الكتاب: رسالة الصاهل والشاجح المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- رسالة الصاهل والشاجح أبو العلاء المعري الكتاب: رسالة الصاهل والشاجح المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما ً قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان رحمه الله أسلم على الحضرة العالية تسليم العاجز المقصر، كما ينظر الهادي المدلج إلى فرقد الليل، واليماني المشيم إلى سهيل. وأصحاب الراح يتعوذون من مغن إذا ارتجل شتم، وإذا سكت صين وأكرم. وأنا أمت بحق التخفيف. قال بعض الرعاة " لا تذموا القتادة فإن لها علينا حقاً " .... قيل: وما ذاك؟ قال: " أنها لم تنبت بأرضنا ". ولو كنت بالغاً في الأدب أطورى، لكنت في تلك الحضرة كالقطرة تحت الصبير، والحصاة إلى جانب " ثبير ". فما بالي وأنا مثقل استعان بذقن، وطفل بهش إلى يفن، وذليل عاذ بقرملة، وعبد هتف بأمة؟ والربيع أغفلت الكمأة؛ وعند المنهل نسيت المزادة. كل امري يغدو بما استعد، وقيل الرماء تملأ الكنائن؛ فماذا يصنع من لا كنانة له ولا عدة عنده؟ قد أضاء الصبح لذي عينين، فهل يضيء لمن لا عينين له؟ ولست ممن يعتب عليه، إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، ولا قوة عند العشرة. وفي شهري ناجر تكفأ الظعن إلى قراس وإذا طلع قلب العقرب حبت إلى القوم تهامة. والكسير قد يعلو الرابية، والعاشية تهيج الآبية، ولو ترك القطا ليلاً لنام. يا قطوف، سبقت الوساع فالحقي، إنها من طير الله فانطقي. هيهات! ما بالوادي من محتطب، حبذا المنتعلون قياماً. ومن العناء رياضة الهرم ريا عبير وبهار، يغني المهرية عن المهار. قد عرض نشر عنبر، منع نجيباً من معبر. وقد علم الله، جل اسمه، أني أستنزر ل " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " خلد الله أيامه - كل كثير، فلو حملت إلى حضرته الذهب لظننته صفراً، أو الإيمان لحسبته نفاقاً وكفراً؛ ولو جعلت شجر الكافور والألوة قوتاً للنار أوقدتها مهنته في الصنبر تدفع بها قرة ذوات وبر، أوهمتني المحبة أني قد ونيت؛ ولو أهديت ظباء المسك إلى الصوائد التي بين يديه، خيلت لي عظمته أني جنيت. لا جعلني الله ممن يعد الصربة من أفضل جنى، ويغدو بالخرز ليضحي به في " منى ". والمؤبرة خير من الوبرة، وإن كانت ليست بالخيرة. وكل الصيد في جوف الفرا، ولكن من يقدر عليه؟ وهل يطرق أهله بالجأب المسحور من يعجز عن مقطعات السحور؟ وأنا كصاحب المثل، قال: أين أغدو إذا صبحتموني؟ فقالوا: أعن صبوح ترقق؟ وأذكر حاجتي قبل أن أبرم فأجرم، لأن من أتى بالإبرام وقع في عظيم الإجرام: لي - أطال الله بقاء السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء - أولاد أخ قد أوذموا على أنفسهم من خدمتي ما ليس بلازم؛ وأصغرهم سناً طفل صغير قد وكل بي في الصبارة، كلما أحس بحمام اليانوسة لدى أحياها بالحمم؛ إلى غير ذلك من المآرب، لا يمكن قضاؤها بنفسي. ولهم أوالب في مدينة " حماة " ولتلك الحوبات أشقاص في أملاك يأمل هؤلاء الحسكل - والأمل ساحر ساخر، وربما وجد هو الصادق. وله نوعان كأنهما برقان: هذا خالب، وهذا للمطر جالب - أن يصيبهم نفع من تلك السهمة. ورفع رافع إلى الحضرة العالية، أن حقاً يجب للخزانة المعمورة على أرض أولئك الدرد النهابل، وسألوني، والمسألة حرمة، أن أسأل " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " في ذلك. فاستحييت أن أكلفهم في اليوم القصير لماسات وروب، ويسألوني شهلاء هي في العمر كالبدر في الهالة والقراب في الخلة والمتقارب في الدائرة، فأردهم عنها مكبوتين، وإنما هي الزهرة في الأفق والوضيعة من الشقر. وكان يجب علي، من فرط الإجلال، أن أقول لهم ما قال " زرارة " لولد " سويد بن ربيعة " وقد تعلقوا به عند " " عمرو بن هند ": " يا بعضي دع بعضاً ". ولكن حملني أطيط الحاسة وعلمي بكرم الشيمة، على النهضة بغير جناح، وركوب الصعبة بلا أحلاس. وأنا أجله لفهمه وفطنته، مثل ما أجله لعزه وسلطانه، ولو جاء رجل في طمرى برس أو سمل فراري، أو عارياً لا يصل إلى الطرائد ولا الهيب، يتلهف على منقل أو سميط تحذى له من أم الهنيبر أو غيرها من الهنبر، ويعتمد على خوارة كأنها منسأة الميت، ولديه الجن العاملة، وفيه من الأدب والعلم بعض ما في " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " خلد الله أيامه، خنعت له بالعظمة والترفيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد أشرت عليهم بترك تنجزهم الصفح عن ذلك، وقلت: الصبر على القناعة أقبل من سوء الصناعة، والكريم يجب أن يستحيا منه، والجمرة إلى الجمرة نار ينتفع بها المقرور، والنغبة مع أختها ري الظمآن. فأبوا إلا غير ذلك وقالوا: إنا لا نحمل أوقاً كان موضوعاً فيما سلف. وهذه الأيام المشرقة لو رأتها " دوس " لما قال القائل منهم: ذهب الخير مع عمرو بن حممة. فجشموني كلاماً في ذلك، فقبح الله معزى خيرها خطة، وشجراً أطوله التربة، ومؤرثات للضيفان أكثرها ضراماً ما يوقده أبو الحباحب. فما برحوا، والكاذب خائب، يرمون بالسروة ويفتلون في الذروة، ويقردون العود النافر، ويزجون ثقالاً قيد فما أيد، ويحدون بأم الربيق على أريق. حتى همت النعامة بكروع، وعزم الضب على الشروع. وأني للوليدة بأزمان القردة؟ ومن الفند أن يسأل نعمان في بريرة، ويلتمس من رياض الحزن إنبات الزهرة. وإذا عذلتهم في ذلك، فلهم أن يقولوا: لأفقر منا يهدي غمام أرضنا، وسائمتنا أحق بما نبت في عرضنا. وقد وصلوا بهذه الرسالة رقعة يرجون بها من اليد العالية توقيعاً مؤبداً لا يكون بعده القول مردداً، بل يحسم بإيجاب طمع كل ناظر وجاب. فإن جاءت بالنجح فلله الحمد ثم للسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء ". إذا كرم الزندان لم تتعب في القدح اليدان؛ ومن وقف على العناقة أروى الناقة، ومن نزل " تبالة " نفض البالة. وإن خابت، فهي حقيقة بالخيبة. المطية رجاحة، والأذن فيها جاحة؛ وإن ثعالة لا تبنى العالة. ولو أصغى المسمع إلى ما يأمر به حسن الأدب، لم أحفل بحظيات لقمان، ممن صدق أو مان، ولا احتملت أسهم القارة خيفة من الحقارة. لأن المسألة في التافه أنبأت عن اللب النافه. وإنما جعلت هذا المقدار تافهاً، لشرف مقدار المسئول. فأما أنا فمذهبي أن الدرهم يقع عليه اسم المال الكثير. ولو كان في الوجذ فراشة وفي المحل الممحول غذيمة، لكفيت الغافلة من رماها، والجازئة من اسّماها. ولهؤلاء القوم أريضة ليست بالأريضة، هي من قلة العمل كالمريضة. غراسها ليس بعميم، وثمرها بين الثمر كبنى يربوع في بنى تميم؛ إلا أن أولئك حمدوا في الغارة، وذم هذا حين يغير. وحين يختبز لا يطيب منه الخبز. وما سقى منها بالأبق والأديم، فهو العناء المنصب في الحادث وفي القديم؛ يشتكيه المالك ومن يعمل فيه، ويجعل حليماً مثل سفيه. كأن ماءه المنتزع كافر محتقر، غفر له بعد ما مسته سقر، فقد عولي به من أسفل سافلين إلى أعلى عليين. وربما غار ونكز، فلم يفل الملطس في إخراجه حتى يرجع إلى قرواه. تود بهيمة أصعدته، لو كانت في سواد ذي القرنين، تحمل أوتاد خيام أو غيرها من أثقال اللئام، وتسافر من المشرق إلى المغرب، وتراح من هذا البؤس الدرب. إذ كان سفرها لا ينفد وعذابها يجدد. ولا يقنع لها القدر بالأين حتى يأمر بتخمير العين. فالخطوة من العبء قصيرة، والعين عمياء بصيرة. وهي في أوقات النجر يكف بصرها عند الفجر فتنظر إلى القمر دون الشمس، ويومها في الشقوة نظير الأمس. وربما تكون ليست بالزعلة فيستأجر لها غلام عارم لا كريم هو ولا مكارم. فيسوقها بالعجراء سياقة عنيف ويمزق جلدها تمزيق الخنيف. فهي تروى الناضر ولا تلقاه، وتسمع قسيب الأزرق ولا تسقاه. وتمر عليها الدجالة من الرفاق، فإذا سمعت صوت الحافر هاج ذلك عليها طرباً وحزناً، وذمت إلى الله القادر معاشاً لزناً. وترد جباها الواردة، فإذا حمل أمرها على ما ظهر من اللفظ العربي في الكتاب الكريم من قوله عزت كلمته: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ". وعلى ما جاء في الحكاية عن النملة: " يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ". وعن الهدهد في قوله " تعالى ": " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ". فجائز أن تضمر هذه البهيمة أو تقول باللسان ما لا يفهمه كل إنسان، من كلام معناه: رب صلف تحت الراعد، وساع دأب لقاعد. تقرى البائسة وترد الرائسة. ردِي رِدِي وِرْدَ قَطاةٍ صَما كُدْرية أَعجبها بردُ الما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 ذهب سيري وساري، وشربت الشاربة قراي. كأن تعبي ما يهبه الله سبحانه لأهل الدار الآخرة كلما فنى نعيم فالله بمثله زعيم. والحوادث بين المنتظر والملقى، والشقاء بعث للشقى. أدرك ما جبيته التلف، ومن قواي أمل الخلف. وأي قوة للمخلوقين؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ما لعملي من ريع، لقد صدق " أخو بني قريع ": قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلِهِ ... ويأْكلُ المالَ غَيرُ مَن جَمَعهْ ولا يمتنع في قدرة الله، أن يرد فارس كميت أو ورد، فإذا شرع في نمير ذي برد، ربطه بالكثب من المثاب. فيقول الشاحج بفضل الحس: من أين طرأ علينا الكريم؟ فيقول الصاهل ومن أين علمت بالكرم، ومن دون عينك حجاب قد شد، لو كان دون العين النابعة لما فارت، أو العين الطالعة لما أنارت؟ فيقول الشاحج عرفت كرمك في وطئك وصوتك، لأن الرائع قموص الرجل، بحجل كانت أو بغير حجل. ولأن جئة في الصهيل تكون بعتق الفرس أبين دليل قال " الجعفي ": أَما إِذا استدبرتَه فتسوقه ... رِجْلٌ قموصُ الوقْعِ عارية النَّسَا وقال " لبيد ": بِأَجَشِّ الصوتِ يَعبوبٍ إِذا ... طرقَ الحَيَّ من الغزوِ صَهَلْ فيقول الصاهل أنك لعالم بالعراب، فمن أين لك ذلك والأيام لك شاجنة، ونوبها عندك راجنة؟ فيقول الشاحج فرض على المنتسب عرفان الخال، ولا سيما إذا كان صاحب الشرف دون الأب. وإذا افتخر " رقيم " بسعد، و " عمرو " بجذيمة، فإنه غير متعد. فأخبرني، من أين مبدأ سفرك؟. فيقول الصاهل من مصر التي قال فيها فرعون: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون "؟ تلك صبرة الذهب، وأم النعيم وينبوع النصفة. فيقول الشاحج أكرمت أكرمت، القول ما قالت حذام. تلك الحسناء بعدت من الذام. إن كان للنجم ظهور فإنه بالقمر مبهور. ولكل ما نبت سموق، ولكن فرعت السحوق، وإذا قيل: الدهر، دخل فيه السنة والشهر. فإلى أين المحرد؟ فيقول الصاهل إلى حضرة مواس آس، قد بسط آمل الناس؛ أديب آدب ما هو بجديب ولا جادب. كاد يكون عدله في الآفاق مطراً، وتأرجت البلاد بثناء عليه فهم الجو أن يكون عطراً. أقام السوق للفصاحة، وأذكى القلوب بالتذكرة، وأيقظ العيون من طول الرقدة. فيقول الشاحج صدق زاعم فيما زعم، إنه لكما تصف وأنعم. وهو على إدراكه جدّ العظماء، ضارب بالسّهم الفائز من سهام العلماء. وليس كذلك جماعة الملوك، لأنهم يرهبون فلا يؤدبون، وإذا كان أحدهم صغيراً، كان في الباطل واللعب مغيرا؛ حتى إذا كبر أنف فلم يستأنف. وهذا الأمير كما نطق به الكتاب الكريم، من قوله " تعالى ": " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين ". فالله القادر يبلغه أفضل آمال المجدودين، إذ كان كما قال تعالت كلمته: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ". قد عرف خدع " الأزمان فأصبح من النوب في أمان. يعتقد أن الإنفاق أفضل من الإشفاق، وأن الدرهم إذا جعل في كيس فما يزال في تنكيس. وإذا هو إلى المقتر دفع، نمى إلى الجو فرفع. وكذلك ينبغي أن تكون شيم الأولياء. زيادتك في در الأيتام، أبقى ذخيرةً من الدر المعتام. ودعاء الفقير أنهض بك من رغاء العقير. وبدارك مغوثة الأرملة، خير من بدرك المكملة. وشاة في يد فقيرك، خير من شاة ترد في وقيرك، إن بقاءها في الفزر، رهن بالنوب لها أو بالوزر، للذي ملكها فلم يزكها، وأرسلها في المرتع فأبسلها. إنما هي معرضة للطارق أو السارق، سيد عمد لها بالتعذيب أو جارمة عيالٍ مثل الذئب. فإذا صارت أضحيةً كانت للناسك تحية. وذكرٌ باقٍ خيرٌ من سعد راق. إن الذكر من الغير محروسٌ، يلبث فلا يزيله الدروس. فأعط مالك ولو من ذمك، إنه إذا كثر أهمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقد عزمت يا خالي، أن أستودعك رسالةً إلى حضرة هذا الأمير، لتذكر بي ولاة العدل " فإن الذكرى تنفع المؤمنين ". لعل علاوةً تحط عن فودى مثقلٍ، ونزعاً بالغرب يخفف عن خابط عضه، وراحةً ينالها المتعب في النهار والظلم، وعيناً تطلق من السجن الدائم فتبصر الوضح؛ فقد بلغ نسيس الحشاشة وافتقر إلى الكلمة رب الكلمة، واضطر عارٍ إلى سحق النمرة، وألجىء مالك النخل الواعد إلى التمرة؛ ولكل ذي عمودٍ نوى. وكذلك جرت عادة الزمن بتغيير الكينة. فيكون منك الطول بأن تصل تظلمى إلى الحضرة، فلعلي أنصف مع المظلومين. قد ترى ما أنا فيه، لا يطلب بعد عينٍ أثرٌ، ويريك بشر ما أحار مشفر. والسناسن العارية دلت على البأساء المتوارية؛ وما ظنك بدريس الأهدام؟ وكفى برغائها منادياً. إذا " ألحت المهرية فلم يبقى عندها من سير جرية، والتلف أهون من الصلف، وموت لا يجر إلى عارٍ، خيرٌ من عيش على رق. وما عبس طأئيٌ في وجه الضيف، إلا وقد صفر وعاؤه من كل طعام. اسق رقاش إنها سقاية. إني مع الذي ألاقيه من قلة الدعة وعنف السياق، يسوسني أجير كسلان إذا سأله الملاك: أأرويته من سويد؟ قال: نعم. أحششته بعد ذلك؟ أأوسعت له من الحسيك؟ أتفقدته من آثار الأبرار؟ قال: أجل، نعم، حوب!. ويحلف " لهم الحذاء لقد فعل، وهو بشهادة الله أكذب من الشيخ الغريب والأخيذ الصبحان، وتوهم المخفق وتخيل الوالدة، والبرق في عام سنةٍ. والله المستعان على ما بطن من أمر وما ظهر. ومن العجائب أنه إذا كان يوم أضحى أو فطرٍ، وهم كل تفلٍ بعطرٍ، واهتم المقتر بإخضام العيلة، وسمح للنصب من البهائم بالراحة، وغسل أطماره كل قهلٍ، وضحك إلى أخيه العابس، ورجوت أني لاشتغال الزراع بصلاتهم في العيد وإصابتهم شيئاً مما صنعه الآدميون، أظفر بقسمٍ من الراحة وسهمٍ أنتفع به من الدعة، وإن كان ذلك المرجو أقصر من ظمء الحمار، فإن الظمآن يعتصر بنسيم الريح، والجائع بلوس النواة، ولا أشعر بما في الغيوب. لقد لقى أحد الشركاء في رجلٌ من جيرانه يكرم عليه، فسأله أن يعيرني ولده كي يركب مع الولدان، فأجابه إلى ذلك. فانصرف الرجل إلى ابنه بالحديث، وهو من عرمة الصبيان. فأول ما صنع أن استعار سوطاً من بعض الناس، فإن عدم ذلك أخذ قصيدةً قصيرةً يأمن كسرها عند الضرب. وبت محدثاً نفسي بالخير، حتى إذا كان بين الفجرين قبل أن يضح منهما المستطير، أحسست ببرة الرتاج تقرع على أهل الدار. فقالوا: من؟. قال: فلان بن فلان " أنجز حرٌ ما وعد. فقالوا: دونك. فدخل فحلني من المربط، وذهب فركبني بأغباش الليل، ووضع في مرة سوطٍ أو صدر وبيل. فلما فرق بين الشبحين، وانتشر أضوأ الصبحين، وخرج الفتيان على دوابهم، جعل يحثني بالضرب لأحضر كإحضار الخيل الجامة والشواحج المودعة، وهو على ظهري مثوب: ويبك أما تخب؟ ويبك أما تقرب؟ هيهات هيهات! ما باللمعة حبة، ولا في الأرض المجدبة ربةٌ، ولا بالشاجنة ريةٌ، ولا عند الراعية مفرية. وهل ترك سغب من مناص؟ إن العير عجز عن القماص؛ إن الخبب وليته الشبب فهو بوجرة أو السماوة، والتقريب أودعته السمسم فألف الجريب. حتى إذا اليوم متع وجهد أقصى الرمق، عثرت عثرةً فإذا الغلام قد سقط على الأم البرة. فلولا أني خشيت البارىء لوطئت رأسه وطأة متثاقلٍ تلحقه بعادٍ وثمود. ولكني رهبت العاجل من العقوبة، وهبت أن تكون له أمٌ صالحةٌ فتدعو على ملك الملوك. فقام سليماً من صرعته، يعتمد كشحى بوبيله. ومن العني والعناء ضجك الفتيان والبهائم علي. القوائم كثيرات الوفز، والثبج لا يخلو من عفز. وقد أثر الكدان في العنق أثراً أبيض يظنه من جهل برصاً، وليس كذلك. فلو أقمت الشهادة بين يدي قاضي البهائم لما أمنت ألا يقبلها، إن كان يحكم بما في كتاب الدعائم. وانصرف غير شاكر ولا مشكور. فلما ردني إلى المربط، لم يلبث أن جاء الزارع فحلني للعمل. فيا لك يوماً ما أطول! كان عند غيري كإبهام القطاة، وغاداني بحمى نطاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وفي أي شقوة لا أضع معلى القداح؟ ألست في عنبرة الشتاء يأخذ عباءتي الأجير فيتدفأ بها في الليل، فأمارس قرة الأشهبين؟ وإذا نظرت الباقع الموسومة بعين أو عينين، وصار الحائل من الأمكنة نظير الحولاء، وأصبح أثر الأعمى الدار كالعبقرية ما حماه من الشقر " أبو قابوس "، ورعت الكودان الشقر ما يشبه نبت المعرفة من الشقراء، وذلك من النصي المعلول، فحوافري من العفر غبر، إنما تقع بغبراء منعها القدم والسنبك من النبات، وجحافلي من عض المصر متقريات، وأعمامي من القمر الوحشية وربائط الأهل، كأن جحافلها من الخضرة مسبدات المقتبلين. وإذا لاح الشرطان في السدفة، واختلفت أصوات المطوقات، وهاجت أشجان المتشوقات، وذكرت الشيخ الدالف بعصور الفتيان والشمطاء الهمة بعيش الفتيات، ذكرتني أزمان أنا فلو خلف المقرفة أرتضع ضاويين مثل القرطين. ولا أحفل بوضع القرطان. أهض البهارة بسنابكي، وأفضل الحوذانة لا أبالي، وأخلف المرجقوشة وهي تذمني، وأطفيء عيون العبهر بهزل مني، ولا أكرم نور الأقحوانة لمشاكلته الأشنب من الثغور. آونة لا تعرف وسماً عنقي، ولم تعقر الطلقة ظهري، ولم يؤثر الدأب في إهابي. لا أقف بذراً بيطر، ولا أفرح بنزول القطر. فأما الآن فأنا أسر بالغادية من الشاب المعرس بالهدي غير الصلفة. لأنني أنال الراحة إذا الغيث قلد البلاد. وإذا رمقت أحد الفرغين أو الرشاء، دعوت الله أن يريحني من ذات الفورغ ورشاء أحصد فبلغ القتال. وإنما يبكر إلي العامل في الغبش فألمح طوالع النجوم. ولو كنت من أهل الإيمان ورصفاء الطوية لقد أجيبت الدعوة. ولكني أحلف فإذا حنثت لم أكفر، وأخاف أن يحسب ذلك طرفاً من الكفر " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ": أقسم لا رمت المعلف ولو كسر عليّ القشبار، فإذا جاء السائس وأخذني بالوبيل ألقيت الألية وخرجت ذا إران. ولعل السامع ينسبني إلى الكفر من أجل مناسبة أبي زياد، اتباعاً لقول الناس في الرجل إذا ضربوا به المثل: هو أكفر من حمار. قال الشاعر: وغرتني صلاةُ أَبي خُبيبٍ ... يُصلي وهو أَكفرُ من حمارِ وإنما يعني بذلك " ح بن مويليك بن مالك بن نصر بن الأسد "، وقد قيل إنه رجل من قوم عاد. فأما الحمار الدابة فما الذي أوجب له الكفر وما برح مطية الصالحين؟ وإذا أضنى قرص المغنيات في الهجر إلى غشيان المجنونة، جلدني العسيف جلد العاهر أو القاذف، وقد علم الله براءتي من القراف. وإني لأعرف الطيرة في وجهه وهو فال. وقد عزمت أن أنظم هذه الصفة في بيتين من الشعر أو ثلاثة، فإنه أسرع إلى حفظ المرسل، وأخصر تكلفاً من اللفظ المهمل. والموزون أذهب لما في صدر المحزون. وما سجع، دونه وإن رجع. والقول المبثوث كالبعير الأورق لا ينبعث وهو محثوث. وحملني على ذلك، ما قد ظهر على ألسن الناس من أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أعز الله نصره تعالى قد رفع من قدر الشعراء، يعلي مجيدهم ويكرمه، ويعطي المقصر ولا يحرمه، وينقد المنظوم السائر نقد الصيرفي ماله، ويعرف مشكله معرفة السعدي ماله. ولقد تحدث الناس بأن رجلاً من النظمة مدحه ثم لفظ عصبه من قبل أن تخرج إليه الجائزة. فأمر بإعطائها ورثته. فأشبه فعله في ذلك ما فعله " النعمان بن المنذر " ب " شقيق " لم تمنعه المنية من الظن الحقيق. وفد على " اللخمى الجبر " فجعل حباءه على القبر، حتى جاء آخذ الحباء من أهل الدفين. وكيف يحجز - أعز الله نصره - عن الحزامة وقد حلب الزمان أسطره وقرأ من كتاب القدر أسطره، وأراه فهمه وفطنته أن المكرمة إذا شهدت لها القافية فهي ببقائها وافية، والمجد إذا حاطته القصيدة لم تعصف به النوب كأنه أصيدة؟ وإذا ضمن حديثاً روى، سلم لصدقه الغوي. ما سار عن " الكندي " وسرى، أبقى على الغير من أبنية كسرى: والشعر يستنزلُ الكريم كما اسْ ... تَنْزَل رعدُ السحابةِ السَّبَلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فما بالي يا خالي، لا أعرف فيك بشاشة للمسألة؟ لا تكن من الذين إذا طلبت منهم الحاجة سكتوا، وإذا سئلوا في الشيء المعرض نكتوا. اسق نغبة من صفنك يقيض لك ربك من يملأ مزادتك؛ وأطعم المقوي ثمرة من دجوبك يحفظ ربك حائشك؛ وأعن حاطبك بالشبم يعظم نارك، وانصر المظلوم بالكلمة تنثر باليد واللسان؛ واغد البائن أكن معليك، وكن السابق أدع مصليك. وأعر الجازر مدية يطعمك من أطايب الجزور، وأعط المورد مرساً يور غنمك؛ ولا تضيعن حق الرحم فإنه لا يجهل: إن العامري ليحس للسعدي، وإن الرجل من بلى ينتصر للفتى من ولد مرة بن عوف، وما بينهما إلا صهر البلوية. وحسبك بما يعتقده بنو النجار في بني عبد المطلب؛ وزهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من بني أمية. وإن أحياء قضاعة لتعطف على أحياء مدركة، والذي أوجب ذلك ولادة " ليلى " طابخة وأخاه. عند إلياس بن مضر. وقبلك أحبت كلب بن وبرة " عبد العزيز " ورئمت قيس " بشر بن مروان " وإن القبط لتلزمهم النصرة لولد إسماعيل، من قبل " هاجر " عليهما السلام. والخال أثبت نسباً من العم، لأن الرجل يشك في نسبه من قبل أبيه، ولا يشك في نسبه من قبل أمه. على أن سوء الحظ يرمي الحقوق بالعقوق. وإن اصطنعتني بيد، جازيتك بثناء مخلد، قال الشاعر: ارفعْ صديقَكَ لا يَحُرْ بِك ضعفُه ... يوماً فتُدركه العواقبُ قد نَمَى يَجْزيك أَو يُثنى عليكَ وإنَّ مَنْ ... أثْنى عليك بما فعلت فقد جَزى وكأني بقلة الجد قد شنعت صوتي في أذنك، وأساءت نقبتي في نظرك، وضعفت حواري في لبك، والقدر نوعان: جد وحد، فالجد يرعى النعم وربه نائم، ويحفظ بيت المكثر وقعيدته غائبة، ويحوط اللاعب وإن لمس بيده الأراقم، ويطعم الهجرس فريس الضيغم، والغراب الأبقع قنيص الباز الأشهب، ويقيم الحرة على رأس الأمة، ويجعل حجل الخدلة في ساق الكرواء، وسوار الغيل الناعم في ذراع المدشاء، ويكسو الوادع وإن غفل عن طلاب الشرف، محاسن المشمر في طلاب المجد والكرم. وينسب إلى البيطن أمطار الشرطين، وإلى الثريا نوء السماك. والحد، يخرج الأكلة من فم الغرثان حتى يلقيها في جول القليب، ويقلد المخدرة ذات العفة قلائد الرواد المومس، ويجعل ثوب الخرص حليف الإعدام طعمة للغاضية من النيران؛ ويوهم النابل أن قرنه مملوء بالنبل وأنه قد خرس من أجل الكثرة، فإذا عيث يرجع لم يصادف من أهزع؛ ويرد الواردة عن الماء الخضرم تشتكي لهاث الحرة؛ ويعلم الوالدة عقوق الطفل الصغير، ويسلك بالدليل الخريت وادي تؤلة وطريق العنصلين؛ ويوهم صاحب الواعد أن المرجبة حضلت فيرسل عليها الجذوة. ولا يغرنك ما تراه في الكفل والأقراب من الجلب والندوب، فإن المطر إذا جاد الأرض ضحكت بعد عبوس وخرجت إلى النعمة من البؤس. فيجوز والله قدير، أن ينطق الصاهل - وهو " تعالى " منطق كل الحيوان فيقول: اطرقي يا ماعلة، وأطري فإنك ناعلة. وانغلي في الشاكلة فإن عليها برجداً، وأوضعي في الجرد تحتك أجداً. دعواك من قلة رعواك، ومن أدعى فبئس ما سعى: إن كان صادقاً فالشاهد لنفسه لا يقبل وإن كان كاذباً فالكذب خبل وخبل: لم تدعى الأمر لمه ووكل بلاء بالكلمه إن كنت يميناً فالحنث إزاءها قائم، وإن كانت عدة فكأن الخلف عليها دائم، وإن كانت سوفية فأخلق بها ألا توجد وفية. لو ادعت العضاه أن ثمرها البرم، لوقع في نفوس بعض الشجر شك في ذلك؛ أو زعم اليربوع أن الراهطاء ملك يمينه لأمكن في قضاء الله أن ينازعه فيها عضل أو قزلاء؛ ولو خطر في نفس الدرة وهي في المحارة أنها الغريبة من الدر، جاز أن يحولها الله القادر حيواناً لا ينتفع به، أو نطفة ليست بالمروية. ويكفيك عيباً للمدعين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي، وحسبك بتلك ظنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 زعمت أني خالك؟! وأين الآفق من اللئيم ولدته غافق؟ وما بين الشربة والصربة من سهمة؟ وما قرابة البيدانة إلى الريدانة؟ ليست الرقلة عمة للشيحة ولا خالة. ما للجبس الهدان وتنسبا في عبد المدان! إن حليف الزارة قد يقرب من الفزارة ولا يكون السبد أخا لبد. فلا تغرنك الأسماء، قبل الشائم كانت السماء. ما العكرمة هتفت بدهل، ك " عكرمة " ولد أبي جهل، ولا الطلحة رعتها الإبل في الروحات، ك " طلحة الطلحات "، ولا السلمة غضبها راع، ك " سلمة " أخي القراع، ولا الثمامة ضعف عودها، مثل " ثمامة " نفس تنجر وعودها، ولا العبس المشموم عند البكرات، من " عبس " التي هي إحدى الجمارت. إنما السمة علم يهدي المكلم به والمكلم. ليس " قتادة " راوي الأخبار مثل القتادة هناتها كالإبار، ولا العوسجة ذات المصع مثل " عوسجة " فتى المصاع، ولا العرفجة صاحبة نار الزحفتين مثل عرفجة ماض منصاع. ولا الرمثة بقلت وأدبت، كرمثة الرجل إذا الفوارس نجبت؛ ولا " عفارة، صاحبة ميمون " من العفارة أتتك بالنور المخزون، ولا " عتر " من: عاد، كعتر نبت في مكان متعاد. أحسبت " النمر " وهو عكلي، مثل النمر جريحه من البر كلي. أم عندك أن " ثعالب جلهمة " كثعالب صادفت مرهمة، فوبرها بالقطر بليل، وكلها إلى قوت العيلة خليل؟ أم ظننت أن " ذئباً، جد سطيح " كذئب يهتبل بجد نطيح؟ أم " أسداً وهو أخو كنانة " كأسد حمى البنانة؟ أ " ثعلبة أو قيس " كأم التتفل حليف الكيس؟ أم " عمرو بن معد يكرب " مثل عمر ثنت وقرب ليس ورد ظهر في ربيع الأزمان، كورد قهر في ربيع الغدران. ربما سمى الرجل بحراً وهو شحيح، أو داء يرهب وجسمه صحيح. أدرع الرود خلقاً أو جديداً، مثل ما نسجه " داود " حديداً؟ أعير في الورقة حقير، كعير في الهامة له توقير؟ ما العنتر إذا أكثر ترنماً، ك " عنتر " في قطيعة يريد مغنماً. أذباب السيف قطع في القراب، كذباب الصيف نعت بالإطراب؟ ما " أسامة بن زيد " أين ذهب، كأسامة في طرفاء ذعر وأرهب؟ ذلك تقى سري، وهذا الآخر هو القسوري. أغرك أن جاهلاً من القوم كان يدعو أمك فرساً؟ ليت لسانه من قبل ذلك أشعر خرساً. حن شجير في الربابة، وضبح درص في الغابة. كيف تنسب الحواءة إلى السخبرة، والوبر المتوقل إلى وبرة؟ وفي الشجر دوح وسواه، وما أميل الرمل كلواه. وقد فرق أهل المعرفة بين أمك وخالك وبين الخيل العراب، فسموا أمك رمكة وأخاها كودناً. وإن في ذلك لما يوضح أمرك. وإذا دعا العيد سيد القوم عمه، فغير آمن أن يرجع لطيم الوجه. وإذا الأمة أرادت أن ترضع ولدها من ثدي الحرة السيدة، جاز أن يرد أملها بالنجه. ما ظنك ب " جليلة، أخت جساس " يدعوها ابن الراعية: يا خالة؟ وما قولك في " بنت الخرشب أم الكملة " يهتف بها ابن العبد المجدع: يا أمه؟ أيرضى " كليب وائل " أن يكون خالاً لابن المحتطبة؟ أم يقر " بنو بدر على أن يكونوا للحبشة أسرة؟ انظر في ذلك فرب جناية لم تأت بكناية. وأما شكيتك ما تلقاه من أحداث الزمان، فإن أقدار الله جرت على الأذلال. وهل يملك أحد رد الأقدار؟ ما تقول في القمر لو شكا الدأب في ليل ونهار؟. أصرف مذ عنه إلى سواه إلا أن يقضى ربك نقض المرة وتغير الفلك؟ ولو شكا " ثبير أو نعمان " ما يلاقيه من حرور القيظ وأريز الشتاء، هل كان إلى دفع ذلك عنهما سبيل للمخلوقين؟ ولو زعم القراح أنه يلقى شدة من الكراب والدبل، هل وجد آوياً له من ذلك؟ أرأيت القتادة لو ذكرت أن الشوك يبعث إليها الألم، هل قدر آس أن يداويها من ذلك حتى تنبت وليست بالشاكة؟ هذه " عين أثال وغمازة " لو شكتا ورد الوحش خبطهما بالحوافر، هل زوي عنهما ذلك بحيلة من البشر؟ وأي شيء من أصناف الحيوان لا ينصب ويقصب؟ ألا تعلم أن بني آدم ملوك الأرض، لا يعدمون هما آباً وسهماً من سهام القدر صائباً؟ في كل صدر من الناس شجون، ولكل نطفة أجون. فأما نحن معاشر الجبهة، فترمى بوادينا الغمرات وتشهد على ظهورنا الغارات. وقلما اطرد فريقان من العرب إلا وأجلى النقع الثائر عن قتيل منا وعقير. وبذلك سلفت العادة من قديم الزمن. ألم يبلغك المثل في يوم " شعب جبلة " وهو قول القائل: " كالأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر "؟ وقال " الجرمي " في " يوم الكلاب ": فِدًى لكما رِجْلَيَّ أُمِّي وخالتي ... غداةَ الكلابِ إِذ تُحَزُّ الدوابرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 كم بين معيشة في دعة، وكبد بالأسنة متصدعة! وإن كانت الشواحج في شقاء فإنها لا تهلك أوان اللقاء. إنما تحضر الهيجاء معينة على حمل الأثقال، فلا يعمد إليها الطاعن بإرقال؛ ولا تبيت من شهود الغارة وجلة، مبطئة كانت أو متعجلة. وإنما يفرق من اعتراك القوم فرس يلقى الصوارم بهاديه، ويعاين الشجب فيراديه. هل حدثت بواحد من أصحابك هلك بطعنة أو ضربة؟ فأنتم من ذلك مثل حمام الحرم إنما يأتيها الموت بيد القضاء فتموت حتف الآنف؛ فأما نحن فنباشر الشوكة إذا واجهنا الفئة، ولا نأمن حدها عند المنصرف. ورب ميت منا في الشأو المغرب، كظه الدأب والغاية إلى أن فاظ. وقد افتخر " الجعدي " فقال: وإِنا لَحَيُّ ما نعوِّدُ خَيْلَنا ... إذا ما التقينا أَن تَحيدَ وتنفِرا ونُنكِرُ يومَ الروع أَلوانَ خيلِنا ... من الطعنِ حتى نَحسَب الجوْنَ أَشقرا فليس بمعروفٍ لنا أَن نردَّها ... صِحَاحاً ولا مُستَنكرا أَن تُعَقَّرا وقال " عامر بن الطفيل " وعقر فرسه: ونعم أَخو الصعلوكِ أَمسِ تركتُه ... بتُضروعَ يَمْرِى باليدين ويَعسِفُ وقال " عروة بن الورد ": أَقِيه بنفسي في الحروب وأَتَّقي ... بهادِيه، إِني للخَليلِ وَصُولُ فمتى أصاب أحداً من رهطك سنان بشر، أو قتل في كر وفر؟ وهل حدثت عن بعض أسرتك أن مهنداً أفرى عنقه، أو أصاب المفصل فطبقه؟ وأكل أبناء أبيك محرم في الملة، فقد أمن كلها حد المدية وغليان المرجل، وأن تهرأ بضيعه الإرة. ونحن لسنا كذلك، بل كانت العرب تأكل لحومنا في الجاهلية، وتركها الشرع الوارد، على تلك السكنة. أليس " حاتم " والمثل به مضروب في الكرم، عقر فرسه لامرأة طرقته معها أيتام؟ ولعل " اليحموم " وهو لركاب " النعمان " ما فقد أذية من الدهر، وإنه لطرف الملك، فما ظنك بطرف المتصعلك؟ وبنو آدم، كما علمت، لا يحفظون الخلة ولا يراعون الخدمة. أليس أعمامك وأبوك من أعظم دوابهم نفعاً وأقلها شماساً ونفراً؟ يركبهن الشيخ الهرم والطفل المتعرم وهما آمنان من السقطة وسوء العاقبة، وتردها للحاجة الكبيرة المهترة والكعاب المتسترة، ما لقيت في ذلك عنتاً ولا عنفاً. وقد يكون بعضها عند المقتر أبي السلفان، فإذا كان الأفق كالمريب من بياض الضريب، وكان ذلك في عين البائس المعود أقبح من الوضح في عين المتهود، حطب عياله عليه فجاءهم بأجدال الشجر وجزل القطيل، فأوسعهم من جمر يتلهب، ودون في صرف القر الذهب. فإذا حطبهم الكفاية عدل بالعضد إلى المبتاعين فباع بالدرهمين مرة أو الدرهم، وجعله في الأمر الأهم: من شراء جابر بن حبة والمضيء بن الضروة وإذا كان زمن الرقاع نقل إلى مكان الشغلة ما هذ بمخالب العالمين من لغيف وأرنيف وإذا ركى القوم نكز، جلب عليه الشرب الناقع فأروى الدردق وشرب منه الصادون، ومن رغب في غسل وطهور. وهو في ذلك إذا عثر على بعد لعنه، وإن كان مكثباً تناله اليد، وكزه بالمطرق أو طعنه. وليس في الحنادس المظلمة بتارك له من استعمال فيما عد بقليل من المصلحة، أو يمتهنه في بعض الأرجاء، حتى يكون ما كسبه المجترح من الحبوب طحناً يقدر على استعماله باشر أو باكل، هو لجشب الطعام آكل. ولم يكف ولد الإنسان ما أحلوا بأسرتك من الكد والهون، حتى أتبعوا ذلك قبيح المقال، فضربوا المثل بهن في الذل، وقرنوا إليهن في التشبيه من يستغبون من الرجال. وقال قائلهم على وجه الدهر: إِنَّ الهوانَ، حِمارُ الأَهلِ يَعرفُه ... والطِّرْفُ يُنكرُه والجَسْرةُ الأُجُدُ وقال الشاعر: وما المولَى وإِن عَرُضَتْ قَفاه ... بأَحْمَلَ للملاوِم من حِمَارِ وشر من ذلك ما فعله " الدارمي " من السوءة الباقية على الأيام: لما سب " جريراً " وقومه، قذفهم بالذي يكنى عنه فقال: لعلك في حدراءَ لُمْتَ على الذي ... تخيرت المِعْزَى على كلِّ حالبِ عطيةَ، أَو عبدٍ سواه كأَنه ... عطيةُ زوجٍ للأَتانِ وراكبِ إلى غير ذلك مما ثبت في الصحف ودون، وتناقلته الرواة في عصر بعد عصر. وتلك الآبدة، لا وسم في العلباء وتوقيع في الملبد، ونعوذ بربنا من خزي الأبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 سب صاحبك وكل خيزبته، ولا تذكر في ذلك معرفته. اضرب عسيفك واغصبه قبضه، واحذر أن تقذف ربضه. جعل في النساء ما ليس هو من أمر النساء. يغفر لك ظلم الأيام ولا يغفر قبيح الشتام. من قذف بكلمة في المنطق أخف من حصاة الخذف، فهي أثقل من الهضبة عظمت عن نزع وقذف. إذا عرفت من عبدك ملأمة، فلا تعيبن امرأته الأمة. لا تصبر الأجمال الوانية إن قيل إن الناقة زانية. ولكن الأنيس إذا عرفوا ذلة ذليل طمعوا، وإذا لقوا بالعزة نقضوا الذي أجمعوا، لا تفرق رءوس العيدان من وطء الناقذ ولا الهدان؛ والقمر لا يلحق به الغمر. ولا تشد الرحالة على ثبج بحر زاخر، ولا تناط الخزامة بأنف جمل قفاخر؛ ولا يلعب صبي بالصل ولا بالمرمة بنت الظل؛ إنما توطأ مغاريد القاع ويخزم أنف جمل وقاع، ويجترأ على ظهر ذلول، ويلعب الطفل بولد العكرشة، ما أهون دمه من مطلول. وفي الحرملة طمع الأرملة. والصدق أنبأ عنك صاحبك، ونهاه أن يناحبك. والإنس لا تحفظ محارم الإنس فما ظنك بغير ذلك؟ العرب غزت الروم فقلدت بناتها الكروم، وما ذلك لكرم المسبية بل لحاجة في الصدر خبية. والروم غزت العرب فلقيت البأس والحرب. وإذا كان الإنسى لا يعرف قرابة إنسى فهل ترجوه للحفاظ راعية ذبح بالبسى؟ وإذا رأيت النمر لا يبر النمر فلن يبر الظبي الخمر. وإذا أضحى الأسد غير مشفق على الشبل فما يشفق على أولاد الإبل. وإذا نشأت الحجر العربية ترمح عن الظبي المهر، فهل ترضع جآذر الصوار الزهر؟ وإذا غدت السعدانة لا تغر جوازل أختها الفقيدة، فالنسر وإن ضرب به المثل في البر، أجدر أن لا يلتفت إلى غربج للورقاء المصيدة. إن الصورة توجب مودة مصورة، واختلاف الصور لا يلام أهله على الزور. ألا ترى ما فعله بنو آدم في أولاد " الجديل " وغيره من فحول الإبل؟ حملتهم في كل سفر فلم يرعوا ذلك لبنات " العيد ". وقضوا على ظهورها ما صعب من مآرب النفوس، فما عرفوا تلك العارفة لطليح معكوس. تحمل الرجل ناقة مالعة ما هي في سيره والعة، ويكون قصده بها أرض الحرم آملاً أن تغفر ذنوبه، وقد كثرت في الآثام عيوبه، فتلقى تحته من الظمإ ومراس الخنتار ما يهون عليها الشجب. تحمل المزادة المروية وكبدها صادية، وتصمت عن اقتضائه بالمأربة والحاجة بادية. حتى إذا أتهم بها المغذ، خطىء فرمي صيداً، فعقر تلك الناجية فيداً فيداً. فلا إله إلا الله، يتحرج ابن آدم من إلحاق المخشي بحيوان وحشي، فيغسل حوبه فيما يزعم بقتل حيوان قد صحبه وفعل معه خيراً واستوجبه: حمل رحله وزاده حتى آب من السفر بلاده. فأي أقرب وسيلة: أربداء تصاحب حسيلة، أم وجناء أذهبت نقيها لسيرك وكان لبنها من ميرك، وقتها فيما غبرك من الدهر مثل ما تقوت عيلتك؟. ومن عجائب فعال الإنس أنهم إذا أرادوا سلوك بلد معطشة ظمئوا الإبل عشراً حتى إذا لم يترك الظمأ لها أوردوها الرفه، ثم سلكوا بها المفاور فإذا " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " الماء بقروا بطونها فشربوا الفظ. وقد وصفوا ذلك وتناقلوه، فقال " علقمة بن عبدة ": وقد أُصاحبُ أَقواماً طعامُهمُ ... خُضْرُ المَزادِ ولحمٌ فيه تَنشِيمُ وقال الشاعر: سَقَيناهن رِفْهاً بعد عِشْرٍ ... وأَوْكرنا المزادَ من الكُبودِ وقطَّعنا مشافِرَها وخِفنا ... تجرُّرَها، فما اجترتْ بِعُودِ وأنشد " أبو عمران الكلابي ": أَوْناً فقد إِنَّا على الطُّلُحِ ... أَيْناً كأَيْنِ الحافرِ المُوَكَّحِ نرمي بها كلَّ تنوفية ... غبراءَ مثل الأَنجمِ اللُّمَّحِ مَزادةُ الراكب فيها إِذا ... لم ينتضِ المخصفَ لم تُفتح وقال الشاعر: ضمِنَتْ لهم أَرماقَهم إِسآدُها ... وجُرومُها كأَهِلَّةِ النحل ورَدوا بأَرشية الحديد ففرَّجوا ... عن ثائر الجنَبات كالغِسْلِ وشربوا دماءها فصداً في الجدب، وأكلها فقراؤهم ميتة، وقالوا في المثل: " لم يجزم من فزد له " - يريدون: فصد له، فسكنوا الصاد على لغة ربيعة، ثم أبدلوا منها الزاي - فسبحان الله، قضوا عليها من قبل التلف أموراً، وجعلوا بطونهم لها من بعد قبوراً! وليس ذلك من كرامتها عليهم. كان لبعض لأعراب جمل فكان يعمل عليه ويتعبه، فتنبل، فجعل يأكل لحمه ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 إِن السعيدَ من يموتُ جَمَلُه يأكلُ لحماً ويَقِلُّ عمَلُه ثم رئي بعد أيام، وقد ساءت حاله لفقد كد ذلك الجمل، وهو يقول: من يشإِ الرحمنُ يُقَلِّلْ خيْرَه ما وجد الموتُ بعيراً غيره ومت صبر شيء من البهائم على عنت بني حواء، ما صبرته الإبل: أنضوها سيراً، وقروها في التنوفة سباعاً وطيراً. قال " أبو زبيد الطائي " يذكر مساحي حفر بها قبر: لها صواهلُ في صُمِّ السِّلامِ كما ... صاح القَسِيَّاتُ في أَيدي الصياريف كأَنهن بأَيدي القومِ في كَبَدٍ ... طيرٌ تعيفُ على جُنٍ مَزاحيفِ وقال " ذو الرمة ": ومثلُكِ أَو خيرٌ تركتُ رَذِيَّةً ... تُقَلِّب عينيها إِذا طار طائرُ وأشنع من ذلك كله، ما ذكره " الفزاري جويرية بن أسماء " مفتخراً به، من أن ذئباً تعرض له في السفر فعقر له راحلته، وقال يتكثر بذلك: ولقد أَلَمَّ بنا لنقريه ... بادِي الشقاء محارَفَ الكسبِ يدعو الفنا إن نال عُلْقتَه ... من مَطْعَمٍ غِبّاً إِلى غِبِّ وطوَى ثَميلتَه فأَلحقها ... بالصلبِ بعد لدونةِ الصلْب يا ضلَّ سعيُكَ ما صنعتَ بما ... جمَّعت من شبٍّ إِلى دبِّ فجَعلتَ صالحَ ما احترشتَ وما ... جمَّعت من نَهْبٍ إِلى نَهْبِ وأَظَنَّهُ شغْبٌ يُدلُّ به ... فلقد مُنِيتَ بِغَايَةِ الشغْبِ إِذ ليس غير مَنَاصلٍ نعصى بها ... ورحالِنا وركائبِ الركبِ فاعمِدْ إِلى أَهل الوقير فإِنما ... يَخشى شَذاكَ مُقرقصُ الزَّرْبِ أَحَسِبْتَنا ممن تُطيف به ... فاخترتَنا لِلأَمْنِ والخِصْبِ وبغيرِ معرفةٍ ولا نَسَبٍ ... إِنَّا وشعبَكَ ليس من شعبِ لما رأَى أَنْ ليس نافعُه ... جِدّاً، تهاوَن صادقَ الإِرْبِ وأَلَحَّ إِلحاحاً بحاجتِه ... شكوى الضريكِ ومزجَرَ الكلب ولَوى التكلُّحَ يشتكي سغَباً ... وأَنا ابنُ قاتلِ شدةِ السغبِ فرأَيتُ أَن قد نِلتُه بأَذى ... من عَذْمِ مَثْلَبةٍ ومن سَبِّ ورأَيتُ حقّاً أَن أُضَيِّفَه ... إِذ رامَ سَلْمِي واتقى حَرْبي فرمقتُ مُعتاماً أزاوِلُها ... بمهنَّدٍ ذي رونقٍ عضْب فعرضتُه في سَاقِ أَسمنِها ... فاحتاذ بين الحاذِ والكعب فتركتُها لعيالِه جَزَراً ... عمداً، وعلَّق رحْلَها صحبي فهذا أحق بمطيته من السري تعذيباً، ثم قراها بعد العنت ذيباً. أليس في حكم الشرع أن راحتله أوجب عليه حقاً من السيد، كما أن مناسبه أوجب عليه حرمة من البعيد؟ ولو أنه ضيف إنسي، لعذر أنه جنسي. وأما المثيرات الكوارب، فاستعملوهن ثم أكلوهن! وإنك لترى الحنتر من بني آدم يملك الصغير من أولاد النخة فيشفق عليه إشفاقه على الولد، حتى إذا أمكن أن يعمل عليه، أدناه للأرعوة والغبقة والعيان، فابتغى من رزق الله عليه ريع أرضه في كل الربوع. حتى إذا أسن وعلم أنه لم يبق عنده غناء في العمل، جمع له سفير الضرف والسروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وإذا تنفس عرنين البرد جعله في بيت كنين وأوسع له من العلف. وليس ذلك من كرامة أبي المزاحم - أعني الثور - شد في مثل القطب وجمع له جماح العطب، ولا نزعت فروة أبي الطيب - أعني الجمل - من خيفة الكرب عليه، إنما ذلك لإفراء جنبيه. ولا ربطت أم الكيك فلبك لها أجود نقي، شفقة عليها من عيش شقي، ولا توديعاً لرجلها من ذهبا ومجي، ولا أحمى لها وطيس القوم لتدفأ به من قر الشتاء؛ وإنما غر الطائر بحبة ملتقطة لتصبر عنقه في السطة. وليس من رهبة المآثم على العترفان جمع له سبع من الحلائل أو ثمان؛ واسأل خلط الجرار لم عطف على ابن المعزة ظئران. لو دري ضب العرارة ما الذي قصد بثمرات يطرحن له عند الأمرات، لأقسم أه لا يذوق ثمراً حيرى الدهر. وليس من خوف الجوع على السمكة جعل لها طعم في الشبكة. وإنما أوثر المهر بصبوح وغبوق، ليفيء على أهله كرائم النوق. وقل ما جاءك إحسان ساعفك به الإنسان إلا وهو يأمل جزاء عليه أكثر مما نالك منه وأسر. جاد ناسك بالبرة ليسمح له بملء الجرة. وتتبع الراعي بالصبة أنيق الكلإ فأمعن طلباً، لترويه بعد حلباً. وأضاف الرجل مضيف لأمرين: إما لثناء يكتسبه، وإما دفعاً لمذمة تجدبه. على أنه لا تخلوا البسيطة من قوم يكرمون بالطبع وينفعون العالم لغير نفع. ثم أعود إلى ذكر الثور: فلما شرج لحم أبي المزاحم بالني، أبرز إلى سوق عامر فدعى له الفعفعاني فأمر الصلت على مريه، واقتسم اللحم غني وفقير، واقتدروه على مقدار الشهوات، ونسيت الصحبة وقديم العهد، وما لقيه من طول نصب وجهد. وأما بنات بعرة وبنات خورة، فحسبك بما لقين: كم أشكل ابن آدم الثائجة على قرير، فباتت عينها ضد قريرة من غير جريرة؛ وكم روع بذات الحزأة من أم منحلان، وليس في سر النفس لكن صرح به في العلان! واحتذى أدمة هذه الأجناس فوطيء بها أمعز حزيزاً، واتخذ من جليمها دفئاً في الشبم حريزاً! وكم غرب صنع منها وسلم، وصفن للسفر دائم الحزم. ولم يكفه ما فعل في البهائم الأهلية حتى عمد للوحش الباهلة. يا نار، أما يقتصر شرارك على أن يحترق به جارك، حتى يسافر إلى أبعد؛ ما أعظم أذاتكّ لولا ضوء لك ظهر في العنك لا نتقم خالقك منك. ماله وللثور الوحشي، ملمع الرأس بالجدد موشى! بات ليلة على العراء بعد ما رتع نهاره في الثداء، وبات المطر يبله ويصرده، ينشر عليه الفطر وبرده، وأمنيته المبتغاة الملتمسة عند الله أن يضح له ضياء الصبح. قد احتفر عند أرطاة وسدرة. يكاد ينطق بشكوى القرة. حتى إذا أعقب ذنب السرحان صديع. وظهر فأوضح من الفجر بديع، رمق بعينيه الغيوب ولا يرهب هنالك السيوب، فبدا له موسد كلاب هو طول الأبد للقنص في طلاب. فراع الشبب ما رآه من ضوار تبتدر مقلدات، يجرين في الجشع على العادات. ففزع فزعاً بالطبع، وانصرف عن ذلك الربع. يقطع رمالاً بعد رمال، والسلامة له أقصى الآمال. وغريت به ذوات العذب معذبات، مسرعات في الطلق مهذبات، يأخذن بنساه والساق، وهو بنطفة الأسلة من حمام وساق. فأدركته عند ذلك حمية الغضب، فانعطف بإقدام غير المقتضب. يذود البائس برمحين، ما نزل به من الحين. فوهب الله له النصر فانتظم بروقيه خائفة، وبإهابه منهن كلوم؛ أظالم الشبب أم مظلوم؟ لقد رمى بزول نكر، لا يزال منه حتى يهلك على ذكر، فهو يرقب طلوعها في كل غداة ويعتقد لها أشنأ معاداة. ويحدث نفسه بالهرب من أرض إلى أرض، وأين المعقل من التلف وهو كالفرض؟ فما يفتأ مروعاً من الصبح، يعد حسن الفجر من القبح. وأما الأرطي، فدينها في ذلك على دين الأخنس، وهي في العناء المنصب من الأنس. يفعل بها ما فعل بالذيال، ولا يشفق على ظلاً من إعيال فلا تأمن هي وحلها الشبوب، نبلاً ربها للصيد ربوب. وقد أكثرت الشعراء في ذلك فقال " أبو ذؤيب ": والدهرُ لا يبقى على حَدَثانِه ... شَبَبٌ أَفَزَّتْه الكلابُ مُروَّعُ شغَبَ الكلابُ الضارياتُ فؤادَه ... فإِذا يرى الصبحَ المصَدَّق يفزع ويَعوذُ بالأَرْطَى إِذا ما شَفَّه ... قَطْرٌ، وراحتْه بَلِيلٌ زَعْزَعُ فغَدا يُشرِّقُ مَتْنَه فبدا له ... أُولى سوابِقِها قريباً توزَعُ فانصاع من فَرَقٍ وسدَّ فروجَه ... غَضْفٌ ضَوَارٍ: وافِيان وأَجْدَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ينهشَنْه ويذودُهن ويحتمي ... عبل الشَّوَى بالطُّرَّتين مُوَلَّعُ فَحَنا لها بمُذَلَّقَينٍ كأَنما ... بهما من النَّضْحِ المُجَدَّح أَيَدعُ حتى إِذا ما الثورُ أَقصدَ عُصْبةً ... منها وقام شريدُها يتضرع وبدا له ربُّ الكلابِ بِكفِّه ... بِيضٌ رِهَابٌ رِيشُهنَّ مُقَزَّعُ فرمَى لِيُنقِذَ فَرَّها فهوَى له ... سهمٌ فأَنقذ طُرَّتَيه المِنزَعُ فكبا كما يكبو فنِيقٌ تارِزٌ ... بالخَبْتِ إِلا أَنه هو أَبرَعُ فكأَن سَفُّودَينِ لمَّا يقترا ... عَجِلاَ له بشِواءِ شَرْبٍ يُنزَعُ فإن سلم من النوابح أخو الربل، فما يؤمنه بعد ذلك من النبل. قال " زهير ": فجالتْ على وحْشِيِّها وكأَنها ... مُسَرْبلَةٌ في رازقيِّ مُعَضدِ وتنفُضُ عنها غيبَ كلِّ خميلةٍ ... وتَخشَى رُماةَ الغوثِ من كلِّ مَرْصَدِ ولم تَخشَ وشكَ البَيْنِ حتى رأَتْهمُ ... وقد قعدوا أَنفاقَها كلَّ مَقْعَدِ وثاروا لها من جانبيها كليهما ... وجالت، وإِن يُجشِمْنَها الشَّدَّ تَجهدِ تَبُذُّ الأُلَى يأتينها من ورائها ... وإن تتقدمْها السوابقُ تُصطَدِ فأَنقذها من غمرة الموتِ بعد ما ... رأَت أَنها إِن تنظر النَّبْلَ تُقصَدِ نَجَاءٌ مُجِدٌّ ليس فيه وتيرةٌ ... وتذبيبُها عنها بأَسحمَ مِذْوَدِ وهذا في شعر العرب أكثر من أن تقام الأدلة عليه. وإنما جئت به كما يشير المحدث إلى أم شملة، ويريك راكب ليله الساهرة. وأما الجربة من العانات، فما تدفع شرور الصادة بمساناة. بينا هي ترتع في روضٍ أنقٍ وتكرع في غديرٍ ليس برنق، أتيح لها - والقدر أتاحه - فارس يقصر لقاحه، على قباء من الخيل المضمرة، ليست في شرب الرسل بمغمرة يسقيها المحض ويشر السمار، لتقيد له الأوابد ولا ضمار؛ أو سابح في الطلق غمر، أعانت به الأقضية على إدراك الأمر. فربه يهين الإبل ويكرمه، ويحرم عياله ولا يحرمه. وإنما يأمل به أموراً ليس هو إذا بلغها مقموراً: يعده لطلب ثأر يحسب أخذه أسنى الآثار، أو غارة يصبح بها عدواً، فيلطع مع الأشقر غدواً، أو نجاء في المأزق من سيف وسنان، إذا جشأت النفس الكاذبة لرعب الجنان؛ أو صيد يشبع به أطفالاً، ولا يوجد رأيه فيما صنع فالاً. حتى إذا أنفض عياله وفنى قوته لولا احتياله، عرضت له في آخر السبرة أتن وعلج، وما يطرح بقدره الفلج. فركب فرسه واثقاً به فحمله على العير وقبه، فطعنه في الفائل أو القرب، فروى من دمه صادي الترب. وربما كان ابن أخدر في عذاة قد بعد بها عن الأذاة، حتى إذا العطش حرقه وأمره بالمورد ليطرقه، ورد آملاً برد الماء يطفيء به ما استعر من لهب الأظماء. وقد سبقه إلى الشريعة أخو قوس ما يلتمس بها من أوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بصر بها في المنبت وكأنها حظوة نبال، فوقعت الحظوة بها في البال، فجعل يتعهدها على انفراد، ويحمل إليها رياً في الشعوب ليصل بها إلى المراد. ويخاف أن يصل إليها غيره فتسنح له بشر طيره. وهي في شقب بين جبلين جارة نبع أعيا الثقلين. حتى إذا علم أنها تصلح لما رجاه، عمد لعودها بالكرزن فنجاه. وما برح إليها ينغل، والسفن مراراً ينفل، حتى نال البغية وثوبه شبارق، وقد خرق كله خارق. فجذل بها يستأنس مناه، وأيقن أنه ظفر بغناه. ومظعها ماء لحائها زماناً وأشعرها من الندى الساقط أماناً، ثم أنحى بعد ذلك عليها الطريدة، فجاءت من ذات الأوتاد فريدة. ثم قرن بها مربوعاً فكانت للأجل ينبوعاً، واتخذ لها سهاماً صيغة، تظل يده بها الأنفس مريغة. وحملها بعد وذهب فاتخذ لها بيتاً من صفيح لعله يظفر بغير السفيح. فهو في دجى ليست بالمنجلية، صاحب نفس بالأهوال متخلية، قد دمر وما تدميره؟ إنما ذلك ليحسن عذيره. يخاف أن تجد ريحه قمر واردة، فترجع من الجزع وهي الشاردة. وله في ذلك المنهل جارة، إذا شحط عنها فالشحط تجارة. يسمع لها كشيشاً في الحندس وفحيحاً، ويردد من الخيفة والفرق نحيحاً. بعداً لها في الأرض من مجاورة؛ يروعه في الظلم زمالها، ولا تحدي للظعن حمالها. تأكل في مشتاها تراباً، وتهتبل في المصيف آراباً، تنفخ كدأب الملهوف، إن ذلك لتر من الهوف. وعنده قيان رمد، وهن لما كره حقاً عمد، يشربن دمه ولا يسقينه، وينفين عنه المهجع ولا يقينه، وكيف يهجع البائس على حذاره؟ أم كيف يئوب إلى أهله باعتذاره؟ حتى إذا الحقب وردن، وسوس فدعا ربه يسأله أن يكشف كربه، ويشبع من الوشيق سلقعاً لا يعرف غير الصيد شبعاً. فرمى والله رزقه، فصادف نضيه فريصاً خرقه. وذعرت الوحش الظامئة فانصرفت عن عين طامية. فكر بين المدرك أجله، والصادر ولم يقض منهله. وربما أحسسن بالقانص فنفرن، خائفات من التلف وما تغمرن. وهذا القصص قائم به الشاهد من الشعر الأول. ولا ريب أنه يفعل إلى اليوم، إذ كان خلقاً للصعاليك، وما حظره عليهم الإسلام ولا تبعهم فيه ملامٌ. قال " صخر الغي " يصف حمارين: ولا عِلْجانِ ينتابان رَوضاً ... نضيراً نبتُه، عُمّاً تؤاما كلا العلجين أَصعَرُ صَيعَريٌّ ... تخالُ نَسِيلَ مَتنيه الثَّغَاما فباتا يأْمُلان مياهَ بَدْرٍ ... وخافا رامِياً عنه فخاما فَرَاغا ناجِيَين وقام يرمي ... فآبَتْ نَبلهُ قِصَداً حُطاماً كأَنهما إِذا علَوا وَجِيناً ... ومقطَعَ حَرَّةٍ بعثا رِجَاما يُثيرانِ الجنادِلَ كابِياتٍ ... إِذا جارا معاً وإذا استقاما فباتا يحُييان الليلَ حتى ... أَضاءَ الصبحُ منبلجاً وقاما فإِمَّا ينجوا من خوفِ أَرضٍ ... فقد لَقيا حُتوفَهما لزاما وقد لَقِيا مع الإِشراقِ خَيْلاً ... تسوفُ الوحشَ تحسَبُها خياما بكلِّ مُقلِّصٍ ذكَرٍ عَنُودٍ ... يَبُذُّ يدَ العَشَنَّقِ واللجاما فشامَتْ في صدورِهما رماحاً ... من الخَطِّيِّ أُشرِبَت السماما وقال " امرؤ القيس ": رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مُخرِجٍ كفَّيْه من سُتَرِهْ عارضٍ زوراءَ من نَشَمٍ ... غيرَ باناةٍ على وتَرِه فأَتتْه الوحشُ واردةً ... فتَمتَّى القَزْعُ في يَسَرِه فرمَاها في فرائصِها ... من إِزاءِ الحوضِ أَو عُقُرِه بِرَهيشٍ من كِنانتِه ... كتلظِّى الجمرِ في شَرَرِه راشه من ريش ناهضةٍ ... ثم أَمهاه على حَجَرِه فهْو لا تَنمِى رمِيَّتُه ... مالَهُ، لا عُدَّ من نَفَرِه وقال " الرعي " وذكر صائداً: وفي بيتِ الصفيح أَخو عيال ... قليلُ المالِ يغتبقُ السَّمَارا يَبِيتُ الحَيَّةُ النضناضُ منه ... مكانَ الحِبِّ يستمعُ السِّرارا فصادَفَ سَهْمُه أَحجارَ قُفٍّ ... كسَرْنَ الفُوقَ منه والغِرارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فجالا جولةً لو لم يكونا ... ذَوَيْ أَيْدٍ تَمَسُّ الأَرضَ طارا وأما الأوعال العاقلة فقعدوا لها بالأسهم يقيناً ليس بتوهم، يرمون الشواكل ويجعلونها مآكل، ويطرفان من أشجار الجبال حيث لا يفرق من الليث الرئبال، ويردان ما جادت به السحب في إخاذ وقلات، وينصلتان المنبأة المستمعة أيما انصلات. قال " النمر بن تولب " وذكر الوعل: بِإِسْبِيلَ أَلقَتْ به أمُّه ... على رأْسِ ذي شُرَفٍ أَقْتَما إِذا شاءَ طالَع مسجورةً ... ترى حولها النبعَ والسَّأسَما تكونُ لأَعدائه مَجْهَلا ... مُضِلاًّ وكانت له مَعْلَما سقَتْه الرواعِدُ مِن صَيِّفٍ ... وإِنْ من خريفٍ فلن يَعدَما أَتاح له الدهرُ ذا وَفْضةٍ ... يُقلِّبُ في كَفِّه أَسهُمَا فأَهوَى إليه بِحَشْرٍ له ... ولن يرهبَ المرءُ أَن يَكْلِمَا فأَخرج من نَبْلِه أَهْزَعاً ... فشَكَّ نواهِقَه والفَمَا فظلَّ شبيباً كأَن الوَلو ... عَ كان بغِرَّتِه مُتْئِما أَتى حِصْنَه ما أَتى تُبَّعاً ... وأَبْرهةَ المَلِكَ الأَشْرَما وقال " ساعدة بن جوية ": تاللهِ يَبقى على الأَيام ذو حَيَدٍ ... أَدفَى صَلودٌ من الأَوعالِ ذو خدَمِ من دونِهِ شعَفٌ قَرٌّ وأسفلَه ... جِيٌّ تنَطَّقُ بالظَّيَّانِ والعُتُمِ يرودُ فيها نهاراً ثم مَورِدُه ... طامٍ عليه فروعُ القانِ والنَّشم موَكَّلٌ بِشُدوفِ الصَّومِ يَرقُبها ... من المغارب مخطوفُ الحَشَى زَرِمُ ثم يَنوشُ إِذا آدَ النهارُ له ... مع الترقُّبِ من نِيمٍ ومن كتَمِ حتى أَتيح له رامٍ بمُحدِلة ... جَشْءٍ وبِيضٍ نواحيهن كالسَّجَمِ دَلَّى يديه له قصراً فأَلزمَه ... نَفَّاحَةً غيرَ إِخطاءٍ ولا شَرَمٍ فجال منه بأَعلى الرَّيْدِ ثم كبا ... على نَضِيٍّ خِلالَ الجوفِ منحطمِ وقال آخر يصف رجلاً متصعلكاً: لا مالَ إِلا العِطافُ تُؤزِرُه ... أمُّ ثمانينَ وابنةُ الجَبَلِ لا يرتقى النَّزُّ في ذلاذِلِه ... ولا يُعَدِّي نَعلَيه من بَلَلِ عُصْرَتُه نُطفةٌ إِلى لَصَبٍ ... مما تناهَى له من السبَلِ ومُضْغَةٌ من بَناتِ شاكِلَةٍ ... لو لم يُرِغْها بالقوسِ لم تُنَلِ والنعام، ركب عليها الفارس فإذا سنانه وارس. حمل على خيط راتعلها في النهار الماتع، ونعم في خصيب العشرق، فعاد كله بجرض الشرق فرق بين ربداء وظليم، ولم يكن في المقارنة بمليم. وطعن أم الرأل فهوت بين الأجرال. وكانت صاحبة أدحى قد نأت عن أهل الحي. وتلك الودائع، شهد الله، في ضمائر الزعر المتأبدات، أنفس من الغرائب البحرية عند الغيد المتقلدات. وربما راحت وهي زعلة تواجه إليه ريحاً ومطراً وقد وضعته في المقفرة سطراً، كما قال " ابن أحمر ": فما بيضاتُ ذي لِبَدٍ هِجَفٍّ ... سُقِينَ بِزاجلٍ حتى رَوِينا وُضِعْنَ وكُلُّهن على غِرارٍ ... هجانَ اللونِ قد وُسِقَتْ جَنيناً وقد يصادف ثفلها جاني كمأة أو راع، فيفجعها غير مراع. فتجزع لذلك الأمرين، والهاً تحرب بزهاء العشرين. كيف لها، والله عليم، أن يجعل خالقك ريشها نبلاً فترمى بها من سعر فؤادها تبلاً؛ ومنقارها النابي جرازاً أو لهذماً، لتخلف حبل من عادته جذمها؟ قال: فيوماً على بُقْعٍ دِقاقٍ صدورُه ... ويوْماً على سُفعِ المدامع رَبْرَبِ وقال " ذو الرمة ": وبيضاء لا تَنحاشُ مِنا وأمُّها ... إِذا ما رأَتنا زِيلَ منا زَوِيلُها نَتُوجٍ ولم تُقرَفْ لما يُمتَنَى له ... إِذا نُتِجتْ ماتتْ وحَيَّ سَليلُها وقال " الشماخ ": وبيضاءَ من سوداءَ قد صِدْتُ صاحبي ... ولادةَ صِعْوَنَّينِ حُمْشٍ شَوَاهُما وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وبيضاءَ قد رفَّعتُ عنها بقَفْرةٍ ... سماوةَ صَعْلٍ كالخِباءِ المُقوَّضِ هجومٍ عليها نفسَه غير أنه ... متى يُرْمَ في عينيه بالشبْحِ ينهضِ وأما أدم الظباء الراتعة وعفرها، فما أنجاها من بني آدم نفرها. كم جرة تنصب لأدماء حرة، وحبالة جعلت الظبي وشيقاً في بالة؟ واتخذوا أهبها للخير مواطن: ففيها تسطر كتب الله عزت كلمته، فهل تصيب من أجل ذلك نوارها رحمته؟ وفيها تكتب صدقات النساء وأوصار الأمم في العاجل والنساء. ما رق الصائد لطرف ما هو من الكحل بخلي، وجيد حسن وإن عطل من الحلي. والكلاب لصيدها معدة، وإذا توسد فإنها مرمدة، وقد يجمعون - والله عليم - لأذاتها المعلمة من الكلاب والطير، فلا إليه إلا الله، ما لقيت النافرة من الضير! إن بعد بها عن الناب الشد، فإنها بالصقر تحد. والعقاب الشغواء اتخذها بعض الناس، لتروع أظبى الكناس. وأما الخزز والعكرشة والسمسم - ويحه! - والثرملة، فلقين أصناف البرجين مما كلب ولد الإنسان. كان: الخزز في أنيق أرض، مرازماً في العيش بين خلة وحمض، فبكر عليه القانص بأجر أو بارز، وكلب يرتبط أباز. وكانت العكرشة حابلاً أو خروساً قاعداً عن الولد عروساً، فجاءها الضاري والجارح بما يسلب حليلة من حليل ويذهل الخليل المشفق عن الخليل. فإما أن تغدو أيماً وإما أن يكون ولدها موتماً. وأما الصيدن، فما ينقذه من ذلك أريب احتيال، ولا يفلت من القنص بالإيال. خرج يكتسب لصغار، فحيل بينه وبين الغار. وقد تكون الثرملة مرضعاً فيعود السوذق لها مبضعاً. وكل ذلك بقدر من الله. وليس ابن آدم فيما فعله بالذميم، إنما أجرى من الشيم إلى ما هو مباح حل، وأطلقه للعبد الإل. وقد عمد إلى ذوات الجناح، بمثل ما قصد به ذوات الأربع من الجناح. فأعد لخشاشهن ما يلحق بن أظفار المنية من المنسر أو المخلب، والشرور أردأ المجتلب. كم فجعوا فرخاً بحمامة كانت تنزل على السمامة، فتركوا جوزلها وهو مضاع، إذا سمع حساً ينضاع! وكم منعوا الحاضنة من النتلة، فاجتثوا أصلها من غير عتلة! وأما الضب، فما وأل بطول التجربة، من أيد للأجل مقربة. وقد حذر الحسلة من الحرش، فما ودى ذبيحها بأرش، ولا عصمه أمثال مضروبة هي إليه فيما تزعم العرب منسوبة، وأكلوا مكنه من غير تحرج، وحالوا بين الضبة وبين التبرج. وصادوه حائلاً وساحياً، وحفرت الكدية على ضاحياً ووجدوا في عنقه أطواقاً بيضاء شهدت له بذهاب الحقب وبقائه من بعد قبيضاً. ما تركوه لاهياً بالعترة ولا العرارة والعرفجة خالياً من الشرارة. وقال " أبو وائل شفيق بن سلمة ": " ضب مكوى أحب إلى من دجاجة سمينة " فإذا قال مثل ذلك أحد التابعين، فما ظنك بأشابة راثعين؟ قال الشاعر: ذكرتُكِ ذكرةً فاصطدتُ ضَبّاً ... وكنتُ إِذا ذكرتُكِ لا أَخيبُ وقال الشاعر: بَشِّرْ يرابيعَ المَلاَ وضِبابَها ... أَنْ قد غدا حَمَلُ بنُ زيدٍ ثاويا قد كان يُذلِقُها ويُعْجِلُ بعضَها ... عَبْطَ المنِيَّةِ رائحاً ومغاديا وأنشد " أبو السراج " في كتاب المعاني: تناولتُه من بيتِه أَحْرَشَ القَرا ... أَرَشَّتْ عليه المُدجِناتُ الهواضِبُ تخاطَأَه المقدارُ حتى أَصبتُه ... وخُرطومُه في منقعِ الماءِ راسبُ وأنشد " الشيباني " أبياتاً وفيها إقواء وخرم في غير البيت الأول، والأبيات: أَرَّى بكَفَّيه وأَقعس رأْسَه ... وحَظْرَبَ نَفخاً مَسْكُه فهو حاظِبُ فلما وجدتُ القَبْصَ يزدادُ فترةً ... وأَيقنتُ أَن الضبَّ لا بد ذاهبُ قُمتُ وعِيدانُ السليخةِ قد جذَتْ ... جُذُوَّ المرامي بين بادٍ وغائبِ وآخَرُ أَبْدَى عن ضُلوعيَ خَدْشُه ... ومستمسِكٌ نضنضتُه فهو ناشب ودَبَّ على صدري دبيباً فليتني ... مع البُرْصِ الزرْقِ العيونِ الحناظبِ خليل عراب بين حَزْمَينِ يرتعي ... أَعاشيبَ مَوْليٍّ سقَتْه الهضائبُ وقالوا في الحث على أكل الضب: إِنك لو ذُقتَ الكُشَى بالأكبادْ لَما تركتَ الضبّ يعدو بِالوَادْ وقالوا: أَطْعِمْ أَخاكَ من عَقَنقَل الضَّب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إِنك إِنْ لا تُطعِمَنْه يَغضَب وقالوا: عندي دواءُ الهُدَبِدْ كُشْيَة ضَبٍّ بكَبِدْ وقال رجل من بني سعد أتى جبلاً يقال له طمرة فأرك به وأكل من ضبابه: واللهِ لولا أَكلةٌ بِمِرَّهْ ... بِكُشْيَةٍ بكَبِدٍ بظَهْرَه لقد خَلا مِنَّا قَفَا طِمِرَّه وأما اليربوع، فهو في الوطن مسبوع. نفق ورهط وعنق لنفسه وقصع، واتخذ لنفسه دممة وسابياء، وكل ذلك هرب مما قدر وهيهات! " ببقة قضى الأمر ". " لا المرء في شيء ولا اليربوع ". ومشهور عند رواة الأخبار أن طوائف من العرب تأكل الفأر. وقد ادعوا ذلك على " أبي وجزة السعدي " وكان أحد القراء والمجيدين من الشعراء. وقيل لبعض الأعراب: ما تقول في لحوم الحيات؟ قال: أنا منها بين شواء وقدير، وما أكره نيئها إن أعجلني سفر! وهم الذين عمدوا لبنات اللجة بالحيل، فرموها من المأمن بالغيل. وأي شيء من أحناش الأرض لم تنزل به من القوم شصية! إنهم إما أكلوه وإما قتلوه. وكثير من الهوام يتخذونها في الأشفية، وخطوبهم ليست بالمصفية. يحرقون الشبوات في بعض الهنوات، ويستعملونها في الأدوية، وإنما ذلك لحكمة غير المغوية. فهذا كله تأسية لك على ما تلقاه في دأبك من أين، والله محصي الأثر وبادي العين. ألست رائياً ما نزل الجوارس في الأيام الومدة والقوارس؟ بكرت في كحلاء وسحاء تكتسب من غير لحاء، ما رزقها ربها لغرض مطلوب، وقضاء الصمد غير مغلوب. جمعت الضرب من شت، وأيقنت أن الأمل غير منبت، لأنها سمت بالأرى المكتسب إلى جبال سامقة، تشحط عن العيون الوامقة. فلما ظنت أن القدر عنها غافل، أشب لها من الشارة غوى قافل. فلما طلع بالمسأب وخرصه، وهجم على التلف الناس حرصه، جلاها بالإيام فتفرقت، وفجع الثول بقوت، وأصبح إلى الخشرم جد ممقوت وكم قتل قبل ذلك من الدبر، وما أذاتك صاحبك بخسيس من الشبر. إن خطب الزمان لجلى، تكسب النحل ويشتار " الهذلي " قدر من ربك بدي، تجنى الأرية عن الأنوار، ما يلسب فقير أزدي، - " يعقوب " يختار السين فيقول: أسدي - وقد وصف ذلك جماعة من القالة، وذكروا ما يلقى دون ذلك من سوء الآلة. قال " أبو ذؤيب ": وما ضَرَبٌ بيضاءُ يأْوِي مَليكُها ... إِلى طُنُفٍ أَعيا بِرَاقٍ ونازِل تُهالُ العُقَابُ أَن تَمُرَّ بِرَيْدِه ... وترمِي درُوءٌ دونَه بالأَجَادِل تَنَمَّى بها اليعسوبُ حتى أَقَرَّها ... إِلى عَطَنٍ رَحْبِ المَباءَةِ عاسِل تدَلَّى عليها بالحِبَالِ مُوَثقاً ... شديدُ الوَصاةِ نابلٌ وابنُ نابِلِ إِذا كان حَبْلٌ من ثمانينَ قامةً ... وخمسينَ باعاً، نالَها بالأَناملِ فَحَطَّ عليها والضلوعُ كأَنها ... من الخوفِ أَمثالُ السهامِ النَّواصِل إِذا لَسعتْه النحلُ لم يرجُ لَسْعَها ... وخالَفها في بيتِ نوبٍ عَواملِ فشَرَّجَها من نطفةٍ رجَبِيةٍ ... سُلاسِلةٍ من ماءِ لَصْب سُلاسِل وقال " ساعدة بن جوية ": فما ضَرَبٌ بيضاءُ يسقى دبوبهَا ... دَفاقٌ فعروانُ الكَراثِ فضِيمُها أُتيحَ لها شَثْنُ البنانِ مُكدَّمٌ ... أَخو حُزَنٍ قد وقَّرتْه كُلومُها رأَى عارضاً يَهوِي إلى مُسْبطِرَّةٍ ... قد احجَمَ عنها كلُّ شيءٍ يرومُها قليلُ الأَتاءِ غيرَ قوسٍ وأَسهمٍ ... وأَخراصه يغدو بها ويُقيمها فما بَرِحَ الأَسبابُ حتى وضعنه ... إلى الثوْلِ يَنْفِي جَثَّها ويَؤومُها فلما دنا الإبرادُ حَطَّ بِشَوْرِه ... إِلى فَضَلاتٍ مستحيرٍ جُمومُها إِلى فَضَلاتٍ من حَبِيٍّ مُجَلْجَلٍ ... أَضَرَّتْ به أَضواجُها وهُضومُها فَشَرَّجَها حتى استمرَّ بنُطفةٍ ... وكان شِفاءً شَوْبُها وصَميمُها فذلك ما شبَّهت يا أُمَّ مَعْمَرِ ... إِذا ما توالى الليلُ غارت نجومُها وقال " نابغة بني جعدة ": وكأَنما أَنيابُها اغتبقتْ ... بعد الكَرَى من طيِّبِ الخمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 شرِكاً بماءِ الذَّوبِ تجمعه ... في طَوْدِ أَيْمَنَ من قُرى قَسْرِ قُرْعُ الرءُوسِ لِصَوتِها جَرَسٌ ... في النبْعِ والكَحْلاءِ والسِّدْرِ ولِلَيْلِها جَلَبٌ إِذا عَتَمتْ ... وتَبِيتُ عاذبةً كذِي النذْرِ بَكرتْ تَبَغيَّ الرزقَ في مُسُلٍ ... مخروفَةٍ ومساربٍ خُضْرٍ لبِثتْ قليلاً ثم خالَفها ... متسربِلٌ أَدَماً على النحْرِ صَدَعٌ أُسَيِّدُ من شنوءَةَ مش ... اءُ قتَلْنَ أَباه في الدهر يمشِي بقِرْبَتِه ومِحْجَنِه ... مُتلطفاً كتَلَطُّفِ الوَبْرِ يَحْبُو إِذا خافَ القِيامَ على ... رَصَفٍ يَزِلُّ بِأَكرُعِ الغُفْرِ فسما إِليها في مراتبِها ... فأَتى بسَبْعِ ضَوائنٍ وُفْرِ فأَصابَ غِرَّتَها ولو علِمتْ ... حَدِبْتْ عليه بِضَيِّق وَعْرِ وأما دعواك نظام الشعر، فخلة لا تفتقد معها زلة. إذا جاء الروى فضح الغوى. ولو قيل إن القافية لأنها تقفوا الجاهل بها، أي تعيبه، لكان ذلك مذهباً من القول. والقريض ماشه أم أدراص، ومن سلكها غير خبير فكأنما سقط من ثبير. نحن معاشر الجبهة أولى بالعرب من كل الحيوان. وفينا ورد جيد الشعر العتيق، وإيانا ذكرت الفرسان السالفة والفصحاء المفتخرة، بالإيثار على العيال: الولد والأم والعرس. قال " الأخطل ": إِذا ما الخيلُ ضيَّعها أناسٌ ... ربطناها فشاركت العيالا نُهِينُ لها الطعام إِذا اشتوينا ... ونكسوها البراقعَ والجِلالا وقال " عنترة " - ويروى لغيره -: لا تذكري فرَسي وما أَطعمتُه ... فيكونَ جلدُكِ مثلَ جِلْدِ الأَجربِ َذَبَ العتيقُ وماءُ شَنٍّ باردٍ ... إِن كنتِ سائلتي غبوقاً فاشربي وقال " أبو داود الإيادي ": عَلِقَتْ هامتي بعض ما يم ... نَعُ مني الأَعنةَ الأَقدارُ وانجرادي بهن نحو عدوِّي ... وارتحالي البلادَ والتسيارُ تلكمُ لذتي إلى يومِ موتي ... إِنَّ موتاً وإِن عمرتُ قُصارُ وقال " العبدي ": أَلاَ هَلْ أَتَاها أَنَّ شِكَّة حَازمٍ ... لديَّ وأني قد صنعتُ الشَّموسَا وداويتُها حتى شَتَتْ حَبشيةً ... كأَنَّ عليها سندساً وسدوساً قصرتُ عليها بالمَقِيطِ لقاحَنا ... رباعية وبازلاً وسدِيساً فآضَتْ كتَيْسِ الرَّبْلِ تنزو إِذا نزتْ ... على رَبذاتٍ يبتدرْن خنوساً وقال آخر: ويترك قيساً وقَيْسٌ له ... عناجيجُ آخِذَةٌ بالنَّفَسْ يُقرِّبُها دونَ أَبنائه ... ويُلحِفُها بُرْدَه في القَرَسْ وقال " الضبي ": نُوَلِّيها الصريحَ إِذا شَتونا ... على علاتِها ونَلِي السَّمارا وتُمكِنُنا إِذا نحن التقَيْنا ... من الأَذْوادِ نَهْباً واقتِسارا وقال " الجعفي ": باعُوا جوادَهُم لِتسمَنَ أُمُّهم ... ولكي يكونَ على فِراشهمُ فَتَى لكنْ قعيدةُ بيتِنا مجفُوَّةٌ ... بادٍ جناجنُ صدرِها ولها غِنَى راحوا بصائرُهم على أَكتافِهم ... وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وَأي وقال " طفيل ": إِني وإِن قلَّ مالي لا يفارقُني ... مِثلُ النعامةِ في أَوصالِه طولُ تقريبُه المَرَطى، والجَوْزُ معتدلٌ ... كأَنه سُبَدٌ بالماء مغسول ومثل هذا كثير لا يدرك. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسح وجه فرسه بثوبه.. نكون حجباً للطرف، ونشم أرج المعرس، وتنشق أنوفنا دخان الرمث وتنظر عيوننا إلى نار الزحفتين؛ ونشاهد ما تدحوه النعائم لتريكها النضيد، والمكاء يتخذ عشه في اليعضيد؛ ونسمه زمار النعامة وعرار الظليم وترنم القائل إذا جلس في خبائه مع الخريدة؛ وارتجاز المتلبب للقاء الكريهة. ونحن بعد شركاء القوم في الطعام والكسوة ومحل الأجسام. وليس فينا من يزعم أنه يقدر على موزون القول، وإنما ذلك فضيلة للإنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أرأيت السالف من الخيل المتقدمة، ك: أعوج والوجيه ومذهب وقيد وبذوة وحلاء وسبل وذي الصوفة والخزز وزاد الركب، وغيرهن من فحول الخيل وإناثها، لم يرو لفرس منها شعر. وأولاها بارتجال الأوزان واقتضاب الرجز والقصيد، ما كان منها في ملك الشعراء. لأنها تأذن لشدوهم بالأشعار وهم جلوس فوق الصهوات، كخيل: " الكندي، وعدي وأبي داود، وطفيل ". ولم يأت عنها بيت من ذلك ولا مصراع. وتلا خيل العرب في التكرمة، إبلها السائمة والمستعملة. وإنما جمهور الموزون الذي نقل عن العرب، في الخيل والإبل والنساء. فهل سمعت أحداً من الرواة نسب إلى الناقة أو الجمل بيتاً أو بيتين؟ والمنثور من الكلم جنس للمنظوم. وعلى حسب ما يتسع في القول المتكلم، يتصرف لدى النظم الشاعر. ولذلك صح أن العرب أوفر الأمم حظاً في الموزون، لأن لغتهم تستبحر وإن لم تبن منها أوزان الشعر. وقد علمت أن صوتك له نوعان: الحمحمة والشحيج، وكلاهما لا مسلك له في الموزونات، لأن الكلمة إذا اجتمع فيها ساكنان يتوسطانها لم يمكن أن تنظم في حشو البيت العربي إلا في موضع واحد، كقوله: فَرُمْنا القِصاصَ وكان التَّقاصُّ ... فرضاً وحَتْماً على المُسلمينا وليس ذلك بمعروف ولكنه شاذ مرفوض. وما شذ من كل الأسماء فإنه لا ينكسر به القياس. وإذا كان الساكنان جمع بينهما في آخر الكلمة وقف وسكوت، فإنما يستعمل ذلك في أواخر أوزان معروفة، تسعة أو عشرة، كقول القائل: جاءَ شقيقٌ عارضاً رمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رماحْ هل أَحْدَثَ الدهرُ لنا ضُؤلةً ... أَم هل رَقَتْ أمّ شَقيقٍ سلاحْ وكقول " عمرو بن شاس ": وكأسٍ كمُستدمي الغزالِ مَزجتُها ... لأَبيضَ عصَّاءِ العواذلِ مِفضالْ كآدمَ لم يُؤثِرْ بعِرنينِه الشَّبَا ... ولا الحبْلُ، تخشاه القَرومُ إِذا صالْ في أشباه لذلك. والإبل أكثر افتناناً في الأصوات، لأن من أصواتها: الحنين والأطيط والسجع والتحوب والعجيج والجرجرة، والهدر وأصنافه وهي: الفحيح والكتيت والكشيش والقصف والقرقرة والزغد والشحشحة والقلخ. ومن أصواتها الرغاء والبغام. وكل ذلك، على اختلافه، لا تتألف منه الأوزان. وكذلك أكثر أصوات الحيوان، لا تعتدل ولا يمكن دخولها في المنظوم، لأنها تقطع الأجراس أو تمد، فيكون كالذي جمع بين ساكنين أو أكثر. ألا ترى أن العصفور أقصر أوصاته إذا حكى، حرف متحرك بعده ساكن، ولو تابع ذلك مقطعاً لعرف لصوته حد، ولكنه يواصل بغير فصل فيخرج قريه إلى غير أصوات الآدميين. والغراب إذا حكوا صوته قالوا: غاق. وذلك متحرك بعده ساكنان، إلا أن تكسر القاف فيصير ساكناً بين متحركين. ومن تأمل صياح الغربان وجدها في بعض الأوقات تبدأ بمتحركين بعدهما ساكن، ثم تمد فيصير ذلك في الحكاية أربعة أحرف. وقد يجوز أن تختلف أصوات الغربان يحسب اختلاف الأرضين والأحيان. وهذا الأمير - أعز الله نصره - الذي أومأت إليه، عارف بغوامض القريض، فإنما يحمل التمر من حضرته إلى " هجر " وتهدي الزهرة من مجلسه إلى الروضة العميمة، ويسافر بالنغبة من علمه إلى البحر الزاخر. وما أغناك أيها البائس أن يضحك منك في الآدميين، وأن تصير هزأة في جنسك!. ومن بديع ما خطر لك، توهمك أن إلى إفهام بني آدم سبيلاً للحيوان: إنما يعلم الرجل ظمء فرسه بصوت يسمعه لم تجر العادة بمثله في حال الري. وكذلك يعرف طلبه للقضيم أو المرتع، ونزاعه إلى ما فرق من الخيل. فأما أن يقول حيوان ليس بالناطق كلاماً يفهمه عنه الإنس فمتعذر ذلك. وكل ما تسمعه من دعوى العرب، فإنما هو على معنى المجاز وتصور الشيء بالصورة التي ليست له. وإنما مثلك فيما سألتني من إبلاغ مدحتك إلى حضرة " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " مثل الذئب لما وصفه " الحارثي " وذكر ماء ورده فقال: وماءٍ كأَن الطحلبَ الجَوْنَ فوقَه ... طروقاً على أَرجائه ثائرُ الغِسْلِ وجدتُ عليه الذئبَ يَعوِي كأَنه ... خليعٌ خَلا عن كلِّ مالٍ ومن أَهْلِ فقلتُ له: يا ذئبُ هل لك في أَخٍ ... يُجازِي بلا غُرْمٍ عليكَ ولا خَذْلِ فقال: هداكَ اللهُ إِنك إِنما ... دعوتَ لما لم يأْتِه سَبُعٌ قبلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فلستُ بآتيه، ولا أَستطيعُه ... ولاَكِ اسقِني إِن كان ماؤك ذا فَضْلِ فيجوز أن ينطق الله تعالى الشاحج فيقول: الإكثار مظنة العثار. ومثلي ومثلك، مثل متخذة النؤور والسيطل، قرعته قرعة خفية فأجابها بصوت طال واتصل، ودخل في السمع بقوة فأفرط وقد حان منصرفي الليلة، ولولا ذلك لكان جوابك أقرب من البرة إلى الناقة ومن المرضع إلى الإفاقة. وإن كانت لك إقامة إلى الغد، أجبتك جواباً مرضياً إن شاء الله، على أن المثل السائر: " ربما كان السكوت جواباً "؛ لا سيما إذا كان القول إزراء بالمستمع وطعناً من القائل. والعي أبأس من الشلل، واللسان يبين عن الإنسان مثل ما انبأك عن لون طرف، وخبرك عن روض عرف. فيمضي الشاحج إلى مربطه، ويبيت الصاهل بمكانه. حتى إذا الصبح وضح، عاد الشاحج على الأدراج، حتى إذا كان من الصاهل بالمرأى والمسمع، أنطقه الله، إن شاء الله، فقال: أي التحيتين أحب إليك: أتحية الجاهلية؟ . فنعم صباحك. أم تحية الإسلام؟ فسلام عليك. فيرد الصاهل بتكرهٍ. ثم يقول الشاحج: أما أنفتك من خئولتي، فإن الأنف أخو الشنف، وكل متكبر مقيت، ورب عبد هو أزكى من سيده. وأمةٍ برئت من الآمة، أفضل من الحرة لحقت بها الملامة. وأنساب الحيوان أمر مخبوء. وما يدريك لعل " المرتجز " خالي، و " الدلدل " من أسرتي، و " يعفوراً " أبي أو عمي؟. والجسد على النفس كريم، ولعل في ظن المننة أن ابنتها أحق بالحلى من الفتاة الحسنة. ولعل في نفوس الكروان أنها أحسن من الطواويس. ولولا الإسلام لم تسلم أدقاء العرب الشرف إلى بني عبد مناف. و " سلمان " عند الميزان أرجح من الهرمزان، و " خباب بن الأرت " وإن كان ينتسب إلى النبط، قد قرع من ينتسب في القبائل ذوات الحسب. وما تعترف الحبشة في ديراها أن أمة من الأمم أفضل منها في السؤدد. و " بلال بن حمامة " لا يدعى ل: " كعب بن مامة " و " صهيب بن سنان " لا يقر بالمنة ل: " زيد بن جدعان " والأراكة في نفس الظبية التهامية، أشرف من الرقلة عند حرة يمامية. والسدرة للعالقة أنفع من السحوق السامقة. والسائس في الجمازة وهي من اللبد، يحس الدابة ويرى أه أولى بناصيتها من مالكها. ويغدو الهاجري بالمسجة على المجدل، وما يرتاب في أنه أحق بالطارقة من الربيب. وعلى ذلك جرت العصور السالفة. وغرائز الحيوان قلما تعترف بالفضيلة، بل تجد أدنياء العالم يدعون الفضل على أهل الأقدار، والمنغمسين في الضعة تلهج ألسنتهم بالافتخار. وربما صورت الغريزة لصاحبها ما يقع الإجماع على بطلانه. تظن السمجة أنها جميلة، والقصيرة أنها فارعة، واليد البخيلة أنها سمحة؛ وإنما يحمل على ذلك قلة التمكن من المعقول. ومن كان ذا وفارة من اللب كان بالعكس من هذه الصفة، لأن علقه يعلمه أن الله تعالى قادر على أن يخلق من يفضله. والحازم يرى التواضع فرضاً لازماً، والأخرق يرى التكبر حظاً جزيلاً. وكل شجرة لا تقدر على عدوان الثمرة: فشجرة العفز لا تثمر بلساً، والسلمة لا يمكنها أن تجنيك ثعداً، والأراكة لا تونع إلا بمرد وبرير. ولو تكبر سنان الرمح فقال في نفسه: إن الله رفعني فوق أدوات الحرب، لجاز أن يطعن غب ذلك فينحطم فيصير إلى الهالكي، فيجعله مسماراً في حافر هجين مقرف، ولعل النسر تكبر وهو في أعلى اللوح وأعجب بأنه ارتفع إلى مكان لا يبلغه كثير من الطير، فلم يلبث فنظر فإذا مكانه أخفض من أماكن خشاش الطير. ولعل الماء تواضع وهو في قعر البحر فبعث الله " تعالى " لساناً من السحب فرفعه إلى حوض المزن؛ ثم إنه تكبر فنزل لوقته إلى القرارة المنخفضة، فصار طوفاً كديراً تخبطه أخفاف الإبل ويعافه الصادي والعطشان. وأما زعمك أني ادعيت قرابتك، فلون الحبشي شهيد أنه حامي، وتحطم الدرين أخبرك أنه عامي، ومشى الدابة على أربع يعلم أنها بهيمة، وصئي المقعد ينسبه إلى العكرمة دون كل قربى. فالجنسية قرابة بين المتجانسات. ثم يتفرع ذلك إلى ترتيب الأنواع: فالحيوان كله جنس بينه تقارب بالجنسية، فقد جمعتني وإياك الحيوانية وكوننا من ذوات الأربع قرابة ثانية. وأخص ذلك أننا من ذوات الحافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وجائز في المنطق أن يقول " العبسي عنترة " للرجل من ولد حام لا تضمه وأم العبسي قبيلة من قبائل الحبشة ولا بلد من بلادهم: يا خالي. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول للرجل من هلال بن عامر: " يا خالي " لأن بعض نسائهم ولدت بعض أجداده صلى الله عليه وسلم. وقد يقول الشاب المقتبل للشيخ المسن، وليس بينهما قرابة ولا معرفة: يا عم. وهو يريد التقرب منه والتحنن. وكذلك يقول الشيخ الكبير للفتى الناشيء: يا ابن أخي. وجار على ألسنة العامة والخاصة، أن يقول أحد المتجاورين للآخر: يا أخي؛ وأحدهما رومي والآخر فارسي أو عربي. وإنما الغرض في ذلك التودد، وأن آدم - صلى الله عليه وسلم - ولد البشر كلهم، فكما أنه يقال للرجل: ابن آدم، وبينهما من الآباء ما الله به عليم، فكذلك يكون الرجلان أخوين للآدمية. وذوات الجناح كلها إخوة لمكان الريش، وإن كان بعضها يعدو على بعض، وسباعها تقتنص بغاثها، غير حافلة بقرابة الجنس. وما أفقر العلج الوحشي إلى دعوى الصليانة وهي في فيه! وهل يقيم الظبي الراتع بينة على تلك الحلية وقد جعلها بين فكيه؟ وليس بالضب حاجة إلى إدعاء العترة النابتة عند الكدية، وهي تشمى شجرة الضب. والله تعالى جعلني وإياك قرنين فقال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها ". والأتن في أكفها لا تسلم الفضل إلى الخيل في سروجها. والعتارف على السباطة لا تقر للظلمان بالمفازة. ولو تنافر ديك وظليم لجاز أن يقضي لديك. وأما أمرك إياي الصبر، فإن فضل ربنا لا يحظر، والفرج من عنده ينتظر. وكيف لا تأمر نفسك بذلك إذ تبحث بيديك تطلب الشعير وقد علمت أن من أجلك حمل على البعير وأنه آتيك لا محالة؟ فهلا صبرت ساعة حتى يأتيك به سائسك من قبل ظهور جشعك وحرصك؟ وكذلك تحمحم تريد الماء، وربك ما بسط لك الأظماء، وقد اشترى الشعيب الموثقة ليرويك بها من بارد النزوع؛ وقد رأتيه يؤثرك بلبن صراح، أفحسبته ممنعك من القراح؟ إن ذلك لظن أفين. وإنما مثلي ومثلك، مثل رجل سأل آخر أن يرشده إلى الطريق فأراه الفرقد أو الجدي، لقد أبعد عن الهدى! أو مثل ظمآن استسقى في المقيظ فقيل له: إن بمكان كذا مدهناً يمتليء من وسمي الربيع، وأني له بذلك ومطلع الذراع ما كان، لا غيرها من النجوم الأسدية، وإنما يرجي برد الليل بعد مطلع سهيل؟ ومثل رجل آخر استطعم رجلاً من لحم جزوره، فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ إن جبل كذا من أجبال السراة، وهو منا على ست أو سبع، ينبت النبع، فاذهب إليه فاختر حظوة على عينك، ثم اصنع لك منها قوساً، فاقعد بها على موارد الأراوي، فإن لحمها رخص؛ وقد قال الأول: أَقولُ لِعَمْرٍو إِذ مرَرْنَ بَوارِحاً ... وهُنَّ لنا الإِكثابُ والصَّيْدُ مُخلِقُ أَلا إِنما التمرُ الذي أَنتَ آكِلٌ ... هوَ الأُهْبُ والمستَرخَصُ المتمزِّق فَعِنْهنَّ أَو فاسبُبْ فتلك رِمايةٌ ... لها عند دَبَّاغِي تهامةَ مَنفقُ فأحسن الله جزاءه على بعد الإرشاد! من حسن عمله حسن قوله. وأبى حفل الناقة المعذرة، ومراح السوام لن ينجي الباخل من لذع اللوام. اضرب العراقيب فأشبع ضيفك وأطعم اليعاقيب. واحلب في إنائك للعيمان إذا نزل بفنائك، فركب يشكرها لديك أولى بما في صحنك ورفديك من نساء يشربن المحض ويقين، ولا تعرف من خبرهن اليقين. ولعل ما جمعنه في العضد والساق عن ألبان لقح مناق، كان متعة معاديك، ولا يشكر ما فرط من أياديك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وأما ذمك بني آدم وصفتك إياهم بالعنف المفرط، فإن إحساناً سبق فريق، وإكراماً ما ترك لك مراماً: بغوك العض بالذهب فأطعموك، وقربوك في المنازل فأكرموك؛ وحبوك في الربيع الباكر نضيراً وسقوك في الزمان الومد بارداً نميراً؛ ولحفوك بثيابهم في الفرس وآثروك على عيالهم بالقوت واللبن؛ وصانوك أن تنزو فتضعف قواك، أو تطرق حليلات لسواك فيجيء ولدك مشهوراً في الحيوان! وقد زعم بعض العلماء أن " أخدر " كان فرساً لبعض الملوك، فذهب في الأرض فتوحش، فولده - لما طرق الأتن - يضرب به المثل في حمير الوحش! وهذا قول حكى وما زكى، لأن ولد الفرس من الأتان بغل. وإنما ذكرت ذلك لأنه شيء قيل، ولعله من أحاديث الأعراب الذين يزعمون أن الجن تلد في الإنس، وأن " سنان بن أبي حارثة، صاحب الحمالة " وهو شيخ فإن ركب ناقته والحي بنخل، فذهب في الأرض فلا يعلم له خبر إلى اليوم، وأن الجن أخذته فاستفحلته! فزاد الله عقولهم من الخسارة! وأي فحلة كانت فيه وقد بلغ أكلأ العمر؟ أفأعوز الجن صبي يأخذونه فيربونه للفحلة ويستقبلون به عنفوان الشبيبة؟ والذي يشهد به المعقول أن أخدر حمار معروف. ويقال إنه حمار أهلي توحش فعسب في عانات الوحش، وولده في سيف كاظمة إلى اليوم وما أحسبك تطيق كلفة البر. لو أنك وردت ماء بصنيبعات، ورد وحوش مرتبعات. فألفيت ماءها قد نضب، لضاق مذهبك عليك. أو لو زرت عين أثال وغمازة تريد المورد، لجاز أن تلفى عليها صائداً يلتمس وذراً من لحمك رائداً، إذ كنت أكثر من العير نحضاً، وأشد إشباعاً للدردق عدموا قرضاً. وقد علمت أن فارسك يسقيك من الجرور المطلب إذا طلعت الشعرى العبور. ومن إنعام بني آدم عليك أنهم حلوا مركبك ولجامك من اللجين والعسجد بمثل ما حليت الكرائم، وجنبوك في الموكب كأنك الهدى ناظراً في عطفيك. ولو أنك بوجرة لمارست من الرتب وأوار القيظ وصنابر الأريز، ما ذرعك به غير رحيب. وأما ذكرك ما قضب " الفرزدق " به الأتن، فإنما تلك سهام ليست ذات ريش ونصال. والشاعر غير صادق في المدح ولا في الهجاء. وذم القائل من الشعراء دال على فضل المذموم مثل ما دل المدح عليه. لأن المدح ونقيضه إنما يكونان لمن عرف وشهر. والنفوس بنيت على السخط وجنى الذنوب. وليس يرضى عن الرجل ولده في كل الأحيان، فما بال جاره الجنب وعشريه البعيد؟ وهل الأتن فيما قال: الفرزدق " إلا كالأنيق وبنى فزارة؟ مالحق الإبل عيب في ذلك ولا الأنيس؛ ونحو ما وجد في الشعر القديم من تعيير قريش بأكل السخينة، وثقيف بصيد الرخم، وبنى حنيفة بأكل معبود كان لهم من الحيس؟ ما نطق به " ابن الزبعري " لغير لاحق بالشعرى، وما أرسله " الحطيئة " من كلم ليس بمقان، ذهب فلم يعلق " بالزبرقان ". وما ضر فوارس المروت هدر " الفرزدق " بشدق مهروت وإن دارماً ذات الشرف، لم ينقص شرفها من قرير، تهكم ينقل عن المرء " جرير ". ولم يصدق " البرجمي " أن زعم أن المرأة بالكلب زنى. وزل قول " الحارثي " فما سدك ب " الأخيلية " وإن كان ما نطق، عن غير ألية. وما غاض كرم " أوس بن حارثة " في الرفه والعشر، لما روى عن أشعار " بشر ". و" أعشى قيس بن ثعلبة " ما رزأ " علقمة " فتيلاً عن مجد. وما قذف به " النميري " " أم خنزر " ما مس لها ذي مئزر. ولا أطفأ " زياد " من عقيقة، لما شتم بني الشقيقة. وما أمر " ذري الرمة " بكيس، إذ يقصد بسبه " امرأ القيس ". وما جاء " زهير " بجداء. إذ يقذف ب: " يسار " آل الصيداء، هلا نطق باقتصاد، كما فعل في بني مصاد؟ وكذلك المديح في كل زمان، ما رفع قد مشئم ولا يمان. وما الذي أفاده رسول الله صلى الله عليه وسلم لما امتدحه " كعب، وحسان ". وهل يلتم بالمدح شعب؟ ما قيل في " عمرو بن هند " لم يجعله من سيل المنية بفند. وما نظم في " النعمان " لم يأته من الموت بأمان. لم يثبت له منقبة، أن يقال فيه الأشعار المتعقبة. وما قلده جيد " الحجاج " ليس باللؤلؤ ولا بالجاج .... وأي قول ظعن في الريح، ولم في بهجاء صريح. وأما زعمك أني أدعي نظم الكلم، فقول منك أنبأنا عن قلة تأملك، وعجلتك في شئونك. إذ كنت لا تعدم أحد أمرين: إما أن تبطل القياس، وإما أن تثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فإن كنت تبطله على رأي السوفسطائية وكثير من أصحاب الشرع، فلا تقيسن " مكة " علة ظبة، ولا تزعمن اليمامة جرت مجرى " وج "، ولا تحكمن على الصخرة بحكم الحصاة، ولا تجعلن الرقلة نظيرة للودية، ولا حرقوص الجدالة كنواة المقلة؛ ولا تطالبن السعن المرسل إلى الناكز، بمثل ما طالبت به الغرب المغترف، وأجز في مذهبك أن أكون أقتدر على النظام، ولا تزعمن أني كغيري من البهائم وأجناس الحيوان ... وإن ثبت المقاييس على مذهب الجمهور من أهل النظر وأصحاب الأسطوان الذين يسمون أساطين الحكمة، وعلى رأي أصحاب الطبائع، فاحمل الثمد على الغمر، واحكم على ما أهل من البهائم بحكم الضب. ولا تفرد حكم الساعة من حكم السنة، ولا حال الشهر م حال الدهر. وإذا جاز أن ينبت في المكان عشبة فاردة، جاز أن يكون فيه روضة مكتهلة. أليس الرواة يتناقلون أن الضب قال لولده، وقد احتفر عليه يعض المحتفرين: أَهَدَموا بَيْتَك لا أَبا لكا ... وزعموا أَنك لا أَخا لَكا وأَنا أَمشي الدَّأَلَى حَوَالَكا وأن النون قال للضب: رد يا ضب. فقال: أَصبح قلبي صَرِدا ... لا يشتهي أَن يَردَا إِلا عَراداً عَرِدَا ... وعَنْكَثاً مُلْتَبِدا وصِلِّيَاناً بَرِدَا فإن زعمت أن هذا سائغ للضب، فأجزه لغيره. وإذا نطق باليسير من الموزون، فما الذي يمنع من النطق بكثيره؟ وقد تقدم أن الشعر نوع من جنس، وذلك الجنس هو الكلام. وإذا صح ذلك قلنا: إن الشعر جنس، والرجز نوع تحته ... وإنما ذكرت ذلك خشية أن تذهب إلى أن الرجز ليس بشعر، كما قال ذلك بعض الناس محتجاً لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أَنا النبيُّ لا كذِبْ أَنا ابن عبدِ المطَّلِبْ ولما جاء في الرواية الأخرى، أنه قال: هل أَنتِ إِلا إِصبَعٌ دَمِيتِ وفي سبيلِ اللهِ ما لقيتِ في أشباه لهذا. ويحتجون بقولهم للذي ينشيء الرجز: راجز، وللذي ينشيء غيره من القصيد: شاعر. وإذا ركبنا القضية الثنوية الكلية، فجعلنا المحمول جنساً والحامل نوعاً، فالقضية كذب لا محالة. وإذا عكسنا ذلك فجعلنا المحمول نوعاً والحامل جنساً، كانت القضية صدقاً. فنقول: كل رجز شعر، فيكون قولاً صادقاً. وإن قيل: كل شعر رجز. فذلك باطل من المقول. وما أدفع أن الرجز أضعف من القصيد، ولكنهما جنس واحد. وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلفت الأمة في شأنه وفي قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ". فقالت طائفة: لا يكون النبي عليه السلام، إلا عالماً بجميع أصناف العلم الذي يعرفه الآدميون. وإنما تعبد صلى الله عليه وسلم بتركه ذلك الفن - كما تعبد بترك الزنا وشرب المسكر - وكان ذلك خالصاً له في نفسه دون غيره من المسلمين. وإلى هذه المقالة ذهبت أصناف الشيعة، واحتجوا بأن فقد المعرفة بهذا الجنس، معدود في بني آدم من النقص. ولا يبعث الله جل اسمه، إلا أفضل من يكون في عصر المبعث. وقد كان أبوه، صلى الله عليه وسلم، وجده وأعمامه ينطقون بالمنظوم: نقلت الرواة أن " عبد الله بن عبد المطلب " قال للكاهنة لما رأت النور بين عينيه فدعته إلى نفسها: أَما الحرامُ فالمماتُ دونَه ... والحِلُّ، لا حِلَّ فأَستبينَه فكيف بالأَمرِ الذي تَبْغِينَه وأنشدت الرواة ل " الزبير بن عبد المطلب " عم النبي عليه السلام: إِذا كنتَ في حاجةٍ مُرْسِلاً ... فأَرسِلْ حكيما ولا تُصِهِ وإِنْ بابُ أَمرٍ عليكَ التَوَى ... فشاوِرْ لبِيباً ولا تَعْصِهِ فأما " أبو طالب " فكان أشعر قريش. وقد روى عن " العباس " شعر كثير، وكذلك عن " علي ". قالوا: فإن كان الشعر منقصة، فلم استعملها السادة في الإسلام والجاهلية؟ وإن كان فضيلة فلم يحرمها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقالت طائفة أخرى: قد يجوز أن يكون الأمر على ما ذكر هؤلاء، ويجوز أن يكون على غيره. لأنه صلى الله عليه وسلم قال: " استعينوا على كل صناعة بأهلها. " وفي الجائز أن يكون سلب منه العلم بهذا النوع بما بعث، فكان ذلك له مثل الآية. وإنما معنى قوله تعالى: " وما علمناه الشعر " أنه جواب لقول من قال من الكفار: " الذي جاء به محمد شعر " لا أنه بهذه الآية نفى عنه المعرفة بهذا الضرب. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ذكر بيتاً صاباه، أي لم يجيء به على جهته، حتى عرف ذلك منه. مثل قوله بين " الأقرع وعيينة "، " ويأتيك من لم تزود بالأخبار ". ومما يتصل بهذا، حديث ذكره " ابن خرداذبة " في " كتاب طبقات المغنين " عن " أبي سعيد المكي. المغني " - واسمه إبراهيم، وهو مولى لقائد، وقائد مولى عمرو بن عثمان - وكان أبو سعيد هذا مغنياً، وكان مع ذلك مقبول الشهادة معدلاً. وكان يقول الشعر ويلحنه، فكان مما قال وغنى به هذا البيت: لقد طُفْتُ سَبْعاً قلتُ لَمَّا قَضَيتُها ... أَلا ليت حَجِّي لا عَليَّ ولا لِيَا وبعث إليه " محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب " - وهو الملك الذي كانت تعرفه بنو العباس بالمهدي، والد هارون - وكان " أبو سعيد " تنسك، ولم يكن يضرب بالعود. فلما قدم على " محمد " قربه وأدنى مجلسه. وقال له محمد: غنني: لقد طفتُ سبعاً قلتُ لما قضيتُها ... أَلا ليت حَجِّي لا عليَّ ولا ليا - لأبي سعيد - قال: أو أغنيك أحسن منه يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت وذاك. فغناه: إِن هذا الطويلَ من آلِ حَفْصٍ ... أَنشرَ المجدَ بعد ما كان ماتا وبناهُ على أَساسٍ وثيقٍ ... وعِمادٍ قد أُثبتَتْ إِثباتَا فأحسنه. وقال " محمد ": أحسنت يا أبا سعيد، غنني: لقد طُفتُ سبعاً قال: أو أغنيك أحسن منه؟ قال: ذلك إليك. فغناه: قَدِمَ الطويلُ فأَشرقتْ واستبشرتْ ... أَرضُ الحجازِ وبانَ في الأَشجارِ فأحسنه وأجاد. فقال " محمد " مثل قوله الأول، واقترح عليه: " لقد طفت سبعاً ". قال: أو أغنيك أحسن منه؟ قال: قل ما أحببت. فغناه: إِن الطويلَ من آل حفص فاعلموا ... ساد الحضورَ وساد في الأَسفار فقال له " محمد ": صر إلى ما دعوناك إليه. فقال: يا أمير المؤمنين، ما إلى ذلك سبيل. لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي، وكأن في يده شيئاً لا أعلم ما هو. وقد رفع يده ليضربني وهو يقول: " لقد طفت سبعاً، لقد سبعاً طفت؟ ماذا صنعت بأمتي بهذا الصوت؟ " فقلت: بأبي وأمي، اعف عني. فوباعثك بالحق ومصطفيك للرسالة والنبوة، لا غنيت بهذا الصوت أبداً. فرد يده صلى الله عليه وسلم، وقال عفا الله عنك إذاً. وانتبهت. وما كنت لأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في منامي، فأرجع عنه في يقظتي. فبكى " محمد " وقال: أحسنت يا أبا سعيد، أحسن الله إليك، لا تعد في غنائه. وحباه وكساه، ورده إلى الحجار. ألا ترى إلى قوله: لقد سبعاً طفت، كيف حل عقد النظام عن جهته؟ وقال بعض الناس: لم يكن صلى الله عليه وسلم يعرف الشعر ولا غيره من الصنائع، وإنما كانت الفضيلة بالرسالة. فإن قلت أيها السامع: إن قول العرب: رجز وشعر، دليل على أنهما مختلفان في الجنسية. فإن ذلك ليس بدليل على ما قلت، لأنهم يقولون: فعلت بنو هاشم وحمزة عبد المطلب. وفي " الكتاب العزيز ": " قل من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل ... ". وقد علمنا أن " جبريل، وميكائيل " من الملائكة. والشيء يخص بالذكر ليرفع من شأنه أو ليوضع بذلك من أمره. ولا ريب أن الرجز أضعف من القصيد، ف " رؤبة والعجاج " أضعف في النظام من " جرير، والفرزدق ". ومن أقوى ما روى في تضعيف الرجز أن " الفرزدق " قال: إني لأرى طرقة الرجز فأدعه رغبة عنه. وقالة الرجز ثلاثة: فرجل لم يرو عنه غيره، ك " رؤبة، وهميان بن قحافة " وغيرهما. ورجل غلب عليه الرجز وربما جاء بالقصيد، ك " أبي النجم، والأغلب العجليين ". ورجل كان القصيد أغلب عليه وربما جاء بالرجز، ك " جرير، وذي الرمة ". وربما لم يرو عن الشاعر رجز ألبتة مثل " زهير، وطفيل الغنوي، وقيس بن الخطيم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقد بلغني أن للسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " مجلساً يجتمع فيه الفقهاء وأهل الكلام والأدب والشعراء. ولو تحرى في التطوع متحوب فقادني برسني حتى أقف من ذلك المجلس بمرأى ومسمع لألقيت " مسألة " ثم فرعتها فخاض فيها الفقهاء والمتكلمون والشعراء سحابة ليلتهم تلك. وكأني بك قد قلت في نفسك: ليت شعري ما تلك المسألة؟ ثم أدركتك الأنفة أن تسألني عنها. وأنا أبتديء لك بذكرها غير باخل عليك ولا على غيرك بشيء مما أحسنه. كنت أقول للفقهاء: ماذا تقولون في رجل طاف بالكعبة سبعاً وهو ينشد: " فقا نبك ".ما توجبون عليه؟ فإذا أجابوا، فرعتها عليهم. وقد علمت أن الضحضاح بعده الغمر وأن الدخان تحته اللهيب الجمر. وكنت أقول للمتكلمين: أخبروني عمن يقول بقدم العالم: أقفا نبك كانت قبل " امريء القيس " أم بعده؟ وأخبروني عن: قفا نبك، أجوهر هي أم عرض؟ فإن قالوا: جوهر، فقد أحالوا في رأي المتكلمين. وإن قالوا: عرض، قلت: فالأعراض لا قوام لها في أنفسها وإنما تعرف إذا تعلقت بالجواهر. وقد نجد رجلين يقفان على ضيفي واد وبينهما مدى بعيد فينشد أحدهما: قفا نبك، فيسمعه الآخر. فبم تعلقت حتى وصلت إليه؟ ثم أشجر الكلام وأشجنه. وكنت أقول للشعراء: أخبروني عن ثلاثة منكم أحضرهم " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - وكان أحدهم يعمل البيت من قرى " قفا نبك " في دقيقة، والآخر في دقيقتين، والثالث في ثلاث دقائق. فأمرهم أن يصنعوا بيتاً على ذلك العراق ويتعاطوا فيه النصفة، أكان هذا يمكن أم يتعذر؟ وهل تجري الأبيات كلها مجرى واحداً أم تختلف لاختلاف مهيئات الحروف؟ فإن حملهم ادعاء الرتبة والفرار من حياء الغلبة على أن يقولوا: كنا نتناصف ونتماثل ونجيب " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - خلد الله أيامه إلى ما أمر؛ قلت لهم: فكم المدة التي ينجز معها فرغ البيت؟ فإن قالوا: لا نعلم، فقد رجعوا عن دعواهم وأقروا بالعجز لمن سألهم .... وإن قالوا: نعمله في ستة أجزاء من أحد عشر من دقيقة يعمل الذي جرت عادته أن يعمل البيت في دقيقة، ستة أجزاء من أحد عشر من البيت. وكان يعمل صاحب الدقيقتين ثلاثة أجزاء من أحد عشر، وكان يعمل صاحب ثلاثة جزءين. قلت: كيف السبيل إلى تناصفكم في هذه القسمة، وقد علمتم أن أحد عشر عدد أصم؟ وهل في طاقتكم أو طاقة غيركم قسمة الحرف الواحد أو الحركة، على هذه الأجزاء؟ ثم يتنوع الخطاب في ذلك إلى ما شاء الله. وأما قولك إن صوتي جنسان: حمحمة وشحيج، وأنه لا يبنى منها النظام، فإن الأشياء لها جمل، والجمل لها تفصيل، والتفصيل له تأويل " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ". قد جعلت صوتي، لأنه جنسان، قريباً من حد الإبانة. ولعله قد بلغك حديث " أبي مالك الأشجعي " الذي يروي عنه أنه قال: " كنا مع علي عليه السلام منصرفه من صفين، فمر بالحيرة وهي كثيرة النصارى فسمع صوت الناقوس فقال: ما يقول الناقوس؟ فقلنا: ما قول يا أمير المؤمنين؟ فقال: يقول: إِن الدنيا قد أَغوتْنا ... واستغوتنا واستهوتنا لسنا نَدرِي ما قدَّمنا ... فيها إِلا لو قد مُتنا تَفنى الدنيا قرناً قرناً ... يا ابنَ الدنيا مهلاً مهلاً زِنْ ما يأتي وزناً وزناً ... ما من يومٍ يمضي عنا إِلاَّ أَوْهى منا رُكْنَا أفلا ترى إلى أمير المؤمنين كيف صرف صوت الناقوس وهو جنس واحد، لأنه يحدث باصطكاك جسمين جماديين؟ فصوتي أولى بالتفريع من صوت الناقوس، وصوت الناقوس أولى بالتفريع من الصمت الدائم والجمادى. وقد روى أن " عدي بن زيد " كان مع " النعمان بن المنذر " تحت شجرة كان يشرب عندها ملوك الحيرة. فقال له عدي بن زيد: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: وما تقول؟ قال: إنها تقول: رُبَّ شَرب قد أَناخوا حولَنا ... يشرَبون الخَمْرَ بالماءِ الزلال ثُم أَضحَوا لَعِبَ الدهرُ بهم ... وكذاك الدهرُ حالاً بعد حال أفلا ترى كيف تأول " عدي " صمت الشجرة؟ وقد قال " الحارثي ": فأَسْمَعَنا بالصَّمْتِ رجْع كلامِنا ... فأَبْلِغْ به من ناطقٍ لم يُحاوِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ونظائر هذا كثير. فكيف تمنع صوتي وهو يتصرف فيكون الرقيق والغليظ والخوار، ويطول ويقصر وينقطع ويتألف، ويدل على الكراهة والرغبة وطلب الحاجة، من أن يتأوله أهل الفهم على معان مختلفات ويتصرف في ترتيبه أصحاب المعرفة على لطرق يعرفون مجاريها، ويسلك فيها سبيل الهداية من لا يتجاهلها؟ ويقدر الله جل اسمه على أن ينطق الصاهل، فيقول: ما كفاك أنك ادعيت النظم الذي هو طبع في غريزة الآدميين مطلق أن يقوله الصبي منهم والمرأة والشيخ اليفن والعجوز الفانية، وهو في غرائز الأمم كلها حتى إنه يحكم على أنه لا يمتنع أن يخطر الكلام الموزون لمن لم يسمع شعراً قط. حتى ادعيت الأشياء التي لا يوصل إليها إلا بالدربة الطويلة والتجربة المكررة، من العلم بالكلام والجدل والنظر في الفقه وأحكام الشعر اللطيفة التي لعله ما ادعى معرفتها جاهلي ولا إسلامي من أهل النظم. ومتى نتجت؟ لعلك لم تنتج منذ عشرين حجة، فلو أن الله مد في عمرك حتى تكون من مراكب " شريح بن الحارث " فمن بعده من القضاة الراشدين إلى هذا العصر، تسمع كلامهم وتعرف محاورتهم. لكنت خليقاً ألا يصح هذا من دعواك. ولقد ادعيت من علم الشعر ما تعلمنا الضرورة اللازمة أن " زهيراً والنابغة " وغيرهما من الفحول، لم يعرفوه. فليت شعري ما يقول فيك أصحاب التناسخ؟ أفنقلت إليك روح " أفلاطون "؟ ومعاذ الله والعدل الشائع. أما أنا فأتصورك بصورة الكاذب، وقد رابني ما قلت فاجعل بيني وبينك حكماً ترضاه. فإن صدقك سلمت لك أني على خطإ. وإن اتهمك مثل ما اتهمتك، علمت أني معذور في الظنة بك. فأما الضب الذي هو قاضي البهائم، فبعيد المنزل عني وعنك، أقرب دياره إلينا مسيرة ثلاث أو أربع، ولكن هذه الفاختة قد وردت عليك الماء، وهي من شعراء الطير. وإنما ادعيت ذلك لها، إذ كانت حكاية صوتها جنساً موزوناً، ومن تأمل ذلك وجده كما ذكرت. فاعرض عليها شأنك وانظر ما تقوله، فلو كان موافقاً " لي في صفتك فاعلم أني أردت نصحك، وإن كان موافقاً لك " فاعلم أني داجيتك وأضمرت غشك. فاختر أينا يكون السائل لها في ذلك. وإن شئت أن نجتمع على سؤالها فإن ذلك يسير قريب. فيقدر الله جل ثناؤه على أن ينطق الشاحج فيقول: كيف رأيت القاذة في عين أخيك ولم تر الجذع المعترض في عينك؟ ألست قد دفعتني عن دعوى النظم بأنك احتججت أني أجمع بين الساكنين في صوتي من غير وقف يدرك النفس. وهذه الفاختة، بين ابتدائها بصوتها وسكوتها على آخره، ساكنان يلتقيان ليسا في وقف. لأن العامة يقولون في حكاية صوتها: .... يا فاخته. فيكسرون الخاء، وهذه لعمري كلمة موزونة، وهي سدس الرجز التام وربع المجزوء وثلث المشطور ونصف المنهوك. وموازن هذا من صوت الفاختة يلتقي فيه ساكنان وكأنه في التقدير الألف والخاء. ومن تأمل ذلك في أصوات الفواخت وجده. وكأني بك تحتج علي بهذا البيت الذي ذكره " سيبويه " في الإدغام وهو قول الراجز: كأَنها بعد كلالِ الزاجِرِ ... ومَسْحِه مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ فهذا بيت قد كثر فيه الكلام. وأكثر الناس لا يثبته لأن صاحب " الكتاب " دل كلامه على أنه أدغم الهاء في الحاء. وهذا ما لا يمكن. وقد حكى عن " الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي " أنه كان ينشد هذا البيت، فيجمع فيه بين ساكنين، وهو قول الراجز: يا عجباً لقد رأَيتُ عَجَبَا ... حِمارَ قَبَّانَ يسوق أرْنَبَا خاطِمَها زامَّها أَنْ تَذْهَبَا فيجمع بن ساكنين في: زامها. وإن صحت هذه الحكاية عنه، فإنما يتعلق بالبيت الذي أنشده " سيبويه "، والجماعة على خلافه في: زأمها. لأنهم ينشدون: زأمها، بالهمز، ويحكون أن ذلك لغة العرب. وزعم " أبو زيد الأنصاري " أنه أدركته صلاة الصبح عند مسجد " يونس بن عبيد " فدخل فصلى خلفه، فسمعه بهمز: " ولا الضألين " ويقال إنها قراءة " أيوب السختياني " وقد زعموا أن " الحسن البصري " كان يقرا: " ما من دأبة إلا هو آخذ بناصيتها ". ولا أحسب هذا القول المروي عن " الفارسي " إلا وهماً من راويه، أو يكون قولاً ينفرد به قائله ويخالف إجماع الناس فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ومن ظلمك وإعناتك أنك دعوتني إلى تحكيم حكم العامة تضرب المثل بكذبه فتقول: أكذب من فاختة! أفتراني أجعل حكماً على نفسي من قد شهر بهذه الشيمة؟ ومن استرعى الذئب ظلم، ومن صدق كل بارق أخلف. ولكن أطلب حكماً سوى هذه فقد اشتهر عنها ما تعلم. ولا تدعني إلى الغراب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً. ولست بمحكم أهل الفسق؛ ولا إلى الزرياب، فإن به صرعاً وإن كان عالماً بالغات منصرفاً في أجناس القول. ولو عدلت عن ذوات الأربع لكنت أقرب إلى النصفة. وهذه الإبل قد جاءت للورد فإن شئت أن تستظهر لعلمك فاجعل الحكم بعضها توفق في ذلك. فيقد الله الواحد على أن ينطق الصاهل فيقول: إنما اخترت الفاختة إذ كانت شاعرة، فأردت أن أستعين بها على أحكام الشعر. أو ليس قد كان السادات إذا اختلفوا في أمر الشعر سألوا عنه " حسان وجريراً والفرزدق " وغيرهم من الطبقة الثانية وليس فيهم من يتحرج عن الكذب في المنوم، ويرضى سائلهم في الحكومة بما يقولون؟ أو ليس إلى " حسان " رجع في أمر " الزبرقان والحطيئة " وحسان مجلود في الإفك؟ وأما قول العامة: " أكذب من فاخت " فإنما هو افتراء عليها، ولعلها لم تكذب قط. هم الذين تخرصوا ما حكوه وادعوا أنها في ذلك الصوت الذي يصدر عنها تقول: " قد جاء الرطب " حتى قال قائلهم: أَكذبُ من فاختةٍ ... تقولُ فوقَ الكَرَب والطَّلْعُ لم يَبْدُ لها ... هذا أَوانُ الرُّطَبِ وقد علم الله بعزته أنها لم تفه قط بهذه الكلمة. كما أن الطائر الآخر لم يقل: سقطْ رِدَاك خُذْهْ وإنما ذلك تشبيه من العامة، ووضع للشيء على ما قرب منه. وتأمل صوت الفاختة فإنه جنس واحد، وليس ما تدعيه العامة عليها بصحيح وليس الصوت الذي تقول فيه بزعمهم: يا فاخته، مخالفاً للصوت الذي هو عندهم: عبد الصمد، بل هما فن واحد ووزن في الحسن متساو. وقد كنت أحلف المحرجة في معطل الرماح من قبل عاذل في القلتة أو النحيرة وذلك بصلاح في " بكة ": أن العامة كذبت على هذا الطائر كما كذبت على غيره من الطير والبهائم. وأما قولك في التقاء الساكنين ما قلت، فقد مضى في المحاورة معك ما هو كاف. واليونانية تجمع في أشعارها بين الساكنين في غير آخير البيت وكذلك غيرها من الأمم ما خلا العرب فإن كلامها تهذب ونظامها خلص. على أن شيئاً من ذلك قد جاء عنهم. فأما في أواخر الأبيات فالعرب وغيرهم لا ينفرون من جمع بين ساكنين. وأما قولك، وقد استمر بك عجبك ومدك في المقال غيك: إن قولها " يا فاختة " سدس الرجز التام، فكيف جعلتها راجزة والرجز إنما تقوله العرب في حداء الإبل ومراس الأعمال من حرب أو جذب غرب أو سرى ليل أو ركوب هاجرة؟ إنما يحضرونه نفوسهم عند الونية ليكون مسكة للمنة وذريعة إلى النشاط. والفاختة إنما تصيح هذه الأصوات في أولى أوقاتها بالمسرة وأجدر زمانها بالدعة. ودليل ذلك تأيدها في الصوت ومجيئها به على رسل، ولا تصيح في الطيران، وإنما تصيح وهي واقعة على غصن أو غيره. ولها إذا رعيت في الوكر أو الهواء صوت مخالف لهذا الصوت. ومن تفقد ذلك عرفه، فكيف حكمت على صوتها أنه رجز ولم تحكم عليه أنه من الكامل المضمر؟ إنك لغبين الرأي فاسد القياس. وأما دعاؤك إلى تحكيم بعض الإبل فصنف من الجهل مبين: أما الناقة فحسبها من قلة اللب أن ولدها يذبح ويحشي جلده من الثمام فتدر عليه وعندها أنه حوارها! وأما الجمل فأخوها، وهل يكون " ابن دغة " إلا على قدرها، " وابنة جهيزة " إلا من جنسها؟ وحسبك من جهالة الإبل أنها تترك ما لان من المرعى وتختار عليه شوك السعدان وغيره من الشجر والعضاه، فربما نشبت الشوكة منها في بطن البعير فكانت سبب هلاكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وأحسبك عدلت عن ذوات الأجنحة وهي ألطف أجراماً وأحسن أصواتاً وأذكى قلوباً وأبعد في بلاد الله سفراً، لترد الحكومة إلى ذوات الحافر، وتخص البناية فيها بعض أعمامك الذين هم كما شاء الله. ومن يؤمن حكماً يحكم عليك أن تدعي عليه التخرص والجنف؟ وقد بان فيك بعض الفهم، وجائز أن يوفق لك من يجوز تمويهك عليه، فإن زماننا مذ كان، للكذب فيه سوق ليست للصدق، والباطل عنده مسالك زويت عن الحق. وإنما ادعيت أنك تحمل إلى السيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - بيتين أو ثلاثة، فلو أنك تنظمتهما بدر ما وقعا من إرادتك بقر. والشاعر قد ينظم الكلمة بعد الكلمة فيطيل فيها ويجيد، ثم لا يظفر من الملك بطائل. ومن يحمل قريضك، على سوء ظنك وسراسة خلقك؟ لو تحمله عنك متحمل لما أمن مع رديء شيمك أن تتهمه بخيانتك وحسدك وأن تطالبه بالجائزة وهو لم يعطها، وتدعى في كلامك الفضيلة ولم ترزقها. وكأني بك لو نظمت بيتاً أو بيتين لجعلت الروى حاء أو هاء لأنهما من شكل صوتك. ولو أنشدتني ما قلت لوقفتك من عيوبه والغلط فيه، على ما يوجب تسليمها إلي. ويقدر الله سبحانه على أن ينطق الشاحج فيقول: إن أسأت الظن بك، فمن بعد إخلاف مخيلتك، لأني بدأت برجائك ومسألتك، فلقيتني بحذ الأمل وإخلاف الرجاء. ومن استكثر قليل الأشياء فلا طمع في جزيلها من قبله. ولو تحمل ما أقول متحمل لجزاه الله على ذلك بأجر وجزيته بالثناء والشكر. ولست ممن يطلب جائزة على قول الحق، وإنما الغرض أن يخف الأوق ويزول بعض الأثقال. وأما قولك: لو أنشدتني لفعلت - ووصفت صنيعك - فلست بأهل للإنشاد. لأنك مثل ما جاء في الكتاب الأعز: " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ". ولو كنت مريت ما عنيد باللطف واستخرجت سرائري بحسن الوعد، لأنشدتك إنشاد الفحول وغنيتك غناء الحكماء بأي الألحان الثمانية شئت، أو نصبت لك نصب العرب على مذهب " أبي أسامة الهمذاني " وهو أول من غني النصب بالعراق. وأما إنكارك أني جعلت الفاختة راجزة وأخرجت الرجز عما وضع له، فقد وجدنا المتحققين بهذا الشأن في قديم الزمان والحديث، أخرجوا الجز عما ذكرت من الحداء ومراس الأعمال، إلى أصناف المدح وطبقات النسيب، وصرفوه مختارين في أنحاء كثيرة، وافتنوا في ذلك مثل ما فاتنوا في القصيد. وأما زعمك أني أريد أن أجر الحكومة إلى بعض الأعمام، فليس الأمر كما ظننت؛ على أنهم أجدر بالخير وأولى بالحلم وأبعد من العبية. وقد مضت الدهور السالفة وأنا لا أعرفك، ولعل ما غبر من العمر ينقرض ولم ألقك: كِلانا غنِيٌّ عن أَخيه حياتَه ... ونحن إِذا مُتْنَا أَشدُّ تَغانِيَا وكيف آمنك على الإنشاد وأنت لم تثبت نفسك على ادعاء المعرفة، فكيف ثباتها على إظهار الفضيلة؟ فلعن الله سراً عند المعيدي، وأمراً يشهده دون الملإ جار السوء. وكيف آمن أن تدعى على الخطأ أو الكسر والإحالة في المعنى، ولا تسمح لي بالضرورات التي اصطلح عليها أهل النظام؟ كحذف التنوين والتقديم والتأخير وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر والقلب الذي هو متعارف في المعتل كما قال " الهمداني ": وكأَن أَعظُمَها كِعابُ مُعافرٍ ... ضُرِبَت على شُزُنٍ فهن شَواعِ أي شوائع، كما قال " خفاف ": فإِمَّا تَرَيْني غيَّر الدهرُ لِمَّتِي ... ولاحت لَوَاحِي الشيبِ في كلِّ مَفْرِقِ إنما هو: لوائح، في قول " أبي عبيدة ". أو عيبني إذا قصرت الممدود الذي قصرته الفصحاء، وتحظر على أن أغير الاسم الموضوع عن حاله، وذلك كله مطلق " للشعراء " كما علمت؟ ولعلي لو أنشدتك لزعمت أني قد كسرت، ولم تتغاض عن خلل إن كان مثل ما تغاضى " عنه " من تقدم ل: " عبيد بن الأبرص " في قصيدته، فرويت في جملة المنظوم إلى اليوم؟ وكما ترك " الأعشى " وما صنع في قوله: أَلم تروا إِرماً وعاداً ... أَوْدضى بها الليلُ والنهارُ وقد حملت الرواة كلمة " الطرماح " وهي وزنان مختلفان، أعني قوله: طال في رسمِ مَهدَدٍ أَبَدُهْ ... وعَقبى واستوى به بلده ومَحَاه هَطَّالُ أَسْمِيَةٍ ... كلَّ يومٍ وليلةٍ تردُه لم يَبْقَ مِن مَرْسِ كفِّ صاحبِه ... أَخلاقُ سِرْبالِهِ ولا جُرُدُه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مَوعَبُ لِيط القَرا به قُوَبٌ ... سُودٌ قليلُ اللِّحاءِ مُنجَرِدُه مُجَرَّبٌ بِالرِّهانِ مستلِبٌ ... خصلَ الجَواري طرائفٌ سَبَدُه ولدي بِمنَّ الله من العلوم الغريبة والآداب الشاردة ما يغنيني عن التجمل بطويل القريض، فكيف بقصيره؟ ويمنعني من التكثر بمتماحله وعروجه، فكيف بفذه وتوأمه؟ والفاختة في هذا كله واقفة تسمع مناجاة الصاهل وثناءه عليها، وأقوال الشاحج ونقصه منها، فترف عينها للصاهل، تغمز عليه وهو لا يراها لأنه معصوب العينين. وتنطلق إلى البعير الوارد فتعكس ما قال الشاحج فيه وتجعل القول الذي نطق به الصاهل من وصفه بالجهل، محكياً عن الشاحج، تريد أذاته بذلك. فتخبره بما قيل فيه من الصفة بقلة اللب، فتملأ صدره من الغضب والحقد. حتى إذا ورد، بهش بفمه بعد الري إلى جحفلة ذلك المسكين فما شعر حتى أزم بها على الغرة إزمة حنق مغتاظ، وهدر في ذلك هدر الموعد. فضج الشاحج وقال: ما هذا يا أبا أيوب؟ لقد سفه حلمك وخف وزنك ونفرت نعامتك. فما الذي حملك على م صنعت؟ أليس على ظهري يستقي ربك إذا مررت في أسفارك فتشرب النهل والعلل من العذب الناجع من غير طلب ثواب عليه؟ وقد علمت أنك تكون في الحوم الوارد وقد ألهبك سعر الخمس فلا تصل إلى تغميرتك إلا بعد عراد الإبل ودفع المناكب بمنكبك واهتتضامك ضعفتها عند ورودك، واقتصار المصاعب لك وتفردها بما قرى في الحوض دونك. وقد علمت أنك ترد بعد الظمء التام، فإن يكن ساقيك عزيز الجانب كثير النافرة نافذ الأقضية، وإلا حلئت عن المورد ورجع صدرك بغلته. وإن كان صاحبك ضعيفاً في قومه غير بعيد الصيت في عشيرته، ثم دنوت إلى الحوض، حنيت العصا لك أو قذفت بالحجر والفهر، فربما غارت عينك أو دمي مشفرك. فلك ولنظرائك إذا كان الأمر على ما ذكرت، قال القائل ضربه ضرب غرائب الإبل. وقال " المثقب ": كأَن قِذافَ ما تَنْفِي يداها ... قذافُ غريبة بيَدَيْ مُعينِ فإن كنت كريماً على المالك جعل الشاة أو الشاتين رشوة للسقاة على سقيك. وإلى هذه الشيمة ذهب بعض العلماء في تفسير قول الراجز: نادِ حُمَيداً يا خليلي لا تَنَمْ على عبنقى دافَعتْ عنه الغنمْ إِن لم أُكَلِّفْها جَلاذِيَّ الأَكَمْ ودَلَجَ الليلِ فخُصَّاني بِذَمّْ فمعنى: دافعت عنه الغنم، على هذا القول، أنه سقى بها وجعلت رشوة لمن يغلب على الماء، فيسقى هذا البعير. وإن كنت للأرملة أو المغيبة فإنها تجيء بالشيء النزر إلى قيم الماء، مثل القعب من الببن واللوية من لحم الوحش. وعلى حسب ما تعطى القيم يكون سقيك. قال الشاعر: سيَكفِيكَ سَقْياً رِجلُ ظبيٍ وعُلْبَةٌ ... تمَطَّتْ بها مصلوبةٌ لم تُحارِدِ وطال ما نزل ربك، من رغبته في إروائك، إلى البئر البعيدة القعر فطلع وقد أسن وانجذم دونه المرس فهلك. وربما وقف على المكان الزلج فهوى في القليب. وف ينحو من ذلك أنشد " الأصمعي " في " كتاب أوراد الإبل ": يا عينُ بَكِّي عامراً عند النَهَلْ ... عند الرشاء والعشاءِ والعَمَلْ يا ليتني أَصدَرْتُهن بِغَلَلْ ... ولم أَقدِّمْ عامراً يومَ نَزلْ قام على مَنزَعةٍ ... زَلْجٍ فزَلْ ولأجلك وأجل غيرك من الهجمة، افتقروا إلى الممرس والدالج وصاحب التعلية، واضطروا إلى حكم القادس، واستعان المعرس منهم بعروسه وبها خلوق العرس على إيراد الذود. قال الراجز: لو أَن سلمى شهدتْ مظَلِّي ... تَمتَحُ أَو تُدلجُ أَو تُعلِّي إِذاً لراحتْ غيرَ ذات دَلِّ وقال آخر يذكر أنه إن لم يجد من يعينه على السقي كلف عروسه أن تسقي معه: قامت تُريكَ بَشَراً مكنوناً ... قد عَلِمتْ إِن لم أَجدْ معيناً لأَخلِطَنَّ بالخَلوقِ الطينا ... يا بئرَ عادٍ مَن تَهَيَّبِينَا سوف تُماحِينَ وتَدلَجينا ... وتُطرَحُ الدلُو مكاناً بِينَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وإذا وردت هذه المقراة فقد كفيت وكفى صاحبك. وإنما ذلك بودج من آدي وشفيع من قوتي ووقت يضيع من عمري ودأب يقوض ما رفعه الربيع والعلف من أجلادي. وليس لسقيك عصبت عيناي ولا من أجلك قرى هذا الماء، وإنما ترد إن كنت عزيزاً ورد الظالم. فإن عجزت عن ذلك هجمت هجوم الواغل. أفصرورة أنت فترجو أن حجك يكفر عنك إثمك؟ أم قد سلف حجك؟ فبعداً لك! تظلم وقد رأيت الكعبة وعاينت ما سفك ب " مني " من الدماء. قد كان ينبغي لك ألا تسمع كلام أحد الخصمين قبل الآخر، وأن تأخذ بقول العرب: وجه المحرش أقبح. ألم يبلغك ضرب العامة المثل بكذب الفاختة؟ أفما استحييت أن تنقاد طوعاً لطائر، في وزن جسدك بوزنه ما شاء الله من المرار؟ وأي صداقة بينك وبين ذوات الأجنحة ومنهن الغراب الذي ينقر عينك وأعين أبناء جنسك، وأنتن رذايا بالفلاة؟ وإنما سمي ابن دأية لأنه يقف على دأية البعير. وأشد ما في ذلك أنه لا يتركه حتى تزهق نفسه، بل يعجله خروج النفس ولفظ المهجة وقال قال الراجز: يا عجباً للعجَبِ العُجَابِ خمسةُ غِرْبانٍ على غرابِ يعني بالغربان الخمسة: بنات دأية. وبالغراب: رأس ورك البعير. وإنما قالوا في المثل: " أعور، عينك والحجر " لأن الرجل منهم يكون له بعير به دبرة فيقع عليها الغراب فيخشى أن يرميه فيصيب الدبرة فيقول هذه المقالة. يعني بالأعور الغراب، أفلا ترى إلى سوء طمعه وحرصه وقلة انتظاره ما أشرف على الهلكة من الركاب؟ قال الشاعر: وإِذا أَحُلُّ قُتُودَها بِتَنوفةٍ ... جعلت تُلِيحُ إِلى الغُرابِ الأعوَرِ وقد كان من الحق عليك ألا تصدق أقوال ذوات الريش على ذوات الأربع. ألستن معاشر الإبل إذا كان بكن الدبر جعل عليكن الريش ينفر به عنكن طمعة الطير؟ قال " ذو الخرق ": لمَّا رأَتْ إِبلي أَمستْ حُمولتُها ... جُرْباً عِجافاً عليها الريشُ والخِرَقُ وقال آخر: ألا مَنْ لمولى لا يزال كأنه ... من الضّغن والبغضاء ريشةُ غاربِ ولو كان الحديث كما بلغك لوجب أن تحتمل وتصفح لأنك مشاكهي في البلوى ببني آدم، وقسيمي في عناء يقع بنا من البشر قد أعفيت منه الطير لا سيما الذي لا يؤكل منها. أليس الإبل النواضح في " يثرب " وغيرها من بلاد النخل، وعليهن تقطع مفاوز الأرض وبهن يكابد الهجير في اليوم الحمت؟ فهلا زجرك ما تذوقه من المشقة أن تعتمد بائساً مثلك فتوقع به الأذية؟ ولعلي كنت أرثي لك ولغيرك من ذوات المشفر إذا سمعت قول الراجز: قد قلتُ يوماً للغراب إِذ حَجَلْ عليكَ بالقُودِ المسانيفِ الأُوَلْ تَغَدَّ ما شئتَ على غير عَجَلْ التمرُ في البئرِ وفي ظهرِ الجملْ فمعنى هذا أنه يستقي الماء من البئر على ظهر الناضح، فإذا سقى النخل جاء بالتمر. وقد غادرت بجحفلتي حبراً هو أعظم من حبر " بنت مصان ". ولو كان لي سبيل ولك إلى أن نتحاكم إلى قاضي البهائم أبي الحسل، إذاً لحاكمتك إليه؛ فلعله كان يحكم لي عليك بأن تنوب عني شهراً أو أكثر من شهر. فتعالى هاري من أين قدرت لي في هذا اليوم؟ إن قالت العرب: " جاءتك بحائن رجلاه " فأنا أقول: جاءت بك إلى حائن رجلاك. أفما علمت أنك وهذه المطايا والحمولة التي في رفقتك تصيب نقعاً من قبل استقائي الماء لورودك وورودهن؟ ولا أمن عليك ذلك، ولكن غير أحق بمضارتك وأولى بشراسة خلقك. فإن شئت أن تخرج إلي من حق هذا الكلم فتكون قد خرجت من حزب الظالمين، أو أدعو عليك في كل صباح ومساء وجهمة تقبل وهزيع ينصرم وفجر يسفر وشمس تشرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فيجوز أن توافق دعوتي قضاء الله سبحانه فتصيبك من ذلك قوارع الدهر فلا يبارك لك في العض المشتري من سوق المصر؛ فيكون ملء المثمنة عندك مثل الثمة بالكف المقتصدة، وتسلط حويتك وقتبك على تأثير في جنبك، فلا تعدم قملاً تدخل بين قفارك، ويمكن منها ظمء الهواجر فلا يقطع ذلك نمير غمر ولو شعرت في " دجلة أو الفرات " ويبعث إليك أجير عنيف يخصك بأثقل الوسوق، ويضربك بوبيله في سيرك بغير تعذير، ويسرق علفك فيصرفه في استراء الخمر وركوب العصيان؛ أو يدركك الهرم والتثليب فتبقى في نفسك إحدى الحسرات، لا أنت في الدجالة ظاعن ولا في الراعية مع الإبل راتع، ولا فيك نحض يؤكل فيريحك من الحياة ناحر، وأنت تدعو الله على نفسك وأن يجعلك قوتاً لكلاب المحلة، إذ كانت الحياة شاقة عليك. وأدعو ربك أن يبلوك بهوى ناقة شارف همة مشرمة يفضحك هواها في الإبل فتكون في ذلك هزأة في البرك وضحكة بين الأكوار، وأقول في مظان الإجابة: لا ملأت كرشك من السعدان، ولا شمت بارق الغيق والصيب، ولا رأيت نضرة كلإ عازب، ولا سمعت صوت التلبية ولا زرت الناسة في حجة ولا وقفت ب " عرفة ". وإن كنت يماني المولد فلا قدر لك أن تنظر إلى الفحل سهيل. وإن كان مولدك بالشام فمنعت أن تلمح شآمي النجوم. كيف عمدت جحفلتي بأوازيك أردت أن تجعلني أعلم مثلك أو مثل " سهيل بن عمرو القرشي " أو أفلح مثل " عنترة ". وإن خرجت إلي من حقي فإني أغسل الحقد عليك من قلبي وأنتزع مذمتك من لساني وأحث على مودتك نفسي، ولن تستغني عن صديق من ذوات الحافر كما لا أستغني عن صديق من ذوات الخف؛ وأدعو الخالق بسعادتك وأن يرعيك أنف الكلإ، ويوردك نمير الماء من غير أن تعارك عليه حوماً، ولا تزاحم عليه في موردك عرجاً، بل تنفخ حباب الحوض أو الغدير لاهياً في شربك متهنياً في ذلك بعبك ورشفك، لا تخاف من عصا تقرعك ولا زجر يروعك ويذعرك؛ وأن يعفى ظهرك من الأعباء فيخلو جثمانك من الجلب والدبر، وتسرح في أرض كثيرة العضاه فيها القتادان الأكبر والأصغر، والسلم والطلح والعرفط والسمر والشبهان - فإن " أبا زيد الأنصاري " ذكر الشبهان في جملة العضاه الشاكة ولولا ذلك لم أذكره لك، إذا كان غير " أبي زيد " يزعم أن الشبهان الثمام أو شجر يشبهه. ويكون في تلك الأرض ما يعجبك من أصناف الشجر الذي تطرف ورقه وتجتذب أغصانه. وينقل إليك الله بقدرته قطعة من سعدان " توضح " فيلقيه في أرضك لتعاقب في مرتعك بين أصناف الشجر والنبات؛ ويرزقك هجمة عوناً وأبكاراً كأنها عذارى عليها شارة، ومعاصر تتخير فيها على عينك تخير " أبي قابوس " في قيان العراق. هذا إن كنت راغباً في الضراب. فإن لم تكن راغباً في ذلك، فهو أبقى لأيدك وأرجى لبصيرتك وأدنى لرشدك وأجدر بطول عمرك، على أن العمر إلى الله إن شاء قصر وإن شاء مد. فيهش البعير لأن يخرج إليه من حقه. فيقول: دونك مشفري فأزمه. فيقول الشاحج كلا يا أبا أيوب، ولكني أجعل عوضاً من ذلك تكليفك حاجة يسيرة إذا قضيتها نعشت العثرة وجبرت الكسير واستللت الصغينة ومحوت الغمر. وقد كنت كلفت نحواً منها الصاهل وأدليت إليه بالخئولة، فرد الولغة وهي صفر من البر والوفضة وهي خالية من سهم المعاونة، فالله جازيه بما صنع. وإني لأظنه من آل " داحس والغرباء " فإنهما كانا مشئومين من خيل العرب، لم يقودا براً ولم يجرا صالحاً ولا نفعاً. فالله يلقيه ما لقي الأشقر، ويجعل عقباه إلى سقر. وأعانته على أذيتي الفاختة. فإذا سقطت إلى الأرض للقط الحبة، فلا أطاقت نقراً، وإذا صعدت إلى الجو، فصادفت بازياً أو صقراً. بل يقدر عليها ما هو أشد وأشق: وقوع في الشرك وقد أحكم فلا تقدر على الخلاص، ثم يعمد إليها طفل عارم فيشد خيطاً في الساق ويأخذ طرفه بيمناه ويرسلها من كفيه لتطير، فإذا علت في الهواء وهي من ذلك المرتبط في مهلة، جذبها إليه حين ترتفع إذا لم يبق مهل من الربيط، فإنما يفعل ذلك طلقاً أو طلقين وقد أعنت فخذها بالجذب، فيئست عند ذلك من الحياة وغبرت في قبضة يد الوليد: إن وفي جناحها للطيران فأعضاؤها لا تعدم عنتاً من الهوان. فإذا وهب لها الصحة عدى على جناحها باليد أو المقصين، فهي تود المدية جرت على الجيد، وأنها بالدم تطوق عوضاً عن التقليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وما أحب لها أن تمنى بصقر من صقور " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - إذ كانت لو بلغت إلى ذلك لرزقت به نباهة بعد مماتها إذ منعت من المهل في حياتها. ولكن إن قضى عليها صيد الجارح، فتكون في مملكة خسيس من القوم حتى يكون أمرها فيما لقيته أوجع وحالها أعنت. ولست أسألك ما سألت الصاهل من حمل الشعر. لأني لم أرب بركة في ذكره: أداني إلى طول مناقضة وأوقع بيني وبين الفاختة حتى وشت بي إليك، فصنعت بي ما تراه. ومع هذا فإني كرهت أن أتصور بصور أهل النظم المتكسبين الذين لم يترك سؤال الناس في وجوههم قطرة من الحياء، ولا طول الطمع في نفوسهم أنفة من قبيح الأفعال. فعدلت عن ذلك إلى تحميلك أخباراً مستطرفة، لها في السمع ظاهر ولها في المعنى باطن، أنحو بها ما نحاه " ابن دريد " في كتاب الملاحن و " ابن فارس الرازي " في فتيا فقيه العرب. وإذا ألقيت إليك ما تيسر منها عندي، فأحسن حفظه وخزنه، وإذا بلغت في سفرك مبارك الإبل من الحضرة الجليلة فارفع صوتك بالعجيج، فلعله يفهم عنك. ففي نحو من حديثنا ضرب المثل: كفى برغائها منادياً. ولا تسألني ذريعة بينك وبين السلطان - أطال الله بقاءه - فليس له في الحضرة الجليلة من أعتمد عليه فيما أذكر. وأريد منك أن تفرغ خاطرك لحفظ ما ألقيه إليك، وألا تشرب مديداً حتى تبلغ لي المأربة، فإنه يزيد في رطوبتك، وأرهب عليك النسيان. وكأني بك، أصلحك الله، تعجب في نفسك وتعد أن انصرافك عني أحزم وإعراضك عن قضاء الحاجة أولى بك وأجمل. وقد رأيتك مرما عند المسألة كإرمام الصاهل عنها! فينطق الله، جل اسمه، البعير فيقول: ما أجدرني بالقصير عما تسأل! ولكني لا أحرمك دأباً فيما قلت. وإنما يكلفني عناء في حاجتك، ما سبق إليك بالحدة، وفرط في جنادع الغرة. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، وقد ذكرت عنده الحدة: " إنها تعتري الأخيار من أمتي ". ولا بد للحليم وإن ثقل وزنه، من هفوات. فأخبرني بما جمعت أجهد لك في إيثارك بمشيئة الله تعالى. فيقول الشاحج، وبالله التوفيق: العلم يدل على أن " الحسن " صلى الله عليه وسلم لم ير الحسين قط. وأن " الحسين " صلى الله عليه وسلم لم ير الحسن قط؛ وأن " فاطمة " - رضي الله عنها - لم تر في بيتها علياً، وقد يجوز أن تكون رأته على باب البيت، وأن الخل يجوز أن يكون فيما سلف، كان بحضرة " علي بن الحسين " رضي الله عنهما " فيتكلم ويسأله عن أشياء من أمر الدين؛ وأن " محمد بن علي الباقر " عليه السلام، وهو والد " جعفر الصادق " لم ير في داره جعفراً قط؛ وأن " الحسن والحسين " كانا يأخذان البث بأيديهما فيجعلانه في أفواههما، ثم ينزل إلى الصدور منهما. وأنهما كانا يتطهران بالبسر ويغتسلان منه. وكان " علي " عليه السلام يرحم الأرملة ويبر اليتيم ويضرب بحد سيفه أم الصبيين، ويقطع يد الفيل على السرق، وجلده على شرب الخمر، وكان يأمر بقتل الأعرج والأعيرج وهما في الحرم، ويكره دخول الأعمى المسجد. وكان ينصف الخسيس من أهل الأقدار، ويوطأ الجليل في زمانه بالقدم. وإذا رأى نبيذاً في الجر سأل عن حاله، فإن كان معروفاً ألزم به أهله، وإن كان مجهولاً أنفق عليه من مال المسلمين حتى ينطق ويبلغ الرشد. وكان يلعن البقرة ولا يقول في الثور إلا خيراً، ويصلي إن اتفق له فوق العنز. وأكل الصقر ولم يأكل البازي لأنه من سباع الطير. وكان يعلم البازي أفعال الصالحين فإن قبل منه وإلا أدبه بالسيف أو السوط. ولا يعلم أن السيف والرمح ولدا أولاداً قط. فأما الصعدة فقد ولد لها أولاد قتل بعضهم " يوم الجمل "، وبعضهم في " صفين ". وكانت الصعدة في أيام " علي " ترجع إلى رأيه في الحلال والحرام. وكان يعظم " مكة " ولا نعلمه ذكر " الطائف " إلا بخير، وأمر بضرب المدينة إذا عصت. وكان يتصدق على الزمن ولا ينكر ذبح المقعد بالبصرة ولا بالكوفة، وينكر ذبحه بمكة. ويأمر بقتل الهلال كيف قدر عليه، ويقعد في ضوء القمر وضوء الشمس. ويحمل القبيلة أو القبيلتين والثلاث، ويمشي بهن في الأسواق ولا يجد لهن مساً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ودلت المعرفة بالفقه أنه عليه السلام كان لا يكره أن يبال في الخيل ويكره أن يبال في الماء الدائم، وبذلك جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يمنع أحداً من إلقاء السباطة على الضرير. وكان يلقى الأسد لا بحفل بلقائه، ويكره الضبع أن تمر به، ويطأ الأرنب ولا تشعر بوطأته. ويجيز التيمم بالتراب وفوقه أبوال البغال، ولا يجيز التيمم بتراب نجس. ويزوي الماء عن العليل ويعطيه الظمآن. ويسير على ظهر الحية يومه أجمع، ويكره أن يطأ على الصل. ولم يكن يخضب الشيب وكان يجيز ذبح الخاضب ويجيز أكله شواء وقديراً. وإذا رأى يد رجل معروف أنكره، ولا يستحل النظر إلى ريحان لا يملكه. ومر بسرير يقعد عليه الناس ويأكلون الطعام له آلاف سنين منذ صنع وليس فيه سكى أي مسمار. ولو رأى بني إسرائيل يأكلون اللحم لم ينههم ولو أكلوا لحم يعقوب. واستعان بالغراب في كثير من أمره، وكان يستخرج له الماء من الأرض. ولقيته عقرب فعمت بالأذية جميع أصحابه ولم تضره في نفسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له. وكان الهدهد يكلمه بكلام كثير يفهمه عن الهدهد جميع الحاضرين. وكان النهر يجيئه إلى " يثرب " وهو قاعد في منزله، وكان أصحابه يتبايعون الصمم بينهم ولا يتبايعون العرج ولا الحول ولا العمى. وكانت النساء في زمانه يرغبن في سواد العيون ويشترين الزرق مع ذلك ولا يشترين الدعد. وكان في زمانه قوم يطعمهم السنان من لحم الزج، وقد بقيت منهم إلى اليوم بقية. وكان يجيء عليه الوقت من الزمن في الشتاء، والبرد أحب ما يلقه إليه. وكان طباخه يطبخ له بالحشيش وإن الحطب لكثير موجود، وكان يبغض الحطب والحطابين. ويعطى لك أحد من أهله قطا ينتفع به، ولا يحب أن تقرب إليه قرة العين. وكان يجيز أن يكر على العدو وهو على غير طهارة، ويتطهر بالكر. وكان إذا أوتي بالعالم أر أن يقتص منه. مضت أخبار الأئمة عليهم السلام. وهذه أخبار أذكرها عن نفسي وعن غيري من الناس والبلاد والبهائم والطير: أشير على الصالح من القوم إذا كانت معيشته وادعة ألا يتعرض لجلوس في البز، وألعن، علم الله، البزازين. وأقول للعجوز الصالحة أن تصون ولدها عن لقاء البزاز: إنه لا يؤمن على السرق ولا على القتل، إنما يبكر بدهاء وختل. وأقول للذي يبيع البلسن والبقل: إياك وجوار البزاز فإنه لا يؤمن على قدرك ولا مرجلك ولا مقدحتك. فأما الصائغ وبائع السقط فيجب أن يكون هربهما من البزاز شديداً. إنه لا يأمنه في الخلوة أحد إلا من شاء الله. وإن قدر باسك ألا يصلي إلى جانب البزاز فإنه حسن. سبحان ربنا العظيم، هل يصلي البزز في السفر لعله يغفر له؟ أم لا يفتقر إلى الصلاة لعلمه أنه قد حقت عليه كلمة العذاب؟ فأي موقع لصلاته وزكاته؟ إنما يصوم الأبرار ويزكي المتحرجون. فلا تشتر من بزاز قميصاً، فلعله أيها الرجل حرام. وإذا رحل في رفقة الحج فمن الحزامة لهم أن يطردوه. فإن أبى إلا أن يبيت معهم في المنازل فإن البادية إذا تخيلوا في الرجل أنه بزاز أوثقوه وصفدوه، وإن كان قد أكل من طعامهم، يخافون معرته أن تقع بخيلهم وأنعامهم. وإن حضر " مكة " فطاف ووقف ب " عرفة " وقضى المناسك ولا غرض له في الثواب، وإنما ينتظر غفلة من الحجيج فيختلس منهم بعض المتاع. لا حج له ولا عمرة، وإذا حلف لم يصدق، فلا تقبل له شهادة، ولا تجعل عنده وديعة ولا تقبل عليه الحوالة، ولا يحل أن يشرك بينه وبين من لا يعرفه شركة عنان ولا شركة مفاوضة. ولا يعار، إذ كانت العارية أمانة وهو لا أمانة له. وإذا بلغ ابن البزاز وكان على طريقة أبيه ظفر به السلطان، فيجب أن يستتيبه فإن تاب وإلا وقعت عليه أحكام أبيه. قال الله سبحانه: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ... الآية. ولا يجب أن يوثق به في الكفالة على كل حال، وإنما يكفل أخو الأمانة. تراه عارياً في الحندس تأخذه من البرد العرواء، وهو في ذلك لا يقدر على الدفء، وإن البز لمعلق في عنقه. وكيف يرجو دفئاً من بزه وهو يوصف بشبم وبرد؟ وإني لأعجب من البزاز يطلب القراض أو يطمع فيه. لا يكن بينك وبينه وجه من المبايعة ولا المساقاة ولا الزراعة ولا الإجارة. إنه لا يرد اللقطة إذا وجدها ولا يؤمن على إفساد الأمة إذا لقيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فإذا انضاف إلى ما ذكر من أخلاق البزاز أنه خزاز، فإنا لله وإنا إليه راجعون! صلان في الثمة وأرقمان في الهشيمة، وشبوتان في سك واحد، وذئبان وقعا في الفريقة. إلا أن البزاز قد يكون غير خزازاً والشرة بحالها والشيمة ليست بالمغيرة عن سوئها. والخزاز قد يكون غير بزاز، فلا يعرف به بأس يؤدي الأمانة ويصدق في الشهادة ويعترف بالحقوق، وتصلح معه المبايعة، ويحكم عليه فيما صنع بأحكام المسلمين. فإذا كان الرجل بزازاً خزازاً قزازاً، فالمستغاث بالله ممن تجتمع هذه الخلال فيه: أما البز فحدث عظيم، وأما الخز إذا وقع في حين البز فنائبة ينسى البز معها ويغتفره الصالحون عندها، وأما القز فأيسر من الخز، وأصحاب القز قد يكونون صلحاء أخياراً. ومن العجائب أن كل ملك من بني أمية وبني العباس، كانوا في أول أمورهم قزازين. ولو سمع هذه المقالة بعض موالي قريش لغضب منها وعبد. وقد علم عالم الأسرار أني لم أدع في ذلك باطلاً. ومن غريب الحديث وصحيحه أنه كان " بالكوفة " قز عند القزازين يتكلم ويشرب ويأكل من غذائهم، إلى أن ملوه فطردوه. ولا يعرف أن الخز والبز تكلما قط. وفي هذه البلاد رجل من أغلظ الناس وأجفاهم بشرة، يحتطب مع المحتطبين ويحمل الجندل إلى أصحاب البناء، يحاك الحجر فلا يدميه. ويماس الحديد فلا يضره إذا رفق به. ومتى أصاب جلده الخز أدماه. أفليس هذا بعجب، وإنما ألين ثيابه الكرادي الوخشة؟ وقد ذكر أنه كان في الأرض قزازاً ما سمع بشر منه: يتعمد أذية المسلمين ويقطع عليهم صلواتهم ويفرح بانهدام المساجد وقطع الزكوات، ويحث على الغيبة ويزين لإمام القوم أن يصلي بهم على غير طهر، ويحسن للقضاء أخذ الرشوة، ويتقدم إلى الولد بعقوق الوالد، ولو سمعني يهود بلدنا جاز أن يظنوني عنيت " القزاز والد منشى بن إبراهيم " وما عنيت ذلك، والذي قصدته لم يمت، وصاحبهم قتل ابنه ومات هو. ولا أقول في الخياطين إلا خيراً. إلا أن كل خياط وجد في الجوامع والمساجد والطرق، فقتله حلال. وكان في بلدنا قاض دين يجيز أكل لحم الخباز والخبازة، وأن يطبخ باللبن والخل. وكان في هذا البلد جندي أبح، أقام أربعين سنة يدخل على القضاة والأمراء، وهو في ذلك لا يذوق النوم. وكان ذا وجهين. وكان ها هنا قصاب يذبح الضأن صغارها وكبارها والأمات منها والأولاد، وما ذبح خروفاً قط! ومن زوال الدهر أنه كان في هذه البلدة جندي محارف، فنتجت فرسه خروفاً، ونفقت الفرس وبقي الخروف. وحدثني الثقة أن الجند بخراسان يركبون الخرفان. وأن الظباء في نواحي " البصرة " تلد الجحاش. والناس في الشام يبغضون الأبارين وكذلك في العراق، ولا يرون قتلهم إلا بحق، فأما الأبارة فقتلها مباح في كل الأحيان. والسنانير إذا كانت في أرض البادية تقلدت بالسيوف ولعبت بالرماح. وكان في هذه الأرض قاض يحب الفالوذ فكان إذا رقد وضعه قريباً منه، فإذا انتبه في بعض الحندس لمص. وكانت المضيرة إذا حضرت بين يديه كلمته فسمع كلامها الشهود. وكان بعده قاض آخر يأكل الخناثر ويحتسي الحليب ويستعمل في مطعمه رسل المعز والضأن، ويعجبه ما يحتلب من الجواميس، وما يعلم أنه ذاق لبناً قط!. وفي البادية راع لا يزال في صيف وشتاء يحمل جحشه في يده ومعه جحشان لا يفارقانه: موقعهما بجنبيه ينام وهما معه، وينتبه وهما كذلك. وفي قرية من هذا الإقليم أتان يشهد الثقات أن لها أكثر من ثلاث مائة سنة، وحماران يوفيان على هذه المدة. ولا عجب من أمر الله، قد مرت بنا منذ سنين جارية شهد خلق كثير أن عمرها زائد على ألف سنة. وكانت في " حمص " عجوز لها دجاجتان أقامتا في تابوت نحواً من ستة أشهر أو سبعة بغير علف ولا ماء، ثم خرجت بهما إلى السوق فباعتهما، ولم ينقص طول الحبس ثمنهما. وكان في " وادي بطنان " راهب يشرب بول الأسد ولا يشرب بول اللبؤة. وكان في " بالس " خطيب يتطهر ببول العجل والعجلة، وإذا أصاب ثيابه شيء من بول الثور غسله. وكان ب " الرقة " طبيب يفصد السواعد، ويسقي الأعلاء في بعض العلل ما يخج من السواعد. وإذ اعتل رجل ب " لموصل " استد فرقه من المحموم. وفي نواحي " نجران " خيل لها قرون. وفي " دمشق " عجوز ولدت بيضة في عمرها، ثم لم تعد إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقد شاهدت أنا جاموساً خرج من بيضة، ورأيت الفرس يخبط بيديه البيضة فلا يكسرها. وما عنيت بيضة الحديد، لأن ذلك معروف منها الصلابة. والأوعال في جبالها تراقب الصوم، ولا تراقب الصلاة. وفي " الرملة " رجل يصلي ويتحدث البيت ذلك وهو قاعد لم يقم ولم يركع ولم يسجد ولم يذكر الله، ولا هو على طهارة. وقد شهد له المسلم والكافر أن يصلي، وهو في تلك الحال. وفي مذهب الفقهاء أن من وطيء الجامع وهو على طهارة وجب عليه الغسل فإن وطيء كنيسة فلا شيء عليه. وكان " محمد بن إدريس الشافعي " لا يقرب الجامع ويبيت في الكنيسة. ومن رأى " أبي حنيفة " أن من قتل حراً فلا شيء عليه. ويجوز في مذهبه أن يطبخ لحم الفقيه، فأما الفرضي والنحوي فلا يعرض لهما إلا بخير. ومن بالجزيرة من العرب، يأكلون في السنة المجدبة لحوم الفقهاء. وفي نواحي اليمن قوم فقراء يأكلون الذرة ويكيلونها بالذهب. ولعل فيهم من لم يملك ديناراً قط. ويقال إنهم يأكلون لحم الشيطان. والدجال قد ظهر منذ سنوات في عمل " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أدام الله سلطانه. وهو يكون عند بعض الجنود بمدينة " حلب " حرسها الله. وكذلك ياجوج. فأما " ماجوج " فلا خير منهم إلا أن يدعي ذلك بعض المتسامحين في القياس. والقاضي ب " حلب " عادل منصف، على أنه يجيز أن يطبخ المظلوم بقدير أو مرجل، ويبيح أن يضرب خد المظلومة بالفؤوس. وفي دينه أمر الظالم بمعونة الظالمة. ويحل للخباز أن يأكل كبد العجان وغيرها من جسده. ويحب أن يدخل الجنة، على أنه يبغض الحور. ولا يلتفت إلى قول الغافر، ويود أنه غفر له. ويطلق لأم الولد إذا مات عنها سيدها ثم تزوجت، أن تبيع زوجها من المسلم واليهودي والنصراني. ومن الأخبار الصحيحة أن أهل " سرمين " وأهل " قنسرين " لا يقدر أحد منهم أن يمس ذنب الدجاجة، فمن ادعى منهم أنه يقدر على ذلك فهو كاذب. وههنا قرية تعرف ب " الكفر " إلى جانبها قرية تعرف ب " البارة ". فأما " الكفر " فمقيمة في الشتاء والصيف. وأما البارة فتسافر في قيظ وربيع. وأهل الزوج لا يفرقون من الرجل المستيقظ، ورجالهم ونساؤهم تفرق من النائم. وساكنوا القرى من الكرابين، إذا نزل بهم الضيف ذبحوا له الدجاج وصانوا عنه البيض. والنصارى ينتظرون نزول " المسيح " صلى الله عليه. فهل شعروا أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - إذا ركب لامتحان الفوارس في ميدان السلم نزل المسيح لا محالة؟ وما في الأرض نصراني ولا نصرانية إلا وهو يذم القس، وإن أتياه فيمن يأتيه حتى ملك الروم وبطارقته. ولا يمشي الرجل في " تنيس " بنعل عربية إلا ومعه بطريقان. وفي بلاد " حلب " حرسها الله، قرية تعرف ب " أورم الكبرى " لا يدخل عيون أهلها الكرى. والنعامة في كل ليلة تبرك على أهل " عزاز " وب " الرملة " قوم سمرة يحرمون السبت، وفي " دمشق " سمرة مسلمون يحلون السبت. وخير الأمراء من يحوط الرعية ويمنع الغاوين من شقهم عصا الملة، ويحب القناة والسيف ويبغض القصبة. فالحمد لله الذي جعل " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - كذلك. والقاضي ب " مدينة السلام " لا يدخل عليه عدل من عدوله إلا ومعه دفان، كل واحد منهما أحب إليه من مائة دينار، والساج من بعد على كتفيه. وأهل " منبج " لا يرى العجل منهم عند أميرهم أو قاضيهم. وأهل " بعل بك " يفرح الرجل منهم بأن تكون له الأمة، وكلهم يبغضون الحرائر. وبلادهم كثيرة الكروم، ولا يرى الرجل منهم في كرم طول عمره. و" جوسية " يجوز أن تجتمع فيها الكوفة والبصرة ومصر، في يوم خميس أو جمعة. وأهل " رفنية " يأمنون البيت والمسجد، ويفرقون من الدار. وكانت العرب تتشاؤم بالصرد وهو طائر أخضر يسمى الأخطب، وإياه عني " امرؤ القيس " بقوله: كما رعت في الضالَةِ الأَخطبا وبحتر من طيء لا يرى الرجل منهم إلا ومعه صردان في ليل ونهار، وكذلك كان " الوليد بن عبيد البحتري ". وإذا ركب " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - دعا له البرج والصور بدعاء يفهم، وكل عبيده يرجو البق ويبغض الذباب، ولو وقف بعضهم على ظهور الأسد يومه أجمع لما شعرت به. وهو، أعز الله نصره، يغضب على من ينظر إلى غراب لا يملكه، وتثنى عليه الدرة وتفر الصدفة خشية العقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأهل مملكة " محمود " يزعمون أن له سبعمائة فيل، يستعظمون ذلك. ولو أراد " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - أن يجمع في اليوم الواحد عشرة آلاف فيل على نحض وثريد لفعل. ومثل هذه الأخبار كثيرة لا تحصى، وأقتنع بما ذكرت خشية الإطالة. فيجوز أن ينطلق الله البعير فيقول: " دهدرين، سعد القين "! إن جرفك لمتهدم، وإنك لمجتريء على الكذب. وما يحسن بمثلي وأنا مخلف عامين، أن ينقل باطلاً ولا يتحمل كذباً. يا نغل يا وغل، لعنت ورعنت وطعنت! ربك منك ينتقم، فلذلك عقمت فيمن عقم. أعلى " أهل البيت " عليهم السلام تلع؟ لعلك لهم ناصب فيصيبك عذاب واصب. أزعمت أن الريحانتين " صلى الله عليهما لم ير أحدهما الآخر، وحكمت أن " البسطين " يجريان مجرى القرطين هما في الحقيقة أخوان ولكنهما لا يلتقيان؟ وهل فرق بينهما شيء إلا الموت؟ ولعمري إن " الحسن " قد سافر تلك السفرة ولم يكن " الحسين " معه. وزعمت أن " محمد بن علي " لم ير جعفراً في داره، فمن الذي نقل ذلك إليك؟ أليسا " بالمدينة " كانا قاطنين؟ أفتظنهما كانا لا يتزاوران؟ لقد كذب ظنك ولم يوفق رأيك. إنما يترك الزيارة من ينسب إلى العقوق. فأما الولد البر والأب المشفق فلا بد لهما من الزيارة. وقد دلت الأخبار أن " جعفراً " عليه السلام كان يسكن مع أبيه في الدار برهة من الدهر. وأما قولك إن " الزهراء " صلى الله عليها، لم تر " عليا " رضي الله عنه في بيتها، فعليك بهلة الله، " أين كانت تلقاه؟ أفي بيوت الناس أم على ظهور الصعدات؟ " وزعمت أن الخل كان يحضر مائدة " علي بن الحسين " فيسأل عن الحلال والحرام. وهل للخل أرب في ذلك؟ ما يشعر الخل، وجدك، أفي خابية خل ألقى أم لشاكى صفراء سقى؛ ولا يبالي أطبخ به لحم خنزير أو لحم فصيل؛ ولا يحفل أأدم به الناسك رغيفاً أم تصبغت به الفاجرة حليفة العهار، ولا يحس أجمد في شتاء بارد أم غلت به البرمة فوق الجمر الواقد. وهل هو فيما زعمت إلا كماء الكحب والسليط وما يعتصر من الثمار والورد؟ وما يؤمنك إذا ادعيت ذلك أن يدعى مدع للخمر أنها لقيت بعض الأثمة فسألته عن نفسها فزعم أنها حلال؟ وما تنكر، إذا قلت ذلك، أن يقول قائل: إن نبيذ التمر فقيه يفتي فيما يرد من المسائل؟ ثم زعمت أن " علياً " - صلى الله عليه - كان لا يكره أن يبال في الخل. فبعداً لك من مناقض بين خبريك! فالعجب من كلا أمريك: بينما جعلت الخل متفقهاً، عدت فزعمت أنه لا حرمة له كغيره من الأطعمة والأشربة. ومعاذ الله، لو جاز أن يفعل ذلك بالخل، لجاز أن يفعل ذلك باللبن والزيت. وزعمت أن " السبطين " كانا يتطهران بالبسر ويغتسلان منه. فما الذي تقصد بهذا القول؟ لو جاز التطهر بالبسر لجاز بالعنب والبلس وكل الثمار. اللهم إلا أن تعنى أنهما كانا يعطيان البسر لمن يجيئها بالماء. فإن كنت أردت ذلك فأي فائدة في كلامك؟ تجوز الطهارة على هذا بالإهليلج والصبر وكل ما ينتفع به الآدميون. وزعمت أنهما كانا يأخذان البث بأيديهما فيضعانه في أفواههما. وذلك من المنكرات: إنما يؤخذ باليد ما تشغل به الأماكن. فأما الأعراض فلا يقدر أحد أن يدعى فيها ذلك. هل يمكن رجلاً أن " يقبض على السواد أو البياض أو الرائحة؟ ولكن قد اختلف المتكلمون في الحركة، وهي عرض، فقالت طائفة: الحركة لا ترى، وهو مذهب النحويين. وقالت طائفة أخرى: بل الحركة مرئية وليس لها تعلق بهذا القول. وقد نفى بعض المتكلمين الأعراض؛ وإلى ذلك ذهب " الأصم " ومن أخذ بقوله. ولو جاز أن تقبض الكف على البث، جاز أن تقبض على السرور وعلى الغيبة وعلى الظن وعلى غير ذلك من الأعراض. وأما زعمك أن " علياً " كان يضرب أم الصبيين بسيفه، فإنما فعل ذلك لحدث أحدثته أوجب لها أن تضرب. وادعاؤك أنه كان يكره دخول الأعمى المسجد، كذب لم يروه أحد من الشيعة ولا من غيرهم. وما خلت المساجد في عصره، عليه السلام، من المكفوفين يقرأون القرآن في المساجد ويقرأونه الناس ويؤمون بالجماعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وقد كف قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما روى أن أحداً منهم منع من المسجد. وقد نقل في الأخبار أن " ابن أم مكتوم " - وكان اسمه عمراً فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله - شكا إليه مجيئه للمسجد وكان بعيد الدار، وبينه وبين المسجد أشب، أي شجر ملتف. فلم يرخص له صلى الله عليه وسلم في ذلك. - وابن أم مكتوم من المهاجرين، عامر بن لؤي، واسم أم مكتوم " عاتكة ابنة عبد الله ابن عنكثة بن عامر بن مخزوم ". أو ليس " أبي بن كعب " كان يقرىء الناس القرآن " في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والمسلمون بعد مجمعون على أن الأعمى مندوب إلى حضور الجماعات إذا كان يقدر على ذلك. وقد روي عن " أبي حنيفة " أنه كان يكره إمامة الأعمى، والناس على خلافه. " والإمامة لعمري غير الدخول، ولو سمع هذه الحكاية عنك أضراء المساجد الذين يقرئون فيها القرآن ويلقنونه الناس، لابتهلوا عليك في أعقاب الختمات، فلقيت من العقوبة ما يتعوذ من قليله الكفرة والمؤمنون. ولو علم هذا منك قوم يتوسلون في المساجد يخبطون الأرض بالعصى، لوقفوا لك في بعض طرقك وخبطوك بعصيهم خبط الراعي السلمة، فما أجدر دمك عند ذلك أن يكون فزغاً جباراً؛ ولديها تنسى ما لقيت من وبيل الغلام الغارم الذي يستأجر لسوقك. ثم أضفت إلى دعواك هذه، أنه كان لا يمنع أن تلقى البساطة على الضرير. ولو بلغت هذه المقالة رجلا في هذه البلدة وهو ضرير حنزقر أعجر قد جعل له " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - جراية في وقف الجامع " بمعرة النعمان " فخظى وبظى وقويت نفسه ونفذ عزمه، لقعد لك في بعض المضايق ومعه عرزجلة عجراء، هي في العصى مثله في الناس قصيرة غليظة، فاستقبلك بها لبناً وبزراً بزراً وهو يرتجز بصدر هذه الآية: ليس على الأَعمى حَرَجْ ... ولا على الأَعرجْ حَرَجْ وتحمله الرغبة في إقامة الوزن على أن يسكن جيم حرج وجيم الأعرج. فأما تسكين جيم حرج، فكما تسكن الحروف في القوافي. وأما تسكين جيم الأعرج، فضرورة، كما " قال الشاعر: إِنك لو باكرتِ مشمُولةً ... حمراءَ مثلَ الفرسِ الأَشقَرِ رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما ... وقد بدا هَنْكِ من المِئْزَر وإنما قلت: يرتجز بصدر هذه الآية، لأن أشياء في الكتاب الكريم قد استعان بها الشعراء في النظم، ففيه آيتان متصلتان حذفت منهما لام واحدة، ووصلهما " الحكمى " بالوزن الخفيف فقال: أَرَأَيتَ الذي يُكذبُ بالدينِ ... فذاكَ الذي يَدُعُّ اليتيما وآية أخرى إذا حذف منها إن، أمكن أن توصل بالضرب الأول من السريع فقال: يا أَيها الناسُ اتَّقُوا ربَّكم زلزلةُ الساعةِ شيءٌ عظيم ويحك! ألم يكفك أنك ادعيت كراهته لدخول الأعمى المسجد، حتى جعلته لا يمنع أن تلقى السباطة على الضرير؟ فإن كان مؤمناً فكيف يأمر بذلك؟ وإن كان كافراً فغير هذا الصنيع يجب أن يكون عقوبة للكافر. والعجب كل العجب لهذا التضرير، له جزء في ملكك وهو يسمع خبط حوافرك والنبأة من شحيجك في ليل ونهار، كيف لا يزجرك عن هذه المقالة إن كان قد علمها منك؟ وكيف يصل إلى علم تكل؟ هيهات هيهات! ولو علم كان ضعيفاً ركيكاً خليقاً أن يحتمل كل ضيم وأن يصبر على كل أذاة. وبعض من لا يعرفه من العامة يظن أنه من أهل العلم. كذبت الظنون، لو كان كذلك لولب من حضرة " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - لأنه كما قيل في المثل: لا مخبأ لعطر بعد عروس. ولكنه، المسكين لا يبهج لثناء يكذب عليه. وزعمت أنه كان يجيز التيمم من التراب وعليه أبوال البغال. فمن حدثك هذا؟ أبغل أسنده لك عن بغل؟ لا اختلاف بين الفقهاء أن بول ما لا يوكل لحمه ليس بطاهر. وإنما جاءت الرخصة في أبوال الإبل، أفحسدتنا على ذلك يا لعين؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يخرجوا إلى الإبل فيصيبوا من أبوالها وألبانها؟ والعرب إلى اليوم فيهم من يشرب أبوال البكرات في الربيع من غير علة دعتهم إلى ذلك. أذكرت ما ذكرت ليفتخر به رهطك، وإنهم من ذلك الفخر لبرآء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وذكرت أنه أحل قتل الأعرج والأعرج في الحرم. وما ذنبهما حتى يقتلا؟ أليس " أبو الأسود الدؤلي " من علية أصحاب " علي " رضي الله عنه؛ ولا اختلاف أنه كان أعرج. والعرجان في العرب أكثر من أن يحصوا في الجاهلية في الإسلام، ما أحل العرج لهم دماً ولا أباح منهم محظوراً. ولو بلغ قولك هذا رجلاً يعرف بالأعرج يخدم في العرصة، لما أغفلك من مكافأة. وأقل ما يخشى منه أن يأخذ من فنادق العرصة ما قدر عليه من ذي بطن الفارة، فيجمعه في ردنه، فيلقيه في معلفك. وزعمت أنه قطع يد الفيل على السرق. فمن فتح لك هذه الطرق من الكذب؟ والذئب والثعلب يسرقان منذ كانا، وهما ذليلان خسيسان ما قطعت أيديهما على ذلك. فكيف تقطع يد الفيل، والأسد يستخذي منه؟ وإنه ليكون في الجحفل العظيم فلا يكون هنالك أعز منه، وإنما يحضر لنصرة الملوك، والسرق من أخلاق السفلة. وكيف يسرق الفيل ولو غصب أجل قائد في العسكر لنفذ له الحكم عليه؟ والحيوان إذا قدر على الغصب لم يعرض للسرق. فبعداً لك! لم يقنعك أن تكذب على نفسك ونظائرك وصغار الدواب، حتى كذبت على أعظم دابة تعرف. لو علم بهذه الزلة أبو دغفل لما غفل ولو أضاع الدغفل. وكيف تفرق من الكذب على الفيل وقد كذبت على " علي " عليه السلام وولده الصالحين؟ وزعمت أنه كان يلعن البقرة ولا يقول في الثور إلا خيراً. فترب لك وجندل! ما الذي جنته البقرة حتى يلعنها أمير المؤمنين؟ أليست أم الثور وأخته وابنته؟ فكيف وجب له خير منعت منه، وهي ألين عريكة وأذل نفساً وأقل جناية بالقرن؟ أليست تكرب الأرض مع الثور وتشاركه في جر النيارج، ولا تمتنع من أعمال الآدميين؛ وربما حمل عليها الراكب في السفر فبلغته ما يريد؟ وأحسبك من جهلك ذهبت إلى بقرة بني إسرائيل التي أمرهم " موسى " أن يذبحوها في القصة المعروفة. فإن كانت تستوجب اللعنة لأن ذبحها مأمور به، فقد وجبت اللعنة على " كبش إبراهيم " وعلى عتائر الناس ب " منى " في أنواع النسك من التطوع وجزاء قتل الصيد وما يفعله المحرم من لبس ثوب أو مس طيب. إني لأرى قي قراح على طريقك إذا انصرفت، باقراً ترتع، ولو علمت إناثه بدعواك لعمدت لك في روحتك بصياصيها المذلقة فرحت إلى مربطك وما في جسدك عضو إلا وهو كسير أو دام. هذا إن سلمت من إتيانها على نفسك. أفحسبت " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أطال الله بقاءه - كان يعدي على البقر وقد بلغه الحديث المروي: " العجماء جبار "؟ ولعلك تظن في نفسك أنك يقاد بك، وهيهات، لا قود في البهائم إلا أن يقتل بعضها بعضاً في المعترك فتكون دماؤهن هدراً. ولذلك قالوا في الممثل: " باءت عرار بكحل " وهما بقرتان كانتا في الدهر الأول. ولو أقيدت بقرة ببغل لسب من يفعل ذلك كما سب " ربيع العامري " فقيل فيه: شهدتُ بأَن اللهَ حقٌّ لِقاؤه ... وأَن ربيعَ العامريَّ رقيع أَقادَهمُ كلباً بِكلبٍ ولم يَدَعْ ... دماءَ كلابِ المسلمين تضيعُ والبقرة خير منك، لأن لحمها يتقرب به إلى الله سبحانه فتجزيء عن سبعة. ولي الفضيلة عليها إذ كنت مطية الصالحين، لأني أجزيء عن سبعة أيضاً، وأنا أكثر بضيعاً منها. فأما لحمك فرجس نجس إنما يرغب فيه كلب أو نحوه. وزعمت أنه كان يأكل الصقر. وقد علم ربك بطلان ما تذهب إليه. أ " علي " عليه السلام يفعل ذلك وقد جاء " محمد " صلى الله عليه وسلم بتحريم سباع الطير صقرها وبازيها وعقابها وغير ذلك من الصوائد؟ ولم يكفك ادعاؤك أنه كان يأكل الصقر حتى زعمت أنه كان يعلم البازي أخلاق الصالحين. وما نعلمه علم طائراً شيئاً من ذلك. وكيف صار البازي أولى بتعلم صالح الشيم من الشاهين والحمامة وغيرهما من الطير الوادعة المتظاهرة بترك الشرور؟ وكيف زويت هذه المنفعة عن الديك وهو وأسرته يتوارثون الأذان من عهد " بلال بن رباح " ولا يزال مؤذن منهم في أوقات الصلوات ما بقي في الأرض إسلام؟ أليس في الحديث الذي يحكى عن " العزيز " أن الله اختار من البهائم الضائنة ومن الطير الحمامة ومن الشجر الحبلة؟ والديك لا يرتاب في أنه من صلحاء الطير. ألم تبلغك تلك الحكاية أن امرأة سمعت قول الشاعر: وكأْسِ عُقَارٍ يَحْلِفُ الديكُ أَنها ... لدى المزجِ، من عينيه أَصفَى وأَنْوَرُ فقالت: الديك من صلحاء الطير ولم يكن يحلف إلا صادقاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولعلك زويت هذه الفضيلة عن الديك لأنه ربما أذن بالصبوح فنهض إلى الكأس الشرب كما قال " عبدة بن الطبيب ": إذ أَشْرفَ الديكُ يدعو بعضَ أُسْرتِهِ ... إِلى الصَّبوحِ وهمْ قومٌ مَعازيلُ وقال " الجعدي ": ودَسْكَرةٍ صَوْتُ أَبوابِها ... كصوت المواتِحِ بالحَوْءَبِ سبقتُ إِليها صياحَ الديوك ... وصوتَ نواقيسَ لم تُضْرَبِ أتؤاخذ المؤمن من الديوك بذنب الكافر، وتلزم برها جريمة الغوى؟ إن ذلك لجهل منك، وكل العالم في الإسلام لا يخلون من قرناء كانوا على الكفر حتى اختلفت الأئمة في آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجداده فقالت الشيعة: لم يكن بينه صلى الله عليه وسلم وبين آدم إلا رجل مؤمن. وروى غيرهم أحاديث في ضد ذلك كثيرة، منها أنه " صلى الله عليه وسلم " قال ل " عدي ابن حاتم الطائي " وقد قال له: يا رسول الله، اخبرني عن حاتم. فقال: " أبي وأبوك في النار " وفي حديث أنه قال: " اطلعت في النار فرأيت فيها قصي ابن كلاب يجر قصبه، فسألته عن من بيني وبينه من الآباء فقال: هلكوا ". في أحاديث كثيرة. وفي الكتاب العزيز: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى ". وقرأ " المدني ": " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " بالجزم على النهي. فجاء في التفسير أن قال صلى الله عليه وسلم: ليست شعري ما فعل أبواي؟ فقيل له: " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ". ولعلك تؤاخذ الديك بما قال " بشار " فيه: يا أَطيبَ الناسِ رِيقاً غَيْرَ مُخْتَبَرٍ ... إِلا شهادةَ أَطرافِ المساوِيكِ قد زُرتِنا زَورةً في الدهرِ واحدةً ... عُودِي ولا تجعليها بَيضةَ الديك وما الذي يلحق الديك فيما قال " بشار " من المسبة أو المأثم؟ وهل هو في هذا إلا مثله في قول " ذي الرمة " لما وصف سقط النار فقال: وسِقْطٍ كَعيْنِ الديكِ نازعتُ صُحْبَتي ... أَباها، وهيَّأضنا لموضِعِها وَكْرا فلمَّا بدتْ كفَّنتُها وهي طفلة ... بطَلْساءَ لم تكملْ ذراعاً ولا شِبْرا وقلتُ له ارفَعْها إِليكَ وأحْيِها ... بِرُوحِكَ واقْتَتْ لها قيتةً قَدْرَا وظاهِرْ لها من يابِسِ الشخْتِ واستَعِنْ ... عليها الصّبا واجعل يَدَيكَ لها سِتْرا فما تَنَمَّتْ تأْكلُ الرِّمَّ لم تدَعْ ... ذوابلَ مما يجمعون ولا خُضْرَا ولما جَرَتْ في الجَزْل جَرْياً كأَنه ... سَنَا الفجر، أَهْلَلْنا لخالِقها شُكرا فلا فضيلة للديك في أن " ذا الرمة " شبه عينه بسقط النار. كما أنه لا عار عليه فيما ذكر " بشار ". ولو أدركه من ذلك عيب لكان من يذكره الشعراء من النساء في النسيب ومن يعمدون له بكذب وهجاء، غير متعر من القالة ولا بريء من القصب ولعلك سمعت ما يتحدث به الناس عن الزمان القديم من أن الديك والغراب كان صديقين في الدهر الأول، وكانا يتنادمان. فشربا عند خمار أياماً فلما نفد شراب الخمار وأحس الغراب أنه يريد الثمن، أصبح يوماً والديك نائم فقال للخمار: إني ماض فآتيك بحقك، وصاحبي هذا رهن عندك على مالك. وذهب فلم يعد. وذكر ذلك " أمية بن أبي الصلت الثقفي " قال: بآيةِ قام يَنطِقُ كلُّ شيءٍ ... وخان أَمانةَ الدِّيكِ الغُرابُ أَقاما يشربانِ الخَمْرَ دَهْراً ... فخانَ العهدَ إِذ نَفِدَ الشرابُ فمثل هذا الحديث لا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما تلك أكاذيب تحدث بها أهل الكتب من اليهود والنصارى وسمعها " أمية بن أبي الصلت " وغيره فنظمت في الشعر. و " أمية " توجد في شعره أخبار كان ينقلها من الكتب الموجودة في أيدي أهل الملتين المخالفتين. منها أن الهدهد قبر أمه في رأسه، فلذلك ريحته منتنة. قال: غَيْمٌ وظلماءٌ وفضلُ سَحابةٍ ... أَيامَ كَفَّنَ واستزادَ الهُدهدُ يَبْغِي القرارَ لأُمِّه لِيُجِنَّها ... فبَنَى عليها في قَفاه يَمْهَدُ ولعلك إذا صح معك هذا الحديث، تعيب الديك بالغفلة والبله وتقول: قد جرى له مع الغراب ما سلف وكان ينبغي أن يتأدب، لأن المثل القديم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين ". وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ل " أبي عزة " الشاعر وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فأسر " يوم بدر " فأطلقه. فلما وصل إلى " مكة " عاد إلى ما كان فيه من الهجاء. فأتى به مرة أخرى أسيراً فسأله الإطلاق فقال عليه السلام: " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين ". وإنما تعنى برجوع الديك إلى مصاحبة الغراب قول الشاعر: ولاحِقةٍ بأَعْجازِ المطايَا ... يَقيلُ الديكُ فيها والغُرابُ وليس في هذا البيت دليل على اجتماع هذين، وإنما هو بيت معنى، يعنى بقوله " ولاحقة بأعجاز المطايا " الظلال. والديك والغراب وكل الحيوان الذي في الأرض يقيل في الظلال إلا أن يكون الحرباء وما هو مثله في البروز للشمس. ولعلك لحقك حسد للديك لما سمعت قول القائل: كأَنَّ الديكَ، دِيكَ بني نُمَيْرٍ ... أَميرُ المؤمنين على السريرِ فهذا تشبيه لا فخر للديك به. أليس " علي " رضي الله عنه قد مر ب " عبد الرحمن بن عتاب " وهو مقتول، فقال: هذا يعسوب قريش؟ فأي فخر لليعسوب بذلك؟ وفي حديث آخر: " فعندها يضرب يعسوب الدين بذنبه فتجتمع إليه فرق المسلمين كما تجتمع قزع الخريف " وإنما اليعسوب ذكر النحل، وقد يسمى ذكر الجراد يعسوباً وكذلك بعض الجعلان. ولا فضيلة للشيء من أحناش الأرض زقع به التشبيه. وإنما هذا البيت لرجل يصف نفسه بالسكر وزوال العقل، وأنه قد بلغ إلى حال يتصور فيها الأشياء بغير ما هي عليه. والأبيات: شرِبْنَا شَربةً من ذاتِ عِرْقٍ ... بأَطرافِ الزُّجاجِ من العَصيرِ وأُخرى بالمُرَوَّحِ ثم رُحْنَا ... نرى العُصفورَ في خَلْقِ البَعيرِ كأَن الديكَ، ديكَ بني نُميرٍ ... أَميرُ المؤمنين على السريرِ ورُحْتُ أَرى الكواكبَ دانياتٍ ... تنالُ أَنامِلَ الرجُلِ القَصِيرِ أُدافِعُهنَّ عن رأسِي بِكَفِّي ... وأَمْسَحُ جانبَ القَمَرِ المُنيرِ وإن كان في الديك بعض البله، فإنه مما يوصف به أهل الخير. وقد جاء في الحديث عن " المسيح عليه السلام ": كونوا بلهاً مثل الحمام. وفي الحديث المأثور أنه دخل الجنة فوجد عامة أهلها البله. فأما التباله فخلة يمدح بها الرجل إذا وصف بالكرم. قال " أبو دهبل الجمحي ": تَخَالُ فيه إِذا حاوَرْتَه بَلَهاً ... عن مالِه وهو وافي العَقْلِ والوَرَعِ أما النساء فقد كثر وصفهن بالبله. قال " حسان ": منْ كلِّ ناعِمَةٍ غَضيضٍ طَرْفُها ... بَلهاءَ غيرِ وشيكةِ الإقدام وقال " أبو النجم ": مِنْ كلِّ عَجْزاءَ سَقِيط البُرْقُعِ ... بلهاءَ لم تُحفَظْ ولم تُضيَّعِ وقال " المرقش ": في كلِّ يومٍ لها مِقْطرَةٌ ... فيها كِباءٌ مُعَدٌّ وحَميمْ لا تصطَلي النارَ بالليلِ ولا ... توقَظُ للضيفِ، بلهاءُ نَئٌومْ ولعلك تؤاخذ الديك، فحل الدجاج، بما جناه المعروف به " ديك الجن " الشاعر، فإنه كان شريباً سكيراً، وربما نطق بالإلحاد، وهو القائل: هي الدنيا وقد نَعِمُوا بأُخرى ... وتسويفث الظنونِ من السَّواف إلا أنه قد أقر في بعض شعره بذنبه واستغفر. وقد جرى على ألسن العامة: المقر بذنبه كالتائب إلى ربه. وإنما عنيت قوله: أَستَغفِرُ اللهَ لذنبي كلِّه ... قتلتُ إِنساناً بغير حِلِّه لُحسْنِ عينيه وحُسْنِ دَلّه ... وانصرم اليومُ ولم أُصَلِّه وقد مر من قول الصاهل من أن توافق الأسماء لا يوجب اتفاق المعاني المقصودة، ما فيه كفاية. وليس لك حجة في أن النحويين ربما أعملوا الحرف عمل الحرف إذا كان في لفظه ولم يكن في معناه. وكذلك قالوا في بيت " الفرزدق ": لو لم تَكُنْ غطفانُ لا ذُنوبَ لها ... إِليَّ زادتْ ذوو أَحسابِها عُمْرَا فزعموا أن " لا " ها هنا زائدة، وأنها علمت عمل النافية، والمعنى أنه أثبت الذنوب لغطفان. وكذلك قول الآخر: يُرَجّى المرءُ ما إِن لا يَراهُ ... وتَعْرِضُ دونَ أَدناه الخُطوبُ فإن الخفيفة قد جرت عادتها أن تدخل زائدة بعد ما النافية. كما قال " فروة بن مسيك المرادي ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وما إِن طِبُّنَا جُبْنٌ ولكنْ ... منايانا ودولةُ آخَرِينا وهو كثير في الشعر وغيره. فلما كانت " ما " في قوله " يرجى المرء ما إن لا يراه، على لفظ النافية، دخلت بعدها إن، وإن كانت في معنى: الذي وهذا شاذ لا يقاس عليه، ولا يسلم لك أن تحتج بمثله. ولعلك تزعم أن الديك مغن، وتحتج بالأبيات التي أنشدها " أبو ربيعة " في كتاب النسيب، والأبيات: حلفتُ يميناً للأُضاخِيِّ بَرَّةً ... وأُخرى على أَمثالِها أَنا حالِفُ لقد شاقني تَحنانُ عَجْلَى ودونَها ... من الدّرْب بابٌ مُغْلقٌ وسَقائِفُ لَعَمْري لَئِنْ أَصبَحت في دَارِ تَوْلبٍ ... يُغَنِّيك بالأسحارِ ديكٌ قُراقِفُ لقد طال ما غنَّيتَ في الشَّوْل لم تَزُرْ ... خليلاً ولم يَأْلفْ بكَ الحَيَّ آلِفُ وكم من حبيبٍ قد أَزَرْتِ حبيبَه ... وآخرَ قد نجَّيتِه وهو ذائِفُ وكلُّ المطايا بعدَ عَجْلَى ذميمةٌ ... قلائدُ والمُبْرَياتُ الطرائف فإنما قال: يغنيك، حتى يتفق له الوزن. ولو كان وزن الشعر يصح بقوله: يؤذن لك، أو: ينبهك، أو: يطربك، لعدل إليه. ولا ريب أنك لم تر الحمامة أهلاً لتعلمها أحكام الدين، كما رأيت البازي أهلاً لذلك. لأن الحمامة بظنك مغنية، وتستدل على مذهبك بإجماع الشعراء. لأنها توصف بالغناء في سالف الدهر، وقد لزمها ذلك إلى هذا العصر، وإذا لم تظهر التوبة من المغنية وجب أن لا يحكم عليها بالدين. وهؤلاء الذين شهدوا عليها بالغناء يصفونها أيضاً بالنياحة والبكار. فهذان القولان متناقضان: أحدهما وصف بالفرح والآخر وصف بالحزن والترح. فعلى أي القولين تقول؟ إن كانت نائحة بأجر فلعمري إن ذلك لمن المنكرات، وإنها لأثبت على هذا الخلق من " ابنة الجون " النائحة المشهورة التي كانت في العرب. وقد ذكرها " المثقب " فقال: كأَنما أَوْبُ يَدَيْها إِلى حَيْ ... زومِها فوق حَصَى الفرقدِ نَوْحُ ابنةِ الجَوْنِ على هالكٍ ... تَندُبُه رافعةَ المِجْلَدِ وإن كانت تنوح لنفسها دون غيرها من الأنيس والطير، فلعلك تؤاخذها بالحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة من أمر الجاهلية: النياحة، والطعن في الأنساب، والأنواء ". وهذه كلها دعوى من أهل الشعر، وليست الحمامة في الحقيقة مغنية ولا نائحة. وقد ادعى عليها " صخر الغي " إبانة عما في الصدر فقال وذكر الحمامة: تَجِهْنا غادِيَيْنِ فساءَلتْني ... بواحِدِها، وأَسأَلُ عن تَليدِ فقلتُ لها: فأَمَّا ساقُ حُرٍّ ... فبَانَ مع الأَوائلِ من ثمودِ فقالت: لن تَرى أَبداً تليداً ... بِعَيْنِكَ آخِرَ الدهرِ الجَدِيدِ كِلاَنا رَدَّ صَاحبَه بِيَأْسٍ ... وأَشجانٍ وتأْمِيلٍ بعيدِ وقد بلغك دعوة " نوح " صلى الله عليه وسلم لها، وأداؤها الأمانة له لما أرسلها. قال الشاعر: وقد هَاجَني صوتُ قُمْريةٍ ... هتوفِ العَشِيِّ طروبِ الضُّحَا مُطَوَّقةٍ كُسِيَتْ حُلَّةً ... بدَعوةِ نوحٍ لها إِذ دَعَا من الوُرْقِ نوَّاحَةٍ باكرتْ ... عَسِيبَ أَشَاءٍ بِذَاتِ الأَضَا تغَنَّتْ عليه بشَجْوٍ لها ... يُهَيِّجُ للصبِّ ما قد مَضَى ألا ترى إلى مناقضته كيف جعلها نواحة مغنية في حال واحدة؟ ولعل صوتها تسبيح للقادر المجيد، ليس بنياحة ولا غناء. وقولك في الحكاية عن " علي " عليه السلام: أنه كان يوطأ الجليل في زمانه بالقدم. فإنه كان لا يزيد جلة القوم عنده إلا رفعة ما ثبتوا على الديانة. فإذا زاغوا من المنهج وعدلوا عن المحجة خش أنوفهم بالذلة وعرنها بالصغار. وقولك: إنه كان إذا رأى نبيذاً في الجر سأل عنه، فإن كان له أهل ألزمهم النفقة عليه وإلا جعل نفقته من بيت المال. فنبيذ الجر إن كان مما يجوز أن يشرب فأي نفقة تلزم عليه؟ وإن كان مسكراً أريق، فأي فرق بين نبيذ في الجر ونبيذ في السغد أو المشاعل؟ ألا تسأل ربك أن يحل عدة الكذب عن لسانك؟ وإنما دعواك هذه الباطلة كدعواك في الخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وزعمت أنه كان يعظم " مكة " ولا يقول في " الطائف " إلا خيراً ويأمر بضرب المدينة إذا عصت. وأي معصية تخشى من " يثرب " وقد دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل تألم لضرب لو عصت أو تعلم به إذا عوقبت؟ أفأرضها كانت تعتمد بالضرب أم جدرها المشيدة؟ أما الأرض فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة " فأحسب من ضربها بعد ذلك متعدياً غير مصيب. وأما الجدر فما الذي جنين حتى يضربن؟ إنما هي حجارة وطين. ولعلك تذهب إلى أن السارق إذا نقب وأخذ متاع البيت وجبت على الحائط عقوبة. ولم يقل ذلك أحد من المسلمين. فإن عنيت بقولك إنه كان يأمر بضرب المدينة إذا عصبت، أهل المدينة، كما قال " تعالى ": " واسأل القرية التي كنا فيها "، فما الفائدة في إفرادك مكاناً دون مكان؟ لو قلت كان يأمر بضرب مكة إذا عصبت، لكنت قد ذهبت في ذلك مذهباً. وأما ادعاؤك أن الصعدة كانت تلد في زمانه، فليت شعري ما أولادها في زعمك؟ ومن زوجها فيما يحضرك؟ لو قلت إن الجعبة كانت تلد، لسوغ لك ذلك لأنها قد سميت أما وقد جعل السهام لها أولاداً. قال الشاعر - ويقال إنها لتأبط شراً: هي ابنةُ حَوْبِ أمُّ آزَرَتْ ... أَخا ثِقَةٍ تَمْرِى جَباها ذوائبُهْ أفتجيز عليها أن تحدث فتجلد أو ترجم؟ ما الذي أوجب زعمك أن الصعدة كان لها أبناء شهدوا " يوم الجمل، وصفين " ونفيت ذلك عن الرمح والسيف؟ لو ولدت الصعدة لولدت القوس. ولو سألت عن الحلال والحرام لم يعجز السيف المهند عن السؤال في مثل ذلك، لأنه أولى بالمعرفة وأحق. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخير في السيف والخير بالسيف والخير مع السيف ". وزعمت أن أصحابه، عليه السلام، كانوا يتبايعون الصمم بينهم ولا يتبايعون العرج ولا الحول. وأي قيمة للصمم فيباع؟ فإن كنت عنيت أن الرجل يضرب الرجل فيذهب سمعه بالضربة فتجب عليه الدية، فلا يمتنع مثل ذلك. ولكن منع من هذا التأول أنهم كانوا لا يتبايعون العرج ولا العمى. فليت شعري عن " همدان " - وكان فيما يقال يصحب " علياً " منهم خل كثير بآذانهم الصمم - هل كانوا يشترون ذلك بنقد أو نسيئة؟ وقد كان " الكميت بن زيد " يوصف بالصمم وكان من الشيعة إلا أنه لم يدرك أيام " علي "، أفتراه اشترى الصمم أم أهدى له أو ورثه أم أخذه جائزة على قصيدة؟ والذي يخبر به المعقول أن " الكميت " ود أنه يبتاع فقد الصمم بمال كثير. وزعمت أن النساء في أيام " علي " كن يتابيعن الزرق بينهن ولا يتبايعن الكحل ولا الدعج. وكذبت، ما في الأرض امرأة كحلاء تود أن عينها من الزرق. ومن ل " زرقاء اليمامة " أن تكون كحلاء وأن يذهب لها سوام ونخيل؟ وكذلك " الزرقاء أم عمرو بن الزرقاء " الذي تروى له أحاديث مع " تأبط شراً " ويقال إنه المعنى بقول القائل: حَمَلَتْ به في ليلةٍ مَزْءَودةٍ ... كَرْهاً وعَقدُ نِطاقِها لم يُحْلَل والزرق من عيوب العيون ولا سيما في العرب، لأن زرقة العيون ليست غريزة تكثر فيهم، وإنما تكون في الرجل بعد الرجل. وكأني بك يسق إلى ظنك الاحتجاج بقول الشاعر: لا عَيْبَ فيها غير زُرقةِ عَيْنِها ... كذاكَ مُلوكُ الطيرِ زُرْقٌ عيونُها فإنما ذكر الشاعر هذا محتالاً يحتج به، ولعله يضمر غيره. وزعمت أنه كان لا يكره الصلاة فوق العنز إذا اتفق ذلك له. والعنز ليست مما يركبه بنو آدم فيصلوا فوق. لو قلت: غنه يصلي فوق الناقة والجمل والفرس وغيرها من المركوبات، لجوز لك ذلك لأن النوافل تصلي على أكوار الإبل وسروج الخيل، وقد يسمح بصلاة الفريضة على ظهر الراحلة والفرس عند شدة الخوف والمسايفة. وزعمت أنه كان يأمر بقتل الهلال أين طلع. وأي ذنب أذنب إليه الهلال؟ ومن يقدر عليه من بني آدم؟ لو جاز قتله لجاز قتل القمر والشمس، ولم استحق الهلال أن يؤمر بقتله. وفي الكتاب الكريم: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ". ولعلك تذهب إلى أنه غم ليلة في أول شهر رمضان أو في آخره فصام الناس يوم فطرهم أو أفطروا يوماً من صومهم. وأي ذنب له في ذلك؟ لو استوجب القتل بذلك لاستوجبته الشمس التي تطلع بأوار ولهيب فتشتد على زوار " البيت الحرام " حتى يهلكوا من العطش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يا جاهل، لو أمكن قتل الهلال لبقيت السماء بلا قمر لأن القمر هو الهلال. وكيف يدعى أرضي يأكل الطعام أن يصل إلى مساءة الهلال؟ أف لك ولرأيك فإنه أفين. وزعمت أنه كان لا ينكر ذبح المقعد بالبصرة ولا الكوفة، وينكر ذبحة بمكة. فعاذ الله! أمير المؤمنين كان أرأف وأعدل مما تصف، وكم من مقعد نالته بركة أمير المؤمنين! وما الذي بينك وبين أهل العاهات والمحن؟ تزعم أن يطلق أذاتهم وقتلهم حتى تغرى بذلك لئام الناس! وما خرج سهم الأعمى، إلا فائزاً في قسمتك: زعمت أنه كان يكره دخوله المسجد، وهذا أيسر من الذبح والقتل. فظهر سرك واستسر علنك، أقول ذلك داعياً عليك. زعمت أنه كان يحمل القبيلتين والثلاث ويمش بهن في الأسواق. فأحسبك نصيري المذهب تدعى ل " علي، عليه السلام " ما ليس في قوى المخلوقين. ولو أن هذه القبائل التي ذكرت ذحوة وذحية والوقعة، وهي قبائل صغار، لتعذر ما زعمت فيهن. وزعمت أنه كان يسير على ظهر الحية عامة يومه. فلا دارت عذبة لسانك بكلمة! أحية بر هذه أم حية بحر؟ إنما ادعى أهل الكتاب الأفلام الحية كانت في خلق الجمل أو الناقة، فقد ذكر ذلك " عدي بن زيد " في أبيات - وتروى " لأمية بن أبي الصلت الثقفي " قال: اسمَعْ حديثاً كما يوماً تُحدِّثُه ... عن ظهرِ غَيْبٍ إِذا ما سائلٌ َأَلاَ كيف بدا ثُمَّ رَبَّ اللهُ نِعمتَه ... فينا وعَلَّمنا آياتِه الأُوَلاَ كانت رِياحٌ وسيلٌ ذو عُرانيةٍ ... وظُلمةٌ لم تَدَعْ فَتْقاً ولا خَلَلاَ فأمَر الظلمةَ السوداءَ فانقشعتْ ... وسَيَّرَ الماءَ عما كان قد شغلا وجعلَ الشمسَ مِصْراً لا خَفَاءَ به ... بين النهار وبين الليلِ قد فَصَلا وفي السماءِ مصابيحٌ تَضِيءُ لنا ... ما إِنْ تُكَلِّفُنا زَيْتاً ولا فُتُلاَ قَضَى لِستَّةِ أَيَامٍ خَليقتَه ... وكان آخِرُ شيءٍ صَوَّر، الرَّجُلا فأخَذَ اللهُ من طِينٍ فَصوَّره ... حتى إِذا ما رآه تَمَّ واعتدَلاَ دعاه آدمَ صوتاً فاستجاب له ... ونفَخَ الروحَ في الجِسْمِ الذي جَبَلاَ لم يَنْهَهُ رَبُّه عن غيرِ وَاحدةٍ ... من شجَرٍ طيِّيبٍ إِنْ شَمَّ أَو أَكَلاَ وكانت الحيَّةُ الرقشاءُ إِذ خُلِقَتْ ... كما ترى ناقةً في الخَلْقِ أَو جملا فلاَطها الله إِذ أَطْغَتْ خَليفتَه ... طولَ الليالي ولم يجعل لها أجَلاَ تَمشِي على بَطْنِها في الأرض ما عَمِرتْ ... والتُّرْبَ تأكلهُ حَزْناً وإِن سَهُلاَ لو كانت الحية التي ذكرت، الحوت الذي يحمل الأرض لجازما وصفت. وزعمت أن العقرب كانت تلقاه فتعم أصحابه بالأذية ولا تضره في نفسه. وأي شيء العقرب حتى نصل إلى ذلك، وابن الست والسبع يقتلها بالغريفة والعدد الكثير من جنسها؟ ولكنك اجترأت على الكذب فقلت ما شئت. ولعمري إذا كانت الحية يسار على ظهرها المراحل، فيجب أن تكون العقرب على حسب ذلك. وزعمت أنه كان لا يخضب الشيب ويجيز ذبح الخاضب ويحل أكل لحمه شواء أو قديراً. فأما ترك الخضاب فقد روى عنه. وقيل إنه خضب مرة ثم لم يعد له. وادعاؤك أنه أطلق ذبح الخاضب، حدث عظيم. ويحك! ألم تعلم أن " الحسين " كان يخضب؟ ومنه الحديث الذي يرويه " عبيد الله بن الحر " أنه قال: " نظرت إلى الحسين وكأن لحيته جناح غراب، فقلت: أشباب ما أرى با ابن بنت رسول الله؟ فقال: با ابن الحر عجل على الشيب. فعلمت أنه خضاب ". وقد روت الشيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخضب. أما الصحابة والتابعون فالخضاب فيهم كثير. وهل بلغت المعصية بالخاضب إلى أن يذبح؟ وإنما أكثر ما يكره من الخضاب أن يغر به الرجل امرأة في التزويج فتظن أنه شاب. وقيل ل " ابن سيرين ": ما تقول في الخضاب بالسواد؟ فقال: ما لم تغر به امرأة مسلمة فلا بأس به. وكان " عقبة بن عامر " يختضب بالصبيب. وقيل إنه ماء ورق السمسم، ويقال إن الصبيب شجر طيب الرائحة. قال " علقمة " فدل على أن الصبيب متغير اللون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فأَوْرَدْتُها ماءً كأَن جِمَامَه ... من الأجْنِ حِنَّاءٌ معاً وصبيبُ وهب الخاضب جنى جناية فاستحق ا، يذبح، فكيف يجوز أن يقتدر لحمه ويتخذ منه الشواء؟ هذا كذب لا يسوغ في الإسلام. وقد زعمت الرواة أن " عمرو بن قعاس " سكر فذبح ابنه، وقال الأبيات المعروفة يقول فيها: ولَحْمٍ لم يَنَلْه الناسُ قبْلِي ... أَكلتُ على خَوَاءٍ واشتَويتُ وفي " أخبار ابن دأب " أو غيره، أن " معد بن نزار " نزل به ركب من جرهم في سنة مجدبة فذبح لهم ابناً كان له وقال: نِعمَ إِدَامُ الضيفِ والرفيقِ ... لحمُ غُلامٍ ماجِدٍ عريقٍ يُلَتُّ بالأَحسابِ لا السَّوِيقِ فهذا في الجاهلية الجهلاء يدفع ولا يصح، فما باله في الإسلامورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الإسلام قيد الفتك " ويقول: " من قتل مسلمة أو معاهدة لم يرح رائحة الجنة " ويوجب للرجل من الموالي أن يقتص له من الصميم؟ وزعمت أنه كان يزوي الماء عن العليل، فما الذي أوجب ذلك له؟ أليس في " الكتاب العزيز ": " وجعلنا من الماء كل شيء حي "؟ وقد يجوز أن تعني استغناء العليل عن ذلك. فإن كنت أردت هذا الغرض فلا فائدة في كلامك. كل من لا حاجة به إلى الشرب فقد وجب أن يزوي الماء عنه إذ كان سقى من لا ظمأ به مؤدياً إلى ضد الصحة. وزعمت أنه كان يجيز الكر على العدو وهو على غير طهارة ويتطهر بالكر. فهذا يحتمل مغنيين: أحدهما أن تعنى أنه إذا كان على غير طهارة تجوز بها الصلاة ثم كر على العدو تطهر بالكر، فجاز له أني صلي. فهذا فاسد لم يجزه أحد من المسلمين. والآخر أن تعنى أنه يتقرب إلى الله بالكر عليهم، لا أنه يقوم مقام الطهارة للصلاة. فهذا يجوز أن يكون كما قال تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " لا يريد أنهم إذا كانوا غير متأهبين للصلاة قامت لهم تلك الصدقة مقام التأهب، ولكنه يريد أنها تمحو ذنوبهم، كما قال " كعب بن زهير ": يَتَطَهَّرون كأَنه نُسُك لهم ... بِدِماء مَن عَلِقوا من الكُفَّارِ وزعمت أنه مر على سرير له آلاف سنين منذ صنع. فليت شعري من أي خشب هذا؟ ما نعلم أحداً في الأرض يدعى أن شيئاً من سفينة " نوح " صلى الله عليه، بقى إلى اليوم. والنصارى تكون معهم أشياء يدعون أنها من الخشبة التي صلب عليها " المسيح " عليه السلام. فإن كان هذا السرير ظاهراً للسماء يصيبه المطر والحرور، فلا يجوز أن يبقى شيء من الخشب على ذلك. وإن كان متوارياً فما أدري ما أقول. إنك لتجيء بالمنكرات. وأما قولك إنه كان يستعين بالغراب على طلب المياه، فلم يرو ذلك أحد من أصحاب الأخبار. وأي علم للغراب بمكان الماء وهو يسلك القفر فيموت فيه من العطش؟ ولو قلت إن الهدهد كان يعينه على ذلك لذهبت مذهباً، لأنه جاء في الحديث أن " سليمان " صلى الله عليه، كان يستعين بالهدهد على طلب الماء لأنه كان قباقباً، أي مهندساً! وادعيت أن الهدهد كان يكلمه بكلام بفهمه الحاضرون، فكذبت وأحلت. ما زعم ذلك زاعم سواك. ولو أن " علياً " فهم كلامه بخاصة يهبها الله له، لما جاز أن يفهم كلامه غيره. كما أن " سليمان " لم يكن أحد من أهل عصره يدعى المعرفة بكلام الهدهد ولا أغراض النمل. وقد قال بعض الفلاسفة إن قوله تعالى حكاية " عن سليمان ": " يا أيها الناس علمنا منطق الطير ". إنما يعني بذلك علم الموسيقى، لأنه تغلغل في معرفة الحروف واللغات والأصوات!. وزعمت أنه كان لا يعجبه أن تدنو قرة العين إليه. فهذا الإفك المبين: " إنا لله وإنا إليه راجعون " ما أجرأك على قيل البهتان! ما بعث الله من نبي ولا كان في أهل الأرض صالح إلا وهو يسره أن تقر عينه. أليس في الحديث المأثور: " وقرة عيني في الصلاة؟ ". ولعلك تعني بقرة العين امرأة كان اسمها كذلك في زمانه. فما بلغنا أن امرأة من أهله ولا أزواجه ولا إمائه كانت تعرف بقرة العين. ولكن قد يجوز في الممكن أن يكون كما ذكرت، وإن صلح ما ادعيته من هذا القول فيجب أن تكون قرة العين امرأة ليست له بمحرم، وقد جاء في بعض الحديث: " لأن أزاحم جملاً قد طلى بقطران أحب إلي من أن أزاحم امرأة عطرة " فإذا كان الأمر على هذه الجهة فلا فائدة في خصوصيتك قرت العين دون غيرها من النساء المعروفات بهند ودعد وجمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وزعمت أنه كان يواجه الأسد ولا يحفل به ويكره أن تمر به الضبع. وقد كانت الشجاعة مسلم له، ولا أعرف معنى دعواك في أمر الضبع وقد روى عنه بعض أصحاب الأخبار أنه سئل عن امرأة تزوجها فقال: وجدتها ضبعاً طرطبة. أفعنيت هذا الحديث أم تعتقد أنه كان يتطير بالضبع؟ وحاشى لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " وقد جاء في بعض الحديث: " إن تكن الطيرة في شيء، ففي المرأة والدابة والدار " وكانت العقلاء من العرب في الجاهلية تعيب الطيرة وأهلها. وروى أصحاب الأخبار أن " النابغة الذبياني، وزبان بن سيار " خرجا في صفر فلقيتهما جرادة فتطير " النابغة " فرجع، ومضى " زبان " لوجهه فأصاب خيراً. ولقيه، فقال: يُلاحِظُ طيْرَه أَبداً زيادٌ ... لِتُخبرَه، وما فيها خبيرُ أقامَ كأَن لُقمانُ بنَ عادٍ ... أَشارَ له بِحكمتهِ مُشيرُ بَلى شيءٌ يُوافِقُ بعضَ شيءٍ أحاييناً وباطِلهُ كثيرُ وقال آخر: طال الثَّواءُ بمَأْرِبٍ ... ومكثتُ فيها غيرَ رائم فلئن هلكتُ فُربَّ با ... كِيَةٍ وقاعِدَةٍ وقائمْ ومُشَقِّقاتٍ للجيوبِ عَ ... ليَّ كالبقَرِ الحوائمْ مَن مبلغ عمرَو بنَ لأْيٍ ... حيث كان من الأَقاومِ لا يَمنعَنَّكُ من بقاءِ ال ... خيرِ تَعقادُ التمائم فلقد غدوتُ وكنتُ لا ... أَغدو على واقٍ وحاتِمْ فإِذا الأَشائمُ كالأَيا ... مِن والأَيامنُ كالأَشائمْ وكذاك لا خيرٌ ولا ... شرٌّ على أَحدٍ بدائمْ قد خُطَّ ذلك في السُّطو ... رِ الأَوَّليَّاتِ القدائمْ أم تزعم أن " علياً " رضي الله عنه، كان يبغض الضبع لحمقها ولما تحكيه العرب عنها، وقد جاء في الحديث عن " علي " أنه قال: لا أكون كالضبع تشع اللدم ثم يدخل عليها فتصاد ". ومن أحاديث الأعراب أن الضبع وردت غديراً فوجدت فيه تودية فجعلت تشرب وتقول: يا حبذا طعم اللبن. فلم يزل ذلك دأبها حتى انشق بطنها من الكظة. والتودية عويد صغير يشد على خلق الناقة إذا صرت. وبعض الناس يروي في قصيدة " سحيم " هذا البيت: وما ضَرَّني أَنْ كانت أُمِّي وليدةً ... تَصُرُّ وتَبْرِي لِلِّقَاحِ التواديَا و" علي " عليه السلام، كان أفضل من أن يبغض على الحمق، إذ كان غريزة لا يصل إليها الدواء. أم ترى أنه أبغضها لما يقال إنها تفعل بالقتلى إذا خاست جيفهم مما يكنى عنه؟ وعلى ذلك فسروا قول الأول: فلو ماتَ منهم مَن قَتلنا لأَصبحَتْ ... ضِباعٌ بأَكنافِ الشريفِ عَرائِسا وذكرت أنه كان لا يستحل أن ينظر إلى ريحان لا يملكه. وما الذي منعه من ذلك؟ هل ينقص الريحان وهو لزيد، أن ينظر إليه عمرو، أو يدرك صاحبه من عيب؟ ولو صح هذا فيه، لوجب في الشجر المزهر كله وأصناف الأنوار والثمار. ولعلك تريد بهذا القول المبالغة، كما يقول القائل إذا نهاك عن الرجل وأذيته: لاتؤذه ولا تنظرن إليه؛ وإنما ذلك مبالغة في النهي. ودل كلامك على أنه لو رأى بني إسرائيل يأكلون لحماً لم ينههم عنه ولو أنه لحم يعقوب. وبنو إسرائيل لعظم " يعقوب " في نفوسهم يضيفون اسم الله إليه فيقولون: إله إسرائيل كان يفعل كذا، وإله يعقوب يفعل كذا. و " يعقوب " هو إسرائيل، فكيف يقدمون على أكل لحمه وهو عندهم من الشرف بحيث هو؟ و " علي " كان يغضب للمرأة الذمية أن تهتضم، فكيف كان يصبر على أكل لحم - قد حرم أكله - من نبي عند الله كريم؟ وإذا أجزت لهم أن يأكلوا لحم " يعقوب " فما الذي " يمنع إسحاق وإيراهيم " عليهما السلام؟ وقولك إنه كان يأتيه النهر وهو في " يثرب " قاعد في بيته. فهذا، علم خالقك، كذب حنبريت. ما روى أنه كان بيثرب نهر قط. وهذه أخبار " أيي كرب " مع أهل " المدينة " في سالف الزمن، ليس فيها ذكر نهر إلى اليوم. غير أن ما قلت له مساغ في وجه من القياس، وهو أن تريد كان: يأتيه ماء النهر، كما قال تعالى: " واسأل القرية " أي أهل القرية؛ وكما قال الراجز: كأَن قَزّاً تحته وبَزّاً ... أَو فُرُشاً مَحْشُوَّةً إِوَزّاً أي: ريش إوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ولم نعلم أن شرب أهل " يثرب " إلا من القلب دون غيرها من المياه. وذكرت أنه كان إذا رأى يد رجل معروف أنكره. فما الذي عنيت باليد ها هنا؟ النعمة يسديها الرجل، أم العضو؟ وكلاهما قد أحلت فيه: كيف ينكر رجلاً من الناس لنعمة أنعمها أو يد أسداها؟ أم كيف ينكر من رآه لرؤية يده دون قدمه ووجهه؟ وأحسبك أخذك دوار من طول العمل فاضطرب عليك رأيك. وقد يدرك أخا اللب مثل ذلك عن المرض أو عن السن. والذي نزل بك شر من هذين. إنك لمعذور فيما تقول. أتشك في أن " النمر بن تولب " كان من حكماء العرب، وأنه تغير في آخر عمره فلهج بأن يقول: اسقوهم صبوحاً اصبحوا الركب اغبقوا الركب. وأهترت امرأة في ذلك الزمان فكانت تقول: زوجوني زوجوني. فقال بعض ولاة الأمر لقومها: ما لهج به أخو عكل أحسن مما لهجت به أختكم. وكان " النمر " أحد الأجواد. وكان " مساور بن هند بن قيس ابن زهير " سيداً من سادات غطفان وشاعراً من شعرائها، فأهتر فعزل في بيت وجعلت معه امرأة تحفظه. فنظر إليه رجل في بعض الأيام وقد أخذ بعرتين فأرسلهما من يده وقال: أُرسِلتْ الحَوَّاءُ والبَلَنْدَحُ وكأن الحواء والبلندح في الأصل اسمان لناقتين أو فرسين. فجاءت المرأة التي قد وكلت به لترده إلى البيت، فلما رآها عاد إليه مسرعاً، وقال: سوى لي لعيقة إما لا. فغير آمن أخو الحلم أن يزيل حلمه أمر من القدر غير مردود. وزعمت أنه كان يعطي كل واحد من أهله قطاً ينتفع به. وقد يكون في الدار العشرة أو العشرون فينتفعون بالهر الواحد أو الهرة، وإنما الغرض في الهر الراحة من الرثايم. فلقد مادعيت أن أهل البيت عليهم السلام يرغبون في كثرة ذلك النوع في بيوتهم لغير الحادة. ولعمري لقد جاء في الحديث: " ليست الهرة ينجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " وقد يكون فيهن ما يأكل الحيات والعقارب، فلعلك إلى هذا تذهب. وزعمت أنه كان يطأ الأرنب فلا تشعر به. وكيف خصصت الأرنب بذلك دون الظبية ودون الغزال؟ ولم استحقت أن تخف عنها الوطأة؟ وكيف لا تتفر من الوطء وإنها لتكون نائمة في ظل الحبلة فيمر المار في طريقه ولا يعرض لها، فلا تترك نفارها عند ذلك؟ ولعلك ذهبت إلى أنها مغفلة كثيرة الوسن. وليست كذلك، بل هي كغيرها من صغار البهائم. وقد سموها مقطعة القلوب ومقطعة السحور، يعنون جمع سحر وهي الرئة. وإنما يريدون أنها تتعب من طلب صيدها على رجليه. قال الشاعر: كأَنِّي إِذ مَنَنْتُ علَيكَ فَضْلِي ... مننتُ على مُقَطِّعَةِ القُلوبِ أو لم تسمع قول الآخر: فيوماً ترانا في مُسوكِ جيادنا ... ويوماً ترانا في مُسُوكِ الأرانِب أراد أنهم يفرون من القتل كما تفر الأرنب. فهذا يدلك على صفته إياها بالجد في الهرب والروغان. وقد روى هذا البيت: " في مسوك الثعالب " والمعنى متقارب. وهي عندهم من حكماء البهائم ولذلك قالت العرب على لسان الأرنب: " اللهم اجعلني حذمة أزمه، أسبق الطالع في الأكمه ". وفي حديث يروى عن " عمرو بن العاصي " أنه كان في بعض أسفاره فقرب الناس " مسيلمة الحنفي " ليختبر ما عنده. فلما رآه " مسيلمة " قال: ما نزل على صاحبكم في هذه الأيام؟ فقال: نزل عليه: " والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ". فقال مسيلمة: قد نزل على نحو من هذا: يا وبر يا وبر، منكبان وصدر، وسائرك حقر نقر. كيف ترى يا عمرو؟. وفي الحكاية، إن كانت صادقة، أن " عمراً " قال له: إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب، إنما تقول العرب: استبت الوبرة والأرنب فقالت الوبرة: أران أران، رأس وأذنان، وسائرك أكلتان. وقالت الأرنب: يا وبر يا وبر، منكبان وصدر، وسائرك حفر نقر. والأشبه ألا يكون " عمرو " واجه " مسيلمة " بالتكذيب، لأنه قد كان صار له رهط وأشياع. أفلا ترى كلامهم على لسان الأرنب، وإنما يتكلمون على لسان ذي الفطنة والحس النافذ، عندهم؟ وادعيت أنه كان يجيء عليه الوقت في الشتاء، وأحب الأشياء إليه البرد. وقد يصيب الإنسان من الأعراض ما يرغبه في الانكشاف للهواء والتعرض لشفيف الريح. وربما كان ذلك عن المرض أو إفراط الدفء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأهل الدين يجوز أن يرغبوا في البرد، لأحاديث رويت في ذلك، منها فضل الوضوء في السبرات. وفي الحديث: " الشتاء ربيع المؤمنين، برد عليهم النهار فصاموا، وطال عليهم الليل فقاموا " وفي حديث آخر: " إن القلوب تلين في الشتاء لأن الله تعالى خلق آدم من طين ". فإذا كان الصالحون يرغبون في الشتاء لهذه الجهات، فكيف ذكرت ما ذكرت جاعلاً له في المستطرفات؟ وزعمت أنه كان في عصره قوم يطعمهم السنان من لحم الزج. وقد علمت أن السوط يتخذ من الجلود، وهي أولى بالنحض من العصى والزجاج. وإذا ضربوا المثل بقلة لحم الرجل قالوا: كأنه أثناء سوط. قال الشاعر يرثي " هشام بن المغيرة المخزومي ": أَصبَحَ بَطْنُ مكةَ مُقشَعِرّاً ... كأَن الأَرضَ ليس بها هشامُ يَظَلُّ كأَنه أَثْناءُ سَوْطٍ ... وفوقَ جِفانِه شَحْمٌ رُكامُ وزعمت أن طباخه كان يطبخ له بالحشيش وإن الحطب لكثير موجود. فهذا من سوء رأي الطباخ. ولم يبغضهم، والحطب آلة عظيمة من آلات المعاش؟ لولا الحطب لعدم الجمر، ولو عدم لتفاقم الأمر. أو ليس العرب يفتخر أحدهم بأنه يحطب أهله وأصحابه، ويذمون من عجز من ذلك؟ قال الراجز: تَسأَلُني عن بَعْلِها أَيُّ فَتى ... خَبٌّ جَبَانٌ وإِذا جاع بَكَى لا حطَبَ القومَ ولا القومَ سَقَى وقال آخر: ألا ليت شعري هل أَبيتَنَّ ليلةً ... بِسُعْدٍ ولمَّا تَخْلُ من أَهلِها سُعْدُ وهل أَحْطِبَنَّ القومَ والريحُ قَرَّةٌ ... فُرُوعَ أَلاءِ حَفَّهَا عَقِدٌ جَعْدُ وزعمت أنه كان إذا أتى بالعالم أمر أن يقتص منه. وأي فرق في القصاص بين العالم وبين الجاهل؟ أليس في الحديث المشهور: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهو يد على من سواهم؟ ". ولعلك تذهب إلى أن العالم تشتد عقوبته على قدر علمه. وليس الأمر كذلك، القصاص يتساوى فيه الجاهل وسواه. ولقد سمعتك أطنبت في ذم البزازين، فليت شعري ما حملك على ذلك وإن فيهم لرجالاً صالحين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويتفقهون في الدين ويتلون كتاب الله، ويصدقون الحديث ويكفون ألسنتهم عن قول المنكر ولا يرغبون في استماع الغيبة؟ وفيهم جهال كما يكون ذلك في أهل الصنائع. وكيف السبيل إلى أن يكون الناس كلهم سواء في الخير؟ هذا ما لم تجر العادة بمثله. أليس في الحديث: " لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا "؟ وكذلك قالوا في المثل إذا ذموا القوم: هم سواسية كأسنان الحمار، أي لا يفضل بعضهم بعضاً. ولو كان الناس كلهم على الطريق الأمثل لم تعرف لأهل الخير فضيلة. ولو سمع هذه المقالة منك البزازون في مدينتك هذه، لجاز أن يحلفوا بالمغلظة من الأيمان لا باعوا صاحبك عباءة يدفع عنك بها معرة القر وأذية الكدان. وذكرت أن الناس يفرقون من البزازين ويتوقعون الدواهي من قبلهم. ولا نعرف شيئاً مما قلت. بل أهل البز أصحاب رفق ودعة. ريحهم ساكنة وطيرهم واقعة وليلهم نائم ونهارهم قار. ورب خطيب في بلده وآخر يوم في محلته، لا صناعة لهم إلا بيع البز. وطال ما دخل المضطر إلى المصر ومعه مال ومتاع يريد أن يضعه عند أهل الثقة، فيشاور أهل النصيحة فيرشدونه إلى بزاز في ذلك المصر. لعلك اشترى لك في بعض الأيام عباءة فوجدتها غير موافقة فوقر في نفسك بغض للبزازين. وإنما تؤخذ لك العباءة من قوم يبيعون الخلقان يغلب عليهم السفه ويظهر منهم الطمع. وليس ينبغي أن تلعن مراداً أو السكون لأجل ما صنعه " ابن ملجم " من المنكر. ولا يجب أن يحكم على ثقيف كلها بالكفر لمكان " الحجاج ". قد علمت أن الأخوين لا يستويان في الخليقة ولا في المنظر، فكيف يستوي أصناف الناس في آفاق الأرضين؟ وذكرت شظفاً من عيش البزاز وأنه يكون عاراً لا يصل إلى الدفء. وقد شهد ربك على كذبك. إنهم لأصحاب ملابس ومطاعم، وفيهم الغنى والواحد، يلبس الشفوف القبطية إذا صاف، والسبوب الغالية إذا شتا الناس. وفيهم أهل مروءة ينال برهم الضعيف الطاريء وعابر السبيل. وكل مصر تسلك فيه تجد أهل هذه صناعة من أحسن أهله لباساً في قر وحرور. ونفرت من الخزاز نفار مبغض مثير للشحناء. وزعمت أن الرجل إذا كان بزازاً خزازاً فإنه من قصته ومن شأنه.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ومن أين لك علم بالخزازين، وما بلدك بلد خز ولا قز؟ لو كنت ب " دمشق أو الكوفة " لجاز أن تدعى عرفاناً بالخزازين! ورب خزاز " بالكوفة " أجمع على صلاحه الناس. وعظمت مذمتك للرجل إذا كان بزازاً خزازاً قزازاً. وما أنت وأهل هذه الصنائع؟ إنما حاجتك إلى عباءة من اللبد وصوف يملأ به قرطانك. فإن استعملك صاحبك في حمل الوسوق فما أحوجك إلى إكاف! فأما الخز والبز والقز فشغله عنك الأغنياء من بني آدم. ولعمري إن الملوك ربما جللت الخيل الكريمة بالغالية من الثياب. فأما أنت ورهطك فما أبعدك من وشيٍ وحرير! وربما مسحت وجوه الخيل المجاهدة بالخر ونحوها. ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم " مكة " لقيته النساء يمسحن وجوه خيله بالخر يتبركن به صلى الله عليه وسلم. فالتفت إلى أصحابه وهو يتبسم فقال: " كأن ابن الفريعة ينظر إليها " يعني قول " حسان ": يُلَطِّمُهنَّ بالخُمُرِ النساءُ وأما ذكرك الرجل الموصوف بالجفاء وغلظ البشرة وخشونة الملبس. وزعمت أن الخز يدمي جلده. فإن كان ناعم يدميه، فلعل تلك خاصة في ذلك الرجل كما أن الجعلان تضر بها الرائحة الطيبة. فإن زعمت أن تلك عادة للخز معه، دون الوشي والحرير وغيرهما من الناعمات، فقد أحلت في إخبارك وناقضت. وسمعتك أحللت قتل الخياط أينما وجد في طريق أو مسجد، ولم تقل في جماعة الخياطين إلا خيراً. فكأنك ذهبت إلى الحديث المروي: " الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة نفر ". وإلى حديث يروى عن " معاذ بن جبل " أنه قال: " عليكم بالجماعة فإن الذئب إنما يطمع في الشاة القاصية " وفي حديث " ابن الشنية " أنه قال: دخلت المسجد فإذا رجل ملتف بعباءة قاعد وحده وهو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الوحدة خير من جليس السوء، وجليس الصدق خير من الوحدة، والسكوت خير من إملاء الشر، وإملاء الخير أفضل من السكوت " فسألت: من هذا؟ فقيل: " أبو ذر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ". فكيف بلغت في عقوبة الخياط إذا نفرد، إلى القتل ولم تقتصر به على الزجر والتعزير؟ إنك لقليل المعرفة بالفقه. ربما كان الخياط ناسكاً قارئاً وبلى بمجالسة قوم أو غاب فاختار الوحدة ليبعد من أولئك القوم. وقتل الخياط أيسر من أكل لحم الخباز والخبازة، لأنهما لا يؤكلان وهما في الحياة. اللهم إلا أن يكون أكل الميتة جائزاً في مذهبك عند غير الحاجة والضرورة. ولو عرف باعة الخبز هذا من رأيك، لما وصل أحد يعلفك ويسقيك إلى ابتياع قرص من بر أو شعير، حقداً عليك وإنكاراً لما قبح من سريرتك. فكان يدرك نكدك من يسوسك. وإن كنت عنيت بما ذكرت، الغيبة من قوله تعالى: " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ". فإن الغيبة منهي عنها في كل الملل. وفي بعض الحديث: " ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة " وفي حديث آخر: " اذكروا الفاسق بما فيه ". فكأنك ذهبت إلى أن الخباز فسق فحلت غيبته للمغتابين. فأي فائدة في هذا القول؟ إذا صح هذا الحديث فكل من فسق من المسلمين لم تحظر غيبته على الناس. وقد فهمت قولك عن القاضي الذي تتكلم " المضيرة بين يديه. ومن اجترأ على الكذب لم يرض منه بالقليل. لو جاز أن تتكلم المضيرة لجاز أن تخطب الهريسة فتقول إذا وضعت بين القوم: " رفقاً رفقاً، لقد لقيت من بني آدم بديعاً، إذ جمعوني من شت ثم جعلوني في قدر ولم يقتنعوا من بني آدم بديعاً، إذ جمعوني من شت ثم جعلوني في قدر ولم يقتنعوا لي بالنار والحطب حتى ضربوني بالمخبط كأني زانية أو مفترية، ثم قربوني بعد ذلك فأكلوني. الأكل سلجان والقضاء ليان، يا ابن آدم أكلاً أكلاً وشرباً شرباً. سوف يأكلك القدر ويشربك، ولك أجل كتاب ". ولو خطبت الهريسة، لجاز أن تكون السكباج صاحبة خبر على طاهي السلطان، فتنهي إليه ما صنع في مطبخه من خيانة وتفريط. ولو فعلت الصفصفة ذلك، لم يمتنع أن تغني الطباهجة، ولجاز أن يوضع الحمل على الخوان فيسأله الحاضرون لأكله: كيف كان تنورك؟ فيقول: كان حراً منضجاً. ويخبر عماً أخذه من الملح، أبقدر كان أم بسرف أم بتقصير؟ ويقول لبعض الآكلين: كل من موضع كذا مني فإنه أطيب وأنضج. ولجاز أن يخبر عن حرارة المدية وهل أحس برد حديدها في ودجيه؟ ولجاز أن يحدث عن حاله في السمط وهل كان الذي فعل به ذلك رفيقاً فيما صنع أم عنيفاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وما تنكر، إذا زعمت أن المضيرة تتكلم، على من يزعم أن الجوذابة تقول الشعر وأن الفالوذ مشامر وصاحب ملاده؟ وذكرت أن أهل الشام كلهم يبغضبون الأبارين وكذلك أهل العراق، ولا يبيحون قتلهم إلا بحق. فما الذي فعله بك الأبارون؟ لولا الإبر لفقدت السرابيل، وإنما تصير السبية ثوباً بالإبرة. وغير الأبارين أولى بالمقت. إنما ينبغي أن يمقت الهالكي الذي يعمل الأسنة ونصال السهام ويطبع السيوف فيكون ذلك مؤدياً إلى هلاك سوق من القوم وملوك. ولعل في الأبارين من لم يسفك دم مسلم قط؛ وأكثرهم على هذه الحال. فأما الإبرة فليست من آلات القتل. وما نعلم أحداً قتل بإبرة إلا أن يجيء نادراً من القدر. فأما السيف والسنان والنصل فقتلاهن تحدث من الدهر الجديد. ثم أطلقت القتل على الأبارة؛ والمرأة أضعف من الرجل وأحق بالصيانة. فما جرت البائسة عليك، ولعلها من اللواتي قال فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا وسفعاء الخدين يوم القيامة كهاتين " يعني بسفعاء الخدين امرأة أشبلت على ولدها وصبرت على الشقاء. ولم تجر عادة النساء أن يلين شيئاً من هذه الصنائع: قلما ترى امرأة حدادة ولا نحاسة ولا نساجة كما ينسج الرجال في الأمصار. فإن اتفق أن ترى امرأة صناعة فتلك من نوادر الزمن. وإنما يحملها على ذلك مراس الشقوة، والشفقة على الأطفال. وفهمت ما ذكرت عن القاضي الذي وصفته باستعمال صنوف اللبن ثم نفيت ذلك عنه؛ غير جامع بين آخر كلامك وأوله ولا ناظر في معنى ما قلت. فمثلك فيما فرط منك مثل الذي يكذب نفسه فيم قال فيثبت شيئاً ثم ينفيه، أو ينفيه ثم يثبته كما قال " زهير ": قِفْ بالديارِ التي لم يَعْفِها القِدَمُ ... بَلَى وغَيَّرها الأَرواحُ والدِّيَمُ وقال " أبو عطاء السندي ": فإِنك لم تَبْعُدْ على مُتَعَهِّدٍ ... بَلَى كلُّ مَنْ تحتَ الترابِ بعيدُ ومن بديع ما ادعيت، أن قصاباً يذبح صغار الضأن وكبارها ولم يذبح خروفاً قط! ولو سمعك أهل هذه الصناعة لهزئوا منك. ولوجدك قصاب وأنت قد خليت وشأنك لزمانتك وعجزك، فقدر أن يبيع لحمك على أنه لحم خروف، لفعل. وكيف له أن يجدك في بعض الظروف ولا بقية فيك فيبيعك على أنك خروف رضيع! وأخبار العرب لا تمتنع من ذبح الخروف والشاة فكيف يمتنع من ذلك من هو متعيش به؟ قال الشاعر: تركتُ ضأني تَوَدُّ الذئبَ راعيَها ... وأَنها لا تراني آخِرَ الأَبدِ الذئبُ يطرُقُها في الدهرِ واحِدةً ... وكُلَّ يومٍ تراني مُدْيَةٌ بِيَدِي وهم يفتخرون بذبحها للضيف وسلخها بأيديهم. قال الشاعر: إذا لم يكنْ رِسْلٌ بِبَرْقٍ فمُدْيةٌ ... وحبلٌ به أَوصالُ بَرْقٍ تُطوَّحُ بِكفَّيْ فتىً لم يَدْرِ ما السَّلْخُ قَبلها ... تَجولُ يَداه في الأَديم وتَجْرَحُ وقال آخر: كأَنكَ لم تذبَحْ لأَهلِكَ نَعجةً ... فيُصبِح مُلْقًى بالفِناءِ إِهابُها أتظن القصاب يرحم الخروف لصغر سنه؟ فما الذي صرف رحمته عن الرخل وهي إذا أعفيت من المدية كانت أخلق بمنافع الناس، لأنها تصير شاة تحلب وتنتج، ويجوز أن ينمى من الشاة الواحدة وقير عظيم؟ وإذا ترك الخروف فإنما المنفعة به جزه أو فحلته، والكبش الواحد يغني للفحلة عن اتخاذ ما كثر من فحول الغنم. وإنما الفضيلة عند الصعلوك للشاة لا للكبس، لأن المنفعة بالشاة أعم. ولعلك تعني أن الخروف ها هنا اسم إنسان بعينه، لأن الأسماء يتسع فيها المسمون، فيكون خروف ها هنا مثل قيراط في قول الراجز: شَرِبتُ بقيراطٍ وروَّيْتُ صُحْبَتي ... ورُحتُ ولي عند التِّجارِ دراهِمُ وقيراط: اسم مهر كان له. وإن كان القصاب يتكبر عن ذبح الخروف، يريد ما هو أكبر منه، فلعمري إن الخروف مما يتهاون به. قال الشاعر: عتَبتْ عَلَيَّ لأَنْ شَرِبتُ بِصُوفِ ... ولئن عتبتِ لأشربَنْ بِخروفِ ولئن عتبتِ لأَشربَنَّ بِنعجةٍ ... ذَرآءَ من بعد الخروف سَحُوفِ ولَئن عَتبتِ لأَشربَنَّ بِلقْحَةٍ ... صهباءَ مالئةِ الإِناءِ صَفوفِ ولئن عتبتِ لأَشربنَّ بِسَابحٍ ... ما فيه من هُجْنٍ ولا تقريفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ولئن عتبتِ لأَشربنَّ بواحدِي ... ويكونُ صَبْرِي بعد ذاك حلِيفي ولقد شربتُ الخَمرَ في حانوتِها ... صهباءَ صافيةً بأَرضِ الريفِ ألا ترى إلى تفضيله النعجة على الخروف، وتصييره إياها دون غيرها من المتلفات؟ وزعمت أن فرس الجندي نتجت خروفاً. وهذا مالاً يمكن إلا أن يكون الله قد مسخ الفرس شاة. وقد جاء في بعض الحديث أن رجلاً من بني إسرائيل كان من أزهدهم وأعبدهم، فجعلوه حكماً بينهم لما عرفوه عنده من الأمانة. فاختصم إليه يوماً رجلان في عجل، وكان أحد الرجلين له حمارة، فمر بالعجل ضالاً في الطريق فأخذه. جاء صاحب العجل فعرفه في يد صاحب الحمارة. فلما صارا بين يدي الحاكم قال لصاحب الحمارة: من أين لك هذا العجل؟ قال: ولدته حمارتي. قال الحكم: لا أقدر أن أقضي بينكما في هذا اليوم لأني طامث. فإذا طهرت قضيت بينكما. قالا: وهل تطمث الرجال؟ قال: وهل تلد الحمير البقر؟ فعرف صاحب الحمارة أنه قد ظهر كذبه. وادعيت أن الجند بخراسان يركبون الخرفان. وكذبت. قد سافرت إلى خراسان ورأيت الجند بها يركبون براذين غلاظاً قصار الأعناق. وقد جئت بما هو أنكر من هذا فزعمت أن الظباء بنواحي البصرة تلد الجحاش. وأبعدك الله كيف تشتمل الظبية على جحش؟ وقد علمت أن ولد الحمار من الرمكة لا يسمى حماراً ولا برذوناً، وأن ولد الذئب من الضبع لا يسمى ذئباً ولا ضبعاً؛ بل يطلب للجنس المتولد من جنسين ما يخص به من الأسماء. فأي فحل ينزو على الظبية حتى يكون ولدها جحشاً؟ أحمار أهلي أم حمار وحشي وذلك متعذر في القياس؟ ولو صح ما ادعيته لجاز أن يصح ما ادعاه الأعراب في ولد " عمرو بن يربوع ابن حنظلة ": يزعمون أنه تزوج من السعلاة فولدت له أولاداً وأن أهلها قالوا له: إنك ستجدها خير امرأة ما لم تر برقاً. فكان " عمرو؟ إذا رأى البرق أسبل على السعلاة الستور. فغفل يوماً عنها ولاح البرق فقعدت على بكر من الإبل وقالت: أَمْسِكْ بَنيكَ عمرُو إِني آبِقُ ... بَرْقُ على أَرْضِ السعالي آلِقُ وذهبت، فكان آخر عهده بها. فقال " عمرو " شعراً يقول فيه: رأَى بَرْقاً فأَوضَعَ فوق بَكْرٍ ... فلا بكَ ما أَسالَ ولا أَغاما - ذكر، وهو يريد السعلاة، لأنه قد ذهب إلى الخليل أو الحبيب أو نحو ذلك - فقد ذكر هذا الحديث " أبو زيد " في " نوادره وحكاه عن " المفضل بن محمد الضبي " واشتهر هذا الخبر في العرب حتى سموا ولد عمرو بن يربوع: بني السعلاة. قال الراجز: يا قبَّحَ اللهُ بني السعلاةِ ... عمرَو بنَ يَربوعٍ شرارَ النَّاتِ ليسوا بأَخيارٍ ولا أَكياتِ وقد زعم بعض أصحاب الأخبار " أن " يلمقة بنت يلب شرح " وهي الملكة التي تسمى " بلقيس " كانت أمها من الجن. ومن الأخبار التي يرويها " ابن دأب " أن " معد بن عدنان " تزوج امرأة من الجن فجاءه منها ولد يسمى " الضحاك " وأنه لحق بالشياطين وهو الذي يسمى: المذهب، يعرض للقراء والمتنسكين يوهمهم أن طهورهم لم يصح، حتى يعيدوه. ولست مصدقاً شيئاً من الأخبار، وإنما قابلت كذبك بمثله. وذكرت أن راعياً في البادية يحمل جحشه على يده ومعه جحشان لا يفارقانه، موقعهما على جنبيه. ففي أي بادية تزعم ذلك؟ أفي بادية مضر، أم في بادية ربيعة، أم في بادية اليمن؟ وهبه حمل جحشه على يده، فكيف يكون معه جحشان موضعهما على جنبيه لا يفارقانه إذا رقد وإذا انتبه؟ لقد وصفت هذا الراعي بإلف الجحاش، فلعلك تزعم أن أباه كان حماراً، فليس ذلك بعجيب من قولك. وكأني بك، لسوء رأيك وفساد معقولك، تحتج بما تحكيه الفقهاء في المسألة المشتركة: هب أن أباهم كان حماراً؛ وأي حجة لك في هذا؟ لا يدل هذا القول على أن الحمير تلد الأنيس. ولو ادعيت أن هذا الراعي كان يألف الجحاش ويربيها، لجاز أن يسمع قولك. لأن الإنس ربما سدك به بعض البهائم إذا أحسن إليه. وقد روي أن " عمراً ذا الكلب الهذلي " إنما سمي ذا الكلب لأنه كان له كلب لا يفارقه أين ذهب. و " عمرة أخت ذي الكلب " هي الشاعرة الهذلية. وكان " تأبط شراً " وأصحابه قتلوا " عمراً " فقالت أخته: أَبْلغْ بني كاهلٍ عني مُغَلْغَلَةً ... والقومُ من دونِهم سَعْياً ومركوبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والقومُ من دونِهم أَيْنٌ ومَسْغَبةٌ ... وذاتُ رَيْدٍ بها رَصْعٌ وأسْلوبُ فإِن ذا الكلبِ عَمْراً خيرهم نَسَباً ... بِبَطْنِ شِريانَ يَعوِي حوله الذيبُ تَمشي النسورُ إِليه وهي لاهيةٌ ... مَشْيَ العَذارى عليهن الجلابيبُ الطاعِنُ الطعنةَ النجلاءَ يَتبَعُها ... مُثعَنْجِرٌ من نجيع الجوفِ أُسْكُوبُ والمُخرِجُ الكاعبَ الحسناءَ مُذعِنةً ... في السَّبْيِ يَنفحُ من أَردانِها الطِّيبُ فاجزُوا تأَبَّطَ شرّاً لا أَبا لَكُمُ ... صاعاً بِصاعٍ فإِن الذل معيوبُ وفهمت قولك في الأتان. ولو أنها أنثى الحمار الذي ذكره الله سبحانه فقال: " وانظر إلى حمارك " لما زاد على هذا الحديث. أفتدعي أنها أم حمار المسيح.، أم ابنته أم أخته؟ كيف للملكة التي في " جزيرة النساء " بأن تنال مثل هذا العمر؟ وهل تدري ما جزيرة النساء؟ هي جزيرة فيها ملكة لها جيش نساء ليس فيهن رجل. ويقال إنها تغزو وتحارب وتستظهر في كثير من المرار، ولا يدخل جزيرتها رجل ألبتة. ويقال إن المرأة منهن إذا أرادت الحمل خرجت إلى جزيرة أخرى فصاحبت من تختار من الرجال. وهذا حديث تناقله أهل العلم بالمسالك والممالك. ويقال إن ملكها باق إلى اليوم تخلف عليه امرأة بعد امرأة. وقد ادعي بعض الناس أن من شأن الهواء أن يلقح النساء في تلك الجزيرة فيحبلن ولا يحتجن إلى الرجال. فإذا ولدت ذكراً أخرجته إلى جزيرة أخرى. والقول الأول أصح وأشبه، وإن كان الله تعالى يقدر على كل شيء. ولعلك، بجهلك، تظن هذه الأتان حمارة " بلعم " وهو الذي نزلت فيه هذه الآية: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " وبم استحقت " حمارة بلعم " أن تعمر هذا العمر الطويل، والفقهاء يرون " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مثلها من البهائم؟ وفي أمر الحمارين اللذين ذكرت، عجب للمتأملين! أفتدعي أن أحدهما " يعفور " حمار النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر حمار " المسيح " عليه السلام؟ ويجب أن يكونا من آل هذه الأتان وأخويها لا محالة. وقد قالوا في المثل: " أصح من عير أبي سيارة العدواني " ويقال إنه دفع عليه من " المزدلفة " أربعين سنة. وكيف للذائد والحرون وغيرهما من فحول الخيل أن تعمر مثل هذا العمر الطويل؟ وقد حكى أن الفيل الذي سجد ل " النعمان بن المنذر " عمر أربعمائة سنة، ولم يصح ذلك. ولعل هذين الحمارين كانا مع " الإسكندر " في الظلمات فشربا من عين الحيوان فبقيا إلى اليوم. وكيف للإسكندر أن يكون وصل إلى هذه الفضيلة وقد جاء في الكتاب العزيز: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " فجاء في بعض التفسير أنهكانت معهما سمكة مشوية فأكلا بعضها ثم قام أحدهما يتطهر فأصاب شيء من طهوره ما بقي من الحوت فرجعت إليه الحياة، فدخل في البحر، فأراد أن يحدث صاحبه، فنسى. وقد روى غير ذلك، والله أعلم بيقين الحديث. والجندي الأبح الذي زعمت أنه أقام أربعين سنة لا يذوق النوم، شيء لا يلمسه أحد لك. وهل في طاقة آدمي أن يقيم شهراً الجاهلية يذوق النوم؟ وإذا سلب الغمض من العين فلا ثبات لحيوان على السهر. فكم تزعم أنه بقي على فقد النوم " حسان بن تبع بن الأقران بن الشمر بن إفريقس ابن أبرهة بن الحارث الرائش "؟ وكان " حسان " هذا قتل أخاه، وكان أخوه ملك حمير فظلمهم واشتدت وطأته عليهم. فاجتمع إليه أهل " مملكة أخيه وسألوه أن يريحهم منه ويأخذ الملك إليه. وكان في حمير رجل يقال له " ذو رعين " قد قرأ الكتب السالفة وأتاه الله بصيرة. وكانت حمير تزعم أنه من قتل أخاه غدراً سلب منه النوم إلى أن يموت فنهاه " ذو رعين " عن قتل أخيه فلم يسمع منه وأصغى إلى ما يقوله أهل المملكة فكتب " ذو رعين هذين البيتين ودفعهما إلى " حسان ". والبيتان: أَلا مَن يَشتري سُهْداً بنومِ ... سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَين فإِنْ تَكُ حِمْيرٌ غَدَرتْ وخَانتْ ... فمَعذِرةُ الإلهِ لِذي رُعَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فقتل " حسان " أخاه فأخذه السهاد حتى مات. وعاد على أهل مملكته باللوم، إلا " ذا رعين ". " ويقال أنه عاوده النوم لما قتل قتلة أخيه " ومن الجارية التي مرت عليك فشهد الثقات أن عمرها أكثر من ألف سنة؟ أسوداء هي أم بيضاء؟ أرومية أم حبشية؟ هذه المقالة تصح إن كان في الدنيا قوم يسمون اليوم سنة. أو لعلك صحفت فأردت سبة، فقلت: سنة، فالتصحيف قد جاء عن كثير من العلماء، فمن ذلك ما يروى عن " المفضل " في قوله: وذاتُ هِدْمٍ عَارٍ نواشِرُها ... تُسْكِتُ بالماءِ تَوْلباً جَدِعا أي سيىء الغذاء. أنشده " المفضل ": جذعاً. وصحف بعض أهل العلم: عنناً باطلاً شدوخاً كما تع ... تر عن حجرة الربيض الظباء فقال: كما تعنز. وصحف بعضهم قول " أبي ذؤيب ": بِذَمائهِ أَو ساقطٌ مُتجَعْجعُ فقال: بدمائه. وصحف " آخرون قول " الكميت ": وخُضْنَا بالقُرَاتِ إِلى تَميمٍ ... وقد ظنَّتْ بنا مُضَرُ الظُّنونا فقالوا: الفرات. ومثل هذا كثير. وهذه دعوى من بعض العلماء على بعض. وقد يجوز أن يكون من ادعى عليه التصحيف، سمعه من العرب كذلك. ودخل بعض البصريين على " الفراء " فسمعه يملي بيت " القتال الكلابي ": يا قاتَلَ اللهُ صِبْيَاناً تَجيءُ بهمْ ... أمُّ الهُنَيْبِرِ من زَنْدٍ لها وَارِي فقال " الفراء: أم الهنيين. فتركه حتى إذا قام الناس قال: أصلحك الله، إنما هو: أم الهنيبر. فأفكر " الفراء " قليلاً ثم قال: يرحم الله أبا الحسن - يعني الكسائي - ربما أنشدنا البيت والبيتن على غير سماع. ورووا أن " يعقوب بن السكين " صحف قول " عدي بن الرقاع ": وعَلاَ الصُّلْبُ فاستتبَّ إِلى حَيْ ... ثُ يكون العُرشانِ منه الفِقَارُ فقال: الفرسان. ومثل هذا كثير. والدجاجتان البيضاوان أقامتا بزعمك ستة أشهر أو سبعة لا تأكلان ولا تشربان! فلو أنهما من الحور العين لسوغ لك ما ادعيت. وليس في طاقة حيوان أرضي أن يقيم هذه المدة بلا غذاء. وقد كان رجل في زمان " الحجاج " يوصف بأنه يطوي الأيام الكثيرة بلا طعام. فيقال إنه حبسه خمسة عشر يوماً بأنه يطوي الأيام الكثيرة بلا طعام. فيقال إنه حبسه خمسة عشر يوماً لا يطعمه ولا يسقيه، ثم فتح عليه الباب فوجد قائماً يصلي، فعجب منه وصرفه. والنصارى يدعون أن " المسيح " عليه السلام، أقام أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب. واختلفت الحكاية عن " عبد الله بن الزبير ": فروى " المدائني " أنه كان يقيم خمسة عشر يوماً لا يطعم ولا يشرب. وقال غير " المدائني ": سبعة أيام، ثم يكون أول ما يصيب سمناً عتيقاً يتحساه. ومراده - فيما روى - أن يفتق معاه. وزعمت أنك رأيت جاموساً خرج من بيضة! فعلى أي وجه أحمل كذبك؟ مثلى معك مثل الرجل مع " عمر بن عبد العزيز " لما قال له: ما تقول في رجل ضحى بضبي؟ فقال عمر: قل: ضحى بظبي. فقال: إنها لغة. فقال " عمر ": انقضى العتاب. وقد ادعيت على البيض والبيضة أشياء منها هذا القول. ومنها قولك إن عجوزاً بدمشق ولدت بيضة. فإلى أي طريق أصرف مرادك؟ إن الإنس لا تبيض. وقد زعم بعض الناس أن " إبليس " لعنه الله لما سخط عليه باض عشرين بيضةً! فلعل هذه العجوز عندك من ولد إبليس. أو لعلك ممن يصدق بالسحر الذي يجعل به الرجل حماراً أو المرأة فأرة. وكأني بك يعرض لك أن تحتج بحديث المرأة مع " هاروت، وماروت " وأن الله مسخها الزهرة. وبالحديث الآخر أن سهيلاً كان يهودياً عشاراً باليمن. وهذه الأحاديث من قرية أهل الكتاب الأول، كثروا بها عند السفلة وأهل الجهل. ومن أحاديث الجاهلية أن الطاغوت الذي يسمى ذا الخلصة في اليمن، كان امرأة وكانت فاجرة ساحرة، فدعت غلاماً من أهل اليمن إلى نفسها فأبى عليها، فسحرته فصار نعامة. وكانت له أم صالحة فدعت عليها الله فمسخت حجراً. وقد قال بعض المفسرين أن اللات في قوله تعالى: " أفرأيتم اللات والعزى " كان رجلاً يلت السويق للحاج. ولا أدري لم استحق عندهم أن يمسخ حجراً. وقد روى عن " ابن عامر " قاريء أهل الشام " أنه قرأ: " اللات والعزى " بالتشديد. فهذا يدل على ما تقدم من الحديث. ولا يمكن أن يستشهد على: اللات - إذا شددت التاء - بشعر، لأنه يلتقي فيه ساكنان، وليس هو جارياً مجرى: التقاص والتذام والدواب، فيدخل في الموضع الذي دخلت فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقد ذكرت الفقهاء أحكاماً للساحر، فهذا يدل على أن السحر عندهم صحيح. وفي الكتاب العزيز: " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ". فأما سحرة " فرعون " فقد اختلف فيهم الناس. والصحيح أنهم كانوا يخيلون أن العصي والحبال ساعية فيما ترى العين. فأما نقل الطائر إلى غير جنسه والرجل إلى النعامة والطير، فهذا أمر يشهد المعقول بأنه محال. وقد روى بعض أصحاب الحديث أن الضب قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن أمة مسخت ". فلا أدري لعل هذا منها. وروى في مسخ ابن مقرض وابن عمرو والغراب والفيل، ما هو مشهور. ولا ندفع أن الله تعالى يقدر على نقل الأعيان. وإنما الكلام في إجرائه ذلك على أيدي الآدميين. فأما العرب في الجاهلية فقد كانوا لا يشكون أن الجن تظهر لهم في صور الحيات وغيرها من صورة الحيوان. وحديثهم عن " عبيد بن الأبرص " والشجاع الذي أبصره رمضاً، معروف عند العامة. وذكر " أبو معشر المدني " في كتاب المبعث أن قريشاً وجهت " عمرو بن العاصي السهمي، وعمارة بن الوليد المخزومي " إلى النجاشي لما هاجر إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون أن يوغروا صدره عليهم. ووجهوا معهما ألطافاً مما يكون في أرض العرب. فركب عمارة وعمرو في البحر ومع " عمرو بن العاص " امرأة له. فشرب خمراً فلما انتشى عمارة بن الوليد " راود امرأة عمرو بن العاص على أن يقبلها. فمنعه عمرو بن العاصي، فحمله فطرحه في البحر. فاستمسك عمرو برجل السفينة حتى ارتفع. فقال: لو كنت أعلم أنك تعوم ما طرحتك - هكذا في النقل. والأشبه أن يكون: لولا أني كنت أعلم أنك تعوم - فاصطحبا حتى بلغا النجاشي. والحديث مشهور معه. إلا أن في حديث " أبي معشر المدني " زيادة. قال المدني: ثم قال عمرو لعمارة: إنك رجل جميل، فصادق امرأة الملك لعلها تكون لنا وسيلة إليه. فصادقها عمارة فأخبر عمراً بذلك فقال: ما أراها صدقتك الحب حتى ترسل إليه من ثيابه وطيبه. فأرسل إليها: أن أرسلي إلي من ثياب الملك وطيبه. فبعثت بثوبين معصفرين وبطيب من طيبه. فلما لبسهما ورآهما عمرو عليه، قال عمرو بن العاصي للنجاشي: لا أكون في أرض إلا نصحت لملكها، إني لك ناصح، إن صاحبي قد خانك في أهلك فأرسل إليه فإن ثوبين من ثيابك عليه، وطيباً من طيبك. فأرسل النجاشي فوجده كما قال. فلما جاءوا به قال: إني أكره أن أقتل أحداً من قريش. وقال لأصحابه: هلم شيئاً يشبه الموت. قالت كهته عنده: نعم، ننفخ في إحليله شيئاً فيتوحش مع الوحش، ففعلوا به ذلك، فرجع عمرو إلى مكة فأخبر قريشاً بالذي فعل النجاشي. وقال عمرو في ذلك شعراً: أَأَنْ كنتَ ذا بُرْدَيْنِ أَحْوَى مُرَجَّلاً ... فلَستَ برَاعٍ لابنِ عَمِّكَ مَحْرَمَا إِذا المرءُ لم يتركْ طعاماً يُحِبُّه ... ولم يَنْهَ قلباً غاوِياً أَينَ يَمَّمَا قَضَى وَطَراً منها وغادَرَ سَوْأَةً ... إِذا ذُكِرتْ أَمثالُها تَملأُ الفَمَا تَعَلَّمْ عُمَارَ أَنَّ مِنْ شَرِّ شِيمةٍعلى المرءِ أَن يُدْعَى ابنُ عَمٍّ له ابنَمَا وذكر " العدوى " وهو من ولد " أبي جهم بن حذيفة "، أن " عمارة ابن الوليد " تبرر في الجبال، وأنه عاش حتى ولى " عبد الله بن أبي ربيعة " اليمن - وهو أبو الشاعر عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة - وذلك بعدما قبض النبي صلى الله عليه وسلم بزمن طويل. فقيل لعبد الله بن أبي ربيعة: إن ببعض الجزائر التي تقرب من اليمن عمارة بن الوليد متوحشاً. فوجه إليه فأتى به فجعل يصيح: يا حي يا حي؛ حتى مات في أيديهم. وكانوا يرون أن الذي فعل به ضرب من السحر ... فلعلك تذهب إلى أن هذه العجوز مسخت دجاجة فباضت بيضة واحدة ثم ردها الله الواحد بقدرته إلى حال الآدمية! كأني بك، لسوء رأيك، تتأول في قول " الطائي " ضروباً من التأول الفاسد، أعني قوله: للهِ دَرُّكَ أَيُّ مَعْبَرِ قَفْرةٍ ... لا يوحِشُ ابنَ البيضةِ الإِجْفِيلا وأما القوم الذين زعمت أنهم يذبحون لمن نزل بهم الدجاج ويصونون البيض، فما الذي لحقك من العجب لهذا الفعل؟ من شأن الناس إكرام النازل، فإن قدروا على نحر الناقة لم يقنعوا باشاة، وإن قدروا على الشاة لم يرضوا بالحمل، وإن أمكنهم الفرير لم يرضوا بالدجادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ولقد وصفت هؤلاء القوم بأنهم يبذلون الجهد لمن نزل بهم. على أن العرب قي القديم يعيبون الدجاج، وإنما ذلك إنكار للحضر، لأن جمهورهم وفصحاءهم أهل بدو. قال " النمر العكلي ": ونأْمُرُني ربيعةُ كلَّ يومٍ ... لأُهلِكَها وأَقَتَنِيَ الدَّجَاجَا وما تُغنِي الدجاجُ الضيفَ عَنى ... وليس بِنافِعي إِلا نِضَاجاً وأنشد " علي بن حمزة العلوي " وزعم أنه سمع أعراب نهد تنشدها في قطر نجران: تَبَدَّلتِ يا حَمراءُ أَحمرَ ناجراً ... وبُعْدَ الفيافي بالقُرى والحَواضِرِ وشُرْباً بأَعناقِ الجِرَارِ وطالَما ... شربتِ بِغيثٍ آخِرَ الليلِ ماطرِ ولِعْباً بأَولادِ الدجاجِ وربما ... لعبتِ بأَولادِ الظباءِ النوافِرِ وأما الراهب الذي زعمت أنه يشرب بول الأسد ولا يشرب بول البؤة، فكيف فرقت بين هذين؛ ولعمري إن بعض أهل اللغة ذكر أن بول البؤة يسمى الكظرم، ولم يذكر شيئاً في بول الأسد؟ وقد علمت أن الرهبان يكونون في الصوامع، وأكثرهم لا يقدر على النزول. وأقل ما يكون بين الراهب وبين الأسد من المسافة، أن يكون الراهب في القوس والأسد تحته في القرقوس، فكيف له بما ذكرت، ولو تتبع أثره في الآجام والمأسدة من الأماكن لما أمكنهخ أن يأخذ من بوله ما يشربه؟ إلا أن تدعى أن للأسد وقائع تقصدها إذا أرادت البول. إنما يعرف شرب أبوال الإبل للعرب، وقد ذكر بعضهم شرب أبوال الخيل عند الحاجة فقال: وكان لهم إِذ يَعصِرون فُظوظَها ... بدِجْلةَ أَو فيضِ الأُبُلَّةِ مَوْرِدُ إِذا ما استبالوا الخَيلَ كانت أَكُفُّهم ... وقائعَ للأَبوالِ، والماءُ أَبْرَدُ وقد ضربت العرب المثل في الجهل بمن يطلب آبوا الأسد، فقال " الفرزدق ": وإِني كما قالتْ نَوَارُ أَنِ اجتَلَتْ ... على رجُل ما شدَّ كفِّي خَلِيلُها وإِن الذي يَسْعَى لِيُفسِدَ زوجتي ... كَسَاعٍ إِلى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلها وأما الخطيب الذي زعمت أنه يتطهر ببول العجل والعجلة، فهذا شيء يحكى عن المجوس، ولا يعترف به بعضهم. وإنما هذه دعوى منك لا يحسن إليها الإصغاء، مثل ما ادعى " جرير " على العقالية أنها تطلى ببول الوبر، قال: وسَوْداءِ المحاجِرِ من عِقَالٍ ... يَشينُ سَوادُ مَحْجَرِها النِّقابا تَطَلَّى وهْيَ سَيئةُ المُعَرَّى ... بِصنِّ الوَبْرِ تَحسبُه مَلاَبَا وصن الوبر: بوله. والمحموم الذي زعمت أن أهل الموصل " إذا مرض أحدهم فرق منه، لا أدري ما غرضك فيه؟ لا نعلم أحداً يفرق من المحموم. وإنما كانت قريش في الجاهلية تبعد البرص وتتوقاه. وكان ذلك شيئاً أخذته عن اليهود. فأصاب " أبا عزة " الشاعر برص في جنبه، فاجتنبته قريش لا تجالسه ولا تواكله. فعظم ذلك عليه وتمنى الموت. فأخذ سكيناً وطلع إلى بعض الجبال ليقتل نفسه فيستريح. فلما وضع السكين على ذلك البياض وحرق الجلد، هاب الموت وأمسك، فسال من ذلك الموضع ماء فبرأ من الداء الذي كان به. وقال: لا هُمَّ رَبَّ عامِرٍ ونَهْدِ ... ورَبَّ مَن يَسْعَى بأَرضِ نَجْدِ أَصبحتُ عبداً لكَ وابن عَبْدِ ... أَبرأْتَ مني بَرصاً بِجِلدي من بعدِ ما طعنتُ في مَعَدِّ وقد حكى أن " الحارث اليشكري " قام بكلمته بين يدي " عمرو بن هند " وكان الحارث به بياض، فلما خرج من بين يدي الملك غسل الموضع الذي وقف فيه بالماء. في أشباه لهذا كثيرة. فأما المحموم فما نفر منه أحد فيما نعلم. وقد حم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فما فرق منهم أحد بل كانوا يعادون ويعللون. وحديث " عامر بن فهيرة " معروف. وقد روى حديث معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل ومعه الحمى والطاعون فأمسك الحمى بيثرب وبعث الطاعون إلى الشام. وفي أرض العرب محمة لا نعلم أحداً من سكانها هرب منها، إلا أن يتفق له الرحيل عن الأرض المحمة كما يتفق له الرحيل عن الأرض المحمودة. وهم يضربون المثل بحمى " خيبر " وحمى " القطيف " والقطيف بنواحي اليمن. قال " الشماخ ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 كأَن نَطاةَ خيبرَ زوَّدتْه ... بُكورَ الوِرْدِ رَيِّثةَ القلوع وكانت اليهود إذا طمعت في الرجل يقدم عليهم، يقولون له على سبيل السخرية: اعل تل الرابية فانهق عليها نهاق الحمار عشر مرات لتأمن بذلك حمى خيبر. ونزل بهم رجل من العرب فقالوا له مثل ذلك فقال: تقولُ: اعلُ وانهَقْ لا تضرُّكَ خَيبرٌ ... وذلك من دِينِ اليهود وَلُوعُ لَعمري لئن عَشَّرتُ من خشيةِ الردَى ... نُهَاقَ الحمار، إِنني لَجزُوعُ وأما قولك إن في نواحي " نجران " خيلاً لها قرون. فليس ببديع من قدة الله، ولكنا لم نسمع به. وكم تدعى أنه يكون للفرس؟ أقرن أم قرنان أم أكثر؟ فقد زعم " ابن الأعرابي " أن الهرميس هو الكركدن، وهو دابة أصغر من الفيل، له قرن واحد. قال الراجز: بالموتِ ما عيَّرتِ يا لَميسُ قد يهلِكُ الأرقمُ والفاعوسُ والأَسَدُ المُذَرَّعُ الحَؤوسُ والفِيلُ لا يَبقى ولا الهرِميسُ وحدث بعض الناس أن قرن الكركدن تعمل منه المناطق، وذلك أنه أبيض، فيقطعونه على مقدار الحلية. وقد قال بعض أهل اللغة: الشقحطب كبش له أربعة قرون. فلذلك سألتك عن عدة قرون هذه الخيل. وأما قولك إن الأوعال في جبالها تراقب الصوم ولا تراقب الصلاة؛ فما عرضها عندك بما تصنع؟ أتصوم وعندها ما ترعاه؟ أتظنها ترجو رحمة من الله بذلك؟ وأي صوم للذي ينبذ الصلاة خلفه؟ وقد رخص في ترك الصوم للشيخ الكبير، فأما ترك الصلاة فما رخص فيه، بل يصلي الرجل كيف أمكنه، حتى يصلي الغريق وهو على رف سفينة والمريض وهو لا يقدر على التوجه إلى القبلة. وادعيت على الفقهاء أنهم يوجبون على من وطيء الجامع الغسل وإن كان ظاهراً. أفتزعم أن هذا الغسل فرض أم سنة؟ فإن زعمت أنه فرض فكذبت. وإن زعمت أنه سنة فقد أخطأت. لأن الغسل إنما ندب إليه في يوم الجمعة قبل وطء الجامع، فأما بعده، فلا. وفي الحديث: " من توضأ فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل ". على أن الناس لا يمكن كثيراً منهم ذلك، فكم من خطيب يخطب على منبر في يوم جمعة، عهده بالغسل بعيد. وزعمت أن " محمد بن إدريس الشافعي " كان لا يقرب من الجامع ويبيت في الكنيسة، فجحدت بلادك: أتدعي على رجل من قريش مطلبي معروف بالفقه أنه كان يهجر الجوامع ويكثر المبيت في الكنائس؟ وما الذي أفقره إلى المبيت في الكنيسة وهجران الجوامع؟ أميل إلى الإنجيل عن الكتاب الكريم ورغبة في صحبة قوم ليسوا على دينه ولا من أهل ملته؟ ولعله لم يبت في كنيسة قط، ولا ترك الجامع في يوم جمعة إلا من عذر. والموضع الذي كان يجلس فيه بجامع المدينة، مدينة أبي جعفر، معروف إلى اليوم، يجلس فيه الفقهاء ببغداد. وادعيت على " أبي حنيفة " أنه كان يأكل لحم الفقيه دون الفرضى والنحوى. أفترى " أبا يوسف، ومحمداً " وافقاه في هذه المسألة على رأيك؟ وقد كان في زمنه فقهاء كثير، ولو علموا هذا من رأيه لم يقاروه ولم يساكنوه. وما رأيك في " زفر "، أكان يتابعه على هذا القول؟ " ألا لعنة الله على الكاذبين ". وادعيت على أهل الجزيرة أنهم يأكلون لحوم الفقهاء في السنة المجدبة. وكذبت على القوم. ما زال بينهم رجال من أهل الفقه منذ اشتمل على ديارهم ملك الإسلام. ولم يرب أحداً منهم ريب إلا كما يريبه في غير الجزيرة من البلاد. وزعمت أن قوماً بنواحي اليمن يأكلون الذرة ويكيلونها بالذهب، وإن بعضهم يجوز ألا يكون ملك ديناراً قط. فمن يضرب له مكوك من الذهب أو صاع أو مد، كيف لا يضرب له دينار، هذه الفرية، فبفيك التراب. ولقد جئت بالنكراء في ادعائك أن لحم الشيطان يؤكل. وقيل ل " عامر الشعبي " ماذا تقول في لحم الشيطان؟ فقال: إن قدرت عليه فكله. فأبعدك الله، أليس في الكتاب العزيز: " والجان خلقناه من قبل من نار السموم ". وفي موضع آخر: " وخلق الجان من مارج من نار ". فأي لحم له وهو ناري، والنار جوهر لطيف ليس يجري مجرى الطين؟ ولعلك تذهب إلى أن الشيطان ليس هو الجان الذي عني، وذلك خطأ منك. أليس في الكتاب الكريم: " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ". وكيف تظن أنهم يتوصلون إلى أكله؟ أيصيدونه بفخ أم شرك؟ أم يحفرون له زبية كزبية الأسد؟ ولو صدقت لكان غث اللحم خبيثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ولم يكفك ما ادعيته من الكذب، حتى ادعيت أن الدجال قد ظهر منذ سنين في أعمال " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - وأنه يأوي إلى بعض الجند. ولو علم - خلد الله ملكه - لتقرب بدمه إلى الله سبحانه وأراح من أذاته المسلمين. وله شروط وآيات تكون قبل خروجه، لم يظهر منها شيء. وقد كان بالمدينة قوم يظنون أن " عبد الله بن صائد " هو الدجال. فأسلم عبد الله بن صائد وغزا مع المسلمين. وقال " جابر بن عبد الله "، أو غيره من الصحابة: مازلت في شك من عبد الله بن صائد، حتى قبر. وكذلك قولك في " يأجوج " كأنك لم تسمع بقوله تعالى: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ". وكيف لم يظهر الدجال ويأجوج إلا في علم " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أطال الله بقاءه - وهو من أوسط البلاد؟ وإنما جاء في بعض الحديث أنه يخرج في يهود إصبهان. وقال " كعب الحبار " لرجل من أهل البصرة: أفي بلادكم ماء يقال له كذا؟ - وأحسبه قال: سفوان - قال: نعم. قال: إنه لأول ماء يرده الدجال، من مياه العرب. وزعمت أن قاضي " حلب " حرسها الله. عادل منصف، إلا أنه يجيز طبخ المظلوم بقدر أو مرجل. فما تقوم شهادتك له بالعدل، بدعواك هذه العظيمة؟ وقد أدركنا بعض الناس يحدثون عن بعض آل كيغلغ - وأحسبه إسحاق المعروف بأبي يعقوب - أنه كان يطبخ من يقع في يده من الجانين ويطعمه بعض الجناة الأحياء. وهذا إفراط في العقوبة لم يطلقه كتاب الناس الكتب ولا سنة. وما زالت قضاة حلب، حرسها الله، عادلين راشدين لا يجيزون ذبح الفرخ إلا بحق، فكيف حسن في نفسك أن تنطق بما نطقت؟ وأعجب من هذا القول، زعمك أن يبيح ضرب خد المظلومة بالفؤوس؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. لولا أن أمك وأباك معروفان لزعمت أنك من القوم الذين مسخوا وقيل فيهم: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ". وقولك: إن من دينه أن يأمر الظالم بمعونة الظالمة. فمعاذ الله ما شهدنا إلا بما علمنا " وما كنا للغيب حافظين ". وادعيت على هذا القاضي، أنه يحلل للخباز أن يأكل كبد العجان وأي عضو شاء من جسده؛ فما الذي خص العجان بذلك، وقد أعان الخباز على البغية ومهن فيما أراد؟ وأنت منذ اليوم تجيز أن يؤكل لحوم الناس كأنهم ضأن في توهمك أو معيز. واعيت على قاضي حلب - حرسها الله - أنه يحب أن يدخل الجنة، وأنه مع ذلك يبغض الحور العين. وما بلغت بأحد من أهل الأرض بغضة النساء والغنى عنهن، أن يبغض الحور العين! ولأي شيء يبغضهن، وهن لم يرين قط ولم يظهرن لبني آدم وهم في الحياة؟ وقد اختلف الناس فيهن، فقال قوم: هن خلق يخلقه الله عزت قدرته، ليس من بني آدم، واحتجوا بالآية: " إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكاراً، عرباًأراباً، لأصحاب اليمين ". وسئل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحور العين فقال: " هن عجائزكم هؤلاء الدرد الشمط ". يحتج بأنهن يخلقن خلقاً ثانياً. وكيف يبغض الإنسان من لم يره قط، وقد وصف له بالخير دون غيره من الشرور؟ وإنما يغض الإنسان من لا يعرفه إذا وصف له بالشر. ولعل " جران العود النميري " لو قيل له إن امرأتيه " رزينة وأم حازم " تكونان في العاقة من الحور العين، لصبر لهما على الأذاة المؤلمة إلى آخر الدهر. وكذلك صاحب " جيداء " - وهو ابن أخي " عبد الله ابن أم أوفى " صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قيل له إن جيداء امرأته تكون في العاقة من الحور العين، لجاز أن يشغف بها شغف " عبد الرحمن بن أبي بكر " بليلى ابنة الجودى " و " عروة بن الورد " بسلمى امرأته لما طلقها فقال: سقَوْني النَّسْءَ ثم تَكنَّفوني ... عُدَاة اللهِ من كَذِبٍ وزُورِ وأصل النسء: لبن يخلط بماء، ويقال إنه أراد به ها هنا الخمر - وكان أهله سقوه فلما سكر وشوا إليه بامرأته سلمى وعابوها عنده وسألوه أن يفارقها ففعل. فلما صحا ندم. وقصيدة " الجران " في ذم امرأتيه معروفة، ومنها: أَلا لا تَغُرَّنَّ امْرأَ نوفليةٌ ... من الناسِ يوماً أَو تَرِيبٌ وُضَّحُ ولا فاحِمٌ يُسْقَى الدِّهانَ كأَنه ... أَساوِدُ يَزْهاها لعينِكَ أَبْطَحُ فإِن الفَتَى المغرورَ يُعطِي قِلادةً ... ويُعْطِي المُنَى من مالِه ثم يُفضَحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فتِلكَ التي أَرضَيْتُ بالمالِ أَهْلَها ... وما كُلُّ ذي بَيعٍ من الناس يَرْبَحُ جَرَتْ يوم سِرْنا عامِدين لأَرضِها ... عُقَابٌ وشَحَّاجٌ من الطيرِ مِتيَحُ فأَما العُقابُ فهي منها عُقوبَةٌ ... وأَما الغرابُ فالغريبُ المُطَرَّحُ أُلاقِي الأَذى والبَرْحَ من أمِّ حَازمٍ ... وما كنتُ أَلقَى من رَزِينةَ أَبْرَحُ وهي طويلة. وقال " صاحب جيداء ": جزاكِ اللهُ يا جيداءُ شرّاً ... لبذِلةِ أَهْلِ بيْتٍ أَو لِصَوْنِ تُعينُ عليَّ دَهْري ما استطاعت ... وليستْ لي على دَهرِي بِعَوْنِ وزعمت أنه لا يلتفت إلى كلام الغافر، ويحب أن يغفر له. فويلك، ما الذي عنيت بالغافر؟ أرجلاً من بني آدم أم سواه؟ إنك لتقول قولاً عظيماً. وزعمت في حكايتك عن هذا الرجل، أنه كان إذا مات عن أم الولد سيدها فتزوجت، أجاز لها أن تبيع زوجها من اليهودي والمسلم والنصراني. فهذا أمر ما ذكره صاحب خبر ولا راوي سنة. وكيف يجيز قاضي عدل أن تبيع المرأة زوجها من اليهودي والمسلم والنصراني، والملك والزوجية لا يجتمعان؟ ما أحسب فاركاً من الفوارك بلغ بها الفرك المتظاهر إلى بيع الزوج. وقد سبق من القول أن الملك والزوجية لا يجتمعان. وفي الطلاق مندوحة إذا رغبت فيه المرأة. وقد روى أن " دختنوس ابنة لقيط " كانت عند " عمرو بن عدس " وكان شيخاً كبيراً وبه وضح. فوضع يوماً رأسه في حجرها فسمعت جخيفة، أي غطيطه، فقالت: اللهم أرحني منه. فوقعت كلمتها في أذنه فطلقها، فتزوجت شاباً من بني عمها، وكان الشاب فقيراً. فمضت تستسقي لبناً من " عمرو فقال: " الصيف ضيعت اللبن " فذهبت مثلاً. فقالت: " هذا ومذقه، خير " فذهبت مثلاً أيضاً. ولو تزوجت " الخنساء " " دريداً " لم يخطر ببالها بيعه. وإن كانت قد هجته فقالت: مَعَاذَ اللهِ يَنكِحُني حَبَركَى ... قصيرُ الشَّبْرِ من جُشَم بنِ بَكرِ يَرى مَجْداً ومكرُمةً أَتاها ... إِذا عَشَّى الصديقَ جريمَ تَمْرِ لَئِنْ أَصبحتُ في جُشَمٍ هَدِيّاً ... لقد أَودى الزمانُ إِذاً بِصَخْرِ وقال: وقاكِ اللهُ يا ابنةَ آل عَمْرٍو ... من الفِتْيانِ أَمثالِي ونَفْسِي ولا تَلِدِي ولا يَنكِحْكِ مِثْلِي ... إِذا ما ليلةٌ طرقَتْ بِنَحْسِ وقالت: إِنه شيخٌ كبيرٌ ... وهل خبَّرتُها أَنى ابنُ أَمْسِ وأشباه هذا كثير. وادعيت على أهل " سرمين، وقنسرين " أن أحداً منهم لا يقدر أن يمس ذنب الدجاجة. فلعلك عنيت دجاجة من الدجاج التي عنى " عبدة " بقوله: في كَعْبةٍ زانها بانٍ ودَلَّصَها ... فيها ذُبالٌ يُضِيءُ الليلَ مَفتولُ لدى سُتُورٍ وأَبوابٍ يُزيّنُها ... من جَيِّدِ الرَّقْمِ أَزواجٌ تهاويلُ فيه الدجاجُ وفيه الأُسْدُ مُخْدَرَةٌ ... في كلِّ شيءٍ يُرى فيه تماثيلُ ولعمري إن هذا الدجاج المذكور، متعذر على من هو في هذا الزمان أن يمس دجاجة منه، لأنها صور دارسة وتماثيل متغيرة. والبلاد التي كان فيها " عبدة " نائية عن هذه البلاد. ولو سمع هذه المقالة عنك أهل التسرع والخفة من شبان هذين الموضعين، فجاز أن يقصدك بمحلتك أربعون منهم أو خمسون، كلهم قابض على ذنب دجاجة. يكذبونك بذلك ويعلمون الناس تخرصك. وقلت: ما في الأرض نصراني ولا نصرانية إلا وهو يذم القس وإن كانا يأتيانه فيمن يأتيه، حتى ملك الروم وبطارقته. فأم القس وأخته وبنته، ألسن من جدملة النصارى؟ وكذلك بنوه وإخوته وأبوه. ولو سألت أقارب القسوس من كل بلد، لجاز ألا يقولوا فيهم إلا خيراً. وإذا كان ملك الروم يذم القس، فما الذي يمنعه من صرفه؟ ولعلك تزعم أنه يخاف من أن يعقده أو يحرم عليه كما تقول النصارى. وإن ذلك لخطل من القول. وزعمت أن الرجل ب " تنيس " لا يمشي في النعل العربية إلا ومعه بطريقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ويحك؛ ما أبعدك من الصدق! وفي هذه البلدة خلق كثير من الرجال، وأحذيتهم النعال العربية، فمن أين لهم هذه البطارقة كلها؟ والذين يدعون الخبرة بملك الروم، يزعمون أن عدد بطارقتهم اثنا عشر بطريقاً، لا يزيدون على هذه العدة ولا ينقصون. فإذا فقد منهم رجل جعلوا مكانه سواه. وهذا ترتيب يجب أن يكون إلى ملكهم: إن شاء جعلهم عشرين وإن شاء جعلهم عشرة. فأما ادعاؤك لهذه المحلة أن فيها من البطارقة آلافاً، فكذب لا ريب فيه. وزعمت أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - إذا حضر ميدان السلم نزل المسيح. ولو صح هذا عند البطرك لقصد ميدانه - أعز الله نصره - حتى ينظر صحة ما تقول، ولبطل حج الأفرنج وغيرهم من أهل دينهم إلى " بيت المقدس " ولنقلوه إلى ميدان " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - خلد الله أيامه -، ولجاءت الرهبان من نجران والحبشة وآفاق الأرض وتركوا الصوامع، رغبة في النظر إلى " المسيح " عليه السلام. وقولك إن رجلاً ببلد كذا يفعل ويصنع - وذكرت أشياء تنقض الصلاة - قم قلت إن المسلمين واليهود والنصارى يشعدون أنه يصلي في تلك الحال. فيجوز أن تكون أردت بقولك: يصلي، في آخر كلامك، ما يستقبل من الزمان. وقد يجوز للرجل أن يرى السابح في الماء وصائد السمك، ويشهد في تلك الحال أنه يصلي فيما بعد. وادعيت على القصبة المسكينة، أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - يبغضها، وكذلك غيره من الأمراء الراشدين. ولو صح ما زعمت لأحرق بالكتاب الواحد من الحضرة العالية جميع قصباء الشام حتى لا يجد أحد قصبة يستعين بها في بناء ولا يشد فيها المخمة لسفر ما غزله الشبثان نعند الروافد وأعالي الجدر، ولما وجد راع قصبة يتخذ منها نقيباً ليشايع بين الإبل. ولم رميت القصبة بهذه العظيمة؟ لعلك شربت يوماً ماء القصباء فاستوبلته، فيقال إنه ماء رديء للشارب. وقد اختلفوا في قول " الهذلي ": متى ما أَشَأْ غيرَ زهو الملو ... كِ أَتْرُكْكَ رَهْطاً على حُيَّضِ وأَكْحَلْكَ بالصَّابِ أَو بالجَليَ ... ففَتِّح لِكُحلْكَ أَو غَمِّضِ وأُسْعِطْكَ في الأَنفِ ماءَ الأَبا ... ءِ مِمَّا يُثَمَّلُ بالمخْوَضِ فقيل: أراد بماء الأباء عصارة ورق القصب، وهو من القواتل. وقيل: أراد الماء الذي ينبت فيه القصب. وادعيت أن بدمشق سمرة مسلمين يحلون السبت؛ وما حدث بما قلت خبير، إنما السمرة قوم من يهود. وادعيت أن " البارة " تسافر كما يسافر الركبان. وقد روى عن " ابن عباس " أن بعض جبال " مكة " - وأغلب ظني أنه أبو قبيس - كان من جبال خراسان فجاء مهاجراً إلى مكة. ولعمري إن جبال مكة تستوجب أن تظهر لها المعجزة وتنزل عليها الآيات، فأما " البارة " فقرية من قرى الشام دامرة المسجد ليس بينها فرق وبين غيرها من إن القريات. وقد كان وقع بها حريق من الروم وغيرهم، فليت شعري في ظنك، هل أحدثت لها النار مزاجاً حيوانياً تقدر به على السفر؟ سبحان الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا. وادعيت أن أهل الزوج يفرقون من النائم. فيا للعجب، أيأمنون الحي ويخافون مناسب الميت؟ قال الله تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ". وقيل لبعض الحكماء: صف لنا الموت. فقال: نومة طويلة. فقالوا: صف لنا النوم. فقال: موتة قصيرة. وأما القرية المعروفة ب " أورم "، فقد نزلت فيها صيفاً وعاينت بها شباناً لا يرفعون رءوسهم من النوم. وبت بها ليالي وأحسست غطيطاً من كل جهة. وزعمت أن العدل من عدول القاضي بمدينة السلام، لا يدخل عليه إلا ومعه دفان كل واحد منهما أحب إليه من مائة دينار. ولو أنهما مأشوران من خشب القطر لما زاد الأمر على ما ادعيت. وما حاجة العدل إلى حمل الدفين؟ أيكتب فيهما ما يسمع من العلم؟ فبعض الناس تكون معه ألواح صغار يكتب فيها ما يسنح له من الفوائد، وأغلاها قيمة لا قدر له. وقد يجوز أن تعني رغبة الرجل فيما يستودعه الدقيق من العلم، فإن الكلمة الواحدة ربما عدلت عند العالم بدرة أو أكثر. والمعروف من أهل العراق أنهم يكتبون العلم في الجيد من ورق خراسان، ولا نعلم أحداً من عدولهم يحضر مجلس القاضي ومعه دفان بهذه الصفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وادعيت أن حامل الدفين يكون الساج على كتفيه. وهذه المثلة لا يرضى بها الباعة ولا أهل الدناءة، فكيف يحتملها العدل المرضى، وإنما تقبل شهادة الرجل إذا جمع بين الدين والمروءة؟ وما الذي أفقره إلى أن يحمل الساج على كتفيه كأنه مكترى للمهنة أو غلام نجار من بعض العامة؟ ولعمري إن الدف الذي يلعب به، فيه لغتان ومعاذ الله أن يحمل ذلك رجل فيه خير، وإنما تحمله الجواري الناشئات والعجائز يتكلفن حمله في الولائم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعلنوا النكاح واضربوا بالدف " وقال الراجز: وطالما سُقْنا المطِيَّ زَفَّا ليلاً وأَنتِ تقرعين الدُّفا وإنما يعبر الرجل بحمل الجف إذا هجي. والمراد بذلك أنه من أهل التخنيث. قال الشاعر: أَنَّى لِعَفَّانٍ أَبيكَ سَبيكةٌ ... صفراءُ والنهرُ العُبابُ الأزرقُ ووَرِثْتَه دُفّاً له ويَراعةً ... جوفاءَ كان بِنَفْخِها يَتَمطَّقُ وزعمت أن أهل " عزاز " في كل ليلة تبرك عليهم النعامة. وتلك أرض لا يطرقها النعام إلا بعد أن يصاد. فلو ادعيت ذلك للمزالف من الأرضين لكان أولى بك واخلق. ومثل هذا الكلام تقوله العرب على سبيل التقليل والاحتقار، كما قال: ولو أَن عُصفوراً يَمُدُّ جَناحَه ... على آلِ طَيْىء كلِّها لاَستظَلَّتِ وقال " زياد الأعجم ": زعمتْ غُدانةُ أَن فيها سَيِّداً ... ضخماً يُواريه جَناحُ الجُندُبِ يُرْويه ما يُرْوي الذبابَ فينتهي ... سُكراً، ويُشبِعُهُ كُراعُ الأَرنب وقد يجوز أن تعنى بقولك: تبرك عليهم النعامة، أي عندهم وفيهم. كما يقال: نزلنا على بني فلان. ولا يراد أنهم نزلوا بأجسامهم على أجسام أولئك، إنما يراد أنهم كانوا تضيفوا القوم أو نزلوا بين ظهورهم. وإنما ينبغي أن تدعى مثل هذا في الأرض يكثر بها خيط النعام. وأما أرض لا تمر بها النعامة إلا وهي مصيدة، فمحال. وزعمت أن العدل من أهل " منبج " لا يرى عند قاضيهم أو واليهم مسلماً. ولو ذهب رسول قاصد يكشف عما قلت لوجدك مبطلاً متخرصاً. ولا بد لعدول البلد وأماثل أهله، من السلام على الوالي والقاضي. وبهذه العادة جرت أخلاق الناس في كل الأوطان. وزعمت أن السنانير إذا كانت في البادية تقلدت السيوف ولعبت بالرماح. ولا يلعب بالرمح إلا من يقدر أن يطعن به. فلو صح هذا من دعواك لاجتمعت سنانير هذا الإقيلم فصدت الجيش الذي يعمد لأهله بالأذاة. لأن أهل كل دار لا يعدمون سنوراً من السنانير. وادعيت أن أهل " بعل بك " يفرح كل واحد منهم أن تكون له أمة وأن كلهم يكرهون الحرائر. وهذا خلق ليس عليه أحد من أهل البلاد. ويجوز أن تتفق هذه الشيمة في الرجل بعد الرجل، فأما أن يكون أهل البلد كلهم مصفقين على هذا الرأي، فمستحيل في النظر والمعقول. وما الذي يكرهون من الحرائر ويؤثرونه من الإماء؟ وليس أحد في الأرض يختار أن يكون أمة أمة. ومن أيمان العرب: أمي قينة إن كان كذا. ومن أمثالهم: لا تبل فوق أكمة ولا تحدث سرك ابن أمة. وما زال ذم الإماء موجوداً في منثور كلامهم والمنظوم. وفي كلام يروى عن " لقمان بن عاد " في حديث حزين الذي يذكره أصحاب الحديث، ذم لابن لأمة، وذلك أن " لقمان بن عاد " مكان له سبعة إخوة فخطبوا كلهم امرأة واحدة وخطبها لقمان معهم. واتفقوا على أن يصف لقمان كل واحد منهم فتختار أيهم شاءت. فقال " لقمان ": خذي مني أخي ذا البجل، إذا كلأ القوم غفل، وإذا سعى القوم نسل، وإذا كان الشأن اتكل بعيد من نيء قريب من نضيح. فلحياً لصاحبنا لحياً. ثم قال: خذي مني أخي ذا الثجلة، يخصف نعلي ونعله، ويطعم أهلي وأهله، وإذا كان يومه قدمت قبله. ثم قال: خذي مني أخي ذا العفاق، أفاق صفاق، يعمل الناقة والساق. ثم قال: خذي مني أخي ذا النمر، حيي خفر، شجاع ظفر، أعجبني وهو خير منه إذا سكر. ثم قال: خذي مني أخي ذا الأمد، بحر ذو زبد، وجواب ليل سرمد. ثم قال: خذي مني أخي ذا الحممة، يهب الناقة السنمة، والمائة البقرة العممة، والمائة الشاة الزهمة، وإذا كان على عاد ليلة مظلمة، قال: اكفوني الميمنة وأكفيكم المشأمة، وليس فيه لعثمة، سوى أنه ابن أمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثم قال: خذي مني أخي حزينا، أولنا إذا غدونا، وآخرنا إذا استجبنا، ومطعم أبنائنا إذا شتونا، وفاصل خطة أعيت عليها، ولا يعد فضله لدينا. ثم قال: أنا لقمان بن عاد، ابن عادية لعاد، أضطجع فلا أجلنظي، ولا تملأ رئتي جنبي. إن أر مطعمي فحداء تلمع، وإلا أر مطعمي فوقاع بصلع. ألا ترى إلى قوله: سوى أنه ابن أمة، كيف عابه بذلك؟ وإنما تعاب الأمة إذا كانت مبتذلة. فأما إذا حصنها مولاها، فلا فرق بينها وبين الحرة، قال الشاعر: وكائنْ تَرى فينا مِن ابنِ سَبِيّةٍ ... إِذا لَقِيَ الأَبطالَ يَضربُهم هَبْرا فمَا زَادَها فينا السِّباءُ نِسائنا ... ولا احتَطبتْ يوماً ولا طبخت قِدْرا ولكنْ خَلَطنَاها بِخَيْرِ نِسائنا ... فجاءَتْ بهم بِيضاً وجُوهُهمُ زُهْرَا ورب سيد من القوم وملك عظيم ونبي عند الله كريم، قد ولدته الإماء. ولما فتح " قتيبة بن مسلم " بعض بلاد الأعاجم: الصغد أو غيرها من البلاد، وجد فيها امرأة شريفة من بنات بعض الملوك، فلما نظر إليها قال لأصحابه: " ما ترون في ابن هذه؟ أيكون هجيناً؟ " فقالوا: " من قبل أبيه ". يشهدون لها بالصراحة والفضل. فبعث بها إلى " الحجاج " وحملت إلى " الوليد بن عبد الملك " فولدت له " يزيد بن الوليد: الناقص " وكان من أفضل ملوكهم. وإنما سمى الناقص لأنه نقص أعطيات الجند. وقد كان " علي بن الحسين " رضي الله عنه. ابن أمة. وزعمت أن أهل " بعل بك " لهم كروم كثيرة، وأن الرجل منهم لا يرى في كرم طول حياته. فمن الذي ينوب عنهم في اتخاذ العنجد وعصر العنب واجتناء الثمرة؟ أرجال منهم أم نساء؟ إن كانوا يصونون نساءهم عن ذلك فلا بد من استعانتهم بقوم ليسوا منهم يجنون لهم ما أينع من الثمار، ويضعون ما قطف من العنب في الجوخان. ولقد وصفت هؤلاء القوم بضد ما وصف به " أبو محجن " نفسه فقال: إِذا مِتُّ فادْفِنِّي إِلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظامي في المماتِ عُروقُها ولا تَدفِنَنِّي في الفَلاةِ فإِنني ... أَخافُ إِذا ما مِتُّ أَلاَّ أَذوقُها وروى " الأصمعي " بإسناد له، أن قبر " أبي محجن " بإرمينية في كرم تحت الشجرة الرابعة منه، وكان غزا بإرمينية فمات هناك. وزعمت أن الكوفة والبصرة ومصر يجوز أن يجتمعن بجوسية في يوم خميس أو جمعة. وما علمنا أن أرضاً من الأرضين سارت من مكانها إلى سواه. وإنما قالوا: لا أفعل كذا ما رسا ثبير وما أقام عسيب. لعلمهم أن الجبال لا تنتقل. والأرض التي عليها الجبل، أولى بالثبات منه لأنها أثقل، ولأن الجبل ربما شبه بالراكب أو القائم وهما أقرب إلى المشي من الأرض المدحوة. ولم تزل الشعراء يدل كلامها على ثبات الأرض والجبال. وليست " جوسية " أرض المحشر فتدعى أن غيرها يضهل إليها يوم القيامة، ولعلك تحتج بقول الشاعر الذي أنشده " أبو الغوث " بن البحتري " عن أبيه عن " حبيب بن أوس ": أَبا جَبَلَيْ بَطْنِ العِدَانِ هل أنتما ... إِنِ احتملَ الأُلاَّفُ مُحتَمِلانِ كأَنكما في الآلِ لَمَّا نهضتما ... حِصَانانِ فَاتَا الخيلَ مُطَّرِدان كأَنَّهما قُدَّامَ جَيْشٍ طليعةٌ ... على جانب الحَوْمَاءِ يَرتَبئانِ وقد زعَموا أَن العِدَانَ أَبوهما ... وأَنَّ إِلى الحَوْماءِ يعتزيانِ وذاكَ أَبٌ بَرٌّ وأُمٌّ لَطِيفةٌ ... ولا صَبْرَ عن أَرضٍ بها أَبَوانِ هكذا الرواية عن " أبي الغوث " وفي كتاب النسيب: وذاك أب فظ وأم غليظة، وفيه: الحرماء، مكان: الحوماء. وفيه: العدان، بفتح العين. فكأنك تظن أن قوله: هل أنتما إن احتمل الألاف محتملان دليل على أنهما ينهضان للرحلة. وهيهات! إنما هذه المقالة منه على سبيل الأسف والتقرير أنهما لا يظعنان أبداً، كما قال الآخر: هل أنتَ ابنَ لَيْلَى إِنْ نظَرتُكَ رائِحٌ ... مع الركْبِ أَو غادٍ غَدَاة غدٍ مَعي؟ أي: إنك لا تبرح أبداً. وقال " لبيد ": وهل عايَنْتَ من أَخَوَينِ دَامَا ... على الأَيامِ إِلا ابْنَي شَمامِ؟ وهما جبلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وزعمت أن أهل " رفنية " يأمنون البيت والمسجد ويفرقون من الدار وما الذي أوجب فرقهم منها؟ وهل البيت إلا جزء من أجزائها؟ وأما قولك إن العرب كانت تتشاءم بالصرد، فذلك معروف منهم. أنشد " ابن الأعرابي ". تَغْتَالُ عَرْضَ النُّقْبَةِ المُزالَهْ ... ولم تَبَطَّنْها على غِلالهِ إِلاَّ بِحُسْنِ الخُلْقِ والنَّبَاله ... آذنَ بالبَيْنِ صُرَيْدُ الضالَهِ فظلَّ منه القلبُ في بَلبَالَه ... يَنزو كنَزْوِ الظبْيِ في الحِبَالَه وأنشد " أبو الفضل ابن العميد " في رسالته إلى " ابن سمكة ": دَعَا صُرَدٌ يوماً على غُصْنِ شَوْحَطٍ ... وصاحَ بِذاتِ البَيْنِ منها غُرابُها فقُلتُ: أَتصريدٌ وشَحْطٌ وغُرْبَةٌ ... فهذا لَعمري شَحْطُها واغتِرابها وأما الذي حكيت عن " بحتر " فأمر لا يسلم لك. وهذه أخبار " البحتري الشاعر " تقرأ وتنسخ، لم يزعم أحد من الرواة أنه كان يستصحب صرداً أو غيره من الطير. وفي " منبج " رجال من ولده لا يرى مع أحد منهم صرد، ولعل فيهم من لم يسمع باسمه قط. وأما قولك: إن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - إذا ركب دعا له البرج والصور بدعاء يفهم، فيجوز أن تكون عنيت بدعائهما له، حسن أثره فيهما. فإن مثل هذا يوجد في كلام العرب وغيرها كثيراً. وفي الكتاب الكريم: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " فتسبيح الحجر وما جرى مجراه، إنما هو أثر الصنعة فيه، وشهادته للعاقل إذا رآه: أن له بارئاً قديراً يفعل ما يريد. وقال الشاعر يمدح رجلاً: خَبَّرَ عن فَعالِكَ الأَرض واستَنْ ... طَقَ منها اليَبَاب والمَعْمُورا وقد كثر في الأشعار الحكاية عن الطلل والربع، ومخاطبة الشاعر لما يحن إليه من جبل أو ماء. ويروي ل " حاتم الطائي ": أَتَتْني من الرَّيَّانِ أَمْسِ رِسالةٌ ... وغَدْواً يَجيءُ ما يقول مُوَاسِلُ هما يسأَلانِ ما فَعلتُ، وإِنني ... كذلك عما أَحْدَثَا أَنا سَائِلُ فقلت: أَلا كيف الزمانُ عَليكما ... فقالا: بِخَيْرٍ، كلُّ أَرضِكَ سائلُ فحكى عن الريان ومواسل كلاماً لا يقدر عليه إلا من يعقل، وهما موضعان في جبلي طيء. ويقال إنه كان عند بعض الملوك فدعاه إلى المقام عنده وتركه وطنه. فقال له حاتم: لي صديقان، أنا أشاورهما في ذلك. ثم دخل على الملك بعد أيام فأنشده هذا الشعر يوهمه أن الريان ومواسلاً رجلان وهذا نحو مما قال آخر: ودِدْتُ وأَبْرَقُ العَيْشومِ أَنَّا ... نكونُ معاً جميعاً في رِداءِ أُبَاشِرُه وقد نَدِيَتْ رُبَاه ... فأُلْصِقُ صِحَّةً منه بِدَاءِ فجعل أبرق العيشوم يود. وفي الكتاب الكريم في صفة جهنم: " تدعو من أدبر وتولى ". فذهب بعض الناس إلى أنها تتكلم بإذن الله في ذلك اليوم كما يتكلم الآدميون. وقال آخرون: أخذها لهم هو دعاؤها إياهم. وإن كنت أردت أن البرج والصور يتكلمان، فقد جريت على عادتك في الإحالة. وزعمت أن عبيده - أعز الله نصره - يرغبون في البق ويحبونه، ويبغضون الذباب. وإن البق والذباب لبغيضان إلى كل حيوان. ألم تسمع قول " جرير ": ظَلِلْنا بِمُسْتَنِّ الحَرورِ كأَننا ... لدَى فَس مستَقبِلِ الريحِ صَائِم من البُلْقِ رَمَّاحٍ يَظلُّ يَشُقُّه ... أَذَى البَقِّ إِلا ما احتمى بالقوائِم فوصف أذاة البق الأبل. وإنما يصف بيتاً بنوه لهم على قسي وسيوف. كما تذكر العرب في الشعر أنها تفعل إذا نزلت في الهاجرة. وقال آخر وهو يصف بيتاً بني على نحو ما ذكره " جرير ": ومُجَوَّفٍ قَلِقِ القوائمِ سابِحٍ ... تَهفُو قوائمُه ولَمَّا تَبرَحِ سَلسِ القِيادِ متى تُنازِعْ جانِباً ... منه يَرُعْكَ شِماسُه أَو يَرْمَحِ فإذا كانت الخيل تأذى بالبق، فبنو آدم أولى بالأذاة. قال الشاعر: يا حاضِرِي الماءَ لا مَعروف عندكمُ ... لكنْ أَذَاكُمْ إِلينا رائِحٌ غَادِ بِتْنَا عُذوباً وباتَ البَقُّ يَلسِبُنا ... نَشْوِي القَراحَ كأَنْ لا حَيَّ بالوادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إِني لَمِثلِكُمُ في سوءِ فِعلكمُ ... إِن جِئتُكم أَبداً إِلا مَعِي زَادِي والذباب وإن كان مكروهاً، فإنه دليل الخصب وكثرة النبات. ألم يبلغك قول " المتلمس ": هَلُمَّ إِليها قد أُثيرتْ زروعُها ... وعادَتْ عليها المَنْجَنُونُ تَكدَّسُ فهذا أَوَانُ العِرْضِ جُنَّ ذبابُه ... زنابِيرُه، والأَزرقُ المُتَلَمِّسُ وقال " أبو النجم ": مُسْتَأسِدٌ ذِبَّانُه في غَيْطَلٍ ... يقولُ لِلرَّائِدِ أَعْشَبتَ انْزِلِ وقال " عنترة " ووصف كثرة الغيث في الروضة: وخلا الذبابُ بها فليس بِبَارِحٍ ... غَرِداً كَفِعْلِ الشاربِ الترنِّمِ هَوِجاً يَحُكُّ ذِراعَه بِذِراعِه ... قَدْحَ المُكِبِّ على الزنادِ الأَجذمِ فكيف جعلت عبيده - أعز الله نصره - يحبون البق ويبغضون الذباب؟ لعلك ذهبت إلى وقوعه على الشراب والطعام، ولعلهم يحبون البق لأن من شأنه أن يسهر ويمنع النوم، فكأنهم يرغبون في السهر مخافة أن تعرض لهم خدمة وهم نيام! وزعمت أن عبيده - أعز الله نصره - لو وقف أحدهم على ظهور الأسد يومه أجمع، لم تشعر به؛ فما الذي قصدت في زعمك؟ لقد نسبت الأسد إلى إفراط النوم وثقل رءوسها فيه، فكأنها قد همت أن تموت، كما قال الراجز يصف الإبل: فَصَبَّحتْ حَوْضَ قِرًى بيوتاً ... يَلْهمْنَ بَرْدَ مائِه سُكوتاً سَفَّ العجوزِ الأَقِطَ الملْتُوتا ... وتركتْ راعيَها مَسْبُوتاً قد هَمَّ لما نامَ أَن يموتا وزعمت أنه - أعز الله نصره - يكره أن ينظر الرجل إلى غراب لا يملكه. ومن الذي يرغب في ملك الغربان وليست حسنة في المنظر ولا مليحة الأصوات ولا ذوات بركة عند الناس، وليس أكلها بمطلق؟ والولدان يرغبون في ملك الحمائم والحجل والسوذانقات ولا يرغبون في ملك الغربان. وما زالت الشعراء تدعو على الغراب وتلعنه في الجاهلية والإسلام. وانضاف إلى ذلك إباحة قتله في الحرم. قال " الطرماح " وقد أنشده " ابن العميد ". وَدَعَا بالذي يُخاف من البيْ ... نِ لَعِينٌ يَنُوضُ كلِّ مَناضِ صَيْدَحيٌّ الضُّحَى كأَنَّ نَساه ... حين يَحْتَثُّ رِجْذلَه في إِباضِ وقال آخر، وذكر الغربان: من اللائي لُعِنَّ بِكُلِّ أَرضٍ ... فليس لهن في أَرضٍ مَقِيلُ يُباكِرْنَ الديارَ يَجُلْنَ فيها ... وبئس من المليحاتِ البَديلُ وزعمت أن " أمير الأمراء عزيز الدولة وتاج الملة " - أعز الله نصره - تثنى عليه الدرة وتفر منه الصدقة خشية العقوبة؛ وهو لعمري جدير بالثناء من الدرة واللؤلؤة والشذرة والشنف والعقد وجميع الحلى. ولكن، ما بالك خصصت الدرة بذلك، وليست جارية مجرى البرج والصور؟ لأن ذينك يقوم حسن الأثر فيهما مقام نطقهما بما يفهم. قال " نصيب ": فَعَاجُوا فأَثْنَوا بالذي أَنتَ أَهلُه ... ولو سَكتوا أَثنَتْ عليك الحقائبُ فأما الدرة فكيف يظهر ثناؤها على " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أعز الله نصره، وليست بلاده بلاد در ولا لؤلؤ وإنما هي بلاد جهاد وحماية؟ وما ذنب الصدفة حتى تفر خشية أن تقع بها العقوبة من " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - خلد الله أيامه؟ إن كانت لم تضمن درة ولا لؤلؤة فلا ذنب لها في الأقضية، لأن الله لم يودعها نفيساً من الجوهر. وأي ذنب للمنزل إذا لم يسكنه رجل شريف، والمدينة الآهلة إذا لم يلها وال عادل؟ ولو وجبت على الصدفة عقوبة إذا لم يوجد فيها لؤلؤة، لوجب عقوبة الشجر إذا لم يثمر، وتحريق الهميان أو تخريقه إذا لم تكن فيه دراهم أو دنانير. وإن كانت الصدفة قد ضمنت درة أو لؤلؤة وأدتها إلى بني آدم، فقد استحقت الشكر بأداء الأمانة، لأنها حفظت لهم النفائس. وحسبها من الفضيلة أن الدرة تنسب إليها فتسمى صدفية. قال " النابغة ": كَمُضِيئةٍ صَدَفِيَّةٍ غوَّاصُها ... بَهِجٌ متى يَنظُرْ إِليها يَسجُدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 و " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - أفضل من أن يظلم الصدفة أو غيرها من الأشياء. وما أحسبك إلا كاذباً في دعواك، فإنها تجري من افترائك على عادة، وترجع من التخيل الفاسد إلى سجية. وزعمت أن أهل مملكة " محمود " يزعمون أن له سبعمائة فيل، يستعظمون ذلك من ملكه، وأن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - لو أراد أن يجمع في اليوم الواحد عشرة آلاف فيل على نحض وثريد، لفعل. فأول كذبك أنك ادعيت للفيل أكل النحض، وهذا ما لا يعرف. لو كان كذلك لفرس كما تفرس السباع. ومن أين لملك في الشام فيل واحد أو فيلان، وقد كان بحلب - حرسها الله - ملوك كثير لم نعلم أحداً منهم ملك فيلاً قط؟ وإني لأظن الصاهل أصاب في جفوتك ووفق لما أعرض عن النهوض في حاجتك. ولعله لم يضح له من أمرك وكذبك ما قد وضح لي واستنار. فبعداً لك، وإلى ربك مآبك، فيغفر لك أو يعاقبك، وهو علام الغيوب. فيقدر الله سبحانه أن ينطق الشاحج فيقول: إن الشكلين متباعدان: أريها السها وتريني القمر. ليست النخلة بأخت للسدرة. أخلف وعياً مظنة، وإن الظن ليتقيل. وإن العين لتكذب، وإن فراسة العاقل ربما تخيب. كأنك، شهد الله، كوسى قدم الساعة من بلغار أو جوخان، لم تطرق أذنيه كلمة عربية قط. وإن الموصين بنو سهوان. ألم أبدأ في خطابك بأني قد جمعت أخبارً على نحو ما ذكره " ابن دريد " في الملاحن وابن فارس في فتيافقيه العرب؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون: إذا قطعن علماً بدا علم، استجرت من الرمضاء بنار، وفررت من السيل الراعب إلى المعطشة المهلكة، " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ". إنما الحسن والحسين كثيباً رمل، ألغزتهما عن " الحسن والحسين " صلى الله عليهما وسلم. قال " الضبي ": لأُمِّ الأَرضِ وَيْلٌ ما أَجنَّتْ ... بِحيثُ أَضَرَّ بالحسَنِ السبيلُ وقال " الحارثي ": تركْنَا بالثنيَّةِ من حُسَيْنٍ نِساءَ الحَيِّ يَلقطن الجُمانَا وهذا الذي عنيت بقولي: إن " الحسن " صلى الله عليه وسلم، لم ير الحسين. لأنا لم نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى هذا الكثيب قط. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون: لم ير، من قولهم: رآه يرآه إذا ضرب رئته. ثم خففت الهمزة. كما قالوا: تنا، في: تنأ. أنشد " أبو إسحاق الزجاج " في كتابه المعروف ب " جامع المنطق ": أَقولُ والعيسُ تَنَا بِوَهدِ ... إِنْ تَنزِلا أَكفِكُما بِجُهدي فطالَ ما سُقْتُ المطِيَّ وَحْدِي والعلى: الفراش الشديد الصلب. والاشتقاق يدل على أنه العالي. فهذا البذي عنيت بقولي: إن " فاطمة " - صلى الله عليها وسلم - لم تر علياً في بيتها. والخل: الرجل المهزول. ويجوز أن يكون المختل الحال. وهذا الذي عنيت بقولي: إن الخل يجوز أن يكون فيما سلف، كان يحضر مائدة " علي بن الحسين " - صلى الله عليه وسلم. والجعفر: النهر الكثير الماء. فهذا الذي عنيت بأن " الباقر " - عليه السلام - لم ير جعفراً في داره قط. ألغزته عن " جعفر الصادق " - صلى الله عليه وسلم. والبث: تمر مفترق لم يجد كنزه. فهذا الذي عنيت بأن " الحسن والحسين " كانا يأخذان البث بأيديهما. ألغزته عن البث الذي يجده الرجل في نفسه. ومعلوم أنهما - صلى الله عليه وسلم - كانا يأكلان التمر. والبسر: الماء القريب العهد بالسحاب. قال " أبو ذؤيب ": فجاءَ وقد فَصلتْه الجنو ... بُ عَذبَ المَذاقَةِ بُسْراً خَصِرْ وأم الصبيين: الهامة. قال " تأبط شراً ": إِذا أَفزعُوا أمَّ الصبيينِ طيَّروا ... عَفارِيَ عنها ضافَةً لم تُرَجَّلِ ألغزت أم الصبيين عن المرأة التي لها صبيان، لأن العرب تردد ذلك، فيقولون: أم الصبي، وأم الصبيين. أنشد " الفراء ". أَلا زعمتْ أمُّ الصبيِّ خزَايَةً ... على فزارةَ أَنْ عرفتُ بني عَبْسِ والأعرج الذي عنيت أن " علياً " - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بقتله في الحرم، هو الغراب أو الذئب. لأنهما أعرجان، وقتلهما مباح في الحرم مندوب إليه. والأعيرج: ضرب من الحيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والأعمى: السيل والفحل الهائج من الإبل. ويقال: أعوذ بالله من الأعميين. وهما الأيهمان. ويقال إنهما في البادية، كما مضى. وفي الحاضرة: السيل والحريق. ولا ريب أن " علياً " عليه السلام - مكان يكره دخول هذه الأشياء المسجد. والجليل الذي ذكرته في حديث " علي " عليه السلام - يحتمل أمرين: أحدهما أن يعني به الثمام، ومنه البيت المروي عن " بلال ": أَلا ليت شِعري هل أَبيتنَّ ليْلةً ... بِوَادٍ وحَوْلي إِذخَرٌ وجَلِيل والآخر، أن يعني به الجلة. يقال: جلت الأمة تجل، فالشيء مجلول وجليل. وإنما قلت: وكان ينصف الخسيس من أهل الأقدار، إلغازاً ليتوهم السامع أن الجليل ها هنا، يعني به الجليل من الناس. والنبيذ: في معنى المنبوذ، وهو الصبي الذي قد نبذ. ألغزته عن النبيذ المشروب. والجر: أصل الجبل. ألغزته عن الجر من الفخار. قال " النابغة ": لولا بنو عَوْفِ بنِ بُهْثَةَ أَصبحت ... بالجَرِّ أمُّ بني أَبيكَ عقيما وقولي: كان يلعن البقرة. عنيت به جمع باقر، وهو الذي يبقر بطن المرأة أو الرجل. مثل ما روى عن " الجحاف بن حكيم السلمى " أنه غزا بني تغلب فقتل الرجال وبقر بطون الحبالى. ومعلوم من سيرة " علي " صلى الله عليه وسلم. أنه كان يلعن من فعل ذلك، وذكرت الثور بعد ذلك ملغزاً. والعنز: الأكمة السوداء. قال الراجز: وعَلَمٍ أَخرَس فوق عَنْزِ والصقر: الدبس، ألغزته عن الصقر من الطير. والبازي الذي كان يعلمه أخلاق الصالحين: هو البازي في معنى الظالم القاهر. ويقال: بزاه إذا ظلمه وقهره. والصعدة: المرأة الحسنة القوام، شهبت بالصعدة وهي القناة المستوية قال الشاعر: وثَدْيانِ كالحُقَّيْنِ في صَدْرِ صَعْدَةٍ ... تَحيَّر فيها الحُسْنُ فاعتَمَّ واعتدلْ والمدينة: الأمة. ألغزتها عن " المدينة " مدينة الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المدينة الأمة قول " الأخطل ": رَبَتْ ورَبَا في كَرْمها ابنُ مَدينةٍ ... مُكِبٌّ على مِسْحَاتِه يَتَرَكَّلُ والمقعد: الفرخ. وهو أحد القولين في قول الراجز: أَبو سليمانَ وريشُ المُقْعَدِ ... وصيغةٌ مثلُ الحَميمِ المُوصَدِ ومؤمِنٌ بما تَلاَ مُحَمَّدِي هكذا يروي هذا البيت بالياء، على الإضافة. ألغزته عن المقعد من الناس. وذكرت: الزمن، تورية. والحمام وفراخها، لا تذبح بمكة. والهلال: ضرب من الحيات. ويقال هو الذكر منها. قال الراجز يصف درعاً: ونَثْرةٍ تَهزَأُ بِالنصالِ كأَنها من خِلَعِ الهِلاَلِ وذكرت: الشمس والقمر، مورياً والقبيلة، تحتمل وجهين: إن شئت كانت من قبائل الرأس وهي ثلاث تضل بينها الشئون. وإن شئت كانت من قبائل الثوب، وهي رقاعه ألغزتها عن القبيلة من العرب. والخل: الطريق في الرمل. قال " كثير ": تَحمِي الخلَّ ممن دنا لها والسباطة: الكناسة والضرير: جانب الوادي. ألغزته عن الضرير من الناس. قال " أوس بن حجر ": خليجٌ من المَرُّوتِ ذو حَدَبٍ ... يَرمي الضريرَ بِخُشْبِ الأَثْل والضَّالِ والضبع: السنة الشديدة. ومنه الحديث المرفوع أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أكلتنا الضبع وتقطعت عنا الخنف ". ولا شك في أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره السنة الشديدة. والأرنب: المرتفع من الأرض. ومنه قول الشاعر: كما قال سَعدٌ لابنِه إِذ يقودُه ... أَصَعْصَعَ جَنِّبْني الأَرانبَ صَعْصَعا وأبوال البغال: السراب. وهو أحد القولين في قول " ابن مقبل ": بِسَرْوِ حِمْيَرَ أَبوالُ البِغالِ به والعليل: المعلول، وهو الذي قد سقى عللاً بعد نهل. والحية: الأرض التي قد سقاها الحيا. وفي الكتاب الكريم: " فأحيا به الأرض بعد موتها ". والصل: ذكر اليحات. ولا يكون إلا منكراً. والخاضب: الظليم الذي قد أكل الربيع فاحمرت ساقاه. وقال بعضهم: يَحْمَرُّ أَطرافُ قَوادِمِه ... من الحِلِّ المساريعِ والمعروف: الذي قد أصابت يده عرفة، وهي قرحة. والريحان: النساء، في هذا الموضع. وقد ذكر ذلك أهل العلم. وقال " خالد بن صفان " ل " السفاح ": عندك ريحانة من ريحان بني مخزوم. يعني امرأته " أم سلمة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 والسرير. أكرم موضع في الوادي. وهو مثل السرارة. واليعقوب: ذكر الجمل. ويستقيم لغزي في الوقف، لأنه مصروف و " يعقوب " النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مصروف. والغراب: حد الفأس. قال " النابغة ": أَكَبَّ على فَأْسٍ يَحُدُّ غُرابَها ... مُذَكَّرةٍ من المَعاوِل باتِرَه والعقرب: سورة من سورات البرد - وأصحاب الأنواء يقولون: عقارب البرد ثلاث: فالأولى في تشرين الثاني، والثانية في الأشهبين، والثالثة في شباط - وهذه ملغزة عن العقرب التي تلدغ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يقال، دعا ل " علي " عليه السلام ألا يصيبه برد ولا حر. والهدهد: الخصم الذي بين يدي القاضي. والنهر: الضوء والسعة، وهو أحد ما قيل في قوله تعالى: " في جنات ونهر " والصمم: الفرس الصلب. قال الشاعر: سَمَّيْتَ نفسَكَ فيها سَلْهباً صَمَماً ... وكان غيرَك فيها السلْهَبُ الصَّمَمُ والزرق: ضرب من الخرز. والزج: جمع زجاء وهي النعامة الطويلة الساقين. قال " لبيد ": يَطْردُ الزُّجَّ يُبارِي ظِلَّهُ ... بِأَسِيلٍ كالسانِ المُنتَخَلْ والمعنى أن قوماً كانوا يصطادون النعام على الخيل في زمانه فيطعنونها بالرماح. والبرد: النوم. وهو أحد القولين في قوله تعالى: " لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ". والحشيش: في معنى المحشوش، من قولك: خششت النار بالحطب إذا جمعته فيها، وحششت الجمر، إذا جمعته لتوقده. والحطاب: النمام. والحطب: النميمة: وكذلك فسر في الكتاب الكريم. والقط: النصيب. والقرة: الضفدع الصغيرة. والعين: عين الماء. والكر: الغدير والحسى. قال " كثير ": وما سَالَ وَادٍ من تِهامَةَ طيِّبٌ ... به قلُبٌ عادِية وكِرَارُ والواحد كر وكر. والعالم: الذي يعلم الشفة العليا، أي يشقها. والبزاز: الذي يسلب الناس ثيابهم. من قولهم: من عزَ بز. والخزاز: الذي يخز بالطعنة أو الرمية، أي يشك المرمى أو المطعون. والقزاز: الذي يصب. وجاء في الحديث: " إن إبليس ليقز القزة من المشرق إلى المغرب "، وعنيت بالقزاز إبليس، وهو فعال من: قز يقز. والقز الذي يتكلم، هو من قولك: رجل قز، إذا كان يعرف الأشياء. والبز الذي ذكر عند ذكر العرواء، هو السيف. والخياط: من قولك: خاط الأرقم وغيره من الحيات، إذا وثب وثباً متتابعاً. والجندي الأبح: الدينار. قال " الجعدي ": وأَبَحَّ جُنْديٍّ وخالِصةٍ ... سُبكتْ كثاقِبة من الجَمْرِ والخروف: المهر. قال الشاعر: بِمُرِشَّةٍ نجلاءَ يَهْدِرُ فَرغُها ... سَنَنَ الخَروفِ من الرباطِ الأَشقَرِ والجحاش: أولاد الظباء. يقال لولد الظبية جحش. قال " أبو ذؤيب ": بِأَسْفَلِ ذاتِ الدَّيْرِ قد ضاع جَحْشُها ... فقد وَلِهَتْ يومَيْنِ فهي خَلوجُ والأبار: الذي يعبي الناس. يقال: أبرهم بلسانه. ويقال: أبرته العقرب. وهي الأبارة. ألغزتها عن التي تبيع الإبر. والسنور: السيد وفي كتاب السير المنسوب إلى " أبي عمرو إسحاق ابن مرار الشيباني " أن الأعجمي قال لبني القين: من سنوركم؟ فقال " قطبة بن الخضراء ": أقولها يا بني القين؟ قالوا: نعم، وأنت لها أهل. فقال: أنا سنورهم. والمضيرة: المرأة التي قد لحقها الضير. ضارها فلان يضيرها فهي مضيرة. واللبن: أن يشتكي الرجل عنقه من الوساد. والأتان: صخرة في واد يمر بها السيل ويبقى عندها قليل من الماء. وهي التي تسمى أتان الضحل، والضحل الماء القليل. وذكرها يتردد في الشعر، ويشبهون بها ما صلب من النوق. والحمارات: حجران عريضان يجفف عليهما الأقط. والجحشة: التي يحملها الراعي على يده، عميمة من الصوف يغزلها. والجحشان اللذان على جنبيه: من قولك: جحش جنبه، وهو أن يتقشر الجلد ولا يسيل الدم. وهو قريب من الخدش. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحش جنبه. والجارية: الشمس، لأنها تجري. وفي الكتاب الكريم: " والشمس تجري لمستقر لها ". والدجاجة: الكبة من الغزل. والأسد: من النجوم. وبوله: مطره. والعجل والعجلة: المزادة. قال " المنخل بن سبيع العنبري ": أُولاَكَ بَنو عَمْرٍو إِذا ما ذكرتُهم ... بكيتُ بِعَينِ ماءُ عَبْرتِها عِجْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال " الأعشى ": على أَعجازِها العِجَلُ والسواعد: مجاري اللبن في الضرع قال " حميد بن ثور ": فجاءَتْ بِمَعْيُوفِ الشرِيعةِ مُكْلَع ... أَرَشَّتْ عليه بالأكُفِّ السوَاعِدُ والمحموم: القدر. من قولك: حم فهو محموم. والقرون التي في ذكر الخيل: تحتمل وجهين: أحدهما أن تكون مراداً بها الرماح. قال بعض العرب البيت وصيته: أطيلوا الرماح فإنها قرون الخيل. والآخر، أن تكون القرون: الدفع من العرق. قال " زهير ": تُسَنُّ على سَنابِكِها القُرونُ والبيضة: المرأة الكريمة. ولذلك قالوا: بيضة الخدر وبيضات الخدور. والبيضة: الأرض البيضاء أيضاً. والصوم: ضرب من الشجر. قال " الهذلي ": مُوَكَّلٌ بِشُدوفِ الصَّومِ يَرقُبُها ... من المغاربِ مخطوفُ الحَشَى زَرِمُ ويصلي: من قولك: صليت الشيء على النار، إذا لوحته عليها. والجامع: المرأة التي قد جمعت عليها الثياب: الإزار والخمار والدرع. والجامع، التي بعدها، هي: الأتان الحمال. والجر: ضرب من الحيات خفيف. ويقال هو ولد الحية. والفقيه: من قولهم: فحل فقيه إذا كان حاذقاً بالضراب. والذهب: مكيال معروف. والشيطان: ضرب من الحيات خفيف. والدجال: فرند السيف. ويقال هو الذهب أو ماؤه. قال " نابغة بني جعدة ": ثم نزلنا وعطلنا الرماحَ وجَرَّ ... دْنا سيوفاً كساها القينُ دَجَّالاَ ويأجوج: من قولهم: حمار ياجوج، إذا كان يتلفت من النشاط. كأنه مأخوذ من: أج يئج إذا سمع حفيفه في عدوه، وأنشد " الشيباني ل " أحمر بن شجاع الكلبي ". يَخشَيْنَ منه عُراماتٍ وغَيْرتَه ... وأَنه رَبِذُ التقريبِ ياجُوجُ وصح لغزه في الوقف، مثل يعقوب. والمظلوم: من قولك. ظلمت اللبن، إذا شربته أو سقيته وهو لم يرب. والمظلومة: الأرض يحفر فيها لم تحفر قبل ذلك، ويقال هي الأرض الصلبة تحفر. وخدها الحفر الذي فيها. وهو مثل الأخدود. والظالم: الذي يحفر القبر. قال الشاعر: إن الذي بين الحمائر والسَّفَا ... بالسيِّ حيث يخط فيه الظالمُ والعجان من قولهم: عجن البعير، إذ خبط بيده الأرض. وكذلك الخبار فيما تقدم، لا في هذا الموضع. والحور: النقص. قال الشاعر: الذمُّ يَبقَى وزادُ القومِ في حُورِ والغافر: من قولك: غفر المحموم، إذا هذى. وهذا الحرف من الأضداد. يقال: غفر المريض إذا برؤ، وغفر إذا انتكس. قال الشاعر: خَلِيليَّ إِن الدارَ غَفْرٌ لِذِي الهَوَى ... كما يَغفِرُ المحمومُ أَو صاحبُ الكَلْمِ والزوج: النمط من الديباج. ومنه قول " لبيد ": زَوْجٌ عليه كِلَّةٌ وقِرامُها وذنب الدجاجة: نجم معروف في السماء. والبارة: جمع بائر - مثل حائك وحاكة، وبائع وباعة تعالى من قولك: برت الشيء، إذا اختبرته. والنائم ها هنا: الأسد. من قولك: نام في صوته ينيم. وهو صوت خفي. والبيض: النساء. والمسيح: العروق. والقس: النميمة. والبطريقان: جانبا شراك النعل العربية. والكرى: ضرب من الطير. ويقال: هو الكروان. قال " الفرزدق ": على حين أَنْ جَرَّبتُ وابيض مِسْحَلِي ... وأَطْرَقَ إِطراقَ الكَرَا من أحاربُه والنعامة: ظلمة " الليل ". والمسلم: الذي يدبغ بالسلم. والمسرة: جمع سامر، من قولك: سمرت المسمار؛ مثل عالم وعلمة، وحازم وحزمة. والدفان: الجنبان. قال " الراعي ": ما بالُ دَفِّكَ بالفِراشِ مَذِيلا والساج: الطيلسان. والبرج: جمع أبرج، وهو الواسع العين. والصور: جمع أصور، وهو المائل العنق. إما خلقة وإما أن يكون لمرض. ويصح لغزه على رأي من قال: صور المدينة، بالصاد. أخذه من قولهم: صار الناس، أي ضمهم. والبق: كثرة العطاء. قال " عويف القوافي ": بَسَطَ الخيْرَ لنا وبَقَّه والناسُ طُرّاً يأْكلون رِزقَه والذباب: بقية الدين. وإن شئت كان الذاب الطائر، أو ذباب السيف. والأسد: جمع إساد، ويقال وساد وإساد، كما يقال: وشاح وإشاح. ألغزته عن الأسد: جمع أسد. والغراب: الغديرة من شعر المرأة. وكذلك فسروا قول الشاعر: وشَعشعَتْ للغُرابِ الخَمْرَ واتَّخذتْ ... ثَوْبَ الأَميرِ الذي في حُكمهِ قَعَدَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كانت امرأة الميت إذا غسلت غديرتها بالخمر بعد أن تحلقها، علموا أنها لا ترغب في زوج بعده. واتخذت ثوب الأمير، أي الحداد. لأن أمراءهم في ذلك الزمان كانوا يلبسون السواد والصرد: واحد الصردين وهما عرقان يكتنفان اللسان. قال الشاعر: وأَيُّ الناسِ أَغدرُ من شَآمٍ ... له صُرَدان مُنطلِق اللسانِ والحرائر: جمع حرور. ألغزت عن الحرائر من النساء. والكرم الذي زعمت أن الرجل من أهل " بعل بعك " لا يرى فيه، هو القلادة. أما ترى أنك تقول: رأيت المرأة في كرم وفي عقد؟ والبصرة: الحجارة البيض. والكوفة: ما استدار من الرمل. والمصر: تراب أحمر يصبغ به. وقال بعضهم: هو تراب أصفر. والدار، في قصة أهل " رفنية ": هي في معنى الداري الخاتل، وحذفت الياء للوقف. وألغزت الكلمة عن الدار المسكونة. وهذه الياء يجوز حذفها مع الألف واللام، وإثباتها أكثر. وقد قرأت القراء هذه الآية بالحذف والإثبات. وهي قوله تعالى: " سواء العاكف فيه والباد ". فأما عند الوقف فحذفها أوجه منه في الوصل. ويقوي الحذف أن تكون في فاصلة آية أو قافية بيت. قال الراجز: أَنفِقْ على نفسِكَ منها والجارْ إِنك لا تَدري ولا يَدْرِي الدارْ أَأَنتَ تحويهن أَم لِصٌّ قار من شَمَجَى أَو مِلْقَطٍ كالمسعارْ وكثر حذفهم هذه الياء في: الوادى، حتى أجروه في الوصل مجراه في الوقف. قال الشاعر: لا صُلْحَ بيني فاعلموه ولا ... بَيْنكمُ ما حمَلَتْ عاتِقِي سَيفي وما دمنا بنجدٍ وما قَرْقَرَ قُمْرُ الوادِ بِالشَّاهِقِ و " سيبويه " يذكر قول " الأعشى ": وأَخو الغوانِ متى يشأ يَصْرِمْنَه ... ويَصِرْنَ أَعْدَاهُ بُعَيْدَ وِدَادِ في جملة الضرورات. وغيره يزعم أن ذلك لغة للعرب. والدرة التي تثنى على " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أعز الله نصره: مراد بها المرأة الكريمة. قال الشاعر: يا سُلَيمَانُ إِن تُلاقِ الثريا تَلْقَ عَيْشَ الخُلودِ قبلَ الهِلاَلِ دُرَّةً من عقائل البَحْرِ مِيزَتْ ... لم تَنَلْها مَثَاقبُ اللآلِ والصدفة: جمع صادف، وهو الذي يصدف عن الحق، أي يميل. ألغزت عن صدفة الدرة. والفيل: الرجل الأحمق. ألغزته عن الفيل المعروف. قال " الكميت ": بَنِي رَبِّ الجوَادِ فلا تَفِيلُوا ... فما أَنتم، فنَعذِرَكم، لِفيلِ وإياي ألحق اللائمة: " إذا " كان الصاهل حسدني، فالهادر أولى أن يبعدني، لأن الحافر أقرب إلي من المنسم. ولعلك من ولد " عسكر " الذي أهداه " الثقفي " إلى " ابنة أبي بكر " فشهدت عليه يوم الجمل! قال " أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان " رضي الله عنه إملاء: فيقدر الله تعالى على أن ينطق البعير فيقول: البعير إنما قيل " له " جمل، لأنه يصبر ويتحمل ويجمل. وليس للبهائم الراعية من أذن واعية. ما أفرق بين نية معتمر وغاز، فكيف أشعر بمكان الألغاز؟ لم تترك مناصاة السلمة من حصاة لحفظ الكلمة. وما يلج قولك الثاني، في مسمعي، إلا والأول قد محى من خلدي. فاطلب لرسالتك غيري. والصاهل عجز عن حمل الأخف وهو المنظوم، فكيف أحمل الأثقل من النثر، ولو بيوتاً من الشعر كثيرة؟ وأما تخويفك إياي بدعائك، فإن الوحش الراتعة تبتهل على الأسد منذ كانت الخليقة، وما لقي من دعائها إلا خيراً؛ وكذلك خشاش الطير يدعون على الباز والأجدل، وما يزدادان بذلك إلا رغبة في صيدهن. والظباء والسماسم يرغبن إلى الله في هلاك الذئب والكلب الصائد، فما سمع منهن دعاء. وأنا أختصر لك معنى في إبطال غرضك: لي مأربة في وردة من هذا الورد المعلق في الأغصان، فإن قدرت أن تسأل صاحب القراح والمتولي سقى هذه الجربة أن يسعفني بواحدة منه، ضمنت لك أن أحمل رسالتك إلى حضرة " السيد عزيز الدولة أمير الأمراء " أعز الله نصره. وإن عجزت عن إفهام رجل من العامة لا هيبة له في قلبك، يقرع سمعك بلفظه في كل الأحيان وتنظر إلى شخصه في روحتك وبكورك، فأنا عما سألتنيه أعجز. لأن الهيبة عظيمة، والهيبة قارنتها الخيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومن الذي أوهمك أن مثلك يسمع له قول أو يعرف مه إيماء؟ إن كان بلغك ذلك من أهل " حلب " حرسها الله، فإن حب " السيد عزيز الدولة أمير الأمراء " أعز الله نصره، يقد غمر قلوبهم وغطى أعينهم. ومن الكلام القديم: حبك الشيء يعمى ويصم لا سيما قوم عدول يعرفون ب " بني سنان " يغلون في وصف هذا السلطان - أطال الله بقاءه - فيزعمون أن كفه أسمح من اللافظة وأن قلبه أشجع من قلب أسامة، وأنه بالرعية أبر من الوالدة، وأن رأيه أهدى للضلال من جدي الفرقد بل من الشمس الطالعة؛ ويدعون له ضروباً من فضائل متباينات لا يجتمع مثلها في الآدميين. ولعلك بلغك عن هؤلاء القوم أنهم يدعون للسيد " عزيز الدولة أمير الأمراء " أنه أوتي ما أوتيه " سليمان " - صلى الله عليه وسلم. من معرفة كلام البهائم والطير وصنوف الحيوان. فإن كان نقل إليك هذا الخبر فمثله يحملك على تكليف حاجتك من يمر بك. وهل تقبل شهادة " جميل " ل " بثينة " أو " كثير " ل " عزة "؟ وما أنكر أن " السيد عزيز الدولة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - كما وصف هؤلاء، غير أني لا أزعم أنه يفهم أصوات الحيوان، وهل يعلم ذلك أحد إلا الله؟ ومثل المحبة مثل الخمر: كلما دبت في الجسم، كان أبلغ لها في تعبير الحلم. قال الشاعر: ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأْسَ طِيباً ... سَقيتُ الجاشِرِيَّةَ أَو سقاني إِلى أَن خِلْتُ أَن أَبا قُبَيسٍ ... وهَضْبَ عَمَايةٍ فَرَسا رِهانِ فهذا من فرط الإذهان، ظن جبلين من جبال الأرض فرسي رهان. فيقدر الله سبحانه على أن ينطق الشاحج فيقول: أما وصفك نفسك بالنسيان وقلة الفهم، فصدقت! وفيك قال القائل: لقَد عظُم البعيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ... فلم يَستغْنِ بالعِظمِ البعيرُ وأما تكليفك إياك أن أسأل صاحب القراح في إعطائك وردة، فلا وجه له، قد أوتيت من طول العنق والجلاد ما علمت، فامدد عنقك فخذ ما شئت من الورد وغيره مما في الحائط. وأما القوم الذين يعرفون ببني سنان، فلا أعرف أسماءهم ولا شخوصهم، ولا اقتنعت من معرفة شيم " السيد عزيز الدولة أمير الأمراء " - خلد الله أيامه - بأقوال الأنيس دون غيرهم من الحيوان. ولقد طرقنا في الواردة أسراب قطا كن لما هبط " السيد عزيز الدولة " بلاد الشام هربن من البزاة والصقور في نواحي الأرض، فأتين بلاد الهند وأوطان الحبشة ومخاليف اليمن وفلوات المغرب. ثم أجمعن الرجوع، فجعلن يتراطن بينهن ويزعمن أهن لم يرين مثل هذا السلطان - أطال الله بقاءه - في آفاق البسيطة؛ وأنهن عن رغبة في الموت في جواره، متشرفات أن يصيبهن مخالب صقوره! أفتى القطار يكذبن؛ معاذ الله، والمثل السائر: أصدق امرأة من قطاة؟. قال " النابغة ": تَدْعو القطا وبه تُدْعَى إِذا انتسبتْ ... يا صِدْقَها حينَ تَلقاها فتَنتسِبُ وأما قلة مبالاتك بالدعاء، فبغى منك! وعليّ أن انتظر بك منصل الأل ثم أستقبل زمم العرش فأقول: يا عود يا عود، لا قدر لك جود. نقبت وحقبت، وأصبت الفاحشة فعوقبت، ومنيت بالأوق المثقل في " صعود " ذات الزقبات تحت الهاضبة في الأرض المقدرة؛ وكممت كمناجذ، وصممت كالزباب وعرجت كالقزلاء، وفلجت كفالج أبان، ولا طلعت من هذا النقب إلا وحلمك مشابه حلم السقب، حتى يهزأ بك فصلان من ولج ولدي، وحتى تكون الناضرة بينها وبين مشفرك قيد الأنملة فلا تراها عينك ولا يسوفها أنفك، فتميل بها إلى الحربش النائمة فليسها فمك، وحتى يشايع الراعي بالإبل فتقبل إليه من عوط وعشار جمعها بالزمجرة من بعيد الغيطان، وأنت قائم لا تسمع، ولو وضعت اليراعة على سم أذنك. وحرقك الظمأ ثم صادفك ماء ملح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وأكلك البرام الطلح؛ وغودرت بملاعب الوحش ليس في جسدك مجذ أعلى إلا وقد اجتمع فيه علان. وإن أصابك قطم الفحول السامية فسدمت، وإن نبا بك المرتع فهزمت. ونبحك أحد الحاميات وأنت من صممك لا تسمعه ولا تراه حتى تطأه فينشب نابه في سعدانتك، فيصيبك مما صنع بك داء الكلب - أفتظن أن مثلك يطلب له دماء الملوك حتى تخلط له بالأشفية؟ - وجمع لك والسرر والجزل والصب والعضد والهدل والفنين والخمال والهيام، ولا رزقت ممارساً مثل " عبيد " فيداويك من هذا الكيد. وسقط فوك حتى لا تصل إلى أكل الورقة من الشجر كما تأكلها الإبل. ومست عينك شوكة فإذا هي بإذن الله فقيء، وبقيت رذياً في القفرة وعوير ينقر كريمتيك، وأبو مذقة ينوش رزقاً في عجزك وأنت حي بالرمق ما قئت جريعة الدقر، وأوقد على كبدك ناره العشر، حتى إذا دنوت للمشرب فلقيك دونه المصرد، فمكثت لا تصدر ولا ترد. ولا طلت أجزاعك، ولا فارقك نزاعك. وسالت مهجتك من شوقك إلى السيال، وسدرت عينك فلم تر السدر، وضؤل شخصك فلم تصل إلى الضالة، وطلحت دون الطلحة، ولا سلمت لذوائب السلم، ولا مرت سعدانتك على السعدان. وإذا رأيت البارق فطربت، ولا أعدت لك عنية متى جربت. وقدر لك عر وعر فيفر منك عبد وحر، وخشيت الإبل عدواك فلم تشرب معك من حوض، وهابت أن تراعيك في الروض؛ بل تغادرك خوفاً مما قدر، غدار البادية غريباً جدر. ورميت بالشوق الطارق إلى أليفك المفارق؛ وأضعف السقم حسك حتى يوجد هديرك القاصف كفحيح الأفعى الفانية. هذا مضاف إلى ما أسلفتك من الدعوات. ولأزيدنك من الابتهال: ألقيت صحيفتك إلى المجلد، وحديت بالرجز وأخذ القصيد منك، ولا فارقت مسمعك قصيدة إما قصيرة وإما طويلة. ولا بركت إلا على ضب، وألفك ابنا دايتك، وزايلك بإذن الله غراباك. وعظمت سعدانتك فسررت، بل طارت حمامتك ووقعت رخمتك، وغضب عليك سنور أهلك، ولا ساعفك بالوصال قط. ودخل بر بين جوانبك. وقربت من الشبيبة وأبعدك خالقك من الشيب. ولا زلت أخا صاد بعيداً من دال. وباينت القس ولا رأيت الكافر، فأما الشماس فلا أبخل عليك به أن تدنو منه. ولا بقي ملح فيما قبلك، وفارق الصليب جسدك. وطار شرر من قينك، ولا شممت القارة بقية عمرك. وأخذ من جلدك العنبر، ودنوت من القصبة. وضحك صبي في وجهك، ونأي شيخ عن بلادك. وأخذ يربوع من متنك، وطير ذباب من عينك. وقرب إليك التبن المبيض فأخذك شبه الجنون. وعضدت، لا على معنى المساعدة. وكليت والكالي غير نائم. ورآك من لا يحفل برؤيتك، وقلبك من يتنفع بقلبك، وركبت وراكبك مالك لك والمعضد بيده والودان. وعصاك الشاب المقتبل فأما الهرم فما يهيدك. وسحرك ساحر لا يأثم فيك. ولا حمل فوق ظهرك الملح، وأخطأت أرضك مصيبة سوداء، ولا سمعت صوت المرتجز. وكأني بك لجهلك وقلة خبرتك تقول في نفسك: ما معنى قوله: ألقيت صحيفتك إلى المجلد؟ وأي صحيفة تفتقر إلى التجليد؟ تظنها إحدى الصحف، والمجلد مجلد الكتب. وأخطأت، ليس هذا بعشك فادرجي. إنما عنيت بالصحيفة: جلدة الوجه، وبالمجلد: الذي يسلخ الإبل. يقال: جلد البعير، كما يقال: سلخ الشاة. وكأني بك تحسب قولي لك: حديت بالرجز، معنياً به الراجز من الشعر. والجهل يحملك على أكثر من ذلك. ولو كنت أردت ما ظننت، لكنت داعياً لك، لا داعياً عليك. وهل تحدى أنت ورهطك إلا بالرجز من الشعر؟ والحداء غناؤك وغناء أصحابك. قال الراجز: فغَنِّها وهي لكَ الفِداءُ إنَّ غِناءَ الإِبِلِ الحُداءُ وقد روى أن " ذا البجادين " حدا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: تَعَرَّضِي مَدارِجاً وسُومِي ... تَعَرُّضَ الجوزاءِ للنجومِ هذا أَبو القاسِمِ فاستقيمي وأمر صلى الله عليه وسلم " ابن الأكوع " أن يحدو به في بعض الغزوات. فنزل فقال: ما همَّ لولا أَنت ما اهتديْنا ... ولا تَصدَّقْنا ولا صلَّيْنا فأَنزِلَنْ سَكينةً علينا ... وثَبِّتِ الأَقدامَ إِنْ لاقَيْنا وحدا " عبد الله بن رواحة " في " غزوة مؤتة " - وفيها قتل - فقال: يا زَيدُ زيدَ اليَعملاتِ الذُّبَّلِ تطاوَلَ الليلُ عليكَ فانزِلِ وهذه الِعار التي ذكرت، رجز عند العرب، وإن زعم " الخليل " أن بعضها من السريع. ومثلها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أو لست أنت وشيعتك، إذا سمعت الحادين بالرجز رحبت خطوتك وامتدت عنقك، وأدركتك أريحية في سيرك؟ وإنما عنيت الرجز داء يلحقك في عجزك فلا تقدر على القيام. قال " أوس بن حجر ": أَلا تقبل المعروفَ مني تعاوَرَتْ ... منولة أَسيافاً عليكَ ظِلالُها هَممْتَ بمعروفِ فقصَّرتَ دونَه ... كما هَمَّت الرَّجْزاءُ شُدَّ عِقالُها وقال آخر: أُلِيحَ بأَعْلاهُ وأَبْقَى شَرِيدَه ... روائمُ وُرْقٌ بينهن خَديجُ ثلاثٌ صَلَيْنَ النارَ حَوْلاً وأَرْزَمَتْ ... عليهن رَجْزاءُ القيام هَدُوجُ يعني برجزاء القيام: قدراً أو ريحاً: استعارة من الناقة. وإذا وقع في ظنك ما وقع من تأول الرجز، فلا ريب أنك تحسب قولي: وأخذ القصيد منك، معنياً به القصيد من الشعر. وأي رزء يلحقك في ذلك؟ فتقول في نفسك: إذا ترك لي الرجز فما أحفل بفقد الشعر بعد. وهل أدركتني المنفعة بما روى عن " امرىء القيس " وغيره إلى اليوم؟ ولم أعن القصيد من الشعر، وإن كان الركبان ربما تغنوا فوق الإبل على غير معنى الحدو فأذنت لذلك. قال " النميري ": وخُودٌ منَ اللاتي تَسَمَّعْنَ بِالضحَى ... قَريضَ الرُّدا فَى بالغناءِ المُهَوَّدِ وقال " ذو الرمة ": خَلِيلَيَّ أَدَّى اللهُ أَجْراً إِليكما ... إِذا قُسِمَتْ بين العِبَادِ أجورُها بِمَيٍّ إِذا أدْلِجتُما فاطرُدَا الكَرَى ... وإِن كان آلَى أَهلُها لا نَطُورُها وقال آخر: فقُلتُ لِردْفِي نالَكَ الخَيرُ غَنِّنَا ... بِأَسماءَ وارفَعْ من صُدورِ الركائبِ فهذا يدل على غنائهم بالنسيب وهم في أكوار الإبل، يعللون الأنفس بذلك. وإنما عنيت بالقصيد: المخ الغليظ، وهو دليل على السمن وحسن الحال، فأردت: أن يطير مخك ريراً من ضرك وهزالك. ولعلك تعجب في نفسك من قولي: أخذ منك القصيد، ثم أقول بعد ذلك: لا فارقت مسمعك قصيدة إما قصيرة وإما طويلة. فتقول: ما معنى هذا الكلام المتناقض؟ ولا تشعر أني عنيت بالقصيدة: العصا، لأنها تقصد من الشجر، أي تكسر، قصدت العود فهو مقصود. قال " أبو زبيد الطائي ": فدعَا دَعوةَ المُخَنَّقِ والتَّلْبي ... بُ منه بِعَامِلٍ مَقْصُودُ ولعلك سبق إلى وهمك أني أردت بقولي: لا بركت إلا على ضب، هذا الضب الذي يحترش، فتقول في نفسك، من غباوتك: وما الذي يلحقني من ضب أبرك عليه؟ ليس بأفعى تنكز، ولا ذي شر يرهب، وإن كان حياً هرب مني إن اتفق لي أن أبرك عليه. وإن كان ميتاً فإنه والأرض لمتساويان. وإنما الضب الذي عنيت: داء يصيب خفك فيرم منه صدرك، ويقال لك: أسر، عند ذلك، ولا يمكنك أن تبرك إلا متجافياً في المبرك قال الشاعر: وأَبِيتُ كالسَّرَّاءِ يَربُو ضَبُّها ... فإِذا تَحَزْحَزُ عن غِداءٍ ضجَّتِ وهل وقع في نفسك أن قولي في الدعوة عليك: وألفك ابنا دايتك، أريد بهما ابني ظئرك؟ فما كنت إذاً إلا في حاجتك! وإنما عنيت بابني دايتك: غرابين ينقرانك ويعجلانك زهوق النفس، لا تقدر لهما على أذاة. وتظن أن قولي: زايلك غراباك، مراد به أن يطير عنك الغرابان؟ وهيهات! إنما أردت بهما رءوس الوركين. وأي خير يبقى عندك إذا زايلاك؟ قال " ذو الرمة ": وقَرَّبْنَ بالزُّرْقِ الجمائلَ بعدما ... تَقَوَّبَ عن غِرْبَانِ أَوْرِاكِها الخَطَرُ وكأني بك تفكر في معنى قولي: عظمت سعدانتك فسررت. وتقول في ضميرك: ما يضرني من عظم سعدانتي؟ وإنما الغرض: أن يصيبك داء في سعدانتك فترم، فييأس منك صاحبك فيسرك، أي يطعنك في سرتك. وهل تعجبت من قولي: طارت حمامتك ووقعت رخمتك؟ وقصدي بالحمامة هنا: سعدانتك، وهي كركرتك. تسمى بهذين الاسمين، استعيرا لها من الطائر لأن الحمامة يقال لها: سعدانة. قال الشاعر: إِذا سَعْدانةُ الجَبَلَيْن ناحَتْ ... عَزَاهِلُها سمعتَ لها عَرينا والمعنى: أنك تنحر فتؤخذ كركرتك. يقال، طار بيده كذا إذا أخذه. وقولي: وقعت رخمتك، يحتمل وجهين: أحدهما، أن تموت حتف أنفك، أو بسير مهلك، فتبقى خائستك للطير العافية. والآخر، أن تحر فيقع الرخم على ما يبقى في الأرض من أثرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وهذا المعنى قصد الشاعر بقوله، وذكر إبلاً: وتَرى لها حَدَّ الشتاءِ على الثرَى ... رَخَماً وما تَحْيَا لهن فصَالُ وهل ضحكت من قولي: غضب عليك سنور أهلك، وقلت: ما هذه الدعوة الدالة على قلة اللب؟ وأي ملابسة بيني وبين السنور؟ وإنما أنا طول دهري في السفر، وربما أسمع صياح السنانير إذا جبت القرية أو المدينة فلا أحفل بهن. ولا تعلم أن السنور: السيد - وقد مر ذكر ذلك - وإذا غضب عليك سيد أهلك، فكم في ذلك من الهوان والشقوة! ويأمر بك أن يوجع ضربك وينقص علفك، ولا يتعهد سقيك. وربما تقدم بنحرك والصدقة بك على المساكين، فلا يبقى في المصر الواسع أخو عاهة إلا وقد غلت قدره بنحض منك. وهل عجبت من قولي: ولا ساعفك قط بوصال، وقلت: أي وصال بيني وبين القط؟ إنما أرغب في وصال الناقة البائك. ولا تدري أن القط: الحظ والنصيب. وقد مر ذكر ذلك. وهل سرك قولي: دخل بر بين جوانحك، وقلت: وأي خير فيمن لا يسكن جوانحه بر؟! وإنما عنيت: الفأرة. من قولهم: ما يعرف هراً من بر. وأقسم ما تدخل فارة بين جوانحك إلا وقد نزل بك خطب جليل. وهل ظننت قولي لك: قربت من الشبيبة، دعاء لك بأن تعود بكراً شاباً تمرح بين بكرات الإبل وأبكارهن؟ ومن ل " نوح " - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء، بأن ترجع إليه الشبيبة فيصيب من لذات العيش؟ وإنما عنيت بالشبيبة: النار، فعيلة بمعنى مفعولة، من: شببتها فهي مشبوبة. والمعنى: أنك تنحر فيشتوي لحمك على النار. وهل عرفت معنى قولي: أبعدك خالقك من الشيب؟ وهل ظننت أن الشيب جمع أشيب وشيباء، فقلت في نفسك: وما يضرني من بعد الشيب، والشباب أقوى على إيراد الحوم وأصبر على تتبع الكلأ، وإن كان الشيب من الرعاة أعرف بمارس الشدائد وأثبت على غبر السنوات، والمثل السائر: رأى الشيخ خير من مشهد الغلام؟ وإنما عنيت بالشيب حكاية شرب الإبل. قال الراجز: يا لَك من خَزَايةٍ وتَعذِيبْ 3إ - ِذا تداعَيْن بأَسماءِ الشِّيبْ وقال آخر: مالي أَرى يَومَكُما عَصِيبَا أَنِمتُما أَم خِلْتُني مغلوباً قد ركبَتْ أَحفافُها العُجوبا والشِّيبُ منهن يُنادي الشيبا وهل جال في خاطرك أن قولي لك: ولا زلت أخا صاد وبعيداً من دال، معنى به الصاد والدال من حروف المعجم؟ فخاب طائرك يا غبي! إنما أردت بالصاد أحد أمرين: إما الصاد وهو الداء الذي يصيبك في رأسك من قول " الراعي ": يُدَاوَى بها الصادُ الذي في النواظِرِ وإما صاد من الصدى، وهو العطش. وأردت بقولي: دال، أحد وجهين: إما فاعلاً من: دلا يدلو دلوه، إذا أخرجها. وهذا أجود الوجهين. وإما فاعلاً من: دلا الإبل يدلوها. إذا رفق بها في السير. قال الراجز: لا تَقْلُوَاها وادلُواها دَلْوَا إِنَّ مع اليومِ أَخاه غَدْوَا ولعلك يجري في نفسك عجب من قولي لك: باينت القس. فتقول: وما يغولني من بين القس وفقد الراهب؟ ولا تشعر أن القس هو حسن القيام عليك وتتبع المرعى بك. يقال: قسست الشيء، إذا تتبعته. قال الراجز: يُمسِينَ عن قَسِّ الأَذَى غوافِلا لا جَعْبَريَّا تٍ ولا طَهامِلا وهل أنكرت قولي في الدعاء: ولا رأيت الكافر، فقلت: وأي رغبة لي في أهل الكفر؟ وإنما عنيت بالكافر: الزارع. وعلى ذلك فسروا قول الشاعر: وخَبَّرها الوُرَّادُ أَنْ ليس بينَها ... وبَيْنَ قُرَى قَسْر ونجرانَ كافِرُ فأَلْقَتْ عَصاها واستقَرَّ بها النَوى ... كما قَرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ وإنما قيل للزارع: الكافر، لأنه يكفر الحب في الأرض، أي يستره. وهل ذهب وهمك إلى أني غنيت بالشماس شمامسة النصارى، وقوى ذلك في نفسك أني ذكرته قريباً من القس؟ وإنما عنيت: الشماس من الخيل، وهو فعال من: شمس يشمس. فرجوت أن يصيبك بحافر منه. وكيف تأويلك لقولي: ولا بقي فيما قبلك ملح؟ أتحسبني عنيت ملح " الطعام "؟ وأي حاجة بك إلى الملح؟ وإنما قصدت بالملح: البركة. وإن كانت العرب قد ذكرت الملح في القسم، فإنما ذلك لأنها عندهم من البركة. ولذلك قال القائل: لا يُبْعِدِ اللهُ رَبُّ العبا ... دِ والمِلْحِ ما ولَدتْ خالِدَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فالملح، ها هنا، على وجوه، يحتمل أن تكون: البركة، والرضاع، والملح المعروفة. وأقسموا بالملح والرماد، لأن الملح يفتقر إليها في الأطعمة، والرماد لا يكون إلا عن نار، والنار يتوصل بها إلى إنضاج المطاعم وهداية الحيران، ويدفع بها معرة القر. قال الشاعر: أَقسمتُ بالمِلْحِ والرَّمَادِ وبال ... عُزَّى وباللاتِ نُسْلِمُ الدَّرَقَة وما قولك أيها المغفل في قولي: فارق الصليب جسدك؟ أتراني عنيت به صليب النصارى فتقول في نفسك: وهل أنا نصراني فأعلق صليباً علي؟ وإنما عنيت بالصليب: وسماً توسم به أنت ونظراؤك. قال " ذو الرمة ": تَحجِيبُها وصليبُها ويجوز أن أعني بالصليب: الودك. وهل خطر لك أن قولي: طار شرر من قينتك، أريد به القين الحداد، فتذهب إلى أني عنيت القين الذي صنع برتك، لأن " الهلالي " قال: حَلَّيْتُها حينَ رابَتْنِي بِمَعصِيةٍ ... من حِلْيَةِ القَيْنِ في عرنِينِها خُرُصَا فتقول: وأي قين لا يطير منه الشرر أخول أخول؟ قال الشاعر: يسَاقِطُ عنه رَوْقُه ضارياتِها ... سِقاط شَرارِ القَيْنِ أَخوَلَ أَخْوَلا وإنما عنيت بقينك: حرف وظيفك، وهما القينان. قال " ذو الرمة ": كأَنني من هَوَى خَرْقَاءَ مُطَّرِفٌ ... دَامِي الأَظَلِّ بَعيدُ السأْوِ مَهْيومُ دَانَى له القَيْدُ في دَيْمومةٍ قُذُفٍ ... قَيْنَيه وانْحسَرتْ عنه الأَناعِيمُ فأردت: أنه يلقى في النار، على وجه الإحراق، فيطير منه الشرر. وكيف صرفت قولي في الدعوة: ولا شممت الفارة بقية عمرك؟ أحسبت أني عنيت فارة المسك؟ وما لك ولعتائر الهند؟ شغلها عنك. المترفون! فكأنك يقع في وهمك أني دعوت عليك ألا تكون في اللطيمة وهي العير التي تحمل المسك. ولعلك وأباك وجدك لم يكن أحد منكم في عير تحمل الطيب. وإنماعنيت: فارة الإبل، وهي رائحة طيبة تفوح منها إذا رعت أزهار الربيع. قال " الراعي ": لها فارَةٌ ذفراءُ كلَّ عَشِيَّةٍ ... كما فتقَ الكافورَ بالمِسْكِ فاتِقُه وما ظنك بقولي: وأخذ عنبر من جلدك؟ أتحسب أني عنيت العنبر المنشوم؟ فلو أنك بعض ملوك فارس والتبابعة لجاز أن يسبق ذلك إلى وهمك، لأنهم يطلون بالطيب. ولذلك قال " أمية بن أبي الصلت " لسيف بن ذي يزن الحميري: اشربْ هنيئاً عليك التاجُ مرتَفِقاً ... في رأسِ غُمدانَ طنفٌ منك مِحْلاَلا والتَطَّ بالمِسْكِ إِذ شَالتْ نَعَامَتُهم ... وأَسْبِلِ الآن من بُرْدَيْكَ إِسْبَالا وإنما عنيت: العنبر الذي هو الترس. وأردت: أن يتخذ من جلدك ذلك. وإنما تصنع الترسة من جلود الإبل بعد النحر. وما رأيك في قولي لك: ودنوت من القصبة؟ أظننت أنها الواحدة من القصب، وذهب ظنك إلى أن الإبل يشبه حنينها بصوت الزمارة المتخذة من القصباء؟ كما قال " عنترة ": بَركتْ على جَنب الرِدَاعِ كأَنما ... بَركتْ على قَصَبٍ أَجَشَّ مُهَضَّمِ وقال آخر، وذكر إبلاً تحن: تَبِيتُ أُسارَى في الحِبالِ ومالها ... ذُنوبٌ، ولكنْ حُبُّ نَجْدٍ ذنوبُها. كأَن اليَرَاعَ الجُوفَ من تحت لَحْيهِا ... إِذا أَسْعَطَتْها نَشْرَ نَجْدٍ جَنوبُها وقال آخر: فما حَنَّتْ قُلوصِي واستَمعتُ لِسَحْرِها ... بِرَملةِ لُدٍّ وهي معقولَةٌ تَحْبو فما بَرِحت حتى كأَن يَرَاعةً ... بِأَرْآدِ لحيَيْها يُقَلِّبُها شرْبُ وذلك غرض فاسد. وكيف أدعو لك بذلك أو عليك؟ مولا عنيت القصبة التي يشايع بها الرعي بين الإبل. وإنما عنيت بالقصبة: جمع قاصب: وهو مثل القصاب. مأخوذ من: قصب اللحم، إذا قطعه. ومن ذلك قيل: جمل قاصب، إذا قطع الشرب. وأي شيء وقع في خلدك لما قلت لك: وضحك صبي في وجهك؟ أتعتقد أنه بعض هؤلاء الصبيان؟ وهيهات! ما عليك في ذلك من المضرة، وقد علمت أنه لو استغرب شيخ أو كهر أو غلام في وجهك لم تضر بذلك، ولو انتحب عندك المنتحبون وندبت النوادب، لما هادك ما فعل من ذلك؟ وإنما عنيت بالصبي: حد السيف. وقال قوم: الصبي. عير السيف وعلى هذين القولين فسر قول " الهذلي ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أُنْحِي صَبِيَّ السيفِ فوقَ بيوتهِم ... كَرَّ المُعَيِّثِ في أَدِيمِ المِلْطمِ وما الغرض في قولي: ونأى شيخ عن بلادك؟ لعلك تظنه بعض شيوخ الآدميين، فتذهب إلى أني أردت أن الشيخ له تدبير وحزم يصلح معهما السوام، لأن رأي الشيخ والكهل أفضل عندهم من رأي المقتبل. ولذلك قالوا في الرجل إذا وصفوه بالحنكة والتجربة: قد عض على ناجذه، وإنه لمنجذ من القوم. قال " الحارث بن وعلة ": آلآنَ لما ابيَضَّ مَسرُبتي ... وعَضِضتُ من نابٍ على جِذْم ترجو الأَعادِي أَن أسالمَها ... سَفَهاً لَعَمْرِي رأى ذي الوهْم وقال آخر: يَمنَعُها شَيخٌ بِخَدَّيْه الشَّيبُ لا يَرْهَبُ الريبَ إِذا خِيفَ الرَّيبُ وقال آخر: رائعةٌ تَحمِلُ شَيخاً رائعَا مُجَرِّباً قد شَهِدَ الوَقائعا وقالت امرأة من العرب: فيا رَبِّ لا تَجعَلْ شبابي وجِدَّتي ... لِشَيخٍ يُعَنِّيني ولا لِغُلامِ ولكنْ طِمِرٍّ قد علا الشيبُ رأسَه ... شديدِ مَنَاطِ القُصْرَيَيْنِ حُسَامِ وإنما عنيت بالشيخ: أول الوسمي من المطر، وذلك أبلغ في مساءتك من فقدان الشيخ الآدمي. وهل عرفت معنى قولي: أخذ يربوع من متنك؟ وإنما أردت باليربوع: لحم المتن. وهل تردد عجب في صدرك لما قلت لك: وطير ذباب من عينك، وقلت: إنه ليعجبني أن يطير ذباب عن عيني، وإن الذباب لكثير الأذاة للإبل والخيل؟ وإنما عنيت بالذباب: إنسان العين. وهل كثر عندك التفكر من قولي: وقرب إليك التبن المبيض فأخذك شبه الجنون. فقلت في نفسك: وما الذي أكره من التبن وإن الحاجة إليه لداعية؟ وإنما عنيت بالتبن: القدح العظيم؛ والمبيض المملوء. يقال: بيضت الإناء، إذا ملأته. وذلك دعاء عليك بالكلب، لأن من شأن الكلب أن يكره الماء. قال الشاعر، وذكر رجلاً أصابه الكلب: ويَدعو بِبَرْدِ الماءِ وهو بَلاؤه ... وإِمَّا سَقَوه الماءَ مَجَّ وغَرغرا وما الغرض في قولي: عضدت، لا على معنى المساعدة؟ والمراد: أن يضربك ضارب في عضدك. يقال: عضدته عضداً، إذا ضربت عضده، كما يقال: رأسته، إذا ضربت رأسه. وهل تدري ما قصدت في قولي: وكليت والكالي لك غير نائم؟ وإنما أردت كليت من قولهم: كلي الصيد. إذا أصيبت كليته. فألغزته عن قولهم: كلئت، من الكلاءة وهي الحراسة. وجعلت الهمزة ياء، لأنها ساكنة وقبلها كسرة. كما يقولون: شيت وجيت، فيجعلون الهمزة ياء خالصة. وما معنى قولي: ورآك من لا يحفل برؤيتك؟ أي شيء خطر لك في هذا التأويل؟ وهل وقع في نفسك أني عنيت برآك رؤية العين فقلت: وأي إنسان لا يراه من لا يحفل برؤيته، وهل في الأرض ملك أو سوقة إلا وربما رآه من هو غير مبال بالغيبة عنه؟ وإنما أردت برأى، ضرب الرئة. يقال: رآه أي أصاب رئته. ومال الذي اعتقدت في قولي: وقلبك من ينتفع بقلبك؟ وهذه الدعوات متجانسات، ومعنى قلبك: أصاب قلبك. وكذلك قولي: ركبت، أي أصيبت ركبتك. والراكب فاعل من: ركبت أركب. والمعضد سيف رديء يمتهن به في قطع الشجر ونحوه. والددان الكهام من السيوف. وقد يجوز أن تسمى الفأس معضداً لأنه يعضد به الشجر أي يقطع. قال الشاعر: فلا فَتْكَ إِلا فخرُ عمرٍو ورهْطِه ... بما أَخذوا من مِعْضَدٍ ودَدَانِ والمعنى أن الرجل يضرب ركبتك بالمعضد أو الددان وهو مالك لك فلا تلحقه فيما صنع إحدى التبعات. وقولي: عصاك الشاب المقتبل؛ هل وقع في ظنك أني عنيت العصيان؟ ومن الذي يطيعك من الشبان أو الشيوخ حتى أدعو عليك بأن يعصيك الشاب المقتبل؟ وإنما عنيت بقولي: عصاك، أي ضربك بالعصا، لأن ضربته شديدة، ولأن الهرم لا قوة له. ويحتمل: عصاك، وجهاً آخر وهو أن يكون من: عصيته بالسيف، إذا ضربته به، وقلب الياء ألفاً معلى لغة طيء، كما يقولون: قد رضاه، يريدون: قد رضيه، ومتغناة يريدون: متغنية، وباناة يريدون: بانية. وأنشد " أبو زيد ": وأَسمرَ خطىٍّ رَضَاه ابنُ عازبة وأنشد أيضاً: ثم غَدَتْ تنفُضُ أَحرادَها ... إِن مُتَغنَّاةً وإِن راعِيَه يريد: متغنية.. وقال آخر: وما الدنيا بباقاةٍ لِحَيٍّ ... ولا أَحدٌ على الدنيا بباقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 يريدون: بباقية. وهو كثير في أشعار الطائيين. وربما وجد في أشعار غيرهم من العرب، وقد كان جاورهم " امرؤ القيس " فجاء بشيء من هذه اللغة كقوله: غيرَ باناةٍ على وَترهْ أي غير بانية. وكقوله: لها مَتْنانِ خَظاتَا كما ... أَكبَّ على ساعِديه النَّمِرْ يريد: خظيتا، فقلب الياء ألفاً. هذا رأي أهل البصرة من أصحاب النظر. وقال بعض الناس: أراد، خظاتان بالنون، وهو تثنية خظاة كما قال آخر: متنانِ خظاتانِ ... كزُحلوفٍ من الهَضْبِ فحذب نون التثنية للضرورة. ولا تذهبن في قولي: سحرك ساحر لا يأثم فيك؛ إلى أني عينت السحر المنهى عنه، وإنما عنيت بالساحر الذي يصيب سحرك أي رئتك، يقال: سحره فهو مسحور. وما تأولت في قولي: ولا حمل فوق ظهرك الملح؟ هل عرض لك أني عنيت الملح المعروفة فقلت في نفسك: شهد الله ما أحفل أحمل فوق ظهري بر أم تمر أم ملح وكل ذلك سواء علي؟ وإنما أردت بالملح الشحم، وهو أحد ما قيل في قول " مسكين الدارمي ": أَصبحت جارتُنا مُهتاجَةً ... قرِمَتْ بل هي وحْمَى للصِخَبْ أَصبحتْ تثقلُ في شحمْ الذُّرَى ... وتعدُّ القَولَ دُرّاً يُنتَهب لا تَلُمْها إِنها زِنْجِيَّةٌ ... مِلْحُها موضوعةٌ فوقَ الرُّكَبْ فقال قوم: أراد الشحم لأن سمن الزنج في أفخاذها وأوراكها. وقال آخرون: إنما هو من قولهم: ملحه فوق ركبته، إذا وصف بالغدر وقلة الوفاء. والعجب كله عندك من قولي: أخطأت أرضك مصيبة سوداء. أظننت أني دعوت لك بإخطاء الشدائد بلادك؟ وإنما عنيت بالمصيبة السحابة، يقال: أصابنا مطر وأصابتنا سحابة. وهل ظننت أني أخطأت في قولي: ولا سمعت صوت المرتجز؛ فقلت: قد قال في أول كلامه: وحديت بالرجز، فما أرد بقوله: ولا سمعت صوت المرتجز؟ وإنما عنيت ارتجاز السحاب بالرعد، يقال: ارتجز السحاب فهو مرتجز، وكأه شبه بصوت الراجز، قال " الهذلي ": سقى الرحمنُ حَزْمَ يُنابِعاتِ ... من الجوزاءِ أَنواءً غِرارَا بِمرتجزِ كأَنَّ على ذُراه ... رِكابَ الشامِ يَخمِلْنَ البُهارا ويفضي الله سبحانه أن ترد الضبع، وذلك بأغباش السحر، - لأن الشاحج إذا صخدت الهاجرة وصاف الزمان بات يدأب فيما هو فيه فتقول، إن قضي الله: " السلام عليك أيها الشاحج، إن لما تسأل جهة ومنفذا، وفي نفسي سؤال كنت أريد أن أسأل عنه بعض العلماء، وقد سمعت مخاطبتك للجمل فدلتني على فهمك ومعرفتك، وقد عزمت أن أسألك مسترشدة فأخبرني بما عندك أسع لك فيما تحب إن شاء الله. وقد علم الشاحج أنها من أحمق البهائم، فيقد الله سبحانه أن ينطقه فيقول: هلمي لله أبوك. فتقول: لي ثلاث كنى متجانسات في اللفظ: أم عامر وهي المشهورة، وأم عويمر، وأم عمرو، قال الراجز: يا أمَّ عمرو أَبشِري بالبشرى موتٌ ذريع وجَرَادٌ عَظْلَى وقال " قيس بن عيزارة ": فإِنكَ إِذ تحدوكَ أمُّ عويمرٍ ... لَذو رَجْلةٍ حافٍ مع القومِ ظالعُ فأخبرني أصلحك الله، أإياي عني القائل بقوله؟: نَصُدُّ الكأسَ عنا أمُّ عمرٍو ... وكان الكأسُ مَجراها اليمينا فيعجب الشاحج من حمقها ويقول متهزئاً: وهل عني غيرك؟ وإياك عني " جرير " بقوله: يا أمَّ عمرٍو جزاكِ اللهُ مغفرةً ... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا وكل ما تسمعينه في الشعر الغزل من أم عمرو وأم عامر، فإياك عني به الشاعر، إذ ليس في الأرض بهيمة أحسن منك، لا سيما مشيك، ألم تسمعي قول الشاعر فيك؟ غَرَّاءُ فَرْعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها ... تمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجى الوَحِلُ كأَن مِشيتَها من بيتِ جارتِها ... مرُّ السحابة لا ريثٌ ولا عجَلُ فيسمع الجمل ذرء قوله فيقول: يا جعار، كم لحق بك من عار! إنك لبغي أتلي، هل لك في رجال قتلى؟ إن هذا الكذاب يهزأ بك وأنت لا تشعرين. فتقول: أحسبك صادقاً أبا أيوب، لقد سمعت هذه الأبيات، وهي في امرأة يقال لها " هريرة ": فيقول الشاحج أنشدك الله هل تعلمين أنك تهرين عند المطعم؟ فتقول: اللهم نعم. فيقول: أنت هريرة لا محالة!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فتقول: الآن علمت صدقك وتحامل أبي أيوب عليك. ولي صديق من كلاب " حلب " حرسها الله، يخرج إلي في الليالي المقمرة، وبينه وبين بعض كلاب الصيد مودة. فألق إلي ما تريد، ألقه إلى الكلب الحلبي، يلقه الكلب إلى صديقه من الكلاب الصائدة، يلقه ذلك إلى البازي فيبلغ لك ما في نفسك. فيقول: جزيت خيراً. إن إسنادك لبعيد، وقد يئست من بلوغ الأمنية واليأس إحدى الراحتين، وصبرت على أمر الله لأني سمعت في الكتاب الكريم: " واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ". ويجيء الثعلب وارداً، فيقول وقد كان بلغه ما في نفس الشاحج: السلام عليك، إن لك معي بشارة، وذلك أني صحبت في بعض الطرق رجلاً من الشركاء في هذا القراح، فسمعته يحدث رفاقه أنه قد عزم على تضمينه لأن الفائدة عدمت فيه إلا للمباشر عمله بنفسه. فيقدر الله سبحانه على أن ينطق الشاحج فيقول: ما لخالقك من غالب، فبورك صباح الثعالب. ما زلت ميموناً من رهط ميامين، فعمر بك ناديك، ولا فقد خيراً واديك؛ وسكنت في أرض كثيرة الوجر والدحال، ييأس الكلب الصائد أن يصل بها إليك، ومنعك فيها الضراء والأشب من أن يطمع فيك جارح من الطير؛ وساعفتك الثرملة، ولا نأت عن وجارك سملة؛ ومرت بفنائك الرطانة وقد نهق منها بعير بل وقص، فتركوه في أرضك لتأنق في غريض من اللحم مصيفك، وتدخر للشتاء ما شئت؛ وغفل عنك حافظ المكثوءة حتى تلج وأنت آمنت فتصيب من القشعر والحدج ما تريد؛ ورقد ناطور الجنة عنك حتى تمكن في رأد نهارك من وفر وين كدوارع المدام وملاحي القرطة في آذان الكواعب ذوات الخدام ولو قبلت كلاب المصر وصيتي لأوصيت لك بأطيب بضعة مني، لا بل بالثلث من لحمي ولكنها جشعة حريصة لا تقبل وصاتي. وأما الضبع فأكره أن تصيب مني شيئاً لأنها حمقاء مومسة، لا آمن أن تطعم بضيعي سلقاً يعرض لها بالعهار، لأنها إحدى المومسات. وكأني بها تزاحم الكلاب على أوصالي. وإن فعلت ذلك فقبلي ما خشيها فتيان القوم، قال " مالك بن نويرة ": لَهْفَاهُ من عَرْفَاءَ ذاتِ فَليلةٍ ... تأتي إِليَّ على ثلاثٍ تَخْمَعُ وتظَلُّ تَنْشُطني وتُلحِمُ أَجرَياً ... وسْطَ العرينِ وليس حَيٌّ يدفَعُ لو كان سَيفي باليَمينِ ضَربتُها ... عني ولم أُؤكلْ وجَنْبي الأَضيعُ هذا الضَّيَاعُ فإِنْ حَزْزْتُ بِمُديةٍ ... كَفِّي فقُولي هَيِّنٌ ما تصنع وقال آخر: وجاءَت جَيْأَلٌ وأَبو بَنيها ... أَحمَّ الماقِيَين له خُمَاعُ بِلَيلِ يَنْبُشَانِ التُّرْبَ عني ... وما أَنا ويبَ غيركِ والضباعُ فبينما الشاحج يناجي الضابح، سمعاً لجة في المصر فيقول الشاحج ألا تعلم لنا الخبر يا ثعال؟ فمضي ثعالة مبادراً، ثم لا يلبث أن يعود فيقول: العامة يخبرون أن زعيم الروم قد نهد إلى أرض المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فيجم الشاحج هنيهة ثم يقول: بنت برح شرك على رأسك، سمع لا بلغ، صمى صمام، صمى يا ابنة الجبل! هذه الخنفقيق، والسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - بردهاً حقيق. وإني لأحسب هذا الخبر كذباً إن شاء الله، لأن مثل السيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أعز الله نصره " ومثل زعيم الروم، مثل بازيين لكل واحد منهما فرق من الطير تحمل إليه الإتاوة، وقد تعاقد البازيان ألا يعرض واحد منهما لما في حيز الآخر من الخشاش، فالطير لما هي عليه من الخفة والجهل بغوامض الأمور، إذا رأت البازي الذي ليست هي في ملكه قد نظر إلى شطرها عن غير تعمد، أدركها من الفرق بالطبع ما يحملها على ترك الوكنات وطيرانها في الآفاق. وهي لا تعلم بما في نفوس البازيين، لأن كل واحد منهما لو عرض لطير الأخر بسوء لم يأمن أن يعرض لطيره بمثله أو شر منه وقد تأملت العوالم فوجدت عالم الجماد يشبه العالم النامي من جهات، ووجدت النامي يشبه العالم الحي غير الناطق شبهاً أغلب من الجماد بالنامي، ووجدت الحي غير الناطق يشبه الناطقين شبهاً أغلب من الذي قبله، ووجدت الناطقين يشبهون عالم نطقهم في بعض الشئون. وإنما قلت ذلك لك، لأن الملوك إذا وقع بينها الخلف، لقيت الرعية مشقة من الحياة حتى تحمد الوحدة ويثنى على العقم، وحتى يصح قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يكون أروح الناس فيه الخفيف الحاذ " قيل: يا رسول الله، وما الخفيف الحاذ؟ قال: " الذي ملا أهل له ولا مال " فمثل الوحيد مثل الحرف الفارد، إن لحقه تغيير فيسير، والغالب عليه أن يثبت على أمر لا يتغير، مثال ذلك الباء الزائدة، والكاف الزائدة، ألا ترى أن الباء تثبت على الكسر، والكاف تثبت على الفتح؟ والذي يلحقه من الفاردة تغيير مثل لام الملك كانت في الظاهر على هيئته فقلت: لزيد ولعمرو، وجاءت في المضمر على سوى ذلك فقلت: لك وله. ولو تكلف تغيير الفارد متكلف لم يمكنه فيه إلا أربعة أصناف: الضم والفتح والكسر والإسكان، فهذا مثل الوحيد من بني آدم يكون له التغيير أقل، فإذا كان الرجل له صاحب أو صاحبة فمثله مثل ما كان على حرفين مثل دم ويد، يتغيران بالقلب. وتلك الحادثة قد أممنها الوحيد لأن القلب إنما يمكن في الاثنين فتقول: دم مر. ويلحق الدال والميم صنوف التغييرات من الإعراب والسكون عند الوقف، أفلا تنظر إلى زيادة الاثنين في تغيير النوائب على الواحد؟ فإذا كان للرجل عيلان فصاروا ثلاثة كان التغيير أزيد وأوجد، ألا ترى أن الثلاثي من الأسماء مثل جمر وعمرو تنقلب حروفه ست مرات، والثنائي إنما ينقلب مرتين؟ فإذا كان للرجل ثلاثة من العيلة كان فعل الزمن في تغييرهم أكثر تصرفاً منه في تغيير صاحب الاثنين والواحد. والأربعة أشد حملاً للغير من الثلاثة، ألا ترى أن جعفراً وزهلقاً وما كان مثلهما من الرباعي، تنقلب حروفه أربعاً وعشرين قلبة؟ فإذا كان للرجل أربعة من العيلة فصاروا خمسة كان التغيير لهم أكثر، وذلك أن الخماسي من الأسماء مثل فرزدق وسفرجل، تنقلب حروفه مائة وعشرين قلبة؛ ثم تنتهي حال الأسماء الأصلية حروفها في العدد، ولا تنتهي حال الرجل في العيلة. ولو جاء شيء من الأسماء على ستة أحرف من الأصول لا نقلب سبعمائة وعشرين قلبة، فما ظنك بالمسكين آدم تكون له العشرة من العيلة وأكثر، وإنه للصعلوك الفقير؟ ولعل ذاهباً يذهب إلى أن الوحيد من بني آدم لا بد له من أن يتصل بغيره، فمثله مثل الحرف الواحد، ألا ترى أنك إذا أمرت من: وفى يفي، ومن: وعي يعي، لم يمكنك أن تنطق بذلك حتى تصله بغيره، فإن لم يكن لك غرض في الوصل جئت بهاء الوقف فقلت: فه، وعه؟ ولا يخفى هذا الوضع على من مثل ابن آدم بالحرف. ولكن اتصال الفارد بغيره ممن لا يحفل به، أهون من اتصاله بمن فراقه عزيز عليه وبمن هو جار مجرى أعضائه، لأن من كان له صديق فباينه وجد العوض منه، ومن كان له ابن أو أخ أو والد لم يجد العوض منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ألا ترى أن كاف كم، ولام لم، إذا فارقتهما الميم لم يعرف لهما معنى ولم يصلح أن يتصلا بشيء من اللفظ؟ والكاف واللام اللتان أصلهما الانفراد ليستا كذلك، لأنك إذا قلت: كزيد ولعمرو، ثم بدا لك أن تخرج الكاف واللام عن هذين الاسمين، صلح ذلك ولم يكن فيه مشقة وأدخلتهما على أي الأسماء شئت. فكذلك الرجل يتصل بالقوم فيكون معهم، أو بالصاحب فيصاحبه، المشقة عليه في فراقه إذا لم يكن ثم نسب قريب. ومثل أصحاب السيوف مثل الأسماء، ومثل غيرهم من الناس مثل الأفعال وحروف المعاني، ومثل الدول مثل الجمل من الكلام. وقد يمكن بناء الجملة من الأسماء والأفعال والحروف، ولا يمكن بناؤها من الحروف والأفعال دون الأسماء. وأفعال السيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء، أعز الله نصره " مثل الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفعولين، ففعله - خلد الله ملكه - يرفع نفسه، وإنما عنيت رفع المحل وعلوه، ثم يكون رفع اللفظ تابعاً لذلك. ومفعولاته الثلاثة: الأول منها الرعية، والثاني العرب، والثالث الروم. وهو بتدبيره وسياسته يعمل فيمن بعد منه، فمثله مثل إن وأخواتها تتخطى ما بينها وبين معمولها من المعترضات حتى تعمل فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر " الآية، إلى قوله " تعالى ": " لآيات لقوم يعقلون " كيف تخطت إن ألفاظ الآية وهي كثيرة ولم يمنعها من العمل في " آيات " دخول اللام المعترضة؟ فكذلك هو - أعز الله نصره - وإن كان مقيماً في " حلب " حرسها الله، يؤثر فعله وسياسته فيمن وراء الدروب وإن فصل بينهما أعلام وسهوب. وزعمت العامة بجهلها أن رسالته إلى زعيم الروم أمسك عن جوابها لأمر لا يعلم، فهل شعروا أن مثل رسالته مثل واو القسم يجيء جوابها بعد المهلة المتراخية وإن ظن السامع أن الكلام قد انفصل بعضه من بعض؟ ألا ترى أن الواو في قوله تعالى: " والفجر " جاء جوابها متراخياً بينه وبينها ألفاظ كثيرة وجمل معترضة، وهو قوله " تعالى ": " إن ربك لبالمرصاد "؟ ولعل زعيم الروم يخاف إن برز إلى بلاد المسلمين أن يفعل به " السيد عزيز الدولة " ما فعل بابن الصعق " الذي قال: تركتُ النِّزَالَ لأَهلِ النزالِ ... وأَكرمتُ نفسِي على ابن الصَّعِقْ جَعَلتُ يَدَيَّ وِشاحاً له ... وبعضُ الفوارِسِ لا يَعْتَنِقْ وقد حمل " السيد عزيز الدولة " - خلد الله ملكه - ما فيه من الكرم والرأفة بالرعية والرغبة في حقن الدماء، على أن بعث هدية سنية أشبهت شرف قدره وعزوف نفسه. والهدية مثلها مثل ما التي تكف العامل عن العمل، ألا ترى أن إن وأخواتها تكفهن ما عن النصب؟ قال " ابن أبي ربيعة ": إِنما أَهلُكِ جيرانٌ لنا ... إِنما نحنُ وهم شيءٌ أَحَدْ وأنشد " سيبويه ": تَحَلَّلْ وعالجْ ذاتَ نفسِكَ وانظُرَنْ ... أَبَا جُعَلٍ، لَعَلَّما أَنتَ حالِمُ فلولا أن " ما " كفت لعل أن تعمل، لم يجز أن تتصل أنت بلعل، كما لا يجوز أن تتصل بنحن. وكذلك قول الآخر: أَعِدْ نظراً يا عَبْدَ قيسٍ لعلما ... أَضاءَت لكَ النارُ الحمارَ المُقَيَّدا فلما كانت " ما " كافة، أمكن ها هنا نصب الحمار. ومثل " حلب " حرسها الله مثل عند، ومثل " السيد عزيز الدولة " - خلد الله ملكه - مثل من، ولا يجوز أن يدخل على عند شيء من الحروف العوامل غير من. وأجمع أهل النحو واللغة على أن قول العامة: مضيت إلى عند فلان، خطأ، لأن " إلى " لا تدخل على عند. ومثل السلطان المنصرف مثل " ربة " في قول " ضمرة بن ضمرة ": مَاوِيَّ يا رُبَّةَ ما غارةٍ ... شعواءَ كاللِّذْعَةِ بالمِيسَمِ حذفت منها الهاء فقيل: رب، واجترىء عليها من بعد فخففت الباء فقيل: رب، كما قال " عامر بن حليس ": أَزُهَيْرَ إِنْ يَشِبِ القَذَالُ فإِنني ... رُبَ هَيْضلٍ لَجبٍ لَفَفْتُ بهيضلِ ثم اجترىء على تسكين الباء، وحكى ذلك بعض الكوفيين. ثم زادت الجرأة فحذفت رب من الكلام وخلفتها الواو في مثل قول الراجز: وبَلَدٍ عَامِيَةٍ أَعماؤه كأَنَّ لَونَ أَرضِه سماؤه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وكانت هذه الواو من صواحب " رب " القديمة في قولك: ورب غارة، ورب بلد. فمثلها مثل صاحب المنصرف ولا معتبة عليه في القدر بل قد انصرف والعامة تثني عليه بالرأي والشجاعة، ولكن المنصرف للأقدار، قال الراجز يا أَيُّها المُضْمِرُ هَمّاً لا تُهَمّْ إِنكَ إِنْ تُقدَرْ لكَ الحُمَّى تُحَم ومثله ومثل " السيد عزيز الدولة، أعز الله نصره " مثل الفعلين الأول والثاني يجتمعان على طلب العمل في الاسم فيكون العمل والقوة للثاني لأنه أقرب وعلى ذلك ورد كلام العرب، وبه أخذ أصحاب النظر من أهل البصرة. قال " طفيل " فأعمل الثاني: جَنَبْنَا من الأَعرافِ أَعرافِ يَمْنةٍ ... ومن هَضْبِ لُبْنَ الخيلَ يا بُعدَ مَجْنبِ وِرَاداً وحُوّاً مُشرِفَا حَجَباتُها ... بناتِ حِصانٍ قد تُعُولِمَ مُنجِبِ وكُمْتاً مُدَمَّاةً كأَن متونَها ... جرى فوقَها واستشعرتْ لَوْنَ مُذْهَب فجعل العمل للثاني وهو: استشعرت، لأنه أقرب إلى لون مذهب. وقال آخر: فإِنَّ حَراماً أَنْ أَسُبَّ مُقاعِساً ... بِآبائِيَ الشُّمِّ الكرامِ الخضارمِ ولكنَّ نِصْفا لو سَبَبت وسَبَّني ... بنو عَبدِ شمسٍ من مَنافٍ وهاشِمِ فأعمل " سبنى " لأنه أقرب. والملوك بعد ينقسمون كانقسام الأفعال، فمنهم " من يشبه فعله الفعل المتعدي إلى مفعولين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما مثل: ظننت وخلت وبابهما، وذلك من الملوك من يعمل فعله في رعيته ولا يكون له بد من محاربة عدوه. ومنهم من هو كالفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، مثل أعطيت وكسوت، وذلك الذي يعمل فعله في رعيته فيكون له عدو مرة يحاربه ومرة يسالمه. وأما الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد فمثله كثير من الملوك والعامة والولاة: فملك يعمل فعله في الرعية فقط وذلك الذي تكون فوق يده يد عالية، ووال ينفذ فعله في أهل ولايته، وعامي ينفذ فعله في أهله وعياله. والوحيد من بني آدم مثله مثل الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول، مثل قام وقعد، وإنما هو مقصور على فاعله لا غير. وفعل لا يصل إلى العمل إلا بحرف جر مثل مررت وبابها، ومثله مثل الأعمى والأعرج لا يصلان إلى كثير من المآرب إلا بمعين. ومن الأفعال ما له فاعل لا يظهر، وذلك فعل التعجب في قولك: ما أحسن زيداً، فذلك مثل لمن لزم بيته من الناس فلم يتصرف مع القوم ولم يعايش العوام. ومن كان من أو زاع الناس يدبر ابنه وأخاه دون غيره، فهو بمنزلة كان وأخواتها تعمل في فاعل ومفعول وهما لعين واحدة. وفي الملوك من يكون فعله كالفعل المتعدي إلى مفعولين ثم يلغي بعد ذلك، مثل ما قال " اللعين المنقري ": أَبا الأَراجيزِ يا ابنَ اللؤمِ تُوعِدُني وفي الأَراجزِ، خِلتُ، اللؤمُ والخوَرُ فذلك مثل الملك الذي زالت مملكته. وكذلك في العامة من يكون مثله مثل كان، يرفع الفاعل وينصب المفعول، ويعمل في الحال والظرف، فبينا هو كذلك جاءه بعض الأقضيه فصار كأحد الحروف الملغاة، مثل ما أنشد " يحيى بن زياد الفراء ": لقدْ أَسمى وشرَّف حين عُدَّتْ ... لي الأصهارُ ربيِّ في كلابِ سَراةُ بني أَبي بَكْرٍ تَسَامَى ... على كان المطَهَّمةِ الصِّلابِ فكان، هاهنا ملغاة. فلما أسفر الصبح وظهرت الجالية بالفرثد وبالأطفال، سمع الشاحج أصوات القوم، فجاز أن ينطقه الله سبحانه فيقول: " القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " الآن صرح الحق عن محضه. وظهر نجيث القوم: قد صرحتْ بِجِلدان إِليها أمُّ ذبانْ ضَرْباً كإِيزاغ الضانِ أَجْمَعوا أَمرَهُمْ بلَيْلٍ فلما ... أَصبحوا أَصبحتْ لهم ضوضاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 إنا له وإنا إليه راجعون. قربت بأساء الضياون وحضرت آجال الديكة والدواجن، ودنت منايا الحنتم. أما الضيون فإذا رحل عنه أهله ضاع وفقد الطعام والماء، فإن كان حازماً لحق بالنموس فكان معها حتى يرفأن الناس وتخمد نار الفتنة. وإن أقام في المنزل ضعف جرماه: جسمه وصوته، حتى يطمع الجرذ فيه ولا تهابه الفلوة ولقد كانت تسمع صوته وهو في سفل البيت وإنها لفي العلو فينالها من ذلك فزع شديد. وقد بلغني أنه يكون في الجولات من أملاك الروم ها هنا قوم متخلفون يحملهم سوء الوثع وقلة النزاهة على أكل الضياون، لأن أهلها يغيبون فتظهر من الدور طلباً للمعايش، فيصيدونها صيد الوحش التي أطلق أكلها للإنس. وقد كانت بنو أسد في القديم تعير بأكل الكلاب، وفي ذلك يقول الراجز: يا أَسَدَيُّ لِم أَكلتَه لِمَهْ لو خافَكَ اللهُ عليه حَرَّمَهْ فما أَكلتَ لَحمَه ولا دَمَهْ فأما الخياطل فما ذكر أكلها في أخبار المتقدمين. فويح للضيون! بعدما كان يطارد الغفة كما قال الشاعر: يُدِيرُ النهارَ بِحَشْرٍ له ... كما عالجَ الغفوةَ الضَّيْونُ ويختلها ختل السرحان الغزال ويثب إليها كما وثب حبيل براح إلى أمم الأغفار؛ ضعف لعدم القوت حتى رآها وهي المخطبة فما عرض لها بالقبيح، وجاءته ورهطه شعوب فرأيتهم في الحجرات وقد طفئت منهم العيون الزاكية، بعد ما قال فيها الشاعر: خَليليَّ عُوجَا من صُدورِ الكوادنِ ... نُصِيبُ قليلاً من ثَريدِ الحواقن ثريدٌ كأَن السَّمنَ في حَجَراتِه ... نجومُ الثريَّا أَو عيونُ الضياوِنِ أتدري يا ثعال من أي شيء اشتق الضيون؟ وهيهات! لعل سميك " أحمد بن يحيى الشيباني " ما سمع خبراً لذلك. وهو نادر من الكلام لأن ياءه لم تدغم بالواو، فإذا كان من: ضان يضون فهو فيعل، وإلى ذلك ذهب الناس في وزنه. وإن كان فعولاً فهو من: ضان يضين، وكلا القولين ممات. ولا يقعن في وهمك أن اشتقاقه من الضأن، فإن الضأن مهموز. أليس في الكتاب المجيد: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين "؟ ولا يغرنك قول الشاعر: أَصبحتُ فَنّاً لِرَاعِي الضأنِ أُعجِبُه ... ماذا يَريبُكَ مني راعِيَ الضانِ فإن تخفيف الهمز من الضأن جائز في النثر والنظم، ويكون لازماً في القوافي الملينة. إلا أن الحكم في الاشتقاق للهمزة. وأما الديكة والدواجن فإذا ريع الناس بهشوا إليها بالأصلات مخافة عليها من جيران السوء والضيعة إذا تركوها بالأفنية. ومن أشفق منهم على التعارف وصواحبهن، فإنه يربط بعض أرجلها إلى بعض، فكأني بأبي عقبة وهو مشدود الرجلين إلى أرجل دجائج ثلاثة أو أربع وهو معلق من مؤخرة إكاف، وقد أفرط هو وصواحبه في الصراخ. صبراً أبا عقبة " فإن مع العسر يسراً " الغمرات ثم ينجلين: البَسْ لِكُلِّ عِيشَةٍ لبوسَها إِمَّا نعيمَها وإِمَّا بُوسَها بعض الشر أهون من بعض. هذا خير لك من أن تكون قد دليت في وطيس محام أو غلت بك إحدى البرم عائماً في ملح وماء. ولئن سلمت يومك لتهتفن في دار معترفة: لا تأمنَنَّ الدهرَ بين ظعائنٍ كما بان من جوٍّ الوديقةِ أَكْدَرُ أتجري يا ثعال من " أكدر " هذا المذكور؟ هو " أكيدر بن عبد الملك " - ويقال: أكيدر بن عبد الله - صاحب دومة الجندل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له الكتاب المعروف ثم ارتد وظعن عن بلاده إلى بلاد الحيرة فابتنى له داراً وأقام بها. وأما الحناتم فإنها تكون عند القوم المتصعلكين والمستورين قد ملئوها باللصف والشفلح وعلوهما بدر الضئين والمعز، فإذا ارتاع الناس وأزمعوا الهرب كانت من أجل ما يحتملون. ويكون على الحمار أو البغل الكبير عبء ثقيل غير متعادل في التحميل، بل هو من اليمين مخالف لحاله من الشمال. فمثله مثل هذه الأبيات التي هي في كتاب سيبويه كما أذكر، وقد غيرها بعض الناس رغبة في إصلاح الوزن، وهي: كيف رأَيتَ زبْرا أأقِطاً أَو تمْرا أم قرشيّاً بازلاً هِزَبْرا ألا ترى إلى قصر البيتين الأولين وطول البيت الثالث؟ وبعضهم ينشده: أم قرشيّاً صَقْرا والرواية الصحيحة في كتاب سيبويه كما أخبرتك. والرواية الأخرى أصح وأوزن. وقد جاء عنهم نظير لذلك وهو منه، قال الراجز: 3يا تَيْمُ كوني جَدِلَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أَغنى امرؤُ ما قِبَلَه إِذ قاتلت تيمٌ وفرَّت حنظلَه واستوعَلتْ كلبٌ وكانت وعِلَه فالبيتان الأولان يقصران عن البيتين الأخيرين قصراً ليس بخاف. فذلك مثل وسوق الجالية لأنها ليست تعتدل إذ كانوا ليسوا أهل ظعن وارتحال فيعرفوا أمر الإيساق، ويمنعهم الخوف من الأناة. فإذا كان الأمر على ما أصف أسرع الإنكسار إلى ما يحملون من الخزف والزجاج، لأن وسوقهم لا يمكن فيها التعديل. فإن كانت لن يا ثعال رغبة في الكامخ أو البن فتتبع آثار الجالية فإنك لا تعدم جرة كسيراً قد اجتهد صاحبها أن تثبت له في الوسق فأعيت عليه وزلت في ذلك إلى الأرض، أو علقها بأذنها فضعفت أن تحملها فلقيها القهقر في الأرض الجرولة فرأيت خبيئها وقد طلى به وجه المعز، وكان ربها البائس قد أعده لطلي به رغيفاً بعد رغيف، كما ضمخ وجه المترف من الملوك بالغالية وفنيق الأناب؛ وإن الجهل ليصنع بأهله أكثر من هذا الصنيع. أفلا ينظر هؤلاء القوم حقيقة النظر ويعطون قوس الرمي " عميرة "، وصعدة الخط " ردينة "، ويؤتون " عمراً " الصمصامة، ويلقون السهم الأقذ إلى الرائش بطبته، ويتكلون بعد الله العظيم على سياسة " السيد عزيز الدولة أمير الأمراء " - أعز الله نصره؟ فإنه شراب بإنقاع! قد آل وائل عليه، وركب الصعبة والذلول، وطعن بتام وقصير، وضرب العدو بالجراز بعد الجراز، ونزع في العاصية والمطيعة، فهو كما قال الأول: يا تَمْلِكُ يا تَمْل ... ذواتِ الطوقِ والحِجْلِ ذَريني وذَرِي عَذْلي ... فإِن العَذْلَ كالقتلِ ومني نظرةٌ بعدي ... ومني نظرةٌ قَبْلي حذارِ الأَسدِ الضيغ ... م أَو في نظرةٍ مثلي وقد أَبدأُ بالطعنةِ ... م تثنى سَنَنَ الرّجْلِ كجَيْبِ الدفنِس الورها ... ءِ رِيعتْ وهي تَستغلي وقد أَسبقُ بالضربة ... م لا يَدمَى لها نَصْلي وقد أَنزَعُ في الزوراءِ ... تُعطِيني على بُخلِ فمثله - أعز الله نصره - مثل السيف الصارم تجده على الوحدة أهيب من النبل الزائدة في العدة. وفي الكتاب المحفوظ: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين "، وقال القائل في القديم الأزمان: تركْنَا بني أَسماءَ، منهم مُحَلَّماً ... ومُرَّةَ يَحبُو وابنَ ضمرَةَ حِذْيَما وما إِنْ قتلناهم بأَكثرَ منهم ... ولكنْ بأَوْفَى في اللقاءِ وأَكرَما لقد حملهم الفرق على الخرق، فسوق يلقون شظفاً من العيش وتنزل بهم الضرورة الناقلة من حال إلى حال، فإن هذه الآونة تحمل القاطع على أن يصل والمهاجر صاحبه أن يعطف ويعتذر، ولم يفعلا ذلك رغبة في صلة الرحم ولا تحوباً من سوء القطيعة، وإنما ذلك للضرورة الحادثة، فأشبها فيما فعلاه حال الشاعر إذا وصل همزة القطع، كما قال " أبو زبيد " وذكر كلباً له يسمى أكدر: فأَيْقنَ اكْدَرُ إِذ صاروا ثمانيةً ... أَنْ قد تفرَّدَ أَهلُ البيت بالثُمُنِ وبعض الناس تؤضه الشدة إلى قطع الحميم وفراق الأليف وعقوق الوالد والولد، فيكون مثله مثل الشاعر لما اضطر لقطع ألف الوصل كما قال الراجز: لَمَّا رأَتْ شيبَ القذالِ عيسا وفوقَ ذاكَ لِمَّةً خَلِيسا قَلَتْ وِصَالي واصطفتْ إِبليسا وصامَت الإثنينِ والخَمِيسَا عبادةٌ كنتُ بها نِقْرِيسا والشدائد في هذه الروعات تحمل المتطاول من القوم على أن يتواضع، والغنى على أن يتهيأ بهيئة الفقير فيشبه الممدود إذا قصر كما قال " العرجى ": أَنْزَلَ الناسَ في الظواهرِ منها ... وتَبَوَّى لنفسِه بَطْحَاهَا والطمع من أهل الخسة في مثل هذه الحادثة يحسن لهم التطاول وتتبع رحال الضعفاء، فيكون مثلهم مثل المقصور إذا مد، كما قال الراجز: يا لَكَ من تَمرٍ ومن شيشاءِ 3ي - َنشَبُ في المَسْعَلِ واللَّهاءِ وهذه النائبة تلزم الذين يتظاهرون بالعدم والفقر، أن يخرجوا ما يخفون من الذخيرة، يستعينون بها على اكتراء الحمار والراحلة، فيكون مثلهم مثل المدغم أظهرت الضرورة ماعنده، كما قال " العجاج ": إِنَّ بَنِيَّ لَلِئامٌ زَهَدَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ما ليَ في صدورهم من مَوْدَدَه يريد: مودة. قال " زهير ": ما يَلْقَها إِلا بِشِكَّةِ باسلٍ يَخشى الحوادثَ حازمٍ مُسْتَعدِدِ أي: مستعد. وعند هذه النازلة ترى المريض والزمن وغيرهما من أهل العاهات، قد تشبهوا بالأصحاء السالمين فبان فيهم ذلك وظهر منهم التكلف، وكان مثلهم مثل المعتلات نحو قاض وغاز يصيران في الضرورة كصحاح الأسماء، وذلك بمشقة ليست بالخافية، كما قال الراجز: قد عجبتْ مني ومن يُعَيْليَا لما رأَتْني خَلَقاً مُقْلَولِيا وقال: الفرزدق ": فلو كان عبدُ الله مولًى هجَوتُه ... ولكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَوالِيَا وقال آخر: لا بارَكَ اللهُ في الغوانِيَ هل ... يُصبِحْنَ إِلا لَهنَّ مُطَّلَبُ والخوف إذا وقع بغتة، رأيت المعروف بالحزامة وأخا التجربة ومن كان مشهوراً بالجرأة، قد حمله الحزم واللب على قلة الانبعاث وكلول الغرب، فصار كأنه الظعينة من خوف العاقبة وانفلال الحد، فيكون مثله مثل المذكر من الأسماء إذا انث للضرورة كما قال القائل: وحَمَّالُ المِئينَ إِذا أَلَحَّتْ بنا الحدثانُ والأَنِفُ الغيورُ وإذا فجئت هذه الملمة وغيرها من الملمات، حسنت للنساء ذوات الخفر أن يتبرجن ويجرين في المشي والعمل مجرى الرجال، فيكون مثلهن مثل المؤنث إذا ذكر عند الحاجة، كما قال الشاعر: " عامر بن جوين الطائي ": فلا دِيمةٌ ودقَتْ وَدْقَها ... ولا أَرضَ أَبْقَلَ إِبقالَها وربما رأيت الجماعة الكثيرة وهم لقلة البصيرة وطيران الألباب يجرون مجرى الفذ ممن الرجال، فيكونون كالجميع من الأسماء إذا جاء مؤخر الخبر أو لم يتصل بفعله الضمير إذا أخر، كما قال الشاعر، أنشده " الفراء " عن " المفضل الضبي ": أَلا إِن جِيراني العَشِيةَ رائح ... دعَتْهم دواعٍ من هوىً ومَنادِحُ وما قال آخر: يا عمْرُو جِيرانُكم باكِرُ ... فالقَلْبُ لا لاهٍ ولا صابِرُ وقال الراجز: بَالَ سُهَيْلٌ في الفَضِيخِ ففَسَدْ وطابَ أَلبانُ اللقاحِ وجَرَدْ وقال " الحطيئة ": وإِني لأَرجو، وإِن كان نائياً ... رجاءَ ربيعٍ أَنْبَتَ البقْلَ وابِلُهْ لِزُغْبٍ كأَفراخِ القَطا راثَ خَلْفُها ... على عاجزات النهض حُمْرٍ حواصِلُه فأما الوادع فإنه إذا عصفت به شمال الرعب زف راله وفزعت أجراله، فكان مثله مثل الساكن إذا حرك لإقامة الوزن كما قال " زهير ": لم يُنظرْ به الحَشَكُ وإنما هو: الحشك. وكما قال آخر: أَتْبَعتُه إِياهما في السَّهَلِ حتى إِذا ما زَنَأا في الجبل أَزنأتُه فيه ولَمَّا أُبَلِ وأما المتصرف من النفر في ذهاب ومجيء كالمنادين والدلالين، فإنه إذا حمل في مجلاه فقدت حركته في المعاش فكان مثله مثل متحرك من الحروف سكن كما قال الراجز: وَرْدَ عليهِ طالبُ الحاجاتِ وهذا قليل، لأنه سكن الفتحة. وإنما شبهته بالمفتوح الذي يسكن، ولم أشبهه بالمضموم والمكسور لأن من شأن ربيعة أن تسكن ما كان كذلك من الأسماء والأفعال ما لم يكن المتحرك بضم أو كسر في الطرف، فيقولن: كرم، أي كرم، وعلم أي علم. وقياس لغتهم أن يقولوا: كبد وكتف، في الكبد والكتف قال " القطامى ": إِذا نَشْبَتْ مَخالِبُه وعَلْقَتْ ... له الأَنيابُ تُرْكَ له المَرَارُ يريد: نشبت وعلقت وترك. وقال آخر: إِذا لم يكنْ قبْلَ النَّبِيذِ ثريدةٌ ... مُلَبَّقَةٌ صفراءُ شحْمٌ جميعُها فإِن النبيذَ الصرْدَ إِنْ شُرْبَ وحدَه ... على غيرِ شيءٍ، أَحْرَقَ الكَبْدَ جوعُها فهذا ليس عندهم من الضرورة. وربما طمع الجار - لهذه الفتنة - إذا كان من أهل الشر، في جاره إذا كان من أهل الخير، فعدا على منزله فأخذ ما فيه، فأشبه فعله ذلك نقل الحركة من الحرف إذا وقف عليه، إلى ما جاوره من الحروف. وشبهت المال بالحركة لأنه تكون عنه القوة، والحركة قوة الحرف وحياته والمعنى بما ذكرت قول الراجز: عجِبْتُ والدَّهْرُ كثيرٌ عَجَبُهْ ... من عنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضربُهْ نقل حركة الهاء إلى الباء. وكذلك قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فقُلتُ لِلسَّائِسِ خُذْهُ واعْزِلُهْ ... وَاغْدُ لَعَنَّا في الرِّهانِ نرسلُهْ وقال " طرفة ": حابِسِي رَبْعٌ وقفتُ به ... لو أطيعُ النفسَ لم أَرِمُهْ وقد ذهب بعض الناس إلى أن هذا ليس بضرورة؛ وإن كان كما زعم فإنه قليل كقلة ما يستوحش منه الفصحاء. ولأشيرن عليك يا ثعال بالمكرمة من الفعل: إن كان لك صديق في الجالية فوصه ألا يكون في أوائل الرفقة ولا الأواخر، ولكن يكون متوسطاً بين الأول والآخر، فإنه إذا كان أولاً لم آمن عليه أن تدركه نائبة كما أدركت فاء عدة وزنة، وكما لحقت أوائل الأبيات التي بناؤها على حرفين متحركين بعدهما ساكن. وتلك النائبة هي الخرم الموجود في أوائل الأشعار كما قال " ساعدة ": فِيمَ نساءُ الحَيِّ من وَتَرِيَّةٍ ... سَفَنَّجةٍ كأَنها قوْسُ تَألَبِ وهو في شعر الجاهلية وأهل الإسلام، ألا ترى أن عين " عدة " سلمت من الحذف وكذلك زاي " زنة "؟ وإن حذف متوسط فحذفه شاذ، وإنما يكثر حذف الأطراف والأوائل، كما حذفوا فيما اعتلت فاؤه ولامه فقالوا في المعتل اللام: برة وقلة ودم ويد. وقد مضى ذكر ما اعتلت فاؤه. ومن العلل التي تلحق الأواخر أنك إذا جمعت فرزدقاً وبابه قلت: فرازد؛ فشقيت القاف بالحذف. وكذلك إذا صغرت قلت: فريزد. ولو لم يدلك على ما يلقاه الآخر من المضرة إلا الترخيم، لوضح به الدليل: تحذف آخر الاسم دون غيره من الحروف. إلا أنه ربما جاور الحرف الآخر حرف لين فدخل معه في النائبة يجتذبه إلى ما لقي، أو يكون مجاوره أراد أن يواسيه في المصيبة. فإن كان فعل هذا فهو حسن، وما أحسبه حذف إلا مضطراً إلى الحذف. على أن الترخيم في باب النداء ليس هو بضرورة. والحرفان المتجاوران: كواو منصور ورائه، وألف مروان ونونه، وألف حمراء والهمزة بعدها. قال الشاعر: يا أَسْمَ صبراً على ما كان من حَدَثٍ ... إِن الحوادثَ مَلْقِيٌّ ومُنْتَظَرُ وقال " أبو زبيد ": يا عُثْمَ أَدرِكْني فإِنَّ رَكِيَّتي ... صَلدَتْ فأَعيَتْ أَن تَبِضَّ بمائها يريد: عثمان. وقد حملهم الطمع في الأخير على أن حذفوا حرفين صحيحين، أو يكون الأول منهما همزة حدثت في الجمع كما قال " لبيد ": درَسَ المَنَا بمُتالعٍ فأَبَانِ يريد: المنازل. وقال " أبو داود ": يَلْدِسْنَ جَندلَ حائرٍ بِجُنُوبِه ... فكأَنما تَنْفِي سَنابِكُها حُبَا يريد: حباحبا، يعني نار الحباحب. وقال " علقمة ": أَبيَضُ أَبْرَزَه لِلضحِّ راقِبُه ... مُقَلَّدٌ بِسَبَا الكتَّانِ مَفْدُومُ يريد: سبائب الكتان. ومن حذف الأواخر المفرط ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: " كفى بالسيف شا " يريد: شاهداً. وهذا نادر غير مستمر. وإنما حذرت من يكون في الأواخر من الحوادث الطارئة كثيراً عند الأطراف، مثل حذف اللام من سنة وابن، ومثل ما يحدث في القوافي من ترك الإعراب وتخفيف المشدد، وذلك كثير موجود، قال " لبيد ": مَنْ هدَاه سُبُلَ الخيْرِ اهتدى ... ناعمَ البالِ ومَن شاءَ أَضَلْ فلام أضل مشددة، وحففها في القافية تخفيفاً لا بد منه، ومن شددها فهو عندهم مخطيء. وكذلك من شدد الراء في قول " امريء القيس ": واليوم قر وإني أفر وقد عيب على بعض العلماء أن لام " المصل " وجدت بخطه مشددة في قول " لبيد ": يَلْمُسُ الأَحْلاسَ في منزِله ... بِيَدَيْه كاليهوديِّ المُصَلْ يريد: المصلى، فحذف الياء وخفف. وأشد منه قوله: وقَبِيلٌ من لُكَيْزٍ حاضِرٌ ... رهْطُ مرجومٍ ورهطُ ابن المُعَلْ يريد: المعلى، فحذف الألف وهي أوجب ثباتاً من الياء. ومن قبل الوصية في أن لا يكون آخراً، فأشر عليه أن لا يجاور الأخير في السير، فإني لا آمن عليه أن يفعل به ما فعل بألف مروان وعثمان وواو منصور وهمزة سبائب وزاي منازل وحاء حباحب، وهاء شاهد. وأما الأول فلا نعلم جاره الناس الحروف ملقي إلا خيراً. إلا أن الحيطة لمجاور الأول من السارين أن يجعل دونه سواه، لأنه إذا جاء ترخيم التصغير حذف الأول الزائد، وإذا كان بعده حرف مثله في الزيادة حذف معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وليس حذفه لجوار ذلك الحرف، وإنما هو محذوف للزيادة، ولا ينكسر بهذا ما أصلت. ولو رخمت منطلقاً لقلت: طليق، فحذفت الميم والنون، وليس هذا الحكم متعلقاً بالأول والآخر، وإنما هو متعلق بالزائد والأصلي. وكأني بوالي هذا المصر كامل صنيعة السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - وقد ركب لحياطة الجالية وكف الدعرة، وقد سكنت الدموك المجعجعة لطعامه على النقمى، وهرب الفعفعى الذي كان يسحط له النقد ويشصب أولاد الحذف، وخمد حميس الحضاء الخامط لخوانه البذج أو العمروس في أين الآزة من المغرغرات، من يلقي إلى صاحب قناعه شبيهات الزبرقان. وهو بإقبال السيد " عزيز الدولة أمير الأمراء " - أعز الله نصره، متجلد على ذلك لم يبن فيه الخور ولا الضعف. فمثله مثل سميه من الشعر وهو الوزن الكامل تذهب منه ست حركات فلا يغيض ذهابهن منه، بل يمكث على السجية المعهودة، ولا يعلم ما ذهب منه إلا أهل الخبرة، كما قال " عنترة ": بَكرَتْ تُخَوِّفُني الحُتُوفَ كأَنني ... أَصبحتُ من غرَضِ الحُتُوفِ بِمَعزِلِ فاقْنَى حياءَك لا أَبَا لَكِ واعلمي ... أَني امرؤُ سأَموتُ إِن لم أُقْتَلِ إِني امرؤُ من خَيْرِ عَبْسٍ منصباً ... شَطري، وأَحْمِي سائري بالمُنْصُلِ فالبيت الذي قافيته: بالمنصل، قد ذهبت منه حركات ست، وهو في الغريزة كغيره من الأبيات لم يبن فيه الخلل ولا التقصير. وكذلك أهل الفضل والبقية يصبرون في الشدائد ويتحملون، ولا يشعر عامة الناس بما عندهم من فقر المال ومعاناة الخطوب. وأهل الشفقة والخفة تبدو منهم الشكية ويظهر الشكع. فمثلهم مثل قول " الأعشى ": تَسْمعُ للحَلْيِ وَسْواساً إِذا انصرفتْ ... كما استعانَ بِرِيحٍ عِشرِقٌ زَجلُ أول حرف ذهب منه عرف خلله وظهرت شكيته، ولم يتجمل فيصبر كما صبر قول " امريء القيس ": كدَأبِكَ من أمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها ... وجارتِها أمِّ الرِّبابِ بمَأسَلِ قد ذهبت منه أربعة أحرف ولم يعلم بذهابهن. وأما صاحب المعونة فكان مثله مثل " ما " الحجازية بطل عملها فكأنها صارت التميمية، لأنك إذا قلت: ما زيد قائماً، ف " ما " قد علمت الرفع والنصب. وإذا قلت: ما زيد قائم، فما لم تعمل شيئاً. وأما القاضي فتربك هذه الأرض ولحق بوطنه " بالس " ردته إليها الضرورة، فكان مثله مثل المرفوع من الأعلام في النداء لما لحقته الضرورة فنون، رجع إلى أصله وهو النصب، كما قال " مهلهل ": ضربتْ صدرَها إِليَّ وقالتْ ... يا عَدِيّاً لقد وقَتْكَ الأَواقي وكما قال الآخر: دعَوتُ عَدِيّاً والمَهَامِهُ بيننا ... يا عَدِيّاً يا عَدِيَّ بنَ نَوفَل وأما العدول، فوضعوا السيجان والمشاوذ وتهيئوا للنفر إن صاح الصائح فكان مثلهم مثل الأسماء المتغيرة عن هيئتها عند الضرورة، كما قال الراجز: جاءَت عجوزٌ مِنْ أَعَالِي البَرِّ قد تركتْ حَيْهِ وقالت حَر ثم أَمالتْ عُنُقَ الحِمَرِّ سَيْراً على جانبِها الأَيسَرِّ فنبى الحمار، وهو فعال، على فعل. وقالت أخت " حازوق الخارجي " ترثيه: أُقَلِّبُ عَيني في الفوارِسِ لا أَرى ... حِزَاقاً وعَيْني كالحَجاةِ من القَطْرِ فنقلته من فاعول إلى فعال. وكذلك قول " دريد ": أَخُناسُ قد هامَ الفؤادُ بكم ... واعتادَه نُصْبٌ إِلى نُصْبِ وكأني بأصحاب البز وقد كفت عن أرجلهم الحيش، وخلط هلعهم بين ثياب العطب وثياب الشريع، جعل السبيبة مع المخيط، وأضاف البجد إلى ما رق من البرود. فكان مثلهم مثل من ركب قصيدة مقيدة جمع في رويها المسكن، بين أشتات الحروف، ولم يبال إذا سلمت له القافية من لحاق العيوب كيف وقع ترتيب الكلمة في الأصل. ألا ترى أن قول " الأعشى ": لَعَمْرُكَ ما طولُ هذا الزمَنْ ... على المرءِ إِلا عَناءٌ مُعَنْ قد جمع بين قوافيه وهي مختلفة النجار، لأنه قال: الزمن، فسكن ونونه في الأصل مكسورة، ثم قال: معن، فحذف من الكلمة حرفين وجعل النون التي أصلها السكون مع النون التي أصلها الكسرة؟ وقال فيها: وأَشربُ بالريفِ حتى يقالَ ... قد طال بالريف ما قد رجَنْ فجاء بنون أصلها الفتح. وقال فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ومِنْ شانيءٍ كاسِفٍ وجهُه ... إِذا ما انتسبْتُ له أَنْكَرَنْ يريد: أنكرني. فجعل مع النونات، التي تدخل لسلامة آخر الأفعال الماضية من الكسر، وهي مباينة لنون: زمن ومعن ورجن. وكذلك البزاز لا يحفل إذا سلم متاعه باختلاف الترتيب. فأما الصيدلاني فكان دكانه مرتباً على أحسن هيئة كما نضد " ذو الرمة " قصيدته البائية: ما بالُ عَيْنِكَ منها الماءُ يَنْسَكِبُ والميمية: أَأَنْ تَرَسَّمتَ من خَرْقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عَينيك مسجومُ وإنما ذكرت هاتين القصيدتين لأنهما على طولهما سلمتا من الزحاف الظاهر في الغريزة، ولم يأت فيهما نحو من قول " الأعشى؛: عُلِّقْتُها عَرَضا وعُلِّقَتْ رجلاً ... غيري، وعُلِّقَ أخرى غيرَها الرجل ولا مثل قول " زهير ": قد جَعَلَ المُبتَغونَ الخَيرَ في هَرِمٍ ... والسائلونَ إِلى أَبوابِه طُرُقَا والمثل قول الآخر: نَكفِيه إِنْ نحنُ مُتْنا أَن يُسَبَّ بنا ... وهْوَ إِذا ذُكِرَ الأَبناءُ يَكفِينا فانتقض ترتيب الدكان حتى صار كأنه كلمة " عدي بن زيد " التي على الراء المقيدة، أو أبيات " بيهس، المعروف بنعامة " وإنما سميتها أبياتاً لأن الرواة يوقعون عليها هذا الاسم، ولا نظام لها في الحقيقة. والأبيات: يا لَها نفساً يا لَها ... أَنَّى لها الطُّعُم والسلامَهْ قد قتل القومُ إِخوتَها ... فبكلِّ أَرضٍ زُقاءُ هامه فلأَطرُقَنْ قوماً وهم رقودٌ ... ولأَبْرُكَنْ بَرْكَ النعامه قابِضَ رِجْلٍ وباسِطَ أخرى ... والسيفَ أَقرمُه أُسَامه فترى الدكان وقد اختلط إهليجه بالعناب والصبار، ووتيره المعلول بسليل المصاب قد وقع فيه بعض الأدهان. وكذلك القاهي صار عنجده مع البلس وخليط الضرو، وفرى عفزه بالقمروض، ولحق في تغير الهيئة بالصيدلاني. وتخلو عند ذلك أحشاء الخضر والسود اللواتي طال ما اشتملن على ضمائر حارة باردة، تلذها أفواه الواردة. ويعطل في هذه الفادحة بيت المسيح فلا يدخله المسلم ولا النصراني. ويكون ماؤه في اليوم الأول شخيماً وفي اليوم الشافع بارداً، ثم تصفر أنابيب الحميم فتصفر بها جنود الريح. ويأخذ أخو الضغيل سيفه الذي يزعم أنه من الجنثى المنسوب من رهط مخزم أو رسوب، وذات نصابه الجارية على رءوس السوق والملوك فلا تزال ترتع في أسود حلكوك مثل التنوم، وأصهب كأنه لحي الروم وخليس كريم الجاشر ومصوح الرياض وأهل علوة إذا خالطوا أهل طراز، وأبيض كأنه الثغام. ويضيف إلى هذين المذكورين، صنوين له مملوكين يرعيان في الأماكن العزيزة وهما متفقان ولا يمكن أحدهما مرعاه وهما مفترقان. فيذهب لشأنه في أرض الله أين ما وقع خدم وأرق الدم، فلا يطلب أبداً بثار ولا يحسب قبيح الآثار، وقد حمل معه خضراوين تمتلئان كل يوم وتفرغان من دماء أهل العمد أو أهل المغاني. وأما قين القلبة والخدم وصانع الرعاث والثوم والذي يزين صغريات الشناتر بالفتخة أو الحلق المتخذ من سام خزيبة أو سيراء ذي سامة، فخمد أجيج ناره، وخلص من الجحيم شخص ديناره؛ ورأيته يحمل أداته، روحته للهرب أو غداته: يا لَبَكْرٍ انشروا لي كُلَيْباً ... يا لَبَكرٍ أَيْنَ أَينَ الفِرارُ فمثله مثل شاعر مجيد كان يصنع في مدائح " السيد عزيز الدولة، أعز الله نصره " صنوف الأشعار المختلفة بين خفيف وثقيل، وكلاهما يحسن من القيل؛ وبيت قصر وبيت طال، وكل ما صنع ليس بالمعطال؛ فمن قصيدة كالخلخال ليس بناؤها من معنى بخال، ومن أخرى مثل السوار صدرت عن صدر بالفكرة شديد الأوار، وسائرة في الآفاق خفيفة المحمل على الرفاق، كأنها القرط العطر أو الشنف، حملته الأذن وساف رياه الأنف، وأبيات عملت في بديه ختم بها المجلس ونجوى ناديه، فكأنها خاتم يد ختم بها وقت غير مفند؛ فأدركته علة من أمر الله عاقت الخلد عن الفكر واللسان عن الذكر. وأما الهالكي في هذه الناحية، فإنما يصنع خصيناً أو مسحاة أو حدأة منحاة أو سنة ينتفع بها في المعزقة. وربما صنع مدية للأقلام وذات جزأة يذمها أوداج الذبيح. ومهما فعل فإنه لا محالة سيرفض فلا ينظر إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وسوف تبطل ذوات السموم فلا ينتفع بها، بالذنب ولا الرأس، ولا يهش من أولع بها للمراس. وما يصنع القوم في هذه الحزة بالنصيح والشليل، وهو أوان يلقي الرجل أسمال قميصه ويقتنع بزهيد القوت لخميصه؟ وكأني بالضعفاء من أهل القصبة أو هذي القريات وقد عمدوا لهذه البقول فنهبوها نهب المنفسات، وحملوها في الكرزة والجشر إلى شعث يابسات من كل عجوز كالسفود لا تعرف حلب الرفود. فإذا فنى ما ظهر منها للعين حفروا عما بطن باليدين، فترى صاحب الجمازة من الحليت يحتفر كأنه الشب يكشف عن أصول الرخامى النابتة سقاها الربب، فهو كما قال " عبيد ": أَوْ شَبَبٌ يَحفِرُ الرُّخامَى ... تَحفِزُه شمالٌ هَبُوبُ وكما قال " خفاف ": يَصِيدكَ العَيْرَ يَرُفُّ النَّدَى يَحفِرُ في مُبْتَكرٍ رَاعِدِ ويئس العامل مما في البستان فيذر الاستقاء. وأفوز بالراحة بعض ساعة من اليوم، فأكون كما قيل في المثل: " نعيم كلب في بؤسي أهله " - وذلك أن القوم إذا أصابتهم السنة ماتت أموالهم فنعم بأكلها الكلب - ثم يجيء رسول الملاك فأقرب إلى ما هو شر علي وأشق: أوتي بأشياء كثيرة مختلفة يراد مني أن أسير حاملاً لها في الرفقة، منها جربة فيها جشب من الطعام، وسفيح قد مليء من الأسفار، ومخلاة عظيمة قد أخذت فوق ما تحتمل من العسوم، وقراطف أخلاق، وبراجد وضروب مما لا أعلم إلا أنها مثقلة ولا أطيق. فأحمل وأنا أفكر وآسف على ما كنت فيه، وأتمنى العدوة إلى هذا المدار؛ والحمل يتساقط ويتواقع كما قال " سعد بن مالك ": وتساقُطَ التَّنْواطِ والذَّنبا ... تِ إِذ جُهدَ الفِضاحُ مَنْ فرَّ عنْ نِيرانِها ... فأَنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ فيلهمني الله تعالى أني لا أخلص إلا بسوء الخلق، وألتفت فأرى عجوزاً تريد أن تركب على ذلك الحمل، أو شيخاً شراً من تلك العجوز: سُلَيْمَى أَنتِ في العِيرِ قِفي إِن شِئتِ أَو سِيري فأما أنا فما عندي من نطيش. وآخذ عند ذلك في ضرب الند والزم. خسا زكا، إليك إليك: مَنْ مُبلغٌ عني يزيدَ بنَ الصَّعِق دونكَ ما استحسنتَه فاحْسُ وذُقْ 3ق - د كنتُ حذرتُكَ آلَ المصطلقْ وقلتُ يا هذا. أَطِعْني وانطلِقْ إِنكَ إِنْ حمَّلتَني ما لم أَطِقْ ساءَك ما سرَّك مني من خُلق والذين أرادوا تحميلي، قيام ينظرون ويقولون: ما كانت هذه له بعادة! وقد زعمتْ أَني تغيَّرتُ بعدَها ... ومَنْ ذا الذي يا عَزَّ لا يتغيرُ فأضرب عصياً كثيرة وأنا لا أزيد على خبط الأرض بالحوافر، فليت شعري على اي صرعى أقع؟ هل أترك وما أريد، أم أحمل على شصاصاء؟ وأما يهود فهي في هذه البلدة ثلاث فرق: صباغون، ودباغون، وحاكة في الكلم لا غون. فأما أهل الصبغ فيردون إلى الناس متاعهم أصفر وأحمر وأزرق كأنه أنوا الربيع، وإن قدروا على ما في الأنفس لحقوا باليرابيع. وأما أصحاب الأهب والنفوس فيشفقون عليها إشفاق تاجر اليمن على الشفوف، ويرون الآفق من حفظ أفيقه، وفائت المنية من أحرز منيئته. فيظل الواحد منهم وقد جمع فوق رأسه أصنافاً من الأدمة وهو يتخير لها المعاقل. وأين الهرب من قضاء الله؟ لَنْ يُسبَقَ اللهُ على حِمارِ ... ولا على ذي سَيعَةٍ سَيَّارِ قد يُصبحُ اللهُ أَمام السارِ وأما الحائك فيطوي الشقة وبعضها قد نسج وبعضها ليس بنسج، كأنها كلمة الفحل من الشعراء قد نظم بعضها وتصور الغابر منها وإنما شبهته بالشاعر لأن " كعب بن زهير " قال: فَمن لِلقَوافي بعدَ كعبٍ يَحُوكُها ... إِذا ما ثَوَى كعبٌ وفَوَّزَ جَرْوَلُ وإنك لتشاهد هذا الرجل من يهود وقد أحس بالخويخية فصار وجهه مثل الفرسكة، وعمد إلى الخوخة فاستخرج منها مشمشيات الألوان كان يدخرها لأم خشاف والعنقفير، وجعل هبرزياً في فيه وأزم عليه إلا مقدار الحذرفوت، فكأنما غيب منه الفوقانية إلا مثل الفسيط. وبادر به إلى المكارين يكشر لهم عن ذلك الخبيء. ويكون كراؤهم قد وقع بالدراهم، فتحملهم بالرغبة فيما مظهر لهم، على الغدر. فكلما أجابوه إلى ما يسأل أبرز لهم شيئاً من الدينار، حتى إذا تمت الموافقة بصق نقيشاً يتلهب فبل عند ذلك بعير يحمل عليه أو بغل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وإنك لترى الضرورة الواقعة وقد فعلت في القوم الشيء وضده، وذلك بقضاء الله العالم بخفي الأمور: فترى الرجل أخا النشاط والمرح قد حمل على ظهره الأوق المثقل، فصار يهدج هداج الشيخ ويدلف دليف الهم الكبير. وترى الآخر الذي كان يمشي هوناً على الأرض وقد استعجله عن السجية الخوف فأرغب الشحوة واجتهد في التوقص، فيكون مثله ومثل الذي قبله، مثل " امريء القيس " و " طرفة " وقد حملت الضرورة " الكندي " على أن يسكن الباء في قوله: فاليومَ أَشربْ غيرَ مُستَحقبٍ ... إِثماً من اللهِ ولا واغِلِ هكذا أنشده " سيبويه " وقد خولف في هذه الرواية. وحملت الضرورة " البكرى " على أن حرك الباء في قوله: اِضرِبَ عنك الهموم طارِقَها ... ضربَك بالسَّوْطِ قَوْنَسَ الفرس والبصريون يرون أنه أراد النون الخفيفة فحذفها وبقيت الحركة. وكان " الفراء " يذهب إلى أنه لما تتابع متحركات أربع كل واحد منها بعده ساكن، حسن في نفس الشاعر أن يحرك بعض السواكن. وهذا قول حسن لأن أعدل الكلام عندهم متحركان بعدهما ساكن، أو ساكن بين متحركين. وإنك لترى الرجل من يهود، وهم أهل لين وضعف، يظهر التشدد والتجلد على ما نزل فيخرج به ما فعل عن الطبع، ويكون مثله مثل الحرف الذي يقع به التشديد في الوقف ثم يستعمل كذلك في الوصل فينكره السمع وتنفر منه الغريزة، كما قال " هميان بن قحافة " وذكر الثور الوحشي: والقَطْرُ عن مَتْنيه مُرْمَعِلُّ ... وهوَ إِلى الأَرطاةِ مُستَظِلُّ يقولُ: أَصبِحْ ليلُ، لو يَفْعَلُّ ... حتى إِذا الصبحُ بدا الأَشعَلُّ ظلَّ كَسَيْفٍ شافَه الصَّيقلُّ ألا ترى إلى لام: الأشعل، والصيقل، ويفعل، كيف خرجت بالتشديد عن حال العرفان؟ ويهود لا بد لها من لين. ومثلها مثل الأشعار التي لا تخلو أواخرها من الحروف اللينة، وإنما ألزمت ذلك لأنه أحسن بها عند السماع وأسلم لها في اللفظ. وهي تنقسم قسمين: منها ما يلزمه مع اللين التقييد، ومنها ما يكون مطلقاً. فالمقيد مع اللين مثل قول " طرفة ": مَن عائدِي الليلةَ أَمْ من نصيحْ ... بِتُّ بِهَمٍّ ففؤادي قريحْ ومثل قول " ربيعة بن مكدم ": شُدِّي عليَّ العصْبَ أُمَّ سَيَّارْ ... فقد رُزِيتُ فارساً كالدينارْ ولا ينكسر لزوم اللين هذا الوزن بقول الراجز: أَسْبِلْنَ أَذيالَ الحِقِيِّ وارْبَعْنْ مَشيَ حَيِيَّاتٍ كأَنْ لم يَفزعْنْ إِن يُمنَعِ اليومَ نِساءٌ تُمنَعْن لأنه محسوب من الشواذ، وإنما كلامنا على ما يكثر ويتعارف. والأوزان التي يلزمها اللين والتقييد تسعة عند " الخليل " وعشرة في قول " سعيد بن مسعدة " ولا أذكرها فأطيل. والمنطلق الذي يلزمه اللين - وهو الألف أو الياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها - مثل قول " أبي خراش ": لَعَمْرِي لقد راعتْ أُمَيْمَةَ طَلْعَتي ... وإِن ثوائِي عندها لَقلِيلُ ومثل قول الآخر: الخَيْرُ ما طلعتْ شَمْسٌ وما غَرَبَتْ ... مُعَلَّقٌ بِنواصِي الخَيْلِ مَعصوبُ ومثل قول الآخر: هَلاَّ سَأَلتَ بِرَامَةَ الأَطلالا ... ولقد سألتَ فمَا أَحَرْن سُؤالاً فهذه أوزان لا بد في أواخرها من أحد حروف اللين. وقد ذكر " سيبويه " في الإدغام قول الشاعر: وما كلُّ مُؤتٍ نُصحَه بِلَبيبِ وذكر أن اللين له لازم. ودل كلامه على أنه لا يجوز أن يستعمل في هذا الوزن قبل الروي ياء مفتوح ما قبلها ولا واو كذلك. وقد ذكر " حبيب بن أوس " في الحماسة أبياتاً على هذا الوزن وقبل رويها ياء مفتوح ما قبلها، وأولها: لَعَمْرُكَ ما أَخْزَى إِذا ما سببتني ... إِذا لم تَقُلْ بُطْلاً عليَّ ولا مَيْنَا ويروي: نسبتني: والأبيات معروفة. وهذا خلاف ما أصله " سيبويه " إلا أن قوله يحمل على ما كثر وعرف، لا على ما قل وندر. والياء والواو إذا انفتح ما قلهما ففيهما بعض اللين وإن لم يكمل مثل كماله في: عود، وعيد. وهذا الوزن الذي زعم " سبيويه " أنه لا يفارقه اللين، لا يوجد في شعر العرب إلا على ما قال، ولو فارقه اللين لضعف وقبح، كما ضعف قول " امريء القيس ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ولقد رَحَلْتُ العِيسَ ثم زجرْتُها ... وَهْناً وقلتُ عليكِ خَير مَعَدِّ وعليكِ سَعدَ بنَ الضِّبابِ فَسَمِّحي ... سَيراً إِلى سَعْدٍ عليكِ بِسَعْدِ أفلا تسمع هذه القافية كيف ضعفت لفقد اللين؟ فأما الذي يلزمه مع الردف التقييد فقد يجيء مما قبل واوه ويائه وهو مفتوح، وذلك فيه أكثر منه في المطلق. قال الشاعر: يا رُبَّ مَنْ يُبغضُ أَذْوادَنا ... رُحْنَ على بغضائِه واغتديْنْ لو يُصبِحُ المَرعَى على أَنفِه ... لَرُحْنَ منه أُصُلاً قد أَنينْ وقال الراجز: ما لَكَ لا تَنْبَحُ يا كَلْبَ الدَّومْ ... بعد هدوءِ الحيِّ أَصواتَ القَوْمْ قد كنتَ نبَّاحاً فما لَكَ اليَوْم فمثل يهود مثل هذه القوافي لا يحسن بها فقد اللين. وتختلف آراء الناس في هذه الجولة ويغرها من الجولات، ويكون اختلافها متبايناً كاختلاف العرب في النشيد: فالمقيم منهم مثله مثل الذي يقف على البيت المطلق إذا أنشده بالسكون، فيقول: أَقِلِّي اللَّومَ عاذِلَ والعِتابْ ... وقولي إِن أَصَبْتُ لقد أَصابْ والذي يفر إلى مظنة الأمن، مثله مثل الذي يثبت الألف للترنم فيقول: العتابا، وأصابا؛ وهو الذي فعل ما يجب. ومن رحل إلى موضع لا يأمن فيه، فمثله مثل من ينون القوافي في غير موضع التنوين، فيقول: العتابن، وأصابن. وإنك لتشاهد في القوم الجالين رجلاً فيه أيد وقوة وقد نظر إلى رجل ضعيف وعليه أوق ثقيل فيقول: أعطني أوقك أخفف عنك! فربما حمله عنه الساعة أو الساعتين، فإن كان المنقول إليه الثقل متقدماً فمثله مثل الحرف الذي يكون قبل الحرف الموقوف عليه فتنقل إليه حركته، كما قال " جرير بن عبد الله البجلي ": أَنا جريرٌ كُنْيَتي أَبو عَمِرْ ... أَجُبناً وغيْرةً خلفَ السَّتِرْ قد نصرَ اللهُ وسَعْدٌ في القَصِرْ وقال آخر يوم فتح مكة من حزب الكفار: قد علِمتْ بيضاءُ من بني فِهِرْ ... نقِيةُ الوجهِ نقية الصَّدِرْ لأَضربنَّ اليومَ عن أَبي صَخِرْ فهذا يستعلمونه في الوقف وليس بضرورة. فإذا أطلقوا حسب من الضرورات كما قال " أوس بن حجر ": أَبَنِي لُبَيْنَى لَستُمُ بِيَدٍ ... إِلا يداً ليست لها عضُدُ أََبني لُبَينى إِن أُمَّكمُ ... أَمَةٌ وإِن أَباكمُ عَبُدُ يريد: إن أباكم عبد، فحرك الباء بحركة الدال كأنه يريد الوقف ثم أطلق وبقيت الباء على الضم. وإن كان الذي ينتقل إليه العبء متأخراً في الرفقة، فمثله مثل الحرف الذي تأتي حركته على ما بعده، كما قال رجل من أهل السراة: أَلاَ رُبَّ مَوْلودٍ وليسَ له أَبٌ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدِه أَبَوانِ يعني آدم والمسيح صلى الله عليهما. وكما قال الآخر: فواللهِ لولا بغضُكم ما تركتكم ... ولكنني لم أَجْدِ من بُغضِكم بُدَّا فسيبويه يرى في قوله: " لم يلده أبوان " أنه مفتوح الدال، وأنهم لما سكنوا اللام وهي مكسورة فراراً من الكسر، لم يكونوا ليكسروا الدال، والفتحة عنده لالتقاء الساكنين ولإتباع الفتح الفتح في ياء: يلده. ومن أجاز الكسر في: لم يلده، فإنه يحمله على أحد وجهين: التقاء الساكنين، أو نقل حركة اللام إلى الدال. وهذا الوجه الذي يصح عليه التشبيه المقصود في هذا الموضع من نقل العبء عن المتقدم إلى المتأخر. وإنما قلت ذلك لأن الحركة ثقل على الحرف. وقد قال بعض الناس في قول " عامر بن جوين ": فلم أَرَ مثلَها خُبَاسةَ واحدٍ ... ونَهنَهتُ نفسِي بعدما كِدتُ أَفْعلَهْ أنه نقل حركة هاء التأنيث إلى اللام. فأما " سيبويه " فدل كلامه على أنه أراد: أن. ويقال: بل أراد النون الخفيفة. وإذا صح مذهب من يزعم أن حركة هاء التأنيث تنقل إلى ما قبلها في الوقف - وهي عندهم لغة لخمية - فهي مثل لرجل طرح ثقل نفسه وحمل ثقل غيره. وقد يتصرف ذلك على الحمد والذم، فإذا حمل على التضييع فهو مذموم كما قال القائل: كتارِكَةٍ أبَيْضَها بالعراءِ ... ومُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخرى جَنَاحَا وإذا حمل على الإيثار فهو محمود، كما قال " عروة بن الورد ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أَقسِّمُ نفسي في جُسومٍ كثيرةٍ ... وأَحْسو قَرَاحَ الماءِ والماءُ باردُ ومن هذه اللغة اللخمية قول الشاعر: فإِني قد رأَيتُ بأَرضِ قومي ... حوادثَ كنتُ في لَخمٍ أَخافَهْ ينشد بفتح الفاء. وكذلك قول الراجز: ليسَ لواحدٍ عليَّ نِعْمَهْ لا ولا اثنَيْنِ ولا أَهمَّهْ يريد: ولا أهمها. حكاه " المفجع " في حد الإعراب. وإنك لترى في الظاعنين شهلة من النساء وهي على أحد بنات صعدة وحمله من تحت متشاول كأنه قول " زهير ": ولَنِعْمَ حشوُ الدِّرْعِ أَنتَ إِذا ... نَهِلتْ من العَلَقِ الرماحُ وعَلَّتِ والشطر الثاني زائد على الشطر الأول بثلاثة أحرف. وكذلك قول الآخر: ولقد هدَيتُ الركْبَ في دَيْمومَةٍ ... فيها الدليلُ يَعَضُّ بالخَمْسِ فهذا زيادته في شطره الأول، وهي ثلاثة أحرف. ولا تزال تلك الراكبة في ويل وأليل واستغاثة بالمكارين، فهل يعرف كريها قول " عذافر بن أوس الكندي ": يا ليتَ أَني لم أَكنْ كَرِيَّا ولمْ أَسُقْ بِشَعْفَرَ المَطِيَّا بَصْرِيَّةٌ تزوجتْ بَصريا يُطعِمُها المالِحَ والطرِيَّا وربما رأيت السبروت الضعيف وقد حمل أربعة من أولاده في مكتلين أو سفيحين وجعلهم على حمار وان، وإن تلك لأعجوبة عند البهائم. ومثلهم مثل أربعة أحرف متحركات جمع بينهن في الشعر فشهرن واستثقلن كما قال " ابن ميادة ": لَه الفِعالُ وله الوالدُ الأك ... بَرُ فالأَكبَرُ فالأَكبَرُ فلام الفعال، والواو بعدها، واللام والهاء: كلهن متحركات. أفلا ترى كيف ثقل بهن الوزن؟ وكذلك قول " الهذلي ": فَسَمِعَتْ نَبْأَةً منه وأَرْسَلَها ... زُرْقَ العُيونِ على أَعناقِها القِدَدُ فأما المحمل فربما اجتمع فيه ستة من العيلة، وليس لذلك مثل في المتحركات إذا اجتمعن في المنظوم، لأنه لا يزاد فيه على جمع بين أربعة أحرف متحركة، فأما النثر فيجمع الناطق فيه بين متحركات كثيرة لأنه يقدر أن يقول: ضرب وفعل وصنع.. إلى أن ينقضي النفس. وأكثر ما اجتمع في كتاب الله " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " وجل من الحروف المتحركة ثمانية، وذلك في موضعين من سورة يوسف: أحدهما قوله تعالى: " أني رأيت أحد عشر كوكباً ". فبين واو كوكب وياء رأيت، ثمانية أحرف كلهن متحرك. والموضع الآخر قوله " تعالى ": " حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي ". على قراءة من حرك الياء في: لي، وأبي. ومثل هذين الموضعين قوله تعالى: " سنشد عضدك بأخيك ". " والغرض من هذا، مالا ياء فيه تتحمل الحركة والسكون ". وربما عاينت المرأة الراكبة أو الماشية وعلى كتفها أو في حجرها صغير مثل التولب، وقد أخذه منها أبوه فتقدمها بالخطوات، وفصل بينها وبينه سواه، فهي تنظر إلى ولدها نظر شفيق لا تصل إليه. وهو ينظر إليها نظر فقير إلى ما في الثدي. فمثلهما مثل المضاف والمضاف إليه يفصل بينهما بالظرف والمصدر، وكل واحد منهما شديد الحاجة إلى صاحبه، كما قال " ابن قميئة ": لَمَّا رأَتْ ساتِيدَما استَعْبرتْ ... للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لاَمَها تقديره: لله در من لامها اليوم. وقال آخر: فَرِشْنِي بِخَيرٍ لا أَكونَنْ ومدْحَتِي ... كنَاحِتِ يوماً صَخرةٍ بِعَسِيلِ يريد: كناحت صخرة يوماً. والعسيل ريشة العطار. فإن بعد بالطفل أبوه حتى تكثر الفواصل بينه وبين أمه، فمثلهما كمثل قول " ذي الرمة ": كأَنَّ أَصْواتَ مِن إِيغالِهنَّ بنا ... أَوَاخرِ المَيْسِ أَصواتُ الفراريجِ فرق بين أصوات، وبين أواخر الميس بقوله: من إيغالهن بنا. وهذا أكثر من الفرق الأول وأشق. وقد تكون الوالدة من المسرفات في الإلاحة وسوء الظنة، فيشفها أن تفارق ولدها وإن كان بإزائها على كتف أبيه أو أخيه، فمثلهما مثل الباء الخافضة يفرق بينها وبين المخفوض وهي كأنها متصلة به لأنها حرف واحد لا يقوم بنفسه. وذلك قليل رديء. وقد روى بيت للفرزدق: وإِني لأَطْوِي الكَشْحَ مِنْ دُونِ ما انطوَى ... وأَقطعُ بالخَرْقِ الهَبُوعِ المُرَاجِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يريد: وأقطع بالهبوع المراجم الخرق. وهذا قبيح معدوم. وقد كان " الفرزدق " يتبع شواذ القول ويجيء بكلامه على سوء النظم. وأما أتباع الناس في هذه الروعة وغيرها من الروعات فإنهم على ضربين: أحدهما تابع قديم قد لزم أمره فصار كأنه من صميم القوم فمثله مثل همزة أحمر وإثمد وإصبع، تثبت ثبات غيرها من الأصلية. والضرب الآخر حدث مع الضرورة، وهو على أنواع: منه ما زيد للحاجة إليه فعرف مكان زيادته وثقل على الناهض بشئونه. فمثله مثل ألف الاستفهام وواو العطف وفائه وغيرها من الحروف الفاردة تزاد على الأبيات التامة وهي غنية عنها، ليعلم أنها استفهام أو معطوفة على ما قبلها من الأبيات. وقد حكى " محمد بن يزيد المبرد " في كتاب التعازي أن بعض الرواة ينشد قول " الخنساء " بزيادة آلف الاستفهام، يعني قولها: أَقَذًى بِعيْنِك أَم بالعَيْنِ عُوَّارُ ... أَم ذَرفَتْ أَنْ خَلَتْ من أَهْلها الدارُ والبغداديون الآن ينشدون كثيراً من أبيات قفا نبك التي في أوائلها: كأن، بزيادة واو العطف، وهو شيء أخذوه عن الشيوخ الماضين، فيقولون: وكأَنَّ دِماءَ الهادياتِ بِنَحْره وكأَنَّ ذُرَا رأْسِ المجَيْمِرِ غُدْوَةً ولا أستحسن ذلك، ولا أزعم أنه يفعله إلا قوم لا يحفلون بإقامة الوزن. وقد حكى أنهم ربما خزموا بالحرفين مثل: هل، وبل. وقد ادعى على " طرفة " أنه خزم النصف الأول والثاني فقال في قصيدته التي أولها: أَشجاكَ الرَّبْعُ أَم قِدَمُهْ ... أَمْ رَمادٌ دارِسٌ حُمَمُه هل تذكرون إِذ نُقَتِّلُكمْ ... إِذ لا يضرُّ مُعدِماً عَدمُهْ فخزم الأول بهل، والثاني بإذ، وإنما تقويم الوزن أن يقال: تذكرون إِذ نُقَتِّلُكُمْ ... لا يضُرُّ مُعدِماً عَدمُهْ وكذلك ينشده البغداديون اليوم، والرواية الأخرى معروفة. وقال ذكرت عن " ابن الأعرابي " في قصته مع " الحسين بن الضحاك الخليع " ومن أتباع الناس ما يلحق للضرورة إلا أن الحاجة إليه أدعى منه إلى ما تقدم ذكره، فيكون مثله مثل الواو والياء والألف يزدن لإقامة الوزن، كما قال الراجز: لو أَنَّ عِندي مائِتي دِرْهَامِ لاَبْتعْتُ داراً في بني حَرامِ وعِشتُ عَيْشَ الملِكِ الهُمامِ وسِرْتُ في الأَرْضِ بِلا خاتامِ فهذا زاد الألف. وقال آخر فزاد الواو: خَوْدٌ أَناةٌ كالمَهاةِ عُطْبُولْ كأَنما رِيقَتُها القَرَنْفُول وأما قولهم: أنظور، يريدون: أنظر، فيقال إنها لغة لطيء. قال الشاعر: اللهُ يَعلمُ أَنا في تَحمُّلِنا ... يومَ الرحيلِ إِلى أَحبابِنا صُورُ وأَنني أَيْنما يَثْنِي الهَوَى عُنُقِي ... مِنْ حيثما يمَّمُوا أَدنو فأَنْظُورُ وأما قول " الوليد بن يزيد ": إِني سَمِعتُ بلَيْلٍ ... نحوَ الرُّصَافةِ رَنَّهْ خرجتُ أَسحَبُ ذَيْلي ... أنظورُ ما شانُهنَّه إِذا بناتُ هِشامٍ ... يَندُبْنَ سَيِّدَهُنَّه يَندبْنَ شيخاً كريماً ... قد كان يُكرِمِهُنَّه فإنه في كتاب " إسحاق بن إبراهيم ": أنظر ما شأنهنه، بغير واو. فإن صحت الرواية فهو كسر على رأي " الخليل " ولن يخفي قبحه في الغريزة. وإن أنشد بالواو على اللغة الطائية فالوزن صحيح. وقد زادوا الياء في: سواعيد، وأزاميل، قال " التغلبي ": وسَواعيدَ يُخْتَلَيْنَ اختِلاءً ... كالمَغَالِي يَطِرْنَ كلَّ مَطيرٍ وقال " الهذلي ": ولِلقِسِيِّ أَزاميلٌ وغَمْغمةٌ ... حِسَّ الشَّمالِ تَسوقُ الماءَ والبَرَدا وعض الناس يكون له تابع يستزيده في حال الإقامة، فإذا حان الظعن فارقه. فمثله مثل الحرف الموقوف عليه يشدد فإذا زال الوقف ترك التشديد. فيقولون: الطول، والأفكل. فإذا وصلوا الكلام لم يشددوا. وإن أجروه في الوصل على ما هو عليه في الوقف، فتلك عندهم ضرورة. كما قال الراجز: مُهْرَ أَبي الحَبْحابِ لا تُشَلِّي ... بارَكَ فيكَ اللهُ من ذي أَلِّ ومن مُوَصًّى لم يَدَعْ قِيلاً لي ... إِذ أَخذَ القلوبَ كالإِفكلِّ خَوارِجاً من لَغَطِ القَسْطلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وربما كان التابع أشد لزوماً من هذا النوع فيلغي عند الضرورة - ولا يثبت سوى الصميم. فمثله مثل الواو والياء اللاحقتين هاء الإضمار في مثل قولك: له، وبه. يحذفان عند الضرورة فربما بقيت الحركة وربما ألغيت، كما قال " الهمداني ": ولا يَسأَلُ الجارُ الغريبُ إِذا شَتَا ... بما زخَرَتْ قِدْري به يومَ ودَّعا فإِنْ يَكُ غَثّاً أَو سَمِيناً فإِنني ... سأَجعلُ عينيه لنفسِهْ مَقْنَعا وقال آخر: أَنا ابنُ كلابٍ وابنُ قَيْسٍ فمَنْ يَكُنْ ... قناعُه مُغطِياً فإِنيَ مُجْتَلَى أَنْحَى عليَّ الدهرُ كفّاً ويَدَا ... أَقسمَ لا يُصلِحُ إِلا أَفْسَدَا يُصْلِحُه اليومَ ويُفسِدُهْ غدَا وقال رجل من أهل السراة: فبِتُّ لدى البيتِ العتيقِ أُخِيلُه ... ومِطْوَايَ مُشتاقانِ لهْ أَرِقانِ ويدخل في هذا الجنس حذف التنوين، كما قال: كفاني ما خشِيتُ أَبو فِراسٍ ... ومثلُ أَبي فراسِ كفى وزادا والضرورة تحمل الرجل على أن يفارق من الأتباع من هو إليه محتاج مفتقر، إلا أنه عند الشدة يقتصر على اللوازم، كما قال " العبدي ": وسائلةٍ بِثعلبةَ بنِ سَيْرٍ ... وقد علِقتْ بثعلبةَ العَلُوقُ يريد: بثعلبة بن سيار، فرده من: فعال وهو اسم فاعل، إلى: فعل، وهو مصدر. وما أجدرك أن ترى في نهج الصرمان وغيرها من المذارع الشرقية ثلاثة يتعاقبون حماراً ضعيفاً كأنهم الحركات الثلاث المتعاورات آخر الأسماء، يدخلن على دم وإن قصر، كما يدخلن على سفرجل وإن طال؛ أو كأنهم الحركتان والسكون أو الحركتان والحذف الطارئ على الأفعال المعربة! وما يفتأ في الجالية - سلمهم الله - فكأنهما الحركتان المعاقبتان في آخر ما لا ينصرف، أو كأنهما الحرفان المتعاقبان في زحاف الشعر إذا سقط أحدهما ثبت الآخر، ويجوز أن يثبتا جميعاً ولا يجوز أن يجتمع فيهما السقوط. وهذان الرجلان ربما حملهما الأين على أن يركبا البهيمة معاً. إلا أن ثبات الحرفين في الشعر حسن وركوب هذين الراكبين ظهر البهيمة قبيح. ومثل ثبات الحرفين قول " امريء القيس ": ألا رُبَّ يومٍ صَالِحٍ لك منهن صالحٍ ... ولا سيما يومٌ بدَارةِ حُلْجُل ألا ترى أنه في الغريزة مستقيم؟ وإذا سقط أحد الحرفين أنكرته الحاسة كما أنشده بعض الرواة: أَلا رُبَّ يَومٍ لكَ منهنَّ صالحٍ فهذا يبين زحافة في الحس، وهو سقوط السابع من الجزء السباعي. ومعاقبه الخامس الذي بينه وبينه حرف متحرك، وقد سقط الخامس في قوله: إِذا قامتا تضوَّعَ المِسْكُ منهما ... نسيمَ الصَّبَا جاءَت بِرَيَّا القرنفُلِ فموضع الحرف الساقط، بين التاء والضاد من: تضوع. ويجوز أن تلقي الراكبين، هذا يركب مرة وهذايركب مرة ولا يجتمعان ألبتة على الركوب. فيكون مثلهما مثل الحرفين المتراقبين في الشعر: يجوز أن يسقطا على الانفراد، ولا يجتمعان في السقوط ولا في الثبات. وإنما شبهتهما بالنجمين المراقبين إذا طلع أحدهما في المشرق سقط الآخر في المغرب، وذلك في نجوم الأنواء الثمانية والعشرين التي ينزلها القمر. ورقيب النجم هو الخامس عشر في العدد. قال الشاعر: أَحَقّاً عِبادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ لاقِياً ... بُثينةَ أَو يَلْقَى الثريَّا رقيبُها أي أنهما لا يلتقيان أبداً. والذي يضيفه الإنسان إلى نفسه من الناس في هذه الشدائد، تكون إضافته غير محضة، بل هي في نية الانفصال، مثل إضافة اسم الفاعل إذا كان في الحال أو في الاستقبال: يضاف وهو في نية التنوين، ألا ترى أنه لا يتعرف بتلك الإضافة؟ وفي الكتاب العزيز: " هذا عارض ممطرنا " أي ممطر لنا. وقال " جرير ": يا رُبَّ غابطِنا لو كان يطلبُكم ... لاقَى مُباعدةً منكم وحِرْمانا ولو كان لهؤلاء القوم الظاعنين فارس مثل " العرني " وفرس كالعرادة، لأخذ لهم الخفر من " حلب حرسها الله " في الوقت الذي ليس بمتطاول، فإن الأخبار تختلف عند البيان: فبعضها يتبين في اليوم الأول، فمثله مثل المعنى الذي يتبين في البيت الواحد، كقول " زهير ": تَحمَّلَ أَهلُها منها فبانوا ... على آثارِ مَن ذهبَ العَفَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وبعضها لا يتبين إلا في اليوم الثاني، فمثله مثل المعنى المستودع في البيتين، كما قال " زهير ": تاللهِ قد علمتْ سراةُ بني ... ذبيانَ عامَ الجَدْبِ والأَصْرِ أَنْ نِعْمَ مُعتَركُ الجياع إِذا ... حُبَّ الطعامُ وسابىءُ الخَمْرِ وبعض الأخبار لا يتبين إلا بعد أيام يقل عددها أو يكثر، فمثله مثل المعنى الذي يبدأ به في البيت ثم لا يعرف تمامه إلا بعد أبيات، كما قال " سحيم ": فمَا بيضةٌ باتَ الظَليمُ يَحُفُّها ... ويَرفَعُ عنها جُؤجؤاً مُتجافِيا ويَجعلُها بينَ الجناحِ ودَفِّهِ ... ويُلْحِفُها وَحْفاً من الرِيشِ وافيا ويرفعُ عنا وهي بيضاءُ طَلَّةٌ ... وقد وافقتْ فَرعاً من الشمسِ ضاحيا بأَحسنَ منها يومَ قالت أَرائِحٌ ... مع الركبِ أَم ثاوٍ لدينا لَيالِيَا ألا ترى أن المعنى لم يكمل إلا في البيت الرابع؟ وقد أنعم الله على هذه الرفقة الراحلة بأمنها من العرب، بتدبير " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - لأن الله سبحانه أدال به الرعية ونقلها مما كانت فيه، فكان مثلها مثل لام التعريف، لما رآها الله تعالت قدرته تدغم في ثلاثة عشرة حرفاً من حروف المعجم على لغة أهل الحجاز والعالية وكل ساكن في أرض العرب إلا من شاء الله، قيض لها قوماً من اليمن من حمير، يجعلونها ميماً فلا تدغم في شيء من الحروف، كما لا تدغم فيها الميم والحروف التي تدغم فيها لام التعريف تنقسم في ترتيب حروف المعجم ثلاثة أقسام، فالقسم الأول حرفان متواليان وهما الثالث من حروف المعجم والرابع، وذلك: التاء والثاء - والثاني: عشرة أحرف متواليات أولها الدال على ترتيب حروف المعجم وآخرها الظاء. والثالث: حرف فارد تدغم فيه اللام وهو النون. وأما لغة حمير في تصييرهم لام المعرفة ميماً، فقد جاءت في الحديث المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال: " ليس من امبر امصيام في امسفر " ودخل " أبو هريرة " على " عثمان " وهو محصور فقال: " طاب امضرب " يريد: طاب الضرب. وأنشد " أبو عبيد القاسم بن سلام ": ذاكَ خَليلي، وذو يُناصِحني ... يَرمي ورائي بامْسَهمِ وَامْسَلْمَه يريد: بالسهم والسلمة. وأنشد غيره لبعض شعراء اليمن: سَبَتْنِي حِبَّتِي رُهْمُ ... بوَجْهٍ مِثلِ ذي امْشرْق وفرعٍ مثلِ عنَّابٍ ... وفَرْقٍ أَيما فَرْقِ إِذا تَمشِي تِدفَّاعاً ... كَمشي امْفحلِ ذي امْوَسْقِ أَلا يا لَيْتَها لُدْغَتْ ... وأُدْعَى كِيمَ ذي أَرقِي أراد: الشرق، والفحل " ذا " الوسق. وأراد بلدغت: لدغت، فسكن على لغة ربيعة، كما قال: دَبْرتْ صَفْحتاه وكاهِلُه وكأنك بالرجل من هؤلاء إذا سار الفرسخ أو الفرسخين، وضع ما حمله في دار المضيعة في بعض القريات ثم رجع يفتقد منزله وقد خبأ في جب له مالا يمكنه أن يحمله من القربشوش مثل إكاف حمار متكسر، وتابوت قدم. عليه العهد فتزايل، وجوالق فيه عفص أو نحو ذلك؛ وظن أنه قد أحرزه وهو ينادي على نفسه بأثر الطمر والحفر، لو دخل إليه من في عينيه الهدبد والسمادير أو الجذل أو الجثر والظفرة أو الجدجد والقمع، لم يخف عليه مكانه. فمثله مثل المضمر على شريطة التفسير لا يخفى مكانه على السامعين كما قالوا: نعم رجلاً زيد. ألا ترى أن في: نعم، ضميراً قد فسره قولك: رجلاً؟ وكذلك هذه الآية: " إنه من يأت ربه مجرماً " فالهاء في: إنه. قد فسرتها الجملة التي بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فليشكر أهل هذه البلاد ربهم عزت كلمته، ثم السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - كما أصلح أمورهم مع العرب، فسلكوا في واد وجبل وهم آمنون، وأن الله سبحانه رحمهم فلم يجمع عليهم خوفين: خوف العرب وخوف الروم، كما لم يجمع على الحرف الواحد من السماء والأفعال علة العين واللام في حال واحدة، ولكن إن اعتلت اللام صحت العين، وإن اعتلت العين فاللام صحيحة لا محالة. ألا ترى أن اللام لما اعتلت في حياة نواة صحت العين لا غير، وأن العين لما اعتلت في غاية وراية جاءت اللام صحيحة؟ فأما شاء فعينه معتلة ولامه صحيحة، لأنها إما همزة أصلية غير مبدلة وإما مبدلة من الياء. وكذلك قولهم: شوى وعوى، لما اعتلت اللام لم يكن بد من صحو العين. على أن ابن آدم قد يخالف اللفظ في هذه الرتبة فتجتمع فيه العلل الكثيرة، ومثله في ذلك مثل البيت من الموزون يجوز أن يجتمع فيه زحاف وخرم وحذف ملازم وضرورة شعر مع ذلك. وقد روى أن " عطاء بن أبي رباح المكي " كان أعور أشل أعرج، ثم عمى وأقعد. ولزعيم الروم أوقات تكون مظنة لنهوده إلى هذه الناحية، منها وقت الخريف إذا استقبل الشتاء وبعدت البادية عن هذه الأرض، فمثله مثل الترخيم يوجد في النداء دون غيره فإذا جاء في غير النداء فإنما تلك ضرورة، كما قال: إِنَّ ابنَ حَارِثَ إِن أَشْتَقْ لِرؤيتهِ ... أَو أَمتَدِحْه فإِن الناسَ قد عَلِموا وكما قال الآخر: ولَيْلةٍ صَرِيمُها كالخَزِّ ... أَدْلجتُها من أَجلِ أمِّ عَزِّ وأمُّ عَزٍّ من عَتِيق البزِّ يريد: أم عزة. وقد خرج زعيم الروم سنة خمس وثمانين في إبان الربيع، وإنما حملته على ذلك ضرورة دعت إليه، لأن من كان بحلب، حرسها الله، استدعاه لينصره على محاصريه. والسيد " عزيز الدولة أعز الله نصره " مع من حارب كما قال " ابن عنمة ": إِنْ تَسأَلوا الحَقَّ نُعْطِ الحقَّ سائلَه ... والدِرْعُ مُحْقَبَةٌ والسيفُ مقروبُ وأخلق بعدوه أن يكون كأبي أروى لما قال فيه القائل: ودَاعٍ دَعاهُ البغيُ والحَيْنُ كَاسْمِه ... ولِلحَيْنِ أَحداثٌ تَصدُّ عن الحزم دَعَوْتُ أَبا أَروى إِلى الرأْي كي يَرى ... برأْيٍ أَصيلٍ أَو يَعودَ إِلى حِلْم أَتاني يَشُبُّ الحربَ بيني وبينه ... فقلت له لا بلْ هَلُمَّ إِلى السَّلمِ وإِياكَ والحربَ التي لا أَدِيمُها ... صحيحٌ، وقد تُعدِي الصِّحاحَ من السُّقم فإِن ظَفِرَ القومُ الذي أَنتَ فيهمُ ... وآبُوا بِفَضلٍ من سِبَاءٍ ومنْ غُنمِ فلا بُدَّ من قَتْلَى لعلكَ مِنهمُ ... وإِلاَّ فجُرْحٌ لا يَحِنُّ على العَظمِ ولمَّا رَمَى شخْصِي رميتُ سوادَه ... ولا بُدَّ أَنء يُرمَى سوادُ الذي يَرمِي فكانَ صريعَ الخَيْلِ أَوَّلَ وَهْلةٍ ... فأَهوِنْ به مُختارَ جَهْلٍ على عِلْمِ وأهل ملته يزعمون أنه لو خرج لم ينصرف. وكذبوا، لو خرج لصغره السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - فانصرف. وإنما عنيت صغره، من الصغار. ألا ترى أن عمر وقثم وزفر، إذا صغرن انصرفن، وكذلك مساجد إذا كان اسم رجل ثم صغر فإنه ينصرف؟ فهذا حكم في انصراف الطاغية، وقد ينصرف بالضرورة، كما قال: ضواربَ بالأَيدي وراءَ بَراغِزٍ ... صِغارٍ كآرامِ الصريمِ الخواذِلِ ولأهل هذه المحلة عادة إذا خرج زعيم الروم، أن تنزل طائفة منهم عظيمة بالضيعة المعروفة ب " تل منس " ولا ريب أنهم يجرون في هذه التارة مجراهم في القديم. وليس من فعل ذلك منهم بالمصيب: إن كان ما بلغهم من هذا الخبر حقاً فقد رموا بحرائبهم في نحر العدو، وإن كان كذباً فقد أخلوا الأوطان ولم يحلوا بأماكن الأحرار. يا هَيَّما يا هَيَّما يا هَيَّما ... بِتْنَ مُنَاخاتٍ وبتْنَا نُيَّما ولو سَرَوا يا مَيُّ كان أَحْزَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والذي يمنع جالية هذا البلد من البعد في الأرض، هو قلة النفقة وكثرة العيال. والدراهم مثلها مثل حروف العطف تجعل الشيء في حكم الشيء حتى يصيرا مجتمعين في المعنى الواحد. وكذلك الرجل إذا كان معه شيء استعان به قوماً فأعانوه على تسيير العيلة وحفظ الجهاز. وكأني بالقسيس المقيم بمعرة النعمان قد خرج فنزل على القسيس المقيم بتل منس، فكان مثلهما مثل اللامين تدخل إحداهما على الأخرى عند الضرورة، كما أنشد " الفراء ": لَدَدْتُهمُ النصيحةَ أَيَّ لَدِّ ... فمَجُّوا النُّصْحِ ثم ثَنَوا ففاءوا فلا واللهِ لا يُرْجَى لِمَا بي ... ولا لِلِمَا بهم أَبداً شفاءُ وأنشد أيضاً: فَلَئِنْ قومٌ أَصابوا عِزَّةً ... وأَصَبْنا من زمانٍ رَنَقَا لَلَقَدْ كنا لَدَى أَرحُلِنا ... لِصَنيعينِ: لِبَأْسٍ وتُقَى وربما تحول النصراني من بيته فسلمه إلى النصراني الآخر، فكان فيه رجل في معناه إلا أنه ليس به، فمثلهما مثل الضمة في منصور إذا رخمت في النداء على لغة من قال: يا حار، قلت: يا منص. أقيل بضمة الصاد ها هنا في لفظ الضمة إذا قلت: يا منصور؟ وليست هذه بتلك: لأن الضمة إذا أتممت أو رخمت على لغة من قال: يا حار، للبناء، والضمة إذا قلت: يا منص، على لغة من قال: يا حار، تجري مجرى ضمة الاسم العلم إذا قلت: يا زيد. طرأت إحدى الضمتين على الأخرى فزالت القديمة وبقيت الحادثة. ومثل ذلك ضمة القاف في قفل والجيم في جند، إذا رخمت فقلت: قفيل وجنيد، فالضمة في المصغر غير الضمة في المكبر لأن الضمة التي كانت قبل التصغير دخلت عليها الضمة اللازمة أو المصغرات فزالت الأولى وبقيت الثانية. ألا ترى أن كسرة جذع وفتحة عمرو تخلفهما الضمة إذا صغرت فقلت: عمير وجذيع؟ وكذلك فتحة جعفر في الواحد، هي غير الفتحة التي في أول الجمع المكسر إذا قلت: جعافر. ألا ترى أنك إذا جمعت درهما أو برقعا قلت: دراهم وبراقع، فخلفت الضمة والكسرة فتحة الجمع؟ فكذلك تخلف الفتحة الموجودة في الواحد. وأحر بأن يظل رجل كان يؤم الناس في بعض المساجد قد حل في كنيسة يقيم فيها الصلوات ويتلو الفرقان، فيكون مثله مثل اللام التي خرجت عند الضرورة من قول " السموءل ": لَيتَ شِعري؛ وأَشعرَنَّ، إِذا ما ... قرَّبوها منشورةً ودُعِيتُ أَلىَ الفَضْلُ أَم عليَّ إِذا حُو ... سِبْتُ أَني على الحسابِ مُقيتُ أراد: ولأشعرن، في أحد القولين. ودخلت في قول الراجز: أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجوزٌ شَهْربَه ... ترضى من اللحمِ بعَظمِ الرقبَه ويدرك الجالية فناء الزاد لأن الأمر نزل بهم بغتة، فترى من كان يأكل البر وقد أقوى فصار يأكل الشعير. فمثله مثل شاعر يقوى في القصيدة، يبتديء بها مرفوعة ثم يخفض. لأن الشعير دون البر في القيمة والمصلحة، وذلك مثل ما قال الشاعر: فمَلَكْنا بذلك الناسَ حتى ... مَلَكَ المنذرُ بنُ ماءِ السماءِ والشعير والبر جنس واحد في بعض أقوال الفقهاء. فعند من زعم ذلك ا، من اشترى قفيز بر بقفيزى شعير فقد رابى. وإلى هذا القول ذهب " مالك بن أنس " وقد روى عن " جعفر بن محمد ". فأشبه المتعوض من البر بالشعير من أكفأ في القوافي فجاء بالميم مع النون، والدال مع الطاء. أنشد " الجرمى " لا مرأة من خثعم هويت رجلاً يقال له " جحوش " والأبيات مختلف فيها ولمن هي، وبعضهم ينشد في أولها هذا البيت: إِن كنتَ من أَهلِ الحجازِ فلا تَلِجْ ... وإِن كنتَ نجدِيّاً فَلِجْ بسلامِ فلَيْتَ سِماكِيّاً يَحَارُ رَبابُه ... يُقَادُ إِلى أَهلِ الغَضا بزِمامِ فيَشربَ منه جَحْوشٌ ويَشِيمُه ... بِعَيْنَي قَطامِيٍّ أَغرَّ يَمانِ وقال الراجز: بِتْنَا بحَسَّانَ ومِعْزاه تَئِطْ ... في لَبَنٍ منها وسَمْنٍ وأٌقِطْ حتى إِذا جَنَّ الظلام واختلطْ ... أَمْهلنا حتى إِذا النجمُ سَقَطْ جاءَ بضَيْحٍ هل رأَيت الذيبَ قط ... فاغتبق القومُ فلم يَبْقَ أحد وقال آخر: جاريةٌ من ضَبَّةَ بنِ أُدِّ ... كأَنَّ تحتَ دِرْعِها المُنْعَطِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 شطّاً رميتَ فوقَه بِشَطِّ فإن اضطر الرجل فلم يجد شعيراً يقيمه مقام البر فأكل عنجداً أو فراساً أو نحو ذلك. فمثله مثل من أكفأ فجاء بحرف لا يقارب الأول، كما أنشد " سعيد بن مسعدة ": فقال لِخِلَّيْه ارْحَلاَ الرَّحْلَ إِنني ... بِعافِيةٍ والعاقياتُ تدُورُ فبَيْنَاه يَشْرِي رَحْلَه قال قائلٌ ... لمَنْ جَمَلٌ رخْوُ المِلاَطِ نَجِيبُ وتسمع تضاغي الأصيبية من فقد الأطعمة، ويصير من كانت له عادة بأن يوطيء في المطاعم، لا يصل إلى الوجبة إلا بعد المسألة والاحتيال. وأوشك بالرجل من يهود أن يفتقر إلى الرجل من رهط المسيح. فإن كان المتهود حصيف العقل أرم وشغله ما هو فيه عما سلف من حديث الأنبياء، وأرى النصراني أنه غير حافل بدين التوراة. ولا آمره بمخالفة الدين ولكن أحثه على حسن العشرة وسياسة الأمور. فمثل هذا الرجل إذا افتقر إلى غيره فحل في منزله، مثل الحرف المدغم لقيه الحرف الآخر فانقلب الأول إلى حال الثاني. ألا ترى أنك لما أردت أن تدغم الخاء في الغين جعلت الخاء غيناً فقلت: اسلخ غنمك، فجعلت الخاء من اسلخ غيناً لمكان إدغامها في غين غنمك؟ وكذلك لام التعريف تصير مع الراء راء إذا قلت: الرجل، ومع الدال دالاً إذا قلت: الدر. وعلى هذا تجري حال المدغمات. وإن كان صاحب يهود متهور الجول، أخذ في شيء من أحاديث الأولين فأبغضه النصراني وتذكر ما بينهما من الذحول، واعتقد فيه ما جاء في الكتاب الكريم: " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفا صدورهم أكبر ". ويبغي للحازم في الشدائد أن يكون مثل الهمزة، يخالق النفر بما يريدون ويسكت على ضمائر النفس فإنه لا يقضي المأربة باللسان. وليس في الحروف حرف أكثر مسامحة من الهمزة. ألا تراها إذا كانت ساكنة في مثل رأس وبؤس وذئب، فبلغت بها ما تستحقه من الهمز فهي كالحروف الصحاح، ويجوز أن تقول في القوافي: " رئم " مع سهم، و " سؤل " مع جمل، و " شأم " مع وخم؟ فإذا اتفق لها أن تصاحب في القوافي حروف اللين صارت ألفاً في شام، وياء في ريم، وواواً في بوس وسول، فجرت مع: رام، وجول، وهيم؟ وهي في ذلك غير جارة للعيب، بل قد أدت حق الحروف الصحيحة في حسن العشرة، وتكلفت لحروف اللين ما ليس هو لها أصلاً في الحقيقة. قال الراجز: لا تَقربَنَّ الشَّامَ إِنَّ الشأْمَا ... كان لِدُرَّاءِ العِراقِ وَخْمَا فالهمزة في الشأم محققة لا يجوز فيها التخفيف بحال في هذا الموضع لأنها موازية لخاء وخم. وقال " جبيهاء الأشجعي ": إِن المدينَة لا مَدِينةَ فالزَمِي ... نَعْفَ السِّتارِ وقُنَّةَ الأَوجامِ يُجْلَبْ لكِ اللبنُ الغريضُ ويُنتَزَعْ ... بالعِيسِ من يَمَنٍ إِليكِ وشامِ ألا ترى إلى الهمزة كيف لزمت التحقيق في ذلك الرجز، ولزمت التخفيف في هذا الموضع لما احتاجت إليه؟ ومما توصف به الهمزة من الحكمة أنها إذا لقيت همزة في كلمة واحدة، لم يكن بد من تخفيف إحدى الهمزتين. فذلك مثل للرجل الحازم يلقى مثله فيعلم كل واحد منهما أن اجتماعه مع الآخر يشق عليه، فيلزم أحدهما نفسه التخفيف. وربما ترك وطنه وارتحل إذا كان الآخر من جنسه، وذلك مثل الهمزة في قول " الخليل " لما لقيتها الهمزة في " جائىء " وإحداهما همزة فاعل التي تحدث في المعتل: قائم وبابه، والأخرى الهمزة الأصلية. " فالخليل " يرى أن همزة فاعل نقلت من مكان العين وجعلت مكانها الهمزة التي من الأصل. وربما علم الرجل الأصيل الرأي أن مكانه ينقل فانصرف وإن لم يلقه نظير له، فيكون مثله مثل الهمزة حذفت من سائر فقيل: سار قال " الهذلي ": وغَيَّر ماءُ المَرْدِ فاها فلونُه ... كَلَوْنِ النَّئورِ وهْيَ أَدْماءُ سَارُها أي: سائرها. وإنما يحمل الهمزة على ذلك مجاورتها الألف، لأن الألف أقرب حروف المعجم إلى الهمزة، ولذلك تركت مكانها في قولك: راء وشاء، والأصل: رأي وشأي، قال الشاعر: وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائل ... من أجلِكِ هذا هامةُ اليومِ أَو غدِ وقال " عمر بن أبي ربيعة " فجمع بين اللغتين: بان الحُمولُ فما شَأَوْنَكَ نَقْرَةً ... ولقد أَراكَ تُشاءُ بالأَظعانِ شأونك: سقنك، وتشاء: تشاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وربما تركت الهمزة مكانها للحرف الضعيف ولم تصبر على المضارة، أو تكون رغبت في التفضل على المجاورة كما قالوا: را، يريدون: رأي. قال الشاعر: ومَنْ رَا مِثلَ مَعْدانَ بنِ لَيْلى ... إِذا ما النسْعُ جالَ على المَطِيَّهْ وقالت امرأة من العرب: مَن بيَّن الأَخَوينِ ... كالغُصْنَينِ أَم مَنْ رَاهُما فكأنها تشبه في هذا الصنيع رجلاً فيه كرم وشدة لو أراد لضار جاءه وأقصاه، فيحمله الكرم على تخلية مكانه له. وقد رأيت الهمزة حذفت من ترى، وأصلها أن تجيء فيه كما جاءت في قوله تعالى: " وهم ينهون عنه وينأون عنه ". ولكنها بعدت من موطنها فلم ترجع إليه إلا عند ضورة، كالرجل فارق الوطن فلم يلمم به إلا عند النائبة. قال الشاعر: أَلا إِنما ذا الدهْرُ يومٌ ولَيلةٌ ... ومَنْ يُحْيَ في الأَيامِ يَرْأَ ويسمَعِ ومثلها في هذا الموضع مثل الرجل لا يدخل وطنه إلا عند شريطة. ألا ترى أن الفصحاء لا يقولون: ترأى، في المنثور، وإنما يستعملونها في المنظوم لإقامة الوزن؟ وكذلك وجدناهم يحذفون الهمزة إذا كانت طرفاً وقبلها ساكن، ويلقون حركتها على ما قبلها فيقولون: خذ الجز و " قريء ": " يخرج الخب في السموات والأرض ". فإذا كان ذلك في الشعر حذفت الهمزة إلى آخر الدهر لأن رجوعها يكسر، قال " حسان ": فَرَهنتُ اليدينِ عنهم جميعاً ... كلُّ كفٍّ لها جُزٌ مَفصومُ وإذا اتفق لها ذلك في النثر، جاز أن ترجع وجاز ألا ترجع. وكذلك حالها في: يسأل وبابه، إذا كانت في النثر فهي في الرجوع على أحد أمرين وإذا كانت في النظم فلا تقدر على رجوعها إلى الوطن، كما قال " القطامي ": وقد يَزيدُ سؤالُ المرءِ معرفةً ... ويَستريحُ إِلى الأخبارِ من يَسَلُ فغرب الله من يبغض السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - عن وطنه، تغرب الهمزة في " يسل " عن الوطن، فإنها يائسة أن ترجع إليه وتلك الغربة هي غربة الموت لأنها فقدان الشخص. وما أحسن بالقوم التأسي إذا نزلت الشدائد! فحقيق على الغنى إذا شبع ألا يترك جاره الفقير وهو طاو، وألا يحوجه إلى المسألة، بل يكفيه النظر إليه إلا كما قال " الأفوه الأودي ": أَلْوَتْ بإِصْبعِها وقالت إِنما ... يكفِيكَ مِمَّا لا تَرى ما قد تَرى لا يَسْتَوِي الجارانِ أَن يتجاوَرا ... هذا أَخو شِبَعٍ وذا طاوِي المَعِي ألا ترى أن الكاف في: بكر، لما اضطرت إلى الحركة في بيت " أوس " دخلت مع الباء في الكسر ولم ترغب في الضمة، فعد ذلك فيها من المواساة؟ قال " أوس ": لنا صرخةٌ ثم إِصماتةٌ ... كما طَرَّقت بِنِفَاسٍ بِكِرْ ففي هذا مثل لمن يأخذ نفسه بزي جاره ويترك مضاهاة الأبعدين. وكذلك قول " الهذلي ": ماذا يَغِيرُ ابنتَيْ رِبْعٍ عَويلُهُما ... لا ترقُدانِ ولا بُؤسَى لمَنْ رقَدا كِلتاهما أَبْطنتْ أحشاؤها قصَباً ... من غابِ حَلْيَة لا عَشّاً ولا نقِدا إِذا تجاوَبَ نَوْحٌ قامتا معه ... ضرباً أَليما بِسِبْتٍ يَلْعَجُ الجِلِدا ألا ترى أن اللام لما اضطرت إلى الحركة رغبت أن تنكسر مثل الجيم؟ وروى عن " الخليل " أنه كان يمشي مع " ابن مناذر " الشاعر، فانقطع شسع نعل " ابن مناذر " فنزع نعله. فلما رآه " الخليل " فعل مثل ما فعل، فقال له ابن مناذر: ما هذا أبا عبد الرحمن؟ قال: أردت أن أساويك في الحفاء. فإن زعمت أن كاف بكر ولام جلد أساءتا في مجانبتهما الراء والدال، ومواساتهما الباء والجيم؛ فكذلك يجب، لأن الباء أسبق حرمة إلى الكاف وأقدم صحبة في بكر، وكذلك الجيم في جلد، لأنك تنطق بهما قبل الراء والدال. وفي كتاب الله تعالى: " والسابقون السابقون، أولئك المقربون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ويدعو ما يلقاه النافرون من ضيق الأنفس وحرج الصدور، إلى تشاجر الشركاء واختلافهم في الجهات المقصودة، ويحملهم ذلك على الفرقة، إما قبل الرحلة ممن المصر وإما بعد الظعن عنه. فرما كان الرجلان شريكين ولك واحد من رأس المال ما يمكن أن يستبضع فلا تضره الفرقة. فيكون مثلهما مثل قناديل وسمادير: إذا قسمت هاتان الكلمتان وما كان مثلهما من الكلام، فإن الشطرين يمكن بكل واحد منهما نطق الناطقين وإن اختلفت المعاني قبل القسمة وبعدها؛ فإنك إذا نقلت الشطر الأول أو الثاني إلى غير معناه الأولصلح. ألا ترى أن سمادير، والمراد بها الغشاوة التي تدرك العين والإظلام يكون في البصر، إذا قسمتها شطرين فشطرها الأول سما، من قولك: سما يسمو. وشطرها الثاني دير، من قولك: دير به يدار به فهو مدور به؟ وقد يكون الشريكان لأحدهما أكثر من الآخر وتكون لصاحب القليل مبقية بعد الفرقة. فمثلهما مثل مساجد وسفرجل، إذا أخذ منهما: مسا وسفر، بقي منهما أقل مما ذهب، إلا أنه يمكن أن ينطق به، وله معنى يتصرف في بعض الوجوه. ألا ترى أن قولك: جد، هو أمر من قولك: وجد يجد؟ وقولك: جل، يجوز أن يقع في قافية من قولك: جل الأمر يجل، بتخفيف اللام؟ وإذا كان الرجلان لأحدهما شطر يمكنه أن يتجر به، والآخر يضيق أمره عن ذلك، فمثلهما مثل الثلاثية من الأسماء، إذا قسمتها على حرفين وحرف، فالحرفان يمكنك بهما النطق، والحرف الواحد لا يتأتى ذلك فيه إلا أن تصله بسواه. وربما رأيت الشريكين معيشة كل واحد بالآخر، وإذا افترقا لم يكن لهما بد من الاتصال بسواهما لأن الحاجة دعت إليه. فمثلهما مثل: " حرفين إذا اجتمعا أفادا معاً، وإذا افترقا عدمت الفائدة، فمثلهما " مثل: لك، وما كان مثلها من الحروف المتألفة. وإذا فارقت اللام الكاف لم تعطك فائدة إلا أن تصلها بغيرها من الأسماء. ويشبهان أيضاً ما ليس له نصف من الأوزان المشطورة، فلا يمكنك فيه القسمة. ألا ترى أنك لو أردت تصريع قول الراجز: حَلَّتْ سُليْمَى جانبَ الجَرِيبِ لم تصل إلى ذلك؟ وأنت عن تصريع المنهوكين من المنسرح أعجز، لضيقهما عما يجب للتصريع. مثل قول نادبة " سعد بن معاذ ": وَيْلُ أم سَعْدٍ سَعْدَا صرامةً ومَجْدَا وفارِساً مُعَدّا سُدَّ به مَسَدَّا وكذلك هذه الأبيات التي أنشدهما " أبو نصر: صاحب الأصمعي في كتاب الألفاظ: أَرُبَّ مُهْرٍ مَزْعوقْ ... مُقيَّلٍ أَو مغبوقْ من لبَنِ الدهْم الرُّوقْ ... حتى شتا كالذُعْلوقْ أَسْرَعَ من لمْحِ الموقْ ... وطائرٍ وذِي فُوقْ وكلِّ شيءٍ مَخلوقْ فلو صرعت مثل هذا لخرج من حكم الشعر إلى حكم المنثور. وربما اتفق أن يكون الشريكان مختلفي الملة، فتكون البغضاء أشد والشحناء أكثر. فأما اليهودي والنصراني إذا اجتمعا بتل منس وأخذا في المذاكرة بحديث الأنبياء وكان اليهودي في بت النصراني، فتلك هي الفاقرة: أُكاشِرُه وأَعلمُ أَنْ كِلانا ... على ما ساءَ صاحبَه حَرِيصُ فمثلهما مثل القتال والنمر، صلحهما على دخن ومودتهما ليست بالدائمة: كِلانا عدُوٌّ لو يَرى في عدُوِّه ... مَحَزّاً، وكلٌّ في العداوةِ مُجْمِلُ إِنَّ زماناً أَيها البَكْرُ ضمَّنِي ... وإِياكَ في كلْبٍ لشرُّ زَمانِ فيجوز في قدرة الله تعالى أن ينطق الثعلب فيقول: صدقت أيها، الشاحج، أنك للكهل المجرب وإني لراغب في استماع ما عندك من الأمثال، ولكن الشمس قد هوت للغروب، وإني منصرف إلى مصر الجالين فداخل في الليل مع النموس نعتس في منازل القوم، ولعلنا نصيب شيئاً من فضل الله، فلم نعدم طائراً في تمراد أو دجاجة قد حضنت الكيك، ونحو ذلك مما ينتفع به الصعلوك. وأجيئك إذا الصبح جشر، بأخبار الناس. فيقول الشاحج إذا شاء الله: امض على غلوائك، فقد هممت أن أكلفك توكف الأخبار وإلقاء ما يصح منها عندك إلي. وإذا هجمت أنت وقتئذ منازل القوم، فاحذر أن تريب طير الرسائل فإن حقها عظيم. فيمضي الثعلب حتى إذا تبين سوادٌ سواداً، جاء فسلم على الشاحج وورد، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أخبرك أعانك الله أني دخلت المدرة في طائفة من الثعالب والنموس، فوجدنا القوم قد احترزوا من كل متعرض لهم بسوء. وألفينا في كل ربع من ربوعهم واحداً قد تخلف لمراعاة الربع. فمثله مثل السبعان في بابه، لا يوجد على هذا المثال غيره فيما زعم " سيبويه " وقد خولف. وكذلك سخاخين، وهو في معنى سخن، لا يوجد على فعاعيل غيره. قال الراجز: أَحِبُّ أُمَّ الغمْرِ حُبّاً زائدَا ... حُبّاً سُخاخِيناً وحُبّاً بارِدَا فلم نصادف غرة من المنصرفين. وخرجت أقفو آثار الجالية فانتهى بي الأثر إلى " تل منس " وقد نزل بها معظم الناس. فسمعت الجالية يشتورون في المساجد والكنائس ويديرون الرأي، فلا تنصرم لهم عزيمة ولا تبرم بأيديهم مرة. بل يختلفون اختلاف العرب في الوقف: فبعضهم يقف على السكون فمثله مثل من رأى أن يقيم بحيث هو من هذه القرية. وبعض العرب يشم ويروم عند الوقف، فذلك مثل من يروم النهوض إلى مظان الأمن ولا يجد سبيلاً إلى ذلك. وبعضهم يشدد الحرف الموقوف عليه ليدل على حركته في الإدراج، فذلك مثل من يعزم عن النهوض ويمثله بين عينيه. ولو قبلت المشورة من مثلي لهديتهم إلى الرشد، ولكن لا رأى لم لا يطاع: أَمَرتُهمُ أَمْرِي بِمُنعَرَجِ اللِّوَى ... ولا أَمْرَ لِلمَعْصِيِّ إِلاَّ مُضيَّعَا لا ينبغي أن يبيتوا في هذه المحلة إلا الليلة أو الليلتين ولا أشير عليهم بالسلوك جهة الشرق لأنه ناسب لفظ الشرق؛ و " جرجناز ": جرج ناز؛ و " الكفير " وإن كان أهلها أحراراً فإن لفظها من لفظ الكفر؛ و " عجاز " من العجز؛ و " الحيار ": من الحيرة. ولا يسبق إلى ظنك أيها الشاحج أنني خالفت الحديث المروي وهو قوله عليه السلام: " لا عدوى ولا طيرة " فقد رويت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث تشبه كراهتي أسماء هذه المواضع. منها أنه قال لرجل: " ما اسمك "؟ فقال: شهاب. فقال صلى الله عليه وسلم: " بل أنت هشام " كأنه كره شهاباً لأنه من شهاب النار. وولد لرجل مولود في زمانه فقال " ما سميتم مولودكم؟ " فقالوا: الوليد. فكره ذلك وقال كلاماً معناه: " لا يزالون يسمون أبناءهم بأسماء الجبابرة " يعني " الوليد بن المغيرة " وأن فرعون كان سمى الوليد في بعض الروايات! ويقال إنه " صلى الله عليه وسلم " سمى " الحباب بن المنذر الأنصاري: عمراً " وقال: " الحباب شيطان " ومعنى ذلك أن الحباب من أسماء الحيات. ولما أرد الرجل أن ينزل إلى الركية في غزاة الحديبية قال: " ما اسمك "؟ قال: مرة. فقال: " وراءك " ثم جاء الآخر فقال: ما اسمك؟ فقال: ناجية. فأمره بالنزول. فأما الفأل فلا شك أنه كان يعجبه صلى الله عليه وسلم. وإذا رددت الفأل والطيرة إلى القياس وجدتهما يصدران عن غار واحد. وأنا أذكر شيئاً من حكم الفأل ليكون حجة على ما آمر به من التدبير: إن الذين كانوا يستعملون الفال وروى عنهم القول به، لم يكونوا يحملونه على التصريف والاشتقاق في كل المواطن، بل يجرونه مرة على ذلك، ومرة على مقدار الظاهر من اللفظ. لأن الفال والطيرة إنما هما بالظن والاتفاق. فمن ذلك ما روى عن " الحسين " رضي الله عنه أنه لما سأل عن الموضع الذي قتل فيه، قالوا له: كربلاء. قال: " كرب وبلاء " وإذا أخذت من كربلاء لفظ الكرب لم يبق من الكلمة لفظ بلاء، وإذا أخذت منها لفظ البلاء لم يبق منها لفظ الكرب، وإنما ذلك شيء يقع بالتقريب. وروى أن " أبا جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس " لقيته البيعة لما مات " السفاح " بموضع يقال له " الصفينة " فقال: " فصت لنا إن شاء الله " والصفينة ليست من لفظ صفت، ولكنه أخذ صدر الكلمة فحمله على الفأل. وأنشد " ابن الأعرابي " في النوادر أبياتاً فيها نحو من هذا الحمل على بعض الكلمة. وقد ذكرها " أبو الفضل بن العميد " في رسالته إلى " ابن سمكة " والرواية التي ذكرها " ابن العميد " أوفى وأتم. والأبيات: لعَيْناكَ يومَ البينِ أَسْرَعُ واكِفاً ... من الفَنَنِ المَمْطورِ وهو مَرِيحُ جَرَى يومَ سِرْنا عامدينَ لأَرضِها ... سَنِيحٌ فقال القومُ مَرَّ سَنيحُ وقالوا: عُقابٌ، قلتُ غَرْثَى وصَيْدُها ... غَزَالٌ وِشبْهٌ للغَزَال مَلِيحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 عُقَابٌ بإِعْقَابٍ من الوصْلِ بعدما ... جَرَتْ نِيَّةٌ تُسْلِي المُحِبَّ طَرُوحُ وقالوا: دَمٌ، دامتْ مواثيقُ ... عَهدِها ودامَ لنا حُلْوُ الوِدَادِ صَرِيحُ وقالَ صِحَابي: هُدْهُدٌ فوقَ بانةٍ ... فقُلتُ هُدًى يَغدُو لنا ويَرُوح وقالوا: حَمَاماتٌ، فَحُمَّ لِقاؤها ... وطلْحٌ، فنِيلَتْ والمَطِيُّ طلِيحُ فاشتق عقاباً من الإعقاب، وهذا صحيح في التصريف. وتفاءل لما ذكر له الدم، من لفظ دامت فقال: دامت مواثيق عهدها وليس الدم من لفظ دامت. وتفاءل لما ذكر له الهدهد فقال: هدى يغدو لنا ويروح وليس الهدهد من لفظ الهدى، ولكن الكلمتين أشبه صدر إحداهما صدر الأخرى، كما أن الدم قارب لفظه لفظ دامت وإن كان مخالفاً لها في الاشتقاق. وكذلك روي عن بعضهم أنه قال في همدان، اسم هذه القبيلة: إنه هم دان. وهذا على سبيل الطيرة يشبه ما مضى في كربلاء. وإنما ذكرت ذلك لأخبر أن الجالية إذا عمدت للشرق والمنازل المتقدم ذكرها في كراهة الأسماء، كانوا قد أخذوا بما يكرهه بعض الناس. ولو قدر لهم التوفيق لأجمعوا على السير إلى " حلب " حرسها الله، لأن في دنوهم إلى الحضرة العالية أعظم سعادة وأسنى حظ. والذين وفقوا منهم لليمن قد ركبوا تلك المحجة، وذلك أنهم لايعدمون في طريقهم ضروباً من الفأل، يمرون بسرمين، وإذا حملت على ما تقدم من قول القائل في همدان: هم دان، ومن قول الآخر في هدهد: هدى؛ فصدرها من لفظ السرور، وباقيها مين، من المين، فعل ما لم يسم فاعله، أي هذا الخبر عن العدو مين قد مين أي كذب. وإن عرضت لهم في الطريق " زردنا " فيجب أن يغلبوا عليها الفأل فيقولوا: هي زردنا، أي درعنا التي من الزرد، والدرع وقاية من العدو. وإنما قلت ذلك مخافة أن يظن ظان منهم غير هذا المعنى فيحملها على الطيرة فيقول: هي زردنا، والزرد الخنق. والكلمة الواحدة تتصرف على الطيرة والفأل. ألا ترى إلى قول " الجران ": فأَما العُقابُ فهْيَ منا عُقوبَةٌ ... وأَما الغُرابُ فالغَرِيبُ المطَرَّحُ فهذا حملها على ما كره. وقال الآخر عُقابٌ بِإِعقاب من الوَصْلِ بعدما ... جرتْ نِيَّةٌ تُسْلِي المُحِبَّ طروحُ فهذا حملها على ما أحب. وإذا بلغوا " جبل جوشن " فالجوشن جنة يدفع بها الشر. وإذا رأوا حفر الخندق فحملوه على ما تقدم، فإن شطر هذه الكلمة فألان يدلان على السعادة: خن، يشبه خن العدو، إذا استأصله، حكى ذلك عن " العباس ابن الفرج الرياشي "؛ ودق، يشبه دق الجيش إذا هزمه. وكذلك يفعل " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - بجيوش الأعداء.. و " قويق " النهر، يشبه صدر لفظه الأمر للجماعة بالتوقي، كما قال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم ناراً " ومما يشبه هذه الأحكام، ما حكم به المفسرون في تعبير الرؤيا، من أنه إذا رأى الإنسان في منامه سفرجلاً، حكموا عليه بالسفر. وقد علمنا أن صدر سفرجل غير مراد به السفر من الأسفار، ولكنه شيء يحمل على تقارب اللفظ وما يكون حسناً في الظن. وأما " حلب " حرسها الله فلفظها يحتمل أمرين كلاهما فأل محمود: إن كانت من: أحلبت القوم أي نصرتهم فحسبها فألاً بالنصر. ويقال للذين ينصرون الرجل من بني أبيه أو قبيله الحلائب، قال " اليشكرى ": ونحنُ غَداةَ العَيْنِ عَيْنِ مُحَلِّمِ ... نصرناكَ إِذ ثابتْ عليكَ الحلائِبُ وإن كانت من الحلب، حلب اللبن، فحسبها بذلك خيراً وبركة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على امرأة فقال: " مالي لاأرى في بيتك بركة؟ " قالت وما البركة؟ قال: " مالي لاأرى في بيتك شاةً؟ " وإنما سمي الشاة بركة من أجل اللبن. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه، أنه ليس فيما يؤكل ويشرب شيء يجري مجرى اللبن، لأنه طعام وشراب. وحسب اللبن من الفضيلة أنه غذاء لجميع ولد آدم صلى الله عليه، به تربي الأطفال ولا ينوب منابه سواه. وكذلك قالت العرب: لله درك، أي: لله اللبن الذي أرضعت به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ولقد ترك أولئك القوم، أعنى الذاهبين عن أوطانهم، جهة الحزامة وهم عليهامقتدرون. ولو كاتبوا الحضرة العالية منتصرين بما يفد عليهم من الآراء، لكفوا مئونة الرحلة. ولكنهم هابوا الحضرة وأعظموها وأعرضت لهم الفائدة فأعرضوا عنها، وأرادوا التخفيف عن السلطان - أعز الله نصره - فثقلوا على أنفسهم، فكان مثلهم مثل علابط: كان والألف فيه كلمةً خفيفةً، والدليل على خفته أنه لم يكن يمتنع منه وزن من أوزان الشعر. بل يدخل في خفيف وثقيل، وطويل من الأوزان وقصير. فاستطال علابطاً بعض الناس فحذف منه الألف فاجتمع فيه أربعة أحرف متحركة، فثقل في السمع ولم يذلك لركوبه كل وزن، ولكنه احتمله بعض الأوزان لكثرة حروفه، واحتمله بعضها لخفته ومهانته، فأمكن أن يدخل هو ومثله في الوزن البسيط لأنه من ملوك الشعر، وهو مع ذلك يجري مجرى الوزير للملك إذ كان هو والطويل كالملكين للشعر، وهما من بعد أخوان. فمثلهما مثل ابني " سبأ بن يشجب " وهما حمير وكهلان: جعل أبوهما سبأ الملك لحمير وسلم إليه السيف، وجعل الوزارة لكهلان وسلم إليه الترس. وكلاهما من أهل بيت المملكة، إلا أن الطويل أولى بالملك من البسيط. ألا ترى أنه لم يقبل " علبطاً " ونحوه، لأن الملوك لا تحتمل تثقيل العامة، واحتمله البسيط. لأنه وزير الملك، والوزراء واجب عليهم حمل الأثقال؟ ومما احتمل فيه البسيط كلمة تجري مجرى علبط في اجتماع المتحركات قول " النابغة ": فحَسَبُوهُ فأَلْفَوه ما حَسَبَتْ ... تِسْعاً وتِسعين لم تَنقُصْ ولم تَزدِ فاحتمله هذا الوزن لعظم شأنه في نفسه، ولأنه يرى حمل الأعباء عن الملك فريضة مؤكدة. وأما الوزن الذي يحتمل: علبطاً، ونحوه لخفته ومهانته، فبحر الرجز والسريع، كما قال: وقد شرِبْنا لَبَناً هُدَبِدَا ... وقد تركنا في الدِّيارِ رَثَدَا وقد يجيء علبط، في سوى هذه الأوزان إذا وقع في القافية المقيدة، وحسبك بهذه نقيصة. ما قولك في رجل لا يقدر أن يحضر مجلساً مع القوم إلا وهو في غل وصفاد؟ وأحذر الجالية من بيوت الأعراب. يا حضرية لا تصلحين لجوار البدوية! إن بيت الأعرابية من الشعر وكأنه بيت الشعر إنما هو رائح وغاد، يسلك بهضب أو واد، ويحل تارة عند الوعل والظيان، ويضرب مرة بين خزامى الدمث وعند طبي السهل الطيان. شربها في أخلاف الإبل وضروع الشاة، ولا تختبز لغداء أو عشاء: كانت لنا من غَطْفانَ جارَهْ ... جارةُ صِدْقٍ من بَني فزارَه حَلاَّلَةٌ ظَعَّانَةٌ سَيَّارَه ... كأَنها من بُدُنٍ وشاره مدفَعُ مَيثاءَ إِلى فَزاره ... تَبِيتُ بينَ الزَّرْب والحِظاره كأَنما باتتْ عليها فاره وإنما بيوت الأعراب كالقوافي الجذ، مثل ما قال " القطامي ": وطالما ذَبَّ عني سُيَّرٌ شُرُدٌ ... يُصبِحْنَ فوق لسانِ الراكبِ الغادِي وقال " المسيب بن علس ": فَلأَهْدِيَنَّ مع الرياحِ قصيدةً ... مني مُغَلْغَلةً إِلى القَعْقاعِ تَرِدُ المِياهَ فما تزالُ غَريبةً ... في القومِ بين تَمثُّلٍ وسماع فما ظنك بحواء ينتقل من الجبل إلى القاع، ويشبه بهدية " المسيب إلى القعقاع "؟ وما كان من بيوتهم مبنياً على ثمانية أعمدة أو نسائج ثمان، فهو يشبه ما كان من الشعر على ثمانية أجزاء. وتلك بيوت أمرائهم وأملاكهم تشابه من الموزون قول الشاعر: قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل وقول الآخر: إِنا مُحَيُّوكَ فاسلمْ أَيها الطَّلَلُ وما كان نحو ذلك. والذي يبنى من بيوتهم على ستة أعمدة أو من ست نسائج، يشبه ما كان من الشعر على ستة أجزاء، مثل قول " عنترة ": هلْ غادرَ الشعراءُ من مُتَرَدَّمِ وقول " عمرو بن كلثوم ": أَلا هُبِّي بصَحْنِكِ فاصبَحِينَا وما كان مثل ذلك وهو كثير. وهذه دون تلك في الرتبة، وهي لمن دون الأمراء. وما كان من بيوت البادية على أربعة أعمدة أو مبنياً من أربع نسائج فهي بيوت العامة منهم، تشبه من الموزون ما كان على أربعة أجزاء، كقول القائل: اِسلَمِي أُمَّ خالدِ ... رُبَّ ساعٍ لِقَاعِدِ وكقول امرأة من عاد. فيما يزعمون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أَلَلَيَّهْ أَلَلَيَّهْ ... ما جنى الوفدُ عَلَيَّهْ وما كان من بيوتهم على ثلاثة أعمدة أو مبنياً من ثلاث نسائج، فتلك بيوت الضعفاء والعبيد، تشبه من الموزون ما كان مشطوراً على ثلاثة أجزاء، مثل قول الراجز: يا دارَ سلمى يا اسلمي ثم اسلمِي عن سَمْسَمٍ وعن يمينِ سَمْسَمِ ومثل قول الآخر: أَقبَلْنَ من نِيرٍ ومن سُوَاجِ ... بالقومِ قد مَلُّوا من الإدلاجِ فهُمْ رَجَاجٌ على رجَاجِ وما كان من بيوتهم على عمودين، فهو ما لا يمكن أن يكون بيت دونه، يشبه من الشعر ما كان على جزءين، كقول الراجز: يا رِجْلِ لا تُراعِي ... إِن معي ذراعِي وكقوله: أضرِبُهمْ باليابِسِ ... ضَرْبَ غُلامٍ عابِسِ من الحياةِ آيِسِ وهو المنهوك من الشعر. وللسيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - فضل على غيره من الملوك مثل فضل الطويل على المنهوك، لا بل أعظم وأكثر. إذا كان الطويل إنما غاية عدته ثمانية وأربعون حرفاً، والمنهوك أطول ما يكون أربعة عشر حرفاً، وأقصر ما يكون عشرة أحرف. وجميع هذه الأبيات المذكورة من بيوت العرب وبيوت الشعر، على قصرها وطولها، وخفتها وثقلها، سيارة في أرض الله، فما ظنك يا حضرية بأهل دار يحمل بيتهم على البعير ويدلج به في العير؟ ريحانك نبت في حوض وريحان البدوية مبثوث في الروض. ولو نزلت في حللهم " الجرادتان " وهما المغنيتان اللتان كانتا على عهد " قيل بن عتر " من عاد، لتمنتا أنهما جرادتان تطيران وتزفيهما جنوب وشمال عن أولئك الجيران. القوم كرام ولكن صحبتك لهم حرام. إن الكلب إذا ربض بفنائهم لا يكهر، وإذا ولغ في إنائهم لم يطهر. لو حلت فيهم قينة الحضر لجن جنونها من عيش مذموم، وفرت من الرمل والمزموم. وإنما عنيت بالمزموم والرمل جملاً يزم ورملاً من السير يذم. وما عنيت مزموم الغناء ورمله، لقد شمر فقير سمله. إنما بيوت البادية كما قال " الفقعسي ": ويومٍ من النجم مُستوقِدٍ ... يَسُوق إِلى الركبِ نُورَ الظِبَاء تراها تلوذ بِغيرانِهما ... ويَهجمُها بارِحٌ ذو غمَاء لجأت بصَحْبِي إلى خافِقٍ ... على نبْعَتيْنِ بأرضٍ فضاء تنازِعُنا الريحُ أَقطارَه ... وكسْرَيْه يَرمَحُ رَمْحَ الفِلاء وبيضاءُ تَنْفَلُّ عنها العيون ... تطالعنا من وراء الخِباء يعني بالبيضاء الشمس، كما قال الآخر: وبيضاءَ لم تَطبَعْ ولم تدْر ما الخنى ... ترى أَعْيُنَ الفِتيانِ من دونِها خُزْرا ولو نزل على بيوتهم " أبو عمرو بن العلاء " لشغل عما بين الباء والسين، أو " عمرو بن عثمان " المعروف بسيبويه "، لذهل عما بين الثاء والراء. وأهل الحضر يرثون بيوتهم أباً عن جد، وأهل البدو يفتقرون في المدة القصيرة إلى بيت مستجد. ولم يبق فيهم أرب لطلاب الفصاحة فيقول قائل: أنزل فيهم فلعلي أسمع مستطرفاً من القول. ولقد تبعتهم تارات فيء الظعن وشاهدتهم إذا أجرهد السير وترجل النهار وتجاوبت الحداة من كل أوب، لا يعرفون غير هذين البيتين يكررونهما تكرير النفس: يا حُلْوَةَ العَيْنين في النِّقابِ لا تَحْبِسيني قد مضى أَصحابي كأن أم الرجزعقيم من غيرهما، وكأن الرجاز من عهد عدنان وقبل ذلك، غفلوا عن الرجز إلى اليوم! وكأن " أبا النجم، الفضل بن قدامة " صدق لما قال: أَنا أَبو النجمِ إِذا اشتدَّ الحُجَزْ تَفْنَى إِذا مُتُّ أَفانينُ الرجَزْ وقد حمل " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - رغبته في إيناس الرعية ورأفته بمن ولي من العامة، أن كلف " أسد الدولة " - أدام الله تمكينه - أن يحمل إلى " حلب حرسها الله "، والدته " الرباب " إيثاراً لسكون الأنفس وإعلاماً للسواد الأعظم بالتئام الكلمة والتضافر على صد الأعداء. ولا امتراء في أن " أسد الدولة " - أدام الله تمكينه - أشفق على والدته من " أبي عبادة " على كلمته السينية: صُنْت نفسي عما يُدَنِّسُ نفسي ... وترفعْتُ عن جَدَا كل جِبْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فإن " أبا عبادة " صان وتديها عن التشعيث، فما ظنك بعربي يسكن العماد يشفق على بيت عربية من تشعيث الوتد؟ والأوتاد يوصفن أبداً بالشعث، قال " الكميت " يصف الوتد: وأَشعَثَ في الدارِ ذي غُرْبةٍ ... يُطِيلُ الحفوفَ ولا يَقْهَلُ وقال " ذو الرمة ": لم يُبْقِ منها أَبَدُ الأَبِيدِ ... غيرَ ثلاثٍ ما ثلاثٍ سودِ وغيرَ مَشجوجِ القَفا مَوْتودِ ... أَشعثَ باقي رُمَّةِ التقليدِ وذلك كثير في الشعر. فأما تشعيث وتد القصيدة فإن وزن السينية إذا كان مستعملاً بالردف، جاء في الجزء الذي يقع فيه اللين زحاف يسمى التشعيث لم يمتنع منه الشعراء في الجاهلية ولا الإسلام، كما قال " اليشكري ": آذنَتْنا بِبَيْنِها أَسماءُ فقوله: أسماء، فيه تشعيث، وكذلك قول الآخر: ليْسَ من ماتَ فاسترَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنما الميْتُ مَيِّتُ الأَحياءِ فقوله: الأحياء، فيه تشعيث. فإذا فقدت الأوزان من هذا الجنس حروف الردف جاءت سالمة من التشعيث، لأنه إذا ظهر بأن خلله فيها، فيجتنبه الفحول مثل ما اجتنبه " أبو عبادة ". وربما جاء فيما فقد لينه من الأوزان، كما قال " أبو داود ": كنتُ جاراً لكم فأَشمَتُّمْ النَا ... سَ بلى اليومَ آل كعبٍ وعَمْرِو شرُّكُمْ حاضِرٌ ودَرُّكُمْ دَرُّ ... م خَروسٍ من الأَرانبِ بِكْرِ يا فتى ما قتلتُم غيرَ دَعْب ... وبٍ ولا من فُوَارةِ الهِنَّبْرِ وفتًى يُطعِمُ الأَرامِلَ إِذْ هَبَّ ... تْ نسيمُ الشتاءِ بالصِنَّبْرِ ورأَيتَ الإماءَ كالجِعْثِنِ البا ... لي قياماً على فُوَارِ القِدْرِ ورأَيتَ الدخَانَ كالكودَنِ الأَصْ ... حَمِ يَنباعُ من وراءِ السِّتْرِ فالأبيات الأربعة الأخيرة قد أدرك قوافيها التشعيث، وهو غير خاف في الغريزة. وإن الأعرابية إذا دخلت المصر، لتشبه النون الخفيفة أو الثقيلة إذا دخلت في غير مواطنها الستة، كما قال " جذيمة الأبرش ": ربما أَوْفَيتُ في عَلَمٍ ... نَرفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ وعن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - ليتكلف من إيناس الرعية ما لا يجب على السلاطين، حتى لقد خلط بالنساء المدريات سواكن البر القفريات، فمثله مثل قائل: إِنَّ بالشِّعْبِ الذي دون سَلْعٍ لزم من تشديد اللام في القافية ما لا يجب عليه. وكذلك " زياد " لما قال: غَشِيتُ منازلاً بعُريْتِناتٍ ... فأَعْلَى الجَزع للحَيِّ المُبِنِّ لزم في القصيدة من تشديد النون ما لا يجب عليه. وكذلك " كثير " لما قال: خَلِيليَّ هذا رَبْعُ عَزَّة فاعْقِلا ... قَلُوصَيْكما ثم انزِلا حيثُ حَلَّتِ فلزم اللام قبل التاء، وذلك لغزارة البحر في الشاعر ولعظم القدر. والرأفة في قلب الملك، فما الذي يطلبه الجالون إلى البادية؟ إذا نزلت الكرائم من الأعرابيات بحلب حرسها الله فما يبتغي مصاحب البادية إلا مقلتاً من الأرض يحكم إذا نزله المقلة من الحصيات، كما قال " القيني ": أَلم ترني ردَدتُ على عَدِيٍّ ... وقد خلَعتْ هوادِيهَا نِعالا حُشَاشَتَه وبِنتُ الأَرضِ تقضِي ... إِذا ما استودف القومُ السِّخالاَ أو كما قال " مزاحم العقيلي ": ولمَّا ركِبْنا صَعْبَها وذَلُولَها ... إِلى أَن حجَبْنا الشمسَ تحت السُّرادِق رمَتْنا بِفِلْذٍ من سَرارِة قلبِها ... فطُفْنَا به من بين حاسٍ وذائِقِ وشجر الأعرابية سلم يرف، وشجر الحضرية الحبلة والضرف. جناة النازلة في البدو إنما هي ابن أوبر أو المغرود، وجارها الناشط يرود كما قال " الرؤاسي "، ورؤاس حي من كلاب بن ربيعة: يا أُخْتَ ذَحْوَةَ بل يا أُختَ إِخوَتِهم ... من عامِرٍ أَو سَلُولٍ أَو من الوقَعَهْ هل يَكفِيَنْكِ ضَريبُ الشَّوْلِ ضاحِيَه ... والشحْمُ من حائر الكَوْماءِ والقَمَعَه ومن جَنَى الأَرضِ ما تأتي الرِّعاءُ به ... من أُتْنِ أَوْبَرَ والمُغرُودِ والفَقَعَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ومثْلِ آتِيِّ ضَحضاحٍ الثِّميلةِ من ... نَخْلٍ ابنِ يامِنِ بَيْنِ الحوضِ والقَلعه إِنَّا أُناسٌ بِبَرٍّ لا بُحورَ لنا ... بحيث تنثُرُ تلك اليُمنةُ الزَّمَعَه ألم تعلم تلك الحواريات أن رجالهن الجالين إذا عقلوا بحلب، حرسها الله، يضيفون الروذق إلى الخضيمة، ويزيلون الغيم الغالب على الأفئدة بالقارس في حر الظهيرة، ويذهبون الدرن بالناغر من ذات الزبر والصرفان، وينظرون بهاء " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - إذا ركب مع الناظرين، وتلك هي الفضيلة العظيمة؟ فما يردن من ظعائن يتبعن البارق ويكافحن الشارق ويحدجن الأينق بنفوسهن ويعددن النظر إلى السراب مغنياً في البادية عن الشراب؟ ظعائنُ أَبْرقْنَ الخريفَ وشِمْنَه ... وخِفْنَ الهُمَامَ أَن تُقادَ قنابِلُه ترحض إحداهن ثوبها من " قويق " فلا يدركه الوسب إلا وبيتها مضروب على " دجلة " أو فيض " الأبلة " أو " كافر: نهر الحيرة ". وترعى شاتها في أول الربيع نبت الشام وترعى في آخره نبت العراق. وتجني البلس في وعاء الشام فلا تذهب فضوله من ذلك الوعاء حتى يخلط بها شيء من تمر العراق، وذلك بسيرها في البردين لا بما حمله إليها المائر في شهر المليساء: إِذا الجَوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... فظُنَّ بِآل فاطمةَ الظنونا فالحمد لله الذي جعل " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يصرف على اختيار شخص " أسد الدولة " - أدام الله تمكينه - كما صرف الراجز اسمه على اختيار، فقال: لَئِنْ خرجتُ من دِمَشقَ صالِحا وقد تجهَّزتُ جهِازاً صالحا لأَجذبَنَّ النِسْعَ جَذْباً صالحاً وآتِيَنَّ بالعراقِ صالحاً إِني رأَيتُ صالحاً لي صالحا ولولا أن الوزن الذي يسمى ركض الخيل وزن ركيك، لوجب على نقيب الشعراء أن يتقدم إليهم ألا ينشدوا " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - شعراً في هذه الآونة إلا على ذلك الوزن. ولكنه وزن ضعف وهجرته الفحول في الجاهلية وفي الإسلام. وربما تكلفه بعض الشعراء، كما قال: أَوَقَفْتَ على طَلَلٍ طَرَباً ... فشَجاكَ وأَحزَنَكَ الطَّلَلُ وقد تأملت عدو الخيل فوجدت هذا الوزن يشابه التقريب الأعلى والتقريب الأدنى، على حسب عجلة المنشد وترسله. وهما تقريبان أحدهما الثعلبية والآخر هو الذي يسمي الإرخاء. وكلاهما إذا سمعته أدى إلى سمعك هذا الوزن بعينه. وذلك أن الفرس يضرب بحوافره الأرض ثلاث ضربات متواليات ثم يثب، فيكون ضربه الأرض موازياً لثلاثة أحرف متحركات، ويكون وثبه موازياً للسكون. والمرجفون بزعيم الروم يزعمون أنه كاسم الفاعل يعمل في ما يستقبل من الزمان. وقد مضى القول في أن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يصغره إذا خرج، وقد علمنا أن اسم الفاعل إذا صغر بطل عمله، فمن قال: هذا ضارب زيداً غداً، لم يجز أن يقول: هذا ضويرب زيداً غداً. ولعل المرجفين بذلك، يظنون أن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - قليل العدة؛ وهو بنفسه الخميس اللجب. وإنما مثله في " حلب حرسها الله " مثل الضمير يضمر فيختصر، فإذا ظهر عظم شأنها. ألا ترى إلى قوله تعالى: " ولو أنهم فعلوا مما يوعظن به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً "؟ فالهاء في " به " تدل على أشياء كثيرة مما وعظوا به، ولو ظهرت لا تسع فيها القول وكيف يظن ذلك بسلطان بعض جنوده " بنو عامر بن صعصعة " وهم الذين رأت أمهم في المنام قائلاً يقول لها: إِذا ولدْتِ عامِراً وعامِرا فقد ولدتِ العدَدَ الجَمَاهرا فولدت " عامر بن صعصعة وعامر الأجرار من كلب ". وحكم حلفائهم وجيرانهم مثل حكمهم الفرزدق النجدة والمسارعة إلى النصرة. ومن بعض حلفائهم طيء، ومن بعض أحياء طيء سنبس، وقد قال " الأخرم السنبسي ": لَنَا زَارةٌ ضَبِسٌ نَابُها ... يَهونُ على حامِيها الوعيدُ بِها قُضُبٌ هندوانِيَّة ... وغابٌ تَزَاءَرُ فيه الأُسودُ ثمانونَ أَلْفاً ولم أُحْصِهمْ ... وقد بَلَغتْ رجْمَها أَو تزيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وإنما جعلت حلفاءهم مثلهم، لأن بعض ما يزاد في الكلمة يكون مثل حرفها الأصلي. ألا ترى أنك إذا جمعت كوثراً أو صغرته قلت: كويثر وكواثر، فكانت الواو وهي زائدة، ثابتة ثبات عين جعفر وما كان مثلها من الأصليات؟ وكذلك الجزء من الشعر يزاد عليه شيء من الجزء الآخر فيصير معه لا يفارقه، كما زيد الترفيل والإذالة على السباعيين في مثل قول الأول: اِحْبِسْ جمالَك يا ابنَ قَيْ ... لةَ إِنها إِحدى المَحابِسْ يا صاحِبَيَّ سَلِمتُما ... منْ خاطِرٍ في القلبِ هاجسْ وفي مثل قول المرأة المكية: أَبُنَيَّ لا تَظلمْ بِمَكةَ ... لا الصغيرَ ولا الكبيرْ واحفِظْ مَحارِمَهَا ولا ... يَغرُرْكَ باللهِ الغَرورْ ولعل بعض المعادين يحسب أن هذه الطوائف لا تهش للقتال، يذهب إلى أنهم بلا أرزاق. أو ما شعروا أن إقطاعهم كالأرزاق لهم؟ لو لم يكن لهم إقطاع لقاتلوا حمية وانتصاراً. قال الراجز: نحن ضرَبْنا الأَسْدَ بالعِراقِ ... والحَيَّ من ربيعةَ المُرَّاق بِلا معونةٍ ولا أَرْزاقِ ... إِلا بَقايا كرَمِ الأعْراقِ ضرْباً يُقِيمُ صَعَرَ الأَعْناقِ والمرجفون من أهل الجهل يتخوفون أن زعيم الروم إن خرج نازل " حلب حرسها الله ". ولو فعل لجاز أن يكون للأيام الثلاثة يوم رابع. والأيام الثلاثة: يوم المخاضة، ويوم أفامية، ويوم الكرملوك. وقد مضى القول في أن اللفظة تحمل على الطيرة وعلى الفأل ولو رأت جيوش الروم " قويقاً " لجاز أن يكون لهم طيرة بالهلاك، لأنه تصغير قاق، من تسمية العامة الغراب قاقاً. فينعب لهم قويق بتفريق الشمل. وكذلك لو رأت " العافية " هذه القرية، واسمها لأهل حلب حرسها الله فأل لعافية الجسم والصحة من السقم، وهي للعدو طيرة تعفو أثره، من قولك: عفته الريح، كما قال " حسان ": دِيَارٌ من بَني الحَسْحاسِ قَفرٌ ... عَفَتْها الريحُ بَعْدَكَ والسماءُ ولو نظروا إلى " القلعة " قابلتهم الطيرة بالبوار، لأن القلعة، بتحريك اللام، هو الكلام الصحيح، وهي موافقة لجمع قالع من قولك: قلع الفارس عن فرسه، فالواحد قالع والجمع قلعة، مثل ضارب وضربة. ولا عجب من أمر الله: كانوا يرون " القلعة " من أبواب المدينة شامخة في أعنان السماء، ثم تخرج إليهم القلعة من أبواب المدينة. فانظر إلى هذين المعنيين كيف حسنا مع التضاد؟ و " القلعة " أدام الله حمايتها وإن كانت معقلاً للمسلمين، فقد صارت لما ملكها " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - كالقلعة السحابة العظيمة، واحدة القلع من قول " الباهلي ": بِقَاعٍ من فَسا ذَفِرِ الخُزامَى ... تَهادَى الجرْبِياءُ به الحِنينا تَفَقَّأُ فوقَه القَلَعُ السَّواري ... وجُنَّ الخَازِبازِ به جُنونَا وإنما صارت كذلك لأن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يمطر عليهم الإحسان ويبلهم بالمعروف. ومن سكن لام القلعة من العامة، فهو فأل لأهل البلد وطيرة للعدو، وكأنه المصدر من: قلعت الجيش عن الموضع قلعة. وإنما مملكته في هذا الموطن كما قال " ابن أحمر ": اِسلَمْ بِرَاووقٍ حُبِيتَ به ... وانعَمْ صباحاً أَيها الجَبْرُ ما أُمُّ عُفْرٍ بالغَلاَلةِ لم ... يمَسَسْ حَشَاها قبلَه غُفْرُ قَعَدتْ من الشُّمِّ الطوالِ إِلى ... عنقاءَ يَلغَبُ دونَها النَّسْرُ فذكر " المفجع " أن " ما " في قوله: ما أم غفر، للنفي، وأن الخبر محذوف. ولا يعجبني هذا القول. وإنما المعنى أنه أراد الاستفهام والتقرير، لأنه يخاطب امرأة ويزعم أنه أشار عليها بأمر فلم تقبل، أي: لو كنت قبلت لكنت كأم الغفر في المنعة والعز. وما، على معنى التقرير كما جاء في الحديث: " أم زرع وما أم زرع " أي: أي شيء هي: على معنى التعجب من الخير الذي هي فيه. ولو نزل جيش العدو - خذله الله - بظاهر " حلب حرسها الله "، لصادفته القافية على الروي ومنع نومه الرس، وخاف الشجب من الحذو، وفقد الإشباع وفزع إلى التوجيه، وطلب المجرى والنفاذ فوجدهما عزيزين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وأضر به في ذلك الإقواء وأكفى عن المراد، وعرفه " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - كيف يكون الإيطاء. وحمل البطريق على السناد، وسأل في تضمين وإغرام، ومن له بأن يصل إلى الإجازة أو الإجارة؟ ولكره جيشهم أن يدنو إلى التأسيس، وذهل عن الردف إذا وقع بهم وصل وخروج. فكان صاحب الردف كما أنشد " حبيب بن أوس " في بعض اختياراته " للفرار السلمى ": عَدمتُ أُناساً بالجليلِ كأَنما ... عَميدُهمُ لَيْثٌ بِبِيشَةَ أَقْدَعُ كأَن ابنة الشَّقْراءِ لمَّا ابتذلتُها ... بِذي الرِّمْثِ ظَبيٌ من تَبالة أَخْضَعُ غداةَ يقولُ القَيْنَ هل أنت مُردِفِي ... وما بين ظهرِ القَيْنِ والرُّمحِ إِصبَعُ فقلت له يا ابنَ الخَبيثةِ إِنها ... برَبٍّ خفيفٍ واحدٍ هي أَسرعُ فإِن يَكُ عاراً يومَ ذاكَ أَتيتُه ... فِراري، فذاكَ الجيشُ قد فَرَّ أَجمعُ وهذه الألفاظ التي تقدمت، ملغزة عن حروف القوافي وحركتها، وعيوب الشعر: فأردت بالقافية جماعة يبرزهم السلطان - أعز الله نصره - فيقفون العدو، أي يضربونهم في قفيهم. من قولك: قفوته، إذا ضربت قفاه. فالواحد قاف والجماعة قافية. كما قتلو: رجل سائر ورجال سائرة. وألغزتها عن قافية البيت. والروي الماء المروي. ألغزته عن روي الشعر. والماء الروي هو " قويق " المبارك الذي إذا حمل على أنه تصغير: قاق، من قول العامة للغراب: قاق، فهو فأل بالسعادة الدائمة لملك هذا المصر ورعيته. لأن " قويقا " مذ أجراه الله لحلب حرسها الله، لم يصده عنها شيء. فكان مثل قولهم في المثل: ليس غرابهم بمطار. قال " النابغة ": ولآلِ عَتَّابِ وقَدٍّ سُورَةٌ ... من المجدِ ليس غرابُها بِمُطارِ وقيوق على هذا القول، هو ذلك الغراب المذكور في المثل. ونقيض قول " النابغة ". قول " النميري ": فلو كنتُ معذوراً بنصرِكَ طيَّرتْ ... صقوريَ غِربانَ البعيرِ المقَيَّدِ وعنيت بالرس، ما يجده الرجل في قلبه من وجد أو حزن. يقال: وجد رساً ورسيساً. ألغزته عن الرس وهو الفتحة التي تكون قبل التأسيس، كفتحة النون في قول " النابغة ": كِليني لِهَمِّ يا أُميمةُ ناصبِ وعنيت بالحذو، المصدر من قولك: حذوت المكان أحذوه حذوا، إذا حاذيته. والمكان هو " حلب " حرسها الله. ألغزته عن الحذو في الشعر، وهي حركة ما قبل الردف، تكون مرة فتحة، ومرة ضمة، ومرة كسرة. وعنيت بالإشباع، المصدر من: أشبعهم الطعام، ألغزته عن الإشباع في الشعر، وهو حركة الحرف الدخيل، ومكانه بين التأسيس والروي. مثل صاد " ناصب " وقد يكون الإشباع حركة ما قبل الروي بغير تأسيس. وعنيت بالتوجيه، توجيههم في طلب الصلح. ألغزته عن توجيه الشعر. وهي حركة ما قبل الروي المقيد. وعنيت بالمجرى. مجرى الخيل. ألغزته عن المجرى في الشعر، وهي حركة حرف الروي. وأردت بالنفاذ، المضاء في الأمر. ألغزته عن النفاذ في الشعر، وهي حركة هاء الوصل. كفتحة الهاء في قول " لبيد: عَفَتِ الديارُ محلُّها فمُقامُها وعنيت بالإقواء، فناء الزاد. ألغزته عن إكفاء الشعر. والمكفأ الممال. قال " ذو الرمة ": ودَوِيَّةٍ قَفْرٍ ترى وجهَ رَكْبِها ... إِذاع ركبوها مُكفَأً غيرَ ساجعِ وعنيت بالإيطاء، إيطاء الفرس القتيل. كما قال " زيد الخيل ": يا بني الصيداءِ رُدُّوا فَرَسي ... إِنما يُفعَلُ هذا بالذليلْ عَوِّدُوا مُهري كما عوَّدتُه ... دَلَجَ الليلِ وإِيطاءَ القتيل ألغزته عن الإيطاء في الشعر، وهو ترديد القافية مرتين. وعنيت بالسناد، الناقة الضامرة يحمل عليها البطريق إذا أسر، ألغزته عن السناد في الشعر، من قول " عدي بن الرقاع ": وقصيدةٍ قد بِتُّ أَجمَعُ شملَها ... حتى أَقوِّمَ مَيْلَها وسِنادَها والتضمين، من قولك: ضمن الرجل نفسه سواه، إذا ضمن عنه المال. ألغزته عن التضمين في الشعر، وهو أن يتم البيت والمعنى لم يتم. بل يكون متعلقاً بالبيت الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 والإغرام، من قولك: أغرمته مالاً. ألغزته عن الإغرام في الشعر، وهو ضرب من التضمين أيسر منه. وقال قوم: بل الإغرام أن يتم البيت ولا تتم الكلمة. وذلك مفقود في أشعار المتقدمين، وربما تكلفه المولدوه. كما قال بعضهم: أَبا بكرٍ لقد جاءَتْك عن يحيى بن منصو رِ الكأسُ فخذْها منه صِرفاً غيرَ ممزو جةٍ جنّبكَ اللهُ أَبا بكرٍ من السُّو وعنيت بالإجازة، المصدر من قولك: أجزت القوم دار المخافة، إذا عبرتهم إياها. ألغزتها عن الإجازة في الشعر، وهو اختلاف حركة ما قبل حرف الروي في الشعر المقيد، كما قال امرؤ القيس: " أني أفر " ثم قال: " جميعاً صبر " ثم قال: " واليوم قر " والإجارة، أردت بها: أجرت القوم من العدو. ألغزتها عن الإجارة في الشعر، وهي مثل قول الراجز: باتتْ وباتَ ليلُها دَبا دبا ... يَتبعْنَ محبوكَ القَزالِ أَخدَبا فهو أَخٌ لهذه وعَمُّ تا وعنيت بالتأسيس، المصدر من: أسست البناء. وإنما أردت تأسيس السور. ألغزته عن تأسيس الشعر. وهو أن تجيء فيه ألف بينها وبين حرف الروي حرف واحد، كألف: ناصب، ونحوها. وعنيت بالوصل، اتصال المطر، من قول الشاعر: سُحَيْراً وأَعناقُ المَطِيِّ كأَنها ... مدافعٌ ثُعْبَانٍ أَضرَّ بها الوصْلُ يريد اتصال المطر. والثعابن ينشد هنا بالعين، ولو أنشد بالغين المعجمة لصلح. ألغزته عن وصل الشعر، وهو ألف أو ياء أو واو أو هاء، يكن بعد حرف الروي. والخروج، أردت به خروج الناس للقتال، ألغزته عن الخروج في الشعر، وهو ألف أو واو أو ياء، يكن بعد هاء الوصل المتحركة. وقد يحتمل أن أعني بالوصل، وصل القوم خروجهم بعضه ببعض. وإنما حملته على المطر في القول الأول، لأن المرجفين من أهل ملة العدو يزعمون أنه يؤخر خروجه إلى الشتاء. وأحلف إن كان عزم على الخروج في الربيع ثم انكسر عن ذلك، إنها لأول هزيمة. والكسر إن شاء الله يتبع الكسر، كما قرأ بعض الأعراب: " الحمد لله رب العالمين " فأتبع الكسر الكسر. أو ليس المتحاربون يواعد بعضهم بعضاً الربيع ونبات الروض؟ ولذلك قال القائل: قد كنتَ تأَمَنُنا والجَدْبُ دونَكُمُ ... فاحذرْ إِذا بُقْقُ أَولادِ الجرادِ نَزا وأنشد " ابن الأعرابي ": وقد جعلَ الوَسمِيَّ يُنبِتُ بيننا ... وبين بَنِي رُومانَ نَبْعاً وشَوْحَطَا أي تقتتل إذا أنبت الروض، فنترامى عن قسى النبع والشوحط. وقال آخر: وفي البَقْلِ إِن لم يدفعِ اللهُ شَرَّه ... شياطينُ ينزو بعضُهن على بَعْضِ وقال " الإيادي ": قومٌ إِذا نَبَتَ الربيعُ لهم ... نبَتَتْ عَداوتُهم مع البَقْلِ ومن هذا النحو، بيت ينشده أصحاب المعاني: لو وصلَ الغيثُ أَبْنَيْنَ امرأَ ... كانت له قُبَّةٌ، سَحْقَ بجادْ أصحاب يلو جاء المطر واتصل، لرعت الخيل النبت فقويت على الغزو والغارة، فأغرنا على الرئيس صاحب القبة فاحتاج، لأخذنا قبته، أن يتخذ بجاداً خلقاً على عمودين يستتر به ويستظل. وبعض أهل العلم ينشد هذا البيت: لو وَصَلَ الغيثُ لأَبْنَيْنَ امرأً وكذلك ذكره " أبو عمر " في كتاب الياقوت. وهو خطأ لا محالة. وإنما يفعل ذلك من لا معرفة له بعلم الأوزان، لأنه يرى الوزن وقد نفرت منه الغريزة، فيجذبه بطبعه إلى ما يألف. ألا ترى أن قوله: لو وَصَلَ الغيثُ لأَبنيْنَ امرأً هو نصف الرجز التام تقبله الغريزة بلا إنكار؟ إلا أنه إذا فعل به ذلك بعد شكله من النصف الثاني. وقد روت الرواة أشياء كثيرة فأفسدوها في النقل. وسبب ذلك، الذي أخبرتك به. وهذا البيت في أبيات توجد في كتاب الصعاليك الذي يرويه " علي بن سليمان " وهي لرجل من اللصوص. وفيه أبيات قد لحقها في النقل من الفساد مثل ما لحق هذا البيت في رواية رواية من قال: " لأبنين امرأ " والأبيات: سائِلْ سُلَيمى إِذا لاقيتَها ... هل تُبْلَغَنْ بلدةٌ إِلا بِزَادْ قل للصعاليكِ لا تَسْتَحسِروا ... من التماسٍ وطَوفٍ بالبلادْ فالسَّيرُ أَحْجَى على ما خيَّلت ... من اضطجاعٍ على غَيْرِ وِسَاد لو وصلَ الغيثُ أَبْنَيْنَ امرأَ ... كانت له قُبَّةٌ، سَحْقَ بِجادْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وفي كتاب الصعاليك: " لو وصل الغيث أبنين امرأ " بغير لام، وهي الرواية الصحيحة، إلا أن فيه بعد هذا البيت: وبلدةٍ موحِشةٍ أَرجاؤها ... أَصداؤها مَغرِبَ الشمسِ تَنَادْ وقد لحق هذا البيت الفساد بزيادة هاء التأنيث، مثل ما لحق البيت المتقدم بزيادة اللام، وأشبه ذلك أن يكون من سوء النقل. وتصحيح الوزن أن يكون بغير هاء: " وبلدة موحش أرجاؤها " وبعد هذا البيت: جاوَزْتُها وصاحبي عَيْرانةٌ ... في مرفقيها عن الدفِّ تَعَادْ فقد أفسد الوزن بقوله: " وصاحبي " بزيادة الواو. وإنما تصحيح الوزن أن يقال: " جاوزتها صاحبي عيرانة ". وهذا الفساد متجانس. ولا شك أنه من جهل الرواة. وقد حكى " محمد ابن سلام " عن " يونس بن حبيب " أنه قال: " عجبت لمن يأخذ عن " حماد " وهو يلحن ويكذب ويكسر ". ول " حبيب بن أوس " كتاب يعرف بكتاب القبائل فيه خمس وثلاثون قبيلة من معد بن عدنان، وليس فيه قبيلة من قبائل قحطان! وفيه أبيات من قصيدة " المرقش " التي أولها: لابنةِ عَجْلانَ بالجزعِ رُسومْ ... لم يتعفَّينَ والعهدُ قديمْ وهي في وزن هذه الأبيات الماضية. وفيما ذكر " حبيب " فساد بين. فيجوز أن يكون أفسده من نسخ الكتاب من بعد " حبيب " ويجوز أن يكون " حبيب " ذكرها على ذلك، لأنه وجدها في النقل، عليه. فأقرها على ما وجد. ثم أعود إلى حديث الغزو في الربيع. ألا ترى إلى قوله: " هل تبلغن بلدة إلا بزاد " أي اعذريني يا سليمى فإني لا سبيل إلى الغزو، وذلك لفقد الزاد. وقال " النابغة ": وكانت له رِبْعِيَّةٌ يعرفونها ... إِذا خضخضتْ ماءَ السماءِ القبَائِلُ تحثُّ الحداةَ، جالزاً بردائه ... يقي حاجبيه ما تثير القناديلُ ولكن الطاغية هاب العرب وغيرها من جيوش المسلمين فجعل يطلب المعاذير. وقد كان رأي " حلب حرسها الله " في سنة خمس وثمانين ووطيء بساطه من كان بها من الولاة. ولو رآها الثانية لكان كما أنشد " ابن السكيت " " للأسدي ": لما رأَى برقا يُضِيءُ وميضُه ... منازلَ من أَسماءَ كانت تكونُها بكى جَزَعاً من أَن يموت فأَجْهشَتْ ... إِليه الجِرِشَّي وارْمَعَلَّ خنينُها ولو خرج في الشتاء كما يدعى أهل ملته، وذلك إذا طلع قلب العقرب، لهره الهراران: شيبان وأخوه. فكان مثله ومثل أصحابه مثل نابحات أصمتها أريز وشفيف، ولكان أصحاب القسي من جنوده في ليلة كليلة " الشنفرى الأسدي " لما ذكرها فقال: وليلةِ نَحْسٍ يصطلي القوسَ ربُّها ... وأَقطُعَه التي بها يتنبَّلُ سريتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصحبتي ... سُعارٌ وإِرزيزٌ وجِنٌّ وأَفكَلُ يعني بالغطش إظلام البصر، والبغش: المطر الضعيف، والسعار شدة الجوع. قال الشاعر: تُسَمِّنُها بأَغزرِ حَلبتيها ... ومولاكَ الأحَمُّ له سُعَارُ ويقال: السعار شبه الجنون من الجوع: والجن ظلام الليل. والإرزيز الصوت، كأنه يعني صوت أسنانه من الرعدة. ويجوز، إذا قلنا إن الإرزيز الصوت، أن نجعله ها هنا الرعد " ويقال: الإرزيز، وخز على الكبد من الجوع. والأفكل: الرعدة ". ولو نزل بهم ذلك لتهادوا أوتاد الخيام ليوقدوها في المجامر، كأنها المجمر أو الغار، ولقال الأعرابي لامرأته وهو يريد الغنيمة وضمها إليه، كما قال " مرة بن محكان " لامرأته وهو يريد إكرام الأضياف: يا رَبَّةَ البيتِ قُومِي غيرَ صاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِليكِ رِحالَ القومِ والقِرَبَا يا ليلةً من جُمَادَى ذاتَ أَندِيةٍ ... لا يُبصرُ الكلبُ من ظلُماتِها الطُّنُبَا لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ... حتى يلفَّ على خيشومِه الذنَبا إذاً لقال العلج الكافر وقد غمره الصقيع - وهو فيما يزعم يناجي ربه ويستغيث " المسيح " لو أغاثه - كما قال بعض الأعراب لما كلب عليه القر: أَيارَبِّ إِن القُرَّ أَصبحَ مؤذِياً ... وإِني لَسُبروتٌ ومَالِيَ دِرهمُ فإِن كنتَ يوماً ما جهنمَ مُدْخِلي ... ففِي مثلِ هذا اليومِ طابت جهنمُ رويدك رويدك! إن أمامك لأمرين: إساراً يطيل استخدامك، أو سيفاً يسفك دمك كما قال " الحارثي ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فقالوا لنا ثنتانِ لا بد منهما ... صدورُ رماحٍ أُشرِعتْ أَو سَلاسِلُ ولو نزل خميسهم بحيث يظن المرجفون، وهو وافر كامل، لرأيت الطويل العاتر مديداً فيهم، والخفيف المقبوض بسيطاً إليهم. فكثر المتقارب عند ذلك بينهم، وسمعوا الهزج والرجز، فعجزوا عن الرمل والمضارع له في تلك الساعة، وكان السريع والمنسرح عندهم محمودين. وظل جيشهم مجتثاً وعميدهم مقتضباً؛ واستغنى بما أخذ منهم الخليل وحمل جهازهم على العروض، وكثر فيهم المقيد وقل المطلق. وهذه الألفاظ ألغزتها عن أجناس الشعر التي رتبها " الخليل: فأردت بالطويل الرمح، وبالمديد الرمح إذا مد إليهم، وهو فعيل من: مددت، في معنى مفعول. وعنيت بالخفيف السيف، لأن السيوف يقال لها: البيض الخفاف. وأوهمت أني أريد الخفيف من الشعر. وأردت بالمقبوض، الذي قبضة الكف على قائمه. وأوهمت أني أريد المقبوض الأجزاء، وهو الذي ذهب خامسه الساكن في الأصيل. وليس في الخفيف من الأوزان قبض، فذلك تقوية للإلغاز. ووصفت الجيش بالوفارة والكمال، لأن في الشعر وزنين يقال لهما: الوافر والكامل. وعنيت بالبسيط، المبسوط للضرب، لأن في الشعر وزناً يقال له البسيط وذكرت الهزج وأنا أعني به هزج السيوف في الضرب، لأن في اشعر هزجاً. وعنيت بالرجز، ارتجاز القوم في الحرب، لا أني خصصت به الرجز الذي ذكره " الخليل " دون الرجز على مذهب العرب. وأردت بالرمل، الرمل من السير، كما قال الراجز: مالَكِ من شيخِكِ إِلا عَمَلُهْ إِلا رسيمُه وإِلا رَمَلُه وأردت بالمضارع له، ما قاربه من السير، ومن ذلك قيل للفعل مضارع، لأنه ضارع الأسماء، أي قاربها. وعنيت بالسريع، الرجل الذي يسع في الهرب. وبالمنسرح، الذي ينسرح في السير ويمتد، من ذلك: سرحت الغنم إذا أرسلتها. وأردت بالمجتث، الذي قد اجتث أصله، أي قطع. وبالمقتضب، الذي قد اتضب من أصحابه، أي اقتطع. والاقتضاب الاقتطاع. والمتقارب، أردت به الخطو المتقارب من الفزع، أو الرجل الذي تقارب خلقه، أي انضم وتضاءل من الخوف. فهذه أجناس العروض الخليلية، قد مضت في هذا الفصل على معنى اللغز والتورية. وأردت بالخليل، الفقير. ألغزته عن " الخليل بن أحمد ". وأردت بالعروض، الناقة التي لم تكمل رياضتها. ألغزتها عن عروض الخليل قال الشاعر: ورَوْحةِ دُنيا بين حَيَّينِ رُحتُها ... أَسيرُ عروضاً أَو قضيباً أَرُوضُها وأردت بالمقيد، رجلاً قيد. وبالمطلق، من يطلق من الإسار. وزعم المرجفون من أله ملة الطاغية، أنه قد أمر قوماً من أهل عمله، بحفر أماكن في بلده ظن المرجفون أن حفرها يكون قوة لزيادة الماء في السعيد " قويق " - جعله الله الغمر السائح - وإنما سميته السعيد لأن النهر الصغير يقال له سعيد، وجمعه سعد. قال " أوس بن حجر ": وكأَن أَظعنَهم مُقَفِّيةً ... نَخلٌ مَوَاقِرُ بينها السُّعُدُ ولأنه سعد بقربه من " السيد عزيز الدولة " أعز الله نصره " وبكونه شرباً للمسلمين. وفي قدرة الله تعالى أن يجعله في الآخرة من أنهار الجنان. وزعموا أن ذلك الموضع يتصل بالسواجير. وتلك السواجير في أعناقهم إن شاء الله. وهذا فن من الكذب دل على نزول الطاغية بدار المعجزة. وكيف لنا أن يذهب الله عمرو! وما له في تقوية " قويق " السعيد حتى يكون ثالثاً للرافدين وهما " دجلة والفارت "؟ قال " الفرزدق ": أَميرَ المؤمنين وأَنت عَفٌّ ... نَقِيٌّ لستَ بالوالِي الحريصِ بعثتَ على العراقِ ورافِديه ... فَزارِيّاً أَحَذَّ يدِ القميصِ وحتى يعظم سمكه فتصير واحدته، وهي دون الشبر، تزيد على شبر الرجل أي قامته؛ وحتى تكون صغاره التي يعمل من مثلها الصحناء، حيتاناً تشبع أخيذتها جماعة يشكون اسغب، وحتى تجري فيه السفن والفرافير، وحتى يكون النازل بحلب حرسها الله، كما قال القائل: يا صاحِ أَلمِمْ بأَهلِ الفصرِ والوادي ... وحبَّذا أَهلهُ من حاضرٍ بَادِ تُزجَى فَرافيرُه والعيسُ واقفةٌ ... والضَّبُّ والنُّونُ والملاَّحُ والحادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقد مضى القول في أن " قويقاً " المبارك، طيرة لهم. فكلما زادوه من قوة فإنما يرجع وبالاً عليهم. ولعل هذا الغراب المصغر في قول العامة، يعظم فيصير عقاباً إن شاء الله، فتكون مضرة عدوها أعظم. لأنه إذا فتك بهم وهو صغير من أفرخة الغربان، فكيف به إذا عد من الكواسر المختطفات؟ ولعله إن شاء الله يصير العنقاء التي يذكرها الناس ويضربون بها المثل. فإذا صار كذلك، صارت جموع الأعداء قوتاً في كل أوان. وذلك أن بعض الرواة زعم أن العنقاء المذكورة كانت طائراً عظيماً فاختطفت صبياً في بعض الأيام، فدعا عليها " حنظلة بن صفوان " - وهو نبي أهل الرس فيما يقال - فغابت إلى اليوم. ولو كان عنده من القوة ما يدعيه أهل ملته، لشرع في قطع " قويق " السرى، لا في تقويته. وإنما وصفته بالسرى، لأن السرى النهر الصغير. وهو سرى في نفسه، من: السرو، لأن ماءه نمير يروي الواردة ويسقي الأرض المجاورة، وقلما يغرق كما يفعل غيره من الأنهار الخضارم. وإنما مثل " قويق " ومثل الروم في هذا الحديث المصنوع، مثل رجلين يتحاربان، في يد أحدهما نصل من نصال السهام وقد شق على الآخر مكانه في يده، فكان ينبغي إن كان من أهل القوة أن ينتزعه من يد ذلك الرجل، لا أن يشرع في زيادته وتقويته حتى يوجد سناناً أو سيفاً. ولولا أن الكذب لا يحسن بأهل الإسلام ولا بأحد من الناس، لجازيناهم على كذبهم الظاهر، وكنا فيما نفعل بريئين من الملامة. وذلك أن فاعل القبيح من القبائح على سبيل الجزاء، لا يحسب ذميماً في الرأي. قال الله " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " وجل: " ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين ". فالمكر منهم ذميم، والمكر الثاني على سبيل الجزاء، فهو خارج عن المعنى الأول. وقال " عمرو بن كلثوم ": أَلاَ لا يَجهَلَنْ أَحدٌ علينا ... فنَجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهلينا فالجهل الأول قبيح، والثاني على طريق الجزاء فليس بقبيح. ولم نكن لنرضى في مجازاتهم بالمماثلة، ولكن نضعف ونزيد. لأن ذلك من أفعال الله تعالى، يجزي على السيئة والحسنة بالخلود الدائم، إما في الشقوة وإما في النعيم. وما الذي كنا نقول لو استحسنا ذلك؟ كنا نزعم أن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - قد راسل " أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله " بأن يأمر الحفدة والأعوان والعلماء بالهندسة ومجاري المياه، أن يصرفوا البحر عن مدينتهم " قسطنطينية " إلى جهة أخرى، حتى ينضب مما بينها وبين بلاد المسلمين من ماء البحر، فيصير أرضاً مسلوكة تسافر فيه الناقة والبعير، ويمكن الجيوش المنصورة أن تسلكه لفتح مدينتهم التي بها دار المملكة، فما حجزهم عن ذلك بصدر الإسلام إلا البحر. وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أما فراس فنطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعدها " والروم ذات القرون أهل صخر وبحر، هيهات آخر الدهر. وإنما قلت ذلك لأن بعض أصحاب السير من الفلاسفة، ذكر أن ما بين " الإسكندرية " وبلادها وبين " القسطنطينية " كان في قديم الزمان أرضاً تنبت الجميز، وكانت مسكونة وخمة، وكان أهلها من اليونانية. وأن " الإسكندر " خرق إليها البحر فغلبت أمواهه على تلك الأرض. وكان بها فيما يزعمون " ققنس " الطائر الذي تدعى الفلاسفة فيه تلك الدعوى المستطرفة، وأنا أذكر من دعواهم ما سنح: يزعمون أن هذا الطائر طائر حسن الصوت، وأنه كان في بلاد اليونانية. فإذا حان موته زاد حسن صوته قبل ذلك بسبعة أيام، حتى لا يمكن أحداً أن يسمع صوته، لأن يغلب على قلبه من حسن ذلك الصوت ما يميت السامع. وأنه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح. ويزعمون أن عامل الموسيقى من الفلاسفة، أراد أن يسمع صوت ققنس في تلك الحال، فخشي إن هجم عليه أن يقتله حسن صوته، فسد أذنيه سداً محكماً، ثم قرب إليه فجعل يفتح من أذنيه شيئاً بعد شيء حتى استكمل فتح الأذنين في ثلاثة أيام، يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة، ولا يبغته حسنه في أول مرة فيأتي عليه. ويزعمون أن ذلك الطائر هلك فلم يبق منه ولا من ولده شيء. وكأنهم يرون أن ماء البحر غشي ققنس ورهطه بالليل في الأوكار، فلم تبق له بقية. وهذا حديث يذكر للعجب منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وأهل الفلسفة يزعمون أن البلاد الوخمة، يكون أهلها أصح أفهاماً من أهل البلاد الصحيحة، لأن الهواء إذا صح والماء إذا كان نميراً، دعوا إلى شهوة الطعام، والاستكثار منه مضر بالفهم. وقد قال الأولون: البطنة تذهب الفطنة. ويقال إن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله، فتحوب من قتله بالسيف، فأعطاه قدحاً فيه سم ليشربه، وأعلمه بذلك فظهرت منه مسرة وفرح. فقال له أصحابه: ما هذا أيها الحكيم؟ فقال هل أعجز أن أكون مثل ققنس؟ أو كنا تقول لهؤلاء السفهاء: إن " السيد عزيز الدولة " أعز الله نصره، يراسل أمير المؤمنين في خرق " بحر القلزم " إلى " بحر الروم " ليكثر الماء على مدينتهم فيغرقها. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: " لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم. أراد بالخزي فتح مدينتهم العظمى، ولا بد لها أن تفتح فيما يقال. والله يجعل ذلك على يدي " السيد عزيز الدولة، أعز الله نصره ". وزعيم الروم قد ألف الغدر ونشأ عليه من شب إلى دب: والشيخُ لا يتْركُ عاداتِه ... حتى يُوارَى في ثَرَى رَمْسِهِ وقال " حاتم بن عبد الله الطائي ": ومَنْ يبتدعْ خِيماً سوَى خيمِ نفسه ... يَدَعْه ويَغلبْه على النفسِ خِيمُها وإنما قلت ذلك لأنه خرج إلى هذه البلاد مرتين وهو فيما يزعم سلم للحمدانية، فجعل غنيمته من رعاياهم وبلادهم في المرتين. وقد طرقت سرية له " معرة النعمان " في سنة خمس وثمانين، فكان مثله مثل " عمرو بن هند " والطائيين: كان بينه وبينهم عهد، فغزا " عمرو " في جيش فأخفق، فلما قفل المريض بقوم من طيء يسكنون السهل فأخذهم ففي ذلك يقول " عارق الطائي ": أَلا حَيِّ قبل البَيْن من أَنت عاشقُهْ ... ومَنْ أَنتَ موموقٌ إِليه ووامقُهْ ومَنْ لا تُوَاتى دَارُه غيرَ فَيْنةٍ ... ومَنْ أَنت تبكي كلَّ يومٍ تَفارقُه تَحُثُّ بصَحراءِ الثوِيةِ ناقتي ... كعَدْوِ رَبَاعٍ قد أَمَخَّتْ نواهِقُه إِلى الملك الجبرِ ابنِ هند تزورُه ... وليس من الفَوْتِ الذي هوَ سابقُه أَكُلُّ خميس أَخطأَ الغُنْمَ مَرَّةٌ ... فَصادَفَ حَيّاً غافلاً فهو سائقه فإِن نساءً غير ما قال قائلٌ ... غنيمةُ سُوءٍ بينهن مَهارقُه ولو نيلَ فيما بيننا لحمُ أَرنبٍ ... وفَيْنَا، وهذا العهدُ أَنت مغالِقُه حلَفتُ بهَدْيٍ مُشعَرٍ بَكَراتُه ... تُحَثُّ بصحراءِ المَرِيطِ دَرادِقُه لَئِنْ لم تُغيِّرْ بعضَ ما قد صنعتُمُ ... لأَنتحِيَنْ لِلعَظمِ ذو أَنا عارقُه فأما إيعاده فعجز وفشل. والمثل السائر: الصدق ينبي عنك لا الوعيد. وأما " القلعة " أدام الله حمايتها، فكما قال القائل: فما تَبْلغُ الأَرْوَى شماريخَها العُلاَ ... ولا الطيرُ إِلا نَسْرُها وعُقَابُها ولا طمِعتْ فيها أَمانيُّ طالبٍ ... ولا نَبحَتْ إِلا النجومَ كِلابُها وقال " عمرو بن أمامة " لعمرو بن هند: مَنْ مُبلغٌ عمرَو بنَ هند رسالةً ... إِذا استَحْقَبَتْها العِيسُ تَهوِي من البُعْدِ أَيوعِدُني والرمْلُ بيني وبينَه ... تأَمَّلْ رُوَيداً ما أُمَامَةُ من هنْدِ ومن أَجَأٍ حولي رِعانٌ كأَنها ... قنابلُ خَيْل من كُمَيتِ ومن وَرْدِ غَدَرْتَ بأَمْرٍ أَنتَ كنتَ اجتذبتَنا ... إِليه، وبئسَ الشِّيمَةُ الغَدْرُ بالعَهْدِ وقد يَترُكُ الغَدْرَ الفتى وطعامُه ... إِذا هو أَمسى، جُلُّهُ من دَمِ الفصْدِ فويحه! ألا فعل فعل " عامر بن حوين الطائي " مع " امريء القيس ابن حجر "؟ وذلك أن " امرأ القيس " لما قتل أبوه وتشتت ملك بني آكل المرار، جاوز جبلي طيء فنزل ب " عامر بن جوين " وهو بالجزع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومع امريء القيس يومئذ جهاز وأثاث من بقايا المملكة، وعلى نسائه حلى ونظام فكانت امرأة عامر بن جوين ترى على نساء امريء القيس من الحلي واللباس ما لا تصل إلى مثله، فجعلت تحسن لعامر الغجر به حتى هم بذلك وتردد في نفسه، إلا أنه تهيب الغدر. فيقال إنه لما طال عليه ما يعتلج في صدره من حديث الغدر والوفاء، أتى موضعاً بالجزع وهو خال من الناس فصاح بأعلى صوته: " غدر عامر بن جوين " فأجابه الصدى: غدر عامر بن جوين. ثم صاح: " وفي عامر بن جوين ". فأجابه الصدى: وفي عامر بن جوين. فقال لنفسه: هاتا أحسنهما. ثم انصرف إلى امرأته فأخبرها أنه لا سبيل له إلى الغدر بامريء القيس. ثم إن " امرأ القيس " ظن بعامر ظنن السوء وخاف أن يغدر به. فتحمل عنه بأهله وماله. ففي ذلك يقول " عامر بن جوين ": أَأَظْعانُ هندٍ تلكمُ المُتَحمِّلَهْ ... لتُحزِنَ قلبي خُلَّتِي المتدِلِلَّهْ أَلم تَرَكم بالجَزْعِ من مَلِكات وكم ... بالصعيدِ من هِجَانٍ مؤَبَّلَه فلم أَرَ مِثلَهما خُباسةَ واحدٍ ... ونَهنهتُ نفسي بعدما كدتُ أَفْعلَه إِذا هَزَّتِ العنقاءُ دونِيَ رأسَها ... كجِيدِ العروسِ أَصبحتْ متعطِّلَة فآليتُ لا أُعطي مليكاً مَقَادةً ... ولا سُوقَةً حتى يعيشَ ابنُ مَنْدله الخباسة: الغنيمة. والعنقاء: هضبة في الجبلين. " وابن مندلة " ملك قديم ضرب به المثل لأنه مشهور. كما قال " الهذلي ": وحتى يئوبَ القارظانِ كِلاهما ... ويُنشَرَ في القتلى كليبٌ لوائلِ و" قويق " السعيد إذا أراد كيد العدو، فإنه مصغر على معنى التكبير، كما قال " لبيد ": دُوَيهيَّةٌ تَصفَرُّ منها الأَناملُ ولو خرج في الأشهبين، والعامة تسمى ذلك الوقت الكوانين، لكان شطر هذه الكلمة طيرة له بالكي. وقد حدث بعض من ورد من حضرة هذا الرجل وادعى الخبرة بما عنده، أنه يعرض له صداع شديد. وأنه يداوي منه بالكي، ففي رأسه مسامير كثيرة. والمثل السائر: آخر الدواء الكي. وبعضهم يقول: آخر الداء الكي. وكلاهما له معنى قال الراجز: يُنْقَضُ مني كُلَّ يومٍ شَيُّ وأَنا في ذاكَ صحيحٌ حَيُّ والمرءُ يُفنيه المَدَى والطيُّ وآخِرُ الداءِ الدويِّ الكي والعامة إذا أنكروا ما يأتي به الرجل قالوا: يجب أن يكون على رأسه صليب. وملة هذا الرجل تقتضي أن يكون كيه مصلباً. وما خير شيخ قد كوى رأسه ذات المرار؟ وقد علمنا أن " سحيماً " لما ابتهل في الدعاء قال: وَرَاهُنَّ ربيِّ مِثْلَ ما قد وَرَيْننِي ... وأَحْمَى على أَكبادِهنَّ المَكاوِيا وإنما مثله في سه وتنقض جسمه الكي الذي برأسه، مثل " عمرو ابن أحمر " لما قال: لَبِسْتُ أَبي حتى تَمَلَّيْتُ عُمْرَهُ ... وأَبْلَيْتُ أَعمامي وأَبليتُ خاليا وما كنت أَخشى أَن تكون مَنِيَّتي ... ضَرِيبَ جِلاَدِ الشَّوْلِ مَحْضاً وصافيا شربتُ الشُّكاعَى والتددتُ أَلِدَّةً ... وأَقبلتُ أَفواهَ العروقِ المكاويا أُرَجِّي شباباً مُطْرِهِمّاً وصحةً ... وكيف رجاءُ المرءِ ما ليس لاقِيا ولسنا نعيره الكبر ولا غيره من القضية، وإن كان القائل قد قال: إِذا عُيِّروا قالوا مقاديرُ قُدِّرتْ ... وما العارُ إِلا ما تَجُرُّ المقادِرُ لأن المثل: لا تسخر من شيء فيحور بك: وقال " عمرو بن شرحبيل ": لو عيرت رجلاً برضاع الغنم، لخشيت أن أرضعها. وقال بعض التابعين: إني لأرى الشيء مما يعاب فلا يمنعني أن أعيبه إلا مخافة أن أبتلي به. وزعم الرواة أن " الأخطل " لما بلغه قول " جرير ": جارَيْتَ مُطَّلَعَ الرِّهانِ عَشِيَّةً ... رَوْقاً شبيبتُه وعُمْرُكَ فان قال: " أديل والله مني النابغة الجعدي " وذلك أنهما كانا تهاجيا والنابغة شيخ والأخطل شاب. فعيره الأخطل مسنه، قال: لقد جارَى أَبو ليلى بقَحْمِ ... ومُنْتَكِثٍ عن التقريب وانِ فهذا من قولهم: لا تسخر من شيء فيحور بك. وأنشد " ابن الأعرابي ": لا يَبْعُدَنْ عهدُ الشابِ ولا ... لذاتِه وزمانِه النَّضْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والمُرْشِقَاتِ من الخدور كإِي ... مَاضِ الغمامِ صوَاحبِ العِطْر هَزِئتْ زُنَيْبَةُ أَنْ رأَتْ ثَرَمِي ... وأَن انحنى لِتقادُمٍ ظهري حتى كأَنيَ خاتِلٌ قَنصاً والمرءُ بعدَ تمامِه يَحرِي لا تَهزئي مني زُنَيْبَ فما ... في ذاكِ من عجَبٍ ولا سُخرِ أَوَ لم تَرَىْ لُقمانَ أَهْلَكهُ ... ما اقتاتَ من سَنَةٍ ومن شهْرِ وبقاءُ نِسْرٍ كلما نفدتْ ... أَيامُه عادت إِلى نَسْرِ وحدث بعض الواردين من حضرة هذا الرجل بأشياء يكنى عنها. ولكنا نجعل البدل من ذكرها إنشاد أبيات ل " امريء القيس " وأبيات ل " الفرزدق " لأنهما كانا يتاظهران بطلب المنكرات. قال " امرؤ القيس ": سَمَوتُ إِليها بعد ما نام أَهلُها ... سُمُوَّ حَبَابِ الماءِ حالاً على حالِ فقالتْ سَبَاكَ اللهُ إِنكَ فاضِحي ... أَلستَ ترى السُّمَّارَ والناسَ أَحوالي فقلت يمينَ اللهِ أَبرَحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لدَيْكِ وأَوصالي حلفتُ لها باللهِ حِلفةَ فاجر ... لَناموا فما إِنْ مِنْ حديثٍ ولا صَال وقال " الفرزدق ": ترى قُضُبَ الأراك وهنُّ خُضْرٌ ... يَمِحْنَ بها وعِيدانَ البَشام بكَرْنَ به على بردٍ عِذابٍ ... وليس بُكورُهنَّ على الطعامِ سَيُبْلِغُهُنَّ وَحْيَ القولِ عني ... ويُدخِلُ رأسَه تحت القِرامِ أُسَيِّدُ ذو خُرَيِّطةٍ ضئيلٌ ... من المُتَلَقِّطِي قَرَدَ القُمامِ فقُلن له نَواعِدُكَ الثريا ... وذاكَ إِليه مُرتَفَعُ الزحامِ ثلاثٌ واثنتان فهن خمسٌ ... وسادِسةٌ تميلُ إِلى الشِّمامِ وأفحش في أبيات لا أذكرها، ثم وصف كبره فقال: رمَتْني بالثمانينَ الليالي ... وسهمُ الدهرِ أَقْتَلُ سَهمِ رامِ رآني الغانياتُ فِقُلن: هذا ... أَبونا جاءَ من تحتِ الرِّجامِ رأَيْنَ لِدَاتِهن مؤزَّراتٍ ... وشَرْخَ لِدِيَّ أَسنانُ الهِرَامِ ولو جَدَّاتُهن سأَلن عني ... قرأنَ عليَّ أَضعافَ السلامِ ولو كان هذا الرجل ولد له في اقتبال عمره، لكان ولد ولده كهولاً. وقد أنشد " عاصم بن بهدلة القاريء " ل " زر بن حبيش " صاحب " ابن مسعود " وعنه أخذ " عاصم " القراءة: إِذا الرجالُ ولدتْ أَولادُها واضطربتْ من كِبَرٍ أَكتادُها وجعلتْ أَوجاعُها تعتادُها فهْيَ زروعٌ قد دَنَا حَصَادُها والذي يوجب ما وقع إلينا من أخباره، أنه في عشر السبعين. وقد يولد للإنسان وهو ابن اثنتي عشرة سنة. وقد روي أن " عمرو بن العاص " كان أكبر من ولده " عبد الله " باثنتي عشرة سنة. وقال " كثير ": وإِني لأَسْتأنِي ولولا طماعتي ... بعَزَّةَ قد جمَّعتُ بين الضرائرِ وهَمَّتْ بناتي أَن يَبِنَّ وحُمِّمَتْ ... وجوهُ رجالٍ من بَنِيَّ الأَصاغرِ وقد يمكن أن يكون هذا، في ابن ثلاثين وما دونها من السنين. فلو كان ولد لهذا الرجل - وهو زائد في السن عن هذا العدد الذي ذكر لعمرو بن العاص رحمه الله - حتى يكون ابن خمس عشرة أو ابن ثماني عشرة، وهي الأشد في قول بعض المفسرين، لكان أولاده " شيوخاً. لأن " عطاء بن أبي رباح " روى عن " عبد الله بن عباس " في قوله تعالى " ثم لتكونوا شيوخاً " قال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة فهو شيخ. وقد اختلف ذلك، فقال أصحاب اللغة: إذا غلب البياض على السواد في اللحية فالرجل شيخ. وحكى " قطرب " أن الرجل يقال له من سبع عشرة إلى أربع وثلاثين: شاب، ومن أربع وثلاثين إلى إحدى وخمسين كهل، ثم هو شيخ إلى أن يموت. وقال المفسرون قي قوله تعالى: " ويكلم الناس في المهد وكهلاً ": الكهل: ابن ثمان وعشرين سنة، وقيل: ابن ثلاثين. وأقوال الناس تختلف في هذا اختلافاً شديداً. وقد تردد في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، أن شاباً من قريش فعل وصنع. وهو المعنى بذلك. ولم يبعث صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أربعين سنة. وقال " مروان بن الحكم بن أبي العاصي ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ما قلتُ يومَ الدارِ للقومِ حاجزِوا ... عن الموتِ واستبقوا الحياةَ على الذُّلِّ ولكنني قد قلتُ للقومِ ضارِبُوا ... بأَسيافِكم حتى يَصِلْنَ إِلى الكهْلِ يعني " عثمان بن عفان " وهو يومئذ ابن نيف وثمانين سنة. وكان رضي الله عنه - فيما يزعمون - يخضب بالصفرة. وروى أصحاب الأخبار أن " نائلة ابنة الفرافصة الكلبي " - و " ابن حبيب " يقول: الفرافصة، بفتح الفاء - لما دخلت على " عثمان " قال لها: أتقومين إلى أم أقوم إليك؟ قالت: ما كنت لأقطع إليك عرض السماوة، وأكلفك أن تقطع إلى عرض السرير. فقال لها: لا يغرنك الشيب، فإن وراءه ما تحبين. فقالت: إني من نساءٍ أحبُّ أزواجهن إليهن الكهل. فسمته كهلاً. و" الأصمعي " يذهب إلى أن شعر اللحية إذا اتصل ولم يبق فيه مزيد، فالرجل كهل. وقال بعض الناس: إذا رأى الشيب الرجل فهو كهل، ولذلك يقال للنبات: اكتهل. إذا أزهر. وقد كان يجب على هذا الرجل أن يأخذ نفسه بشيم أهل السن. وقد يكون الإنسان على الطريقة العادلة، ثم يستيقظ فيلزم القصد. قال " زهير ": صَحَا القلبُ عن سلمى وأَقصر باطلُه ... وعُرِّيَ أَفراسُ الصِّبا ورواحلُه وأَقْصَرتُ عمَّا تعلمينَ وسُدِّدتْ ... عليَّ سِوَى قَصْدِ السبيلِ مَعَادِلُه وقال " أعشى قيس " وكان أحد غواة العرب: فإِن أَخاكِ الذي تعلمين ... لياليَنا إِذ نَحُلُّ الجِفارا تبدَّل بعدَ الصِّبا حِكمةً ... وقنَّعه الشيبُ منه خمارا فإِمَّا تَريْني على آلة ... قلَيْتُ الصِّبا وهجرتُ التِّجارا فقد أُخرِجُ المُسْتَرا ... ةَ من خِدْمِها وأشِيعُ الفِجارا وأحسن من هذا الانتقال عن الغي إلى الرشد، ما قال " الأعور الشني ": وإِني لأَرجو أَن أَموت ولم أَنَلْ ... حراماً من الدنيا: زِناءً ولا خَمْرا وما أَطلعتْني بِنتُ جارٍ مجاوِرٍ ... على سِرِّها حتى أَسوقَ لها مَهْرا وقول " الدعيل بن الكلب العنبري ": وما أَعجبَتْني حُلَّةٌ فوق خاربٍ ... رأَى اللهُ حَظِّي غيرَها فكسانِيا وما أَنا بالجاذي على حَدِّ مرْفَقي ... إِلى جارتي ليلاً لأُصبحَ زانِيا وقول الآخر: نارِي ونارُ الجارِ واحدةٌ ... وإِليه قَبْلِي تُنزَلُ القِدْرُ ما ضرَ جارِي إِذ أجاوِرُه ... أَلا يكونَ لِبيتِه سِتْرُ وفي الحديث المأثور: " أبغض الناس إلى الله، الشيخ الزاني والفقير المحتال ". وحدث رجل يعرف ب " مشرق بن عبد الله " - وأصله رومي وهو من أهل القرآن ومقامه الآن بحلب حرسها الله، وكان في صحبة محمد ابن عبد الله الفصيصي - أن هذا الرجل له ولد من امرأة ليست تحل لمثله على رأي أصحاب الشرائع، وأنه قد جعل له رتبة. ورأيه، إن مات أخوه قبله، أن يقر بنسبه ويجعل الملك إليه. فمثله في هذا مثل " معاوية " و " زياد ابن أبيه " وإذا صح أمر هذا الولد، فمثله مثل قول الشاعر وهو يروي ل " أم تأبط شراً ": ليت شعري ضَلَّة ... أَيُّ شيءٍ قَتَلكْ أَمرِيضٌ لم تُعَدْ ... أَم رصيدٌ خَتَلَكْ والمنايا رصدٌ ... للفتى حيث سَلك كلُّ شيءٍ قاتل ... حينَ تَلْقَى أَجَلَك ليت نفسي قُدِّمتَّ ... للمنايا بَدَلَكْ أَيُّ شيءٍ حَسَنٍ ... في الفتى لم يك لك والأبيات معروفة، وقد ذكرها صاحب الحماسة وإنما ضربت بها المثل لهذا الولد، لأنها تحتمل أمرين: أن تكون من الوزن المديد، وهو من أهل بيت المملكة في الشعر، لأنه أخو الطويل والبسيط وإن كان مقصراً عنهما، وهو معهما في دار الملك. وعنيت بدار الملك: الدائرة التي تجمعه وأخويه. فمثله مثل " إبراهيم بن شكلة " خرج اسمه بالغناء، وأخواه " موسى وهارون " الملكان. والأمر الآخر في هذه الأبيات أن تكون من الرمل، وهو من عامة الشعر. وبذلك حكم عليها أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ولذلك يجب أن يحكم على هذا الولد بأنه من العامة لا من الملوك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر " وفي حديث آخر: " وللعاثر دعدع وللعاهر الحجر " ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة مجح - وهي الحامل المقرب - فقال: لم هذه؟ قالوا: لفلان. قال: أيلم بها؟ قالوا: نعم. قال: " لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره. كيف يورثه وهو لا يعرفه؟ أم كيف يستخدمه وهو لا يعرفه؟ ". فقول نحن: إن الميراث ليتفاضل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يرث ولد الأمة شيئاً قليلاً امرأة المال، لأنه ملا يعرف أبوه. فكيف يورث هذا الرجل ملكه امرأة لا يثبت نسبه في الأحكام؟ أم كيف يكو ملك جيل من الأجيال من ولد لغير رشدة وقد علم أهل الملك بذلك؟ إن هذا لهو الخزي العظيم. والعرب، على أنهم كانوا أهل رتب وشقوة، يعيبون على الرجل والمرأة قلة المهر. قال " جرير ": تُساقُ من المِعْزَى مُهورُ نسائِهم ... وفي قزمِ المِعْزى لهنَّ مهورُ وقال آخر، وهو كالمفتخر بكثرة المهر: إِني وإِنْ سِيقَ إِليَّ المَهرُ ... عبدٌ وقيناتٌ وذُودٌ عَشْرُ أَحَبُّ أَصهارِي إِليَّ القبرُ فأما الفقهاء فيختلفون في المهر اختلافاً كثيراً: فأجاز بعضهم التزويج على ما قل وما كثر، ولم يجعل في المهر حداً يعرف. وممن ذهب إلى ذلك " محمد بن إدريس الشافعي ". وقال " أبو حنيفة " وأهل العراق: عشرة دراهم أقل المهور. وقال " مالك ": المهر ربع دينار. وروى عن " إبراهيم النخعي " في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه قال: المهر رطل امرأة ذهب. وهذا قول لم يأت على الجزم والإيجاب. والقول الثاني: أربعون درهماً. والقول الثالث أنه قال: أحب عشرة أو عشري، ليكون مخالفاً لمهر البغي. وروى العرب " سعيد بن جبير " أنه قال في أقل المهور: خمسون درهماً. وروى عن " الأوزاعي " أنه قال كلاماً معناه: أنه من تزوج على درهم لم ينقض عليه قاض. فيروون أن مذهبه في أقل المهور هو الدرهم الواحد. وقال " ابن شبرمة " خمسة دراهم. وروى أن " سعيد بن المسيب " زوج ابنته على درهم. فأما الذي توجبه المروءة والديانة، فأن يكون مهر امرأة على مقدار حال الرجل: فإن كان موسراً حسن منه أن يكثر مهر امرأته. وإن كان مقتراً عذر في التقصير. وذكرت المهر لأن ولد الرومي جائز أن تكون أمه لم تعط مهر بغي ولا غيره. وإنما يمكن أن تكون هذه الأبيات الكافية من المديد لأنه إذا حمل على أخويه وجب أن يكون على ثمانية أجزاء، ولم تستعمله العرب إلا سداسياً. وأطول ما استعملت منه: " إن بالشعب " ونحوها. إلا أن أهل العلم يضعون له أصلاً ثمانياً ليكون مثل أخويه. فمن ذلك قول القائل: ليس مَن يشكو إِلى أَهلِه طولَ الكرَى ... مثْلَ مَنْ يشكو إِلى أَهلِه طولَ السَّهَرْ الأبيات الكافية مشطور هذا الوزن. ولهذا الولد ولهذين الملكين مثل آخر: وهو أنهما إذا كانا مثل الضربين الأولين من البسيط، وهما ملكان، والأول منهما هو الأكبر والثاني منهما هو الأصغر، فهذا الولد إن صح أنه من أهلهما فهو مثل الثالث من البسيط، لا يعرف في الظاهر أن بينه وبين الأولين قرابة، لأن الأول مثل قول " الأعشى ": ودِّعْ هُريرةَ إِن الركْبَ مُرتحِلُ وهو " بسيل ". والثاني مثل قول " كعب ": بانتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتبولُ وهو " قسطنطين ": والثالث مثل قول " عمرو بن قميئة ": الكأْسُ مُلْكٌ لمنْ أَعملَها ... والملْكُ منه كبيرٌ وصغير منها الصَّبوحُ التي تتركني ... ليثَ عِفرِّينَ والمالُ كثير وأَولَ الليلِ لَيْثٌ خادِرٌ ... وآخرَ الليلِ ضِبْعَانٌ عَثور وهذا الوزن في السمع بعيد من نمط الوزنين الأولين، وإنما يعلم بقرابته منهما أهل الخبرة. و " الخليل " سمى هذا الوزن الثالث: مذالاً. أخذه من الذيل لأن في الجزء زيادة حرف ساكن. ونحن نتأوله إذا نقلناه إلى ذلك الولد، أنه من الإذالة، أي الهوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وللأخ الأصغر من الأخوين أولاد إناث. فمثلهن مثل الضروب الثلاثة الأخيرة من البسيط: فيهن انكسار وضعف وركاكة. وهذه الأوزان الثلاثة لا يستعملها المحدثون إلا أن يخبنوا الثالث منها في العروض والضرب، فيستعملوه عن ذلك. وإنما توجد شاذة في أشعار الليل ومن بعدهم من القالة. وإذا قدم عهد الشاعر كان ديوانه مظنة لمثل هذه الأوزان النادرة، وما أفلح وزن منها قط. وربما ندر بيت بعد بيت، ولا يجيء حسناً في السمع إلا أن يلحقه بعض التغيير عما هو في الأصل. فمن ذلك قول " عبيد ": تَصبو وأَنَّى لكَ التصَابي ... أَنَّى وقد راعك المَشِيبُ وفيها. مَنْ يسأَلِ الناسَ يَحرِموه ... وسائلُ اللهِ لا يَخيبُ فهذان البيتان إنما حسنا في الوزن لأجل شيء سقط منهما فقبلتهما الغريزة الخالصة. ألا ترى إلى قوله: والمرءُ ما عاش في تكذيبِ ... طولُ الحياةِ له تعذيبُ كيف هو مخالف لهذين البيتين؟ فقد يجوز أن تحسن عقول الروم لها إذا فقد هذان الأخوان، أن تملك بعض بنات الأصغر، فيكون مثلها مثل ما استقام من هذا الوزن في السمع، وهي مع ذلك ضعيفة ركيكة. والروم ربما ملكت النساء وبعض الناس يقول: " الزباء الرومية " - يعني صاحبة " جذيمة " - ينسبها إلى الروم. وتمليك امرأة صحيحة النسب في بيت الملك، أحسن من تمليك رجل لم يثبت نسبه. وإذا شبهنا الطاغية بالضرب الأول من البسيط، وظهر من الدروب ناقضاً للسلم، ف " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يلحق به الطي أو الخبل. فإنه إذا طوى تغيرت هيئته وذهب أيده. والطي الذي وضعه " الخليل " هو ذهاب الرابع من السباعي. ونحن نعني به المصدر من قولك: طواه الله، أي أهلكه. وقد طوى " زهير " الضرب الأول من البسيط في موضعين. في أول النصف الأول، وفي أول النصف الثاني. وذلك قوله: يَطعَنُهمْ ما ارتموَا حتى إِذا طُعِنُوا ... ضارَبَ حتى إِذا ما ضارَبوا اعتنَقا و" السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - لا يرضى له بالطي في موضعين، بل يطويه في أربعة مواضع ليكون التغيير له أشد، وحاله عند من عرفها أنكر. ألا ترآ إلى قول " الباهلي ": إِني أَتتْني لسانٌ لا أُسَرُّ بها ... من عَلْوَ لا عَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ لو دخل معه قول القائل: ارتحلوا غُدوَةً فانطلقوا بُكَراً ... في زُمَرٍ منهم تتبعُها زُمَرُ لكان بعيداً عن شكله غير ملائم له في وزنه؟ وهذا البيت الثاني قد لحقه الطي في أربعة أماكن. والخبل الذي وضعه " الخليل " هو سقوط الثاني والسابع من السباعي كما قال " النابغة ": فَحسَبُوه فأَلْفَوه كما حَسَبتْ وقد مضى ذكره. ونحن نعني بالخبل فساد الأعضاء وتغير العقل من الهلع، كما قال " متمم ": وكلُّ فتًى في الناسِ بعدَ ابنِ أُمِّه ... كذَاهبَة إِحدى يَدَيْه من الخبْلِ ويقال: أصاب بنو فلان بني فلان بخبل؛ أي بقطع أيد وأرجل. وإذا قالوا: فلان مخبول؛ فإنما يريدون اضطراب العقل وتغيره. ولم يكن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يقتنع بخبله في موضع واحد، بل يجمع له الخبل في أربعة مواطن حتى ينكره أدنى الأحباء وأعز القرابين، فيكون مثله مثل هذا البيت: وزعَموا أَنهم لَقيَهم رجلٌ ... فأَخذوا مالَهُ وضربوا عُنُقَه ألا ترى أن حاله تغيرت حتى أنكرته الأذن ونفر منه الحس؟ فلو أقسم مقسم أنه لا يناسب قول " زهير ": بانَ الخَليطُ ولم يَئودُوا لِمنْ بانُوا ولا قوله: إِن الخَليطَ أَجَدَّ البَيْنَ فانفرقا لعذر في ذلك. وإن لم يشبه بالبسيط الأول وجعلناه من الطويل الذي هو أشرف وأجل، فإن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يلقاه بالثرم. وهو فيما وضعه " الخليل " مثل قول الشاعر: هاجَها رَبْعٌ دارِسُ الرسْمِ باللوَى ... لأَسماءَ عَفَّى آيَهُ المُورُ والقَطْرُ ونحن نعني بالثرم قولنا: ثرم الرجل، إذا سقطت مقاديم أسنانه. وثرمه غيره ثرماً. ونضيف له إلى ذلك، الكف. وهو في رأي " الخليل " سقوط السابع من الجزء السباعي ففي هذا الوزن. كما ينشد بعض الناس: سآخُذُ مِنكُمْ آلَ حَزْنٍ بِحَوْشبٍ ... وإِن كان مولايَ وكنتم بَنِي أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وهكذا في النسخ القديمة. وقد غيره بعض الناس كراهة الكف، قالوا: وإِن كان لي مولى وكنتم بني أَبي ونحن نعني بالكف أشياء كثيرة: إن شئت كف البصر، وإن شئت كف اليد؛ وكل منع يقع بالإنسان فهو كف. ويقبض " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يد عوده أن تنبسط. كما قبضت عروض الطويل فلم ينشرها أحد من الفصحاء المتقدمين ولا نشرها أحد من فحول الإسلام. غير أن " الجعفي " فعل ذلك في كلمته التي أولها. لِجنِّيَّةٍ أَمْ غادةٍ رُفعَ السَّجفُ وهو قوله: تَفكُّرُه عِلْمٌ ومَنطِقُه حُكْمُ ... وباطنُه دِينٌ وظاهرُه ظَرْفُ وقد عابه عليه " اسماعيل بن عباد، الصاحب ". وإنما يزول قبض هذه العروض في التصريع إذا وقع في الضرب الأول. ولم يكن - أعز الله نصره - يخليه من القبض في مواضع سوى هذه، كما قال " امرؤ القيس ": سَمَاحةَ ذا وبشرَ ذا ووفاءَ ذا ... ونائلَ ذا، إِذا صَحَا وإِذا سَكِرْ والقبض سقوط الخامس. ويجوز أن نعني به قبض النفس، من قولك: قبض الله روحه. وهل يأمن المتعرض لمضرة المسلمين - وإن كان مثله مثل قول " امريء القيس ": أَلا انْعِمْ صباحاً أَيها الطلَلُ البالي ومثل قول " الشماخ ": أَلا يا اصْبَحاني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ... وقبل منايا نازلاتٍ وأَشغالِ أن تدور عليه الدائرة فينعكس أمره حتى يحسب من الأركاء الضعفاء؟ فإن هذين البيتين وغيرهما من الأبيات التامة المحسوبة من الطويل والبسيط، تدور عليهن الدائرة التي وضعها " الفرهودي " فيصرن في رتبة قول " إسماعيل بن القاسم ": عُتْبَ ما للخيالِ ... خبِّريني ومالِي ما لَه لم يَزُرْني ... طارقاً مُذْ ليال وهذا من أضعف أوزان الشعر وأركهن. ولم تستعمله الجاهلية ولا الفحول في الإسلام. وإنما عمله " إسماعيل بن القاسم " على هيئة اللعب. وإذا أردت أن تخرج من قول القائل: قِفَا نَبْك من ذكرى حبيبٍ وعرفان مثل قول " إسماعيل ": عُتبَ ما للخَيالِ فأسقط من أوله: " قفا نبك من " والذال والكاف من " ذكرى " ثم زد أسقطت من أول البيت، على آخره. فإنه يخرج منه وزن بيتين من أبيات " إسماعيل " لأن كل بيت من أبياته مثل نصف هذا الوزن. ولم يكن " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - يعدمه حذفاً و " الخليل " لم يذكر الحذف إلا في الضرب الثالث. وهذا الحذف الذي ذكرت، هو شيء يحدث في آخر النصف الأول، كما قال " النابغة ": جزى اللهُ عَبْساً، عبسَ آلِ بَغيضٍ ... جزاءَ الكلابِ العاوياتِ، وقد فَعَلْ وكما قال " القتال الكلابي ": لقد ولدتْ لي بنتُ عبدِ منافِ ... أميمةُ، عزّاً إن غضبتُ ومَغضَبَا وإنما عنيت بالحذف نقصاً يلحق الطاغية في جسده أو عسكره. ولو قرب وهو يريد الحرب، وقد مثلته بالطويل. لأدركته المعاقبة من " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - وذلك أن " الخليل " جعل المعاقبة في الطويل سقوط الخامس من السباعي تارة، وسقوط السابع أخرى. وأنا أعني بالمعاقبة مصدر: عاقبته، من العقوبة. وإن كان في عسكره بطاريق ورؤساء يجرون مجرى الوافر والكامل لأنهما لا يبلغان رتبة أملاك الشعر - وهي خمسة: الطويل بضروبه الثلاثة، والضربان الولان من البسيط - فإن " السيد عزيز الدولة "، أعز الله نصره، يلقي من كان منهم في منزلة الوافر بالعضب والعصب والعقص والقصم والعقل والنقص، ويجعل ذا الرمح منهم أجم. وذلك أن " الخليل " جعل الأعضب مثل قول " الحطيئة ": إن نزل الشتاءُ بدارِ قومٍ ... تجنَّبَ جارَ بيتهمُ الشتاءُ وقد جاء في شعر " الجعفي " مثل هذا وهو قوله: إِنْ تكُ طيِّيءٌ كانتْ لِئاماً والأعقص عند " الخليل " مثل قول القائل: لولا مَلِكٌ رءوف رحيم ... تغمَّدَني برحمته هلكت والأقصم عند " الخليل " مثل قول " هدبة ": إِني من قُضاعة مَنْ يَكِرْها ... أَكِرْه وهْيَ مني أَمانِ إن سكنت الياء فهو أقصم، وإن حركتها فهو أعضب. والعقفل عند " الخليل " مثل البيت المنسوب إلى " كعب بن زهير ": وحِفْظي الوُدَّ للأَخِ المُداني إذا خففت الخاء. والنقص عنده مثل قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إِني من القوم الذين إِذا ... فارَقهم جاراتُهم أَثنَيْنا أَثْنَيْن من حُسْنِ السلام عليهمُ ... يوماً وإِن ذُكِرَ الفراقُ أَبَيْنا وله أحكام ليس هذا موضع ذكرها. وإنما أخذ من القطاة الحذاء وهي السريعة ويقال بل هي القصيرة الذنب، قال الشاعر: أَما القَطاةُ فإِني سوف أَنعَتُها ... نعتاً يوافِقُ نعتي بعضَ ما فيها حَذَّاءُ مدبرةً سَكَّاءُ مُقبِلةٍ ... سُودٌ قوادمُها حُمْرٌ خَوافيها وفي خطبة " عتبة بن غزوان ": إن الدنيا قد أدبرت حذاء فلم يبق منها صبابة كصبابة الإناء ". وعنيت بالحذذ أن أموالهم تؤخذ فيسرعون الهرب فيكونون حذا في السرعة وحذا في خفة متاعهم، لأنه كالريش لهم. فيشبهون بالقطا الحذ أي القصار الأذناب. والإقعاد في الكامل، مثل قول " الربيع بن زياد ": أَفبعدَ مَقْتَلِ مالِكِ بنِ زُهَيْرٍ ... ترجو النساءُ عواقِبَ الأَطهارِ وقد فسرت الإقعاد الذي قصد في العدو. والإذالة في الكامل، زيادة ساكن على آخر الضرب السابع، كقوله: إِنْ كنَّ أَثوابي خَلُقْنَ ... فإِنهن على كرِيمْ والإذالة للعدو، هي الإهانة. والترفيل في الكامل، زيادة حرفين في آخر الضرب السادس، كقوله: نَهْنِهْ دموعَك إِن من ... تبكي من الحَدَثانِ عاجزْ وعنيت بالترفيل الذي يمنع منه العدو، المصدر من قولك: رفلته، إذا سودته. وقد مر ذكره. ولا يفتأ صغار العدو الذين لا يصل إليهم القتل لاحتقارهم وللرغبة في ملكهم، يصيبهم الشتر والخرب، كما أصاب الهزج والمضارع. وهما من صغار الأوزان. فالأخرب في الهزج كقوله: لو كان أَبو بشرٍ ... أَميراً ما رضيناهُ والأشتر كقوله: في الذين قد ماتوا ... وفيما خلَّفوا عِبْرَه والأخرب في المضارع كقوله: إِن تَدْنُ مِنه شِبْراً ... يُقَرِّبْكَ منه باعا والأشتر منه كقوله: مَالِكٌ وابنُ زَيْدٍ ... يَجيئانِ بالمُحَالِ فالأشتر من صغار العدو إنما يشتر على غير عمد، يصيبه ذباب سيف ما قصد به، أو نحو ذلك. والأخرب هو المثقوب الأذن، واسم الثقب الخربة. قال " ذو الرمة ": كأَنه حبَشِيٌّ يبتغِي أَثراً ... أَو من معاشِرَ في آذانِها الخُرَبُ فيجوز أن يؤخذ صغير من القوم فتثقب أذنه للتقريط، أو تسبى امرأة فتثقب أذنها كذلك، أو يجذب قرطها قتخرب أذنها، أي يزول ذلك الذي كان يستمسك به القرط من شحمة الأذن. وإنك لتجد في عامة الأوزان مثل المديد والرمل والخفيف، شكل العجز وشكل الطرفين، وكذلك تجد في العدو إن شاء الله: فشكل العجز في اشعر، هو أن يجتمع في الجزء سقوط السابع للكف، والخبن وهو سقوط الثاني. ويكون ذلك الخبن لغير معاقبة، كقوله: لِمَنِ الديارُ غيَّرهن ك ... لُّ دافي المُزْنِ جَوْنِ الربابِ وعنيت بشكل العجز في العدو، أن يؤخذ الأسير فتربط رجلاه إلى عجزه. وشكل الطرفين في الشعر، سقوط السابع للكف، وسقوط الثاني للخبن، ويكون ذلك الخبن لمعاقبة، كقوله: ليت شعري هل لنا ذاتَ يومٍ ... بِجُنوبِ فارعٍ من تلاقِ وعنيت بشكل الطرفين في العدو، أن يؤسر الرجل فتشد يداه ورجلاه. ولو وقع بأمر الله الزحاف، لقفاهم إن شاء الله بالعروض جنود المسلمين، فأصابهم من العذاب المتكاوس، ونزل بهم من الشر المتراكب، ومن النكال المتدارك، ومن الهلاك المتواتر، ومن الخزي المترادف. وهذه ألفاظ ملغزة: أردت بالزحاف، المصدر من قولك: زاحف القوم عدوهم يزاحفونه زحافاً. ألغزته عن زحاف الشعر. وقول: لقفاهم، أي تبعهم. ألغزته عن قولك: قفاهم. أي جعل لهم قافية، من قافية البيت. والعروض ها هنا: الناحية. قال " الأخنس بن شهاب ": لِكُلِّ أُناسٍ من مَعَدٍّ عِمَارةٍ ... عَروضٌ إِليها يلجئون وجانِبُ ألغزته عن عروض الخليل. والمتكاوس، الذي بعضه فوق بعض. قال " القطامي ": تَخدَّدَ عنها لَحمُها المُتَكاوِسُ ألغزته عن المتكاوس من القوافي، وهو الذي يبنى على أربعة أحرف متحركة بعدها ساكن كقول الراجز: هلاَّ سأَلتَ طللاً وحُمَمَا فقوله: وحمما، متكاوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115