِمن كَفه الْبَحْر ... إِذا فاض مُزْبِد الرجوين) (مَا يُبَالِي الْمَأْمُون أيده اللَّهِ ... إِذا كنتما لَهُ باقيين) (أَنْت غرب وَذَاكَ شَرق مُقيما ... أَي فتق أَتَى من الْجَانِبَيْنِ) (وحقيق إِذْ كنتما فِي قديم ... لزريق وَمصْعَب وحسين) أَن تنالا مَا نلتماه من الْمجد ... وَأَن تعلوا على الثقلَيْن) قَالَ من أَنْت ثكلتك أمك؟ . قَالَ: أَنا البطين الشَّاعِر الْحِمصِي. قَالَ: أركب يَا غُلَام وَأنْظر كم بَيت قَالَ: قَالَ: سَبْعَة فَأمر لَهُ بسبعة آلَاف دِرْهَم. أَو سبع مائَة دِينَار ثمَّ لم يزل مَعَه حَتَّى دخلُوا مصر والاسكندرية حَتَّى انخسف بِهِ وبدايته مخرج فَمَاتَ فِيهِ بالاسكندرية. حَدثنِي مَسْعُود بن عِيسَى بن إِسْمَاعِيل الْعَبْدي. قَالَ: أَخْبرنِي مُوسَى بن عبيد اللَّهِ التَّمِيمِي. قَالَ: وَفد إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر عدَّة من الشُّعَرَاء فَعلم أَنهم على بَابه فَقَالَ لِخَادِمِهِ وَكَانَ أديبا: أخرج إِلَى الْقَوْم فَقل لَهُم من كَانَ مِنْكُم يَقُول كَمَا قَالَ كُلْثُوم بن عَمْرو فِي الرشيد حَيْثُ يَقُول: - (فت الممادح إِلَّا أَن ألسننا ... مستنطقات بِمَا تخفي الضمائير) (مستنبط عَزمَات الْقلب من فكر ... مَا بَينهُنَّ وَبَين اللَّهِ معمور) (مَاذَا عَسى مادح يثنى عَلَيْك وَقد ... ناداك فِي الْوَحْي تقديس وتطهير) فَمن كَانَ مِنْكُم يَقُول مثل هَذَا وَإِلَّا فليرحل إِلَّا أَرْبَعَة. فَخرج إِلَيْهِم رَسُوله ثَانِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فَقَالَ: من يضف إِلَى هَذَا الْبَيْت على حُرُوف قافيته بَيْتا وَهُوَ: - (لم يَصح للبين مِنْهُم صرد ... وغراب لَا وَلَكِن طيطوى) فَقَالَ رجل من أهل الْموصل: - (فأستقلوا بكرَة يقدمهم ... رجل يسكن حصني نينوي) فَقَالَ للرسول: قل لَهُ لم تعْمل شَيْئا فَهَل عِنْده غَيره شَيْء فَقَالَ أَبُو السناء الْقَيْسِي: - (ونبيطي طفا فِي لجه ... صَاح لما كظه التعطيط وى) فصوبه وَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ دِينَارا. قَالَ: وامتحن عبد اللَّهِ بن طَاهِر غير هَؤُلَاءِ من الشُّعَرَاء فَقَالَ: - (قنبره تنقر فِي قَرْيَة ... وسط قراح لبنى منقر) من كَانَ مِنْكُم يحيب بِبَيْت مثله فِيهِ خمس قافات وَخمْس راءات؟ فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء: - (قرت بِهِ منقر وأستأنست ... بقمري ينقر مَعَ قنبر) فصوبه وَأَجَازَهُ. حَدثنَا مُحَمَّد بن الْهَيْثَم بن عدي: قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن براق. أَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر أهْدى إِلَى الْمَأْمُون قينة وأمرها أَن تنشد شعرًا لعبد اللَّهِ فَلَمَّا جَلَست فِي مجْلِس الْمَأْمُون أنشأت تَقول كَمَا أمرهَا عبد اللَّهِ: - (أغمدي سَيفي وَقَوْلِي ... جم ياسيف طَويلا) (قد فتحت الشرق والغرب ... وَآمَنت السبيلا) فَلَمَّا فرغت قَالَ لَهَا الْمَأْمُون لَا تقطعي صَوْتك وَقَوْلِي مَا أَقُول لَك: - (بِنَا نلْت الَّذِي نلْت ... فدع عَنْك الفضولا) (أَنْت لَوْلَا نَحن فِي الشكة ... لم تسو فتيلا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ثمَّ قَالَ: أرجعي إِلَيْهِ فأنشديه هَذَا فَإِن شَاءَ بعد فليردك. قَالَ ابْن أبي طَاهِر اشْترى عبد اللَّهِ بن طَاهِر جَارِيَة المارقي بِخَمْسَة آلَاف دِينَار، وأهداها إِلَى الْمَأْمُون فَلَمَّا أدخلت عَلَيْهِ قَالَ لَهَا: غَنِي يَا جَارِيَة، فغنت وَهِي قَائِمَة. فَقَالَ لَهَا: لم غنيت وَأَنت قَائِمَة، وَمَا مَنعك من الْجُلُوس؟ فَقَالَت يَا سَيِّدي: أَمرتنِي أَن أغْنى وَلم تَأْمُرنِي أَن أَجْلِس فغنيت بِأَمْرك، وكرهت سوء الْأَدَب فِي الْجُلُوس بِغَيْر إذنك. فوهب لَهَا مَالا وَاسْتحْسن ذَلِك من فعلهَا. وَذكر عَن أبي السمراء قَالَ: كنت يَوْمًا عِنْد أبي الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن طَاهِر رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَلَيْسَ فِي الْمجْلس غَيْرِي وَأَنا بِالْقربِ مِنْهُ وَدخل أَبُو الْحُسَيْن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم فأستدناه أَبُو الْعَبَّاس وناجاه شَيْء أعْتَمد إِسْحَاق على سَيْفه وأصغى لمناجاته وحولت وَجْهي وَأَنا ثَابت مَكَاني وطالت النَّجْوَى بَينهمَا وأعترتني حيرة فِيمَا بَين الْقعُود على مَا أَنا عَلَيْهِ أَو الْقيام وَانْقطع مَا كَانَا فِيهِ وَرجع إِسْحَاق إِلَى موقفه وَنظر إِلَى أَبُو الْعَبَّاس فَقَالَ يَا أَبَا السمراء: - (إِذا النجيان دسا عَنْك أَمرهمَا ... فأرتج بسمعك تجْهَل مَا يَقُولَانِ) (وَلَا تحملهما ثقلا بخوفهما ... بِهِ تناجيهما فِي الْمجْلس الداني) قَالَ أَبُو السمراء فَمَا رَأَيْت أكْرم مِنْهُ، وَلَا أرْفق تأديبا ترك مطالبتي فِي هفوتي بِحَق الْأُمَرَاء وادبني أدب النظراء. وَذكر عَن مُحَمَّد بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن الْكَاتِب: أَنه حضر أَبَا الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن طَاهِر وَعِنْده شيخ من الْفرس فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ فِي عرض كَلَام جرى من حكم الْفرس كلمتان أرويهما. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس وَمَا هما؟ قَالَ: كَانَت الْفرس تَقول لَا توحش الْحر فَإِن أوحشته فَلَا ترتبطه، وَكَانَت تَقول: أدابنك اللَّهِ تعْمل الشَّرّ فَإِنِّي إِذا رَأَيْتُك عَاملا بِهِ رَأَيْته وَاقعا بك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 حَدثنِي مُحَمَّد بن عِيسَى قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن طَاهِر: آفَة الشَّاعِر الْبُخْل قَالَ قلت: وَمَا مِقْدَار بِهِ يبخل الشَّاعِر أعز اللَّهِ الْأَمِير. قَالَ: يَقُول أحدهم من الشّعْر خمسين بَيْتا فيفسده بِبَيْت يبخل يطرحه. حَدثنِي بعض آل طَاهِر أَن أَبَا الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن طَاهِر لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى نَاحيَة الشأم لمحاربة نصر بن شبث سَأَلَهُ الْمَأْمُون عَمَّن يسْتَخْلف بِمَدِينَة السَّلَام. فَقَالَ: اسْتخْلف أعو اللَّهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ اليقطيني فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون لَا تخرج هَذَا الْأَمر من أهلك. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَيْسَ فِي أَهلِي من يصلح لخدمة أَمِير الْمُؤمنِينَ: وأرتضيه لَهُ: فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: اسْتخْلف وَنحن نقومه لَك. فَلَمَّا لست أرتضيه، أَو كَمَا قَالَ. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: اسْتَخْلَفَهُ وَنحن نقومه لَك. فَلَمَّا انْصَرف عبد اللَّهِ من الشأم ووافي مَدِينَة السَّلَام قَالَ لَهُ الْمَأْمُون يَوْمًا يَا أَبَا الْعَبَّاس: كَيفَ رَأَيْت تقويمنا إِسْحَاق بعْدك. قَالَ: وَقَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا لأَصْحَابه: هَل تعرفُون رجلا برع بِنَفسِهِ حَتَّى مد أَهله، وبرز على جَمِيع أهل دهره فِي نزاهة نَفسه، وَحسن سيرته، وكرم حزبيته فَذكر قوم نَاسا فأطروهم. فَقَالَ: لم أرد هَؤُلَاءِ. فَقَالَ على بن صَالح صَاحب الْمصلى: مَا أعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أحدا أكمل هَذِه الْخِصَال إِلَّا عمر بن الْخطاب رَحمَه اللَّهِ. فَقَالَ الْمَأْمُون: اللَّهُمَّ غفرا لم نرد قُريْشًا وَلَا أخلافها. فَأمْسك الْقَوْم جَمِيعًا. فَقَالَ الْمَأْمُون: ذَاك عبد اللَّهِ بن طَاهِر وليته مصر وأموالها جمة فَعرض عَلَيْهِ عبيد اللَّهِ بن السرى من الْأَمْوَال مَا يقصر عَنهُ الْوَصْف كَثْرَة فَمَا تعرض لدينار مِنْهَا وَلَا دِرْهَم، وَمَا خرج عَن مصر إِلَّا بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَثَلَاثَة أَفْرَاس وحمارين وَلكنه غرس يدى وخريج أدبي ولأنشدنكم أبياتا فِي صفته ثمَّ تمثل: - (حَلِيم مَعَ التَّقْوَى شُجَاع مَعَ الجدا ... ندى حِين لَا يندى السَّحَاب سكوب) (شَدِيد منَاط الْقلب فِي الْموقف الَّذِي ... بِهِ لقلوب الْعَالمين وجيب) (ويجلو أمورا لَو تكلّف غَيره ... لمات خفاتا أَو يكَاد يذوب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 (فَتى هُوَ من غير التخلق ماجد ... وَمن غير تَأْدِيب الرِّجَال أديب) حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ: سَمِعت عبد اللَّهِ بن طَاهِر يعظ مَنْصُور بن طَلْحَة وينهاه عَن الْكَلَام فِي الْإِمَامَة يَقُول: إِنَّمَا نبت شعرنَا على رؤوسنا ببني الْعَبَّاس وَلَو كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذِي يعزى إِلَيْهِم هَذَا الْأَمر فِي مَكَان هَؤُلَاءِ لكَانَتْ الرَّحْمَة من النَّاس لَهُم لِأَن سَبِيل النَّاس على ذَلِك. وَمن أَخْبَار طَلْحَة بن طَاهِر بن الْحُسَيْن قَالَ أَحْمد: بن أبي طَاهِر: حَدثنِي أَبُو مُسلم عبد الرَّحْمَن بن حَمْزَة بن عفيف، حَدثنِي أبي قَالَ: خرجنَا إِلَى الصَّيْد مَعَ طَلْحَة بن طَاهِر فطفنا فَلم نصب شَيْئا ومعنا أَبُو السحيل، وَأحمد بن أبي نصر يلْعَب بالشطرنج قَالَ: فَالْتَفت إِلَى فَقَالَ: رَأَيْت مثل هَذَا الْيَوْم؟ قَالَ قلت: وَقد حضرني فِيهِ أَبْيَات ثمَّ أنشأت أَقُول: - (كَيفَ بالصيد لنا يَا ... قوم لَا بل كَيفَ كيفا) (بل بمحدودين قد هزا ... لنا رمحا وسيفا) (فَلَو أَن الْوَحْش طرا ... حشرت مشتى وصيفا) (وَخَرجْنَا وهما مَعنا ... فَمَا صدنَا خشيفا) المحدودين أَبُو السحيل، وَأحمد بن أبي نصر. قَالَ: وحَدثني أبي قَالَ: خرجنَا مَعَ طَلْحَة إِلَى الصَّيْد ومعنا عِقَاب فمررنا بإمرأة وَهِي تغسل بنيا لَهَا سمينا كالفهد فمضينا إِلَى صيدنا فَلَمَّا تباعدنا عَن الْمَرْأَة خلا الْعقَاب فأرسلناه فأنقض نَحْو الْمَرْأَة قَالَ قلت: ذهب وَالله الصَّبِي. قَالَ: فاتبعناه فوجدناه قد خطف الصَّبِي من الْمَرْأَة ورفعة إِلَى الْهَوَاء فضربنا لَهُ الطبل فَأرْسلهُ مَيتا. فَقَالَ لى طَلْحَة مَا ترى أَن أصنع؟ . قلت: تعطيها دِيَته فَأَعْطَاهَا دِيَته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عَليّ بن طَاهِر. قَالَ: حَدثنِي خزامي جَارِيَة الْعَبَّاس ابْن جَعْفَر الأشعثي الْخُزَاعِيّ اليمامية وَكَانَت قارئة تقْرَأ قَالَت: كَانَ عمك طَلْحَة يزور الْفضل بن الْعَبَّاس فَيخرج جمَاعَة من جواري أَبِيه إِلَيْهِ، فَذكرت لطلْحَة جَارِيَة مغنية قدم بهَا من الْعرَاق فَأمر بإحضارها فأحضرت مَعَ مَوْلَاهَا فأدخلت وَقعد مَوْلَاهَا خَارج الدَّار فنولت الْعود وَقيل تغنى فأندفعت تغنى: - (شوقي إِلَيْك جَدِيد ... فِي كل يَوْم يزِيد) (وَالْعين بعد دموع ... مثل السَّحَاب يجود) وَهِي تبْكي ودموعها على عودهَا تقطر فَقَالَ لَهَا: وَيحك مَالك تبكين؟ فَقَالَت: إِنَّهَا تحب مَوْلَاهَا ومولاها يُحِبهَا. قَالَ: فَلم يبيعك؟ . قَالَت الْخلَّة، فَأمر بشراها فأشتريت بإثنى عشر ألف دِرْهَم وَدفع المَال إِلَى الْمولى ثمَّ أَمر بمسئلته عَن الْخَبَر فَوَافَقَ قَول الْجَارِيَة فَأمر بِتَسْلِيم الْجَارِيَة إِلَيْهِ وَترك المَال عَلَيْهِ. حَدثنِي أَحْمد بن يحيى الرَّازِيّ. قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن الْمثنى بن الْحجَّاج عَن قُتَيْبَة ابْن مُسلم قَالَ: بعث إِلَى طَلْحَة بن طَاهِر يَوْمًا وَقد انْصَرف من وقْعَة الشراة وَقد أَصَابَته ضَرْبَة فِي وَجهه. فَقَالَ الْغُلَام: أجب. قَالَ قلت: وَمَا يعْمل؟ قَالَ: يشرب فمضيت إِلَيْهِ فَأدْخل فَإِذا هُوَ جَالس قد عصب ضَربته وتقلنس بقلنسوة مَكِّيَّة. فَقلت: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيهَا الْأَمِير مَا حملك على لبس هَذَا. قَالَ: تبرما بِغَيْرِهِ. ثمَّ قَالَ بِاللَّه غنيني (إِنِّي لأكنى بأجبال عَن أجبلها ... وباسم أَوديَة عَن اسْم واديها) (عمدا ليحسبها الواشون غَائِبَة ... أُخْرَى ويحسب أَنِّي لَا أباليها) قَالَ: أَحْسَنت وَالله أعد. فمازلت أعيدهما عَلَيْهِ حَتَّى حَضَره الْعَتَمَة فَقَالَ لخادم لَهُ: هَل بالحضرة من مَال؟ فَقَالَ: مِقْدَار سبع بدر. فَقَالَ: تحمل مَعَه. فَلَمَّا خرجت من عِنْده تَبِعنِي جمَاعَة من الغلمان يسئلوني فوزعت المَال فيهم. فَرجع إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الْخَبَر فَكَأَنَّهُ وجد على من ذَلِك فَلم يبْعَث إِلَى ثَلَاثًا فَجَلَست لَيْلَة فتناولت الدواة وأنشأت أَقُول: - (عَلمنِي جودك السماح فَمَا ... أبقيت شَيْئا لَدَى من صلتك) (تَمام شهر أَلا سمحت بِهِ ... كَأَن لى قدرَة كمقدرتك) (تتْلف فِي الْيَوْم بالهبات وَفِي السَّاعَة ... مَا تجتنيه فِي سنتك) (وَلست أدرى من أَيْن ينْفق لَو ... لَا أَن رَبِّي يجزى على هِبتك) فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الرَّابِع بعث إِلَى فصرت إِلَيْهِ فَدخلت فَسلمت فَرفع صَوته إِلَى ثمَّ قَالَ: اسقوه رطلين فسقيت رطلين ثمَّ قَالَ غنني قَالَ: فغنيته بِهَذِهِ الأبيات. فَقَالَ لي: ادن. فدنوت. فَقَالَ لي: أَجْلِس فَجَلَست. فَقَالَ لي: أعد الصَّوْت. فَأَعَدْت ففهمه فَلَمَّا عرف معنى الشّعْر قَالَ لخادم لَهُ: أحضرني مُحَمَّدًا يَعْنِي الطاهري فَقَالَ لَهُ مَا عنْدك من مَال الضّيَاع؟ قَالَ: ثَمَان مائَة ألف. قَالَ. أحضر نيها السَّاعَة فجيء يثمانين بدرة فَقَالَ: غلْمَان فأحضر ثَمَانُون مَمْلُوكا فَقَالَ أوصلوا المَال، ثمَّ قَالَ لي يَا مُحَمَّد: خُذ المَال والمماليك لَا تحْتَاج أَن تعطيهم شَيْئا. ذكر وَفَاة طَلْحَة بن طَاهِر قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا. قَالَ: بعث الْمَأْمُون إِلَى كَاتب لطلْحَة يُقَال لَهُ على بن يحيى فَطَلَبه فأشخصه إِلَيْهِ وَخرج مشيعا لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ أكل من هَذَا المبرقط بالربيثاء فاشتكى بَطْنه فَقَالَ أجد فِي بَطْني وجعا. قَالَ: ثمَّ أصبح فَوَجَدَهُ فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْم الْأَحَد مَاتَ. قَالَ قلت لَهُ: بخراسان ربيثاء؟ قَالَ: يحمل من الْعرَاق أَي يَابِس. قَالَ: وَكَانَت وَفَاته ببلخ فرثاه أَبُو السحيل بِشعر لَهُ طَوِيل يَقُول فِيهِ: - (ألم ببلخ على الْقُبُور مُسلما ... إِن الْقُبُور حَقِيقَة بالمام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 (شوقا إِلَى جدث أَقَامَ بقفرة ... من كَانَ معتليا على ألأقوام) (يَا قبر طَلْحَة فِيك مثوى سيد ... لمسودين مهذبين كرام) (من معشر تروى السيوف أكفهم ... لَا يحسرون سواعدا للطامي) قَالَ: وَكَانَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر يسير بَين يَدي الْمَأْمُون بالحربة على أصفر فَمر أَبُو عِيسَى عَن الموكب حَتَّى ساير عبد اللَّهِ بن طَاهِر فَقَالَ لَهُ: كَانَ لي برذون أصفر كَأَنَّهُ برذونك هَذَا. قَالَ إِذا يكون أصفرى هُوَ المصدوم. (ذكر أَخْبَار من أَخْبَار الْمَأْمُون عَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر) قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: ذكر لنا عَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر قَالَ: سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول: الْهَوَاء جسم، وَكَانَ يُخَالف من يَقُول أَنه غير جسم. قَالَ عبد اللَّهِ: وأرانا الْمَأْمُون دَلِيله على ذَلِك فَدَعَا بكوز زجاج لَهُ بلبلة فَوضع أُصْبُعه على البلبلة وملأ الْكوز مَاء فَامْتَلَأَ إِلَى أَعْلَاهُ وَلم يدْخل البلبة مِنْهُ شَيْء فَلَمَّا رفع أُصْبُعه من البلبة صَار المَاء فِيهَا حَتَّى فار فَخرج فَدلَّ على أَن الَّذِي كَانَ فِي البلبة هَوَاء مَحْصُور، وَأَن المحصور جسم. حَدثنِي سُلَيْمَان بن يحيى بن معَاذ، عَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر، عَن الْمَأْمُون قَالَ: تَفْسِير حَدِيث: " إِذا لم تستح فافعل مَا شِئْت " إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِذا كنت تفعل مَا لَا يستحي مِنْهُ فافعل مَا شِئْت. قَالَ: وحَدثني سُلَيْمَان بن يحيى بن معَاذ، عَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر عَن الْمَأْمُون قَالَ: أرسل الْوَلِيد بن يزِيد إِلَى شراعة بن زيد فَدخل عَلَيْهِ فِي قلنسوة طَوِيلَة وطيلسان فَقَالَ الْوَلِيد لحاجبه: أهوَ هُوَ؟ ؟ فَقَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: إِنَّا لم نبعث إِلَيْك نسئلك عَن الْكتاب وَالسّنة قَالَ: لَو سَأَلَني أَمِير الْمُؤمنِينَ عَنْهُمَا لوجدني بهما جَاهِلا فسر الْوَلِيد بذلك فَقَالَ لَهُ: أَجْلِس فأسئلك عَن الشَّرَاب. فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أَي الشَّرَاب يسْأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: عَن السويق. قَالَ: شراب المأتم وَالنِّسَاء وَلَا يشْتَغل بِهِ عَاقل. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن اللَّبن؟ قَالَ: فَقَالَ شراعة: إِنِّي لأَسْتَحي أُمِّي من كَثْرَة مَا أرتضعت من ثدييها أَن أَعُود فِي اللَّبن. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن المَاء؟ قَالَ: يشركك فِيهِ كل وغد حَتَّى الْحمار والبغل. فَقَالَ لَهُ: حَدثنِي عَن نَبِيذ التَّمْر؟ . قَالَ سريع الْأَخْذ. سريع الانفشاش. قَالَ: فَمَا تَقول فِي نَبِيذ الزَّبِيب؟ قَالَ: حثيث الْمدْخل عسر الْمخْرج. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن الْخمر؟ قَالَ: تِلْكَ صديقَة روحي. فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: أَي الطَّعَام خير لأَصْحَاب الشَّرَاب؟ قَالَ الحلو خير لَهُم. وهم إِلَى الحامض أقرب. قَالَ: فَأَي الْمجَالِس خير لَهُم؟ قَالَ عجبت مِمَّن لَا يُؤْذِيه حر الشَّمْس وَلَا برد ظلّ كَيفَ يخْتَار على وَجه السَّمَاء نديما. فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: أَنْت صديقي فَدَعَا لَهُ بقدح يُقَال لَهُ زب فِرْعَوْن فَقَالَ: لَا يسقى فِيهِ إِلَّا أخص النَّاس بِهِ فَسَقَاهُ فِيهِ ذكر أَخْبَار ابْن عَائِشَة ومقتله فِي أَيَّام الْمَأْمُون قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر لما كَانَ سنة عشر وَمِائَتَيْنِ أَخذ إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة، وَمَالك ابْن شاهي وأصحابهم يَوْم السبت لست خلون من صفر وَأمر الْمَأْمُون بحبسهم. وَكَانَ مقتل ابْن عَائِشَة، وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم الإفْرِيقِي وأصحابهم لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة بقيت من جمادي الْآخِرَة وصلبوا يَوْم الثُّلَاثَاء وصلب البغواري مَعَهم لليلة بقيت من رَجَب وَكَانَ سَبَب حَبسهم أَنهم كَانُوا يدعونَ إِلَى إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي. قَالَ ابْن شبانة: أَقَامَ الْمَأْمُون إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة فِي الشَّمْس ثَلَاثَة أَيَّام على بَاب الْمَأْمُون وضربه يَوْم الثُّلَاثَاء بالسياط، وحبسه فِي المطبق، وَضرب مَالك بن شاهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَأَصْحَابه وَكَتَبُوا لِلْمَأْمُونِ تَسْمِيَة من دخل مَعَهم فِي هَذَا الامر من القواد وَغَيرهم فَلم يعرض لَهُم الْمَأْمُون، وَكَانُوا قد اتعدوا على أَن يقطعوا الجسر إِذا خرج الْجند يستقبلون نصر بن شبث فغمز بهم فَأخذُوا وَدخل نصر وَحده لم يستقبله أحد. حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن عَمْرو الْبَلْخِي قَالَ: حَدثنِي يحيى بن الْحسن بن عبد الْخَالِق خَال الْفضل بن الرّبيع. قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن جرير مولى آل الْمسيب قَالَ: قَالَ عَيَّاش بن الْهَيْثَم: لما كَانَ لَيْلَة المطبق حضرت فِي وَاسِط من الْقَوْم فرآني الْمَأْمُون فَقَالَ: يَا بَائِع العساكر. يَا صديق عِيسَى ابْن أبي خَالِد تَأَخّر إِلَى السَّاعَة. مَا أملكهُ صدقه وقتلني اللَّهِ إِن لم أَقْتلك فأخفيت مِنْهُ. قَالَ: ثمَّ قلت إِن لم يرني فَذَاك أسْرع لذكره فظهرت لَهُ وَقد خرج من الطافات فَنظر إِلَيّ فَقَالَ: أدنه فدنوت فَقَالَ: من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر وَالْكَفَّارَة أصلح من قَتلك وَلَا تعد. قَالَ ابْن شبانة: وَفِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ قتل إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة وَمن كَانَ مَحْبُوسًا مَعَه وَفِيهِمْ رجل يُقَال لَهُ أَبُو مِسْمَار من شطار بَغْدَاد وَرجل آخر لم يسمه وَكَانَ السَّبَب فِي قَتلهمْ بعد حَبسهم أَن أهل المطبق رفع عَلَيْهِم أَنهم يُرِيدُونَ أَن يشغبوا. وَأَن ينقبوا السجْن، وَكَانُوا قبل ذَلِك بِيَوْم قد سدوا بَاب السجْن من دَاخل فَلم يدعوا أحدا يدْخل عَلَيْهِم فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل وسمعوا شغبهم وأصواتهم وَبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ خبرهم ركب إِلَيْهِم ودعا بهؤلاء الْأَرْبَعَة فَضرب أَعْنَاقهم فَلَمَّا كَانَ بِالْغَدَاةِ صلبهم على الجسر الْأَسْفَل وَذَلِكَ فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن الْهَيْثَم بن شَبابَة فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة بقيت من جمادي الْآخِرَة، وَلما كَانَ من غَد يَوْم الْأَرْبَعَاء أنزل إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة فَكفن وَصلى عَلَيْهِ وَدفن فِي مَقَابِر قُرَيْش، وَأنزل الإفْرِيقِي فَدفن فِي مَقَابِر الخيزران من الْجَانِب الشَّرْقِي وَترك الْبَاقُونَ على حَالهم. وَقد ذكرُوا أَن ابْن عَائِشَة وَأَصْحَابه كَانُوا دسوا من أحرق سوق العطارين، والصيارفة، والصفارين، والفرائين وَأَصْحَاب الراه دَار وَبَعض الريابين وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لَيْلَة السبت لليلة بقيت من جمادي الأولي. وَقبل ذَلِك أَو بعده مَا أحرقوا أَصْحَاب الْحَطب فِي البغيين وَقَالَ بَعضهم لَيْلَة الْجُمُعَة لأَرْبَع خلون من رَجَب وَقَالَ بَعضهم قبل ذَلِك. وَقَالَ الْقَاسِم بن سعيد سَمِعت الْفضل بن مَرْوَان يَقُول: كَانَ أَبُو إِسْحَاق المعتصم بِاللَّه فِي اللَّيْلَة الَّتِي ركب الْمَأْمُون فِيهَا لقتل ابْن عَائِشَة عليلا قَالَ: فَبعث الْمَأْمُون إِلَى أبي إِسْحَاق أبْعث إِلَى بكاتبك الْفضل وَليكن مَعَه جَمِيع قوادك وجندك فركبت أَنا وهم جَمِيعًا معي وَقلت لَيْسَ هُوَ إِلَى شَيْء أحْوج مِنْهُ إِلَى شمع وَكَانَ فِي خزانَة أبي إِسْحَاق يَوْمئِذٍ سبع مائَة شمعة فحملتها معي وَرفعت إِلَى كل وَاحِد من الرجالة عشرا يحملهَا ثمَّ دَخَلنَا الْمَدِينَة فَلم نصل إِلَى الْمَأْمُون من كَثْرَة النَّاس. فَقلت لَهُ: بَلغنِي أَن حميدا كَانَ أول من لحق بِهِ. فَقَالَ: لَا. وَجَاء إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فَلم يصل من الزحام وَكَانَ شاربا يَعْنِي إِسْحَاق كَانَ يشرب عِنْده تِلْكَ اللَّيْلَة عُمَيْر الباذغيسى، وَكَانَ الْمَأْمُون أَيْضا شاربا وَلم يكن بالممتلئ. قَالَ: فوقفت فِي طَرِيقه فِي الْمَدِينَة فَلَمَّا انْصَرف بعد أَن قتل ابْن عَائِشَة فَبلغ إِلَى موضعي نزلت عَن دَابَّتي فَقَالَ: من هَذَا؟ قلت: الْفضل جعلني اللَّهِ فدَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: أركب مَعَك القواد والجند؟ قلت: نعم قَالَ: ومعك الشمع؟ قلت: نعم فَأمرت حِينَئِذٍ بعض من يقرب مني أَن يقف ثَلَاث مائَة رجل من الرجالة مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم شمعة على بَاب خُرَاسَان فَفَعَلُوا. فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِم قَالَ: مَا هَذَا؟ قلت الشمع الَّذِي سَأَلَني عَنهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: بَارك اللَّهِ عَلَيْك. قَالَ: ثمَّ قَالَ لي: خلف جَمِيع من مَعَك هَا هُنَا قَالَ: وَفِيهِمْ الأفشين وأشناس وَتقدم إِلَيْهِم أَن يقفوا يَعْنِي فِي الْمَدِينَة على ظُهُور دوابهم، ويفوقوا قسيهم فَإِن تحرّك شَيْء أَتَوا عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَمَرتهمْ بذلك. ثمَّ قَالَ: أمض إِلَى أخي فأقراه السَّلَام وَقل لَهُ: قد قتل اللَّهِ عدوا لَك من حَاله وَأمره. وَمن قبل ذَلِك قد أَمرنِي بالْمقَام فِي الْمَدِينَة ثمَّ قَالَ: لهَذَا غَيْرك فَحِينَئِذٍ أَمرنِي أَن أخلف من معي هُنَاكَ مستعدين. قَالَ: ثمَّ بكر هُوَ على أبي إِسْحَاق فخبره الْخَبَر وَقَالَ لَهُ: قَامَ الْفضل بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 نحتاج إِلَيْهِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاق بعد ذَلِك لَا يخل خزائنه من خَمْسَة آلَاف شمعة عدَّة. قَالَ: الْقَاسِم بن سعيد فَقلت للفضل بلغنَا أَن ابْن عَائِشَة شتم الْمَأْمُون فِي وجهة تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَن ذَلِك دَعَاهُ إِلَى قَتله؟ فَقَالَ: لَا. وَلَا كلمة وَاحِدَة الْبَتَّةَ. قَالَ: وَلما ركب الْمَأْمُون إِلَى المطبق فِي اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِيهَا إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة، والإفريقي وَأَصْحَابه الْتفت فَإِذا هُوَ بِعَبْد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق فَقَالَ لَهُ: جَزَاك اللَّهِ خيرا فَأَنت وَالله للسار، والعار، وَالْخَيْر، وَالشَّر، والشدة، والرخاء لَا كالمنتفح الأعفاج الْكثير اللجاج لَا يمت بقديم حُرْمَة، وَلَا بِحَدِيث خدمَة أَكثر من كَانَ فِي الْفِتْنَة شاطرا وَفِي السَّلامَة مقامرا. قَالَ: وَإِذا عَيَّاش بن الْقَاسِم صَاحب الجسر قد طلع. فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن اللخناء يحضر الْحَاكِم ضرب الْأَعْنَاق وَصَاحب الشرطة مَشْغُول بمجالسة الْفُسَّاق. قَالَ فارتج على عَيَّاش فَقَالَ الْمَأْمُون: هَذَا الَّذِي كُنَّا فِي ذكره آنِفا. قَالَ قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: شيخ قد ثقل عَن الْحَرَكَة قَالَ: لَا تقل هَذَا. فوَاللَّه لقد تغدى الْيَوْم مَعَ ابْن الْعَلَاء وَشرب مَعَه وناكه فَأَعْرض عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَنهُ بِوَجْهِهِ وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أعلم برعاياه وَأَصْحَابه منا. قَالَ: واستقبله الْجَعْفَرِي الملقب بكلب الْجنَّة وَمَعَهُ لِحَاف قد تترس بِهِ وعصا قد أَخذهَا من حطب الْبَقَّال فَقَالَ: مَا هَذَا؟ . فَقَالَ يَا سَيِّدي: لم يحضرني غير لِحَافِي فَجَعَلته مجنا، وعصا وَجدتهَا مَعَ حطب الْبَقَّال فأختلستها مِنْهُ فَقَالَ: لله أَبوك فقد جدت بِنَفْسِك، وأسرعت إِلَى إمامك وَأمر لَهُ بِعشْرين ألف دِرْهَم. حَدثنِي يحيى بن الْحسن قَالَ: قَالَ ابْن مَسْعُود القَتَّات: لما قتل الْمَأْمُون ابْن عَائِشَة وَأَصْحَابه تمثل بِشعر مُسلم بن الْوَلِيد فَقَالَ: (أَنا النَّار فِي أحجارها مستكنة ... فَإِن كنت مِمَّن يقْدَح النَّار فأقدح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ذكر أَمر إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وظفر الْمَأْمُون بِهِ بعد دُخُوله بَغْدَاد وعفوه عَنهُ حَدثنِي أَحْمد بن هَارُون، عَن أبي يَعْقُوب مؤدب ولد أبي عباد قَالَ: بعث الْمَأْمُون إِلَى شكْلَة أم إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي عِنْد دُخُوله إِلَى بَغْدَاد وأختفاء إِبْرَاهِيم مِنْهُ يسْأَلهَا عَنهُ، ويهددها ويتوعدها إِن لم تدل على مَكَانَهُ فَبعثت إِلَى الْمَأْمُون: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أَنا أم من أمهاتك، فَإِن كَانَ ابْني عصى اللَّهِ جلّ وَعز فِيك فَلَا تعص اللَّهِ فِي فرق لَهَا الْمَأْمُون وَأمْسك عَنْهَا فَلم يطالبها بعد ذَلِك. وحَدثني: أَنه لما طَال حصر إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وتنقله خَافَ أَن يظْهر عَلَيْهِ فَكتب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ: ولى الثأر مُحكم فِي الْقصاص (وَالْعَفو أقرب للتقوى) وَمن تنَاوله الاغترار بِمَا مد لَهُ من أَسبَاب الرَّجَاء أمكن عَادِية الدَّهْر على نَفسه، وَقد جعلك اللَّهِ فَوق كل ذِي ذَنْب كَمَا جعل كل ذِي ذَنْب دُونك، فَإِن أخذت فبحقك، وَإِن عَفَوْت فبفضلك. قَالَ: فَوَقع الْمَأْمُون فِي حَاشِيَة رقعته: الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة، والندم تَوْبَة /، وَبَينهمَا عَفْو اللَّهِ. وَهُوَ أَكثر مِمَّا يسئله. وَأَخْبرنِي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي لِلْمَأْمُونِ لما دخل عَلَيْهِ بعد الظفر بِهِ: ذَنبي أعظم من أَن يُحِيط بِهِ عذر، وعفو أَمِير الْمُؤمنِينَ أجل من أَن يتعاظمه ذَنْب. فَقَالَ الْمَأْمُون: حَسبك. فَإنَّا إِن قتلناك فَللَّه. وَإِن عَفَوْنَا عَنْك فَللَّه. قَالَ أَبُو حسان الزيَادي: كَانَ ظفر الْمَأْمُون بإبراهيم بن الْمهْدي فِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ فِي لَيْلَة الْأَحَد لثلاث عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر ربيع الآخر، وَكَانَ بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الحراس أَخذه لَيْلًا وَهُوَ متنقب مَعَ امْرَأتَيْنِ فرفعه إِلَى الجسر فَرفع إِلَى دَار الْمَأْمُون من ليلته فَلَمَّا كَانَ غَدَاة الْأَحَد قعد فِي دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ لينْظر إِلَيْهِ بَنو هَاشم، والقواد، والجند، وصيروا المقنعة الَّتِي كَانَ متقنعا بهَا فِي عُنُقه، والملحفة الَّتِى كَانَ ملتحفا بهَا فِي صَدره ليراه النَّاس ويعلموا كَيفَ أَخذه فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس حوله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى دَار احْمَد بن أبي خَالِد فحبسه عِنْده فَلم يزل فِي حَبسه إِلَى أَن خرج الْمَأْمُون إِلَى الْحسن بن سهل فِي عسكره وَبني ببوران بنت الْحسن فَأخْرج إِبْرَاهِيم مَعَه إِلَى الْمَدِينَة الَّتِي كَانَ الْحسن بناها بِفَم الصُّلْح. فَقَالَ قوم: إِن الْحسن كلمة فِيهِ فَأَطْلقهُ ورضى عَنهُ، وخلى سَبيله، وصيره عِنْد أَحْمد بن أبي خَالِد وصير مَعَه ابْن يحيى بن معَاذ، وخَالِد بن يزِيد بن مزِيد يَحْفَظُونَهُ إِلَّا أَنه موسع عَلَيْهِ عِنْده أمه وَعِيَاله ويركب إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهَؤُلَاء مَعَه يَحْفَظُونَهُ. وحَدثني الْحَارِث المنجم: أَن الْمَأْمُون كَانَ صير لبوران ثَلَاثَة حوائج لما دخل بهَا فَكَانَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَحدهَا فَرضِي عَنهُ وَأطْلقهُ. وَحدثنَا الْحَارِث: أَن إِبْرَاهِيم لما دخل على الْمَأْمُون قَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن رَأَيْت أَن تسمع عُذْري وَإِن كَانَ لَا عذر لي وَلَكِن الْإِقْرَار حجَّة لي فِي الْعَفو عني وَقد جردت الْإِقْرَار بالذنب فَقَالَ: قل. فَأَنْشد: - (يَا خير من ذملت يَمَانِية بِهِ ... بعد الرَّسُول لآيس أَو طامع) (وَأبر من عبد الْإِلَه على التقي ... عينا وأحكمه بِحَق صادع) (عسل الفوارع مَا أَطَعْت فَإِن تهج ... فالصاب فِي جرع السمام الناقع) (متيقظ حذر وَمَا يخْشَى العدا ... نَبهَان من وسنات ليل الهاجع) (ملئت قُلُوب النَّاس مِنْهُ مَخَافَة ... ويبيت يكلؤهم بقلب خاشع) (بِأبي وَأمي أفتدى وَبَينهمَا ... من كل معضلة وريب وَاقع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 (مَا أَلين الكنف الَّذِي بوأتني ... وطنا وآمن راية للراقع) (للصالحات أَخا جعلت وللتقي ... وَأَبا رؤوفا للْفَقِير القانع) (إِن الَّذِي قسم الْفَضَائِل حازها ... فِي صلب آدم للْإِمَام السَّابِع) (جمع الْقُلُوب عَلَيْك جَامع أمرهَا ... وحوى ودادك كل أَمر جَامع) (نَفسِي فداؤك إِذْ تضل معاذري ... وألوذ مِنْك بِفضل حلم وأسع) (أملا لفضلك والفواضل جمة ... رفعت بناءك بِالْمحل اليافع) (فبذلت أفضل مَا يضيق ببذله ... وسع النُّفُوس من الفعال البارع) (وعفوت عَمَّن لم يكن عَن مثله ... عَفْو وَلم يشفع إِلَيْك بشافع) (إِلَّا الْعُلُوّ عَن الْعقُوبَة بعد مَا ... ظَفرت يداك بمستكين خاضع) (ورحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وحنين والهة كقوس النازع) (وعطفت آصرة على كَمَا وعى ... بعد أنهياض الْجِسْم عظم الظالع) (اللَّهِ يعلم مَا أَقُول فَإِنَّهَا ... جهد الألية من حنيف رَاكِع) (مَا إِن عصيتك والغواة تمدني ... أَسبَابهَا إِلَّا بنية طائع) (والأفك منكدة اللِّسَان وَإِنَّمَا ... تهدي إِلَى قذع لروع السَّامع) (قسما وَمَا أدلى لذاك بِحجَّة ... غير التضرع من مقرّ باخع) (حَتَّى إِذا علقت حبائل شقوة ... تردى على حفر المهالك هائع) (لم أدر أَن لمثل جُرْمِي غافرا ... فأقمت أرقب أَي حتف صارعي) (رد الْحَيَاة على بعد ذهابها ... عَفْو الإِمَام الْقَادِر المتواضع) (أحياك من ولأك أطول مُدَّة ... وَرمى عَدوك فِي الوتين بقاطع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 (كم من يَد لَك لَا تُحَدِّثنِي بهَا ... نَفسِي إِذا آلت إِلَى مطامعي) (أسديتها عفوا إِلَى هنيئة ... فَشَكَرت مصطنعا لأكرم صانع) (إِلَّا يَسِيرا عِنْدَمَا أوليتني ... وَهُوَ الْكثير لَدَى غير الضائع) (إِن أَنْت جدت بِهِ على فَكُن لَهُ ... أَهلا وَإِن تمنع فَأكْرم مَانع) قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَقُول مَا قَالَ يُوسُف لإخوته {لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر اللَّهِ لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ: وغنى إِبْرَاهِيم يَوْمًا والمأمون مصطبح صَوتا لَهُ فِي شعره: (ذهبت من الدُّنْيَا وَقد ذهبت مني ... هوى الدَّهْر بِي عَنْهَا وَولى بهَا عني) (فَإِن أبك نَفسِي أبك نفسا نفيسة ... وَإِن أحتسبها أحتسبها على ضنى) قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون لما سَمعه: لَا وَالله لَا تذْهب نَفسك يَا إِبْرَاهِيم على يَد أَمِير الْمُؤمنِينَ فليفرخ روعك فَإِن اللَّهِ قد آمنك فِي هَذِه الزلة إِلَّا أَن تحدث بِشَاهِد عدل غير مُتَّهم حَدثا وأرجوا أَن لَا يكون مِنْك إِن شَاءَ اللَّهِ. وَحدثنَا يحيى بن الْحسن بن عبد الْخَالِق، عَن أبي مُحَمَّد اليزيدي قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي لما أَمر الْمَأْمُون برد ضيَاعه عَلَيْهِ قَالَ: وأنشده ذَلِك فِي مَجْلِسه: - (الْبر بِي مِنْك وطا الْعذر عنْدك لي ... فِيمَا أتيت فَلم تعذل وَلم تلم) (وَقَامَ علمك بِي فأحتج عنْدك لي ... مقَام شَاهد عدل غير مُتَّهم) (رددت مَالِي وَلم تبخل على بِهِ ... وَقبل ردك مَالِي قد حقنت دمي) (بَرِئت مِنْك وَمَا كافيتني بيد ... هما الحياتان من موت وَمن عدم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَقَالَ حَمَّاد بن إِسْحَاق، عَن أَبِيه قَالَ: أرسل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي لما ظهر إِلَى وَصَارَ إِلَى منزله غير مرّة يسئلني أتيانه فَكنت أتثاقل عَنهُ مَخَافَة أَن يبلغ الْمَأْمُون أتياني إِيَّاه ثمَّ أَتَيْته فعاتبني على جفاى فأعتذرت بالمأمون فَقَالَ يَا هَذَا: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يَخْلُو من أَن يكون رَاضِيا عني فَهُوَ يحب أَن يسرني بك، أَو ساخطا على فَهُوَ لَا يكره أَن يعرني وَأَنت الْحَمد لله وَاقِف بَين هَاتين. قَالَ: فقطعني عَن جَوَابه وَبَلغت الْمَأْمُون فأستحسنها مِنْهُ قَالَ إِسْحَاق اعتللت عِلّة فَأرْسل إِلَى إِبْرَاهِيم: إِنِّي أُرِيد أَن أعودك فَأرْسلت لَهُ: إِنِّي لم أصر إِلَى حد تحب أَن تراني فِيهِ. قَالَ: فغلظت عَلَيْهِ رسالتي وَكَانَ عِنْده مُحَمَّد ابْن وَاضح فَشَكَانِي إِلَيْهِ وَقَالَ: يرد على هَذَا المرد أحب أَن تَلقاهُ فَتَقول لَهُ: وَالله لَو خيرت أَن أجَاز بألفي ألف دِرْهَم أَو بعافيتك لاخترت عافيتك. فَأَتَانِي برسالته قَالَ: قلت لَهُ ابقاه اللَّهِ أَرْجُو أَن تكون صَادِقا وَذَاكَ أَنِّي إِن مت لم تَجِد مثلى تستشهده فبكذب لَك. وَقَالَ: حَمَّاد عَن أَبِيه: دخلت يَوْمًا على الْمَأْمُون وَعِنْده أَبُو إِسْحَاق المعتصم، وَإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَعَن يَمِين الْمَأْمُون تسع قينات، وَعَن يسَاره تسع قينات يغنين جَمِيعًا صَوتا وَاحِدًا. قَالَ: فَلَمَّا جَلَست، وأطمأننت، وأنست قَالَ الْمَأْمُون كَيفَ تسمع يَا أَبَا إِسْحَاق؟ . قلت: أسمع خطأ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون لإِبْرَاهِيم أَلا تسمع؟ قَالَ كذب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هَا هُنَا وَحقّ أَمِير الْمُؤمنِينَ خطأ وَلكنه يُرِيد أَن يُوهم أَنه يحسن مَا لَا يُحسنهُ غَيره. قَالَ إِسْحَاق: فَقلت إِن أذن أَمِير الْمُؤمنِينَ أفهمته مَوضِع الْخَطَأ ويقربه. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون: قد أَذِنت لَك فأفعل. قَالَ: فَأَقْبَلت على إِبْرَاهِيم فَقلت لَهُ: أعلم أَنَّك لَا تفهمه هَكَذَا وَلَكِن أطرح عَنْك نصف الْعَمَل فلعلك أَن تفهم مَوضِع الْخَطَأ وَلَا أَرَاك. ثمَّ قلت للتسع اللواتي عَن يَمِين الْمَأْمُون: أمسكن عَن الْغناء. فأمسكن. فَقلت لأبراهيم تفهم الْآن فَإِن الْخَطَأ هَا هُنَا. فتفهم إِبْرَاهِيم فَقَالَ: مَا هَا هُنَا خطأ. قَالَ: فَقلت فَإِنِّي أرفع عَنْك أَكثر هَذَا الْعَمَل الْبَاقِي ثمَّ أمرت خمس جوَار مِنْهُنَّ فأمسكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَبَقِي أَربع. وَقلت لإِبْرَاهِيم. تفهم فَإِن الْخَطَأ هَا هُنَا. فتفهم إِبْرَاهِيم فَقَالَ: مَا أعلم خطأ. فَقَالَ إِسْحَاق: فَإِنِّي أطرح عَنْك الْعَمَل كُله ثمَّ أَمر الْجَوَارِي فأمسكن وَقَالَ لوَاحِدَة مِنْهُنَّ تغني فغنت وَحدهَا. فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم مَا تَقول؟ قَالَ: نعم. هَا هُنَا خطأ وأقربه. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون يَا إِبْرَاهِيم: فهمه إِسْحَاق من نَيف وَسبعين وترا وَلَا تفهمه إِلَّا مُفردا مَتى تلْحقهُ فِي عمله. حَدثنِي أَبُو بكر بن الخصين قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم قَالَ: غنى إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي عِنْد الْمَأْمُون يَوْمًا فَأحْسن وَفِي مَجْلِسه كَاتب من كتاب طَاهِر بن الْحُسَيْن يكنى أَبَا زيد وَكَانَ بَعثه فِي بعض أُمُوره وطرب أَبُو زيد فَأخذ بِطرف ثوب إِبْرَاهِيم فَقبله. قَالَ: فَنظر إِلَيْهِ الْمَأْمُون كالمنكر لما فعل. فَقَالَ لَهُ أَبُو زيد: مَا تنظر؟ أقبله وَالله وَلَو قتلت. قَالَ فَتَبَسَّمَ الْمَأْمُون وَقَالَ: أَبيت إِلَّا طرفا. قَالَ: وَأُصِيب الْمَأْمُون بابنة لَهُ وَهُوَ يجد بهَا وجدا شَدِيدا فَجَلَسَ للنَّاس وَأمر أَن لَا يمْنَع مِنْهُ أحد وَأَن يثبت عَن كل رجل مقَالَته. قَالَ: فَدخل إِلَيْهِ فِيمَن دخل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كل مُصِيبَة تعدتك شوى إِذْ كنت المنتقم من الْأَعْدَاء وَلَك فِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُسْوَة سنة فَإِنَّهُ عزى عَن ابْنَته رقية فَقَالَ: موت النَّبَات من المكرمات. فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِمِائَة ألف دِرْهَم: وَأمر أَن لَا يكْتب شَيْء بعد تعزيته. وَقَالَ إِسْحَاق الموصلى: دخل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي على الْمَأْمُون بعد صفحة عَنهُ وَعِنْده أَبُو إِسْحَاق المعتصم، وَالْعَبَّاس بن الْمَأْمُون فَلَمَّا جلس قَالَ لَهُ يَا إِبْرَاهِيم: إِنِّي استشرت أَبَا إِسْحَاق وَالْعَبَّاس آنِفا فِي أَمرك فأشارا على بقتلك. فَمَا تَقول فِيمَا قَالَا؟ فَقَالَ لَهُ: أما أَن لَا يَكُونَا قد نصحاك وأشارا عَلَيْك بِالصَّوَابِ فِي عظم الْخلَافَة وَمَا جرت بِهِ عَادَة السياسة فقد فعلا ذَلِك. وَلَكِن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تأبي أَن تجتلب النَّصْر إِلَّا من حَيْثُ عودكة اللَّهِ وَهُوَ الْعَفو. قَالَ: صدقت يَا عَم أدن مني فَدَنَا مِنْهُ فَقبل إِبْرَاهِيم يَده وضمه الْمَأْمُون إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وَقَالَ قثم بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان: أَخْبرنِي أَبُو عباد. قَالَ: بَينا أَنا فِي مجْلِس الْمَأْمُون إِذْ ذكر دعبل بن عَليّ الشَّاعِر فَقَامَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ جعلني اللَّهِ فدَاك. أقطع لِسَانه، وأضرب عُنُقه فقد أطلق اللَّهِ لَك دَمه. قَالَ: وَبِمَ ذَاك: أهجاني؟ فوَاللَّه لَئِن كَانَ فعل ذَلِك فَمَا أَبَاحَ اللَّهِ دَمه بهجائي. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أقطع لِسَانه، وأضرب عُنُقه فقد أباحك اللَّهِ دَمه. فَأَعَادَ الْمَأْمُون كَلَامه الأول. فَقَالَ بعض من حضر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه قد هجا إِبْرَاهِيم، فَقَالَ: هَات مَا قَالَ. فأنشده: - (أَنِّي يكون وَلَا يكون وَلم يكن ... يَرث الْخلَافَة فَاسق عَن فَاسق) (إِن كَانَ إِبْرَاهِيم مضطلعا بهَا ... فلتصلحن من بعده لمخارق) (ولتصلحن من بعده فِي عثعث ... ولتصلحن من بعده للمارق) قَالَ / فَقطع الْمَأْمُون عَلَيْهِ وَقَالَ: حَسبك فِي إِبْرَاهِيم مَالا يصبر عَلَيْهِ لَهُ وَلَا لَك. وحَدثني حَمَّاد بن اسحاق قَالَ: كتب ابراهيم بن الْمهْدي إِلَى اسحاق بن ابراهيم وَكَانَ طهر وَلَده فأهدى إِلَيْهِ النَّاس جَمِيعًا من أَصْحَاب السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي بجراب ملح، وبرنية أشنان وَكتب إِلَيْهِ: لَوْلَا أَن البضاعة قصرت بالهمة لأنفست السَّابِقين إِلَى برك، وكرهت ان تطوى صحيفَة الْبر وَلَيْسَ لنا فِيهَا ذكر، وَقد يعثت إِلَيْك بالمبتدأ بِهِ ليمنة وبركته: والمختوم بِهِ لطيبة ونظافته. قَالَ: فاستملح ذَلِك مِنْهُ واستظرفه كل من سَمعه وَحدث الْمَأْمُون بِهِ فَقَالَ: لَا يحسن وَالله هَذَا أحد غير عمى إِبْرَاهِيم. حَدثنَا يحيى بن الْحسن بن عبد الْخَالِق قَالَ: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن الأعلم قَالَ: كُنَّا ننقل ثِيَاب إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي اختفائه من دَار إِلَى دَار على خمسين حمل. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الَّتِي أَخذ فِيهَا جهدت بِهِ الْجهد كُله أَلا يبرح فَقَالَ: إِن تَرَكتنِي وَإِلَّا شققت بَطْني فَكرِهت أَن آزه فَخرج فَأخذ؟ . قَالَ: وَكَانَ أَخذه فِي سنة تسع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ الْمَأْمُون لإِبْرَاهِيم حِين صفح عَنهُ: لَو لم يكن فِي حق أَبَوَيْك حق الصفح عَن جرمك لبلغت مَا أملت بتنصلك فِي لطف توصلك. وَكَانَ إِبْرَاهِيم قَالَ لَهُ: إِنَّه أَن بلغ جُرْمِي استحلال دمي فحلم أَمِير الْمُؤمنِينَ وفضله يبلغان عَفوه ولى بعدهمَا شُفْعَة الاقرار بالذنب وَحقّ الْأُبُوَّة بعد الْأَب. قَالَ: وَقَالَ الْمَأْمُون حِين عَفا عَن إِبْرَاهِيم: لَو علم أهل الجرائم لذتي فِي الْعَفو مَا حمدوني عَلَيْهِ، وَلَا أنابوا من ذنوبهم فَقَالَ إِبْرَاهِيم أما متمثلا وَأما مخترعا: - (أَمِير الْمُؤمنِينَ عَفَوْت حَتَّى ... كَانَ النَّاس لَيْسَ لَهُم ذنُوب) حَدثنِي أَبُو عبد الرَّحْمَن السَّمرقَنْدِي، عَن بعض أَصْحَابه قَالَ: لما ظفر الْمَأْمُون بإبراهيم قَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك يحرضه على قَتله. وَأنْشد الْمَأْمُون فَقَالَ: وَالله لَا أشمته بِهِ بل أعفو عَنهُ. (ألم تَرَ أَن الشَّيْء للشَّيْء عِلّة ... يكون لَهُ كالنار تقدح بالزند) (كَذَلِك جربنَا الْأُمُور وَإِنَّمَا ... يدلك مَا قد كَانَ قبل على الْبعد) (رَأينَا حسيبا حِين صَار مُحَمَّد ... بِغَيْر أَمَان فِي يَدَيْهِ وَلَا عقد) (فَلَو كَانَ أمضى الحكم فِيهِ بضربه ... تصيره بالقاع منعفر الخد) (إِذا لم تكن للجند فِيهِ بَقِيَّة ... فقد كَانَ مَا بلغت من خبر الْجند) (هم قَتَلُوهُ بعد أَن قتلوا لَهُ ... ثَلَاثِينَ ألفا من كهول وَمن مرد) (فَمَا نصروه عَن يَد سلفت لَهُ ... وَلَا قَتَلُوهُ يَوْم ذَلِك عَن حقد) (وَلكنه الْغدر الصراح وخفة الحلوم ... وَبعد الرَّأْي عَن سنَن الْقَصْد) (وظني بإبراهيم أَن مَكَانَهُ ِ ... سيبعث يَوْمًا مثل أَيَّامه النكد) (تذكر أَمِير الْمُؤمنِينَ مقَامه ... وأيمانه فِي الْهزْل فِيهِ وَفِي الْجد) ... ِ (بلَى وَالَّذِي أَصبَحت عبدا خَليفَة ... لَهُ بئس أَيْمَان الْخَلِيفَة وَالْعَبْد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 (إِذا هز أَعْوَاد المنابر باسته ... تغني بليلى أَو بمية أَو هِنْد) (وَوَاللَّه مَا من تَوْبَة نزعت بِهِ ... إِلَيْك وَلَا قربي لديك ولاود) (وَلَكِن إخلاص الضَّمِير مقرب ... إِلَى اللَّهِ زلفى لَا تبيد وَلَا تكدي) (أَتَاك بهَا كرها إِلَيْك تقوده ... على رغمه وأستأثر اللَّهِ بِالْحَمْد) (فَإِن قلت فِي باغي الْخلَافَة قبله ... فَلم يُؤْت فِيمَا كَانَ حاول من جهد) (وَلم ترض بعد الْعَفو حَتَّى رفدته ... وللعم أولى بالتغمد والرفد) (وَلَيْسَ سَوَاء خارجي رمى بِهِ ... إِلَيْك سفاه الرَّأْي والرأي قدير دى) (وَآخر فِي بَيت الْخلَافَة يلتقي ... بِهِ وَبِك الْآبَاء فِي ذرْوَة الْمجد) (ومولاك ومولاه وجندك جنده ... وَهل يجمع الْقَيْن لحسامين فِي غمد) (فَكيف بِمن قد بَايع النَّاس والتقت ... ببيعته الركْبَان غورا إِلَى نجد) (وَمن صك تَسْلِيم الْخلَافَة سَمعه ... يُنَادي بهَا بَين السما طين من بعد) (وَمَا أحد سمى بهَا قطّ نَفسه ... ففارقها حَتَّى يغيب فِي اللَّحْد) (وَأَقْبل يَوْم الْعِيد يوجف حوله ... وجيف الْجِيَاد واصطكاك القنى الجرد) (وَرِجَاله يَمْشُونَ بالبيض قبله ... وَقد تبعوه بالقضيب وبالبرد) (وَقد رَابَنِي من أهل بَيْتك أنني ... رَأَيْت لَهُم وجدا بِهِ أَيّمَا وجد) (يَقُولُونَ لَا تبعد عَن ابْن ملمة ... صبور على اللاوا ذِي مرّة جلد) (فداني وهانت نَفسه دون ملكنا ... عَلَيْهِ على الْحَال الَّذِي قل من يفْدي) (على حِين أعْطى النَّاس صفق أكفهم ... على بن مُوسَى بِالْولَايَةِ للْعهد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 (فَلَو بك فِينَا من أبي الضيم غَيره ... وَلَكِن حياري فِي الْقبُول وَفِي الرَّد) (وتزعم هذي النابتية أَنه ... إِمَام هدى فِيمَا تسر وَمَا تبدي) (يَقُولُونَ سنى وأية سنة ... تتمّ بصعل الرَّأْس جون الْقَفَا جعد) (وَقد جعلُوا رخص الطَّعَام بعهده ... زعيما لَهُ بِالْيَمِينِ والطائر السعد) (إِذا مَا رَأَوْا يَوْمًا غلاء رَأَيْتهمْ ... يحنون تحنانا إِلَى ذَلِك الْعَهْد) قَالَ: وَكتب عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بن الْحُسَيْن بن عبيد اللَّهِ بن الْعَبَّاس بن عَليّ بن أبي طَالب إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي: مَا أَدْرِي كَيفَ أصنع؟ أغيب فأشتاق، ثمَّ نَلْتَقِي فَلَا أشتفي، ثمَّ يجدد إِلَى اللِّقَاء الَّذِي طلبت بِهِ الشِّفَاء شقاء من تَجْدِيد الحرقة بلوعة الْفرْقَة. فَكتب إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي: أَنا الَّذِي علمتك الشوق لِأَنِّي شَكَوْت ذَلِك إِلَيْك فهيجته مِنْك. حَدثنِي أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن جَعْفَر الرقي قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ذَا رأى لغيره، ضَعِيف الرَّأْي فِي أَمر نَفسه فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: لَا تنكروه فَإِنِّي أنظر فِي أَمر غَيْرِي بطباع سليمَة مُسْتَقِيمَة، وَأنْظر فِي أَمر نَفسِي بطباع مائلة إِلَى الْهوى حَدثنَا زيد بن عَليّ بن حُسَيْن بن زيد بن عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب صلوَات اللَّهِ عَلَيْهِم. قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن صَالح صَاحب الْمصلى قَالَ: لما أَرَادَ الْمَأْمُون أَن ينحى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي من مرتبَة بني هَاشم قَالَ لي: أقعده مَعَ الحرس. قَالَ: قلت لَهُ لَيْسَ لَك ذَاك. قَالَ: تَقول لي لَيْسَ لَك ذَاك؟ بلَى لي أَن أضْرب عُنُقه. قَالَ قلت: لَك أَن تضرب عُنُقه وَمَا أردْت بِهِ وَلم أقل لَيْسَ لَك ذَاك أَن لَيْسَ لَك بإن تفعل مَا أردْت وَلَكِن لَيْسَ لَك أَن تعدل عَن فعل آبَائِك. غضب الْمَنْصُور على فلَان فَلم يزله عَن مرتبَة أهل بَيته، وَغَضب الْمهْدي على عبد الصَّمد بن عَليّ فَلم يزله عَن ذَلِك وَلَيْسَ لَك إِلَّا مَا فعلوا. قَالَ: صدقت لَيْسَ لي إِلَّا مَا فعلوا قَالَ: وَأمر فأجلس مَعَ بني الْعَبَّاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 حَدثنِي مُحَمَّد بن الْعَبَّاس قَالَ: دخل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي يَوْمًا على الْمَأْمُون فَتَأمل جثته فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم: عشقت قطّ؟ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أَجلك عَن الْجَواب فِي هَذَا. قَالَ: بحياتي أصدقني. قَالَ: وحياتك مَا خلوت من عشق قطّ. قَالَ لَهُ: كذبت وحياتك يَا أَبَا إِسْحَاق: - (وَجه الَّذِي يعشق مَعْرُوف ... لِأَنَّهُ أصفر منحوف) (لَيْسَ كمن تَلقاهُ ذَا جثة ... كَأَنَّهُ للذبح معلوف) حَدثنِي عَليّ بن مُحَمَّد قَالَ: سَمِعت أَصْحَابنَا يَقُولُونَ اجْتمع إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، وَالْحسن بن سهل عِنْد الْمَأْمُون لَيْلًا فَأَرَادَ الْحسن أَن يضع من إِبْرَاهِيم ويخبره أَنه مغن عَالم بِالْغنَاءِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق: أَي صَوت تغنيه الْعَرَب أحسن؟ فَفطن إِبْرَاهِيم فَقَالَ: تسمع للغلي وسواسا إِذا انصرفت. أَي إِنَّك موسوس. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر حدث أَبُو مُوسَى هَارُون بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى الْهَادِي قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: أنصرفنا من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون يَوْمًا فَقَالَ لي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي مر معي إِلَى منزلي أطعمك لَحْمًا على وَجهه، وأسقيك نبيذا على وَجهه وأسمعك غناء على وَجهه. فَقلت لَهُ: مَا عَن هَذَا منفرج فمضينا فَدَخَلْنَا إِلَى منزله فَإِذا مساليخ معلقَة، وملح قد سحق، وكوانين قد أججت فَأمر طباخية فشرحوا وكببوا وأكلنا ثمَّ أخرج الدنان فَوضعت على كراسيها وبذلت وشربنا. ثمَّ بعث إِلَى مُخَارق، وعلوية، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الموصلى فَقَالَ لَهُم: كلوا مِمَّا أكلنَا، والحقوا بِنَا فِي شَأْننَا وغناء الْقَوْم بِغَيْر زمر ولاطبل فَقَالَ: هَذَا اللَّحْم على وَجهه، وَالشرَاب على وَجهه ثمَّ الْتفت إِلَى فَقَالَ: إِنْسَان يلزمك يُقَال لَهُ مَنْصُور بن عبد اللَّهِ الْخَرشِيّ فَبعثت إِلَيْهِ فَحَضَرُوا وَأكل مِمَّا أكلنَا وشركنا فِيمَا كُنَّا فِيهِ ثمَّ انْدفع مَنْصُور فتغنى: - (عرفت حَاجَتي إِلَيْهَا فضنت ... ورأتني صبا بهَا فتجنت) فأستحسنه الْقَوْم جَمِيعًا ثمَّ تغنى: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 (أَي نور تديره الأقداح ... نور دن غذاؤه التفاح) فأستحسنه الْقَوْم واستجادوه فَسَأَلُوهُ لمن الْغناء فَأخذ ينْسبهُ لمعبد وَابْن شريج مَعَ أغاني كَثِيرَة غناها من غنائه كل ذَلِك ينْسبهُ إِلَى الْمُتَقَدِّمين من المغنيين فَيَقُول إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي مَا أعرف هَذَا، ويلتفت إِلَى الْجَمَاعَة الَّذين حَضَرُوا فَيَقُول: اتعرفون هَذَا لمن نسبه؟ فينكر الْقَوْم أَن يَكُونُوا يعْرفُونَ ذَلِك. ثمَّ أَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي قَالَ لَهُ يَا فَتى: أصدقنا عَن الأغاني لمن هى؟ قَالَ: هِيَ لي أَيهَا الْأَمِير وَأَنا صنعتها فَالْتَفت إِلَيْهِ مُخَارق وعلوية فَقَالَا لَهُ: كنت أحسن النَّاس غناء حَتَّى نسبتها إِلَى نَفسك فَقَالَ لَهُم إِبْرَاهِيم: لَيْسَ كَمَا تَقولُونَ وَالله لَئِن كَانَ هَذَا قَدِيما حفظه ونسيناه إِنَّه لَا علم منا، وَإِن كَانَ هَذَا صَنْعَة لَهُ فَلَقَد اسْتغنى بصنعتها عَن غَيره. وَكتب أَحْمد بن يُوسُف إِلَى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بَلغنِي استقلالك مَا كنت ألطفتك بِهِ فَإِن الَّذِي نَحن عَلَيْهِ من الأنسة والثقة سهل علينا قلَّة الحشمة لَك فِي الْبر فأهدينا هَدِيَّة من لَا يحتشم إِلَى من لَا يغتنم. حَدثنَا عبد اللَّهِ بن الرّبيع قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مَالك. قَالَ: أَخْبرنِي الْعَبَّاس ابْن على بن رائطة. قَالَ: بعث إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون فِي اللَّيْل فصرت إِلَيْهِ وَإِذا هُوَ جَالس مِمَّا يَلِي دجلة فِي لَيْلَة مُقْمِرَة فَسلمت عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَبَّاس. قلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَا ترى مَا أحسن الْقَمَر وصفاء هَذَا المَاء. قَالَ: قلت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا حسنه اللَّهِ إِلَّا بك. قَالَ: فَمَا يصلح هَذَا ويتمه؟ . قَالَ: قلت رَطْل من شراب صَاف وَصَوت غناء حسن من مُخَارق أَو إِبْرَاهِيم بن المهدى. قَالَ أصبت وكأنك كنت فِي نَفسِي. ثمَّ بعث إِلَى مُخَارق، وَإِلَى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي. وَإِلَى الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون، وَإِلَى أبي إِسْحَاق المعتصم فَكلما دخل عَلَيْهِ وَاحِد مِنْهُم قَالَ لَهُ مثل مقَالَته لي فَيرد مثل جوابي وَنَحْوه ثمَّ رفع رَأسه إِلَى الخباز فَقَالَ: يَا غُلَام أيتهم بِطَعَام خَفِيف فأتينا ببزماء ورد فتناولنا مِنْهُ شَيْئا ثمَّ قَالَ: النَّبِيذ. فأدير علينا رَطْل. رَطْل فَقَالَ لإِبْرَاهِيم يَا عمي غننى فعناه وَالشعر لإِبْرَاهِيم والغناء لَهُ فَقَالَ: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 (يَا خير من ذملت يَمَانِية بِهِ ... بعد الرَّسُول لآيس أَو طامع) (وَأبر من عبد الإلآه على التقى ... عينا وأحكمه بِحَق صادع) (إِن الَّذِي قسم الْفَضَائِل حازها ... فِي صلب آدم للْإِمَام السَّابِع) قَالَ أَحْسَنت وَالله يَا عَم. لقد أشاروا على بقتلك فَمَنَعَنِي من ذَلِك الرقة عَلَيْك والحرج من اللَّهِ. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أما أَنْت فَلم تعد مَا وفقك اللَّهِ لَهُ من الْفضل وَالْعَفو. وَأما هما فقد وَالله أشارا عَلَيْك فِي أَمْرِي بِالنَّصِيحَةِ الْخَالِصَة. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون: هَذَا وَالله الْكَلَام الْجيد النقي الَّذِي يشل السخائم، وينفي العقوق وَيزِيد فِي الْبر يَا غُلَام: مائَة ألف دِرْهَم فَحملت إِلَى منزلَة. ثمَّ جَاءَ الْمُؤَذّن فَإِذن. فَقَالَ: أنصرفوا فأنصرفوا وَأخذ أَبُو إِسْحَاق بيد إِبْرَاهِيم فأقسم عَلَيْهِ أَن يصير إِلَى منزلَة فَصَارَ إِلَيْهِ فَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم وحملان وخلع. قَالَ: وحدثتني أنير مولاة مَنْصُور بن الْمهْدي قَالَت: قَالَت لي أَسمَاء بنت الْمهْدي: قلت لأخي إِبْرَاهِيم يَا أخي أشتهى وَالله أَن أسمع من غناءك شَيْئا فَقَالَ: إِذن وَالله يَا أُخْتِي لَا تسمعين مثله عَلَيْهِ وَعَلِيهِ ثمَّ تغلظ فِي الْيَمين إِن لم يكن أبليس ظهر لي وَعَلمنِي النقر، والنغم. وصافحني. وَقَالَ لي: أذهبي فَأَنت مني وَأَنا مِنْك. (ذكر بِنَاء الْمَأْمُون ببوران بنت الْحسن بن سهل) قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: ذكر أَصْحَاب التَّارِيخ أَن بِنَاء الْمَأْمُون بيوران بنت الْحسن كَانَ فِي شهر رَمَضَان من سنة عشر وَمِائَتَيْنِ وَأَنه لما مضى إِلَى فَم الصُّلْح إِلَى معسكر الْحسن بن سهل حمل مَعَه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، وَمر بالمصلبين الَّذين كَانُوا مَعَ إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة فِي المطبق فَأمر بإنزالهم وَكَانُوا مصلبين على الجسر الْأَسْفَل، وَكَانَ أنزالهم فِي جمادي الأولى لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع لَيَال بقيت مِنْهُ. وَلما كَانَ من غَد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يَوْم الْأَرْبَعَاء أَمر بإنزال إِبْرَاهِيم بن عَائِشَة فَكفن وَصلى عَلَيْهِ وَدفن فِي مَقَابِر قُرَيْش كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي خبر ابْن عَائِشَة آنِفا. حَدثنِي الْحَارِث بن نصر المنجم وَكَانَ من أَصْحَاب الْحسن بن سهل قَالَ: لما زار الْمَأْمُون الْحسن بن سهل للْبِنَاء ببوران ركب من بَغْدَاد زورقا حَتَّى أرقى على بَاب الْحسن بن سهل وَكَانَ الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون قد تقدم على الظّهْر فَتَلقاهُ الْحسن خَارج عسكره فِي مَوضِع كَانَ أَتَّخِذ لَهُ على شاطيء دجلة بنى لَهُ فِيهِ جوسق قَالَ فَلَمَّا عاينه الْعَبَّاس ثنى رجله لينزل فَحلف عَلَيْهِ أَلا يفعل. فَلَمَّا ساواه ثنى رجله الْحسن ليزل فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: بِحَق أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تنزل فأعتنقه الْحسن وَهُوَ رَاكب ثمَّ أَمر أَن يقدم إِلَيْهِ دَابَّته ودخلا جَمِيعًا إِلَى منزل الْحسن ووافي الْمَأْمُون فِي وَقت الْعشَاء وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان من سنة عشر وَمِائَتَيْنِ فَأفْطر هُوَ وَالْحسن وَالْعَبَّاس ودينار ابْن عبد اللَّهِ قَائِم على رجله حَتَّى فرغوا من الأفطار وغسلوا أَيْديهم فَدَعَا الْمَأْمُون بشراب فَأتي بجام ذهب فصب فِيهِ وَشرب. فَمد يَده بجام فِيهِ شراب إِلَى الْحسن فتباطأ عَنهُ الْحسن لِأَنَّهُ لم يكن يشرب قبل ذَلِك فغمز دِينَار بن عبد اللَّهِ الْحسن فَقَالَ الْحسن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أشربه بإذنك وأمرك؟ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: لَوْلَا أَمْرِي لم أمدد يَدي إِلَيْك. فَأخذ الْجَام فشربه فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة جمع بَين مُحَمَّد بن الْحسن ابْن سهل والعباسة بنت الْفضل ذِي الرياستين فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة دخل على بوران وَعِنْدهَا حمدونة، وَأم جَعْفَر، وَجدتهَا. فَلَمَّا جلس الْمَأْمُون مَعهَا نثرت عَلَيْهَا جدَّتهَا ألف درة كَانَت فِي صينية ذهب فَأمر الْمَأْمُون أَن تجمع وسألها عَن عدد الدّرّ كم هُوَ؟ فَقَالَت: ألف حَبَّة. فَأمر بعْدهَا فنقصت عشرَة فَقَالَ: من أَخذهَا مِنْكُم ردوهَا. فَقَالُوا حُسَيْن زجلة فَأمر بردهَا. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِنَّمَا نثر لنأخذه. قَالَ: ردهَا. فَإِنِّي أخلفها عَلَيْك فَردهَا وَجمع الْمَأْمُون ذَلِك الدّرّ فِي الْآنِية وَوضع فِي حجرها وَقَالَ هَذِه نحلتك فأسلي حوائجك؟ فَأَمْسَكت. فَقَالَت لَهَا جدَّتهَا كلمي سيدك وأسألية حوائجك فقد أَمرك. فَسَأَلته الرضى عَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي. فَقَالَ: قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فعلت، وَسَأَلته الْإِذْن لَام جَعْفَر فِي الْحَج فَإِذن لَهَا ولبستها أم جَعْفَر الْبَدنَة الأموية وابتني بهَا فِي ليلته، وأوقد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة شمعة عنبر فِيهَا أَرْبَعُونَ منا فِي تور ذهب فَأنْكر الْمَأْمُون ذَلِك عَلَيْهِم. وَقَالَ: هَذَا سرف. فَلَمَّا كَانَ من غَد دَعَا بإبراهيم بن الْمهْدي فجَاء يمشي من شاطئ دجلة عَلَيْهِ مبطنة ملحم وَهُوَ متعمم بعمامة حَتَّى دخل فَلَمَّا رفع السّتْر عَن الْمَأْمُون رمى بِنَفسِهِ فصاح الْمَأْمُون يَا عَم: لَا بَأْس عَلَيْك. فَدخل فَسلم عَلَيْهِ تَسْلِيم الْخلَافَة وَقبل يَده وأنشده شعرًا ودعا بِالْخلْعِ فَخلع عَلَيْهِ خلعة ثَانِيَة ودعا لَهُ بمركب وقلده سَيْفا وَخرج فَسلم على النَّاس ورد إِلَى مَوْضِعه. قَالَ الْحَارِث: وَأقَام الْمَأْمُون سَبْعَة عشر يَوْمًا يعد لَهُ فِي كل يَوْم وَلِجَمِيعِ من مَعَه مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. قَالَ: وخلع الْحسن بن سهل على القواد على مَرَاتِبهمْ وَحَملهمْ ووصلهم وَكَانَ مبلغ النَّفَقَة عَلَيْهِ خمسين ألف ألف دِرْهَم. قَالَ: وَأمر الْمَأْمُون غَسَّان ابْن عباد عِنْد منصرفة أَن يدْفع إِلَى الْحسن عشرَة آلَاف ألف من مَال فَارس وأقطعه الصُّلْح فَحملت إِلَيْهِ على الْمَكَان وَكَانَت معدة عِنْد غَسَّان بن عباد. قَالَ: فَجَلَسَ الْحسن ففرقها فِي قواده، وَأَصْحَابه، وحشمه، وخدمة. قَالَ: وَلما انْصَرف الْمَأْمُون شيعه الْحسن ثمَّ رَجَعَ إِلَى فَم الصُّلْح. فَحَدثني الْفضل بن جَعْفَر بن الْفضل. قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن الْحسن بن سهل. قَالَ: كَانَ أهلنا يتحدثون أَن الْحسن بن سهل كتب رِقَاعًا فِيهَا أَسمَاء ضيَاعه ونثرها على القواد وعَلى بني هَاشم فَمن وَقعت فِي يَده رقْعَة مِنْهَا فِيهَا اسْم الضَّيْعَة بعث فتسلمها. وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عبد الْأَعْلَى الْكَاتِب. قَالَ: حَدثنِي الْحسن ابْن سهل يَوْمًا بأَشْيَاء كَانَت فِي أم جَعْفَر وَوصف رجاحة عقلهَا وفهمها ثمَّ قَالَ: سَأَلَهَا يَوْمًا الْمَأْمُون بِفَم الصُّلْح حَيْثُ خرج للْبِنَاء على بوران، وَسَأَلَ حمدونة بنت غضيض عَن مِقْدَار مَا أنفقت فِي ذَلِك الْأَمر. فَقَالَت حمدونة: أنْفق خَمْسَة وَعشْرين ألف ألف. قَالَ: فَقَالَت أم جَعْفَر مَا صنعت شَيْئا قد أنْفق مَا بَين خَمْسَة وَثَلَاثِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ألف ألف إِلَى سَبْعَة وَثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم. قَالَ: وأعددنا لَهُ شمعتين عنبر. قَالَ: فَدخل بهَا لَيْلًا فأوقدتا بَين يَدَيْهِ فَكثر دخانهما. فَقَالَ: أرفعوهما فقد آذَانا الدُّخان وهاتوا الشمع. قَالَ: ونحلتها أم جَعْفَر فِي ذَلِك الْيَوْم الصُّلْح. قَالَ: فَكَانَ سَبَب عود الصُّلْح إِلَى ملكي وَكَانَت قبل ذَلِك لي فَدخل على يَوْمًا حميد الطوسي فأقرأني أَرْبَعَة أَبْيَات أمتدح بهَا ذَا الرئاستين فَقلت لَهُ: ننفذها لَك إِلَى ذِي الرئاستين وأقطعك الصُّلْح فِي العاجل إِلَى أَن تَأتي مكافاتك من قبله فأقطعته إِيَّاهَا، ثمَّ ردهَا الْمَأْمُون على أم جَعْفَر فنحلتها بوران. وحَدثني عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: كَانَ الْحسن بن سهل لَا يرفع الستور عَنهُ وَلَا يرفع الشمع من بَين يَدَيْهِ حَتَّى تطلع الشَّمْس ويتبينها إِذا نظر إِلَيْهَا، وَكَانَ متطيرا يحب أَن يُقَال لَهُ إِذا دخل عَلَيْهِ أنصرفنا من فَرح وسرور وَيكرهُ أَن يذكر لَهُ جَنَازَة أَو موت أحد. قَالَ: وَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ قَائِل: إِن على بن الْحُسَيْن أَدخل ابْنه الْحسن الْيَوْم الْكتاب قَالَ: فَدَعَا لى وانصرفت فَوجدت فِي منزلي عشْرين ألف دِرْهَم هبة لِلْحسنِ وكتابا بِعشْرين ألف دِرْهَم، قَالَ: وَكَانَ قد وهب لي من أرضه بِالْبَصْرَةِ مَا قوم بِخَمْسِينَ ألف دِينَار فَقَبضهُ عني بغا الْكَبِير وأضافة إِلَى أرضه وَقَالَ أَبُو حسان الزيَادي لما صَار الْمَأْمُون إِلَى الْحسن بن سهل أَقَامَ عِنْده أَيَّامًا بعد الْبناء ببوران وَكَانَ مقَامه فِي مسيره وذهابه، ورجوعه أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَدخل بَغْدَاد يَوْم الْخَمِيس لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شَوَّال. وَقَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ: خرج الْمَأْمُون نَحْو الْحسن بن سهل إِلَى فَم الصُّلْح لثمان خلون من شهر رَمَضَان وَدخل الْمَأْمُون من فَم الصُّلْح لتسْع بَقينَ من شَوَّال سنة عشر وَمِائَتَيْنِ قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر وَلما صَار الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد رُجُوعه من عِنْد الْحسن وَجه مُحَمَّد بن حميد الطوسي إِلَى مَكَّة ليقف مَعَ الإِمَام فِي الْموقف كَرَاهَة للتحلل فِيهِ فَتوجه إِلَى مَكَّة وَنفذ لما أَمر بِهِ وَلم يكن شَيْء كرهه وَرجع بالسلامة. وَكَانَ الَّذِي أَقَامَ الْحَج للنَّاس فِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ صَالح بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ابْن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس فَكَانَ واليا على مَكَّة فَكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن حميد أَن يُقيم الْحَج للنَّاس. خبرني مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الوَاسِطِيّ قَالَ: كَانَ الْحسن بن سهل وَالْفضل قبله لَا ينزلان من الْمنَازل إِلَّا أَطْرَاف الْبلدَانِ فَقيل لِلْحسنِ بن سهل فِي ذَلِك فَقَالَ: الْأَطْرَاف منَازِل الاشراف يتناولن مَا يُرِيدُونَ بِالْقُدْرَةِ، ويتنالون مَا يُرِيدُونَ بِالْحَاجةِ. قَالَ أَبُو الْحسن على بن الْحُسَيْن الْكَاتِب قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن سهل. قَالَ: كَانَت ليحيى بن خَالِد جَارِيَة فِي آخر أَيَّامه فَولدت لَهُ ابْنا قبل الْحَادِثَة عَلَيْهِ بأيام قَالَ: فَكتبت إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَبْس: إِن أُمَّهَات أولادك وأولادك قد صَارُوا فِي أَيَّام دولتك إِلَى طرف من نِعْمَتك، وَإِنَّهَا وأبنها ضائعان مَا أدخرت لَهَا وَلَا لَهُ شَيْئا. قَالَ: فَوَقع فِي كتابها قد أدخرت لَك الفل بن سهل. قَالَ: فَإِنِّي لجالس يَوْمًا بَين يَدي ذِي الرئاستين إذورد عَلَيْهِ كتاب فقرأه وَبكى ثمَّ رمى بِهِ إِلَى فَقَالَ: أتعرف هَذَا الْخط يَا أَبَا مُحَمَّد؟ قلت: نعم. هَذَا خطّ أبي على يحيى بن خَالِد وَإِذا الْجَارِيَة قد انفذت توقيعه إِلَيْهِ بِعَينهَا. قَالَ: فَدَعَا بوكيله فَأمره بإحضاره مَا عِنْده من المَال، وَأَمرَنِي بإحضار مَا عِنْدِي قَالَ: فجمعنا مَا كَانَ فِي ملكنا فِي ذَلِك الْيَوْم فوجدناه ثَمَانِيَة عشر ألف دِينَارا أَكْثَرهَا لي وَحملهَا إِلَى الْجَارِيَة. قَالَ على بن الْحُسَيْن: وَكنت أرى بَين يَدي الْحسن بن سهل ترسا فِيهِ كتبه فسالته عَن ذَلِك فَقَالَ: متعت بك. فتحنا كنابذ فأخذنا مرقد ملكهَا فَوَجَدنَا كل مَا فِيهِ من مخدة ووسادة وَغير ذَلِك بمقبض يُرِيد أَنه إِن ورد عَلَيْهِ فِي فرَاشه شَيْء يحْتَاج فِي التستر مِنْهُ كَانَ كلما يمد يَده إِلَيْهِ ترسا لَهُ فَجعلنَا مَكَان ذَلِك هَذَا الترس الَّذِي ترَاهُ فَفِيهِ كتبنَا وَمَا بَين أَيْدِينَا. وَإِن أحتجنا إِلَيْهِ استعملناه. قَالَ: وحَدثني الْعَبَّاس بن مَيْمُون بن طائع. قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن متمم قَالَ: قلت لِلْحسنِ بن سهل: أصلحك اللَّهِ أَنْت الرجل الَّذِي يستأكل بِعِلْمِهِ فَأَخْبرُونِي عَن النُّجُوم إِذا رأيتموها أتقرطسون؟ فَقَالَ: لَا نرى الشَّيْء فنستعظمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فنفسره فَيكون التَّفْسِير بالتكلف منا. فأكثرنا أصابة: أكثرنا تجربة لَا تسئل عَن هَذَا أحدا غَيْرِي. ذكر اتِّصَال أَحْمد بن أبي خَالِد بالمأمون واستوزاره اياه بعد الْفضل بن سهل قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: حَدثُونِي عَن ثُمَامَة قَالَ: لما قتل الْفضل بن سهل بعث إِلَيّ الْمَأْمُون وَكنت لَا أنصرف من عِنْده إِلَّا أتوقعه فِي منزلي ثن يأتيني رَسُوله فِي جَوف اللَّيْل فآتيه وَكَانَ قد وهلني لمَكَان الْفضل بن سهل من الوزارة فَلَمَّا رَأَيْته قد ألح على فِي ذَلِك فتعاللت عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: إِنَّمَا أردتك لكذا. وَكَذَا فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِنِّي لَا أقوم بذلك، وَأَحْرَى أَن أضن بوضعي من أَمِير الْمُؤمنِينَ وحالي أَن تَزُول عِنْده فَإِنِّي لم أر أحدا تعرض للْخدمَة والوزارة إِلَّا لم يكن لتسلم حَاله وَلَا تدوم مَنْزِلَته. قَالَ لَهُ الْمَأْمُون ياثمامة: فأشر على بِرَجُل صَالح لما أُرِيد؟ فَقلت: أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول يقوم بِالْخدمَةِ إِلَى أَن يرتاد أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده اللَّهِ للموضع من يصلح لَهُ على مَا فِيهِ من الأود واللدد. قَالَ: فَدَعَاهُ الْمَأْمُون فَأمره بِلُزُوم الْخدمَة فَلَمَّا تمكنت لَهُ الْخدمَة وَالْحُرْمَة تذمم الْمَأْمُون من تنحيته. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: قَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن عبد الْأَعْلَى الْكَاتِب: قَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا لِأَحْمَد بن أبي خَالِد: إِنِّي كنت عزمت أَلا أستوزر أحدا بعد ذِي الرئاستين وَقد رَأَيْت أَن أستوزرك. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أجعَل بيني وَبَين الْغَايَة منزلَة يَتَأَمَّلهَا صديقي فيرجوها لي، وَلَا يَقُول عدوى قد بلغ الْغَايَة وَلَيْسَ إِلَّا الانحطاط. فأستحسن الْمَأْمُون ذَلِك مِنْهُ واستوزره. وَقَالَ عَليّ بن مُحَمَّد: كَانَ أَحْمد بن أبي خَالِد كَاتب الْمَأْمُون شاميا مولى لبني عَامر بن لؤى وَأَبوهُ أَبُو خَالِد الْأَحول كَانَ كَاتبا لِعبيد اللَّهِ كَاتب الْمهْدي، وَكَانَ أَحْمد ابْن أبي خَالِد، وَابْن العمركي، وَأحمد بن يُوسُف أخوانا. فَكَانَ أَحْمد يأتيهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 إِلَى طعامهما وَكَانَ يعجب بالعدسية حب أهل الشأم للعدس. قَالَ أَبُو الْحسن: وَكنت أَجْلِس فِي مجْلِس أبي بِبَغْدَاد إِلَى أَن يعود من ركُوبه وَكَانَ يَأْمُرنِي إِذا أَبْطَأَ فحضره أخوانه وطلبوا الطَّعَام أَن أخرج الطَّعَام إِلَيْهِم فَمَا كَانَ أحدا مِنْهُم يطْلب الطَّعَام إِلَّا أَحْمد بن أبي خَالِد فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول لطباخ كَانَ لأبي تركي: أعندك العدسية؟ فَيَقُول: نعم. فيؤتي بهَا فيأ كل مِنْهَا أكل عشرَة وَيغسل يَده وينتظر أبي حَتَّى يَأْتِي فيأكل مَعَه كَأَنَّهُ لم يَأْكُل شَيْئا. حَدثنِي مُحَمَّد بن عِيسَى. قَالَ: وَقَالَ أَبُو زيد. حَدثنِي أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول بخراسان فِيمَا كَانَ يُخْبِرنِي بِهِ عَن كرم الْمَأْمُون، وفضله، وأحتماله وَحسن معاشرته أَنه سمع الْمَأْمُون يَوْمًا وَعِنْده على بن هِشَام، وأخواه أَحْمد، وَالْحُسَيْن ذكر عَمْرو بن مسْعدَة فأستبطأه وَقَالَ: أيحسب عَمْرو أَنِّي لَا أعرف أخباره، وَمَا يجبى إِلَيْهِ، وَمَا يُعَامل بِهِ النَّاس بلَى وَالله ثمَّ بَعثه أَلا يسْقط على مِنْهُ شئ؟ ! ونهض وانصرفنا. فقصدت عمرا من سَاعَتِي فخبرته بِمَا جرى وأنسيت أَن أستعجله من حكايته عني فراح عَمْرو إِلَى الْمَأْمُون فَظن الْمَأْمُون أَنه لم يحضر إِلَّا لأمر مُهِمّ لموقعه من الرسائل، والمظالم، والوزارة فَأذن لَهُ، فخبرني عَمْرو أَنه لما دخل عَلَيْهِ وضع سَيْفه بَين يَدَيْهِ وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا عَائِذ بِاللَّه من سخطه، ثمَّ عَائِذ بك من سخطك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. أَنا أقل من أَن يشكوني أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى أحد، أَو يسر على ضغنا ببعثه بعض الْكَلَام على إِظْهَاره مَا يظْهر مِنْهُ: فَقَالَ لي: وَمَا ذَاك؟ فخبرته بِمَا بَلغنِي وَلم أسم لَهُ مخبري فَقَالَ لي: لم يكن الْأَمر كَمَا بلغك، وَإِنَّمَا كَانَت جملَة من تَفْصِيل كنت على أَن أخْبرك بِهِ وَإِنَّمَا أخرج مني مَا أخرج معنى تحار بناه وَلَيْسَ لَك عِنْدِي أَلا مَا تحب فليفرخ روعك، وليحسن ظَنك. فَأَعَدْت الْكَلَام فمازال يسكن مني، ويطيب من نَفسِي حَتَّى تحلل بعض مَا كَانَ فِي قلبِي، ثمَّ بَدَأَ فضمني إِلَى نَفسه وَقبلت يَده فَأَهوى ليعانقنى فشكرته وتبينت فِي وَجهه الْحيَاء والخجل مِمَّا تأدي إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قَالَ أَحْمد: فَلَمَّا غَدَوْت على الْمَأْمُون قَالَ لي يَا أَحْمد: أما لمجلسي حزمة فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: وَهل الحزم إِلَّا لما فصل عَن مجلسك. قَالَ: مَا أَرَاكُم ترْضونَ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَة فِيمَا بَيْنكُم قَالَ: قلت وأية مُعَاملَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا كَلَام لَا أعرفهُ. قَالَ: بلَى. أما سَمِعت مَا كُنَّا فِيهِ أمس من ذكر عَمْرو ذهب بعض من حضر من بني هَاشم فخبره بِهِ فراح إِلَى عَمْرو مظْهرا مِنْهُ مَا وَجب عَلَيْهِ أَن يظهره فَدفعت مِنْهُ مَا أمكن دَفعه وَجعلت أعْتَذر إِلَيْهِ مِنْهُ بِعُذْر قد تبين فِي الخجل مِنْهُ وَكَيف يكون اعتذار إِنْسَان من كَلَام قد تكلم بِهِ إِلَّا كَذَلِك يتَبَيَّن فِي عَيْنَيْهِ، وشفتيه، وَوَجهه وَلَقَد أَعْطيته مَا كَانَ يقنع مني أقل مِنْهُ، وَمَا حداني عَلَيْهِ إِلَّا مَا دخلني من الخساسة وَإِنَّمَا كَانَ نطق بِهِ اللِّسَان عَن غير روية وَلَا أحتمال مَكْرُوه بِهِ. فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أَنا خبرت عمرا بِهِ لَا أحد من ولد هَاشم: فَقَالَ: أَنْت؟ قلت أَنا. فَقَالَ: مَا حملك على مَا فعلت؟ فَقلت: الشُّكْر لَك، والنصح والمحبة لإن تتمّ نِعْمَتك على أوليائك وخدمك أَنا أعلم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يحب أَن يصلح لَهُ الْأَعْدَاء، والبعداء، فَكيف الْأَوْلِيَاء والقرباء وَلَا سِيمَا مثل عَمْرو فِي دنوه من الْخدمَة وموقعه من الْعَمَل، ومكانه من رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ اللَّهِ بَقَاءَهُ فِيهِ سَمِعت أَمِير الْمُؤمنِينَ أنكر مِنْهُ شَيْئا فخبرته بِهِ ليصلحه، وَيقوم من نَفسه أودها لسَيِّده ومولاه ويتلافى مَا فرط مِنْهُ وَلَا يُفْسِدهُ مثله وَلَا يبطل العناء فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يكون مَا فعلت عَيْبا لَو أَشْعَث سرا فِيهِ قدح فِي السُّلْطَان أَو نقص تَدْبِير قد استتب فَأَما مثل هَذَا فَمَا حسبته يبلغ أَن يكون ذَنبا على. فَنظر إِلَى مَلِيًّا ثمَّ قَالَ: كَيفَ قلت؟ . فَأَعَدْت عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: أعد فَأَعَدْت الثَّالِثَة. فَقَالَ: أَحْسَنت وَالله يَا أَحْمد لما خبرتني بِهِ أحب إِلَى من ألف ألف، وَألف ألف، ألف ألف وَعقد خِنْصره وبنصره وَالْوُسْطَى وَقَالَ: أما ألف ألف فلنفيك عني سوء الظَّن وَأطلق وسطاه، وَأما ألف ألف فلصدقك إيَّايَ عَن نَفسك وَأطلق البنصر. وَأما ألف ألف فلحسن جوابك وَأطلق الْخِنْصر وَأمر لي بِمَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قَالَ أَبُو عباد: لما ناقب الْمَأْمُون أَحْمد بن أبي خَالِد قَالَ: مَا أَظن أَن اللَّهِ خلق فِي الدُّنْيَا نفسا أنبل وَلَا أكْرم من نفس الْمَأْمُون: قلت. وَبِمَا ذَاك؟ قَالَ: كَانَ قد عرف نفس الرجل يَعْنِي أَحْمد بن أبي خَالِد وشرهه فَكَانَ إِذا وَجهه إِلَى رجل برسالة أَو فِي حَاجَة قَالَ: آيَته بِالْغَدَاةِ واخلع ثِيَابك وَاطْمَأَنَّ عِنْده فَإِن انصرفت وَقد قُمْت فَاكْتُبْ إِلَى بِجَوَاب مَا جِئْت بِهِ فِي رقْعَة وأدفعها إِلَى فتح يوصلها إِلَى. وحَدثني بعض أَصْحَابنَا قَالَ: قَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا لِأَحْمَد بن أبي خَالِد: أغد على باكرا لأخذ الْقَصَص الَّتِي عنْدك فَإِنَّهَا قد كثرت لنقطع أُمُور أَصْحَابهَا فقد طَال صبرهم على انتظارها فبكر وَقعد لَهُ الْمَأْمُون فَجعل يعرضهَا عَلَيْهِ ويوقع عَلَيْهَا إِلَى أَن مر بِقصَّة رجل من اليزيديين يُقَال لَهُ فلَان اليزيدي فصحف وَكَانَ جائعا فَقَالَ: الثريدي. فَضَحِك الْمَأْمُون وَقَالَ يَا غُلَام: ثريدة ضخمة لأبي الْعَبَّاس فَإِنَّهُ أصبح جائعا، فَخَجِلَ أَحْمد وَقَالَ: مَا أَنا بجائع يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَكِن صَاحب هَذِه الْقِصَّة أَحمَق وضع نسبته ثَلَاث نقط. قَالَ: دع هَذَا عَنْك فالجوع أضرّ بك حَتَّى ذكرت الثَّرِيد: فجاؤوه بصحفة عَظِيمَة كَثِيرَة الْعرَاق والودك، فأحتشم أَحْمد: فَقَالَ الْمَأْمُون: بحياتي عَلَيْك لما عدلت نَحْوهَا فَوضع الْقَصَص وَمَال إِلَى الثَّرِيد فَأكل حَتَّى انْتهى والمأمون ينظر إِلَيْهِ فَلَمَّا فرغ دَعَا بطست فَغسل يَده وَرجع إِلَى الْقَصَص فمرت بِهِ قصَّة فلَان الْحِمصِي فَقَالَ: فلَان الخبيصي. فَضَحِك الْمَأْمُون وَقَالَ يَا غُلَام: جَاما ضخما فِيهِ خبيص فَإِن غداء أبي الْعَبَّاس كَانَ مبتورا. فَخَجِلَ أَحْمد وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ صَاحب هَذِه الْقِصَّة أَحمَق فتح الْمِيم فَصَارَت كَأَنَّهَا سنتَيْن. قَالَ دع عَنْك هَذَا فلولا حمقه وحمق صَاحبه لمت جوعا فجاؤوه بجام خبيص فَخَجِلَ. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون بحياتي عَلَيْك إِلَّا ملت إِلَيْهَا فانحرف فانثنى عَلَيْهِ وَغسل يَده ثمَّ عَاد إِلَى الْقَصَص فَمَا أسقط حرفا حَتَّى أَنِّي على آخرهَا. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وَلما انْصَرف دِينَار بن عبد اللَّهِ عَن الْجَبَل كَانَ الْمَأْمُون واجدا عَلَيْهِ فَأَقَامَ فِي الْمَدَائِن فِي حراقته حينا حَتَّى رضى عَنهُ. قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فَوجه إِلَيْهِ الْمَأْمُون أَحْمد بن أبي خَالِد وَقَالَ: قل لَهُ فعلت كَذَا، وصنعت كَذَا. واحفظ مَا يرجع إِلَيْك من جَوَابه. فَلَمَّا مضى أَحْمد قَالَ لياسر رجله وَكَانَ قد سمع الرسَالَة وَالْكَلَام الَّذِي حمله إِلَى دِينَار اتبعهُ فَأنْظر مَا يَقُول لدينار وَمَا يرد عَلَيْهِ وأعلمني مَا يصنع عِنْده فَإِنَّهُ إِن تغدى عِنْده رَجَعَ بِكُل مَا يحب دِينَار، وَإِن لم يطعمهُ رَجَعَ بِكُل مَا يكره. قَالَ: فَلَمَّا خرج علم وَكيل دِينَار أَنه يُريدهُ فَوجه رَسُولا إِلَى صَاحبه يُخبرهُ بمجيئه. فَقَالَ دِينَار لقهرمانه: إِن أَحْمد أشره من نفخ فِيهِ الرّوح فَانْظُر إِذا هُوَ خرج من المَاء فَقل لَهُ مَا الَّذِي يتَّخذ لَك حَتَّى تتغدى بِهِ فَلَمَّا خرج من الحراقة قَالَ لَهُ ذَلِك. قَالَ. فراريج كسكرية بِخبْز المَاء وَمَاء الرُّمَّان. قَالَ: فذبح لَهُ عشرُون فروجا وشواها وخبز خبز المَاء فِي أقل من سَاعَة ثمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: قد تهَيَّأ طعامنا. قَالَ: وَيلك هَات فَإِنِّي أجوع من كلب. فَقرب إِلَيْهِ الطَّعَام فَأتى على الفراريج حَتَّى لم يدع إِلَّا عظما عَارِيا وَقرب إِلَيْهِ الْحَار والبارد والحلو والحامض فَمَا وضع بَين يَدَيْهِ شئ إِلَّا أثر فِيهِ فَلَمَّا انْتهى جَاءَهُ الطباخ بِخمْس سمكات على طبق يلوح لَهُ بهَا فصاح بالقهرمان يَا ابْن الخبيثة: كَانَ يَنْبَغِي أَن تقدم هَذَا قبل كل شئ فَقَالَ صدق وَالله وَلَكِن هاته فَأكل مِنْهُ أكل من لم يذقْ شَيْئا ثمَّ قَالَ لدينار يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ: قد حصلت لنا قبلك أَمْوَال مِنْهَا مَا هُوَ بخطك فِي الدِّيوَان، وَمِنْهَا مَا أَقرَرت بهَا على لِسَان كاتبك. قَالَ: فَقَالَ دِينَار: مَا لكم قبلي إِلَّا سَبْعَة آلَاف ألف مَا أعرف غَيرهَا. قَالَ: فاحمل هَذَا المَال الَّذِي لَا تنكره. قَالَ احمله فِي ثَلَاث نُجُوم قَالَ فاتفقنا على ذَلِك. قَالَ: فَلَمَّا تغدى وثقلت معدته هم بالانصراف فَقَالَ: أعد على الْجَواب قَالَ نعم: لكم عِنْدِي سِتَّة آلَاف ألف قَالَ يَاسر: إِنَّهَا سَبْعَة الآلف ألف وهدأ أَبُو الْعَبَّاس فَسَأَلَهُ قَالَ يَا أَبَا الْعَبَّاس: ألم تقل السَّاعَة لكم عِنْدِي سَبْعَة آلَاف ألف؟ قَالَ: مَا أحفظ مَا قَالَ وَلَكِن قل السَّاعَة يحفظ كلامك. قَالَ دِينَار مَا قلت إِلَّا سِتَّة آلَاف ألف فَانْصَرف أَحْمد وَسَبقه يَاسر فَدخل فَحكى لِلْمَأْمُونِ الْقِصَّة حرفا. حرفا. فَلَمَّا دخل أَحْمد أخبرهُ بِمَا قَالَ دِينَار حَتَّى انْتهى إِلَى جملَة المَال فَقَالَ: أقرّ بِخَمْسَة آلَاف ألف فَضَحِك الْمَأْمُون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَقَالَ: ألف الف للغداء قد عرفنَا موضعهَا. فالألف الْألف الْأُخْرَى لماذا سَقَطت فَأخذ بِسِتَّة آلَاف ألف وَقَالَ: مَا رَأَيْت غداء قطّ بِأَلف ألف على رجل وَاحِد إِلَّا غداء دِينَار علينا. وَسمعت من يذكر أَنه ولى رجلا كورة عَظِيمَة الْقدر بخوان فالوذج أهداه إِلَيْهِ. قَالَ: وحَدثني بعض أَصْحَابنَا ان جمَاعَة من أهل كورة الأهواز شكوا عَاملا كَانَ عَلَيْهِم فعزل وَصَارَ إِلَى مَدِينَة السَّلَام فتكلموا فِيهِ فأنهى خبرهم إِلَى الْمَأْمُون فأحضرهم وخصمهم وَأمر أَحْمد بن أبي خَالِد بِالنّظرِ فِي امورهم. فَقَالَ رجل من خصوم الْعَامِل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: جعلني اللَّهِ فدَاك تقدم إِلَى أَحْمد ان لَا يقبل من هَذَا الْفَاجِر هَدِيَّة حَتَّى يقطع أمرنَا. فوَاللَّه لَئِن أكل من طَعَامه رغيفا، وَمن فالوذحة جَاما ليد حضن اللَّهِ حجتنا على يَدَيْهِ، وليبطلن حَقنا على يَدَيْهِ. فَقَالَ: أحضروا يَوْم الْأَرْبَعَاء حَتَّى انْظُر فِي أُمُوركُم بنفسي وَأجْرِي على ابْن أبي خَالِد فِي كل يَوْم ألف دِرْهَم لمائدته لِئَلَّا يشره إِلَى طَعَام أحد من بطانته. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: رفع إِلَى الْمَأْمُون فِي الْمَظَالِم أَن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يجرى على أَحْمد بن أبي خَالِد نزلا فَإِن فِيهِ جنسية من الْكلاب وَقَالَ: إِن الْكَلْب يحرس الْمنزل بالكسرة واللقمة، وَأحمد بن أبي خَالِد يقتل الْمَظْلُوم ويعين الظَّالِم بِأَكْلِهِ. قَالَ: فَأجرى عَلَيْهِ الْمَأْمُون ألف دِرْهَم فِي كل يَوْم لمائدته فَكَانَ مَعَ هَذَا يشره إِلَى طَعَام النَّاس وتمتد عينه إِلَى هَدِيَّة تَأتيه وَفِيه يَقُول دعبل: - (شكرنا الْخَلِيفَة إجراءه ... على ابْن أبي خَالِد نزله) (وكف أَذَاهُ عَن الْمُسلمين ... وصير فِي بَيته أكله) (وَقد كَانَ يقسم أشغاله ... فصير فِي نَفسه شغله) وَقَالَ أَيْضا يهجوه وَيذكر أَبَا عباد، وَعَمْرو بن مسْعدَة ويصف شراهة أَحْمد ابْن أبي خَالِد: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 (لَوْلَا تكون لكاتب لَك ربعه ... يقْضى الْحَوَائِج مستطيل الرَّأْس) (لم تغد بالملبون عِنْد فطامه ... يَوْمًا وَلَا بمطجن القلقاس) (أَو كَانَ مسْعدَة الْكَرِيم نجاره ... بَيت الْكِتَابَة فِي بني الْعَبَّاس) (يَغْدُو على أضيافه مستطعما ... كَالْكَلْبِ يَأْكُل فِي بيُوت النَّاس) قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا أسى اللِّقَاء، عَابس الْوَجْه يهر فِي وُجُوه الْخَاص وَالْعَام غير أَن فعله كَانَ أحسن من لِقَائِه، وَكَانَ من عرف أخلاقه، وصبر على مداراته نَفعه، وَعرضه، وأكسبه وَكَانَ يرْمى هُوَ وَالْفضل بن الرّبيع قبله، والحراني قبلهمَا بالأبنة كَمَا ذكر. حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ: وَقع بَين أَحْمد بن أبي خَالِد، وَمُحَمّد بن الْفضل بن سُلَيْمَان الطوسي كَلَام وَجَرت بَينهمَا مُنَازعَة بِحَضْرَة الْمَأْمُون، وَكَانَ ابْن الطوسي سليط اللِّسَان بذئ الْكَلَام. فَقَالَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لحدثني ذُو اليمينين طَاهِر بن الْحُسَيْن أَنه استزاره وَأَنه نادمة قَالَ فَقَامَ لقَضَاء حَاجته وَأَبْطَأ على ذى اليمينين رُجُوعه فَذكر أَنه خرج فِي أَثَره فَإِذا بعض غلمانه على ظَهره وَهَذَا ذُو اليمينين بالحضرة مَا استشهدت مَيتا، وَلَا كذبت على غَائِب مُتَعَمدا. فَأمر الْمَأْمُون بإحضار ذِي اليمينين فَحَضَرَ فَسَأَلَهُ فَأنْكر ذَلِك انكارا ضَعِيفا وَلم يَدْفَعهُ دفعا قَوِيا. قَالَ: فأتضع عِنْد الْمَأْمُون بعد هَذِه. وتهيأ ان حمل يحيى بن أَكْثَم إِلَيْهِ من أَمْوَال الحشرية ثَلَاث مائَة ألف دِينَار وَهُوَ إِذْ ذَاك حَاكم أهل الْبَصْرَة وَقبل ذَلِك مَا وَصله الْحسن ابْن سهل وَقَالَ من حَاله ونبله وَمن فهمه وَمن صيانته نَفسه مَا حرك الْمَأْمُون على أجتبائه واختياره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ذكر وَفَاة أَحْمد بن أبي خَالِد قَالَ: لما مَاتَ أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول حضر الْمَأْمُون جنَازَته وَصلى عَلَيْهِ فَلَمَّا ولى فِي حفرته ترحم عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: أَنْت وَالله كَمَا قَالَ الْقَائِل: - (أَخُو الْجد إِن جد الرِّجَال وشمروا ... وَذُو بَاطِل إِن كَانَ فِي الْقَوْم بَاطِل) وَكَانَت وَفَاة أَحْمد بن أبي خَالِد فِي ذِي الْقعدَة سنة أحدى عشر وَمِائَتَيْنِ. حَدثنِي عبد الْوَهَّاب بن أَشْرَس قَالَ: قَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول يَوْمًا لثمامة بِحَضْرَة الْمَأْمُون يَا ثُمَامَة: كل أحد فِي الدَّار فَلهُ معنى غَيْرك فَإِنَّهُ لَا معنى لَك فِي دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ لَهُ ثُمَامَة: إِن معناى فِي الدَّار وَالْحَاجة إِلَى لبينة. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي تصلح لَهُ؟ قَالَ: أشاور فِي مثلك هَل تصلح لموضعك أم لَا تصلح. قَالَ: فأفحم. فَمَا رد عَلَيْهِ جَوَابا. حَدثنِي مُحَمَّد بن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم قَالَ. أَرَادَ الْمَأْمُون الْخُرُوج إِلَى الْمَدَائِن فأستخلف أَحْمد بن أبي خَالِد فِي الرصافة.، واستخلف عَمْرو بن مسْعدَة فِي المخرم. قَالَ: فَقَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِنَّك تشخص وتخلف ببابك أحرارا،، وأشرافا أَعينهم ممدودة إِلَى فضلك، وآمالهم فِيك منفسحة، فَإِذا شخصت انْقَطَعت آمالهم فَلَو أمرت لَهُم بِمَال فَفرق فيهم بعد شخوصك كَأَنَّهُمْ لم يفقدون. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون: قدر فِي ذَلِك تَقْديرا. قَالَ: ليأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا رأى. قَالَ: قد أمرت لَهُم بِأَلف ألف دِرْهَم تفرقها فيهم على قدر استحقاقهم. قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَحْمد بن أبي خَالِد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فعندي مَا أُرِيد أَن أوردهُ بَيت مَال أَمِير الْمُؤمنِينَ أفاجعلهم مِنْهُ.؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فشخص الْمَأْمُون إِلَى الْمَدَائِن، وَقعد عَمْرو فِي المخرم، وَأحمد بن أبي خَالِد فِي الرصافة فَجعل ابْن أبي خَالِد يتَذَكَّر من يؤمله وهم بِبَاب الْخَلِيفَة من الْأَحْرَار والاشراف فيسمى لكل رجل بِمَال ويجعله فِي كيس وَيكْتب عَلَيْهِ اسْمه حَتَّى تعدى إِلَى أَصْحَاب عَمْرو بن مسْعدَة فَكتب أَسْمَاءَهُم ثمَّ قَالَ أذن للنَّاس. فَجعل لَا يدْخل عَلَيْهِ رجل إِلَّا قَالَ لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ ذكرك وَقد أَمر لَك بِمَال: قَالَ: ثمَّ يَدْعُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بِهِ فَيدْفَع إِلَيْهِ فَمَا دخل عَلَيْهِ أحد يَوْمئِذٍ فَخرج من عِنْده مخفقا، وَبلغ الْخَبَر أَصْحَاب عَمْرو فَأتوهُ وَأخذُوا صلَاتهم فَكثر النَّاس على بَابه وخفوا عَن بَاب عَمْرو حَتَّى كَانَ لَا يلْزمه إِلَّا كِتَابه. قَالَ فَأَتَاهُ بعد ذَلِك بيومين أَو ثَلَاث رجل من آل مَرْوَان بن أبي حَفْصَة فَمثل بَين يَدَيْهِ فأنشده: - (قل للْإِمَام وَخير القَوْل أصدقه ... رَأس الْمُلُوك وَمَا الأذناب كالرأس) (إِنِّي أعوذ بهَارُون وحفرته ... وقبر عَم نَبِي الله عَبَّاس) (من أَن تكربنا يَوْمًا رواحلنا ... إِلَى الْيَمَامَة من بَغْدَاد باليأس) قَالَ: فَقَالَ وَيحك يَا غُلَام مَا بقى عنْدك من ذَلِك المَال؟ . قَالَ عشرَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: فأدفعها إِلَيْهِ: قَالَ فَدفعت إِلَيْهِ. قَالَ حَدثنِي جرير النَّصْرَانِي: أَن أَحْمد بن أبي خَالِد كلم الْمَأْمُون فِي جَاره صَالح الأضخم وَأخْبرهُ أَنه كَانَ لله عَلَيْهِ نعْمَة وَأَن حَالَة قد رثت فَأمر لَهُ بِأَرْبَع مائَة ألف دِرْهَم. فَقَالَ لَهُ مازحا: كلمت أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمرك فَلم يكن عِنْده فِي حَاجَتك شَيْء. قَالَ: لِأَنَّك كَلمته ونيتك ضَعِيفَة فَخرج الْكَلَام على قدر النِّيَّة وَالْجَوَاب على قدر الْكَلَام. قَالَ: فَقَالَ مَا أفتلت مِنْك على مَال فصالحني على شَيْء أخبرهُ بِهِ فَلَعَلَّهُ يفعل أَو أعطيكه من مَالِي. قَالَ: أما من مَالك فَلَا حَاجَة لي فِيهِ وَلَا أَقُول فِي هَذَا شَيْء. قَالَ أَحْمد: مائَة ألف قَالَ إِن فِيهَا لصلاح. قَالَ فَإِن كَانَت مِائَتَيْنِ؟ قَالَ فَذَاك أفضل يقْضِي بِهِ الدّين ويتخذ بِهِ الْمُرُوءَة، وَتَكون مِنْهَا ذخيرة. قَالَ: فقد أَمر لَك بِأَرْبَع مائَة ألف فَقَالَ: يَا معشر النَّاس فِي الدُّنْيَا خلق أشر من هَذَا. عنْدك هَذَا الْخَبَر وتعذبني هَذَا الْعَذَاب ثمَّ دَعَا وشكر. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وخبرت أَن الْمَأْمُون قَالَ لِأَحْمَد يَوْمًا: أيش تصنع إِذا انصرفت السَّاعَة. قَالَ: أَقْْضِي حق أبي سعيد الْحسن بن قَحْطَبَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 عَائِدًا، وَأَنه لرث الْحَال. قَالَ: تحب أَن أهب لَهُ شَيْئا. قَالَ: أحب أَن تهب لأوليائك كلهم. قَالَ: أعْطه مائَة ألف. قَالَ: أحملها إِلَيْهِ السَّاعَة من بَيت المَال؟ فَقَالَ الْمَأْمُون: نعم. قَالَ: جَزَاك اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن شيعتك، وأوليائك خيرا فحملها إِلَيْهِ وَأخْبر الْخَبَر. وحَدثني بعض أَصْحَابنَا: أَن مُحَمَّد بن الْحسن بن مُصعب أَتَى أَحْمد بن أبي خَالِد لما ولى الْجَبَل وَهُوَ يُرِيد الْخُرُوج إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كنت سميت لَك ثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم من مَال أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقد وَقعت بهَا وَأَنت تخرج. وَقَالَ لقهر مانة يزِيد بن الْفرج: أذهب إِلَى الْخزَّان فَلَا تفارقهم حَتَّى يحملوها إِلَيْهِ، وأعطه من مَالِي مائَة ألف وَخمسين ألف دِرْهَم لِأَنَّهُ لَا يجوز لي أَن أجاوز نصف مَا أَمر بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ اللَّهِ بَقَاءَهُ. فَتعذر مُحَمَّد بن الْحسن من صلته فَقَالَ: وَالله لَئِن لم تقبلهَا لأقطعنك وَلَا كلمتك أبدا فَسَار يزِيد أَحْمد بن أبي خَالِد فَقَالَ: المَال عندنَا الْيَوْم يتَعَذَّر. فَقَالَ: لَا بُد وَالله من أَنه تحمل إِلَيْهِ السَّاعَة مائَة ألف دِرْهَم دفْعَة. وَقَالَ: قَالَ الْمَأْمُون لِأَحْمَد بن أبي خَالِد وغسان بعد أَن ظفر بإبراهيم بن الْمهْدي مَا تريان فِيهِ؟ فَقَالَ غَسَّان: تقتله. فَقَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: تَعْفُو عَنهُ. فَقَالَ لَهُ غَسَّان: هَل رَأَيْت أحدا فعل هَذَا الْفِعْل. فَقَالَ لَهُ أَحْمد: الْعَفو صَوَاب أَو خطأ؟ . قَالَ لَهُ: صَوَاب. فَقَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: أَمِير الْمُؤمنِينَ أولى النَّاس بِأَن يفعل من الصَّوَاب مَا لم يسْبقهُ أحد. فَعَفَا عَن إِبْرَاهِيم. وَقَالَ لِلْمَأْمُونِ: إِنَّمَا أَشَارَ عَلَيْك غَسَّان بقتْله لِأَنَّهُ حَارب آل ذِي الرئاستين. وحَدثني أَن أَحْمد بن أبي خَالِد كَانَ يَقُول: يهدي إِلَى الطَّعَام فوَاللَّه مَا أَدْرِي مَا أصنع بِهِ يهديه إِلَى صديق أستحى من رده عَلَيْهِ. وَبَلغنِي أَن أَحْمد بن أبي خَالِد كَانَ يجْرِي ثَلَاثِينَ ألفا على رجال من أهل الْعَسْكَر، مِنْهُم: الْعَبَّاس، وهَاشِم ابْنا عبد اللَّهِ بن مَالك لم يُوجد لَهَا ذكر فِي ديوانه تكرما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وحَدثني جرير بن إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس قَالَ: بَعَثَنِي أَحْمد بن أبي خَالِد إِلَى طَلْحَة بن طَاهِر فَقَالَ: قل لَهُ لَيْسَ لَك بِالسَّوَادِ ضَيْعَة وَهَذِه ألف ألف دِرْهَم بعثت بهَا إِلَيْك فأشتر بهَا ضَيْعَة، وَالله لَئِن لم تأخذها لأغضبن، وَإِن أَخَذتهَا لتسرنني فَردهَا فَقَالَ إِبْرَاهِيم: مَا رَأَيْت أكْرم مِنْهُمَا أَحْمد بن أبي خَالِد معطيا وَطَلْحَة متنزها ذكر اتِّصَال أَحْمد بن يُوسُف بالمأمون قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: كَانَ أَحْمد بن أبي خَالِد يصف لأمير الْمُؤمنِينَ أَحْمد بن يُوسُف كثيرا، ويحمله على منادمته، ويريده طَاهِر بن الْحُسَيْن ويزين أمره وَإِذا حضر إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أطراه فَأمر الْمَأْمُون أَحْمد بن أبي خَالِد بإحضاره فَلَمَّا أخذُوا مجَالِسهمْ غمز أَحْمد بن أبي خَالِد أَحْمد بن يُوسُف أَن يتَكَلَّم فَقَالَ: الْحَمد لله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي استخصك فِيمَا استحفظك من دينه، وقلدك من خِلَافَته بسوابغ نعمه، وفضائل قسمه، وعرفك من تيَسّر كل عسير حاولك، وغلبه كل متمرد صاولك مَا جعله تكمله لما حباك بِهِ من موارد أُمُوره بنجح مصادرها حمدا ناميا زَائِدا لَا يَنْقَطِع أولاه وَلَا يَنْقَضِي أخراه، وَأَنا أسئل اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من اتمام آلائه لديك، وإنماء مننه عَلَيْك، وكفايته مَا ولاك واسترعاك، وتحصين مَا حَاز لَك، والتمكين فِي بِلَاد عَدوك حَتَّى يمْنَع بك بَيْضَة الاسلام، ويعزبك أهلك ويبيح لَك حماة الشّرك، يجمع لَك متباين الألفة، وينحز بك فِي أهل العنود والضلالة إِنَّه سميع الدُّعَاء، فعال لما يَشَاء. فعال لما يَشَاء. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَحْسَنت وبورك عَلَيْك ناطقا وساكتا. ثمَّ قَالَ بعد أَن بلاه وأختبره: عجبا لِأَحْمَد بن يُوسُف كَيفَ اسْتَطَاعَ أَن يخبأ نَفسه. حَدثنِي أَبُو الطّيب بن عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن يُوسُف قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد ابْن يُوسُف بعد دُخُوله على الْمَأْمُون يتقلد ديوَان السِّرّ لِلْمَأْمُونِ وبريد خُرَاسَان، وصدقات الْبَصْرَة، وصير لَهُ الْمَأْمُون نصف الصَّدقَات بِالْبَصْرَةِ طعمة لَهُ سبع سِنِين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَكَانَ قبل ولَايَته الْبَصْرَة سلفة الأهواز فصرف عَنْهَا وَكَانَ عَمْرو بن مسْعدَة يتقلد ديوَان الرسائل فَكَانَ الْمَأْمُون لعلمه بقدم أَحْمد فِي صناعته إِذا حضر أَمر يحْتَاج فِيهِ إِلَى كتاب يشهر وَيذكر أَمر أَحْمد فَكتب. مثل كتاب الخميسين، وَهدم الْبَيْت الْمُشبه بِالْكَعْبَةِ، وَسَائِر كتبه بليغة. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: دخل أَحْمد بن يُوسُف يَوْمًا على الْمَأْمُون فَأمره فَكتب بَين يَدَيْهِ والمأمون يملى عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَانَ أَحْمد بن يُوسُف مَعَ لِسَانه حُلْو الْخط جدا. فَنظر الْمَأْمُون إِلَى خطه. فَقَالَ يَا أَحْمد:: لَوَدِدْت أَنِّي أخط مثل خطك وعَلى صَدَقَة ألف ألف دِرْهَم. قَالَ: فَقَالَ أَحْمد بن يُوسُف: لَا يسوؤك اللَّهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن اللَّهِ عز وَجل لَو ارتضى الْخط لأحد من خلقه لعلمه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون سريتها عني يَا أَحْمد. وَأمر لَهُ بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم. وحَدثني عَن أَحْمد بن يُوسُف بن الْقَاسِم الْكَاتِب قَالَ أَمرنِي الْمَأْمُون أَن أكتب إِلَى جَمِيع الْعمَّال فِي اخذ النَّاس بالاستكثار من المصابيح فِي شهر رَمَضَان وتعريفهم مَا فِي ذَلِك من الْفضل فَمَا دَريت مَا أكتب وَلَا مَا أَقُول فِي ذَلِك إِذْ لم يسبقني إِلَيْهِ أحد فأسلك طَرِيقه ومذهبه فَقلت فِي وَقت نصف النَّهَار - فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: قل: فَإِن فِي ذَلِك أنسأ للسائلة، وإضآءة للمجتهدين، ونفيا لمظان الريب، وتنزيها لبيوت اللَّهِ من وَحْشَة الظلمَة فَكتبت هَذَا الْكَلَام وَغَيره مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: وَدخل أَحْمد بن يُوسُف على الْمَأْمُون فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رضى أهل الصَّدقَات عَن رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أنزل اللَّهِ عز وَجل فيهم: {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا أذاهم يسخطون} فَكيف يرضون عني. حَدثنِي أَحْمد بن الْقَاسِم الْكَاتِب. قَالَ: حَدثنِي نصر الْخَادِم مولى أَحْمد بن يُوسُف قَالَ: كَانَ أَحْمد بن يُوسُف يتبني مؤنسة جَارِيَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَجرى بَينهَا وَبَين الْمَأْمُون بعض مَا يجرى. قَالَ: وَخرج الْمَأْمُون إِلَى الشماسية وَخَلفهَا فجَاء رسولها إِلَى أَحْمد بن يُوسُف تستغيث بِهِ فوجهني أَحْمد إِلَيْهَا فَعرفت الْخَبَر ثمَّ رجعت فَأَخْبَرته. قَالَ: فَقَالَ: دَابَّتي. ثمَّ مضى فلحق أَمِير الْمُؤمنِينَ بالشماسية فَقَالَ للحاجب: اعْلَم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أَحْمد بن يُوسُف بِالْبَابِ وَهُوَ رَسُول فَأذن لَهُ فَدخل فَسَأَلَهُ عَن الرسَالَة مَا هِيَ؟ فَانْدفع ينشده: - (قد كَانَ عتبك مرّة مكتوما ... فاليوم أصبح ظَاهرا مَعْلُوما) (نَالَ الأعادي سؤلهم لاهنئوا ... لما رأوني ظَاعِنًا ومقيا) (هبني أَسَأْت فعادة لَك أَن ترى ... متفضلا متجاوزا مَظْلُوما) قَالَ: قد فهمت الرسَالَة. كن الرَّسُول بالرضاء. يَا يَاسر: امْضِ مَعَه. قَالَ: فَحملت الرسَالَة وَحملهَا يَاسر. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: قَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا لأَصْحَابه أخبروني عَن غَسَّان بن عباد قَالَ أريده لأمر جسيم وَكَانَ قد عزم أَن يوليه السَّنَد. فَقَالَ بشر ابْن دَاوُد بن يزِيد: قد خَالف واستبد بالفيء وَالْخَرَاج فَتكلم الْقَوْم وأطنبوا فِي مدحه فَنظر الْمَأْمُون إِلَى أَحْمد بن يُوسُف وَهُوَ سَاكِت. فَقَالَ لَهُ: مَا تَقول يَا أَحْمد؟ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: ذَاك رجل محاسنه أَكثر من مساويه، لَا تصرف بِهِ طباقه إِلَّا انتصف مِنْهُم مهما تخوفت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لن يَأْتِي أمرا يعْتَذر مِنْهُ، لِأَنَّهُ قسم أَيَّامه بَين أَيَّام الْفضل فَجعل لكل خلق نوبَة إِذا نظرت فِي أمره لم تدر أَي حالاته أعجب أما هداه إِلَيْهِ عقله، أم مَا اكْتَسبهُ بالأدب. قَالَ: لقد مدحته على سوء رَأْيك فِيهِ. قَالَ: لِأَنَّهُ فِيمَا قلت كَمَا قَالَ الشَّاعِر: - (كفى ثمنا لما أسديت أَنِّي ... مدحتك فِي الصّديق وَفِي عدائي) (وَإنَّك حِين تنصبني لأمر ... يكون هَوَاك أغلب من هوائي) قَالَ: فأعجب الْمَأْمُون كَلَامه واسترجح أدبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قَالَ عزى: أَحْمد بن يُوسُف ولد رجل من آل الرّبيع وَكَانَ لَهُ مواصلا فَقَالَ: عظم اللَّهِ أجركُم، وجبر مصابكم، وَوجه الرَّحْمَة إِلَى فقيدكم، وَجعل لكم من وَرَاء مصيبتكم حَالا تجمع كلمتكم، وتلم شعثكم، وَلَا تفرق ملأكم. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وَلما حضر أَحْمد بن يُوسُف بالمأمون وَغلب عَلَيْهِ حسده المعتصم فاحتال لَهُ بِكُل حِيلَة فَلم يجد وَجها يسبعه بِهِ عِنْده، وَكَانَ الْمَأْمُون يُوَجه إِلَى أَحْمد بن يُوسُف فِي السحر ويحضر المعتصم وَأَصْحَابه فِي وَقت الْغَدَاء فَكَانَ ذَلِك مِمَّا أغتم لَهُ خَاصَّة الْمَأْمُون أجمع. فَشَكا ذَلِك المعتصم إِلَى مُحَمَّد بن الْخَلِيل بن هِشَام وَكَانَ خَاصّا بالمعتصم فَقَالَ: أَنا أحتال لَهُ. قَالَ: فَدس مُحَمَّد بن الْخَلِيل خَادِمًا مِمَّن يقوم على رَأس الْمَأْمُون فَقَالَ لَهُ: إِذا خص الْمَأْمُون أَحْمد بن يُوسُف بكرامة أَو لون من الألوان وَلم يكن لذَلِك أحد حَاضر فَأَعْلمنِي وَضمن لَهُ على ذَلِك ضمانا فَوجه الْمَأْمُون يَوْمًا فِي السحر كَمَا كَانَ يفعل إِلَى أَحْمد بن يُوسُف وَلَيْسَ عِنْده أحد، وَتَحْته مجمرة عَلَيْهَا بَيْضَة عنبر وَكَانَ أَمر بوضعها حِين دخل أَحْمد وَلم تكن النَّار علت فِيهَا إِلَّا أَخذ ذَلِك فَأَرَادَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يكرم أَحْمد بهَا ويؤثره فَقَالَ للخادم: خُذ المجمرة من تحتي وصيرها تَحت أَحْمد. ويحضر مُحَمَّد بن الْخَلِيل فيخبره الْخَادِم بذلك. وَكَانَ الْمَأْمُون يستطرف مُحَمَّد بن الْخَلِيل ويدعوه أَحْيَانًا فَيَقُول لَهُ: مَا تَقول الْعَامَّة، وَمَا يتحدث بِهِ النَّاس؟ فيخبره بذلك. فَدَعَاهُ بعد يَوْم المجمرة بأيام فَقَالَ لَهُ مَا تَقول النَّاس.؟ فَقَالَ يَا سَيِّدي شَيْء حدث مُنْذُ لَيَال من ذكرك أجل سَمعك مِنْهُ. فَقَالَ لَا بُد من أَن تُخبرنِي. فَقَالَ: انصرفت يَوْمًا فمررت بمشرعة وَأَنا فِي الزلَال فَسمِعت سقاء يَقُول لآخر مَعَه مَا رَأَيْت كَمَا يخبر ندماء هَذَا الرجل عَنهُ. فَقَالَ لَهُ وَمن تعنى؟ . قَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ لَهُ وَمَا ذَاك؟ قَالَ: انْصَرف من عِنْده أَحْمد بن يُوسُف فَسَمعته يَقُول لغلامه: مَا رَأَيْت أحدا قطّ ابخل وَلَا أعجب من الْمَأْمُون. دخلت عَلَيْهِ الْيَوْم وَهُوَ يتبخر فَلم تتسع نَفسه أَن يَدْعُو لي بِقِطْعَة بخور حَتَّى أخرج القتار الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ فبخرني بِهِ. فَعرف الْمَأْمُون الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَقَالَ فِي نَفسه. وَالله مَا حضر هَذَا الْيَوْم أحد فأتوهم فِيهِ ضربا من الضروب. وجفا أَحْمد بن يُوسُف وحجبه أَيَّامًا. وَأخْبر مُحَمَّد بن الْخَلِيل المعتصم فوفى لَهُ بِمَا كَانَ فَارقه عَلَيْهِ. أَخْبَار أبي دلف الْقَاسِم بن عِيسَى بن أدريس قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: قَالَ أَحْمد بن يُوسُف حَدثنِي ظريف مَوْلَانَا وَكَانَ نحويا قَالَ: وجهني مولاى الْقَاسِم بن يُوسُف بِكِتَاب إِلَى أبي دلف الْقَاسِم بن عِيسَى وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِبَغْدَاد قَالَ: فَدخلت عَلَيْهِ وَعِنْده على بن هِشَام وَجَمَاعَة من قواد أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ مكبوب على شطرنج بَين أَيْديهم فقر بني وساءلني وَأخذ الْكتاب وَأَمرَنِي بِالْجُلُوسِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ على بن هِشَام أَو بعض من حضر: قربت هَذَا العَبْد وأجلسته؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّه أديب وَإنَّهُ شَاعِر وَهُوَ عبد من هُوَ عَبده. قَالَ: فَقَالُوا: إِن كَانَ شَاعِرًا فَلْيقل فِي أَيّنَا إِلَيْهِ أحب أبياتا. قَالَ ذَلِك إِلَيْهِ. قَالَ: فَقلت تَأذن جعلني اللَّهِ فدَاك فِي شئ قد حضرني. قَالَ: هاته. فأنشده: - (أَبُو دلف فَتى الْعَرَب ... وفارسها لَدَى الكرب) (وهوب الْفضة ابيضا ... والعينات وَالذَّهَب) (أحبكم إِلَى قلبِي ... وَإِن كُنْتُم ذَوي حسب) قَالَ فَكتب جَوَاب الْكتاب وتشور الْقَوْم وعدت بِالْجَوَابِ إِلَى مولاى فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ لي: أحدثت ثمَّ حَدثا؟ قلت: لَا. قَالَ لتصدقني عَن الْمجْلس فَحَدَّثته بِكُل مَا كَانَ فأعتقني وَوَلَدي وأمرأتي ووهب لي الْمنزل الَّذِي كنت أنزلهُ، وأمرلى بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم فَخرجت من عِنْده فَإِذا أخواني وأصحابي على الْبَاب ليهنؤني إِذا برَسُول أبي دلف وَأحد وكلائه قد وافى فَسَأَلَنِي عَن حالى فَأَخْبَرته. فَأخْرج إِلَى كيسا فَدفعهُ إِلَى وَقَالَ وجهني أَبُو دلف وَقَالَ لي أَن أصبته مَمْلُوكا فاشتره، وَإِن أصبته حرا فأدفع إِلَيْهِ هَذِه الدَّنَانِير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 حَدثنِي مَسْعُود بن عِيسَى بن إِسْمَاعِيل الْعَبْدي قَالَ: حَدثنِي مُوسَى بن عبيد اللَّهِ التَّمِيمِي قَالَ: كَانَ أَبُو دلف أَيَّام الْمَأْمُون مُقيما بِبَغْدَاد وَكَانَت مَعَه جَارِيَة أفادها من بَغْدَاد فاشتاق إِلَى الكرخ فخاطبها فِي الْخُرُوج مَعَه إِلَى الكرخ فَأَبت عَلَيْهِ فَقَالَت: بَغْدَاد وطنى فَلَمَّا عزم على الرحيل تمثل: - (وَسَلام عَلَيْك يَا ظَبْيَة الكرخ ... أقمتم وحان منا ارتحال) (ومقام الْكَرِيم فِي بلد الْهون ... إِذا أمكن الرحيل محَال) (حَيْثُ لَا رَافعا لسيف من الضيم ... لَا للكماة فِيهِ مجَال) (فِي بِلَاد يذل فِيهَا عَزِيز الْقَوْم ... حَتَّى يَنَالهُ الإنذال) وحَدثني أَحْمد بن الْقَاسِم الْعجلِيّ. قَالَ حَدثنِي عبد اللَّهِ بن نوح. قَالَ: قدم أَبُو دلف الْعجلِيّ قدومه إِلَى بَغْدَاد فِي أَيَّام الْمَأْمُون فَجَاءَنِي بعض فتياننا فَقَالَ ارتحل إِلَيْهِ فَإِنِّي ضَعِيف الْحَال وَلَعَلَّه أَن يرتاح لي بِمَا يغنيني وَقد عملت فِيهِ أبياتا فَأَتَاهُ فَطلب الْوُصُول إِلَيْهِ قَالَ: فَلَمَّا دخل خَبره بنسبه فَرَحَّبَ بِهِ ثمَّ أستأذنه فِي انشاده فَإِذن لَهُ فَقَالَ: - (إِنِّي أَتَيْتُك واثقا إِذْ قيل لي ... أَن نعم مأوى اليائس المحروب) (يعْطى فيغنى من حباه بسيبه ... بشر إِلَى السُّؤَال غير قطوب) (ورجوت أَن أحظى بجودك بالغنى ... وَأحل فِي عطن لديك رحيب) (فلئن رجعت بِبَعْض مَا أملته ... فَلَقَد أراح اللَّهِ كل كروبي) (أَولا فصبرا للزمان وريبة ... صَبر الْمُحب على أَذَى المحبوب) فَقَالَ لي: كم الَّذِي يُغْنِيك؟ . فَقلت إِنِّي لمختل معتل وَأَنِّي إِلَى فضلك لفقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فَسَأَلَ عني بعض من عِنْده من أَهلِي فعرفني فَأمر لي بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم. وَكتب إِلَى وَكيله أَن يَشْتَرِي لي دَارا. قَالَ: فأنصرف بِأَكْثَرَ أمْنِيته. قَالَ: وحَدثني على بن يُوسُف قَالَ: كنت يَوْمًا عِنْد أبي دلف بِبَغْدَاد فجَاء الْآذِن فَقَالَ: جعيفران الموسوس بِالْبَابِ. قَالَ: فَقَالَ إِن فِي الْعُقَلَاء وَالْأَصْحَاب من يشغلنا عَن الموسوس قَالَ: قلت قد جعلت فدَاك أَن يفعل فَإِن لَهُ لِسَانا. قَالَ: فَأذن لَهُ فَدخل فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ: - (يَا أكْرم الْأمة مَوْجُودا ... وَيَا أعز النَّاس مفقودا) (لما سَأَلت النَّاس عَن وَاحِد ... أصبح فِي الْأمة مَحْمُودًا) (قَالُوا جَمِيعًا إِنَّه قَاسم ... أشبه أباء لَهُ صيدا) (لَو عبدُوا شَيْئا سوى رَبهم ... أَصبَحت فِي الْأمة معبودا) قَالَ: فَأمر لَهُ بكسوة فطرحت عَلَيْهِ وَأمر لَهُ بِمِائَة دِرْهَم. فَقَالَ لَهُ جعيفران: جعلت فدَاك تَأمر القهرمان أَن يعطيني مِنْهَا دَرَاهِم قد ذكرهَا كلما جِئْته دفع إِلَى من الدَّرَاهِم مَا أريده حَتَّى تنفذ قَالَ: نعم. وَكلما أردْت حَتَّى يفرق بَيْننَا الْمَوْت. قَالَ: - فَأَطْرَقَ جعيفرإن وَبكى وأكب على إصبعه فَقلت: مَالك؟ قَالَ: فَالْتَفت إِلَى فَقَالَ: - (يَمُوت هَذَا الَّذِي نرَاهُ ... وكل شئ لَهُ نفاد) (لَو أَن خلقا لَهُ خُلُود ... خلد ذَا الْمفضل الْجواد) وَانْصَرف. قَالَ: فَقَالَ لي أَبُو دلف: يَا أَبَا الْحسن أَنْت كنت أعلم بصاحبك منا. حَدثنِي أَحْمد بن يحيى أَبُو عَليّ الرَّازِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا تَمام الطَّائِي يَقُول: دَخَلنَا على أبي دلف أَنا ودعبل الشَّاعِر وَبَعض الشُّعَرَاء أَظُنهُ عمَارَة وَهُوَ يلاعب جَارِيَة لَهُ بالشطرنج فَلَمَّا رآنا قَالَ قُولُوا فِي هَذَا شعرًا: - (رب يَوْم قطعت لَا بمدام ... بل بشطرنجنا نحيل الرخاخا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ثمَّ قَالَ: أجيزوا. فبقينا نَنْظُر بَعْضنَا إِلَى بعض قَالَ: فَلم لَا تَقولُونَ: - (وسط بُسْتَان قَاسم فِي جنان ... قد علونا مفارشا ونخاخا) (وحوينا من الظباء غزالا ... ظرب لَحْمه يفوق المخاخا) (فنصبنا لَهُ الشباك زَمَانا ... ونصبنا مَعَ الشباك فخاخا) (فأصدناه بعد خَمْسَة سهر ... وسط نهر يشخ مَاء شخاخا) قَالَ: فنهضنا عَنهُ. فَقَالَ: إِلَى أَيْن مَكَانكُمْ حَتَّى يكْتب لكم بجوائزئكم؟ . فَقُلْنَا لَا حَاجَة لنا فِي جائزتك حَسبنَا مَا نزل بِنَا مِنْك فِي هَذَا الْيَوْم. فَأمر بِأَن تضعف لنا. حَدثنَا مُحَمَّد بن فرخان القلزمي. قَالَ: حَدثنِي أَبُو جشم مُحَمَّد بن الْمَرْزُبَان قَالَ: حضرت مَجْلِسا للقاسم بن عِيسَى أبي دلف لم أر وَلم أسمع مثله. أجتمع فِيهِ بَنو عجل كلهَا قضها بقضيضها الأدباء مِنْهُم. فَسَأَلَهُمْ الْقَاسِم بن عِيسَى عَن أَشْجَع بَيت قالته الْعَرَب؟ فَقَالَ أحدهم: قَول عنترة: - (إِذْ يَتَّقُونَ بِي الأسنة لم أخم ... عَنْهَا وَلَكِنِّي تضايق مقدمي) وَقَالَ أحد بني الْقَاسِم بن عِيسَى قَول الشَّاعِر حَيْثُ يَقُول: - (وَإِنِّي إِذا الْحَرْب العران توكل ... بِتَقْدِيم نفس لَا أحب بقاءها) وَقَالَ آخر قَول عَمْرو بن الاطنابة: - (أَبَت لي عفتي وَأبي بلائي ... وأخذي الْحَمد بِالثّمن الربيح) (وإنفاقي على الْمَكْرُوه مَالِي ... وضربي هَامة الرجل المشيح) (وَقَوْلِي كلما جشأت وجاشت ... مَكَانك تحمدي أَو تستريحي) (لأكسبها مآثر صالحات ... ونفسا لَا تقر على الْقَبِيح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَقَالَ آخر: بل قَول الْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ: - (أَشد على الكتيبة لَا أُبَالِي ... أفيها كَانَ حتفي أَو سواهَا) وَرجل من مزينة حَيْثُ يَقُول: - (دَعَوْت بني قُحَافَة فأستجابوا ... فَقلت ردوا فقد طَابَ الْوُرُود) حَتَّى ذكرُوا نَحوا من مِائَتي بَيت وَعِنْده أَبُو تَمام الطَّائِي فَقَالَ: هَذَا وَالله أشعر من مضى وَمن بقى حَيْثُ يَقُول: - (فَأثْبت فِي مستنقع الْمَوْت رجله ... وَقَالَ لَهَا من تَحت أخمصك الْحَشْر) (غَدا غدْوَة وَالْحَمْد حَشْو رِدَائه ... فَلم ينْصَرف إِلَّا وأكفانه الْأجر) (وَقد كَانَ فَوت الْمَوْت سهلا فَرده ... إِلَيْهِ الْحفاظ الْبر والخلق الوعر) قَالَ: وحَدثني مَسْعُود بن عِيسَى بن إِسْمَاعِيل الْعَبْدي قَالَ: أَخْبرنِي صَالح غُلَام أبي تَمام قَالَ: ورد على أبي دلف شَاعِر من أهل الْبَصْرَة تميمي فناقر أَبُو تَمام فَأصْلح أَبُو تَمام شعرًا أَدَاة إِلَى أبي دلف ليكيد التَّمِيمِي فأنشده: - (إِذا ألجمت يَوْمًا لجيم وحولها ... بَنو الْحصن الْمُحْصنَات النجائب) (فَإِن المنايا والصوارم والقنا ... أقاربهم فِي الروع دون الْأَقَارِب) (وَإِن فخرت يَوْمًا تَمِيم بقوسها ... فخارا على مَا وددت من مَنَاقِب) (فَأنْتم بِذِي قار أمالت سُيُوفكُمْ عروش ... الَّذين استرهنوا قَوس حَاجِب) (وكادت مغانيكم تهش عراصها ... فتركب من شوق إِلَى كل رَاكب) حَدثنِي أَحْمد بن الْقَاسِم قَالَ: حَدثنِي نَادِر مولاى قَالَ: قَالَ خرج عَليّ بن جبلة إِلَى عبد الله بن طَاهِر وَقد امتدحه بأشعار أَجَاد فِيهَا إِلَيّ خُرَاسَان فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا عَليّ. السِّت الْقَائِل فِي أبي دلف: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 (إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف ... بَين مغزاه ومحتضره) (فَإِذا ولي أَبُو دلف ... ولت الدُّنْيَا على أَثَره) قَالَ: بلَى. قَالَ: فَمَا الَّذِي جَاءَ بك إِلَيْنَا وَعدل بك عَن الدُّنْيَا الَّذِي زعمت. ارْجع من حَيْثُ جِئْت. فَمر بِأبي دلف فَأعلمهُ الْخَبَر فَأحْسن صلته وجائزته وَانْصَرف قَالَ نَادِر: فرأيته عِنْد الْقَاسِم بن يُوسُف وَقد سَأَلُوهُ عَن حَاله فَقَالَ: - (أَبُو دلف إِن تلقه تلق ماجدا ... جوادا كَرِيمًا رَاجِح الْحلم سيدا) (أَبُو دلف الْخيرَات أكْرم محتدا ... وأبسط مَعْرُوفا وأنداهم يدا) (واصبر أَيْضا عِنْد مُخْتَلف القنى ... وأضرب بالمأثور غَضبا مهندا) (وأقدم للطرف الْكَرِيم عَن الوغي ... إِذا مَا الكمى الْجلد خام وعردا) (لقد سلفت حَقًا إِلَى لَهُ يَد ... فَعَاد فَأولى مثلهَا ثمَّ جددا) (أيادي تباعا كلما سلفت يَد ... إِلَى ونعمي مِنْهُ اتبعها يدا) (تراث أَبِيه عَن أَبِيه وجده ... وكل أمرئ يجْرِي على مَا تعودا) (وَلست بشاك غَيره لنقيصه ... ولكنما الممدوح من كَانَ أمجدا) حَدثنِي هَارُون بن عبيد اللَّهِ بن مَيْمُون. قَالَ: حَدثنِي أبي. قَالَ: كنت عِنْد الْفضل ابْن الْعَبَّاس بن جَعْفَر وَعِنْده العكوك على بن جبلة فأنشده قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا فِي أبي دلف: - (ذاد ورد الغي عَن صَدره ... وارعوى وَاللَّهْو من وطره) (إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف ... بَين مغزاه ومحتضرة) (فَإِذا ولى أَبُو دلف ... ولت الدُّنْيَا على أَثَره) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فَقَالَ على بن جبلة يَا أَبَا جَعْفَر: امْرُؤ الْقَيْس قَالَ: - (رب رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره) (فَهُوَ لَا يسوى رميته ... مَاله لَا عد من نفره) وَقلت أَنا: - (وَدم أهدرت من رشاء ... لم يرد عقل على هدره) (ظلّ يدمى لَهُ مرشفه ... ويفديني على نفره) قَالَ عبد اللَّهِ بن عَمْرو: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ. قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن أَبُو طَالب الْجَعْفَرِي. قَالَ: رَأَيْت جمَاعَة فِي أَيَّام الْمَأْمُون يقتتلون على أَخذ كتاب عبد اللَّهِ بن عَبَّاس بن الْحسن إِلَى أبي دلف فَقَالَ إِن هَذَا رجل عَلَيْهِ نذر من مَاله بسببنا وَنحن أولى من صانه وَلَكِن هَذَا كتاب أكتبه فِي كل سنة إِلَيْهِ وأبيض اسْم صَاحبه وَتَقَع الْقرعَة لمن خرج اسْمه فَهُوَ لَهُ. فَذكر لي بعض أَصْحَابنَا أَن أبادلف لما بلغه ذَلِك جعل لَهُ فِي كل سنة مائَة ألف دِرْهَم يُوَجه بهَا إِلَيْهِ ليقسمها على من يرَاهُ مِمَّن يهم بزيارته، وَمِائَة ألف لَهُ يصله بهَا. قَالَ: وَكَانَ سَبَب مَا ضمنه أَبُو دلف لعباس ابْن حسن أَن إِسْحَاق الْموصِلِي قَالَ: حَدثنِي أَبُو دلف. قَالَ دخلت على الرشيد فَقَالَ لي: كَيفَ أَرْضك.؟ قَالَ قلت: خراب يباب قد أَخذ بهَا الأكراد والأعراب قَالَ: فَقَالَ لَهُ: قَائِل هَذَا آفَة الْجَبَل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فرأيتها قد أثرت فِيهِ. فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن كَانَ صدقك فَإِنِّي صَاحب صَلَاح الْجَبَل. قَالَ: فَقَالَ لي وَكَيف ذَلِك؟ فَقلت: أكون سَببا لفساده كَمَا زعم وَأَنت على، وَلَا أكون سَببا لصلاحه وَأَنت معي. فَلَمَّا خرجت قَالَ لَهُ شيخ إِلَى جَانِبه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن همته لترمى بِهِ بَين وراشينه مرمى بَعيدا. فَسَأَلت عَن الشَّيْخ فَقيل لي الْعَبَّاس بن الْحسن الْعلوِي قَالَ: فَلَقِيته شاكرا وَقلت: لله على أَن لَا تكْتب إِلَى فِي أحد إِلَّا أغنيته. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّد بن أَحْمد بن رزين: حَدثنِي الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي سَلمَة وَكَانَ أَخا لأبي دلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قَالَ: قصر بعض عُمَّال أبي دلف فِي أمره فَبعث إِلَيْهِ من عَزله وَقَيده وحبسه. فَكتب إِلَى أبي دلف من السجْن كتابا تنطع فِيهِ، وقعر وَطول فَكتب إِلَيْهِ أَبُو دلف: - (يَا صَاحب التَّطْوِيل فِي كتبه ... وَصَاحب التَّقْصِير فِي فعله) (وراكب الغامض من جَهله ... وتارك الْوَاضِح من عقله) (لم يخط من ألزمهُ قَيده ... بل صير الْقَيْد إِلَى أَهله) (قَيده للحبس تقعيره ... فالقيد لن يخرج من رجله) (وَالله لَا فَارقه قَيده ... أَو يقطع التقعير من أَصله) ذكر اتِّصَال يحيى بن أَكْثَم بالمأمون وَالسَّبَب الَّذِي لَهُ استوزره قَالَ حَدثنِي أَحْمد بن صَالح الأضخم. قَالَ: هَل تَدْرِي مَا كَانَ سَبَب يحيى بن أَكْثَم؟ قلت: لَا. وَإِنِّي أحب أَن أعرفهُ. قَالَ: يحيى بن خاقَان هُوَ وَصله بالْحسنِ ابْن سهل وقربه من قلبه، وَكبره فِي صَدره حَتَّى ولاه قَضَاء الْبَصْرَة ثمَّ استوزره الْمَأْمُون فغلب عَلَيْهِ. وحَدثني عبد اللَّهِ بن أبي مَرْوَان الْفَارِسِي. قَالَ: كَانَ ثُمَامَة سَبَب يحيى بن أَكْثَم فِي قَضَاء الْبَصْرَة مرَّتَيْنِ، وَسبب تخلصه من الْخَادِم الَّذِي أَمر بتكسيفه بِالْبَصْرَةِ. وَيُقَال إِنَّه سَطَعَ خصيته فِي تعذيبه بالقصب ثمَّ عزل من الْبَصْرَة فَنزل على ثُمَامَة حَتَّى ارتاد لَهُ دَارا بِحَضْرَتِهِ وَمَات أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول واحتيج إِلَى من يقوم مقَامه. قَالَ: فَأَرَادَ الْمَأْمُون ثُمَامَة على اللُّزُوم للْخدمَة فأمتنع واعتل عَلَيْهِ وَكره ذَلِك مِنْهُ. قَالَ: فَأُرِيد لي رجلا يصلح للْخدمَة. قَالَ: ثُمَامَة فَذكرت يحيى فِي نَفسِي وَلم أَبَد ذَلِك لِلْمَأْمُونِ حَتَّى لقِيت يحيى فعقدت عَلَيْهِ أَن لَا يغدر وَأَن لَا ينساها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 لي إِن حسنت بِهِ حَاله، ولطفت لَهُ منزلَة. قَالَ: فَقَالَ يحيى يَا أَبَا معن: أَنا صنيعتك وَابْن عمك. فخبرني سراج خَادِم ثُمَامَة أَنه بلغ من مقاربة يحيى لثمامة وَطلب الْمنزلَة عِنْده أَنه جعل يتَعَلَّم القَوْل بالاعتزال. قَالَ: فَلَمَّا خصن حَال يحيى وَوَقع بَينه وَبَين ثُمَامَة مَا وَقع من الشَّرّ والمباينة والمحادثات عِنْد الْمَأْمُون فَجرى لَهُم من الْمجَالِس فِي الْكَلَام وَالْخلاف مَا قد أثر وَكتب قَالَ يحيى يَوْمًا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: بَلغنِي أَن رجلا يزْعم أَنه يفرق بَين مَا اخْتلفت فِيهِ الْأمة فِي حرفين. فَقَالَ لَهُ ثُمَامَة ياأمير الْمُؤمنِينَ: إيَّايَ اعترى ولي فِي قَوْله غناء. نعم أَنا أفرق بَين مَا اخْتلفت فِيهِ الْأمة بحرفين إِلَّا أَنِّي أزداد حرفا ثَالِثا لتفهمه مَعَ الْخَاصَّة. فَقَالَ الْمَأْمُون: فَقل. فَمَا أَرَاك بِخَارِج مِنْهَا. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَا تَخْلُو أَفعَال الْعباد وَمَا اخْتلف النَّاس فِيهِ من ذَلِك أَن تكون من اللَّهِ لَيْسَ للعباد فِيهَا صنع أَو بَعْضهَا من اللَّهِ وَبَعضهَا من الْعباد، فَإِن زعم أَنَّهَا من اللَّهِ لَيْسَ للعباد فِيهَا صنع كفر وَنسب إِلَى اللَّهِ كل فعل قَبِيح. وَإِن زعم أَنَّهَا من اللَّهِ وَمن الْعباد جعل الْخلق شُرَكَاء لله فِي فعل الْفَوَاحِش وَالْكفْر. وَإِن زعم أَنَّهَا من الْعباد لَيْسَ لله فِيهَا صنع صَار إِلَى مَا أقوله. قَالَ: فَمَا أجَاب يحيى جَوَابا. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: كَانَ الْمَأْمُون يحضر يحيى بن أَكْثَم وَهُوَ يشرب فَلَا يسْقِيه وَيَقُول: لَو أَرَادَ يحيى أَن يشرب مَا تركته وَرُبمَا وضعت الصحفة قُدَّام الْمَأْمُون فِيهَا مطبوخ وَيحيى يَأْكُل مَعَه فَيَقُول لَهُ الْمَأْمُون: فِيهَا مطبوخ إِنِّي لَا أترك قَاضِي يشرب النَّبِيذ. وَقَالَ يحيى بن أَكْثَم أظهر لكل قَاض مَا تُرِيدُ أَن توليه إِيَّاه ومره بكتمانه ثمَّ انْظُر مَا يفعل أَولا وضع عَلَيْهِم أَصْحَاب أَخْبَار. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أُولَئِكَ قَضَاء الْقُضَاة. وَقَالَ لغيره مَا يُرِيد أَن يوليه فشاع ذَلِك كُله إِلَّا خبر يحيى فَإِنَّهُ أَتَاهُ أَن النَّاس ذكرُوا أَنه يُرِيد الْخُرُوج إِلَى الْبَصْرَة على قَضَائهَا فذمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَقَالَ لَهُ كَيفَ شاع هَذَا وَأمرت باكتراء السفن إِلَى الْبَصْرَة. قَالَ يحيى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَيْسَ يَسْتَقِيم كتمان شئ إِلَّا بإذاعة غَيره وَإِلَّا وَقع النَّاس عَلَيْهِ. قَالَ: صدقت وحمده. أَخْبَار عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق القَاضِي وبدئ امْرَهْ وَذكر اتِّصَاله بالسلطان قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وَقَالَ أَبُو الْبَصِير: كَانَ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق يخْتَلف إِلَى ولد سَمَاعه يَأْكُل طعامهم فَأَتَاهُم يَوْمًا فتغدي عِنْدهم وَأخذُوا قلنسوته فتراموا بهَا فخرقوها فأغضبه ذَلِك فَصَارَ إِلَى أَبِيهِم ليشكوهم فَوجدَ عِنْده جمَاعَة فاحتشم أَن يشكوهم إِلَيْهِ بِحَضْرَة تِلْكَ الْجَمَاعَة وانتظر أَن يقومُوا عَنهُ فَأَتَاهُ كتاب ذِي اليمينين طَاهِر بن الْحُسَيْن بِذكر حَاجته إِلَى قَاض يكون فِي عسكره ينظر فِي أُمُورهم فَقَالَ لَهُ يَا عبد الرَّحْمَن: هَل لَك أَن تمضى إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم. فَمضى إِلَيْهِ فَجعله قَاضِيا فِي عسكره وَاسْتمرّ بِهِ الْأَمر وَدخل فِي اعداد الْقُضَاة فجَاء أَبوهُ فَقَالَ لَهُ: أوصلني إِلَى الْأَمِير فخاف أَن يَفْضَحهُ فوهب لَهُ مَا لَا حَتَّى انْصَرف عَنهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبوهُ يجالسنا فَيخرج ذكره فَنَقُول: مَا هَذَا وَيلك؟ . فَيَقُول خرج مِنْهُ قَاض وَقَالَ أَبُو الْبَصِير عهدي باسحاق أبي عبد الرَّحْمَن بن اسحاق وَكَانَ يُقَال لَهُ أَبُو إِسْحَاق الوضوئجي إِلَى الغساني بن أبي السمراء وَمَعَهُ فصوص النَّرْد يلاعبهم ويصفعونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ذكر شخوص الْمَأْمُون إِلَى الشَّام لغزو الرّوم قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وَلما دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ عزم الْمَأْمُون على الشخوص إِلَى الثغر. فَحَدثني مُحَمَّد بن الْهَيْثَم بن عدي. قَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن عِيسَى بن بريهة بن الْمَنْصُور قَالَ: لما أَرَادَ الْمَأْمُون الشخوص إِلَى دمشق هيات لَهُ كلَاما مكثت فِيهِ يَوْمَيْنِ وَبَعض آخر. فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ قلت: أَطَالَ اللَّهِ بَقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أدوم الْعِزّ. وأسبغ الْكَرَامَة، وَجَعَلَنِي من كل سوء فدَاه إِن من أَمْسَى وَأصْبح يتعرف من نعْمَة اللَّهِ لَهُ الْحَمد كثيرا عَلَيْهِ بِرَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ ايده اللَّهِ فِيهِ وَحسن تأنيسه لَهُ حقيق أَن يستديم هَذِه النِّعْمَة ويلتمس الزِّيَادَة فِيهَا بشكر اللَّهِ وشكر أَمِير الْمُؤمنِينَ مد اللَّهِ فِي عمره عَلَيْهَا. وَقد أحب أَن يعلم أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه اللَّهِ أَنِّي لَا أَرغب بنفسي عَن خدمته أيده اللَّهِ شئ من الْخَفْض والدعة إِذْ كَانَ هُوَ أيده اللَّهِ يتجشم خشونة السّفر، وَنصب الظعن، وَأولى النَّاس بمواساته فِي ذَلِك، وبذل نَفسه فِيهِ أَنا لما عرفني اللَّهِ من رَأْيه، وَجعل عِنْدِي من طَاعَته وَمَعْرِفَة مَا أوجب اللَّهِ من حَقه فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أكْرمه اللَّهِ أَن يكرمني بِلُزُوم خدمته، والكينونة مَعَه فعل. فَقَالَ لي مبتدئا من غير تروية: لم يعزم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك على شئ وَإِن استصحب أحدا من أهل بَيْتك بَدَأَ بك وَكنت الْمُقدم عِنْده فِي ذَلِك وَلَا سِيمَا إِذا أنزلت نَفسك بِحَيْثُ أنزلك أَمِير الْمُؤمنِينَ من نَفسه وَإِن ترك ذَلِك فَعَن غير قلى لِمَكَانِك وَلَكِن بِالْحَاجةِ إِلَيْك. قَالَ: فَكَانَ وَالله ابتداؤه أَكثر من ترويتي. قَالَ: وَخرج أَمِير الْمُؤمنِينَ من الشماسية إِلَى البردان يَوْم الْخَمِيس صَلَاة الظّهْر لست بَقينَ من الْمحرم سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ الْيَوْم الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من آذارثم سَار حَتَّى اتى تكريت. وفيهَا قدم مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى بن جَعْفَر بِمَ مُحَمَّد ابْن على بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب من الْمَدِينَة فِي صفر لَيْلَة الْجُمُعَة فَخرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 من بَغْدَاد حَتَّى لَقِي أَمِير الْمُؤمنِينَ بتكريت فَأَجَازَهُ وَأمره أَن يدْخل عَلَيْهِ امْرَأَته ابْنة أَمِير الْمُؤمنِينَ فأدخلت عَلَيْهِ فِي دَار أَحْمد بن يُوسُف الَّتِي على شاطئ دجلة فَأَقَامَ بهَا. فَلَمَّا كَانَ أَيَّام الْحَج خرج بأَهْله وَعِيَاله حَتَّى أَتَى مَكَّة ثمَّ أَتَى منزله بِالْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهِ. قَالَ: ثمَّ رَحل الْمَأْمُون عَن تكريت وَسَار حَتَّى أَتَى الْموصل ثمَّ سَار من الْموصل إِلَى نَصِيبين، ثمَّ سَار من نَصِيبين إِلَى حران، ثمَّ سَار من حران إِلَى الرهاء، ثمَّ سَار إِلَى منبج ثمَّ سَار من منبج إِلَى دابق، ثمَّ سَار إِلَى إنطاكية، ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى المصيصة ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى طرطوس ثمَّ رَحل من طرطوس إِلَى أَرض الرّوم لِلنِّصْفِ من جُمَادَى الأولى. ورحل الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون من ملطية فَأَقَامَ أَمِير الْمُؤمنِينَ على حصن يُقَال لَهُ قُرَّة حَتَّى فَتحه عنْوَة وَأمر بهدمة وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد لأَرْبَع بَقينَ من جمادي الأولي. قَالَ: وَقُرِئَ لِلْمَأْمُونِ فتح بِبَغْدَاد من بِلَاد الرّوم يَوْم الْجُمُعَة لعشر خلون من رَجَب وَجَاء الْمَأْمُون بعد ذَلِك فتح قُرَّة من بِلَاد الرّوم لثلاث عشرَة بقيت من رَجَب وزادت دجلة يَوْم الْأَرْبَعَاء لغرة ذِي الْحجَّة حَتَّى صَار المَاء على ظُهُور بيُوت الرَّحَى من الصراة وَذَلِكَ فِي وَقت لم يكن تزيد فِيهِ هَذِه الزِّيَادَة، وتقطعت لذَلِك الجسور بِمَدِينَة السَّلَام وَزَاد بعد ذَلِك أَكثر من تِلْكَ الزِّيَادَة ثمَّ نقص. قَالَ: وَلما فتح الْمَأْمُون حصن قُرَّة وغنم مَا فِيهِ اشْترى السَّبي بِسِتَّة وَخمسين ألف دِينَار ثمَّ خلى سبيلهم وَأَعْطَاهُمْ دِينَارا دِينَارا. وَخرج ابْنه الْعَبَّاس على درب الْحَدث فِي شهر رَمَضَان وغدر بِهِ منويل الرُّومِي الَّذِي قدم عَلَيْهِ بَغْدَاد وَدخل مَعَه أَرض الرّوم. فَلَمَّا خرج الْعَبَّاس وَكَانَ اسْتَخْلَفَهُ فِيمَا افْتتح من الْحُصُون. فَلَمَّا خرج من عِنْده غدر بِهِ وَأخرج من كَانَ خَلفه عِنْده من الْمُسلمين وَأخذ مَا كَانَ عِنْده من السِّلَاح وَصَالح ملك الرّوم. فَلَمَّا خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ من أَرض الرّوم أَقَامَ بطرسوس ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سَار مِنْهَا حَتَّى نزل دمشق فَلم يزل بهَا مُقيما إِلَى أَن انْقَضتْ سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ ورد الْخَبَر على أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الرّوم قتل قوما من أهل طرسوس والمصيصة وهم فِيمَا ذكرُوا نَحْو من ألف وسِتمِائَة رجل وَكَانَ رئيسهم رجل يُقَال لَهُ أَبُو عبد اللَّهِ المروروذي فَلَمَّا بلغ الْمَأْمُون ذَلِك خرج حَتَّى دخل أَرض الرّوم يَوْم الِاثْنَيْنِ لإحدى عشرَة بقيت من جمادي الأولى سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ فَلم يلزل مُقيما فِيهَا إِلَى النّصْف من شعْبَان وَهُوَ الْيَوْم الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من أيلول. وَذكر أَنه فتح نيفا وَعشْرين حصنا عنْوَة وصلحا سوى المطامير. وَأَنه أعتق كل شيخ كَبِير وعجوز. وَفِي هَذِه السّنة وثب أهل مصر على عُمَّال أبي إِسْحَاق أخي أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقتلُوا بَعضهم وَذَلِكَ فِي شعْبَان فَلَمَّا خرج الْمَأْمُون من أَرض الرّوم وأتى كيسوم أَقَامَ يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة ثمَّ ارتحل إِلَى دمشق ثمَّ خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ من دمشق يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع عشرَة بقيت من ذِي الْحجَّة إِلَى مصر. قَالَ: وَكتب إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المهلبي أَن يَأْخُذ الْجند بِالتَّكْبِيرِ إِذا صلوا وَإِنَّهُم بدءوا بذلك فِي مَسْجِد الْمَدِينَة، والرصافة يَوْم الْجُمُعَة لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ حِين قضوا الصَّلَاة فأقاموا قيَاما وَكَبرُوا ثَلَاث تَكْبِيرَات ثمَّ فعلوا ذَلِك فِي كل صلات مَكْتُوبَة وَصلى فِي الْمَدِينَة والرصافة، وَبَاب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَبَاب الجسر. وَخرج عبد اللَّهِ بن عبيد اللَّهِ ابْن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس واليا على الْيمن من دمشق إِلَى بَغْدَاد حَتَّى صلى بِالنَّاسِ يَوْم الْفطر بِبَغْدَاد، وَصَارَ وَإِلَى كل بلد يدْخلهُ إِلَى أَن يصل إِلَى الْيمن، وَأمر أَن يُقيم للنَّاس الْحَج فَخرج من بَغْدَاد يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلة خلت من ذِي الْقعدَة. (أَخْبَار الْمَأْمُون بِالشَّام) قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ بن صَالح السَّرخسِيّ. قَالَ: تعرض رجل لِلْمَأْمُونِ بِالشَّام مرَارًا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: انْظُر لعرب الشَّام كَمَا نظرت لعجم خُرَاسَان قَالَ: أكثرت على يَا أَخا أهل الشَّام وَالله مَا أنزلت قيسا عَن ظُهُور الْخَيل إِلَّا وَأَنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أرى أَنه لم يبْق فِي بَيت مَالِي دِرْهَم وَاحِد. وَأما الْيمن فوَاللَّه مَا أحببتها وَلَا أحبتني قطّ، وَأما قضاعة فسادة حرمهَا أَن تنْتَظر السفياني وَخُرُوجه فَتكون من أشياعه وَأما ربيعَة فساخطة على الله مُنْذُ بعث اللَّهِ جلّ وَعز نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مُضر وَلم يخرج اثْنَان إِلَّا خرج أَحدهمَا شاريا. أعزب فعل اللَّهِ بك. فَلَمَّا كَانَ سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ رَحل أَمِير الْمُؤمنِينَ من مصر ووافي دمشق يَوْم الْخَمِيس لعشر بَقينَ من شهر ربيع الأول. ذكر مقتل على بن هِشَام الْمروزِي قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: دخل عجيف بن عَنْبَسَة بعلى بن هِشَام بَغْدَاد لثلاث بَقينَ من شهر ربيع الأول وَخرج بِهِ إِلَى عَسْكَر الْمَأْمُون لست خلون من شهر ربيع الآخر وَقُرِئَ فتح الْبَيْضَاء من مصر لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر وَقتل على بن هِشَام، وأخاه الْحُسَيْن بن هِشَام فِي جُمَادَى الأولى للَّذي بلغه من سوء سيرته وَقَتله الرِّجَال، وَأَخذه الْأَمْوَال وَكَانَ أَرَادَ أَن يفتك بعجيف بن عَنْبَسَة حَيْثُ توجه إِلَيْهِ وَيذْهب إِلَى بابك. وَكَانَ الَّذِي ضرب عنق على. ابْن الْخَلِيل وَالَّذِي تولى ضرب عنق الْحُسَيْن. مُحَمَّد بن يُوسُف ابْن أَخِيه بأذنه يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة بقيت من جُمَادَى الأولى ثمَّ بعث بِرَأْس عَليّ بن هِشَام إِلَى بَغْدَاد وخراسان فَقدم ترك مولى أبي الْحُسَيْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِرَأْس على لَيْلَة الْخَمِيس لسبع بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة فطافوا بِهِ ثمَّ إِلَى رَمَوْهُ الشَّام والجزيرة فَطَافَ بِهِ كورة. كورة. فَقدم بِهِ دمشق فِي ذِي الْحجَّة ثمَّ ذهب بِهِ إِلَى مصر ثمَّ ألْقى بعد ذَلِك فِي الْبَحْر. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: فَحَدثني حَمَّاد بن إِسْحَاق. قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي سعيد عَن أَبِيه، عَن إِسْحَاق بن يحيى. قَالَ: لما قتل الْمَأْمُون على بن هِشَام واتى بِرَأْسِهِ. قَالَ: وَنحن وقُوف على رَأسه: هُوَ وَالله مَا ترَوْنَ لَا تخطئ يَد أحدكُم رجله إِلَّا الحقته بِهِ. وقلد طَاهِر بن إِبْرَاهِيم الْجبَال ومحاربة الخرمية فَخرج واليا عَلَيْهَا لخمس بَقينَ من شعْبَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وَلما قتل الْمَأْمُون على بن هِشَام أَمر أَن تكْتب رقْعَة وَتعلق على رَأسه لِيَقْرَأهَا النَّاس فَكتب. أما بعد: فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ قد دَعَا على بن هِشَام فِيمَن دَعَا من أهل خُرَاسَان أَيَّام المخلوع لمعاونته على الْقيام بِحقِّهِ. فَكَانَ ابْن هِشَام مِمَّن أجَاب أسْرع الْإِجَابَة، وعاون فَأحْسن المعاونة. فرعى أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَلِك واصطنعه وَهُوَ يظنّ بِهِ تقوى اللَّهِ وطاعته والانتهاء إِلَى أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي عمل إِن أسْند إِلَيْهِ وَفِي حسن السِّيرَة وعفاف الطعمة، وبدأه أَمِير الْمُؤمنِينَ بالإفضال عَلَيْهِ فولاه الْأَعْمَال السّنيَّة، وَوَصله بالصلات الجزيلة الَّتِى أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالنّظرِ فِي قدرهَا فَوَجَدَهَا أَكثر من خمسين ألف ألف دِرْهَم فمديده إِلَى الْخِيَانَة والتضييع لما استرعاه من الْأَمَانَة فباعده عَنهُ وأقصاه، ثمَّ استقال أَمِير الْمُؤمنِينَ عثرته فاقاله إِيَّاهَا وولاه الْجَبَل، وآذربيجان، وكورارمينية، ومحاربة أَعدَاء اللَّهِ الخرمية على أَن لَا يعود لمثل مَا كَانَ مِنْهُ. فعاود أقبح مَا كَانَ بتقديمه الدِّينَار وَالدِّرْهَم على الْعَمَل لله وَدينه أوساء السِّيرَة، وعسف الرّعية، وَسَفك الدِّمَاء الْمُحرمَة فَوجه أَمِير الْمُؤمنِينَ عجيف بن عَنْبَسَة مباشرا لأَمره دَاعيا إِلَى تلافي مَا كَانَ مِنْهُ فَوَثَبَ بعجيف يُرِيد قَتله فقوى اللَّهِ عجيفا بنيته الصادقة فِي طَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ حَتَّى دَفعه عَن نَفسه وَلَو تمّ مَا أَرَادَ بعجيف لَكَانَ فِي ذَلِك مَا لَا يسْتَدرك وَلَا يستقال وَلَكِن اللَّهِ إِذا أَرَادَ أمرا كَانَ مَفْعُولا. فَلَمَّا أمضى أَمِير الْمُؤمنِينَ حكم اللَّهِ فِي على بن هِشَام رأى أَلا يُؤَاخذ من خَلفه بِذَنبِهِ فَأمر أَن يجْرِي لوَلَده ولعياله، وَلمن اتَّصل بهم، وَمن كَانَ يجرى عَلَيْهِم مثل الَّذِي كَانَ جَارِيا لَهُم فِي حَيَاته وَلَوْلَا أَن على بن هِشَام أَرَادَ الْعُظْمَى من عجيف لَكَانَ من عداد من كَانَ فِي عسكره مِمَّن خَالف وخان كعيسى ابْن مَنْصُور ونظرائه وَالسَّلَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (أَخْبَار الْمَأْمُون بِدِمَشْق) قَالَ حَدثنِي عَليّ بن الْحسن بن هَارُون. قَالَ: حَدثنِي سعيد بن زِيَاد. قَالَ: لما دخلت على الْمَأْمُون بِدِمَشْق قَالَ: أَرِنِي الْكتاب الَّذِي كتبه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لكم. قَالَ: فأريته. قَالَ: فَقَالَ: إِنِّي لأشتهى أَن أَدْرِي أَي شَيْء هَذَا الغشاء الَّذِي على هَذَا الْخَاتم. قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو إِسْحَاق المعتصم: حل العقد حَتَّى تَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ: فَقَالَ: مَا أَشك أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عقد هَذَا العقد، وَمَا كنت لأحل عقدا عقده رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثمَّ قَالَ للواثق: خُذْهُ فضعه على عَيْنك لَعَلَّ اللَّهِ أَن يشفيك. قَالَ: وَجعل الْمَأْمُون يَضَعهُ على عينه ويبكي. قَالَ أَبُو طَالب الْجَعْفَرِي. قَالَ: أَخْبرنِي العيشى صَاحب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. قَالَ: كنت مَعَ الْمَأْمُون بِدِمَشْق. قَالَ: وَكَانَ قد قل المَال عِنْده حَتَّى ضَاقَ وشكا ذَلِك إِلَى أبي إِسْحَاق المعتصم. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَأَنَّك بِالْمَالِ قد وافاك بعد جُمُعَة. قَالَ: وَكَانَ حمل إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ ألف ألف من خراج مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ لَهُ. قَالَ: فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ ذَلِك المَال قَالَ الْمَأْمُون ليحيى بن أَكْثَم: أخرج بِنَا نَنْظُر إِلَى هَذَا المَال. قَالَ: فَخَرَجَا حَتَّى أصحرا ووقفا ينظرانه وَكَانَ قد هئ بِأَحْسَن هَيْئَة هَيْئَة، وحليت أباعره وألبست الأحلاس الموشاة، والجلال المصبغة، وقلدت العهن، وَجعلت الْبَدْر بالحرير الصيني الْأَحْمَر، والأخضر، والأصفر وأبديت رؤوسها. قَالَ: فَنظر الْمَأْمُون إِلَى شَيْء حسن واستكثر ذَلِك فَعظم فِي عينه، واستشرافه النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ ويعجبون مِنْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون ليحي يَا أَبَا مُحَمَّد: ينْصَرف أَصْحَابنَا هَؤُلَاءِ الَّذين تراهم السَّاعَة إِلَى مَنَازِلهمْ خائبين، وننصرف نَحن بِهَذِهِ الْأَمْوَال قد ملكنا هادونهم إِنَّا إِذا للئام. ثمَّ دَعَا مُحَمَّد بن يزْدَاد فَقَالَ: وَقع لآل فلَان بِأَلف ألف، ولآل فلَان بِمِثْلِهَا. قَالَ: فوَاللَّه إِن زَالَ كَذَلِك حَتَّى فرق أَرْبَعَة وَعشْرين ألف ألف وَرجله فِي الركاب ثمَّ قَالَ: أدفَع الْبَاقِي إِلَى الْمُعَلَّى يعْطى جندنا. قَالَ: فَقَالَ العيشي: فَجئْت حَتَّى قُمْت نصب عينه فَلم أرد طرفِي عَنْهَا لَا يلحظني إِلَّا يراني بِتِلْكَ الْحَال فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد وَقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 لهَذَا بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم من السِّتَّة الآلآف الْألف لَا يختلس ناظري. قَالَ: فَلم يَأْتِ على ليلتان حَتَّى أخذت المَال. قَالَ مُحَمَّد بن أَيُّوب بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان: كَانَ بِالْبَصْرَةِ رجل من بني تَمِيم، وَكَانَ شَاعِرًا ظريفا، خبيثا، مُنْكرا، وَكنت أَنا وَإِلَى الْبَصْرَة آنس بِهِ واستحلية فَأَرَدْت إِن أخدعه فَقلت: يَا أَبَا نزلة أَنْت شَاعِر وَأَنت ظريف والمأمون أَجود من السَّحَاب الحافل، وَالرِّيح العاصف فَمَا يمنعك مِنْهُ؟ قَالَ: مَا عِنْدِي مَا يقلني. قلت: فَأَنا أُعْطِيك نجيبا فارها وَنَفَقَة سابغة وَتخرج إِلَيْهِ وَقد امتدحته فَإنَّك أَن حظيت بلقائه صرت إِلَى أمنيتك. قَالَ: وَالله أَيهَا الْأَمِير: مَا أخالك أبعدت فأعدلي مَا ذكرت. قَالَ: فدعوت لَهُ بنجيب فاره فَقلت شَأْنك بِهِ فامتطه. قَالَ: هَذَا أحد الحسنيين. فَمَا بَال الْأُخْرَى. فدعوت لَهُ بثلاثمائة دِرْهَم وَقلت هَذِه نَفَقَتك. قَالَ: أحسبك أَيهَا الْأَمِير قصرت فِي النَّفَقَة؟ . قلت لَا هِيَ كَافِيَة وَإِن قصرت عَن السَّرف. قَالَ: وَمَتى رَأَيْت فِي أكَابِر سعد سَرفًا حَتَّى ترَاهُ فِي أصاغرها. فَأخذ النجيب وَالنَّفقَة ثمَّ عمل أرجوزة لَيست بالطويلة فأنشدنيها وَحذف مِنْهَا ذكرى وَالثنَاء على وَكَانَ ماردا فَقلت لَهُ: مَا صنعت شَيْئا. قَالَ: وَكَيف. قلت تَأتي الْخَلِيفَة وَلَا تثنى على أميرك وَلَا تذكره؟ قَالَ: أَيهَا الْأَمِير أردْت أَن تخدعني فوجدتني خداعا، وبمثلنا ضرب هَذَا الْمثل " من ينك العير ينك نياكا " أما وَالله مَا لكرامتي حَملتنِي على نجيبك؛ وَلَا جدت لي بِمَالك الَّذِي مَا رامه أحد قطّ إِلَّا جعل اللَّهِ خَدّه الْأَسْفَل. وَلَكِن لَا ذكرك فِي شعري وأمدحك عِنْد الْخَلِيفَة قَالَ هَذَا. قلت: أما فِي هَذَا فقد صدقت فَقَالَ: أما إِذا أبديت مَا فِي ضميرك فقد ذكرتك وأثنيت عَلَيْك. فَقلت: أَنْشدني مَا قلت فأنشدني. فَقلت أَحْسَنت. قَالَ: ثمَّ وَدعنِي وَخرج. قَالَ: فَأتى الشَّام وَإِذا الْمَأْمُون بسلغوس. قَالَ فَأَخْبرنِي قَالَ: بَينا أَنا فِي غزَاة قُرَّة قد ركبت نجيبي ذَلِك، ولبست مقطعاتي وَأَنا أروم الْعَسْكَر فَإِذا أَنا بكهل على بغل فأره مَا يقر قراره، وَلَا يدْرك خطاه. قَالَ: فتلقاني مكافحة ومواجهة وَأَنا أردد نشيد أرجوزتي فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 سَلام عَلَيْكُم بِكَلَام جَهورِي، ولسان بسيط. فَقلت: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاته فَقَالَ: قف أَن شِئْت. فوقفت. فضوعت مِنْهُ رَائِحَة العنبر، والمسك الأزفر قَالَ: مَا أولك.؟ قلت: رجل من مُضر. قَالَ: وَنحن من مُضر. ثمَّ مَاذَا؟ قلت: رجل من بني تَمِيم. قَالَ: وَمن بعد تَمِيم؟ قلت: من بني سعد. قَالَ: هيه فَمَا أقدمك هَذَا الْبَلَد؟ . قلت: قصدت هَذَا الْملك الَّذِي مَا سَمِعت بِمثلِهِ اندى رَاحَة، وَلَا أسع باحة، وَلَا أطول باعا، وَلَا أمد يفاعا. قَالَ: فَمَا الَّذِي قصدته بِهِ؟ قلت شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الروَاة، ويحلو فِي أَذَان المستمعين. قَالَ: فأنشدنيه فَغضِبت وَقلت: يَا رَكِيك أَخْبَرتك أَنِّي قصدت الْخَلِيفَة بِشعر قلته، ومديح حبرته تَقول أنشدنيه. قَالَ: فتغافل وَالله عَنْهَا وَتَطَأ من لَهَا، وألغى جوابها. قَالَ: وَمَا الَّذِي تَأمل فِيهِ. قلت إِن كَانَ على مَا ذكر لي عَنهُ فألف دِينَار. قَالَ: فَأَنا أُعْطِيك ألف دِينَار إِن رَأَيْت الشّعْر جيدا وَالْكَلَام عذبا، وأضع عَنْك العناء وَطول الترداد وَمَتى تصل إِلَى الْخَلِيفَة وَبَيْنك وَبَينه عشرَة آلَاف رامح ونابل. قلت: فلى اللَّهِ عَلَيْك أَن تفعل. قَالَ: لَك اللَّهِ على أَن أفعل. قلت: ومعك السَّاعَة مَال؟ قَالَ: هَذَا بغلى وَهُوَ خير من ألف دِينَار أنزل لَك عَن ظَهره. فَغضِبت أَيْضا وعارضني مرد سعد وخفة أحلامها. فَقلت: مَا يُسَاوِي هَذَا الْبَغْل هَذَا النجيب. قَالَ فدع عَنْك الْبَغْل وَلَك اللَّهِ أَن أُعْطِيك السَّاعَة ألف دِينَار فَأَنْشَدته: - (مَأْمُون يَاذَا المنن الشريفه ... ) (وَصَاحب الْمرتبَة المنيفة ... ) (وقائد الكتيبة الكثيفة) (هَل لَك فِي أرجوزة ظريفة ... ) ( ... أظرف من فقه أبي حنيفَة ... ) (لَا وَالَّذِي أَنْت لَهُ خَليفَة ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 (مَا ظلمت فِي أَرْضنَا ضَعِيفَة) (أميرنا مُؤْنَته خَفِيفَة ... ) (وَمَا أجتبى شَيْئا سوى الْوَظِيفَة ... ) (فالذئب والنعجة فِي سقيفه) (واللص والتاجر فِي قطيفة ... ) قَالَ: فوَاللَّه مَا عدا أَن أنشدته فَإِذا زهاء عشرَة آلَاف فَارس قد سدوا الْأُفق يَقُولُونَ: السَّلَام عَلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّهِ. السَّلَام عَلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: فأخذني أفكل. وَنظر إِلَى بِتِلْكَ الْحَال فَقَالَ: لَا بَأْس عَلَيْك أَي اخي. قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: جعلني اللَّهِ فدَاك اتعرف لُغَات الْعَرَب؟ قَالَ: أَي لعمر اللَّهِ. قلت فَمن جعل الْكَاف مِنْهُم مَكَان الْقَاف؟ . قَالَ هَذِه حمير. قلت: لعنها اللَّهِ وَلعن اللَّهِ من اسْتعْمل هَذِه اللُّغَة بعد هَذَا الْيَوْم. فَضَحِك الْمَأْمُون وَعلم مَا أردْت والتفت إِلَى خَادِم إِلَى جَانِبه فَقَالَ: أعْطه مَا مَعَك. فَاخْرُج إِلَى كيسا فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار ثمَّ قَالَ: هاك. ثمَّ قَالَ سَلام عَلَيْكُم. وَمضى فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ. قَالَ: وَلما صَار الْمَأْمُون إِلَى دمشق ذكر لَهُ أَبُو مسْهر الدِّمَشْقِي وَوصف لَهُ علمه فَوجه إِلَيْهِ من جَاءَ بِهِ فامتحنه فِي الْقُرْآن فَأَجَابَهُ وَأقر بخلقه. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون يَا شيخ: أَخْبرنِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أختتن؟ . قَالَ: لَا أَدْرِي وَمَا سَمِعت فِي هَذَا شَيْئا. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَنهُ أَكَانَ يشْهد إِذا تزوج أَو زوج؟ . قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: أخرج قبح اللَّهِ من قلدك دينه. قَالَ: حَدثنِي مُخَارق. قَالَ: كُنَّا عِنْد الْمَأْمُون أَنا والمغنون بِدِمَشْق وعريب مَعنا فَقَالَ: غنى يَا مُخَارق فَقلت: أَنا مَحْمُوم. فَقَالَ: يَا عريب جسية. فَرفعت يَدهَا إِلَى عضدي. فَقَالَ لَهَا الْمَأْمُون: قد اشتهيته تحبين أَن أزَوجك. قَالَت: نعم فَقَالَ من تريدين؟ . قَالَت: هَذَا. وأومت إِلَى مُحَمَّد بن حَامِد، فَقَالَت: هَذَا. فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أشهدوا أَنِّي قد زوجتها الزَّانِيَة مِنْهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ: كشحتك أحب إِلَى من أَن تكشحني خُذ بِيَدِهَا فَأخذ بِيَدِهَا وَقَامَت من الْمجْلس إِلَى مضربه. فَلَمَّا ولى المعتصم كتب إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: أَن مر مُحَمَّد بن حَامِد أَن يُطلق عريب فَأمره فتأبى فَكتب إِلَيْهِ أَن أضربه فَضَربهُ بالمقارع حَتَّى طَلقهَا. حَدثنِي أَبُو مُوسَى هَارُون بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى الْهَادِي. قَالَ: حَدثنِي على بن صَالح. قَالَ: قَالَ لي الْمَأْمُون يَوْمًا: أبغى رجلا من أهل الشَّام لَهُ أدب يجالسني ويحدثني فَالْتمست ذَاك لَهُ فَوَجَدته فدعوت بالشامي فَقلت لَهُ إِنِّي مدخلك على أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَا تسأله عَن شَيْء أبدا حَتَّى يبتدئك، فَإِنِّي أعرف النَّاس بمسألتكم يَا أهل الشَّام فَقَالَ: مَا كنت متجاوزا لما أَمرتنِي. فَدخلت على الْمَأْمُون فَقلت: قد أصبت الرجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: أدخلهُ. فَدخل فَسلم ثمَّ استدناه، وَكَانَ الْمَأْمُون على شغله من الشَّرَاب فَقَالَ: إِنِّي أردتك لمجالستي ومحادثتي. فَقَالَ الشَّامي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن الجليس إِذا كَانَت ثِيَابه دون ثِيَاب جليسه دخله لذَلِك غَضَاضَة قَالَ: فَأمر الْمَأْمُون أَن يخلع عَلَيْهِ، قَالَ على: فدخلني من ذَلِك مَا اللَّهِ بِهِ عليم. فَلَمَّا خلع عَلَيْهِ وَرجع إِلَى مَجْلِسه قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن قلبِي إِذا كَانَ مُعَلّقا بعيالي لم تنْتَفع بمحادثتي. قَالَ: خمسين ألف دِرْهَم تحمل إِلَى منزله. ثمَّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وثالثة. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ . قَالَ: قد دَعَوْت بِشَيْء يحول بَين الْمَرْء وعقله فَإِن كَانَت منى هنة تغتفرها. قَالَ: وَذَاكَ. قَالَ على: فَكَأَن الثَّالِثَة جلت عني مَا كَانَ بِي. حَدثنِي أَبُو حشيشة مُحَمَّد بن على بن أُميَّة بن عَمْرو قَالَ: أول من سمعني من الْخُلَفَاء الْمَأْمُون وَأَنا غُلَام وَهُوَ بِدِمَشْق وصفني لَهُ مُخَارق فَأمر لي بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم أتجهز بهَا فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ أعجب بِي وأكرمني. وَقَالَ للمعتصم يَا أَبَا إِسْحَاق: ابْن خدمك، وخدم أبائك وأجدادك وكتابهم حج جدك الْمهْدي أَربع حجج فَكَانَ أُميَّة جد هَذَا زميله فِيهَا، وَكَانَ كَاتبه على السِّرّ، والخاتم، وَبَيت المَال، وَكَانَ يشتهى من غنائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 (كَانَ ينْهَى فَنهى حِين انْتهى ... وانجلت عَنهُ غيابات الصِّبَا) (خلع اللَّهْو وأضحى مسبلا ... للنهى فضل قَمِيص وردا) (كَيفَ يَرْجُو الْبيض من أولة ... فِي عُيُون الْبيض شيب وجلا) (كَانَ كحلا لمآقيها فقد ... صَار بالشيب لعينيها قذا) الشّعْر كدعبل سمعته من دعبل، والغناء لحمدان بن حُسَيْن بن مُحرز. قَالَ: وَكَانَ الْمَأْمُون أَيْضا يشتهى من غنائي: - (ويزيدني وَلها عَلَيْهِ وحرقة ... عذل النصيح وَعتبَة من عَاتب) الشّعْر لعبد اللَّهِ بن أُميَّة عمي والغناء لي. قَالَ: وَكُنَّا قدم أَمِير الْمُؤمنِينَ بِدِمَشْق فتغنى علوِيَّة: - (بَرِئت من الْإِسْلَام إِن كَانَ ذَا الَّذِي ... أَتَاك بِهِ الواشون عني كَمَا قَالُوا) (وَلَكنهُمْ لما رأوك سريعة ... إِلَيّ تواصوا بالنميمة واحتالوا) (فَقَالَ: يَا علوِيَّة لمن هَذَا الشّعْر.؟ فَقَالَ: للْقَاضِي. فَقَالَ: أَي قَاض وَيحك قَالَ: قَاضِي دمشق. فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاق أعزله. قَالَ: قد عزلته. قَالَ: فيحضر السَّاعَة فأحضر شح مخضوب قصير. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: من تكون؟ قَالَ: فلَان بن فلَان الْفُلَانِيّ. قَالَ تَقول الشّعْر؟ . قَالَ: كنت أقوله. فَقَالَ يَا علوِيَّة أنْشدهُ الشّعْر فأنشده. فَقَالَ: هَذَا الشّعْر لَك؟ . قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ونساؤه طَوَالِق وكل مَا يملك فِي سَبِيل اللَّهِ إِن كَانَ قَالَ الشّعْر مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة إِلَّا فِي زهد أَو معاتبة صديق. فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاق أعزله فَمَا كنت أولى رِقَاب الْمُسلمين من يبْدَأ فِي هزله بِالْبَرَاءَةِ من الْإِسْلَام. ثمَّ قَالَ: اسقوه. فَأتى بقدح فِيهِ شراب فَأَخذه وَهُوَ يرتعد فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مَا ذقته قطّ. قَالَ: فلعلك تُرِيدُ غَيره قَالَ: لم أذق مِنْهُ شَيْئا قطّ. قَالَ فَحَرَام هُوَ؟ . قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: أولى لَك بهَا نجوت أخرج ثمَّ قَالَ يَا علوِيَّة لَا تقل بَرِئت من الْإِسْلَام وَلَكِن قل: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 (حرمت مناى مِنْك إِن كَانَ ذَا الَّذِي ... أَتَاك بِهِ الواشون عَنى كَمَا قَالُوا) قَالَ: كُنَّا مَعَ الْمَأْمُون بِدِمَشْق فَركب يُرِيد جبل الثَّلج فَمر ببركة عَظِيمَة من برك بني أُميَّة وعَلى جَانبهَا أَربع سروات وَكَانَ المَاء يدخلهَا سيحا وَيخرج مِنْهَا فَاسْتحْسن الْمَأْمُون الْموضع فَدَعَا ببز مَاء ورد ورطل وَذكر بني أُميَّة فَوضع مِنْهُم وتنقصهم فَأقبل علوِيَّة على الْعود واندفع فغنى: - (أُولَئِكَ قومِي بعد عز وثروة ... تفانوا فألا أذرف الدمع أكمدا) فَضرب الْمَأْمُون الطَّعَام بِرجلِهِ ووثب وَقَالَ لعلوية: يَا ابْن الفاعلة لم يكن لَك وَقت تذكر فِيهِ مواليك إِلَّا فِي هَذَا الْوَقْت. فَقَالَ: مولاكم زرياب عِنْد موالى يركب فِي مائَة غُلَام وَأَنا عنْدكُمْ أَمُوت من الْجُوع. فَغَضب عَلَيْهِ عشْرين يَوْمًا ثمَّ رضى عَنهُ. قَالَ: زرياب مولى الْمهْدي صَار إِلَى الشَّام ثمَّ صَار إِلَى الْمغرب إِلَى بني أُميَّة هُنَاكَ. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: وَكتب ملك الرّوم إِلَى الْمَأْمُون. أما بعد " فَإِن اجْتِمَاع الْمُخْتَلِفين على حظهما أولى بهما فِي الرَّأْي مِمَّا عَاد بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمَا، وَلست حريا أَن تدع لحظ يصل إِلَى غَيْرك حظا تحوز بِهِ لنَفسك وَفِي علمك كَاف عَن إخبارك، وَقد كنت كتبت إِلَيْك دَاعيا إِلَى المسالمة، رَاغِبًا فِي فَضِيلَة المهادنة لتَضَع أوازر الْحَرْب عَنَّا وَيكون كل لكل وليا وحزبا، مَعَ اتِّصَال الْمرَافِق، والفسح فِي المتاجر، وَفك المستاسر، وَأمن الطّرق والبيضة فَإِن أَبيت فَلَا أدب لَك فِي الْخمر وَلَا أزخرف لَك فِي القَوْل، فَأَنِّي لخائض إِلَيْك غمارها، آخذ عَلَيْك أسدادها شَأْن خيلها ورجالها وَإِن أفعل فَبعد أَن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وَبَيْنك علم الْحجَّة وَالسَّلَام. ". قَالَ: فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون. أما بعد: " فقد بَلغنِي كتابك فِيمَا سَأَلت من الْهُدْنَة ودعوت إِلَيْهِ من الْمُوَادَعَة، وخلطت فِيهِ من حَال اللين بالشدة مِمَّا استعطفت بِهِ من سرح التَّاجِر، واتصال الْمرَافِق، وَفك الأساري، وَرفع القيل والقال، فلولا مَا رَجعْنَا إِلَيْهِ من إِعْمَال التؤدة، وَالْأَخْذ بالحظ من تقليب الفكرة، وَألا أعتقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الرَّأْي عَن مستقبله إِلَّا عَن اصْطِلَاح مَا أوثره فِي متعقبه لجعلت جَوَاب كتابك خيلا تحمل رجَالًا من أهل الْبَأْس والنجدة، وَالْجد والنصر يقارعونكم عَن ثكلكم ويتقربون إِلَى اللَّهِ جلّ وَعز بدمائكم، ويستقلون فِي ذَات اللَّهِ مَا نالهم من ألم شرككم ثمَّ أوصل إِلَيْهِم من الأمداد وأبلغ لَهُم كَافِيا من الْعدة والعتاد. هم أظمأ إِلَى موارد المنايا مِنْكُم السَّلامَة من مخوف معرتهم عَلَيْكُم موعدهم: " إِحْدَى الحسنيين " عَاجل غَلَبَة، أَو كريم مُنْقَلب. غير أَنِّي رَأَيْت أَن أتقدم إِلَيْك الموعظة إِلَى أَن يثبت اللَّهِ عز وَجل بهَا عَلَيْك الْحجَّة من الدُّعَاء لَك وَلمن مَعَك إِلَى الوحدانية، وَالدُّخُول فِي شَرِيعَة الحنيفية. فَإِن أَبيت ففدية توجب ذمَّة وَتثبت نظرة، وَإِن تركت ذَاك فَفِي يَقِين المعاينة لمعاونتنا مَا يُغني عَن الإبلاغ فِي القَوْل، والإغراق فِي الصّفة وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى ". أَخْبَار الشُّعَرَاء فِي أَيَّام الْمَأْمُون وَمن وَفد عَلَيْهِ مِنْهُم وَذكر مَا امتدح بِهِ من الشّعْر حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن آدم بن ثَابت بن جشم الْعَبْدي: قَالَ: حَدثنَا عمَارَة بن عقيل بن بِلَال بن جرير. قَالَ: وفدت إِلَى الْمَأْمُون مُقَدّمَة من خُرَاسَان فأوصلني إِلَيْهِ عَليّ بن هِشَام وَكَانَ نزولي عَلَيْهِ فَأَنْشَدته، وأجازني، وملأ يَدي وَكَانَ على لى مؤثرا، محبا، وَكَانَ يجْرِي على فِي كل يَوْم مَا يقيمني وَيُقِيم أضيافي. قَالَ: فمازحني يَوْمًا. وَقَالَ لي وَقد انشدته مدحا فِيهِ هَا هُنَا من هُوَ أقرب لَك مني رجلَانِ قلت: مِنْهُمَا؟ قَالَ: خَالِد بن يزِيد بن مزِيد، وَتَمِيم بن خُزَيْمَة بن خازم فَقلت لَهُ: وَالله مَا أتيت وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا عَرفته. قَالَ: فَأَنا أبْعث مَعَك من يقف بك عَلَيْهِمَا. فَبعث معي رجلا من أَصْحَابه فعرفني منزلهما. فَبَدَأت بتميم فتقدمت إِلَى بَابه. فَقلت: أعلموه أَن بِالْبَابِ عمَارَة بن عقيل. قَالَ: فتراخي عني الحجبة وَقيل لي أَنه أرسل إِلَيْهِ بعض غلمانه فأخبروه فَقَالَ: تغافلوا عَنهُ. فَقَالَ للرسول الَّذِي كَانَ مَعَه دلَّنِي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 منزل خَالِد. قَالَ:: فَمضى معي فَلَمَّا وقفت بِالْبَابِ أخبر خَالِد بمكاني فَخرج إِلَى نَفسه فَقَالَ: أَيهمْ هُوَ؟ فَأَوْمأ إِلَى فَدَنَا مني. قَالَ: وَأَرَادَ عمَارَة أَن ينزل فأمسكه خَالِد وأعتنقه وَمسح وَجهه وأنزله وَأدْخلهُ ودعا بِالطَّعَامِ وَالشرَاب ثمَّ قَالَ لي: يَا أَبَا عقيل مَا آكل إِلَّا بِالدّينِ فأعذرني وَهَذِه خَمْسَة أَثوَاب خَز خُذْهَا إِلَيْك وَلَا تخدع عَنْهَا فَإِنَّهَا قد قَامَت على بِمَال، وَهَذِه ألف دِرْهَم خُذْهَا إِلَى أَن يُوسع اللَّهِ على فَخرج عمَارَة وَهُوَ يَقُول: - (أأترك إِن قلت دَرَاهِم خَالِد ... زيارته إِنِّي إِذا للئيم) (فليت بثوبيه لنا كَانَ خَالِد ... وَكَانَ لبكر بالثراء تَمِيم) (فَيُصْبِح فِينَا سَابق متمهل ... وَيُصْبِح فِي بكر أغم بهيم) (وَقد يسلع المرؤ اللَّئِيم اصطناعه ... ويعتل نقد الْمَرْء وَهُوَ كريم) قَالَ: فشاع شعر عمَارَة فِي النَّاس وَبلغ تَمِيم بن خُزَيْمَة فَركب إِلَى إشراف بني تَمِيم فَقَالَ: أنظروا مَا قد فعل بِي عمَارَة وَفضل خَالِدا على وقتلني الْمَعْنى الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي قَوْله: - (فليت بثوبيه لنا كَانَ خَالِد ... وَكَانَ لبكر بالثراء تَمِيم) قَالَ: فأجتمعت بَنو تَمِيم إِلَى عمَارَة فَقَالُوا قطع اللَّهِ رَحِمك تجئ إِلَى غُلَام من ربيعَة فتتمنى أَن يكون فِي قَوْمك مثله، وترغب عَن تمم وَأَبوهُ خُزَيْمَة بن خازم من سادة الْعَرَب وَصَاحب دَعْوَة بني الْعَبَّاس وأسمعوه فَقَالَ: - (أضنوا بِمَا قدمت شَيبَان وَائِل ... بطرفهم على أضن وارغب) (أأن سمت برذونا بِطرف غضبتم ... على وَمَا فِي السُّوق والسوم مغضب) (وَفِي الْخَيل وَهِي الْخَيل تنْسب كلهَا ... مكد وجياش الأجاري مسهب) (وَمَا يستوى البرذون صلت حلومكم ... وَلَا السَّابِق الطّرف الْجواد المجرب) (فَإِن أضرمت أَو أنجبت أم خَالِد ... فحصر الزِّنَاد هن أورى وأثقب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قَالَ: نلقى عمَارَة ابْنا لمروان بن أبي حَفْصَة وَكَانَ بلغه أَنه هجا خَالِدا لينتصر لتميم فِي الطَّرِيق فَقيل لَهُ هَذَا ابْن أبي حَفْصَة فَقَالَ لَهُ: - (فعرضك لَا يُوفي كَرِيمًا بعرضه ... فَهَل يوفين مِنْك الجزاز المصمم) (كَأَنَّك لم تسمع فوارس وَائِل ... إِذا أسرجوا للحرب يَوْمًا وألجموا) قَالَ: ولقى خَالِد عمَارَة فَقَالَ لَهُ: ابْن خُزَيْمَة بيني وَبَيْنك أَو سوأته أَن يكون فِي قومِي مثل تَمِيم وَفِي قَوْمك مثلى. قَالَ: أخترت لنَفْسي عافاك اللَّهِ فَلَا تلمني على الِاخْتِيَار وَكَأن خَالِدا وجد من ذَلِك. قَالَ: وَبلغ الْمَأْمُون خبرهما فَأرْسل إِلَى خَالِد بِمَال وَقَالَ: مثلك من الْعَرَب فليصن عرضه لَا من يذله بخلا ولؤما. حَدثنِي أَبُو عَليّ السليطي من بني سليط حى من بني تَمِيم قَالَ حدثتي عمَارَة بن عقيل قَالَ: أنشدت الْمَأْمُون قصيدة فِيهَا مديح لَهُ فِيهَا مائَة بَيت. فأبتدأت بصدر الْبَيْت فبادرني إِلَى قافيته فَقلت: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا سَمعهَا مني أحد قطّ قَالَ هَكَذَا يَنْبَغِي أَن يكون، ثمَّ أقبل على فَقَالَ: لما بلغك أَن عمر بن أبي ربيعَة أنْشد عبد اللَّهِ بن عَبَّاس قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا: (تشط غَدا دَار جيراننا ... ) فَقَالَ ابْن عَبَّاس: - (وللدار بعد غَد أبعد ... ) حَتَّى أنْشدهُ القصيدة يقفيها ابْن عَبَّاس: ثمَّ قَالَ: أَنا ابْن ذَاك. حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم خَليفَة بن جروة قَالَ سَمِعت أَبَا مَرْوَان كارز بن هَارُون يَقُول: قَالَ الْمَأْمُون: - (بَعَثْتُك مشتاقا ففزت بنظره ... وأغفلتني حَتَّى أَسَأْت بك الظنا) (فناجيت من أَهْوى وَكنت مباعدا ... فيا لَيْت شعري عَن دنوك مَا أغنا) (أرى أثرا مِنْهُ بِعَيْنَيْك بَينا ... لقد أخذت عَيْنَاك من عينه حسنا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قَالَ أَبُو مَرْوَان: وَإِنَّمَا عول الْمَأْمُون فِي هَذَا الْمَعْنى على قَول الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف حَيْثُ يَقُول: - (إِن تشق عَيْني بهَا فقد سعدت ... عين رَسُولي وفزت بِالْخَيرِ) (وَكلما جَاءَنِي الرَّسُول لَهَا ... رددت عمدا فِي طرفه نَظَرِي) (يظْهر فِي وَجهه محاسنها ... قد أثرت فِيهِ أحسن الْأَثر) (خُذ مقلتي يَا رَسُول عَارِية ... فَأنْظر بهَا واحتكم على بَصرِي) قَالَ: وَأَخْبرنِي مُوسَى بن عبيد اللَّهِ التَّمِيمِي. قَالَ: تَذَاكَرُوا الشطرنج عِنْد الْمَأْمُون فتذاكروا قَول خَالِد القناص فِيهَا حَيْثُ يَقُول: - (أَرَادَ بِلَا ذحل أَخ لي يودني ... ويعظم حَقي دون كل ودود) (محاربتي لم يأل أَن بَث خيلة ... وألقح حَربًا شبها بوقود) فأمحكني وَالْحَرب أما بديها ... إِذا ورد الْأَبْطَال خير وُرُود) (فَأحْسن من عذراء مياسة الخطى ... رخيمة دلّ للرِّجَال صيود) (وَآخِرهَا شَمْطَاء كالغول فَحْمَة ... شبيهه عرنين بِأم قرود) وَقَالَ آخر: - (وجيش فِي الوغى بِإِزَاءِ جَيش ... لهام جحفل لجب خَمِيس) (يواقف بالمخائف مَا يبالى ... بِسَعْد طيره أم بالنحوس) (تراهم يبذلون لمدرهيهم ... إِذا حمى الوغى مهج النُّفُوس) (نفوس لَيْسَ ينفعها نعيم ... وَلَيْسَ يَضرهَا إعدام بؤس) (وَلَيْسوا باليهود وَلَا النَّصَارَى ... وَلَا الْعَرَب الصَّلِيب وَلَا الْمَجُوس) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَقَالَ آخر: - (وخيل قد جعلت إزاء خيل ... تساقي بَينهَا كأس الذباح) (بِيَمِينِهِ وميسرة وقلب ... كتعبية الْكَتَائِب للنطاح) (لغير عَدَاوَة كَانَت قَدِيما ... وَلَكِن للتلذذ والمراح) قَالَ الْمَأْمُون وَلَكِنِّي قلت فِيهَا: - (أَرض مربعة حَمْرَاء من أَدَم ... مَا بَين إلفين معروفين بِالْكَرمِ) (تذاكرا الْحَرْب فاحتالا لَهَا فطنا ... بِغَيْر أَن يأثما فِيهَا بسفك دم) (هَذَا يُغير على هَذَا وَذَاكَ على ... هَذَا يُغير وَعين الحزم لم تنم) (فَانْظُر إِلَى فطن حَالَتْ بِمَعْرِِفَة ... فِي عسكرين بِلَا طبل وَلَا علم) قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة: وَجه إِلَى الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤمنِينَ يَوْمًا فصرت إِلَيْهِ فَأَلْفَيْته مطرقا مفكرا فأحجمت عَن الدنو مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَال. فَرفع رَأسه فَنظر إِلَى وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن أدن فدنوت ثمَّ أطرق مَلِيًّا وَرفع رَأسه. فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاق: شَأْن النَّفس الْملَل وَحب الاستطراف تأنس بالوحدة كَمَا تأنس بالألفة. قلت: أجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ولي فِي هَذَا بَيت. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قلت: - (لَا تصلح النَّفس إِذْ كَانَت مقسمة ... إِلَّا التنقل من حَال إِلَى حَال) حَدثنِي أَبُو نزار الضَّرِير الشَّاعِر قَالَ: قَالَ لي على بن جبلة. قلت لحميد بن عبد الحميد يَا أَبَا غَانِم: إِنِّي قد امتدحت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون بمديح لَا يحسن مثله أحد من أهل الأَرْض فاذكرني لَهُ. فَقَالَ: أنشدنيه. فَأَنْشَدته فَقَالَ: اشْهَدْ أَنَّك صَادِق وَأخذ المديح فَأدْخلهُ على الْمَأْمُون. فَقَالَ يَا أَبَا غَانِم: الْجَواب فِي هَذَا وَاضح إِن شَاءَ عَفَوْنَا عَنهُ وَجَعَلنَا ذَلِك ثَوابًا المديحه لنا وَإِن شَاءَ جَمعنَا بَين شعره فِيك وَفِي أبي دلف فَإِن كَانَ الَّذِي قَالَ فِيك وَفِيه أَجود من الَّذِي مَدْحنَا بِهِ ضربنا ظَهره، وأطلنا حَبسه. وَإِن كَانَ الَّذِي قَالَ فِينَا أَجود أعطيناه بِكُل بَيت من مديحه ألف دِرْهَم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَإِن شَاءَ أقلناه. فَقلت يَا سَيِّدي: وَمن أَبُو دلف وَمن أَنا حَتَّى يمدحنا بأجود من مديحك؟ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْكَلَام من الْجَواب عَن الْمَسْأَلَة فِي أَي شَيْء فَأَعْرض ذَلِك على الرجل. قَالَ عَليّ بن جبلة: قَالَ لي حميد: مَا ترى؟ قلت: الْإِقَالَة أحب إِلَيّ. فَأخْبر الْمَأْمُون فَقَالَ هُوَ أعلم. قَالَ حميد: قلت لعلى إِلَى شئ ذهب فِي مدحك ابادلف وَفِي مدحك لي فَقَالَ إِلَى قولى فِي أبي دلف: - (إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف ... بَين مغزاه ومحتضره) (فَإِذا ولى أَبُو دلف ... ولت الدُّنْيَا على أَثَره) والى قولي فِيك: - (لَوْلَا حميد لم يكن ... حسب يعد وَلَا نسب) (يَا وَاحِد الْعَرَب الَّذِي ... عزت بعزته الْعَرَب) قَالَ: فَأَطْرَقَ حميد سَاعَة ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْحسن لقد انتقد عَلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون وَأمر لي بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وحملان وخلعة وخادم. وَبلغ ذَلِك أَبَا دلف فأضعف لي الْعَطِيَّة وَكَانَ ذَلِك مِنْهُمَا فِي ستر لم يعلم بِهِ أحد إِلَى أَن حدثتك يَا أَبَا نزار بِهَذَا. قَالَ أَبُو نزار: وظننت أَن الْمَأْمُون تفقد عَلَيْهِ هَذَا الْبَيْت فِي أبي دلف. (تحدر مَاء الْجُود من صلب آدم ... فأثبته الرحمان فِي صلب قَاسم) أَخْبرنِي سُلَيْمَان بن رزين الْخُزَاعِيّ ابْن أخي دعبل قَالَ: هجا دعبل الْمَأْمُون فَقَالَ: - (ويسومني الْمَأْمُون خطة عَارِف ... أوما رأى بالْأَمْس رَأس مُحَمَّد) (يُوفى على هام الخلائف مثل مَا ... توفّي الْجبَال على رُؤُوس القردد) (وَيحل فِي أكناف كل ممنع ... حَتَّى يذلل شاهقا لم يصعد) (إِن التراث مسهد طلابها ... فَاكْفُفْ لعابك عَن لعاب الْأسود) فَقيل لِلْمَأْمُونِ إِن دعبلا هجاك. فَقَالَ: هُوَ يهجو أَبَا عباد لَا يهجوني. يُرِيد حِدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أبي عباد، وَكَانَ أَبُو عباد إِذا دخل على الْمَأْمُون كثيرا مَا يضْحك الْمَأْمُون وَيَقُول لَهُ: مَا أَرَادَ دعبل مِنْك حَيْثُ يَقُول: (وَكَأَنَّهُ من دير هِرقل مفلت ... حرد يجر سلاسل الأقياد) وَكَانَ الْمَأْمُون يَقُول لإِبْرَاهِيم بن شكْلَة إِذا دخل عَلَيْهِ لقد أوجعك دعبل حَيْثُ يَقُول: - (إِن كَانَ إِبْرَاهِيم مضطلعا بهَا ... فلتصلحن من بعده لمخارق) (ولتصلحن من بعد ذَاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده المارق) (ولتصلحن من بعد ذَاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق) (أَنِّي يكون وَلَا يكون وَلم يكن ... لينال ذالك فَاسق عَن فَاسق) حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن حَفْص المخرمي أَن إعرابيا دخل على الْحسن بن سهل فأمتدحه فَلَمَّا فرغ قَالَ لَهُ / احتكم. قَالَ وَهُوَ يظنّ أَن الْأَعرَابِي همته همة صَغِيرَة فَقَالَ: ألف نَاقَة فَوَجَمَ لَهَا الْحسن وَلم يكن فِي سَعَة يَوْمئِذٍ وَكره أَن يفتضح فأجال الْفِكر فَقَالَ يَا أَعْرَابِي: لَيْسَ بِلَادنَا بلادا بل وَلَكِن مَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: - (إِذا لم تكن إبل فمعزى ... كَأَن قُرُون جلتها العصى) قد أمرت لَك بِأَلف شَاة فالق يحيى بن خاقَان. قَالَ: فلقي يحيى فَأعْطَاهُ لكل شَاة دِينَار فَأخذ ألف دِينَار. قَالَ: وَكَانَ الْمَأْمُون يبْعَث إِلَى أم جَعْفَر فِي كل سنة من ضرب السّنة مَال دَنَانِير ودراهم فَكَانَت تصل أَبَا الْعَتَاهِيَة مِنْهَا. فجَاء أَبُو الْعَتَاهِيَة إِلَى مُسلم بن سَعْدَان كَاتب أم جَعْفَر وَأَنا قَاعد أكتب بَين يَدَيْهِ فَأعْطَاهُ رقْعَة وَسَأَلَهُ أَن يَدْفَعهَا إِلَى لأوصلها إِلَى أم جَعْفَر وَأَنا غُلَام فَأخذت الرقعة فأدخلتها إِلَى أم جَعْفَر فقرأتها فَإِذا فِيهَا: - (زَعَمُوا لى أَن من ضرب السّنة ... جددا بيضًا وصفرا حسنه) (سككا قد أحدثت لم أرها ... مثل مَا كنت أرى كل سنة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَكَانَ صرد الْخَادِم يتَوَلَّى تفرقه صلَة الْمَأْمُون لَهَا من هَذِه الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير الجدد. فَأمرت بإحضار صرد فَقَالَت لَهُ: لم لم تعط الجرار صلته من الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم؟ . فَقَالَ لم تبلغه النّوبَة. قَالَت: فعجلها لَهُ. فَأَعْطَانِي مائَة دِينَار وألفى دِرْهَم خرجت بهَا فِي صرتين حَتَّى دفعتها إِلَى مُسلم بن سَعْدَان فَدَفعهَا إِلَيْهِ. حَدثنِي أَبُو الشماخ. قَالَ: قَالَ: الْمَأْمُون وَعِنْده الزُّبْدِيُّ، والثقفي مولى الخيزران وَإِسْمَاعِيل بن نوبخت. وتذاكروا الشُّعَرَاء فَقَالُوا: النَّابِغَة. وَقَالُوا: الأعشي. وخاضوا فيهم. فَقَالَ لَا. أشعرهم إِلَّا وَاحِدًا كَانَ خليعا الْحسن بن هاني. فَقَالُوا: صدق أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: الصدْق على المناظرة أحسن من الصدْق على الهيبة. فَقَالُوا: فِيمَا قَدمته؟ قَالَ: بقوله: - (يَا شَقِيق النَّفس من حكم ... نمت عَن ليلى وَلم أنم) ثمَّ قَالَ لم يسْبقهُ إِلَى هَذَا الْبَيْت أحد: - (ثمَّ دبت فِي عروقهم ... كدبيب الْبُرْء فِي السقم) قَالَ: أَبُو الشماخ: كَانَ الْمَأْمُون منحرفا عَن أبي نواس لميله إِلَى مُحَمَّد. أَخْبرنِي مُوسَى بن عبيد اللَّهِ التَّمِيمِي أَن مَنْصُور النمري، وَالْحسن بن هَانِئ وَأَبا الْعَتَاهِيَة وَأَبا زغبة قَالَ: أَبُو زغبة شَامي، قيسي اجْتَمعُوا فتذاكروا أبياتا على وزن وَاحِد ففضل أَبُو الْعَتَاهِيَة عَلَيْهِم فَقَالَ النمري: - (أعمير كَيفَ بحاجة ... طلبت إِلَى صم الصخور) (لله در عدتكم ... كَيفَ اننسبن إِلَى الْغرُور) (وَلَقَد تبيت أناملي ... يجنين رمان النحور) وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة: - (لهفي على الزَّمن القضير ... بَين الخورنق والسدير) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 (إِذْ نَحن فِي غرف الْجنان ... نعوم فِي بَحر السرُور) وَقَالَ الْحسن بن هَانِئ: - (وعظتك واعظة الْفَقِير ... وعلتك أبهة الْكَبِير) (ورددت مَا كنت أستعرت ... من الشَّبَاب إِلَى الْمُعير) (وَلَقَد تحل بعقوة الْبَاب ... من بقر الْقُصُور) (صور إِلَيْك مؤنثات ... الدل فِي زِيّ الذُّكُور) (أرهفن إرهاف الأعنة ... والحمائل والسيور) (أصداغهن معقربات ... والشوارب من عبير) وَلَا أحفظ مَا قَالَ أَبُو زغبة ففضلوا أَبَا الْعَتَاهِيَة. وَأَبُو نواس عِنْدِي أشعرهم. حَدثنِي مُحَمَّد بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن. قَالَ: خرج إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس، ودعبل ورزين فِي نظرائهم من أهل الْأَدَب رِجَاله إِلَى بعض الْبَسَاتِين فِي خلَافَة الْمَأْمُون فَلَقِيَهُمْ قوم من أهل السَّوْدَاء من أَصْحَاب الشوك قد باعوا مَا مَعَهم من الشوك \ فأعطوهم شَيْئا وركبوا تِلْكَ الْحمر فَأَنْشَأَ إِبْرَاهِيم يَقُول: - (أعيضت بعد حمل الشوك ... أوقارا من الْحَرْف) (نشاوي لَا من السكر ... وَلَكِن من أَذَى الضعْف) فَقَالَ رزين: - (فَلَو كُنْتُم على ذَاك ... تؤولون إِلَى قصف) (تَسَاوَت حالكم فِيهِ ... وَلم تعنوا على الْخَسْف) فَقَالَ دعبل: - (فَإذْ فَاتَ الَّذِي فَاتَ ... فكونوا من ذوى الظّرْف) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 (ومروا نقصف الْيَوْم ... فَإِنِّي بَائِع خفى) حَدثنِي مُحَمَّد بن الْهَيْثَم الطَّائِي. قَالَ: حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد الطيفوري. قَالَ: شكا اليزيدي إِلَى الْمَأْمُون خلة أَصَابَته، ودينا لحقه. فَقَالَ لَهُ: مَا عندنَا فِي هَذِه الْأَيَّام مَا إِن أعطيناكه بلغت بِهِ مَا تُرِيدُ. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن الْأَمر قد ضَاقَ على، وَإِن غرمائي قد أرهقوني. قَالَ: قدم لنَفسك أمرا تنَال بِهِ نفعا فَقَالَ: لَك منادمون فيهم من إِن حركته نلْت مِنْهُ مَا أحب فَأطلق لي الْحِيلَة فيهم. قَالَ: قل مَا بدا لَك. فَقَالَ: إِذا حَضَرُوا حضرت فَأمر فلَانا الْخَادِم يُوصل إِلَيْك رقعتي فَإِذا قرأتها فَأرْسل إِلَى دخولك فِي هَذَا الْوَقْت مُتَعَذر، وَلَكِن أختر لنَفسك من أَحْبَبْت قَالَ: فَلَمَّا أَن علم أَبُو مُحَمَّد جُلُوس الْمَأْمُون وأجتماع ندمائه إِلَيْهِ وتيقن أَنهم قد ثَمِلُوا من شربهم أَتَى الْبَاب فَدفع إِلَى ذَلِك الْخَادِم رقْعَة قد كتبهَا فأوصلها لَهُ إِلَى الْمَأْمُون فقرأها فَإِذا فِيهَا: - (يَا خير إخْوَان وَأَصْحَاب ... هَذَا الطفيلي لَدَى الْبَاب) (فصيروني وَاحِدًا مِنْكُم ... أَو أخرجُوا لي بعض أَصْحَابِي) قَالَ: فقرأها الْمَأْمُون على من حَضَره فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي أَن يدْخل الطفيلى على مثل هَذِه الْحَال فَأرْسل إِلَيْهِ الْمَأْمُون: دخلولك فِي هَذَا الْوَقْت مُتَعَذر فأختر لنَفسك من أَحْبَبْت تنادمه. فَقَالَ: مَا أرى لنَفْسي اخْتِيَارا غير عبد اللَّهِ بن طَاهِر فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: قد وَقع اخْتِيَاره عَلَيْك فصر إِلَيْهِ. قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: فَأَكُون شريك الطفيلي. قَالَ: مَا يُمكن رد أبي مُحَمَّد عَن أَمريْن فَإِن أَحْبَبْت أَن تخرج وَإِلَّا فَافْدِ نَفسك. قَالَ: فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَهُ على عشرَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: لَا أَحسب ذَلِك يقنعه مِنْك وَمن مجالستك. قَالَ: فَلم يزل يزِيدهُ عشرَة عشرَة والمأمون يَقُول لَا أرْضى لَهُ بذلك حَتَّى بلغ الْمِائَة. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: فعجلها لَهُ. قَالَ: فَكتب لَهُ بهَا إِلَى وَكيله وَوجه مَعَه رَسُولا. وَأرْسل الْمَأْمُون إِلَيْهِ: قبض هَذِه فِي هَذِه الْحَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أصلح لَك من منادمته على مثل حَاله وانفع عَاقِبَة. حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن. قَالَ: أَخْبرنِي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد مولى بني زهرَة. قَالَ: دخل أبي عَليّ الْمَأْمُون وَقد ولاه الْقَضَاء فَقَالَ: أتروى شَيْئا من الشّعْر؟ قَالَ: نعم. قَالَ انشدني: فأنشده: - (سكن يبْقى لَهُ سكن ... مَا بِهَذَا يُؤذن الزَّمن) (نَحن فِي دَار يخبرنا ... ببلاها نَاطِق لسن) (كل حى عِنْد ميته ... حَظه من مَاله كفن) (إِن مَال الْمَرْء لَيْسَ لَهُ ... مِنْهُ إِلَّا فعله الْحسن) قَالَ: فَدَعَا الْمَأْمُون بداوة فكتبها. قَالَ: وَقَالَ الْمَأْمُون لعبد اللَّهِ بن طَاهِر: لَيْسَ فِيك عيب إِلَّا أَنَّك تحب الشّعْر وَأَهله. وَقد أمرت أَحْمد بن يُوسُف يضم إِلَيْك رجلا فِي ناحيتنا هُوَ عِنْدِي أشعر من جرير. فضم إِلَيْهِ أَبُو العمثيل وَهُوَ: عبد اللَّهِ بن خويلد. . كَانَ أَمر الرشيد أَن يبْتَاع لَهُ خويلد هَذَا فَسبق الْعَبَّاس بن مُحَمَّد فَاشْتَرَاهُ فصير لَهُ خوله الَّذين كَانُوا للْعَبَّاس بن مُحَمَّد بفيد وأيلة. وَقَالَ أَبُو العمثيل قدم على الْمَأْمُون بخراسان أَيَّام الْفضل بن سهل فَخرج أَبُو العمثيل خلف عبد اللَّهِ بن طَاهِر إِلَى مصر فَقَالَ قصيدة يصف فِيهَا الْمنَازل مثل قصيدة أبي النواس فِي الخصيب يصف الْمنَازل فَأول قصيدة أبي العثميل: - (خليلي إِن الْهم لى غير وازع ... وقلبي عميد قلب هيمان نَازع) (ألم تَرَ أَنِّي كلما هبت الصِّبَا ... أصب ويقضيني شؤون المدامع) (جعلت همومي حَشْو قلب مشايع ... على الْهم والوجناء حَشْو البراذع) قَالَ وَكَانَ أَبُو العمثيل ولد فِي البدو، وَنَشَأ فِي البدو وَكَانَ فِي بني الْقَيْن ابْن جسر. قَالَ: وشعره فِي ألف جلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قَالَ إِسْحَاق الْموصِلِي: قَالَ: أَبُو مُوسَى فِي عريب جَارِيَة الْمَأْمُون وَكَانَت تعشق جَعْفَر بن حَامِد ويتعشقها فَلَمَّا وجدت من الْمَأْمُون غَفلَة وضعت على فراشها مِثَال رُخَام تَحت الْإِزَار يحْسب من رَآهُ من بعيد أَنَّهَا نَائِمَة. وَكَانَ جَعْفَر بن حَامِد قد نزل إِلَى جَانب قصر الْمَأْمُون فَصَعدت إِلَى السَّطْح فتدلت فِي زبيل فَلَمَّا قضى نهمته مِنْهَا قعدت فِي الزبيل فَصَعدت فَرَجَعت إِلَى مَكَانهَا وطلبها الْمَأْمُون قبل أَن ترجع على فراشها فَلم يجدهَا، فَعلم إِلَى ايْنَ صَارَت، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: - (قَاتل اللَّهِ عريبا ... فعلت فعلا عجيبا) (ركبت وَاللَّيْل داج ... مركبا صعبا أريبا) (لعَظيم جعلت ذَا ... لَك مكسا لَا هيوبا) (مخه لَو حركت خفت ... عَلَيْهَا أَن تذوبا) (رعت اللَّيْل فَلَمَّا ... إقتضى النّوم الرقيبا) (مثلت فَوق حشاياها ... لكَي لَا يستريبا) (بَدَلا مِنْهَا إِذا نُودي ... باسم لَا يجيبا) (وَمَضَت يحملهَا الْخَوْف ... قَضِيبًا وكثيبا) (فتدلت لمحب ... فتلقاها حبيبا) (جذلا قد نَالَ بالدن ... يَا من الدُّنْيَا رغيبا) (أَيهَا الظبي الَّذِي يحرج ... عَيناهُ القلوبا) (وَالَّذِي يَأْكُل بَعْضًا ... بعضه ملحا وطيبا) (كنت نصبا لذئاب ... فَلَقَد أطمعت ذيبا) (وَكَذَا الشَّاة إِذا لم ... يَك راعيها لبيبا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 (لَا يُبَالِي رعية المرعى ... إِذا كَانَ عشيبا) (فَلْيقل من شَاءَ مَا شَاءَ ... إِذا كَانَ أديبا) قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون قد وَلَا يحيى بن أَكْثَم قَضَاء الْبَصْرَة فحضره جحشويه الشَّاعِر وَشهد رجلَيْنِ عِنْده من أهل الْعَدَالَة وَالصَّلَاح بِمَال على معية، وَيُقَال على غَيره. ولمعية مَعَ يحيى أَحَادِيث طريفة. وَاسم أحد الرجلَيْن اللَّذين شَهدا عِنْد يحيى جُوَيْن وَالْآخر عداس. على غُلَام أَنَّهُمَا رأياه يلاط بِهِ وَادّعى الْغُلَام أَنَّهُمَا قذفاه بالزنى فَأَرَادَ أَن يحدهما فَقَالَ جحشوية: - (أنطقني الدَّهْر بعد إخراس ... بحادثات أطلن وسواسي) (يَا بؤس للدهر لَا يزَال كَمَا ... يرفع نَاسا يحط من نَاس) (لَا أفلحت أمة وَحقّ لَهَا ... بطول لعن وَطول إتعاس) (ترْضى بِيَحْيَى يكون سائسها ... وَلَيْسَ يحيى لَهَا بسواس) (قَاض يرى الْحَد فِي الزناء وَلَا ... يرى على من يلوط من بَأْس) (يحكم للأمرد الظريف على ... مثل جُوَيْن وَمثل عداس) (فَالْحَمْد لله كَيفَ قد ظهر الْجُود ... وَقل الْوَفَاء فِي النَّاس) (أميرنا جَائِر وقاضينا ... يلوط وَالرَّأْس شَرّ مَا رَأس) (لَو قصد الرَّأْس واستقام لقد ... قَامَ على الْقَصْد كل مرتاس) (مَا أحسن الْجور ينقضى وعَلى ... النَّاس أَمِير من آل عَبَّاس) وَقَالَ مُصعب بن الْحسن. حَدثنِي أَبُو خَالِد القناديلي. قَالَ: شهِدت الْمَأْمُون وَعِنْده عبَادَة المخنث وَقد أَمر بِيَحْيَى بن أَكْثَم وَقد وضع السرج، وشدوا حزامه ولببه فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء يهجو يحيى بن أَكْثَم: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 (أرقه برح الْهوى وسدمة ... وملة الْحبّ فَبَاتَ يألمة) (طورا يعاتبه وطورا يشتمه ... مثل الْحَرِيق فِي الحشا يضرمه) (فَفَاضَتْ الْعين بدمع تسجمه ... نمت عَلَيْهِ كل سوق يَكْتُمهُ) (وباح بالحب الَّذِي يجمعه ... وَبَات وَالْقلب يسامي هممه) (من لمحب قد ترَاهُ يرحمه ... أصبح بالبأساء عَار أنغمه) (طَال تصابيه وَطَالَ سقمه ... وبلى الْجِسْم ودقت أعظمه) (يشهدني اللَّهِ على من يَظْلمه ... يمنعهُ طعم الْكرَى ويحرمه) (واها لَهُ يصرم من لَا يصرمه ... أصبح هَذَا الدّين رثا رممه) (عطله الْجور وَطَالَ قدمه ... سحت من الْجور عَلَيْهِ ديمه) (فباد مغنى ربعه وأرسمه ... إِلَّا بقايا قومه وَجمعه) (أوطنه الْجور فأضحى معلمه ... يرود فِيهِ شاءه ونقمه) (من يشْهد الْجور فَنحْن نعلمهُ ... أنوك قَاض فِي الْبِلَاد نعلمهُ) (يَقُول حَقًا لَا تعيث ترحمه ... مذ ولى الحكم أُبِيح حرمه) (وأنتهكت من الْقَضَاء حرمه ... واضطربت أَرْكَانه ودعمه) (وَالله يبنيه وَنحن نهدمه ... ياليت يحيى لم يلده أكثمه) (وَلم تطَأ أَرض الْعرَاق قدمه ... ملعونة أخلاقه وشيمه) (لَا خَلفه عف وَلَا مقدمه ... يَأْتِي ويؤتي وَهُوَ لَا يستطعمه) (أَي دَوَاة لم تلقها قلمه ... وَأي بَحر لم يردهُ علمه) (دربه بالرهز حَتَّى أحكمه ... وَأي خشف لم يبت يستطعمه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 (يغكمه هَذَا وَهَذَا يعكمه ... كِلَاهُمَا يَأْتِي كثيرا مأثمه) (وَالله وَالله لقد حل دَمه ... لَو أَن للدّين عمادا يدعمه) (يعدل عَنهُ الْميل أَو يقومه ... لَكَانَ قد رن عَلَيْهِ مأثمه) (أَرْجُو وَيَقْضِي اللَّهِ لَا يُسلمهُ ... من وَجهه هَذَا وَلَكِن يقصمه) (بِالسَّيْفِ إِذا حلت عَلَيْهِ نقمه ... [] ) حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ صَاحب المراكب، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، عَن صَالح بن الرشيد. قَالَ: دخلت على المامون وَمَعِي بيتان للحسين بن الضَّحَّاك. فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أحب ان تسمع مني بَيْتَيْنِ. قَالَ: أنشدهما فأنشده صَالح: - (حمدنا اللَّهِ شكرا إِذْ حبانا ... بنصرك يَا أَمِير المؤمنينا) (فَأَنت خَليفَة الرحمان حَقًا ... جمعت سماحة وجمعت دينا) فأستحسنهما الْمَأْمُون وَقَالَ: لمن هَذَانِ البيتان يَا صَالح؟ قلت: لعبدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك. قَالَ: قد أحسن قلت: وَله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هُوَ أَجود من هَذَا. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ . فَأَنْشَدته: - (أيبخل فَرد الْحسن فَرد صِفَاته ... على وَقد أفردته بهوى فَرد) (رأى اللَّهِ عبد اللَّهِ خير عباده ... فملكه وَالله أعلم بِالْعَبدِ) قَالَ: عمَارَة بن عقيل. قَالَ لي عبد اللَّهِ بن أبي السمط: علمت أَن الْمَأْمُون لَا يبصر الشّعْر. قَالَ: قلت وَمن ذَا يكون أعلم مِنْهُ فوَاللَّه إِنَّك لترانا ننشده أول الْبَيْت فيسبقنا إِلَى آخِره. قَالَ إِنِّي أنشدته بَيْتا أَجدت فِيهِ فَلم أره تحرّك لَهُ. قَالَ: قلت وَمَا الَّذِي أنشدته؟ قَالَ أنشدته: - (أضخى إِمَام الْهدى الْمَأْمُون مشتغلا ... بِالدّينِ وَالنَّاس بالدنيا مشاغيل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قَالَ: فَقلت لَهُ إِنَّك وَالله مَا صنعت شَيْئا وَهل زِدْت على أَن جعلته عجوزا فِي مِحْرَابهَا فِي يَدهَا سبحتها فَمن الْقَائِم بِأَمْر الدُّنْيَا إِذا تشاغل عَنْهَا وَهُوَ المطوق بهَا هلا قلت فِيهِ كَمَا قَالَ عمك جرير فِي عبد الْعَزِيز بن الْوَلِيد: - (فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مضيع نصِيبه ... وَلَا عرض الدُّنْيَا عَن الدّين شاغلة) قَالَ: وحَدثني أَحْمد بن مُحَمَّد اليزيدي. قَالَ: جَاءَنَا أبي فَقَالَ يَا بني: لقينى يَاسر رجله فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَدخلت على الْمَأْمُون وَعِنْده جمَاعَة من أَصْحَابه فَقَالَ: إِنِّي أمرت من يحضرني ينشدني مَا يخْطر بِقَلْبِه مِمَّا يستحسنه فَكل أنْشد فأنشدني مَا يخْطر بقلبك مِمَّا تستحسنه فَأَنْشَدته: - (عتقت حَتَّى لَو اتَّصَلت ... بِلِسَان نَاطِق وفم) (لاحتبت فِي الْقَوْم مائلة ... ثمَّ قصت قصَّة الْأُمَم) فَقَالَ الْمَأْمُون الَّذِي أردْت: - (وتمشت فِي مفاصلهم ... كتمشى الْبُرْء فِي السقم) ثمَّ نكث الأَرْض بإصبعه فأنصرف من بِحَضْرَتِهِ وَخرجت مَعَهم فلحقني يَاسر فَقَالَ: ارْجع. فَرَجَعت: فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد: اشْتهيت اتعرف الأفياء فَلم يزل يذهب من فئ إِلَى فئ حَتَّى أفْضى إِلَى الرواق فَرفع السجف فَإِذا عريب وَمُحَمّد بن حَامِد البوزنجردي فَقَالَ: نطعم أَبَا مُحَمَّد شَيْئا. فَقلت: قد أكلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَشرب الْمَأْمُون رطلين وَقَالَ: أسق أَبَا مُحَمَّد. فَلَمَّا هَمَمْت بشربه قَالَ: هَات لَهُ عشْرين ألف دِرْهَم قَالَ: وأنشدك بَيْتَيْنِ خير لَك من عشْرين ألف. فَقلت: مازال أَمِير الْمُؤمنِينَ يُؤَدب ويفيد فأنشدني: - (إِنِّي وَأَنت رضيعا قهوة لطفت ... عَن العيان ورقت فِي مدى الْوَهم) (لم نغتذى غير كأس خزت درتها ... والكأس حرمتهَا أولى من الرَّحِم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حَدثنِي عبد اللَّهِ الرّبيع بن سعد بن زُرَارَة. قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم السباري قَالَ: لما قدم العتابي على الْمَأْمُون مَدِينَة السَّلَام أذن لَهُ فَدخل عَلَيْهِ وَعِنْده إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم الموصلى وَكَانَ شَيخا جَلِيلًا فَسلم فَرد عَلَيْهِ السَّلَام وَأَدْنَاهُ وقربه حَتَّى دنا مِنْهُ فَقبل يَده ثمَّ أمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ وَأَقْبل عَلَيْهِ يسائله عَن حَاله فَجعل يجِيبه بِلِسَان طلق فاستطرف الْمَأْمُون ذَلِك مِنْهُ فَأقبل عَلَيْهِ بالمداعبة والمزح فَظن الشَّيْخ أَنه أستخف بِهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. الإبساس قبل الإيناس. قَالَ: فَاشْتَبَهَ على الْمَأْمُون فِي الإبساس فَنظر الْمَأْمُون إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ثمَّ قَالَ: نعم. يَا غُلَام ألف دِينَار فاتى بهَا فَوضعت بَين يَدي العتابي وَأخذُوا فِي الْمُفَاوضَة والْحَدِيث وغمز عَلَيْهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فَأقبل لَا يَأْخُذ العتابي فِي شئ إِلَّا عَارضه إِسْحَاق بِأَكْثَرَ مِنْهُ فبقى مُتَعَجِّبا ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أئذن لي فِي مَسْأَلَة هَذَا الشَّيْخ عَن اسْمه. قَالَ: نعم. فسله. قَالَ يَا شيخ: من أَنْت، وَمَا اسْمك؟ قَالَ: أَنا من النَّاس واسمى كل بصل. قَالَ: أما النِّسْبَة فمعروفة، وَأما الِاسْم فمنكر، وَمَا كل بصل من الْأَسْمَاء. قَالَ لَهُ إِسْحَاق: مَا أقل أنصافك؟ وَمَا كل ثوم من الْأَسْمَاء البصل أطيب من الثوم. فَقَالَ العتابي: لله دَرك مَا أحجك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رَأَيْت كالشيخ قطّ تَأذن فِي صلته بِمَا وصلني بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد وَالله غلبني. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: بل هَذَا موفر عَلَيْك ونأمر لَهُ بِمثلِهِ. فَقَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أما إِذا أَقرَرت بِهَذِهِ فتوهمني تجدني. قَالَ: وَالله مَا أَظُنك إِلَّا الشَّيْخ الَّذِي يتناهى إِلَيْنَا خَبره من الْعرَاق وَيعرف بِابْن الموصلى قَالَ: أَنا حَيْثُ ظَنَنْت. فَأقبل عَلَيْهِ بالتحية وَالسَّلَام. فَقَالَ الْمَأْمُون وَقد طَال الحَدِيث بَينهمَا: أما إِذا اتفقتما على الصُّلْح والمودة فقوما فانصرفا متنادمين فأنصرف العتابي إِلَى منزل إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الموصلى فَأَقَامَ عِنْده. حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن جشم الربعِي قَالَ: أخبرنَا عمَارَة بن عقيل. قَالَ: قَالَ لي الْمَأْمُون يَوْمًا وَأَنا أشْرب عِنْده: مَا أخبثك يَا أَعْرَابِي. قَالَ قلت وَمَا ذَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وهمتني نَفسِي. قَالَ كَيفَ قلت: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 (قَالَت مفداة لما أَن رَأَتْ أرقى ... والهم يعتادني من طيفه لمَم) (نهبت مَالك فِي الأدنين آصرة ... وَفِي الأباعد حَتَّى حفك الْعَدَم) (فأطلب إِلَيْهِم ترى مَا كنت من حسن ... تسدى إِلَيْهِم فقد باتت لَهُم صرم) (فَقلت عذلك قد أكثرت لائمتى ... وَلم يمت حَاتِم هزلا وَلَا هرم) فَقَالَ لي: ايْنَ رميت بِنَفْسِك إِلَى هرم بن سِنَان سيد الْعَرَب، وحاتم الطَّائِي فعلا كَذَا، وفعلا كَذَا. وَأَقْبل ينثال على بفضلهما. قَالَ فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: خير مِنْهُمَا أَنا مُسلم وَكَانَا كَافِرين، وَأَنا رجل من الْعَرَب. حَدثنَا مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا بن مَيْمُون الفرغاني قَالَ: قَالَ الْمَأْمُون لمُحَمد بن الجهم أَنْشدني ثَلَاثَة أَبْيَات فِي المديح: والهجاء، والمراثي وَلَك بِكُل بَيت كورة فأنشده فِي المديح: - (يجود بِالنَّفسِ إِذْ ضن الْجواد بهَا ... والجود بِالنَّفسِ أقْصَى غَايَة الْجُود) وأنشده فِي الهجاء: - (قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم بقبح الْمخبر) وانشده فِي المراثي: - (أَرَادوا ليخفوا قَبره عَن عدوه ... فطيب تُرَاب الْقَبْر دلّ على الْقَبْر) وَقَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد. قَالَ انشدني الْعَبَّاس بن أَحْمد بن الْمَأْمُون فِي الْجَوَارِي: - (أَتُوب إِلَى الرحمان من كل ذَنْب ... سوى أنني للغانيات ودود) (أَخَاف إِذا مَا مت أَن يسترقني ... ترائب تبدو من ضحى وخدود) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أَخْبَار المغنين أَيَّام الْمَأْمُون الْعَبَّاس بن أَحْمد بن أبان أَبُو الْقَاسِم الْكَاتِب. قَالَ: أَخْبرنِي الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك. قَالَ: قَالَ عُلْوِيَّهُ أخْبرك أَنه مر بِي مرّة مَا أَيِست من نَفسِي مَعَه لَوْلَا كرم الْمَأْمُون وَإنَّهُ دَعَا بِنَا فَلَمَّا أَخذ فِيهِ النَّبِيذ قَالَ: غنونى. فَسَبَقَنِي مُخَارق فأندفع فتغنى صَوتا لِابْنِ سُرَيج فِي شعر جرير: - (لما تذكرت بالديرين أرقني ... صَوت الدَّجَاج وَضرب بالنواقيس) (فَقلت للركب قد جد الْمسير بِنَا ... يَا بعد يبرين من بَاب الفراديس) قَالَ: فحين لي أَن تَغَنَّيْت. وَقد كَانَ هم بِالْخرُوجِ إِلَى دمشق يُرِيد الثغر: - (الْحِين سَاق إِلَى دمشق وَمَا ... كَانَت دمشق لأهلنا بَلَدا) قَالَ: فَضرب بالقدح الأَرْض وَقَالَ: مَالك. عَلَيْك لعنة اللَّهِ. ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام عط مخارقا ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم. وَأخذ بيَدي فَقُمْت وَعَيناهُ تدمعان وَهُوَ يَقُول للمعتصم. هُوَ وَالله آخر خُرُوج وَلَا أحسبني أرى الْعرَاق ابدا. قَالَ: فَكَانَ وَالله آخر الْفِرَاق عِنْد خُرُوجه كَمَا قَالَ. قَالَ الْحُسَيْن وَأَخْبرنِي مُخَارق أَنه دخل على الْمَأْمُون يَوْمًا وَبَين يَدَيْهِ طبق عَلَيْهِ رغيفان ودجاجة. قَالَ فَقَالَ لي: تعال يَا مُخَارق. قَالَ: فصيرت بركَة قبائي فِي منطقتي وغسلت يَدي وَجئْت فَجعلت أقطع بَين يَدَيْهِ من الدَّجَاجَة وآكل حَتَّى آتَيْنَا جَمِيعًا على الدَّجَاجَة والرغيفين وَقمت من بَين يَدَيْهِ. فَلَمَّا جلسنا للنبيذ قَالَ لي يَا مُخَارق غنني صَوتا كَذَا فغنيته فعبس فِي وَجهه وَقَالَ لعلوية غنني يَا علوِيَّة هَذَا الصَّوْت فغناه دون غنائي فَضَحِك إِلَيْهِ وَتَبَسم ودعا لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم فَوضعت بَين يَدَيْهِ ثمَّ سَأَلَني أَن أغنيه صَوتا آخر فغنيته وأجتهدت فَفعل مثل فعله الأول، وَأمر علوِيَّة فغناه فَفعل كَذَلِك ودعا لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ قَالَ غنني فغنيته فَفعل كَفِعْلِهِ الأول ثمَّ قَالَ لعلوية غنه فغناه فَدَعَا لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة: فَقَالَ لي علوِيَّة وأصحابنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الك ذَنْب؟ فَقلت: لَا وَالله إِلَّا أَنِّي دخلت فدعاني إِلَى الْغَدَاء فَأكلت مَعَه. فَقَالَ لي علوِيَّة وَيلك ألم يكن فِي بَيْتك رغيف فتأكله قبل مجيئك. قَالَ: ثمَّ انصرفنا من ذَلِك الْمجْلس فَأمر أَن أحضر الدَّار كل يَوْم حَتَّى حضرت شهرا لَا يَأْذَن لي. فَلَمَّا استوفيت ثَلَاثِينَ يَوْمًا أذن لى فَدخلت وَهُوَ يتغدى وَبَين يَدَيْهِ طبق مثل ذَلِك الطَّبَق وَعَلِيهِ دجَاجَة ورغيفان فَسلمت فَرد على السَّلَام. ثمَّ قَالَ أدن يَا مُخَارق. فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَا وَالله لَا أَعُود لمثلهَا ابدا. قَالَ: فَضَحِك حَتَّى استغرق ثمَّ قَالَ لي: وَيلك اظننت بِي بخلا على الطَّعَام لَا وَالله وَلَكِنِّي أردْت تأديبك لمن بعدِي لِأَن الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء لَا يؤاكلها خدمها، وأخاف أَن تتعود هَذَا من غَيْرِي فَلَا يحتملك عَلَيْهِ تعال الْآن فَكل فِي أَمَان. قَالَ قلت: لَا أفعل وَالله. قَالَ: فَدَعَا لي بِطَعَام وَحضر المغنون فَقَالَ لعلوية: غنني فغناه فَأَعْرض عَنهُ. ثمَّ قَالَ لي: غن فغنيت. فَأمر لي بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. ثمَّ لم يزل يفعل كَذَلِك حَتَّى استوفيت ثَلَاثِينَ ألفا كَمَا وهب لعلوية. حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن طَاهِر بن الْحُسَيْن أَبُو الْعَبَّاس قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون يَوْمًا قَاعد يشرب وَبِيَدِهِ قدح إذغنت بذل الْكَبِيرَة (أَلا لَا أرى شَيْئا ألذ من الْوَعْد ... وَمن أمْلى فِيهِ وَإِن كَانَ لَا يجدي) قَالَ: فَقَالَت: مَكَان الْوَعْد الذمن الْحق. فَوضع الْمَأْمُون الْقدح من يَده والتفت إِلَيْهَا فَقَالَ: بلَى. النيك الذمن السحق بابذل. ثمَّ قَالَ اتمي صَوْتك (وَمن غَفلَة الواشي إِذا مَا أتيتها ... وَمن نَظَرِي أبياتها خَالِيا وحدي) (وَمن ضحكة فِي الْمُلْتَقى ثمَّ سكته ... وكلتا هما عِنْدِي ألذ من الْخلد) أَخْبرنِي سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن مقرن. قَالَ: بلغ الْمَأْمُون أَن عبيد اللَّهِ بن أبي غَسَّان مَحْبُوس بدين عَلَيْهِ. فَسَأَلَ عَمْرو بن مسْعدَة عَمَّا عَلَيْهِ من الدّين فَأخْبرهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ببلغه فَأمر بِقَضَائِهِ عَنهُ. وَقَالَ لعَمْرو قل لَهُ عني: أياك بعد هَذَا أَن تدان. وأقصر عَن الْإِسْرَاف. قَالَ: فَقَالَ لعَمْرو قل لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَيفَ يسرف من خبزه خشكار، ونبيذه دوشاب، ومغنيه عَمْرو الغزال. وأنشدني سعيد بن عبد الرَّحْمَن لبَعض الرقاشيين فِي عَمْرو الغزال. وَفِي عَليّ بن أُميَّة وَذَلِكَ أَن الشّعْر لَهُ: - (يَا رب خذني وَخذ عليا وَخذ ... يَا ريح مَا تصنعين بالدمن) (عجل إِلَى النَّار بِالثَّلَاثَةِ وَالرَّابِع ... عَمْرو الغزال فِي قرن) حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبان قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن عبد الْملك بن أبان قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن عبد اللَّهِ بن أبي الْعَلَاء قَالَ: كنت عِنْد صَالح ابْن الرشيد ومعنا الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك فِي خلَافَة الْمَأْمُون وَكَانَ يهوى يعْنى صَالحا خَادِمًا لَهُ. فغاضبه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَتنحّى عَنهُ وَكَانَ جَالِسا فِي صحن لَهُ حوله نرجس كثير فِي قمر طالع حسن فَقَالَ: قل للحسين بن الضَّحَّاك يَقُول فِي مَجْلِسنَا وَمَا نَحن فِيهِ ابياتا يغنى فِيهَا عَمْرو قَالَ: فَقَالَ الْحُسَيْن: - (وصف الْبَدْر حسن وَجهك حَتَّى ... خلت أَنِّي وَمَا أرَاهُ أراكا) (وَإِذا مَا تنفس النرجس الغض ... توهمته نسيم نشاكا) (خدع للنا تقلبنى فِيك ... بإشراق ذَا وبهجة ذاكا) (لأدومن مَا حييت على الود ... لهَذَا وَذَاكَ إِذْ حكياكا) قَالَ: وَقَالَ لي تغن فِيهَا فتغنيت فِيهَا من سَاعَتِي. حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن طهْمَان. قَالَ: أَخْبرنِي الْحُسَيْن بن الْمَرْزُبَان النّحاس قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون إِذا غنى بالصوت يشتهيه استعاده وَلم يسمع غَيره. قَالَ: وَكَانَ إِذا اشْتهى الْمَأْمُون من الطَّعَام شَيْئا أكله وَلم يَأْكُل غَيره. حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا، عَن إِسْحَاق بن حميد كَاتب أبي الرَّازِيّ. قَالَ: انْصَرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 علوِيَّة الأعسر المغنى من مجْلِس الْمَأْمُون فَقَالَ لنا: إِنَّه دَار صَوت فِي هَذِه اللَّيْلَة فِي مجْلِس أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ بَيت وَاحِد. فَسَأَلَ عَنهُ كل من فِي الْمجْلس فَلم يعرف لَهُ أحد مِنْهُم ثَانِيًا فَهَل تعرفونه. فَقلت: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: - (تخيرت من نعْمَان عود أراكه ... لهِنْد فَمن هَذَا يبلغهُ هندا) فَلم تعرفه فَقَالَ: أحب أَن تطلبونه فَطلب لَهُ عِنْد أهل الْمعرفَة بِبَغْدَاد فَلم يقدر عَلَيْهِ. فَلَمَّا ولى أَبُو الرَّازِيّ كور دجلة ثمَّ نقل مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَة، وَنقل إِلَى الْيَمَامَة والبحرين فَلَمَّا خرجنَا وَكنت مَعَ أبي الرَّازِيّ فِي قبَّة أندفع الْحَادِي يَحْدُو بِنَا للمرقش الْأَكْبَر وَيُقَال للمجنون: - (خليلي عوجا بَارك اللَّهِ فيكما ... وَإِن لم تكن هِنْد لأرضكما قصدا) (وقولا لَهَا لَيْسَ الضلال أجازنا ... وَلَا كننا جزنا لحاجتنا عمدا) ) (تخيرت من نعْمَان عود أراكه ... لهِنْد فَمن هَذَا يبلغهُ هندا) (وأبطشه سَيفي لكيما أقيمه ... فَلَا أودا فِيهِ استبان وَلَا حصدا) (ستبلغ هندا أَن سلمنَا وسلمت ... قَلَائِص يقطعن الفلاة بِنَا وخدا) (فَلَمَّا أنخنا العيس قد طَال سَيرهَا ... إِلَيْهِم وجدنَا بالقرى مِنْهُم حشدا) (فناولتها المسواك وَالْقلب خَائِف ... وَقلت لَهَا يَا هِنْد هَل مثل ذَا يهدى) (وَأَقْبَلت مجتازا مود رِسَالَة ... فَقَامَتْ تجر الميسناني والبردا) (تعرض للحى الَّذين أريدهم ... وَمَا التمست إِلَّا لتقتلني عمدا) (فَمَا شبه هِنْد غير أدماء خاذل ... من الْوَحْش مرتاع تراعى طلا فَردا) (وَمَا نُطْفَة من مزنة فِي وقيعة ... على متن صَخْر فِي صفا خالطت شَهدا) (بأطيب من ريا علالة رِيقهَا ... غَدَاة هضاب الطل فِي رَوْضَة تندى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 حَدثنِي الْفضل بن الْعَبَّاس بن الْفضل. قَالَ: قَالَ لي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الموصلى: طَالَتْ جفوة الْمَأْمُون بِي فَلم أكن أَدخل عَلَيْهِ وَلَا أحضر مجالسة فأضر ذَلِك بِي فَأتيت علوِيَّة، وَكَانَ علوِيَّة لَا يُفَارق الْمَأْمُون لمنادمته. فَقلت لَهُ: وَيلك هَل فِيك خير؟ فَقَالَ لي علوِيَّة: يَا سَيِّدي ففيمن الْخَيْر إِذا. فَقلت لَهُ: قد علمت تناسي أَمِير الْمُؤمنِينَ لي وَشدَّة جفائه، وَقد وَالله أجحف ذَلِك بِي فَهَل لَك إِلَى شَيْء أعرضه عَلَيْك يَا علوِيَّة فَقَالَ لي: قل يَا سَيِّدي مَا أَحْبَبْت قَالَ إِسْحَاق فَقلت لَهُ: قد قلت بَيْتَيْنِ مليحين وَقد صنعتهما بلحن مليح فَأَرَدْت إِذا صرت إِلَى منادمة الْمَأْمُون فغنيت صَوْتَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَن تغنى هَذَا الصَّوْت فَإِنَّهُ سيسألك قَالَ علوِيَّة نعم وكرامة. قَالَ: فَمَكثت أطرح عَلَيْهِ الصَّوْت أَيَّامًا حَتَّى أحكمه وجوده فَلَمَّا أَن جلس الْمَأْمُون للهوه غنى علوِيَّة هَذَا الصَّوْت وَهُوَ: (يَا سرحة المَاء قد سدت موارده ... أما إِلَيْك سَبِيل غير مسدود) (لحائم حام حَتَّى لَا حيام بِهِ ... محلا عَن طَرِيق المَاء مطرود) قَالَ: فَلَمَّا أَن سَمعه الْمَأْمُون قَالَ: يَا علوِيَّة: لمن هَذَا الشّعْر وأيش هَذَا الصَّوْت؟ . قَالَ فَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ: هَذَا للمجفو الْمَطَر ودعبدك إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي. قَالَ: على بِهِ السَّاعَة. قَالَ إِسْحَاق: فَأَتَانِي الرَّسُول فصرت إِلَى الْمَأْمُون فَلَمَّا أَن راني وسلمت عَلَيْهِ. قَالَ لي: أدن فَلم يزل يدنيني حَتَّى مست ركبتي ركبته، ثمَّ قبلت يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ ثمَّ أَمر لي بِمِائَة ألف دِرْهَم وألزمني خدمته وَمَا زلت فِي ذَلِك آخذ جوائزه فِي كل قَلِيل حَتَّى توفّي. حَدثنِي سُلَيْمَان بن عَليّ بن نجيح. قَالَ: حَدثنِي أبي. قَالَ: حَدثنِي صَالح بن الرشيد قَالَ: كُنَّا عِنْد الْمَأْمُون، وعقيد، وَعَمْرو بن بانة، وَعِيسَى بن زَيْنَب فغنى عقيد بِشعر عِيسَى بن زيينب وَعِيسَى حَاضر وَكَانَ نديما لِلْمَأْمُونِ وَكَأن شَاعِرًا: - (لَك عِنْدِي فِي كل يَوْم جَدِيد ... طرفَة تستفاد بِابْن الرشيد) (يَا عَمُود الْإِسْلَام خير عَمُود ... وَالَّذِي صِيغ من حَيَاء وجود) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 (فتنفست ثمَّ قلت كَذَا كل ... محب صب الْفُؤَاد عميد) (إِذْ تغنى عَمْرو بن بانه إِذْ ذَاك ... وَهُوَ قَابض بأير عقيد) قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُون لعقيد. قف فَذكر فحشاء. قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: قَالَ إِسْحَاق الموصلى: قدم الْمَأْمُون وَكنت أَدخل وعَلى طَوِيلَة وَأَنا فِي السوَاد فَذكر الْمَأْمُون ذَاك فَقيل لَهُ أَنِّي أتية على الْخُلَفَاء وَلَا أغنيهم. فَقَالَ لَهُ صَالح وَأَبُو عِيسَى كَذبُوك ابْعَثْ إِلَيْهِ فَجئْت فغنيته: - (يَا شرعة المَاء قد سدت موارده ... أما إِلَيْك طَرِيق غير مسدود) ثمَّ غنى علوِيَّة: - (لعَبْدِهِ الدَّار مَا تكلّف الدَّار ... ) فَقَالَ: لمن هَذَا؟ فَقَالَ علوِيَّة: لأبراهيم. فَقَالَ لي: هَكَذَا. فَقلت: هُوَ لأبي وَقد أَخطَأ فِيهِ فَأنْكر عَلَيْهِ فَقَالَ: رده أَنْت. فرردت الصَّوْت فقبلني وضمني إِلَيْهِ وَأمر لي بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم. قَالَ أَحْمد: بن أبي طَاهِر: قَالَ أَبُو الْحسن مُوسَى بن جَعْفَر بن مَعْرُوف: حَدثنِي علوِيَّة. قَالَ: أَمرنِي الْمَأْمُون وأصحابي أَن نغدو عَلَيْهِ لنصطبح فغدونا فلقيني عبد اللَّهِ بن إِسْمَاعِيل صَاحب المراكب مولى عريب فَقَالَ: (يأيها الرجل الظَّالِم المعتدى أما ... ترحم وَلَا ترق وَلَا تستحى) (عريب هائمة تحتكم عَلَيْك ... فِي كل لَيْلَة ثَلَاث مَرَّات) قَالَ: أَبُو الْحسن: قَالَ لي عُلْوِيَّهُ: وَكَانَت عريب احسن النَّاس وَجها، وأظرف النَّاس وأفكه وَأحسن غناء منى وَمن صَاحِبي يَعْنِي مُخَارق. قَالَ: فَقلت أم الْمَأْمُون زَانِيَة مر حَتَّى اجىء. قَالَ: فحين دخلت قلت لَهُ استوثق من الْأَبْوَاب فَإِنِّي أعرف النَّاس بِفُضُول الْحجاب. فَأمر بالأبواب فأغلقت وَدخلت فَإِذا عريب جالسة على كرسى عَظِيم تطبخ بَين يَديهَا ثَلَاث قدور من دَجَاج فَلَمَّا رأتني قَامَت إِلَى فعانقتني وقبلتني وأدخلت لسانها فِي فمي ثمَّ قَالَت: مَا تشْتَهي أَن تَأْكُل؟ فَقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قدرا من هَذِه فأفرغت قدرا مِنْهَا بيني وَبَينهَا فأكلنا ثمَّ دعت بالنبيذ فصب رطلا فَشَرِبت نصفه وسقتني نصفه فَمَا زلنا نشرب حَتَّى سكرنا ثمَّ قَالَت يَا أَبَا الْحسن: أخرجت البارحة شعر أبي الْعَتَاهِيَة فأخترت مِنْهُ شعرًا غنيت فِيهِ فَقلت: مَا هُوَ؟ فَقَالَت. (وَإِنِّي لمشتاق إِلَى ظلّ صَاحب ... يروق ويصفو إِن كدرت عَلَيْهِ) (عذيري من الْإِنْسَان لَا إِن جفوته ... صفا لي وَلَا إِن كنت طوع يَدَيْهِ) فصيرناه مَجْلِسنَا فَقَالَت: بقى على فِيهِ شَيْء فأصلحه. فَقلت مَا فِيهِ شَيْء. فَقَالَت: بلَى فصححناه جَمِيعًا ثمَّ جَاءَ الْحجاب فكسروا فأستخرجوني فأدخلت على الْمَأْمُون فَأَقْبَلت أرقص من أقْصَى الإيوان وأصفق بيَدي وأغنى الضَّرْب فَسمع وسمعوا مَا لم يعرفوه فأستظرفوه فَقَالَ الْمَأْمُون: أدن يَا علوِيَّة رد على الصَّوْت. فرددته سبع مَرَّات. فَقَالَ: أَنْت الَّذِي تشتاق إِلَى ظلّ صَاحب يرق لَك ويصفو إِن كدرت عَلَيْهِ. فَقلت: نعم. قَالَ: فَخذ منى الْخلَافَة وَأَعْطِنِي هَذَا الصاحب بدلهَا. سَمِعت عَمْرو بن بانة يَقُول: كنت يَوْمًا عِنْد صَالح بن الرشيد فَقَالَ لي صَالح: لست تطرح على جواري وغلماني مَا أستجيده. قَالَ فَقلت: وَيلك مَا أبغضك أبْعث إِلَى منزلي فجِئ بالدفاتر فَجَاءَنِي بالدفاتر فَأخذ دفترا مِنْهَا ليتخير فَمر بِشعر الْحُسَيْن ابْن الضَّحَّاك: (أطل حزنا وأبك الْأمين مُحَمَّدًا ... بحزن وَإِن خفت الحسام المهندا) (وَلَا فَرح الْمَأْمُون بِالْملكِ بعده ... وَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا طريدا مشردا) فَقَالَ: أَنْت تعلم أَن الْمَأْمُون يجيئني فِي كل سَاعَة فَإِن قَرَأَ هَذَا مَا يكون؟ . ثمَّ دَعَا بسكين فحكه. وَصعد الْمَأْمُون من الدرجَة وَرمى صَالح بالدفتر فَقَالَ الْمَأْمُون يَا غُلَام: الدفتر. فَأتى بِهِ فَنظر فِيهِ فَوقف على الحك فَقَالَ الْمَأْمُون: إِن قلت لكم مَا كُنْتُم فِيهِ تصدقوني. قُلْنَا: نعم قَالَ يَنْبَغِي أَن يكون أخي قَالَ لَك أبْعث فجِئ بدفاترك لنتخير مَا نطرح فَوقف على هَذَا الشّعْر فكره أَن أرَاهُ فَأمر بحكه وَقَالَ لي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 غنه. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: الشّعْر للحسين بن الضَّحَّاك والغناء لسَعِيد بن جَابر. فَقَالَ: وَمَا يكون غنه. فغنيته. فَقَالَ: رده. فرددته ثَلَاث مَرَّات فَأمر لى بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَقَالَ: حَتَّى تعلم أَنه لم يَضرك، وَالْحُسَيْن بن الضَّحَّاك الَّذِي يَقُول فِي سعيد بن جَابر: (يَا سعيد وَابْن منى سعيد ... ) قَالَ إِسْحَاق الموصلى: كَانَت لي صناجة كنت بهَا معجبا، واشتهاها أَبُو إِسْحَاق فِي أَيَّام الْمَأْمُون فَبينا أَنا ذَات يَوْم فِي منزلي إِذْ أَتَانِي رَسُول الْمَأْمُون فَقلت ذهبت وَالله صناجتي تَجدهُ قد ذكرهَا لَهُ فَبعث إِلَى فِيهَا فمضيت وَأَنا مثخن فَدخلت فَسلمت فَرد السَّلَام وَنظر إِلَى تغير وَجْهي فَقَالَ لي: اسكن. فسكنت. وسألني عَن صَوت فَقَالَ: اتدري لمن هُوَ. فَقلت أسمعهُ ثمَّ أخبر بِهِ أَن شَاءَ اللَّهِ. فَأمر جَارِيَة من وَرَاء ستارة فغنته وَضربت فَإِذا هِيَ قد شبهته بالقديم فَقلت: زِدْنِي مَعهَا عودا آخر فَفعل. فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: هَذَا الصَّوْت مُحدث لَا مرأة ضاربة. فَقَالَ من أَيْن قلت ذَاك؟ قلت: لما سَمِعت لينه علمت أَن صَار بنائِهِ ضارية فقد حفظت اجزائه ومقاطعة، ثمَّ طلبت عودا آخر فَلم اشكك. فَقَالَ: صدقت. الْغناء لعريب. قَالَ حَمَّاد بن إِسْحَاق الموصلى: قَالَ إِسْحَاق: سَأَلَني الْمَأْمُون يَوْمًا عَن مُخَارق وعلوية وَكَيف هما فِي صَنْعَة الْغناء؟ فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مثلهمَا مثل رجل لم يكن يحسن غير ألف ب ت ث فَدخل على قوم أُمِّيين فَسَموهُ كَاتبا. وَلَكِن هاذين بقيا إِلَى دهر مَاتَت أهل الصِّنَاعَة الْمُتَقَدِّمين فصارا عِنْد أَهله مغنيين وَمَا غَنِيا وهما عِنْد الْقَدِيم إِلَّا مثل الكذابة عِنْد الوشى الإسْكَنْدراني. حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا: قَالَ: كُنَّا فِي منزل مُحَمَّد بن دَاوُد بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ الْهَاشِمِي وَكَانَ عَالما بالفقه وبالغناء جَمِيعًا وَوَصفه يحيى بن أَكْثَم بالفقه لِلْمَأْمُونِ، وَوَصفه أَحْمد بن يُوسُف الْكَاتِب لِلْمَأْمُونِ بِالْعلمِ بِالْغنَاءِ. فَقَالَ الْمَأْمُون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مَا أعجب مَا أجتمع فِيهِ الْفِقْه، والغناء فكتبنا إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الموصلى وَكَانَ فِي جواره نَسْأَلهُ أَن يتَحَوَّل إِلَيْنَا. فَكتب إِلَيْنَا جعلت فداكم قد أخذت دَوَاء وَأَنا أخرج مِنْهُ ثمَّ أحمل قويريرتي وأصير إِلَيْكُم وَكتب فِي أَسْفَل كِتَابه: - (أَنا الشماطيط الَّذِي حدثت بِهِ ... مَتى أنبه للغداء انتبه) (ثمَّ أنزى حوله واحتبه ... حَتَّى يُقَال شَره وَلست بِهِ) ثمَّ جَاءَ بعد وَمَعَهُ بديح غُلَامه فتغدينا وشربنا وَكَانَ عندنَا أَحْمد بن يُوسُف وذكاء وصغير فغنى ذوكاء وَهُوَ أَبُو كَامِل صَوتا فأستحسنه إِسْحَاق واستعاده وَهُوَ: - (أبهار قد هيجت لي لي أوجاعا ... وتركتني عبدا لكم مطواعا) (بحديثك الْحسن الَّذِي لَو كلمت ... وَحش الفلاة بِهِ لجئن سرَاعًا) فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق مِمَّن أخذت هَذَا الْغناء. فَقَالَ: من معَاذ بن الطّيب. فَقَالَ: أحب أَن تلقيه على بديح، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا صليت الْعَصْر انْصَرف أَبُو كَامِل وَقَالَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن يُوسُف يشرب وَعِنْده قوم فَاحْتَاجَ إِلَى أَن أذهب إِلَيْهِ فَانْصَرف وتخلف صَغِير فغنى. فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق أَنْت وَالله يَا غُلَام مَا خوري. وسكر مُحَمَّد فِي آخر النَّهَار فغنى: - (هبوني أَغضّ إِذا مَا بَدَت ... وَأَمْنَع طرفِي فَلَا أنظر) (فَكيف إستتاري إِذا مَا الدُّمُوع ... نطفن (فبحن) بِمَا أضمر (فَيَأْمَن سروري بِهِ شقوة ... وَمن صفو عيشي بِهِ أكدر) فَلَو لم تكن فِي بقيا عَلَيْك ... نظرت لنَفْسي كَمَا تنظر) فَالْتَفت إِسْحَاق إِلَى مُحَمَّد بن أَيُّوب بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان فَقَالَ: يَا عبد اللَّهِ أجرك اللَّهِ فِي ابْن عمك إِذْ قد سكر يغنى قُدَّام إِسْحَاق. نُسْخَة كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون إِلَى أبي الْحُسَيْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فِي المحنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَهُوَ أول كتاب كتبه. أما بعد: " فَإِن حق اللَّهِ على أَئِمَّة الْمُسلمين وخلفائهم الِاجْتِهَاد فِي أقامة دين اللَّهِ الَّذِي استحفظهم، ومواريث النُّبُوَّة الَّتِي أورثهم وَأثر الْعلم الَّذِي استودعهم وَالْعَمَل بِالْحَقِّ فِي رعيتهم والنشمير لطاعة اللَّهِ فيهم، وَالله يسْأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فِيمَا ولاه اللَّهِ من رَعيته برحمته ومنته. وَقد عرف أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَن الْجُمْهُور الْأَعْظَم والسواد الْأَكْبَر من حَشْو الرّعية وسفلة الْعَامَّة مِمَّن لَا نظر لَهُ، وَلَا رُؤْيَة وَلَا اسْتِدْلَال لَهُ بِدلَالَة اللَّهِ وهدايته وَلَا استضاء بِنور الْعلم وبرهانه فِي جَمِيع الأقطار والآفاق أهل جَهَالَة بِاللَّه وعمى عَنهُ وضلالة عَن حَقِيقَة دينه وتوحيده وَالْإِيمَان بِهِ، ونكوب عَن واضحات أعلامة وواجب سَبيله، وقصور أَن يقدروا اللَّهِ حق قدره، ويعرفوه كنه مَعْرفَته، ويفرقوا بَينه وَبَين خلقه، بِضعْف آرائهم، وَنقص عُقُولهمْ، وخفائهم عَن التفكير والتذكر، وَذَلِكَ أَنهم ساووا بَين اللَّهِ تبَارك وَتَعَالَى وَبَين مَا أنزل من الْقُرْآن، وأطبقوا مخضعين، وَاتَّفَقُوا غير متجامعين على أَنه قديم أول، لم يخلقه اللَّهِ ويحدثه ويخترعه وَقد قَالَ اللَّهِ تبَارك وَتَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه الَّذِي جعله لما فِي الصُّدُور شِفَاء وَلِلْمُؤْمنِينَ هدى وَرَحْمَة: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} فَكل مَا جعله اللَّهِ فقد خلقه اللَّهِ. وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ) وَقَالَ عز وَجل: {كَذَلِك نقص عَلَيْك من انباء مَا قد سبق} . فَأخْبر أَنه قصَص لأمور أحدثها بعده، وتلابها متقدمها وَقَالَ: {آلر كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير} وكل مُحكم مفصل فَلهُ مُحكم مفصل. وَالله جلّ وَعز مُحكم كِتَابه ومفصله فَهُوَ خالقه ومبتدعه. ثمَّ هم أُولَئِكَ الَّذين جادلوا بِالْبَاطِلِ إِلَى قَوْلهم، ونسبوا أنفسهم إِلَى السّنة وَفِي كل فصل من كتاب اللَّهِ قصَص من تِلَاوَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 مُبْطل قَوْلهم، ومكذب دَعوَاهُم يرد عَلَيْهِم قَوْلهم ونحلتهم، ثمَّ أظهرُوا مَعَ ذَلِك أَنهم هم أهل الْحق وَالدّين وَالْجَمَاعَة، وَأَن من سواهُم أهل الْبَاطِل وَالْكفْر والفرقة. فاستطالوا بذلك على النَّاس، وغروا بِهِ الْجُهَّال حَتَّى مَال قوم من أهل السمت الْكَاذِب التخشع لغير اللَّهِ، والتقشف لغير الدّين إِلَى موافقتهم عَلَيْهِ، ومواطأتهم على سئ أرائهم تزينا بذلك عِنْدهم وتصنعا للرئاسة وَالْعَدَالَة فيهم فتركوا الْحق إِلَى باطلهم، وَاتَّخذُوا دون هدى اللَّهِ وليجة إِلَى ضلالتهم فَقبلت بتزكيتهم لَهُم شهاداتهم ونفذت أَحْكَام الْكتاب بهم على دغل دينهم، وَبَطل أديمهم وَفَسَاد نياتهم وتفننهم وَكَانَ ذَلِك غايتهم الَّتِى إِلَيْهَا أجروا، وأياها طلبُوا فِي متابعتهم، وَالْكذب على مَوْلَاهُم وَقد أَخذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَلا يَقُولُوا على اللَّهِ إِلَّا الْحق ودرسوا مَا فِيهِ: {أُولَئِكَ الَّذين أصمهم اللَّهِ وأعمى أَبْصَارهم أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها} . فَرَأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أُولَئِكَ شَرّ الْأمة، ورؤوس الضَّلَالَة، والمنقوصون من التَّوْحِيد حظا، والمخسوسون من الْإِيمَان نَصِيبا وأوعية الْجَهَالَة، وأعلام الْكَذِب ولسان أبليس النَّاطِق فِي أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين اللَّهِ، وأحق من أَنهم فِي صَدَقَة، وأطرحت شَهَادَته وَلم يوثق بقوله وَلَا عمله فَإِنَّهُ لَا عمل إِلَّا بعد يَقِين، وَلَا يَقِين إِلَّا بعد استكمال حَقِيقَة الْإِسْلَام، وإخلاص التَّوْحِيد وَمن عمى عَن رشده وَحفظه من الْإِيمَان بِاللَّه وبتوحيده كَانَ عَمَّا سوى ذَلِك من عمله وَالْقَصْد من شَهَادَته أعمى واضل سَبِيلا. ولعمر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أحجى النَّاس بِالْكَذِبِ فِي قَوْله، وتخرص الْبَاطِل فِي شَهَادَته من كذب على اللَّهِ ووحيه وَلم يعرف اللَّهِ حَقِيقَة مَعْرفَته. وَإِن أولاهم أَن يرد شَهَادَة اللَّهِ جلّ وَعز على كِتَابه، ويهت حق اللَّهِ بباطله فأجمع من بحضرتك من الْقُضَاة وأقرا عَلَيْهِم كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا إِلَيْك وأبدأ بأمتحانهم فِيمَا يَقُولُونَ، وتكشيفهم عَمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي خلق اللَّهِ الْقُرْآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وإحداثه، وأعلمهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ غير مستعين فِي عمله، وَلَا واثق فِيمَا قَلّدهُ اللَّهِ واستحفظه فِي أُمُور رَعيته من لَا يوثق بِدِينِهِ وخلوص توحيده ويقينه فَإِذا أقرُّوا بذلك ووافقوا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ وَكَانُوا على سَبِيل الْهدى والنجاة فمرهم بِنَظَر من بحضرتهم من الشُّهُود على النَّاس ومسألتهم عَن علمهمْ فِي الْقُرْآن وَترك الاثبات بِشَهَادَة من لم يقر أَنه مَخْلُوق مُحدث، وَلم يرَوا الِامْتِنَاع من توقيعها عِنْده واكتب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا يَأْتِيك من قُضَاة أهل عَمَلك فِي مسألتهم وَالْأَمر لَهُم بِمثل ذَلِك ثمَّ أشرف عَلَيْهِم وتفقد آثَارهم حَتَّى لَا تنفذ أَحْكَام اللَّهِ إِلَّا بِشَهَادَة أهل البصائر فِي الدّين وَالْإِخْلَاص للتوحيد واكتب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا يكون مِنْك فِي ذَلِك وَكتب فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَانِي عشرَة وَمِائَتَيْنِ. قَالَ: وَكتب الْمَأْمُون إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ يختلفه بِبَغْدَاد فِي اشخاص سَبْعَة نفر من الْفُقَهَاء مِنْهُم: مُحَمَّد بن سعد كَاتب الْوَاقِدِيّ، وَأَبُو مُسلم مستملى يزِيد ابْن هَارُون، وَيحيى بن معِين، وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأَبُو خَيْثَمَة، وَإِسْمَاعِيل بن دَاوُد وَإِسْمَاعِيل بن أبي مَسْعُود، وَأحمد بن الدَّوْرَقِي. فأشخصوا فَسَأَلَهُمْ وأمتحنهم عَن خلق الْقُرْآن فَأَجَابُوا جَمِيعًا أَن الْقُرْآن مَخْلُوق فأشخصهم إِلَى مَدِينَة السَّلَام وأحضرهم إِسْحَاق دَاره فشهر أَمرهم وَقَوْلهمْ بِحَضْرَة الْفُقَهَاء والمشايخ من أهل الحَدِيث فأقروا بِمثل مَا أجابوا بِهِ الْمَأْمُون فخلى سبيلهم وَكَانَ إِحْضَار إِسْحَاق أياهم وَشهر أَمرهم بِأَمْر الْمَأْمُون، وَكَانَ الْمَأْمُون بعد ذَلِك كتب إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. أما بعد: فَإِن من حق اللَّهِ على خلفائه فِي أرضه وأمنائه على عباده الَّذين أرتضاهم لإِقَامَة دينه، وَحَملهمْ رِعَايَة خلقه وإمضاء أَحْكَامه وسننه والائتمام بعدله فِي بريته أَن يجهدوا اللَّهِ أنفسهم، وينصحوا لَهُ فِيمَا استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عَلَيْهِ تبَارك اسْمه وَتَعَالَى بِفضل الْعلم الَّذِي أودعهم، والمعرفة الَّتِي جعلهَا فيهم ويهدوا إِلَيْهِ من زاغ عَنهُ، ويردوا من ادبر عَن أمره. وينهجوا لرعاياهم سمت نجاتهم. ويقفوهم على حُدُود إِيمَانهم وسبل وزهم وعصمتهم ويكشفوا لَهُم عَن مغطيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أُمُورهم ومشتبهاتها عَلَيْهِم بِمَا يدْفع الريب عَنْهُم وَيعود بالضياء وَالْبَيِّنَة على كافتهم وَأَن يؤثروا ذَلِك من ارشادهم وتبصيرهم إِذْ كَانَ جَامعا لفنون مصانعهم، ومنتظما لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم ويتذكروا مَا اللَّهِ مرصد بِهِ من مسائلتهم عَمَّا حملوه، ومجازاتهم بِمَا أسلفوه وَقدمُوا عِنْده وَمَا توفيق أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَّا بِاللَّه وَحده وحسبه اللَّهِ وَكفى بِهِ. وَمِمَّا بَينه أَمِير الْمُؤمنِينَ برويته وطالعه بفكره وَنَظره فندس عَظِيم خطره وجليل مَا يرجع فِي الدّين من وكفه وضرره مَا ينَال الْمُسلمُونَ بَينهم من القَوْل فِي الْقُرْآن الَّذِي جعله اللَّهِ إِمَامًا لَهُم، وأثرا من رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَصفيه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاقِيا لَهُم، واشتباهه على كثير مِنْهُم حَتَّى حسن عِنْدهم، وتزين فِي عُقُولهمْ أَن لَا يكون مخلوقا فتعرضوا بذلك لدفع خلق اللَّهِ الَّذِي بَان بِهِ عَن خلقه، وَتفرد بحلالته من ابتداع الْأَشْيَاء كلهَا بِحِكْمَتِهِ وأنشائها بقدرته والتقدم عَلَيْهَا بأوليته الَّتِي لَا يبلغ أولاها، وَلَا يدْرك مداها وَكَانَ كل شَيْء دونه خلقا من خلقه وحدثا هُوَ الْمُحدث لَهُ وَإِن كَانَ الْقُرْآن ناطقا بِهِ ودالا عَلَيْهِ، وقاطعا للِاخْتِلَاف فِيهِ، وضاهوا بِهِ قَول النصاري فِي أدعائهم فِي عِيسَى بن مَرْيَم صلوَات اللَّهِ عَلَيْهِ إِنَّه لَيْسَ بمخلوق إِذْ كَانَ كلمة اللَّهِ وَالله عز وَجل يَقُول: {أَنا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} وَتَأْويل ذَلِك إِنَّا خلقناه كَمَا قَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ [ {وَمن آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا لتسكنوا إِلَيْهَا} وَقَالَ: {وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا} . وَقَالَ: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} فسوى عز وَجل بَين الْقُرْآن وَبَين هَذِه الْخَلَائق الَّتِي ذكرهَا فِي شية الصَّنْعَة، وَأخْبر أَنه جاعلة وَحده فَقَالَ: {بل هُوَ قُرْآن مجيد فِي لوح مَحْفُوظ} فَقَالَ ذَلِك على أحاطة اللَّوْح بِالْقُرْآنِ وَلَا يحاط إِلَّا بمخلوق. وَقَالَ لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} وَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث} وَقَالَ: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على اللَّهِ كذبا أَو كذب بآياته} وَأخْبر عَن قوم ذمهم بكذبهم أَنهم قَالُوا: {مَا أنزل اللَّهِ على بشر من شئ} ثمَّ أكذبهم على لِسَان رَسُوله فَقَالَ لرَسُوله: {قل من أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} فَسمى اللَّهِ تَعَالَى الْقُرْآن قُرْآنًا وَذكروا وإيمانا ونورا وَهدى ومباركا وعربيا وقصصا فَقَالَ: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} وَقَالَ: {قل لَئِن اجْتمعت الانس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} وَقَالَ: {قل فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات} وَقَالَ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} فَجعل لَهُ أَولا وآخرا وَدلّ عَلَيْهِ أَنه مَحْدُود مَخْلُوق وَقد عظم هَؤُلَاءِ الجهلة بقَوْلهمْ فِي الْقُرْآن الثلم فِي دينهم والحرج فِي أمانتهم وسهلوا السَّبِيل لعدو الاسلام وأعترفوا بالتبديل والالحاد على قُلُوبهم حَتَّى عرفُوا ووصفوا خلق اللَّهِ وَفعله بِالصّفةِ الَّتِي هِيَ لله وَحده وشبهوه بِهِ والاشباه أولى بخلقه، وَلَيْسَ يرى أَمِير الْمُؤمنِينَ لمن قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة حظا فِي الدّين، وَلَا نَصِيبا من الْإِيمَان وَالْيَقِين وَلَا يرى أَن يحل أحدا مِنْهُم مَحل الثِّقَة فِي أَمَانَة وَلَا عَدَالَة وَلَا شَهَادَة وَلَا صدق فِي قَول وَلَا حِكَايَة وَلَا تَوليته لشئ من أَمر الرّعية وَأَن ظهر قصد بَعضهم وَعرف بالسداد مُسَدّد فيهم فَإِن الْفُرُوع مَرْدُودَة إِلَى أُصُولهَا، ومحمولة فِي الْحَمد والذم عَلَيْهَا، وَمن كَانَ جَاهِلا بِأَمْر دينه الَّذِي أمره اللَّهِ بِهِ من وحدانيته فَهُوَ بِمَا سواهُ أعظم جهلا، وَعَن الرشد فِي غير أعمى وأضل سَبِيلا.} ] ... ... من كل فتْنَة فَإِنَّهُ أَن يفعل فأعظم بهَا نعْمَة وَإِن لم يفعل فَهِيَ الهلكة وَلَيْسَ لَاحَدَّ على اللَّهِ حجَّة. وَنحن نرى أَن الْكَلَام فِي الْقُرْآن بِدعَة يُشَارك فِيهَا السَّائِل والمجيب فيتعاطي السَّائِل مَا لَيْسَ لَهُ، وَيتَكَلَّم الْمُجيب بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَمَا أعرف خَالِقًا إِلَّا اللَّهِ وَمَا دون اللَّهِ فمخلوق " وَالْقُرْآن كَلَام اللَّهِ فأنته بِنَفْسِك وبالمختلفين فِي الْقُرْآن إِلَى أَسْمَائِهِ الَّتِي سَمَّاهُ اللَّهِ بهَا تكن من المهتدين، وذر الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون بِمَا كَانُوا يعْملُونَ. وَلَا تسم الْقُرْآن باسم من عنْدك فَتكون من الضَّالّين جعلنَا اللَّهِ وأياك من {الَّذين يخشونه بِالْغَيْبِ وهم من السَّاعَة مشفقون} حَدثنِي سعيد العلاف الْقَارئ قَالَ: أرسل الْمَأْمُون وَهُوَ فِي بِلَاد الرّوم فَحملت إِلَيْهِ وَهُوَ بالبدندون فَكَانَ يستقرئني فدعاني يَوْمًا فَجئْت فَوَجَدته جَالِسا على شاطئ البدندون وَأَبُو إِسْحَاق المعتصم جَالس من يَمِينه فَأمرنِي فَجَلَست قَرِيبا مِنْهُ فَإِذا هُوَ وَأَبُو إِسْحَاق مدليان أرجلهما فِي مَاء البدندون فَقَالَ: يَا سعيد. دلّ رجليك فِي هَذَا المَاء وذقه فَهَل رَأَيْت مَاء قطّ أَشد بردا وَلَا أعذب. وَلَا أصفي صفاء مِنْهُ فَفعلت فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مَا رَأَيْت مثل هَذَا قطّ. قَالَ: أَي شَيْء يطيب أَن يُؤْكَل وَيشْرب هَذَا المَاء عَلَيْهِ؟ . فَقلت: أَمِير الْمُؤمنِينَ اعْلَم. فَقَالَ: رطب الأزاذ. فَبينا نَحن نقُول هَذَا إِذْ سمع وَقع لجم الْبَرِيد فَالْتَفت فَنظر فَإِذا بغال من بغال الْبَرِيد على أعجازها حقائب فِيهَا الألطاف فَقَالَ لخادم لَهُ: أذهب فَأنْظر هَل فِي هَذِه الألطاف رطب. فَإِن كَانَ رطبا فَانْظُر فَإِن كَانَ فِيهَا أزاذا فَاتَ بِهِ فجَاء يسْعَى بسلتين فيهمَا رطب أزاذ مَكْتُوب عَلَيْهَا آزادا فَأمر بفتحهما فَإِذا رطب أزاذ كانما جنى من النّخل تِلْكَ السَّاعَة فأظهر شكرا لله وَكثر تَعَجبا مِنْهُ جَمِيعًا فَقَالَ: أدن فَكل. فَأكل هُوَ وَأَبُو إِسْحَاق وأكلت مَعَهُمَا وشربنا جَمِيعًا من ذَلِك المَاء فَمَا قَامَ منا أحد إِلَّا وَهُوَ مَحْمُوم فَكَانَت منية الْمَأْمُون من تِلْكَ الْعلَّة وَلم يزل المعتصم عليلا حَتَّى دخل الْعرَاق وَلم أزل عليلا حَتَّى كَانَ قَرِيبا الْآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ذكر من مَاتَ فِي أَيَّام الْمَأْمُون بِبَغْدَاد وَغَيرهَا من سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَمَا بعْدهَا من السنين إِلَى آخر أَيَّامه وولايته من الْفُقَهَاء فِي سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ مدْخل الْمَأْمُون بَغْدَاد مَاتَ: الْحسن بن صَالح بن أبي الْأسود الْفَقِيه لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة خلت من شهر ربيع الأول لَيْلَة الْجُمُعَة. وَمَات فِي هَذِه السّنة: السندى بن شاهك مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ بِبَغْدَاد لست خلون من رَجَب وَكَانَ يكنى أَبَا نصر وَكَانَت وَفَاته بعد دُخُول الْمَأْمُون بأَرْبعَة أشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا. وَمَات: عبد الْعَزِيز بن الْوَزير بن ضابي الجروي وَهُوَ محاصر بالأسكندرية من أهل الأندلس وَقد سَأَلُوهُ أَن ينظرهم بَقِيَّة يومهم فأمتنع وَأمر بِنصب المجانيق عَلَيْهِم فأنكسر سهم المنجنيق فَرجع عَلَيْهِ فَقتله فِي آخر ذِي الْحجَّة وَكَانَ يكنى أَبَا الأصنع. قَالَ أَبُو حسان: وفيهَا مَاتَ السرى بن الحكم وَهُوَ وَإِلَى مصر. وفيهَا مَاتَ مُحَمَّد بن عبيد الطنافسي ويكنى أَبَا عبد اللَّهِ. وَمَات الْعَبَّاس بن الْمسيب سلخ شَوَّال من هَذِه السّنة. قَالُوا: وَمَات فِي سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ: يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ بواسط فِي غرَّة شهر ربيع الآخر. وَمَات شَبابَة بن سوار الْفَزارِيّ بِالْمَدَائِنِ. وَمَات: عبد اللَّهِ ابْن نَافِع الصَّائِغ فِي رَمَضَان. قَالَ: الْخَوَارِزْمِيّ وَمَات: شبيب بن حميد لسبع خلون من ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ. وَفِي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ مَاتَ: عبد اللَّهِ بن الْخَرشِيّ لغرة ربيع الآخر. وَمَات عقبَة بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث فِي ربيع الآخر من هَذِه السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَفِي سنة سبع وَمِائَتَيْنِ مَاتَ: حجاج بن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد الْأَعْوَر مولى سُلَيْمَان ابْن مجَالد فِي شهر ربيع الآخر. قَالَ أَبُو حسان: وَكَانَ موت يزِيد بن هَارُون فِي سنة سبع وَمن قَالَ فِي سنة سِتّ أَخطَأ. وَقَالَ أَبُو حسان: مَاتَ فِي سنة سبع: مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ بِبَغْدَاد وَمَات: يَعْقُوب بن الْمهْدي يَوْم الْأَرْبَعَاء لأحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان وَمَات: عبد اللَّهِ بن بكر السَّهْمِي. وَمَات: أَبُو النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم الملقب قَيْصر. وَمَات: يُونُس بن مُحَمَّد الْمعلم. وَمَات: الْأسود بن عَامر شادان أَبُو عبد الرَّحْمَن وَمَات: الْهَيْثَم بن عبدى أَبُو عبد الرَّحْمَن بِفَم الصُّلْح غرَّة الْمحرم. وَمَات: وهب بن أبي حَازِم بالمنجشانية منصرفة من الْحَج وَحمل فَدفن بِالْبَصْرَةِ. وَمَات عمر بن حبيب القَاضِي الْعَدْوى فِي شهر. . . . . . تمّ بِحَمْد اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188