الكتاب: بهجة المجالس وأنس المجالس المؤلف: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- بهجة المجالس وأنس المجالس ابن عبد البر الكتاب: بهجة المجالس وأنس المجالس المؤلف: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم وصلى اللَه على سيدنا محمد وآله وسلم. أَما بَعد: فإن لآولى ما ابتدئ به كتاب وافتتح به خطاب، حمد الله على جزيل آلائه، وشكره لجميل بلائه، ثم الصلاة على خاتم أنبيائه وعافب رسله، صلوات الله عليهم أجمعين، وسلام عليهم في العالمين وبركاته. والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وفضنا على جميع الأنام، وجعلنا من أمة محمد نبيه عليه الصلاة والسلام. وبعد: فإن أولى ما عني به الطالب، ورغب فيه الراغب، وصرف إليه العاقل همه، وأكد فيه عزمه، بعد الوقوف على معاني السنن والكتاب، مطالعه فنون الآداب، وما اشتملت عليه وجوه الصواب، من أنواع الحكم التي تحيي النفس والقلب، وتشحذ الذهن واللب، وتبعث على المكارم، وتنهى عن الدنايا والمحارم، ولا شيء أنظم لشمل ذلك كله، وأجمع لفنونه، وأهدى إلى عيونه، وأعقل لشارده، وأثقف لنادره؛ من تقييد الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والفصول الشريفة، والأخبار الظريفة، من حكم الحكماء، وكلام البلغاء العقلاء: من أئمة السلف، وصالحي الخلف، الذين امتثلوا في أفعالهم وأقوالهم، آداب التنزيل، ومعاني سنن الرسول، ونوادر العرب وأمثالها، وأجوبتها ومقاطعها، ومباديها وفصولها، وما حووه من حكم العجم، وسائر الأمم، ففي تقييد أخبارهم، وحفظ مذاهبهم، ما يبعث على امتثال طرقهم واحتذائها، واتباع آثارهم واقتفائها. وقد جمعت في كتابي هذا من الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والحكم البالغة، والحكايات الممتعة في فنون كثيرة وأنواع جمة، من معاني الدين والدنيا، ما انتهى إليه حفظي ورعايتي، وضمته روايتي وعنايتي، ليكون لمن حفظه ووعاه، وأتقنه وأحصاه زيناً في مجالسه، وأنساً لمجالسه، وشحذاً لذهنه وهاجسه، فلا يمر به معنى في الأغلب مما يذاكر به، إلا أورد فيه بيتاً نادراً، أو مثلاً سائراً، أو حكاية مستطرفة، أو حكمة مستحسنة، يحسن موقع ذلك في الأسماع، ويخفف على النفس والطباع، ويكون لقارئه أنساً في الخلاء، كما هو زين له في الملاء، وصاحباً في الاغتراب، كما هو حلي بين الأصحاب. وجمعت في الباب به منه المعنى وضده لمن أراد متابعة جليسه فيما يورده في مجلسه ولمن أراد معارضته بضده في ذلك المعنى بعينه، ليكون أبلغ وأشفى وأمتع. وقد قربته، وبوبته ليسهل حفظه، وتقرب مطالعته، وافتتحت أكثر أبوابه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم تبركاً بتذكاره، وتيمناً بآثاره. وإلى الله أبتهل في حسن العون والتأييد لما يحب، والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة واحدة، يزيده الله بها هدىً، ويصرفه بها عن ردى ". ويروى عن عيسى الخياط، عن الشعبي، قال: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة ينتفع بها فيما يستقبل من عمره، ما رأيت أن سفره قد ضاع. قال محمد بن سلام الجمحي، عن ابن جعدبة، قال: ما أبرم عمر بن الخطاب أمراً قط إلا تمثل فيه ببيت شعر. وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: كفاك من علم الأدب أن تروى الشاهد والمثل. وقال أبو الزناد: ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة بن الزبير. فقيل له: ما أرواك للشعر! قال: وما روايتي من رواية عائشة له، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً. وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا أرواحه، ودعوا ظروفه. ولقد أحسن القائل، وقيل إنه منصور الفقيه: قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين حرفان في ألف طومار مسودة وربما لم تجد في الألف حرفين وروى عن مخلد بن يزيد، عن جابر بن معدان قال: كل حكمة لم ينزل فيها كتاب، ولم يبعث بها نبي، ذخرها الله حتى تنطق بها ألسن الشعراء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكمة ". روى ابن نعيم، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خذ الحكمة ممن سمعتها، فإن الرجل قد يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، كما أن الرمية قد تجئ من غير رامٍ. ؟ باب أدب المجالسة وحق الجليس الصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف، وأحمد بن عبد الله بن عمر، وخلف بن سعيد بن أحمد، وسعيد بن سيّد، ومحمد بن عبد الله بن حكم، وأحمد بن عبد الله بن محمدّ بن عليّ، واللفظ لسعيد بن سيّد، قالوا: حدثنا محّمد بن عمر بن لبانة، وسليمان بن عبد السّلام، قالا: حدثنا محّمد بن أحمد العتيبيّ، عن أبي المصعب الزّهري، عن عبد العزيز بن أبي حازم، وحدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا بكر بن حماّد، قال: حدّثنا مسدّد: حدثنا أبو عوانة كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: " من قام من مجلسه، ثم رجع فهو أحقّ به " ورواه حّماد بن سلمة عن سهيل، بإسناد مثله. وحدثنا سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن محّمد، وأحمد بن قاسم قالوا: حدّثنا قاسم، قال: حدثنا ابن وضّاح، قال: حدّثنا محمد بن مسعود، قال: حدّثنا يحيى القطّان، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدم المجلس فليسلّم، وإذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحقّ من الأخرى ". وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال حدثنا أبو بكر محمد بن داسة قال: حدّثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي المولى عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه " قال: وكان ابن عمر إذا قام له رجلٌ من مجلسه، من غير أني يقيمه لم يجلس فيه. ومن حديث أبي بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مثله. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " المجالس بالأمانة، وإنما يتجالس الرّجلان بأمانة الله عزّوجلّ فإذا تفرّقا فليستر كلٌّ منهما حديث صاحبه " وقال أبو البختري: كانوا يكرهون أن يقوم الرجل للرّجل من مجلسه، ولكن ليوسع له. ومن حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: " لا يوسّع في المجالس إلاّ لثلاثة:لذي علم لعلمه، ولذي سن لسنّه، أو لذي سلطان لسلطانه ". ومن حديث جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلسٌ سفك فيه دمٌ حرامٌ، ومجلسٌ استحلّ فيه فرجٌ حرام، ومجلسٌ استحلّ فيه مالٌ حرام بغير حقه ". ومن حديث عمر بن عبد العزيز، عن محّمد بن كعب القرظّي، عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " لكل شيءٍ شرفٌ، وإنّ شرف المجالس، ما استقبل فيه القبلة ". وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " إذا جلس إليك رجلٌ، فلا تقومنّ حتى تستأذنه ". وقال صلّى الله عليه وسلّم: " إذا قام الرّجل من مجلسه، فهو أحق به حتّى ينصرف إليه، ما لم يودِّع جلساءه بالسَّلام ". وقال صلّى الله عليه وسلّم: " لا يفرِّق واحدٌ منكم بين اثنين متجالسين إلاَّ بإذنهما، ولكن تفسَّحوا وأوسعوا ". وقال أنس بن مالكٍ: ما أخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم ركبتيه ولا قدميه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا تناول أحدٌ يده فتركها حتّى يكون هو الّذي يدعها. وقال ابن شهاب: كان رجل يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزال يتناول عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم الشىء، وكأنّ ذلك آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا نزع أحدكم عن أخيه شيئاً فليره إياّه ". وحدث الحسن البصري: أنّ رجلاً تناول عن رأس عمر بن الخطّاب شيئاً فتركه مرتين، ثم تناول الثالثة، فأخذ عمر بيده، فقال: أرني ما أخذت؟ وإذا هو لم يأخذ شيئاً!! فقال: انظروا إلى هذا، قد صنع هذا ثلاث مراتٍ يريني أنّه يأخذ من رأسي شيئاً ولا يأخذه، فإذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئاً فليره إيّاه. قال الحسن: نهاهم أمير المؤمنين عن الملق. وقال الحسن: لو أنّ إنساناً أخذ من رأسي شيئا، قلت: صرف الله عنك السُّوء. وكان محّمد بن سيرين: إذا أخذ أحدٌ من لحيته أو رأسه شيئاً، قال: لا عدمت نافعاً. وروي عن عمر بن الخطّاب أنه قال: إذا أخذ أحدٌ عنك شيئاً، فقل: أخذت بيدك خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: لأبي أيّوب الأنصاريّ - وقد نزع عنه أذّى -: " نزع الله عنك ما تكره يا أبا أيّوب ". قال عمر بن الخطّاب: فحسب المرء من العيّ أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه أن يجد على النّاس فيما تأتيه، وأن يظهر له من النّاس ما يخفى عليه من نفسه. وعن عمر رضي الله عنه قال: إن مما يصفّي وداد أخيك، أن تبدأه بالسّلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحبّ الأسماء إليه، وأن توسّع له في المجلس. قال أيّوب الأنصاريّ: من أراد أن يكثر علمه، فليجالس غير عشيرته. روى سفيان بن عيينة، عن مالك بن معن، قال: قال عيسى صلى الله عليه وسلّم: جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله. قال المدائني: أوصى يحيى بن خالد ابنه، فقال: يا بنيّ إذا حدّثك جليسك حديثاً، فأقبل عليه وأصغ إليه، ولا تقل قد سمعته وإن كنت أحفظ له، وكأنك لم تسمعه إلاّ منه، فإنّ ذلك يكسبك المحبة والميل إليك. وعن عبد الملك بن عمير، قال: قال سعيد بن العاص: لجليسي عليّ ثلاث خصال: إذا دنا رحّبت به، وإذا جلس وسّعت له وإذا حدث أقبلت عليه. وذكر ابن مقسم، قال: سمعت المبرِّد يقول: الاستماع بالعين، فإذا رأيت عين من تحدّثه ناظرةً إليك فاعلم أنه يحسن الاستماع. وقد روينا هذا القول عن سهل بن عبادة. ومن حديث جابر عن النبيّ عليه السلام، أنّه قال: " من كان له أخٌ في الله فأكرمه فإنما يكرم الله ". وروينا عن ثعلب النحوي، أنّه قام لصديق قصده، وأنشده: لئن قمت ما في ذاك منها غضاضةٌ ... عليّ وإنّي للكرام مذلّل على أنّها منّي لغيرك هحنةً ... ولكنّها بيني وبينك تجمل ولغيره في هذا المعنى: إذا ما تبدّى لنا طالعاً ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما فلا تنكرنّ قيامي إليه ... فإنّ الكريم يجلُّ الكراما وروينا من حديث عائشة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " أنزلوا النّاس منازلهم ". قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: إذا الرجل عند رجلٍ جالساً، فجاءه طالب حاجةٍ، فسكت عن عونه فقد أعان عليه. قال عمرو بن العاص: لا أملُّ جليسي ما فهم عنّي، وإنما الملال لدناءة الرّجال. قال: الشّعبيّ في قومٍ ذكرهم: ما رأيت مثلهم أشدّ تنابذاً في مجلس، ولا أحسن فهماً من محدِّث. روى الأصمعيّ عن العلاء بن جرير عن أبيه، قال: قال الأحنف بن قيس: لو جلس إليّ مائةٌ لأحببت أن ألتمس رضى كلّ واحدٍ منهم. وقال عبد الله بن عبّاس: أعز الناس عليّ جليسي الذي يتخطّى النّاس إليّ، أما والله إنّ الذّباب يقع عليه فيشقّ عليّ.قال كشاجم: ؟ وجليسٍ لي أخي ثقةٍ ... كأن حديثه خبره يسرّك حسن ظاهره ... وتحمد منه محتضره ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنّه ستره وقال آخر: جليسٌ لي له أدب ... رعاية مثله تجب لو انتقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذّهب وعن ابن عبّاس، أنه قال: إنّي لأكره أن يطأ الرجل بساطي ثلاثاً فلا يرى عليه أثرى. وعنه أيضاً رضي الله عنه، أنه سئل: من أكرم الناس عليك؟ قال: جليسي حتّى يفارقني. قال معاوية لعرابة الأوسي: بأيّ شيءٍ استحققت أن يقول فيك الشّماّخ: رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاّها عرابة باليمين فقال: عرابة: سماع هذا من غيري أولى بك وبي يا أمير المؤمنين، فقال: عزمت عليك لتخبرنّي. فقال: بإكرامي جليسي، ومحاماتي على صديقي. فقال معاوية: لقد استحققت. قال عليّ بن الحسين: ما جلس إليّ أحدٌ قط، إلاّ عرفت له فضله حتى يقوم. قال أبو عبادة: ما جلس رجل بين يديّ، إلا مثّل لي أني جالس بين يديه. روى عن عبد الله بن يزيد، وقد روى ذلك لأبي حازم، أنه قال: وطّن نفسك على الجليس السوء، فإنه لا يكاد يخطئك. وقد روى ذلك عن الأحنف، والله أعلم قال بعض الحكماء: رجلان ظالمان يأخذان غير حقّهما، رجلٌ وسّع له في مجلس ضيّق فتربّع وتفتح، ورجلٌ أهديت إليه نصيحةٌ فجعلها ذنباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقال مسعر بن كدام: رحم الله من أهدى إلىّ عيوبي في ستر بيني وبينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع. قال الأحنف: لأن أدعى من بعدٍ أحبّ إليّ من أن أقصى عن قرب. وعن الأحنف أيضاً أنه قال: ما جلست مجلساً قطّ، أخاف أن أقام منه لغيري وقال البعيث بن حريث:؟ وإنّ مكاني في النّدىّ ومجلسي له الموضع الأقصى إذا لم أقرّب ولست وإن قرّبت يوماً ببائعٍ ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبُّب ويعتدّه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي جلس رجل إلى الحسن بن عليّ رضي الله عنه، فقال: جلست إلينا على حين قيام، أفتأذن؟! كان يقال: إياك وكلُّ جليسٍ لا تصيب منه خيراً. وعن معاذ بن جبل، أنه قال: إيّاك وكلّ جليسٍ لا يفيدك علماً. كان يقال: من سرّه أن يعظم حلمه، وينفعه علمه، فليقلّ من مجالسته من كان بين ظهرانيه. وقال الحسن البصريّ: انتقوا الإخوان، والأصحاب، والمجالس. وروى هشام بن عروة،عن محّمد بن المنكدر، قال:كان يقال: خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وركناً في المجالس، الموطَّئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون. تباعد كعب الأحبار يوماً في مجلس عمر بن الخطاب، فأنكر ذلك عليه، فقال: يا أميرالمؤمنين! إنّ في حكمة لقمان ووصيته لابنه: إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعلّه يأتيه من هو آثر عنده منك فينحّيك فيكون نقصاً عليك. وكان يقال: الجليس الصّالح خيرمن الوحدة، والوحدة خيرٌ من الجليس السّوء. وعن جعفر بن سليمان الضّبعيّ، قال: رأيت مع مالك بن دينار كلباً، فقلت له: ما هذا؟ قال هذا خيرٌ من الجليس السوء. قال زيادٌ: إنه ليعجبني من الرجال من إذا أتى مجلساً أن يعرف أين يكون مجلسه، وإني لآتي المجلس، فأدع مالي مخافة أن أدفع عمّا ليس لي. وكان الأحنف إذا أتاه رجلٌ أوسع له، فإن لم يكن له سعة أراه كأنّه يوسع له. طرح أبو قلابة لجليس له وسادة، فردّها فقال له: أما سمعت الحديث: " لا تردن على أخيك كرامته ". قال ابن شبرمة لابنه: يا بنيّ! إياك وطول المجالسة، فإنّ الأسد إنما يجترىء عليها من أدام النظر إليها. وهذا عندي مأخوذٌ من قول أردشير لابنه: يابنيّ لا تمكّن الناس من نفسك فإن أجرأ النّاس على السّباع، أكثرهم لها معاينة. ومن هذا - والله أعلم - أخذ ابن المعتزّ قوله: رأيت حياة المرء ترخص قدره ... فإن مات أغلته المنايا الطّوائح كما يخلق الثّوب الجديد ابتذاله ... كذا تخلق المرء العيون الّلوامح ومن سوء الأدب في المجالسة: أن تقطع على جليسك حديثه، أو تبدره إلى تمام ما ابتدأ به خبراً كان أو شعراً، تتمّ له البيت الذي بدأ به، وتريه أنك أحفظ منه. فهذا غايةٌ في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلاّ منه. قيل لداود الطّائّي: لم تركت مجالسة الناس؟ قال: ما بقي إلاّ كبيرٌ يتحفّظ عليك، أوصغيرٌ لا يوقِّرك. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تجالس عدوّك، فإنه يحفظ عليك سقطاتك ويماريك في صوابك. قالت الخنساء: إنّ الجليس يقول القول تحسبه ... خيراً وهيهات فانظر ما به التمسا كان يقال: رأس التّواضع، الرّضا بالدُّون من المجلس. وهذا يروى عن ابن مسعود أنّه قال: إنّ من التواضع أن ترضى بالدُّون من المجلس، وأن تبدأ بالسّلام من لقيت. قال إبراهيم النَّخعيّ إنّ الرجل ليجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام، يريد الله به، فتصيبه الرَّحمة فتعمُّ من حوله، وإنّ الرجل يجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام يسخط الله به، فتصيبه السَّخطة فتعمُّ من حوله. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً في مجلسه، فرفع رأسه إلى السّماء ثم طأطأه ثم رفعه فسئل عن ذلك فقال: " هؤلاء قومٌ كانوا يذكرون الله فنزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة كالقبّة، فلما دنت منهم تكلّم رجلٌ منهم بباطلٍ فرفعت عنهم ثم تلا: " ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يخسر المبطلون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وفي حديث أبي هريرة عن النبيّ عليه السلام، أنه قال: " ما جلس قومٌ مجلساً يقرءون فيه القرآن، ويذكرون السُّنن، ويتعلمون العلم ويتدارسونه بينهم، إلاّ حفّت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، فقيل له يارسول الله الرّجل يجلس إليهم وليس منهم، ولا شأنه شأنهم، أتأخذه الرحمة معهم؟ قال: نعم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ". أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، ويقال إنها له:؟ إن صحبنا الملوك تاهوا وعقّوا واستخفّوا كبراً بحقّ الجليس أو صحبنا االنّجار صرنا إلى البؤ ... س وعدنا إلى عداد الفلوس فلزمنا البيوت نستخرج العل ... م ونملا به بطون الطّروس كان يقال: ذوو المروءة والدّين، إذا أحرزوا القوت لزموا البيوت. أنشد أبو عبد الله بن الأعرابيّ - صاحب الغريب -:؟ لنا جلساءٌ ما نملّ حديثهم ألّباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدّدا بلا فتنةٍ تخشى ولا سوء عشرةٍ ... ولا نتّقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أمواتٌ فلست بكاذبٍ ... وإن قلت أحياءٌ فلست مفنّدا ولهذا الشعر خبر لابن الأعرابي مع أحمد بن محمد بن شجاع، ذكرناه مع الأبيات في آخر كتاب " بيان العلم وفضله ". ولمحمد بن بشير في هذا المعنى من قصيد له:؟ فصرت في البيت مسروراً تحدّثني عن علم ما غاب عنّي في الورى الكتب فرداً تخبّرني الموتى وتنطق لي ... فليس لي في أناسٍ غيرهم أرب لله من جلساءٍ لا جليسهم ... ولا خليطهم للسوء مرتقب لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطقٌ ذرب أبقوا لنا حكماً تبقى منافعها ... أخرى اللّيالي على الأيّام وانشعبوا إن شئت من محكم الآثار يرفعها ... إلى النّبيّ ثقاتٌ خيرةٌ نجب أو شئت من عربٍ علماً بأوّلهم ... في الجاهلية تنبيني بها العرب أو شئت من سير الأملاك من عجمٍ ... تنبي وتخبر كيف الرّأي والأدب ؟ حتى كأنّي قد شاهدت عصرهم وقد مضت دونهم من دهرنا حقب ما مات قومٌ إذا أبقوا لنا أدباً ... وعلم دينٍ ولا بانوا ولا ذهبوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " كفارة ما يكون في المجلس من الّلغط أن تقول: سبحانك الّلهمّ وبحمدك، لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك ". وفي حديث آخر: " كفارة ما يكون في المجلس ألاّ تقوم حتّى تقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، يا ربّ تب عليّ واغفر لي، فإن كان مجلس لغوٍ كان كفّارته، وإن كان مجلس ذكرٍ كان كالطّابع عليه ". وقال حّسان بن عطّية: ما من قوم كانوا في مجلس لغوٍ فختموه بالاستغفار إلاّ كتب لهم مجلسهم ذلك استغفاراً كله. وروي عن جماعةٍ من أهل العلم بتأويل القرآن، في قول الله عز وجل: " وسبح بحمد ربك حين تقوم "، منهم مجاهد وأبو الأحوص وعطاء ويحيى بن جعدة قالوا: حين تقوم من كل مجلس تقول فيه: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، قالوا: ومن قالها غفر له ما كان منه في المجلس. وقال عطاء: إن كنت أحسنت ازددت إحساناً، وإن كان غير ذلك كان كفارة. ومنهم من قال: تقول حين تقوم: سبحان الله وبحمده من كلّ مكانٍ ومن كلّ مجلس. باب حمد الّلسان وفضل البيان قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة حتّى يلقاه ... " الحديث. قال معاذ: قلت يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: " لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ". وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: " أفضل الصدقة صدقة اللسان، تدفع بها الكريهة، وتحقن بها الدم ". وقال عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند ذي سلطان جائر ". قال أبو عنبة الخولاني رحمه الله: ربّ كلمةٍ خير من إعطاء المال. وقال أبان ابن سليم: كلمة حكمة لك من أخيك، خير لك من مالٍ يعطيك؟ لأنّ المال يطغيك والكلمة تهديك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قالوا: خير الكلام ما دلّ على هدىً، أو نهى عن ردّى. ذكر عند الأحنف بن قيس: الصمت والكلام، فقال قومٌ: الصمت أفضل فقال الأحنف: الكلام أفضل لأن الصمت لا يعدو صاحبه، والكلام ينتفع به من سمعه، ومذاكرة الرّجال تلقيحٌ لعقولها. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " رحم الله عبداً تكلّم بخيرٍ فغنم، أو سكت فسلم ". قال سعيد بن جبير: رأيت ابن عبّاس رضي الله عنه في الكعبة آخذاً بلسانه وهو يقول: يا لسان قل خيراً تغنم، أو اسكت تسلم. وقالوا السّكوت سلامة، والكلام بالخير غنيمة، ومن غنم أفضل ممن سلم. قال أعرابيّ: من فضل الّلسان، أن الله عزّ وجلّ أنطقه بتوحيده من بين سائر الجوارح. وقال عبد الملك بن مروان: الصمت نومٌ والنُّطق يقظة. قال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلاّ صورة ممثَّلة، أو بهيمة مرسلة، أو ضالّةٌ مهملة. كان يقال: الألسن خدم القرائح. قال ربيعة الرأي: السّاكت بين النائم والأخرس. قالو: إنما المرء بأصغريه: لسانه وقلبه. كان يقال: اللسان ترجمان الفؤاد، واللسان حيّة الفم. كان يقال: يجد البليغ من ألم السّكوت ما يجد العييُّ من ألم الكلام. وقالوا: المرء مخبوءٌ تحت لسانه. وقال حسان بن ثابت:؟ لساني وسيفي صارمان كلاهما ويبلغ ما لا يبلغ السّيف مذودي وقال جرير: وليس لسيفي في العظام بقيَّةٌ ... ولا السّيف أشوى وقعةً من لسانيا وقال الخليل بن أحمد: أيّ شيءٍ من اللّباس على ذي السّرو ... أبهى من اللّسان البهيّ قال ابن سيرين: لا شيء أزين على الرجل من الفصاحة والبيان، ولا شيء أزين على المرأة من الشحم. قال الشاعر:؟ وكائن ترى من ساكتٍ لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التّكّلم لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدّم قال أبو العتاهية: وللناس خوضٌ في الكلام وألسنٌ ... وأقربها من كلّ خيرٍ صدوقها وروى ابن عمر قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا ". فتأولت طائفة هذا على الذم لأن السحر مذموم، وذهب الأكثر من أهل العلم، وجماعة من أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله تعالى مدح البيان وأضافه إلى القرآن، وقد أوضحنا هذا في كتاب التمهيد والحمد لله. وقد قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، لرجل سأله حاجة فأحسن المسألة، فأعجبه قوله وقال: هذا - والله - السحر الحلال. وقال عليّ بن العبّاس الرومي: وحديثها السِّحر الحلال لو أنَّه ... لم يجن قتل المسلم المتحرِّز في أبيات قد ذكرتها في موضعها من هذا الكتاب. وقال الحسن: الرجال ثلاثةٌ، رجل بنفسه، ورجل بلسانه، ورجل بماله. وكان يقال: في اللسان عشر خصال: أداةٌ يظهرها البيان، وشاهدٌ يخبر عن الضمير، وحاكمٌ يفصل به القضاء، وناطقٌ يردّ به الجواب، وشافعٌ تقضى به الحاجات، وواصفٌ تعرف به الأشياء، وواعظٌ ينهى به عن القبيح، ومعزٍّ تسكن به الأحزان، وملاطفٌ تذهب به الضغينة ومونقٌ يلهى الأسماع. ونظر معاوية إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما، فأتبعه بصره ثم قال متمثلا: إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... مصيبٍ ولم يثن اللسان على هجر يصرّف بالقول اللّسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر ولحسان بن ثابت في ابن عبّاس: إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... بمنطلقاتٍ لا ترى بينها فصلا شفى وكفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربةٍ في القول جدّاً ولا هزلا في أبيات قد ذكرتها في باب ابن عباس من كتاب " الصحابة ". كان يقال: الجمال في اللسان. قيل للأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول الجسم، وضخم الهامة، ورحب الشّدق، وبعد الصّوت. قال حبيب: " لسان المرء من خدم الفؤاد " وقال آخر: " والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر " قال امرؤ القيس: " وجرح اللّسان كجرح اليد " قال ابن أبي حازم: أوجع من وقعة السّنان ... لذي الحجا وخزة اللّسان باب ذمّ العيّ وحشو الكلام قال أبو هريرة: لا خير في فضول الكلام. وقال عطاء: كانوا يكرهون فضول الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقال: بترك الفضول تكمل العقول. وقال: فضول الكلام ما ليس في دين ولا دنيا مباحاً. وقال: الصّمت صيانة اللّسان، وستر العيّ. وقالوا: العيّ الناطق أعيا من العي الساكت. وقالوا: أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، وما ظهر معناه في لفظه. وروى عبد الله بن عمر، أنّه قيل له: لو دعوت لنا بدعواتٍ. فقال: اللهم اهدنا وعافنا وارزقنا. فقال رجلٌ لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: أعوذ بالله من الإسهاب. وقال شفيّ بن ماتع: من كثر كلامه كثرت خطاياه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه. قال يعقوب عليه السلام لبنيه: يا بنيَّ إذا دخلتم على السلطان فأقلّوا الكلام. قال ابن هبيرة: ما من شيء إلاّ وهو محتاجٌ إلى فضوله يوماً، إلاّ فضول الكلام. قال الحسن: رحم الله عبداً أوجز في كلامه، واقتصر على فصاحته، فإن الله يكره كثرة الكلام. وكان يقال: أفضل الكلام ما قلّت ألفاظه وكثرت معانيه، أخذ هذا المعنى أحمد بن إسماعيل الكاتب فقال: خير الكلام قليلٌ ... على كثيرٍ دليلٌ والعيّ معنىً قصير ... يحويه لفظٌ طويل وقال أبو العتاهية: الصّمت أليق بالفتى ... من منطقٍِ في غير حينه لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه وقال منصور الفقيه: تعمّد لحذف فضول الكلام ... إذا ما نأيت وعند التّداني ولا تكثرنّ فخير الكلام ال ... قليل الحروف الكثير المعاني قال بعض قضاة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وقد عزله: لم عزلتني: قال: بلغني أنّ كلامك مع الخصمين أكثر من كلام الخصمين. تكلّم ربيعة الرأي يوماً فأكثر الكلام، فأعجبته نفسه، وإلى جنبه أعرابيّ فقال له: يا أعرابي ما تعدّون البلاغة فقال: قلة الكلام. قال: ما تعدون العيّ فيكم؟ فقال: ما كنت فيه منذ اليوم. وأنشد الخشني - رحمه الله -:؟؟؟؟ وماالعيّ إلا منطقٌ متتابعٌ سواءٌ عليه حقّّ أمرٍ وباطله قالت العرب: لا يجترئ على الكلام إلا فائق أو مائق. قال الّنمر بن تولب: أعذني ربّ من حصرٍ وعيٍّ ... ومن نفسٍ أعالجها علاجا ومن حاجات نفسي فاعصمنيّ ... فإن لمضمرات النَّفس حاجا وقال آخر: عجبت لإدلال العيّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحقّ أعلما وفي الصّمت سترٌ للعيّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما قال بعض الحكماء: ليس شيء إلاّ إذا ثنيته قصر إلا الكلام، فإنك كلّما ثنيته طال. قالوا: أعيا العيّ بلاغة بعيّ، وأقبح اللّحن لحنٌ بإعراب. كان مالك بن أنس يعيب كثرة الكلام ويذمّه ويقول: كثرة الكلام لا توجد إلاّ في النّساء والضعفاء. ذمّ أعرابيّ رجلاً، فقال: هو من يتامى المجالس، أعيا ما يكون عند جلسائه، أبلغ ما يكون عند نفسه. باب في اجتناب اللّحن وتعلّم الإعراب وذمّ الغريب في الخطاب كتب عمر إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقّهوا في السّنّة، وتعلَّموا العربية. وروي عنه رحمه الله أنه قال: رحم الله امرأً أصلح من لسانه. وقال عليّ بن محّمد العلويّ: رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون ولا تعد إصلاح اللّسان فإنّه ... يخبّر عمّا عنده ويبيّن ويعجبني زيّ الفتى وجماله ... فيسقط من عينيّ ساعة يلحن كان عبد الله بن عمر يضرب ولده على اللّحن. قال شعبة: مثل الذي يتعلم الحديث، ولا يتعلم النحو مثل البرنس لا رأس له. قال المأمون لأحد أولاده - وقد سمع منه لحناً -: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده، ويزين بها مشهده، ويفلَّ بها حجج خصمه بمسكتات حكمه، ويملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه. أو يسرُّ أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده أو أمته، فلا يزال الدّهر أسير، كلمته، قاتل الله الذي يقول: ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم وكائن ترى من صاحبٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التّكلم لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدَّم وقال الخليل بن أحمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لا يكون السّرى مثل الدّنيٍّ ... لاّ ولا ذو الذّكاء مثل الغبيّ لا يكون الألدّ ذو المقول المر ... هف عند القياس مثل العييّ أيّ شيء من اللّباس على ذي السّ ... رو أبهى من اللّسان البهيّ ينظم الحجة السّنيّة في السّل ... ك من القول مثل عقد الهديّ وترى اللَّحن بالحسيب أخي الهي ... أة مثل الصّدا على المشرفيّ فاطلب النّحو للحجاج وللشّع ... ر مقيماً والمسند المرويّ والخطاب البليغ عند جواب ال ... قول تزهى بمثله في النّديّ وارفض القول من طغام جفوا عن ... هـ فقادوا بعضه للنّسيّ قيمة المرء كلُّ ما يحسن المر ... ء قضاءً من الإمام عليِّ قال ثعلب: سمعت محمد بن سلاَّمٍ يقول: ما أحدث الناس مروءةً أفضل من طلب النّحو. قال عبد الله بن المبارك، اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدريّ في الوجه. وقال عبد الملك: اللحن هجنة بالشريف. قال ابن شبرمة: إذا سرّك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيراً، ويصغر في عينك من كان فيها كبيراً فتعلّم العربية، فإنها تجرّيك وتدنيك من السّلطان. قال الشاعر: النّحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن والنّحو مثل الملح إن ألقيته ... في كلّ ضدٍّ من طعامك يحسن وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن رأى أبو الأسود الدُّؤلي أعدالا للتجار مكتوباً عليها: لأبو فلان!! فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون. قال رجل للحسن البصريّ: يا أبو سعيد! فقال: كسب الدّوانيق شغلك أن تقول: يا أبا سعيد. مر خالد بن صفوانٍ بقوم من الموالي يتكلّمون في العربية، فقال: لئن تكلمتم فيها لأنتم أول من أفسدها. وقالوا: العربية تزيد في المروءة. وقالوا: من أحبّ أن يجد في نفسه الكبر فليتعلم النحو. وقال أبو شمر: قارئ النحو إذا دخله الكبر استفاد السخط من الله، والمقت من الناس. وقال الخليل يوماً: لا يصل أحد من النحو إلى ما يحتاج إليه، إلاّ بما لا يحتاج إليه، فقد صار إذاً ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه. وروي عنه في هذا الخبر، أنه قال: من لم يصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه، فقد صار محتاجاً إلى ما لا يحتاج إليه. وروى أن هذه القصة عرضت مع أبي الهذيل وروي أنها عرضت لأبي عبيدة مع النّظَّام، والذي تقدّم أصحُّ إن شاء الله تعالى. وقال المأموني: سأترك النّحو لأصحابه ... وأصرف الهمّة في الصّيد إنّ ذوي النّحو لهم همّةٌ ... موسومةٌ بالمكر والكيد يضرب عبد الله زيداً وما ... يريد عبد الله من زيد كتب غسّان بن رفيع - المعروف بدماذ - إلى أبي عثمان النحوي المازني: تفكّرت في النّحو حتّى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن فكنت بظاهره عالماً ... وكنت بباطنه ذا فطن خلا أنّ باباً عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن وللواو بابٌ إذا جئته ... من المقت أحسبه قد لعن إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النّصب؟ قالوا: بإضمار أن وروينا عن أبي حاتم السّجستاني رحمه الله قيل: إنها له. والله أعلم. وقال آخر:؟؟ إنّما النّحو قياسٌ يتّبع وبه في كلّ علمٍ ينتفع فإذا ما أبصر النّحو الفتى ... مرّ في المنطق مرّاً واتّسع واتّقاه كل من جالسه ... من جليسٍ ناطقٍ أو مستمع وإذا لم يبصر النّحو الفتى ... هاب أن ينطق جبناً وانقمع يقرأ القرآن لا يعرف ما ... فعل الإعراب فيه وصنع يخفض الصّوت إذا يقرؤه ... وهو لاعلم له فيما اتّبع والّذي يقرؤه علماً به ... إن عراه الشّك في الحرف رجع ناظراً فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف الحقّ صدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أهما فيه سواءٌ عندكم ... ليست السّنّة فينا كالبدع وكذاك الجهل والعلم فخذ ... منه ما شئت وما شئت فدع كان أبو مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، قد نظر في النحو، فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه، وهجا أصحابه فقال: ؟ قد كان أخذهم في النّحو يعجبني ... حتّى تعاطوا كلام الزّنج والرّوم لّما سمعت كلاماً لست أعرفه ... كأنّه زجل الغربان والبوم تركت نحوهم والله يعصمني ... من التّقحّم في تلك الجراثيم وقال عمّار الكلبي: ماذا لقيت من المستغربين ومن ... قياس نحوهم هذا الّذي ابتدعوا إن قلت قافيةً بكراً يكون لها ... معنىً يخالف ما قاسوا وما صنعوا قالوا لحنت فهذا الحرف منخفضٌ ... وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع وحرّشوا بين عبد الله فاجتهدوا ... وبين زيدٍ وطال الضّرب والوجع فقلت واحدةً فيها جوابهم ... وكثرة القول بالإيجاز تنقطع ما كلّ قولي مشروحٌ لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا حتّى أعود إلى القوم الّذين غذوا ... بما غذيت به والقول يتّسع فتعرفوا منه معنى ما أفوه به ... كأنّني وهم في قوله شرع كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قومٍ على الإعراب قد طبعوا وبين قومٍ رأوا أشيا معاينةً ... وبين قومٍ حكوا بعض الّذي سمعوا إنّي ربيت بأرض لا يشبُّ بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع ولا يطا القرد والخنزير تربتها ... لكن بها الرّيم والرّئبال والضّبع وقال أبو هفان: إذا ما شئت أن تحظى ... وأن تلبس قوهيّا وأن تصبح ذا مالٍ ... فكن علجاً نبيطيّا وإن سرّك أن تشقى ... وأن تصبح مقليّا فكن ذا نسبٍ ضخمٍ ... وكن مع ذاك نحويّا ؟ باب اختلاف عبارتهم عن البلاغة قال المفضّل الضّبّي لأعرابي: ما البلاغة؟ قال الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل. وقيل للأحنف: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في استحكام الحجج، والوقوف عند ما يكتفى به. وقال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إنّ البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفّة اللسان، ولا كثرة الهذيان. ولكنها إصابة المعنى القصد إلى الحجة. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: لمحة دالّة. وقيل لبشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى، والتباعد عن حشّو الكلام، ودلالةٌ بقليل على كثير. سئل عبيد الله بن عتبة: ما البلاغة؟ فقال: القصد إلى عين الحجة بتقليل اللفظ. وقال غيره: البلاغة معروفة الفصل من الوصل، وفرق ما بين المشترك والمفرد وفصل ما بين المقيّد والمطلق، وما يحتمل التأويل ويستغني عن الدليل. وقيل لبعض اليونانية: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل لرجل من الرّوم: ما البلاغة؟ حسن الاقتصاد عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصة. وسأل معاوية بن أبي سفيان صحاراً العبديّ؟ ماالبلاغة عندكم؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال: أن تقول فلا تخطئ وتسرع فلا تبطئ، فقال معاوية. وكذلك تقول؟ قال: أقلني يا أمير المؤمنين. أنت لا تخطئ ولا تبطئ. وقد روي مثل هذا المعنى للحجّاج مع ابن القبعثري. فالله أعلم. وقالوا: أبلغ النّاس أحسنهم بديهة، وأمثلهم لفظا. قال خالد بن صفوان: خير الكلام ما ظرفت معانيه، وشرفت مبانيه والتذّت به آذان سامعيه. ؟ باب من خطب فأريج عليه قال الحرّ بن جابر، وكان أحد حكماء العرب - فيما أوصى به ابنه: وإياك والخطب فإنّها مشوارٌ كثير العثار. صعد عثمان بن عفّان رضي الله عنه على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال: أمّا بعد فإنّ أول كلّ مركبٍ صعب، وما كنا خطباء، وسيعلم الله، وإن امرأً ليس بينه وبين آدم أب حيٌّ لموعوظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ويروى أن عثمان بن عفّان رضي الله عنه صعد المنبر فأرتج عليه، فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال. وروي في هذا الخبر: أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل. وروي أنّ عثمان لمّا بويع، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال: وليناكم وعدلنا فيكم، وعدلنا عليكم خيرٌ من خطبتنا فيكم، فإن أعش يأتكم الكلام على وجهه. وروي أنّ عبد الرحمن بن جابر بن الوليد، خطب الناس على منبر حمص فأرتج عليه، فقال: يا أهل حمص! أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب مصقع، ثم نزل. وأرتج يوماً على عبد الملك بن مروان، فقال:نحن إلى الفضل في الرأي، أحوج منا إلى الفضل في المنطق. وأرتج على معن بن زائدة، وهو على المنبر، فضرب بيده ثم قال: فتى حرب لا فتى منابر. صعد عبد الله بن عامر منبر البصرة، فحصر،فشقّ ذلك عليه، فقال له زياد: أيّها الأمير! إنك إن أقمت عامّة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك. صعد عليّ بن أرطاة المنبر، فقال: الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم. أرتج على خالد بن عبد الله القسريّ على منبر الكوفة، فقال: إن هذا الكلام يجيء أحياناً ويعزب أحياناً، ويسهل عند مجيئه، ويعسر عند عزوبه طلبه، وربما طلب فأبى، وكوبر فعصى، فالتأنّي لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيّه وهو يخلج من الجريء جنانه، وينقطع من الذّرب لسانه، فلا ينظره القول إذا اتسع، ولا يكسره النطق إذا امتنع، وسأعود فأقول إن شاء الله. خطب رجل من الأزد أقامه زيادٌ للخطبة على منبر البصرة، فلما رقى المنبر، وقال الحمد لله، أرتج عليه، فقال: قد والله هممت ألاّ أحضر اليوم، فقالت لي امرأتي: نشدتك الله إن تركت الجمعة وفضلها، فأطعتها، فوقفت هذا الموقف، فاشهدوا أنها طالق. فقالوا له: انزل قبحك الله. وأنزل إنزالا عنيفاً. وقد قيل: إن هذه القصة لوازع اليشكري، وفي ذلك قال الشاعر: وما ضرّني ألاّ أقوم لخطبةٍ ... وما رغبتي في مثل ما قال وازع وذكر القهرميّ عن أبيه قال: قام القلاخ بن حزن يوم عيد خطيباً، فقال: الحمد لله الذي خلق السّموات والأرض في ستّة أشهر. فقيل له: إنّما خلقها في ستة أيام فقال: أقيلوني، فوالله لقد ظننت أنّي أقللت، وكنت أريد أن أقول في ستّ سنين. صعد روح بن حاتم المنبر، فلما رآهم قد فتحوا أسماعهم وشقّوا أبصارهم، قال: نكّسوا رءوسكم وغضّوا أبصاركم، فإنّ أول كلّ مركب صعب، وإذا يّسر الله فتح قفل يسِّر. خطب مصعب بن حيّان خطبة نكاحٍ فحصر، فقال لقّنوا موتاكم شهادة ألاّ إله إلا الله، فقالت أمّ الجارية: عجلّ الله موتك، ألهذا دعوناك؟! قيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر فتكلم، فقام. فلّما صعد المنبر حصر، فقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء. وبقي ساكتاً فأنزلوه وأصعدوا آخر، فلما استوى قائماً وقابل وجوه الناس بوجهه، وقعت عينه على رجلٍ أصلع وحصر، فقال اللهم العن هذه الصّلعة. صعد عتّاب بن زرقاء منبر أصبهان فحصر، فقال: والله لا أجمع عليكم عيّا وبخلاء ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ شاة فهي له وثمنها عليّ. وقد روي أن هذا إنما عرض لعبد الله بن عامر على منبر البصرة، وأن عتّاب بن ورقاء هو الذي قام على المنبر فحمد الله ثم أرتج عليه، فجعل يقول: أمّا بعد أمّا بعد ... ، وقبالة وجهه شيخ أصلع فقال: أما بعد يا أصلع، فوالله ما غلّطني غيرك، عليّ به، فأتي به فضربه أسواطاً. وصعد آخر المنبر فقال: إن الله لا يرضى لعباده المعاصي، وقد أهلك أمة من الأمم بعقرهم ناقةً لا تساوي مائتين وخمسين درهما، فسمّى مقوِّم الناقة. وهذا هو عبد الله بن أبي ثور عامل ابن الزبير على المدينة. ذكر عمرو بن شبة، حدثنا الحسين بن عثمان عن بعض علماء المدينة، قال: ثم عزل ابن الزّبير عبيدة بن الزبير، واستعمل عبد الله بن أبي ثورٍ حليف بني عبد مناف، فلّقبه أهل المدينة مقوّم ناقة الله، وغلت الأسعار فتشاءموا به، فعزله ابن الزبير. صعد أعرابيٌّ المنبر فقال: أقول لكم ما قال العبد الصّالح: " ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد "، فقالوا له: هذا فرعون. فقال: قد والله أحسن القول. قال بزرجهمر: هيبة الزَّلل تورث حصراً، وهيبة العاقبة تورث جبناً باب حمد الصّمت وذمِّ المنطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من صمت نجا ". وروينا عن عقبة بن عامرٍ، أنه قال: يا رسول الله فيم النّجاة؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ". وروي أنه من كلام لقمان والله أعلم. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ". وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ويلٌ لمن يحدِّث الناس فيكذب ليضحكهم، ويلٌ له، ثم ويلٌ له ". وعن عيسى عليه السلام، أنه قال: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتفتنوا قلوبكم ". وبلغنا أنّ داود عليه السلام لقي لقمان بعد ما كبرت سنُّه، فقال: ما بقي من عقلك؟ فقال: لا أنطق فيما لا يعنيني، ولا أتكلَّف ما كفيته. وقال ابن مسعود: أنذركم فضول الكلام. وعن ابن مسعود وسلمان الفارسي، قالا:أكثر النّاس وقوفاً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل. وعن عطاء: فضول الكلام ما عدا تلاوة القرآن، والقول بالسنة عند الحاجة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تنطق في أمر لا بدَّ لك منه في معيشتك، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أن يرى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه، ثم تلا: " وإنّ عليكم لحافظين. كراماً كاتبين " و " عن اليمين وعن الشِّمال قعيدٌ، ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد ". وعنه عليه السلام أنه قال: " البرّ ثلاثةٌ المنطق والنظر والصَّمت، فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبارٍ فقد سها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها ". قال بعض الشعراء:؟ لست ممّن ليس يدري ما هوانٌ من كرامه إنّ للنّصح وللغ ... ش على العين علامه ليس يخفى الحبُّ والبغ ... ض وإن رمت اكتتامه ليس في أخذك بالفض ... ل وبالحلم ندامه وجواب الجاهل الصَّم ... ت وفي الصَّمت سلامه وعن الأصمعيّ قال، قال أعرابيّ: السّكوت صيانةٌ لّلسان وسترٌ للعيّ. وقال أعرابيّ في رجل رماه بالعيّ: رأيت عثرات النّاس في أرجلهم، وعثرة فلان بين فكَّيه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الرَّجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة ". وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال ". وذكر الأصمعيّ قال، قال أعرابيٌ: الكلمة أسيرةٌ في وثاق الرَّجل، فإذا تكلّم بها كان أسيراً في وثاقها. قيل لبكر بن عبد الله المزنيّ: إنك تطيل الصمت؟ فقال: إن لساني سبعٌ، إن تركته أكلني. وأنشد الخشنيّ:؟ لسان الفتى سبعٌ عليه مراقبٌ فإنّ لم يزع من غربه فهو آكله وقال الراجز:؟ القول لا تملكه إذا نما ... كالسَّهم لا يرجعه رامٍ رما وقال آخر: فداويته بالحلم والمرء قادرٌ ... على سهمه ما دام في كفِّه الَّسهم قال هبيرة بن أبي وهب: وإنَّ مقال المرء في غير كنهه ... لكالَّنبل تهوى ليس فيها نصالها قال أبو العتاهية:؟ من لزم الصَّمت نجا من قال بالخير غنم اجتمع أربعة حكماء، فقال أحدهم: أنا على ردِّ ما لم أقل، أقدر مني على ردّ ما قلت، وقال الآخر: لأن أندم على ما لم أقل، أحبّ إليّ من أن أندم على ما قلت، وقال الثالث: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، فإذا لم أتكلم بها ملكتها، وقال الرابع: عجبت ممن يتكلم بالكلمة، إن ذكرت عنه ضرته، وإن لم تذكر عنه لم تنفعه. قال طرفة بن العبد: ؟ وإنّ لسان المرء ما لم تكن له ... حصاةٌ على عوراته لدليل وقال منصور الفقيه: عليك السُّكوت فإن لم يكن ... من القول بدٌّ فقل أحسنه فرَّبتما فارقت بالّذي ... تقول أماكنها الألسنة وقال آخر: ؟ أيُّها المرء لا تقولنّ قولاً ... لست تدري ماذا يجيئك منه واخزن القول، إنّ الصَّمت حكما ... وإذا أنت قلت قولاً فزنه وإذا النَّاس أكثروا في حديثٍ ... ليس ممّا يزينهم فاله عنه وقال أحيحة بن الجلاح:؟ الصَّمت أكرم بالفتى ما لم يكن عيٌّ يشينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والقول ذو خطلٍ إذا ... ما لم يكن لبٌّ يعينه قال ابن مقسم، سمعت جحظة يقول: سمعت المأمون يقول: السخافة كثرة الكلام، وصحبة الأنذال. أنشد ابن المبارك أخاً له كان يصحبه: واغتنم ركعتين زلفى إلى الل ... هـ إذا كنت فارغاً مستريحا وإذا ما هممت بالمنطق البا ... طل فاجعل مكانه تسبيحا إنّ بعض السكوت خيرٌ من النط ... ق وإن كنت بالكلام فصيحا وقال أبو العتاهية: ؟ ألا إنّ بعد الذخر ذخراً تنيله ... وشرُّ كلام القائلين فضوله عليك بما يعنيك من كلّ ما ترى ... وبالصَّمت إلاّ عن جميلٍ تقوله وله: وحسبك مَّمن إن نوى الخير قاله ... وإن قال خيراً لم يكذِّبه فعله كان يقال: العافية عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الصمت، وجزء في الهرب من النّاس. كان يقال: من طوَّل صمته، اجتلب من الهيبة ما ينفعه، ومن الوحشة مالا يضرّه. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن من شرار النَّاس الذين يكرمون اتّقاء ألسنتهم ". وقال الشاعر: صمتُّ على أشياء لو شئت قلتها ... ولو قلتها لم أبق للصُّلح موضعا وقال منصور الفقيه: خرسٌ إذا سألوا وإن ... قالوا: عييٌّ أو جبان فالعيّ ليس بقاتل ... ولربّما قتل اللّسان كان يقال: اخزن لسانك كما تخزن مالك. قال امرؤ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيءٍ سواه بخزَّان وقال آخر:؟ لعمرك إنّ صمتك ألف عامٍ لأصلح من كلامك بالفضول فأمسك أو ترى للقول وجهاً ... يبين صوابه لذوي العقول روينا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، أخذ يوماً بطرف لسانه وقال: ها إنّ ذا أوردني الموارد. وقال ابن مسعود رحمه الله: إن كان الشُّؤم ففي اللّسان، ووالله ما على وجه الأرض شيءٌ أحقّ بطول سجن من اللسان. أخذه الشاعر فقال: ؟ وما شيءٌ إذا فكَّرت فيه ... أحقّ بطول سجنٍ من لسان كان يقال اللّسان سبع عقور. قال الشاعر: ؟ رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثاً مغيرا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " وهل يكبّ النّاس في النّار على وجوههم إلاّ حصائد ألسنتهم ". قال الله عزّ وجل: " ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيبٌ عتيدٌ "، وقال: " وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون ". وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إن الله عند لسان كلّ قائل، فلينظر كلُّ امرئ ما يقول ". قال عمَّار الكلبي:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقل الحقّ وإلاّ فاصمتن إنَّه من لزم الصَّمت سلم إنّ طول الصّمت زينٌ للفتى ... من مقالٍ فيه عيٌ وبكم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله امرءاً أمسك فضل لسانه، وبذل فضل ماله، وعلم أن كلامه محصيٌ عليه ". قال الأصبحيُّ: من كثر كلامه كثرت خطاياه. وقال أبو الدَّرداء: من فقه الرَّجل قلَّة كلامه فيما لا يعنيه. وقال مالك بن دينار: لو كانت الصُّحف من عندنا، لأقللنا الكلام. قال الشاعر: ؟ في نبوة الدَّهر لي عذرٌ فلا تلم ... من أقعدته صروف الدّهر لم يقم حصرٌ يقصّر بي عن كلِّ مرتبةٍ ... وما تقصّر عن نيلٍ لها هممي إن عابني عائبٌ بالصمت قلت له ... حبس الفتى نطقه خيرٌ من النَّدم وقال معقر بن حمارٍ البارقي:؟؟ الشِّعر لبّ المرء يعرضه والقول مثل مواقع النَّبل وقال آخر: والقول ينفذ مالا تنفذ الإبر لما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت، أطال الصمت، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيَّرني في بطن الحوت. قال عمر بن عبد العزيز: المحظوظ التَّقّي يلجم لسانه، أخذه الحسن بن هانئ فقال: إنَّما العاقل من أل ... جم فاه بلجام مت بداء الصَّمت خيرٌ ... لك من داء الكلام سئل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عن قتلة عثمان، فقال: تلك دماء كفّ الله عنها يدي، فأنا أكره أن أغمس فيها لساني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وقال يزيد بن أبي خبيب المتكلم ينتظر اللعنة، والمتصنَّت ينتظر الرحمة. ويقال: شر ما طبع الله عليه المرء، خلق دنيّ، ولسان بذيّ. وقالوا البذاء من النفاق. وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: لا خير في كثرة الكلام، واعتبر ذلك بالنساء والصبيان. إنما هم أبداً يتكلمون، لا يصمتون. وقال الحسن لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلَّم فكَّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه. قال نصر بن أحمد: لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ... وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه ... إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل إذا ما لسان المرء أكثر هذره ... فذاك لسانٌ بالبلاء موكّل إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلَّماً ... فدبّر وميّز ما تقول وتفعل قال صالح بن جناح: أقلل كلامك واستعذ من شرّه ... إنّ البلاء ببعضه مقرون واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه ... حتّى يكون كأنَّه مسجون وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له ... إنّ الكلام عليكما موزون فزناه وليك محكماً في قلّةٍ ... إنّ البلاغة في القليل تكون قال الّلاحقي: اخفض الصَّوت إن نطقت بليلٍ ... والتفت بالنَّهار قبل الكلام قال آخر: أرى الصَّمت خيراً من كلامٍ بمأثمٍ ... فكن صامتاً تسلم وإن قلت فاعدل ولا تك في حقّ الإخاء مفرّطاً ... وإن أنت أبغضت البغيض فأجمل ولا تعجلن يوماً بشرٍّ تريده ... وإذ ما هممت الدَّهر بالخير فاعجل ألا إنّ تقوى الله خير مغبّةٍ ... وأفضل زاد الظَّاعن المتحّمل وقال آخر: عوّد لسانك قول الصِّدق تحظ به ... إنّ الِّلسان لما عوّدت معتاد وقال الحكماء: إذا تمَّ العقل نقص الكلام، فضل العقل على المنطق حكمة، وفضل المنطق على العقل هجنة. وقال عمرو بن العاص: زلّة الرجل عظم يجبر، وزلّة اللسان لا تبقي ولا تذر وقال أعرابي: عثرات الِّلسان لا تستقال ... وبأيدي الرِّجال تجزي الرِّجال فاجعل العقل للِّسان عقالاً ... فشراد اللِّسان داءٌ عضال إنَّ ذمَّ اللِّسان مبقٍ على العر ... ض وبالقول تستبان الفعال وقال غيره: يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموت الرَّجل من عثرة الرِّجل فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل وقال منصور الفقيه: واخرس إذا خفيت أمو ... ر الحقّ عنك عن الإجابة فأقلّ ما يجزي الفتى ... بسكوته عزّ المهابة وقال محمود الوراق: ولفظك حين تلفظ في جميعٍ ... ولا تكذب مقدّمةٌ لفعلك فزنه إن أردت القول وزناً ... وإلاَّ هدّ من أركان نبلك وقال آخر:؟ ومن لاَّ يملك الشَّفتين يسخو ... بسوء الَّلفظ من قيلٍ وقال كان يونس بن عبد الأعلى ينشد هذه الأبيات: قد أفلح السَّاكت الصَّموت ... كلام واعي الكلام قوت ما كلّ قولٍ له جوابٌ ... جواب ما تكره السكوت ياعجباً لامرئ ظلومٍ ... مستيقنٍ أنّه يموت ؟ بابٌ من مزدوَّج الكلام الزوجة أحد الكاسبين، وقيل إصلاح المال أحد الكاسبين. قلة العيال أحد اليسارين. القلم أحد الِّلسانين. الشيب أحد العسرين. اليأس أحد النّجحين. ويقال: تعجيل اليأس أحد الظَّفرين. حسن التَّقدير أحد الكسبين. الَّلبن أحد الجبنين. كثرة العيال أحد الفقرين. المال أحد الجاهين. الدُّعاء للسَّائل أحد العطاءين، وقيل: الرّد على السائل بالدّعاء إحدى الصَّدقتين. العجيزة أحد الوجهين. وقيل: الشِّعر أحد الوجهين. الشَّحم إحدى الحسنيين. البياض أحد الجمالين. المرق أحد اللّحمين. ملك العجين أحد الرَّيعين. قال عمر بن الخطاب: املكوا العجين إنه أحد الرَّيعين. المبلِّغ أحد الشَّاتمين. السامع للغيبة أحد المغتابين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الرَّاوية للهجاء أحد الهجَّائين. فصلٌ منه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل أوصاه: " حافظ على العصرين ". والعصران: الصبح والظهر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى البردين دخل الجنة ". البردان: الغداة والعشي. وقال بعضهم: الأبردان: الغداة والعشيّ. الأيهمان: السّيل والحريق. الأحمران: الذَّهب والزَّعفران. الأسودان: التَّمر والماء. الأطيبان: الأكل والجماع. الأجوفان:الفم والفرج. الأصغران: القلب واللسان. الأكبران: الهمَّة واللُّب. الأصمعان: الفهم الذكي والرأي الحازم. الجديدان: اللَّيل والنَّهار وكذلك الملوان، وكذلك العصران، قال حميد ابن ثور الهلالي: ولن يلبث العصران يوماً وليلةً ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمَّما وقال أبو بكر بن دريد: إنَّ الجديدين إذا ما استوليا ... على جديدٍ أدنياه للبلى وقال سليمان بن بطّال: وتقلُّب الملوين بينهما الرَّدى ... إن لم يكن هذا يجيء به فذا العمران: أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - هذا قول الأكثر. كما قالوا: المكَّتان: مكَّة والمدينة. والقمران:الشمس والقمر. قال الفرزدق: أخذنا بآفاق السَّماء عليكما ... لنا قمراها والنُّجوم الطَّوالع لم يختلفوا أنه أراد الشمس والقمر. وقال أبوعبيدة في قول قيس بن زهير. جزاني الزَّهدمان جزاء سوءٍ ... وكنت المزء يجزي بالكرامة أراد زهدماً وأخاه قيساً ابني محمد بن وهب من بني عبس بن بغيض، وقال أبو عبيدة: الزهدمان: زهدمٌ وكردم. قال أبو عمر: الحجة في هذا قول الله عزّ وجلّ: " ولأبويه "، فالأبوان الأب والأم. وقد قال قتادة: العمران: عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز. والأول أشهر وأكثر. باب من الأجوبة المسكتة وحسن البديهة لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط، فقال له: من للصِّبية يا محمد؟ قال: النَّار. قال الأعمش: احذروا الجواب، فإن عمرو بن العاص قال لعديّ بن حاتم: متى فقئت عينك يا أبا طريف؟ قال: يوم طعنت في استك وأنت مولّ يوم صفين. شهد أعرابّي بشهادة عند معاوية على شيء، فقال: كذبت. فقال: الكاذب والله مزمل في ثيابك. فتبسم معاوية وقال: هذا جزاء من عجل. أنشد ابن الرِّقاع قصيدة يذكر فيه الخمر، فقال له معاوية: أما إني قد ارتبت فيك في جودة وصف الشراب، فقال: وأنا قد ارتبت بك في معرفته. قال تميم بن نصر بن سيَّار لأعرابي: هل أصابتك تخمة قط؟ قال: أما من طعامك وشرابك فلا. قال عبد الملك بن مروان لبثينة: ما رجا منك جميل؟ قالت: ما رجت منك الأمَّة حين ملكتك أمرها. قيل لبعضهم: صحبت الأمير فلانا إلى اليمن، فما ولاّك؟ قال: قفاه. قيل لأعرابي: صف لنا النخلة. فقال: صعبة المرتقى، بعيدة المهوى، مهولة المجتنى، رهيبة الِّسلاح، شديدة المؤونة، قليلة المعونة، خشنة الملمس، ضئيلة الظل. دخل معن بن زائدة على المنصور، فأسرع المشي وقارب الخطر، فقال له المنصور: كبرت سنُّك يا معن؟ قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك مع ذلك لجلد. قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين. دخل عديّ بن حاتم على معاوية، وعنده عبد الله بن عمرو، فقال له عبد الله: يا عديّ متى ذهبت عينك؟ قال: يوم مثل أبوك هارباً، وضرب على قفاه مولياً، وأنا يومئذ على الحق، وأنت وأبوك على الباطل. قال المهديّ لجرير بن زيد: يا جرير إني لأعدُّك لأمر. قال جرير: إن الله قد أعدَّ لك منّي قلباً معقوداً بنصيحتك ويداً مبسوطة بطاعتك، وسيفاً مشحوذاً على عدوك، إذا ما شئت. قالت جارية ابن السَّمَّاك له: ما أحسن كلامك إلا أنك تردده. قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه. قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه. قال الحسن لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب. فقال ابن سيرين: وأنت تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل. قال رجل لعمر بن الخطاب:أهلكنا النوم: فقال: بل أهلكتم اليقظة. مرت أمة بسعيد بن المسيب وقد أقيم ليضرب، فقالت: يا شيخ! لقد أقمت مقام الخزي. فقال: بل من مقام الخزي فررت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قال رجلٌ لعمرو بن العاص لأتفرغَنَّ لك. فقال: حينئذ تقع في الشغل. لقي الحسن الفرزدق في حين خروجه إلى العراق، فسأله عن الناس، فقال: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من الله. قال رجل عند الحسن: أهلك الله الفخار. قال:إذا استوحش في الطريق. قيل للأصمعي: لماذا لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا يواتيني، والذي يواتيني لا أريده، أنا كالمسنّ أشحذ ولا أقطع. قيل لابن المقفع: مالك لا تقول الشعر؟ فقال: الذي يواتيني لا أريده، والذي أريده لا يواتيني. قال: ابن مناذر: لا تقل شعراً ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعراً فأجد قال عبد الله بن مروان لثابت بن عبد الله بن هلال: إنك أشبه الناس بإبليس. قال: وما تنكر أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن. قيل لأعرابية من بني عامر: لقد أحسنت العزاء على ابنك. قالت: إن فقده أيأسني من المصائب بعده. ونعى إلى أعرابية ابن لها، فقالت: لقد نعيتموه كريم الجدّين، ضحوكاً إذا أقبل كسوباً إذا أدبر، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد. قال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنا؟ قال: مذ ماتت العجوز أمك. قال أبو الزناد لابن شبرمة في مناظرته له: من عندنا خرج العلم. فقال ابن شبرمة: ثم لم يعد إليكم. قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم يا بني عبد شمس أبين. قال زهير: " ومن لا يكرَّم نفسه لا يكرَّم " ... "..ومن لا يتّق الشَّتم يشتم " قال معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم. قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أين ترى عمك أبا لهب؟ قال: في النار، مفترشاً عمتك حماَّلة الحطب. وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية ابن عبد شمس. قال الرشيد لشريك القاضي: يا شريك! آية في الكتاب ليس لك ولا لقومك فيها شيء. قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال قوله تعالى: " وإنَّه لذكرٌ لك ولقومك "، فقال آية أخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء. قال: وما هي؟ قال: " وكذَّب به قومك وهو الحقُّ ". قال الرشيد لأبي الحارث جمَّيرا: أيسرك أن تخرا الغالية؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ والناس يتمنونها قال: أخاف أن يختم أمير المؤمنين على سراويلي فلا يفتحها. قال معاوية بكلام عرّض فيه بعبد الله بن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين لا يكن حقنا منك أن تمسك يدك مغلولة إلى عنقك، وتعمل لسانك في قومك. وروى أن أبا بكر بن عياش كان أبرص، وكان رجل من قريش يشرب الخمر، فقال له أبو بكر: قيل لنا إن نبيا من الأنبياء بعث بحلّ الخمر. فقال: لا أومن به حتى يبرئ الأبرص. قدم الوليد بن عقبة الكوفة في زمن معاوية، فأتاه أهل الكوفة يسلمون عليه، وقالوا: ما رأينا بعدك مثلك. فقال خيراً أم شراً؟ قالوا: لم نر بعدك إلا شراً منك. قال: لكني والله ما رأيت بعدكم شرا منكم، والله يا أهل الكوفة، إن حبكم لصلف، وإن بغضكم لتلف. قال المنذر بن الجارود لعمرو بن العاص: أي رجل أنت لو كانت أمك من عز قريش؟ قال عمرو: أحمد الله إليك، لقد عرضت قبائل العرب على نفسي أتمنى من أيهم تكون أمّي في طول ليلتين، فما خطرت عبد القيس على بالي. جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص، وهو على المنبر عن أمه، فسأله. فقال: هي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة، من بني عنزة، ثم أحد بنى جلاَّن، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت وأنجبت. فإن كان لك جعل فخذه. فاخر رجل من ولد أبي البختريَّ بن هشام رجلا من ولد الزبير، فقال: أنا ابن عقير الملائكة. قال ابن الزبير: فنعم العاقر وبئس المعقور، فقال: أنا ابن شداد البطحاء. قال: شدها أبوك بسلحه، وشدها أبي برمحه. جلس معاوية يأخذ البيعة على أهل العراق بالبيعة له والبراءة من على، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! إنا نبايع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم، فنظر معاوية إلى المغيرة بن شعبة، فقال: رجل، فاستوص به خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ظفر الحجاج بأصحاب ابن الأشعث، فجلس يضرب أعناقهم، فأتي في آخرهم برجل من تميم، فقال له ياحجاج! لئن كنا أسأنا في الدنيا، فما أحسنت في العقوبة. فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف، ما كان فيهم من يحسن هذا؟ وأمر بتخلية سبيل من بقي. قال عمر بن عبد العزيز لسالم بن عبد الله بن عمر: أساءتك ولايتنا أم سرتك؟ قال: ساءتني لك وسرتني للمسلمين. عاتب أعرابي أباه فقال: إن عظيم حقك علي، لا يذهب صغير حقي عليك، والذي تمتُّ به إليّ أمت بمثله إليك، ولست أزعم أنّا سواء، ولكن لا يحل لك الاعتداء. لما مات الحسن أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبت ذلك عائشة وركبت بغلة وجمعت الناس، فقال لها ابن عباس: كأنك أردت أن يقال: يوم البغلة كما قيل يوم الجمل؟! قالت: رحمك الله، ذاك يوم نسي. قال: لا يوم أذكر منه على الدهر. قيل لمعاوية بن سفيان، يوم صفين: إنك تقدم حتى نقول: إنك تقبل، وإنك أشجع الناس، وتتأخر حتى نقول:إنك تفر، وإنك أجبن الناس. قال: أتقدم إذا كان التقدم غنما، وأتأخر إذا كان التأخرعزما. سأل ابن الزُّبير معاوية حاجة فلم يقضها، فاستعان عليه بمولاة له، فقضى حاجته، فقال له رجل: استعنت بامرأة! فقال: إذا أعيت الأمور من أعاليها طلبناها من أسافلها. اشتكىعبد الله بن صفوان ضرسه، فأتاه رجل يعوده، وقال: ما بك؟ قال: وجع الضرس. فقال: أما علمت ما يقول إبليس؟ قال: لا. قال: يقول: دواؤه الكسر. قال:إنما يطيع إبليس أولياؤه. مرض رجل من الأعراب فعاده جاره فقال: ما تجد؟ قال: أشكو دمَّلاً آلمني وزكاماً أضرَّ بي. فقال:أبشر فإنه بلغنا أن إبليس لا يحسد شيء من الأمراض ما يحسد على هاتين العلتين لما فيهما من الأجر والمنفعة، فأنشأ الأعرابي يقول: أيحسدني إبليس دائين أصبحا ... بجسمي جميعاً دمَّلاً وزكاماً فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة فحلٍ ما يطيق قياما قال أبو جعفر المنصور لأبي جعونة العامريّ من أهل الشام: ألا تحمدون الله بأنا قد ولينا عليكم ورفع عنكم الطاعون؟! قال: لم يكن ليجمعكم الله علينا والطاعون. قيل لبعضهم: أراك تكره الغزو، وما يكرهه إلا جبان أو متهم؟ فقال: والله إني لأكره أن يأتيني الموت على فراشي، فكيف أسافر إليه مسافة بعيدة. عرض بعض القواد أصحابه، فمر به رجل معه سيف رديء، فقال له: ويحك ما هذا السيف؟! أما علمت أن الرجل بسيفه؟ فقال أصلحك الله أيها الأمير، إنها مأمورة. قال هذا مما يقطع شيئاً. قيل لابن سيرين: من أكل سبع رطبات على الريق سبَّحت في بطنه، فقال ابن سيرين: لئن كان هذا هكذا فينبغي للوزينج إذا أكل أن يصلي الوتر والتراويح. قيل لابن السَّمَّاك في زمن يزيد بن معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي. قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا: " ربنا باعد بين أسفارنا " أما كان جمع الشمل خيراً لهم؟ فقال اليماني: قومك أحمق منهم، حين قالوا: " الَّلهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السَّماء، أوائتنا بعذابٍ إليم "، أفلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه. قال رجل للرقاشي: ما يجب على المؤمن في حق الله؟ قال: التعظيم له والشكر لنعمه، قال: فما يجب عليه في حق السلطان؟ قال: الطاعة والنصيحة. قال: فما يجب عليه في حق نفسه؟ قال: الاجتهاد في العبادة، واجتناب الذنوب. قال: فما يجب عليه في حق العامة؟ قال: كف الأذى وحسن المعاشرة. قال: فما يجب عليه في حق الخليط؟ قال: الوفاء بالمودة وحسن المعونة. قال بعض الجلّة لأعرابي من بني تميم يمازحه: يا أعرابيّ! من الذي يقول: تميمٌ ببطن اللُّؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت فقال: لا أعرفه. ولكن أعرف الذي يقول: أعضّ الله من يهجو تميماً ... ومن يروي لها أبداً هجاءا ببطن عجوزةٍ وبإست أخرى ... وأدخل رأسه من حيث جاءا دخل طفيليٌّ دار قوم بغير إذن، فاشتدّ عليه صاحب الدار في القول، فأغلظ له الطفيلي في الجواب، وقال له: والله لئن قمت إليك لأدخلنك من حيث خرجت. فقال صاحب المنزل: أمّا أنا فأخرجك من حيث دخلت، وأخذ بيده فأخرجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قال الفرزدق لكثير - وقد أنشد: ما أشبه شعرك بشعري! أفكانت أمك أتت البصرة؟ فقال: لا ولكن أبي أتاها، ونزل في بني دارم. قال المثّقب العبديّ: وكلمة حاسدٍ من غير جرمٍ ... سمعت فقلت مرّي فانفذيني وعابوها عليَّ ولم تعبني ... ولم يعرق لها يوماً جبيني وما من شيمتي شتم ابن عميِّ ... ولا أنا مخلفٌ من يرتجيني وذو الوجهين يلقاني طليقاً ... وليس إذا تغّيب يأتليني بصرت بعيبه فكففت عنه ... محافظةً على حسبي وديني قال رجلٌ من بني عجل لأبي الرَّوحاء الشاعر، بهمذان: ممن الرجل؟ قال: من العجم. قال العجلي: إنما الشعر للعرب، والمحال أن يقول الشعر رجل من العجم حتى ينزو على أمه رجل من العرب. فقال أبو الروحاء: فكل من لم يقل الشعر من العرب، فقد نزا على أمه رجل من العجم على هذا القياس. قال مسكين الدارمي:؟ وإذا الفاحش لاقى فاحشاً فبهذا وافق الشَّنّ الطبق إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب البين ما شاء نعق أو حمار السُّوء إن أمسكته ... رمح الناس وإن جاع نهق أو غلام السُّوء إن جوّعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق قال رجل لشريح القاضي: لشد ما ارتفعت فقال له شريح: هل ضرك ذلك؟ إنك لتبصر نعمة الله على غيرك وتعمى عنها في نفسك. قيل لمزيد - وهو يحمل شيئاً تحت إبطه -: يا مزيد! ما هذا الذي تحت حضنك؟ قال: يا أحمق! ولم خبأته؟ قال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد إني قد هجوت إبليس، أفتسمع؟ فقال له الحسن: اسكت، فإنك على لسانه تنطق. قيل لأعرابي: أتهمز الفارة؟ قال: إنما يهمزها السنور. قال حمزة الكسائي: أتهمز الذيب؟ قال: لو همزته أكلني. سأل رجل من الشعراء رجلا من المتكلمين بين يدي المأمون، فقال: ما سنك؟ قال: عظم. قال: لم أرد هذا، ولكن كم تعدَّ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأزيد. قال: لم أرد هذا، ولكن كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لأهلكني. فضحك المأمون. فقيل له: كيف السؤال عن هذا؟ فقال: أن تقول؟ كم مضى من عمرك. لقي رجل رجلاً راكباً، فقال له: أين تنزل فقال له: حيث أضع رجلي. وهب المفضل الضبي لبعض جيرانه أضحية، فلقيه بعد النحر، فقال: كيف وجدت أضحيتك؟ فقال: ما وجدت لها دماً، أراد قول الشاعر:؟ ولو ذبح الضّبِّي بالسيف لم تجد من اللؤم للضَّبِّيِّ لحماً ولا دما اجتمع ناس من الشعراء على باب عدي بن الرِّقاع الشاعر، فخرجت بنت له، فقالت: ما تريدون، قالوا: نريد أباك لنخزيه ونفضحه. فقالت: تجمّعتم من كلِّ أوبٍ وبلدةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحد تفاخر أهل الكوفة وأهل البصرة، فقال ابن شبرمة - وكان كوفياً -: لنا أحلام ملوك المدائن، وسخاء أهل السواد، وظرف أهل الحيرة، ولكم سفه السند، وبخل الخزر، وحمق أهل غسان. قال الربيع الحاجب لشريك القاضي بحضرة المهدي: بلغني أنك اختنت أمير المؤمنين. فقال شريك: لا تقل ذلك. لو كنت اختنته لكان قد أتاك نصيبك. قال مؤدب يزيد بن عبد الملك يوماً له: لحنت. فقال: الجواد يعثر. قال المؤدب: إي والله، ويضرب حتى يستقيم. فقال: نعم، وربما كسر أنف سائسه. وقف أعرابي على قوم فقال: رحم الله من لم تمج أذنه كلامي، وقدم لنفسه معاذه من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة، والحال مسغبة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والفقر يدعو إلى إخباركم، والدعاء أحد الصدقتين، فرحم الله امرءاً أمر بخير. فقيل له: من أنت؟ فقال: اللهم اغفر، سوء الاكتساب يمنعني من الانتساب. سمع إياس بن معاوية - رحمه الله - يهوديا يقول: ما أحمق المسلمين! يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. فقال له إياس بن معاوية: أو كل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا. لأن الله يجعل أكثره غذاء. قال: فلم تنكر أن يجعل الله جميع ما يأكله أهل الجنة غذاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 جمع المأمون بين العتَّابي وبين أبي قرَّة النصراني، فقال لهما: تناظرا وأوجزا. فقال العتابي لأبي قرة: أسألك أم تسألني؟ فقال: سلني. قال: ما تقول في المسيح؟ قال: أقول إنه من الله عز وجل. فقال العتابي: إن " من " تجيء على أربعة أوجه: فالبعض من الكل على سبيل التجزؤ، والولد من الوالد على سبيل التناسل، والخل من الحلو على سبيل الاستحالة، والخلق من الخالق على سبيل الصنعة، فهل عندك خامسة قال: لا، ولكني لو قلت واحدة من هذه ما كنت تقول؟ فقال العتابي: إن قلت: إنه كالبعض من الكل جزّأته، والباري لا يتجزأ، وإن قلت: إنه كالولد من الوالد أوجبت ثانيا من الأولاد وثالثا ورابعاً إلى مالا نهاية، وهذا لا يجوز على الباري عز وجل، وإن قلت على سبيل الاستحالة، أوجبت فساداً، والباري لا يستحيل ولا ينتقل من حال إلى حال، وإن قلت: إنه كالخلق من الخالق، كان قولا حقا، وهو الحق الذي لا شك فيه. وصف إبراهيم النظام لأبي عبيدة معمر بن المثنى باليقظة وسرعة الجواب، فمر به يوماً ومعه قارورة زجاج، فأراد أن يختبره، فقال: يا أبا إسحاق! ما عيب هذه؟ فقال سريعة الانكسار، بطيئة الانجبار. فأعجب ذلك أبا عبيدة. دخل المعتصم على خاقان عائداً فقال للفتح بن خاقان: أيُّما أحسن، دار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ فقال: ما دام أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن. سمع سوارٌ القاضي الحجّاج بن أرطاة يقول: أهلكني حب الشرف، فقال: اتق الله تشرف. قال مالك بن أنس: قدم على عمر بن عبد العزيز فتيان، فقالا: إن أبانا توفي فترك مالا عند عمنا حميد، فأمر عمر بإحضاره، فلما دخل عليه، قال له عمر: يا حميد أنت القائل: حميد الّذي أمجٌ داره ... أخو الخمر ذو الشَّيبة الأصلع أتاني المشيب على شربها ... وكان كريماً فما ينزع فقال: نعم. قال: أما إذ أقررت، فأني سأجلدك؟ قال ولم؟ قال: لأنك أقررت بشرب الخمر، وزعمت أنك تنزع عنها. فقال: هيهات، أين تذهب بك؟ ألم تسمع قول الله يقول: " والشُّعراء يتَّبعهم الغاوون، ألم تر أنَّهم في كلِّ وادٍ يهيمون وأنَّهم يقولون مالا يفعلون "؟ قال عمر: أولى لك يا حميد، لقد أفلت. ثم قال: ويحك ياحميد، كان أبوك صالحاً، وأنت رجل سوء. قال: أصلحك الله، وأنت رجل صالح، وكان أبوك رجل سوء، وما كلُّ الناس يشبه أباه، فقال: إذن هؤلاء يزعمون أن أباهم توفي، وترك عندك مالاً. قال: صدقوا، وأنا أحضره الآن. فأحضره بخواتيم أبيهم، ثم قال: إن هؤلاء توفي أبوهم منذ كذا وكذا، وأنا أنفق عليهم من مالي وهذا مالهم. فقال عمر: ما أحدٌ أحقّ أن يكون عنده منك. قال: ما كان ليعود إليّ وقد خرج من عندي. دخل الأحنف بن قيس التميمي على معاوية بن أبي سفيان يوماً، فقال: يا أحنف ما الشيء الملَّفف في البجاد؟ يعرض له بقول الشاعر: إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد بخبزٍ أو بتمرٍ أو بسمنٍ ... أو الشيء الملَّفف في البجاد تراه يطوف في الآفاق حرصاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد والشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن. فعلم الأحنف ما أراد معاوية بتعريضه، فقال: الشيء الملفف في البجاد هو السخينة يا أمير المؤمنين. وذلك أن قريشاً كانت تعّير بأكل السخينة. وهي حساء من دقيق كانوا يصنعونها عند المسغبة وغلاء السعر. باب الأدب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منح والدٌ ولده خيراً من أدب حسن " وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أنه قال: " ما نحل والدٌ ولده خيراً من أدب حسن ". قال سليمان بن داوود: من أراد أن يغيظ عدوَّه، فلا يرفع العصا عن ولده. وقال محمد بن سيرين: كانوا يقولون: أكرم ولدك وأحسن أدبه. كان يقال: من أدّب ولده أرغم أنف عدوه. قال الحسن: التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر. قال الشاعر: خير ما ورَّث الرّجال بنيهم ... أدبٌ صالحٌ وحسن الثّناء هو خيرٌ من الدََّنانير والأو ... راق في يوم شدَّةٍ أو رخاء تلك تفنى والدِّين والأدب الصَّ ... الح لا تفنيان حتَّى البقاء إن تأدَّبت يا بنيّ صغيراً ... كنت يوماً تعدّ في الكبراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وإذا ما أضعت نفسك ألفي ... ت كبيراً في زمرة الغوغاء ليس عطف القضيب إن كان رط ... باً وإذا كان يابساً بسواء قال لقمان: ضرب الوالد للولد كالّسماد للزرع. قال بعض الحكماء: لا أدب إلاّ بعقل، ولا عقل إلا بأدب. كان يقال: التجربة علم، والأدب عون، وتركه مضرّة بالعقل. كان يقال: العون لمن لا عون له الأدب. قال الأحنف: الأدب نور العقل، كما أنّ النار في الظلمة نورالبصر. قال الأصمعيّ: ما مطيةٌ أبلغ دركاً وهي وادعة من الأدب. قال بزرجمهر: أرفع منازل الشَّرف لأهله العلم والأدب. وقيل: من قعد به حسبه نهض به أدبه. وقال ابن أبي دؤاد لرجل تخطّى أعناق الرّجال إليه: إنّ الأدب المترادف خير من النَّسب المتلاحف. كان يقال: الأدب من الآباء، والصّلاح من الله. كان يقال: من أدّب ابنه صغيراً قرّت به عينه كبيراً. وقال الحجاج لابن القرِّيَّة: ما الأدب؟ قال: تجرُّع الغصّة حتى تمكن الفرصة. ووصف أعرابيٌّ الأدب في مجلس معمر بن سليمان، فقال: الأدب أدب الدّين، وهو داعيةٌ إلى التوفيق، وسببٌ إلى السعادة وزادٌ من التقوى، وهو أن تعلم شرائع الإسلام، وأداء الفرائض، وأن تأخذ لنفسك بحظّها من النافلة، وتزيد ذلك بصحّة النية، وإخلاص النفس، وحبّ الخير، منافساً فيه، مبغضاً للشرّ نازعاً عنه، ويكون طلبك للخير، رغبةً في ثوابه، ومجانبتك للّشِّر رهبةٌ من عقابه، فتفوز بالثواب، وتسلم من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسنات المنجيات. وقال أعرابيٌ: الأديب من اعتصم بعزّ الأدب من ذلّة الجهل، ولم يتورط في هفوة، وكان أدبه زلفى إلى الحظوة في دنياه وأخراه. قال منصور الفقيه: ليس الأديب أخا الرِّوا ... ية للنّوادر والغريب ولشعر شيخ المحدثين ... أبي نواسٍ أو حبيب بل ذو التَّفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب كان يقال: من لم يصلح على أدب الله لم يصلح على اختياره لنفسه. الحطيئة: إذا نكبات الدَّهر لم تعظ الفتى ... عن الجهل يوماً لم تعظه أنامله ومن لم يؤدّبه أبوه وأمّه ... تؤدِّبه روعات الرَّدى وزلازله فدع عنك ما لا تستطيع ولا تطع ... هواك ولا يذهب بحقّك باطله وقال آخر: من لم يؤدِّبه والداه ... أدَّبه الَّليل والنَّهار وقال محمد بن جعفر: الأدب رياسة، والحزم كياسة، والغضب نار، والصَّخب عارٌ. قال ابن القرِّيَّة: تأدبوا فإن كنتم ملوكاً سدتم، وإن كنتم أوساطاً رفعتم، وإن كنتم فقراء استغنيتم. قال شبيب بن شبية: اطلبوا الأدب فإنّه عونٌ على المروءة، وزيادةٌ في العقل، وصاحبٌ في الغربة، وحليةٌ في المجالس. قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله عزّ وجل: " يا أيُّها الَّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا "، قال: أدّبوهم وعلّموهم. قال الشاعر: يقوِّم من ميل الغلام المؤدِّب ... ولا ينفع التّأديب والرَّأس أشيب وقال آخر: إنّ الحداثة لا تقص ... ر بالفتى المرزوق ذهنا لكن تزكِّى عقله ... فيفوق أكبر منه سنَّاً وقال آخر: رأيت الفهم لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على مرِّ السِّنين ولوأنَّ السِّنين تقاسمته ... حوى الآباء أنصبة البنين قال مصعب بن عبد الله الزُّبيري: قال لي رجل من أهل الأدب فارسيّ النسب: إن ثلاثة ضروب من الرجال لم يستوحشوا في غربة، ولم يقصروا عن مكرمة: الشجاع حيث كان، فبالناس حاجة إلى شجاعته وبأسه، والعالم فبالناس حاجة إلىعلمه، والحلواللسان فإنه ينال ما يريد بحلاوة لسانه ولين كلامه، فإن لم تعط رباطة الجأش، وجرأة الصدر، فلا يفوتنك العلم وقراءة الكتب، فإن بها أدباً وعلماً قد قيَّدته لك العلماء قبلك، تزداد بها في أدبك وعلمك. قال سابق البربريّ: قد ينفع الأدب الأحداث في مهلٍ ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب إنَّ الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قوّمتها الخشب قيل لعيسى عليه السلام: من أدَّبك؟ قال: ما أدَّبني أحدٌ، رأيت جهل الجاهل فاجتنبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قال بعض الحكماء: أفضل ما يورِّث الآباء الأبناء: الثناء الحسن، والأدب النافع، والإخوان الصالحون، وأنشدوا:؟ ويعدم عاقلٌ أدباً فيجفو ... وتنسبه إلى غلظ الطِّباع ومنزلة التَّأدب من أديبٍ ... بمنزلة السِّلاح من الشُّجاع قال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بنيّ لوعداكم ما أنتم فيه ما كنتم تعوّلون عليه؟ فقال الوليد: أما أنا ففارس حرب، وقال سليمان: أما أنا فكاتب سلطان، وقال ليزيد: فأنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين!؟ ما تركاغاية لمختار. فقال عبد الملك: فأين أنتم يا بنيّ من التجارة التي هي أصلكم ونسبتكم؟ فقالوا: تلك صناعة لا يفارقها ذل الرغبة والرهبة، ولا ينجوصاحبها من الدخول في جملة الدّهماء والرعية، قال: فعليكم إذاً بطلب الأدب، فإن كنتم ملوكاً سدتم، وإن كنتم أوساطاً رأستم، وإن أعوزتكم المعيشة عشتم. باب ترويح القلوب وتنبيهها قال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السّآمة علينا. وكان عليُّ بن أبي طالب يقول: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة. وقال عليٌّ رضي الله عنه: نبّه بالتفكّر قلبك، وجاف عن النوم جنبك، واتق الله ربّك. قال أبو الدّرداء: إني لأستجمُّ قلبي بشيءٍ من اللهو، ليكون أقوى لي على الحقّ. قال عبد الله بن مسعود: أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمى. وقال أيضاً: إنّ للقلوب شهوةً وإقبالا، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها. كان يقال: الملالة تفسخ المودّة، وتولّد البغضة، وتنغّص اللّذة. قال أرسطو طاليس: ينبغي للرّجل أن يعطي نفسه لذّتها في النهار ليكون ذلك عوناً لها على سائر يومه. في صحف إبراهيم عليه السّلام: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعةٌ يناجي فيها ربّه، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه، وساعةٌ يخلّي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجمل، فإنّ هذه الساعة عونٌ له على سائر السّاعات. قال عمر بن عبد العزيز: تحدثوا بكتاب الله تعالى، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديثٌ من أحاديث الرّجال حسنٌ جميل. وقال بعض الحكماء من السَّلف: القلوب تحتاج إلى قوتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الغذاء. دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه، وهو في نوم الضّحى، فقال: يا أبت إنّك لنائم، وإنّ أصحاب الحوائج لراكدون ببابك فقال: يا بنيَّ إن نفسي مطيّتي، وإن حملت عليها فوق الجهد قطعتها. قال الحسن البصريُّ رضي الله عنه: حادثوا هذه القلوب، فإنّها سريعة الدُّثور، وأفزعواهذه النفوس فإنها طلعة، وإن لم تفعلوا هوت بكم إلى شرّ غاية. وقال غيره من العلماء: حادثوا هذه القلوب فإنّها تصدأ كما يصدأ الحديد، وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: " إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ". قالوا: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: " تلاوة القرآن ". كان يقال: الفكرة مرآة المؤمن، تريه حسنه من قبيحه. كان يقال: التفكر نورٌ، والغفلة ظلمة. باب قولهم في وصف العيش وما تتمنَّاه الَّنفس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسمه، معه قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا ". كان عمر بن الخطاب يعجبه قول عبدة بن الطبيب: المرء ساعٍ لأمرٍ ليس يدركه ... والعيش شحٌ وإشفاقٌ وتأميل قال أبو يعلى: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا محمد بن حرب الزِّيادي، قال: حدثني أبي قال: قال زيادٌ لجلسائه: من أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وجلساؤه. فقال:ما صنعتم شيئاً، إنّ لأعواد المنابر هيبة، وإنّ لفرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط النّاس عندي: رجل له دارٌ لا يجري عليه كراؤها، وله زوجة صالحة، قد رضيته ورضيها فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنّه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأفسدنا دينه ودنياه. قال عمر: لما فتح الله على رسوله بني النضير وغيرهما، كان يتخذ منها لنفسه وعياله قوت سنة، ثم يجعل الباقي في الكراع والسّلاح في سبيل الله. وقال سليمان: إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا تمنّى أحدكم فليكثر، فإنّما يسأل ربّه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وليس في هذا معارضة لقول الله: " ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعضٍ " لأن معنى هذا عند العلماء أن يتمنى الرجل مال أخيه وامرأة أخيه، ليصرفه الله عنه إليه فذلك التمني المكروه. قال محمد بن سيرين: نهيتم عن الأمانيّ، ودللتم على ما هو خير منها لكم، سلوا الله من فضله. وقد ذكرنا في كتاب " التمهيد " معنى قوله عليه والسلام: " لا يتمنينّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل به "، عند قوله عليه السلام: " لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر أخيه فيقول: يا ليتني مكانه ". قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي: ما بقي من لذاتك؟ قال جليس يقصر به طول ليلي، وزائر أشتهي من أجله طول السهر. وقال غيره: زائر أشتهي به طول السهر ودابة أشتهي من أجلها طول السفر. قال مسلمة بن عبد الملك: العيش في ثلاثٍ: سعة المنزل، وموافقة المرأة، وكثرة الخدم. قال عباية الجعفيّ: ما يسرُّني بنصيبي من التمني حمر النَّعم. قال عبد الرحمن بن أم الحكم: لذة العيش في زحف الأحرار إلى طعامك، وبذل الأشراف وجوههم إليك فيما تجد السبيل إليه، وقول المنادي: الصلاة أيها الأمير. قال قتيبة بن مسلم لوكيع بن أبي سود: ما السرور؟ قال: لواءٌ منشور، وجلوسٌ على السّرير، والسّلام عليك أيّها الأمير. قيل لأمّ البنين: ما أحسن شيءٍ رأيت؟ قالت: نعم الله مقبلةً عليّ. سأل قتيبة رجلاً: ما السّرور؟ قال: الولد الصالح والمال الواسع. قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: لذّة العيش ظفرك بمن تحبّ بعد امتناع، ولذة لا توجب عليك إثماً، وحقٌ وافق هوىً. قيل لأبي حازم: ما اللّذة؟ قال: الموافقة، ولا أنيس كالصاحب المواتي. وروى الرِّياشي عن الأصمعي قال: قال شبيب بن شيبة: عيش الدنيا في ثلاث: محادثة الإخوان، ومباشرة النسوان، وشم الصبيان. قال بعض الحكماء: كثرة الالتفات سخف، ومجالسة الحمقى تورث النّوك، وكثرة المنى تخلق العقل، وتفسد الدين، وتنفي القناعة. قال أبو العتاهية:؟ لله أصدق والآمال كاذبةٌ وجلّ هذي المنى في القلب وسواس ذكر عمرو بن بحر عن الأصمعي قال: قال بعضهم: الاحتلام أطيب من الغشيان، وتمنِّيك الشيء أوفر حظاً للّذة من قدرتك عليه. قال عمرو بن بحر: كأنه ذهب إلى أن المال إذا ملك وجبت فيه حقوق، وخاف مالكه عليه الزوال، واحتاج إلى الحفظ، وكل من عظمت عليه نعمة الله عظمت مؤونة الناس عليه. ذكر المدائني قال: قيل لامرئ القيس: ما أطيب عيش الدّنيا؟ فقال:بيضاء رعبوبة، بالطّيب مشبوبة، باللحم مكروبة. وسئل الأعشى: أيّ العيش ألّذ؟ فقال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية. وسئل طرفة، فقال: مطعمٌ شهيّ، وملبس زهيّ ومركب وطيّ. وقال غيره: أطيب الطَّيِّبات قتل الأعادي ... واختيالٌ على متون الجياد وأيادٍ حبوتهنَّ كريماً ... إنّ عند الكريم تزكوا الأيادي لبعض الحكماء: أسوأ الناس حالاً من اتسعت أمنيَّته وضاقت مقدرته، وبعدت همّته. قيل لعبد الرحمن بن أبي بكرة: أيّ الأمور أمتع؟ فقال: ممازحة حبيب، ومحادثة خدين، وأمانٍ تقطع بها أيامك. وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه قيل له: أيُّ شيءٍ أكثر إمتاعاً؟ قال: المنى. قال بعض الأعراب، ويروي لأبي بكر العرزمي:؟ منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلاَّ فقد عشنا بها زمناً رغدا أمانيّ من سلمى عذابٌ كأنَّما ... سقتك بها سلمى على ظمإٍ بردا اجتمع عبد الله وعروة ومصعب بنو الزبير بن العوام، عند الكعبة، فقال عبد الله: أحب ألا أموت حتى تجيء إليّ الأموال وأكون خليفة. وقال مصعب: أحب أن أليَ العراقين - يعني الكوفة والبصرة - وأزوّج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وقال عروة: لكني أسأل الله الجنة. فصار عبد الله ومصعب إلى ما تمنيا، ويرون أن عروة صار إلى الجنة. كان المتمني بالكوفة إذا تمنى يقول: أتمنى أن يكون لي فقه أبي حنيفة، وحفظ سفيان، وورع مسعر بن كدام، وجواب شريك. قال الأصمعيّ: قال لي بن أبي الزناد:المنى والحلم أخوان. قال مالك بن أسماء:؟؟ ولمَّا نزلنا منزلاً طلَّه النّدى أنيقاً وبستاناً من النَّور حاليا أجدَّ لنا طيب المكان وحسنه ... منىً فتمنَّينا فكنت الأمانيا قال سلم الخاسر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 لولا منى العاشقين ماتوا ... أسىً وبعض المنى غرور من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللَّذة الجسور وقال منصور الفقيه: لوأنَّ ليتاً نفعت ... مع ترك ما ينفعني ما كان لي قولٌ سوى ... يا ليتني لم أكن وقال آخر: ذهب البرد وآبا ... فاستوى العيش وطابا وقال آخر: ولي من تمنِّي النَّفس دنيا عريضةٌ ... ومصطبحٌ يغدو عليَّ ويطرق تملِّكني الأموال لا فقر بعدها ... وعرساً غيوراً فاحشاً وتطَّلق فقدت المنى لا نحن نلهو عن المنى ... لتجربةٍ منَّا ولا هي تصدق وقال آخر: وأكثر أفعال الليالي إساءةٌ ... وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا وأنشد نفطويه:؟ الدهر يصدقنا وتكذبنا المنى بعداتها وتغرُّنا الآمال وإذا المنيَّة أقبلت لم تثنها ... خيلٌ مطهّمةٌ ولا أموال وقال آخر: إنّ القناعة والعفا ... ف ليغنيان عن الغنى فإذا صبرت على المنى ... فاشكر فقد نلت المنى وقال عبد الملك بن حبيب: صلاح أمري والَّذي أبتغي ... هينٌ على الرَّحمن في قدرته ألفٌ من البيض وأقلل بها ... لعالمٍ أزرى على بغيته زرياب قد يأخذها جملةً ... وصنعتي أشرف من صنعته قال آخر:؟ مسيئات أيّام الزَّمان كثيرةٌ ومحسنة الأيام في الدَّهر أعلام وعيشك فيما تستخصّ وتصطفي ... قصيرٌ وإن طالت ليالٍ وأيّام فصل بسرور النَّفس عيشك إنَّه ... مضى مثل ما مرّت بعينك أحلام قال بشار بن برد:؟ ذكرنا أحاديث الزَّمان الَّذي مضى ... فلذَّ لنا محمودها وذميمها وقال آخر:؟ من راقب الموت لم تكثر أمانيه ... ولم يكن طالباً ما ليس يعنيه قيل لرقبة بن مصقلة: أنت بعيد الدار من المسجد، وتنصرف بلا مؤنس؟ قال: إني حين أخرج من المسجد أبتدئ أمنية فما تنقضي حتى أدخل المنزل. قال لبيد بن أبي ربيعة: ؟ واكذب الَّنفس إذا حدَّثتها ... إنّ صدق النَّفس يزري بالأمل وقال آخر: ربّ من بات يمنِّي نفسه ... حال من دون مناه أجله قال يزيد على المنبر: ثلاث يخلقن العقل، وفيها دليلٌ على الضعف: سرعة الجواب، وطول المنى، والاستغراق في الضحك. وقال الأحنف بن قيس: كثرة الأماني من غرور الشيطان. قال حبيب: من كان مرتع عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وقال آخر: إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً ... إن المنى رأس أموال المفاليس وقال آخر:؟ إذا حدَّثتك النَّفس أنك قادرٌ على ما حوت أيدي الرِّجال فكذّب فإن أنت لم تفعل ومال بك الهوى ... إلى بعض ما منّتك يوماً فجرِّب قال أبو العتاهية: إنما الفقر فضول التَّمنِّي ... فانسها واستوهب الله ذكرا قيل لسليمان بن عبد الملك: ما اللّذة؟ قال: جليس ممتع أضع بيني وبينه التّحفُّظ. قال الحجاج بن يوسف لخريم - وهو خريم بن خليفة بن سنان بن أبي حارثة المرّي - ما العيش؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال: زدني قال: والشّباب، فإني رأيت الشّيخ لا ينتفع بعيش. قال: زدني. قال: والصّحة، فإني رأيت السّقيم لا ينتفع بعيشٍ. قال زدني. قال: لا أجد مزيداً. قال أعرابيّ: وما العيش إلاّ في الخمول مع المنى ... وعافيةٍ تغدو بها وتروح وقال آخر: إنّ الفتى يصبح للأسقام ... كالغرض المنصوب للسِّهام أخطأ رامٍ وأصاب رام ... يقول: إنِّي مدركٌ أمامي في قابل ما فاتني في العام قيل لرجل من الحكماء: من أنعم الناس عيشاً؟ قال: من كفى همَّ الدنيا، ولم يهتم بالآخرة. قال الشاعر: لا تمنّ المنى فتغترّ جهلاً ... طالما اغترَّ بالمنى الجهلاء قال آخر:؟ ليت شعري وأين منَّي ليت ... إنّ ليتاً وإنَّ لواً عناء باب اختلاف الهمم في أنواع المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " خير المال عينٌ ساهرةٌ لعين نائمة ". وروي عنه عليه السّلام أنه كان يأمر الأغنياء باتّخاذ الغنم، ويأمر المساكين باتّخاذ الدَّجاج. قال مالك بن أنس - رحمه الله -: لما خرج مروان من المدينة مرّ بماله بذي خشب، فلما نظر إليه قال: ليس المال إلا ما أسرجت عليه المناطق. قيل لابنة الخس: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنىً. قيل: فمائة من الضأن؟ قالت: غنىً قيل فمائة من الإبل؟ قالت: منىً. وأما قول امرئ القيس:؟ لنا غنمٌ نسوِّقها غزارٌ كأنّ قرون جلَّتها العصيُّ فإنه أراد أنها كانت معزى، لوصفه قرونها بالعصي، وأما قوله: فتملأ بيتنا إقطاً وسمناً ... وحسبك من غنىً شبعٌ وريُّ فإنه زعم بعضهم أن، الإقط لا يكون إلا من لبن البقر، وقالوا: المعزى أكثر لبنا، وأكثر سمناً وزبداً. قال المستورد: الذَّهب والورق حجران، إن تركتهما لم يزيدا، وإن أخذت منهما نفدا، والحيوان كالبقل إن أصابته الشمس ذوى، ولكن المال الأرض والماء. قال ابن شهاب الزهريّ - رحمه الله - يخاطب أخاه عبد الله: تتبّع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلّك يوماً أن تجاب فترزقا وروى النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: " تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر في السَّابياء ". لما بلغ عمر بن الخطاب أن من نزل بالكوفة من الصحابة اتخذوا الضياع وعمروا الأرضين، كتب إليهم: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمها في وجهها. ولمابلغه أن عتبة بن غزوان وأصحابه بنوا باللَّبن كتب إليهم: وقد كنت أكره لكم ذلك، فإذا فعلتم فعرّضوا الحيطان، وأرفعوا السُّمك، وقاربوا بين الخشب. باع رجل رجلاً أرضاً، فقال البائع: أما والله لقد أخذتها شديدة المؤونة قليلة المعونة - يعني الأرض -. فقال المبتاع: والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع سريعة التفرق - يعني الدراهم. قالوا إذا بعد المال عن موضع ربّه قلت فوائده. قال الشاعر: سأبغيك مالاً بالمدينة إنَّني ... أرى عازب الأموال قلت فوائده أوصى سهل بن حينف، أحد بني عبد الرحمن بن عوف، وكانت أمُّه أنصارية فقال له: إنك احبّ إخوتك إليّ، وإني موصيك بوصية: اعلم أنه لا عيلة على مصلح، ولا مال مع الخرق، واعلم أن خير المال العقل، وخير المال ما أطعمك ولم تطعمه وإن قلّ، واعلم أن الرقيق ليسوا بمال، ولكنهم جمال، واعلم أن الماشية إنما هي مال أهلها، وإن كنت متخذاً من المال شيئاً فمزرعة إن زرعتها انتفعت بها، وإلا لم ترزءك شيئاً. قال: فحفظت نصيحته، فكانت لي أنفع مما ورثت. ذكر النخل والزّرع عند بعض الأشراف العقلاء فقال: شرينا النخل من فضول غلات الزرع، ولم نشتر الزرع من فضول غلات النخل. قال الّليث بن سعد: لماا فتتحت إفريقية عجب الناس من كثرة ما أصابوا فيها من الأموال، فسألوا بعض من كان معهم من الأسرى، فبدر إلى شجرة زيتون كانت بين يديه، فأخذ منها عوداً وأراهم إياه، وقال: من هذا جمعنا هذه الأموال نصيب الزيتون فيأتينا أهل البحر والبر، والصحراء والرمل، يبتاعون منا الزيتون، فمن ثمَّ كثرت أموالنا. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن العاص: " هل لك يا عمرو أن أبعثك في جيشٍ يسلّمك الله ويغنمك وأرغب لك رغبة صالحة ". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم من حديث المقداد بن معدي كرب، وهو حديث صحيح، أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: " ما أكل ابن آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يده، وكان داود عليه السلام يأكل من عمل يده ". وكان داود عليه السلام يعمل القفاف الخوص، وقيل كان نوح نجاراً، وكان زكريا نجاراً صلى الله عليهما وسلَّم. وأجمع العلماء أنّ أشرف الكسب: الغنائم، وما أوجف الله عليه بالخيل والرِّكاب، إذا سلم من الغلول. وقد سمّى الله الجهاد تجارة منجية من عذابٍ أليم. قال بعض لصوص همدان: ومن يطلب المال الممنّع بالقنا ... يعيش مثرياً أو تخترمه المخارم متى تجمع القلب الذكيّ وصارماً ... وأنفاً حميّاً تجتنبك المظالم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم باب التجارة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الكسب عمل اليد، وكلّ بيع مبرور ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وعنه عليه السلام أنه قال: " أفضل الكسب كسب الصَّانع إذا صحّح ". وقال عليه السلام: " التجار هم الفجّار إلا من برّ وصدق ". وقال عليه السلام: " التاجر الأمين الصدوق مع الشّهداء يوم القيامة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر التجار؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!؟؟ ؟؟؟؟ إن بيعكم هذا يشوبه الحلف، فشوبوه بالصّدقة ". وقال صلى الله عليه وسلّم: " الجالب مرزوقٌ والمحتكر ملعون ". أو قال "..مذموم ". وقال صلّى الله عليه وسلّم: " تسعة أعشار الرّزق في التجارة، والعشر في السَّابياء ". وقال عليه السّلام: " الّلهم بارك لأمّتي في بكورها ". وروي عنه عليه السّلام أنه قال: " من أشراط السّاعة، أن يرفع العلم، ويقبض المال، ويظهر القلم، وتكثر التجار ". وقال صلّى الله عليه وسلّم: " من استقالة أخوه المسلم في بيع باعه منه، فأقاله أقالّه الله من عثرته يوم القيامة ". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرَّأس رأسين. وقال عمر: بع الحيوان أحسن ما يكون في عينك. وقال ابن شهاب: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابيّ وهو يبيع مسوّمة فقال: " عليك بأول سومة، أو بأول سوم، فإن الرّبح مع السَّماح ". قيل للزبير رحمه الله: بم بلغت هذا المال؟ قال: إني لم أرد ربحاً، ولم أشتر عيباً. كان يقال: الأسواق موائد الله في الأرض، فمن أتاها أصاب منها. قال خالد بن صفوان: في التِّجار لؤم الطبائع، وعيّ اللّسان، وموت القلب، وسوء الأدب، وقصر الهمة، والاشتمال على كل بليّة. اشترى أعرابيٌ جملاً فندم عليه في شرائه، فجعل يصعِّد النظر فيه، ويصوبه ليجد ما يتوصّل به إلى ردّه فقال البائع: من طلب عيباً وجده. يقال: الغبن في شيئين، في الرَّداءة أو الغلاء، فإذا استجدت فقد سلمت من أحدهما. قال الراجز: ما أرخص الغالي إذا كان حسن وقال محمود الورَّاق: وإذا غلا شيءٌ عليّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا قال معاوية - رحمه الله - لقوم: ما تجارتكم؟ قالوا: بيع الرقيق قال: بئس التجارة ضمان نفس، ومئونة ضرس. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا اشتريت بعيراً فاشتره ضخماً، فإن لم توافق كرماً، وافقت لحماً. ودخل مالك بن دينار السوق فجلس إلى قومٍ يحدثهم، فقال: كيف سوقكم؟ قالوا: كاسدة. قال: غششتم. قال: وكيف متاعكم؟ قالوا: رديء قال: كذبتم. قال: وكيف كثرته؟ قالوا: قليل. قال: حلفتم. كان عبد الله بن مسعود يقول: عجباً للتاجر كيف يسلم إن باع مدح، وإن اشترى ذمّ. قال سعيد بن المسيّب: إذا أبغض الله عبداً جعل رزقه في الصِّياح. يعني - والله أعلم - من لا صناعة له إلاّ النداء لغير صلاة محترساً بالليل وبراحاً بالنهار. ونحو هذا عن الفضيل بن عياض، وزاد كالملاحين ودونهم، ومنهم الذين يصيحون على أسوار المدن بالليل. قال ابن عباس: من اشترى ما لا يحتاج إليه يوشك أن يبيع ما يحتاج إليه. قال المغيرة بن حبناء: وما كلُّ حينٍ يصدق المرء ظنُّه ... ولا كلُّ أصحاب التِّجارة يربح ولابن شهاب الزُّهري: ألا كلُّ من يهدي له البيع يرزق ... وقد يصلح المال اليسير الموفَّق ولمنصور الفقيه: بنيَّتي لا تجزعي واصبري ... عساك بصبرك أن تظفري فلو نال يوماً أبوك الغنى ... كساك الدَّبيقيَّ والتُّستري ولكن أبوك ابتلي بالعلوم ... فما إن يبيع ولا يشتري بابَّ الرِّزق قال الله عزَّ وجل: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدُّنيا " الآية. وقال: " والله فضَّل بعضكم على بعضٍ في الرِّزق ". سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة تقول: الَّلهم متِّعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: " دعوت الله لآجالٍ معلومةٍ وأرزاقٍ مقسومة ". وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: " أبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون ". وقال عليه السلام: " استنزلوا الرِّزق بالصدقة ". وقال عليه السلام: " ولا يحملنَّكم استبطاء الرِّزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا ينال ما عنده بما يكره، اتَّقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلّ، ودعوا ما حرم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقال عليه السلام لعبد الله بن مسعود: " لا تكثر همَّك يا عبد الله، ما يقدَّر يكن، وما ترزق يأتك ". قال الشاعر: فإنَّك ما يقدر لك الله تلقه ... كفاحاً وتجلبه عليك الجوالب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ". أنشد ابن أبي الدنيا: ومن ظنّ أنَّ الرِّزق يأتي بحيلةٍ ... فقد كذَّبته نفسه وهو آثم يفوت الغنى من لا ينام عن السُّرى ... وآخر يأتي رزقه وهو نائم فما الفقر في ضعف احتيالٍ ولا الغنى ... بكدٍّ وللأرزاق في النَّاس قاسم سأصبر إن دهرٌ أناخ بكلكلٍ ... وأرضى بحكم الله ما الله حاكم لقد عشت في ضيقٍ من الدَّهر مدَّةً ... وفي سعةٍ والعرض منِّي سالم وقال جعفر بن محمَّد: إني لأملق فأتاجر الله بالصدقة فأربح. وقال عروة بن الزبير: العاقل من إذا رزق ما لا نظر فيه، فإنه لا يدري لعله يكون آخر رزقه. ومما يروي لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه نظر: لو كان صخرةٍ في البحر راسيةٍ ... صمَّاء ملمومةٍ ملسٍ نواحيها رزقٌ لعبدٍ يراه الله لانفلقت ... حتَّى يؤدَّي إليه كلُّ ما فيها أو كان تحت طباق السَّبع مطلبها ... لسهَّل الله في المرقى مراقيها حتَّى تؤدَّي الَّذي في الَّلوح خطّ له ... إن هي أتته وإلاَّ سوف يأتيها وأنشد ابن الأعرابي: الحمد لله ليس الرِّزق بالطَّلب ... ولا العطايا لذي عقلٍ ولا أدب إن قدّر الله شيئاً أنت طالبه ... يوماً وجدت إليه أقرب السبب وإن أبى الله ما تهوى فلا طلبٌ ... يجدي عليك ولو حاولت من كثب وقد أقول لنفسي وهي ضيِّقةٌ ... وقد أناخ عليها الدَّهر بالعجب صبراً على ضيقة الأيَّام إنّ لها ... فتحاً وما الصَّبر إلاّ عند ذي الأدب سيفتح الله أبواب العطاء بما ... فيه لنفسك راحاتٌ من التّعب ولو يكون كلامي حين أنشره ... من الُّلجين لكان الصَّمت من ذهب وقيل لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد على كثرتهم؟ قال: كما قسَّم بينهم أرزاقهم. ولسريج بن يونس المحدث: يا طالب الرِّزق في الآفاق مجتهداً ... أتعبت نفسك حتَّى شفَّك التَّعب تسعى لرزق كفاك الله مؤنته ... أقصر فرزقك لا يأتي به الطَّلب كم من سخيفٍ ضعيف العقل نعرفه ... له الولاية والأرزاق والذَّهب ومن حصيفٍ له عقلٌ ومعرفةٌ ... بادي الخصاصة لم يعرف له نشب فاسترزق الله مما في خزائنه ... فالله يرزق لا عقلٌ ولا حسب وقال آخر: كم من قويٍّ قويٍ في تقلُّبه ... مهذّب الرأي عنه الرِّزق منحرف وكم ضعيفٍ ضعيف الرأي تبصره ... كأنه من خليج البحر يغترف أنشد أبو حاتم عن الأصمعي: يا أيُّها المضمر همَّاً لا تهمّ ... إنك إن تقدر لك الحمَّى تحم ولو علوت شاهقاً من العلم ... كيف توقّيك وقد جفّ القلم قالوا: المقادير تبطل التقدير، وتنقض التدبير. قال الشاعر: إذا عقد القضاء عليك عقداً ... فليس يحلُّه إلا القضاء وقال ابن المعتز: يا مكلَّ العيس في ديمومةٍ ... يتبع الآمال كالباغي المضلّ إنَّ مفتاح الذي تطلبه ... بيد المقدار فاصبر واتكل فرغ الله من الرزق ومن ... مدَّة العمر ومن وقت الأجل وقال أبو العتاهية: وفدت إلى الله في وفده ... لألتمس الرِّزق من عنده إذا ما قضى الله أمراً مضى ... ولم يقو حيٌّ على ردِّه قال المفضَّل الضَّبِّي: قيل لأعرابيّ من أين معاشكم؟ قال: من أزواد الحاجّ. قلت: فإذا صدروا فبكى، ثم قال: لو كنا نعيش من حيث نعلم لم نعش. ثم قال: أتفهم؟ قلت: نعم، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 هل الدَّهر إلاَّ ضيقةٌ فتفرَّج ... وإلا َجديدٌ ناضرٌ ثم ينهج أرى النَّاس في الدُّنيا كسفرٍ تتابعوا ... على منهج ثم استقلُّوا فأدلجوا فقال البربري: يا أيُّها الظَّاعن في حظِّه ... إنَّما الظاعن مثل المقيم كم من لبيبٍ عاقلٍ قلَّبٍ ... مصحَّح الجسم مقلٌ عديم ومن جهولٍ مكثرٌ ماله ... ذلك تقدير العزيز العليم حظك يأتيك وإن لم ترم ... ما ضرّ من يرزق ألاَّ يريم كان يقال: بكّروا في طلب الرزق، فإن النَّجاح في التبكير. قال أبو هريرة: إذا سأل أحدكم الله الرزق فلينظر كيف يسأل، فإن الله يرزق الحلال والحرام، ولكن ليقل الّلهم ارزقني ما ينفعني ولا يضرني. قالوا: الرزق رزقان رزق لا يأتيك إلا بالتسبّب ورزق يأتيك به الله من حيث لا تحتسب. وقلت أنا الرزق رزقان. فرزق تطلبه، ورزق يأتيك عفواً. قال عروة بن أذينة أو بكر بن أذينة، وهو الصحيح: إنِّي لأعلم والأقدار نافذةٌ ... أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلُّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنِّيني وقال آخر: توكَّل على الرَّحمن في كلِّ حاجةٍ ... ولا تؤثرنّ العجز يوماً على الطّلب ألم تر أن الله قال لمريم ... إليك فهزِّي الجذع يسَّاقط الرُّطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّها ... جنته ولكن كلُّ شيءٍ له سبب وقال آخر: ما يغلق الله باب الرِّزق عن أحدٍ ... إلاَّ سيفتح دون الباب أبوابا وقال بكر بن حماد: النَّاس حرصى على الدُّنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير فمن مكبٍ عليها لا تساعده ... وعاجزٍ نال دنياه بتقصير لم يدركوها بعقلٍ عندما قسمت ... وإنما أدركوها بالمقادير لو كان عن قدرةٍ أو عن مغالبةٍ ... طار البزاة بأرزاق العصافير وقال آخر: قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرِّزق من لم يؤت من تعب وإنني واجدٌ في النَّاس واحدةً ... الرِّزق أروغ شيءٍ عن ذوي الأدب ولعلي بن هشام: المرء يسعى ويسعى الرِّزق يطلبه ... وربّما اختلفا في السَّعي والطلب حتَّى إذا قدَّر الرَّحمن جمعهما ... للإتّفاق أتاك الرزق عن كثب وقال آخر: يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه قال بعض الحكماء: الحلال يقطر قطراً والحرام يسيل سيلا. قال الغزال: طالب الرِّزق الحلال لا يقر ... نهاره وليله على سفر في الحرِّ والبرد وأوقات المطر ... وماله في ذاك نزرٌ محتقر إنّ الحلال وحده لا يختمر ... أين ترى مالاً حلالاً قد ثمر ما إن رأينا صافياً منه كثر قال الناشئ: إذا المرء أحمى نفسه كلّ شهوةٍ ... لصحَّة أيّامٍ تبيد وتنفد فما باله لا يحتمي عن حرامها ... لصحّة ما يبقى له ويخلَّد وقال آخر: إنَّ الحرام غزيرةٌ حلباته ... ووجدت حالبة الحلال نزورا قال أكثم بن صيفي: من فاته الرزق فبالعاقبة ظفر. قال منصور الفقيه: أرزاقنا مقسومةٌ وهكذا آجالنا ... فما تحول بيننا وبينها أحوالنا وله أيضا: ما ضيّع الله خلقاً ... فأتَّقي أن أضيعا الله يرزق من لا ... يطيعه والمطيعا فاجعل سكوتك لله ... ونجواك جميعا وكلُّ بؤسي ونعمي ... سيفنيان سريعا وقال آخر: يا ربَّما جاءني مالا أؤمِّله ... وربَّما خاب مأمولٌ ومنتظر لو زاد في الرزق حرصٌ أو مطالبةٌ ... ما كان من قد يطيل الكدّ يفتقر ولأبي يعقوب إسحاق بن حسَّان الخريمي: أقلِّى عليّ الَّلوم يا أمَّ مالكٍ ... فلم يؤت من حرصٍ على المال طالبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فوالله ما قصَّرت في وجه مطلبٍ ... أرى أن فيه مطلباً فأطالبه ولكن لهذا الرزق وقتٌ موقَّتٌ ... يقسّمه بين البريَّة واهبه وأسهرني طول التَّفكر إنَّني ... عجبت لأمرٍ ما تقضَّى عجائبه أرى فاجراً يدعى جليداً لظلمه ... ولو كلِّف التَّقوى لكلَّت مضاربه وعّفاً يسمَّى عاجزاً لعفافه ... ولولا التُّقى ما أعجزته مذاهبه وأحمق مصنوعاً له في أموره ... يسوِّده إخوانه وأقاربه على غير حزمٍ في الأمور ولا تقىً ... ولا نائلٍ جزلٍ تعدّ مواهبه فليس لعجز المرء أخطأه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه ولكنَّه قبض الإله وبسطه ... فمن ذا يجاريه ومن ذا يغالبه أنشدني خلف بن قاسم، قال: أنشدنا محمد بن عبيد الله الصَّيدلانّي، قال: أنشدنا عليّ بن سليمان الأخفش: قد يرزق الخافض المقيم وما ... شدّ بعنسٍ رحلاً ولا قتبا ويحرم الرزق ذو المطية والرَّ ... حل ومن لا يزال مغتربا وقال محمود الوراق: قيامة من مات في موته ... وإخمال ما شاع من صوته ترى المرء يجزع من فوت ما ... لعلَّ السَّلامة في فوته ويفنى ولم تفن آماله ... وإعمال سوف إلى ليته وكم أزعج الحرص من راغب ... إلى الصِّين والرِّزق في بيته ولأبي الأسود الدؤلي أو المرزمي: وعجبت للدُّنيا وحرفة أهلها ... والرِّزق فيما بينهم مقسوم والأحمق المرزوق أعجب ما أرى ... من أهلها والعاجز المحزوم ثم انقضى عجبي لعلمي أنَّه ... رزقٌ موافٍ وقته معلوم وقال آخر: ليس بالعقل يطلب المرء رزقاً ... كم رأينا من أحمقٍ مرزوق وأصيل من الرجال نبيلٍ ... سدَّ عنه الحرمان كل طريق وقال آخر: الرّزق يأتي قدراً على مهل ... والمرء مطبوعٌ على حبّ العجل وقال آخر: يا راكب الهول والآفات والهلكة ... لا تعجلنَّ فليس الرِّزق بالحركة من غير ربَّك في السَّبع العلى ملكاً ... ومن أدار على أرجائها فلكه أما ترى البحر والصَّيَّاد تضربه ... أمواجه ونجوم الَّليل مشتبكة يجرّ أذياله والموج يلطمه ... وعقله بين عينه كلكل السَّمكة حتَّى إذا راح مسروراً بها فرحاً ... والحوت قد شكّ سفُّود الرَّدى حنكة أتى إليك به رزقاً بلا تعبٍ ... فصرت تملك منه مثل ما ملكه لطفاً من الله يعطي ذا بحيلته ... هذا يصيد وهذا يأكل السَّمكة وقال أبو العتاهية: طال همِّي بغير ما يعنيني ... وطلابي فوق الَّذي يكفيني ولو أني كففت لم أبغ رزقي ... كان رزقي هو الذي يبغيني أحمد الله ذا المعارج شكراً ... ما عليها إلاَّ ضعيف اليقين وقال آخر: لعمرك ما كلُّ التعطُّل ضائرٌ ... ولا كل شغلٍ فيه للمرء منفعه إذا كانت الأرزاق في القرب والنَّوى ... عليك سواءٌ فاغتنم لذَّة الدَّعه وإن ضقت فاصبر يكشف الله ما ترى ... فياربَّ ضيقٍ في جوانبه سعه وقال آخر: هوِّن عليك فإن الأمر مقدور ... وكلّ شيءٍ من الأشياء مسطور والرِّزق والخلق والآجال قد قسمت ... وأحكمتها وزمَّتها المقادير فليس يقدر مرءٌ صرف واحدةٍ ... منها ولو كثرت منه التَّدابير كم من رأيناه ذا مالٍ وذا سعةٍ ... وذا غضارة عيشٍ وهو محبور لا يعرف الله جهلاً خاطئاً حمقاً ... لولا غناه لعافته الخنازير لم يركب الهول في قفرٍ ولا لججٍ ... ولا تكلَّف أمراً فيه تغيير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لكن أتاه الغنى حتَّى أناخ به ... وما تقدَّم منه فيه تفكير وآخرٌ رجلٌ ناهيك من رجلٍ ... علاَّمةٌ بأمور النَّاس تحرير قد جال في الأرض حتَّى لم يدع أفقاً ... شرقاً وغرباً وما في ذاك تقصر وقد تكمَّلت الآداب واجتمعت ... فيه العلوم وما تحوي القماطير ولم تفته من الأشياء واحدةٌ ... يحظى بها رجلٌ إلاَّ الدَّنانير كان يقال: إذا لم يرزق الإنسان ببلدة فليتحوَّل إلى أخرى. قال ابن القاسم: سمعت مالكاً:يقول بلغني أنَّ عمر بن الخطاب قال: من كان له رزقٌ في شيء فليلزمه. قال وقال مالك: سمعت أهل مكَّة يقولون: ما من أهل بيت فيهم اسم محمَّدٍ إلا رزقوا ورزق خيراً. قال العكّي: يا ربّ فتيانٍ ذوي غربةٍ ... أبناء أسفارٍ مقلِّينا ما أدركوا في طول تطوافهم ... خفضاً من العيش ولا لينا وسهَّل الله بتوفيقه ... ما أمَّلوه للمقيمينا وإذا الأرزاق مقسومةٌ ... يقسمها الله فيعطينا ولسهل الورَّاق: أرى اثنين في الدنيا وشتَّان ما هما ... وما منهما إلاَّ عجيبٌ شؤونه أخو حركاتٍ في المكاسب معدمٍ ... على أنَّه فيها قليلٌ سكونه وآخر مثرٍ ذو سكونٍ كأنَّما ... على رزقه ذاك السُّكون يعينه ألا ربَّما يأسى اللبيب لما يرى ... ويكمد حتَّى تستهلّ جفونه كريمٌ جفاه دهره فهو ضائعٌ ... ولا ريب إلاَّ أنَّ دهراً يخونه ووغدٌ لئيم الطَّبع تحوي يمينه ... مكاسب ما خفت بهنَّ يمينه فذاك على إقتاره ذو تجمّل ... وذا مقرفٌ جعد البنان ضنينه إذا غاص في ذا مفكرٌ طاش عقله ... ولم يدر ما أسبابه وفنونه جدودٌ وفيها للمفكر عبرةٌ ... طويلٌ بها وسواسه وشجونه ولولا اعتصام المرء بالعلم إنه ... نجاةٌ لأهليه لساءت ظنونه وما كان ربِّي عزَّ ربَّيبجائرٍولكنَّه علم عجيبٌ يصونه شهدت بأن الله عدلٌ قضاؤه ... وإني بدين الموقنين أدنيه وقال آخر: وقد يحرم الله الفتى وهو عاقلٌ ... ويعطي الفتى مالاً وليس بذي عقل وذلك عدلٌ من حكومة ربِّنا ... يجود ويعطي وهو ذو النائل الجزل وقال آخر: لا تعذلي لم أقصِّر ويك في الطّلب ... أيّ البلاد وأيّ الأرض لم أجب هذا وفيّ خلالٌ كلُّها سببٌ ... إلى الغنى غير أن الرِّزق لم يجب والله أحمد في رزقي فما صرفت ... عنِّي المكاسب إلاَّ حرفة الأدب وقال الوليد بن عبيد البحتريّ: وآيسني علمي بألاّ تقدُّمي ... مفيدي ولا مزرٍ علىَّ تأخُّري ولو فاتني المقدور مما أرومه ... بسعيٍ لأدركت الذي لم يقدَّر باب الحرص والأمل الحرص على أكل الشجرة أخرج آدم من الجنة. كان يقال: شدة الحرص من سبل المتالف. وقال الأحنف: آفة الحرص الحرمان، ولا ينال الحريص إلاّحظّه. كان الحسن البصريّ يقول: ما بعد أملٌ إلاّ ملَّ عمل. كان يقال: من أطال الأمل أمات العمل. قال بعض الحكماء: الإنسان لا ينفكُّ من الأمل، فإن فاته الأمل قوي على المنى. قال: والأمل يقع بسبب، وباب المنى مفتوح لمن أراد الدخول فيه. من كلام الحكماء: الرزق مقسوم، والحريص محرومٌ، والحسود مغمومٌ، والبخيل مذموم. قال الخليل بن أحمد:؟ الحرص من شرّ أذاة الفتى لا خير في الحرص على حال من بات محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العمِّ والخال وقال غيره: الحرص مفسدة، والبخل مبغضة، والعجلة خطأ، والرفق يمن، والبذاء شؤم. وقال آخر: أيُّها الدَّائب الحريص المعنَّى ... لك رزقٌ وسوف تستوفيه فاسأل الله وحده ودع النّا ... س وأسخطهم بما يرضيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لا ينال الحريص شيئاً فيكفي ... هـ وإن كان فوق ما يكفيه وقال محمود الوراق: غنى النَّفس يغنيها إذا كنت قانعاً ... وليس بمغنيك الكثير مع الحرص وإن اعتقاد الهمِّ للخير جامعٌ ... وقلَّة همِّ المرء تدعو إلى النغص وقال أيضاً: لا تحمدنَّ أخا حرصٍ على سعةٍ ... وانظر إليه بعين الماقت القالي إنّ الحريص لمشغول بشوقته ... عن السُّرور بما يحوي من المال وقال محمود الوراق أيضاً: علام يشقى الحريص في طلب الرِّز ... ق بطول الرَّواح والدَّلج يا قارع الباب ربّ مجتهدٍ ... قد أدمن القرع ثم لم يلج وربّ مستولجٍ على مهلٍ ... لم يشق من قرعه ولم يهج فاطو على الهمِّ كشح مصطبرٍ ... فآخر الهمِّ أول الفرج وقال آخر: يا أيها النَّاس كان لي أملٌ ... أعجلني عن بلوغه الأجل فليتَّق الله ربَّه رجلٌ ... أمكنه في حياته العمل كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل: وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل وكان يتمثل أيضا: لا يغرَّنك عشاءٌ ساكنٌ ... قد يوافى بالمنيَّات السَّحر كان المأمون يعجبه قول أبي العتاهية: تعالى الله يا سلم بن عمرٍو ... أذلَّ الحرص أعناق الرِّجال أخذه أبو الفتح الملقب بكشاجم فقال: بالحرص في الرِّزق يذّل الفتى ... وفي القنوع الشَّرف الشَّامخ قال أبو عمر: وشعر أبي العتاهية الذي فيه هذا البيت الذي أعجب المأمون: نعى نفسي إليّ من الَّليالي ... تصرُّفهنَّ حالاً بعد حال فما لي لست مشغولاً بنفسي ... ومالي لا أخاف الموت مالي لقد أيقنت أنِّي غير باقٍ ... ولكنِّي أراني لا أبالي تعالى الله يا سلم بن عمرٍو ... أذلّ الحرص أعناق الرِّجال هب الدُّنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال فما ترجو بشيءٍ ليس يبقى ... وشيكاً ما تغيِّره الَّليالي قال: فلما بلغ سلماً الخاسر قول أبي العتاهية، قال: ماأقبح التَّزهيد من واعظٍ ... يزهِّد النَّاس ولا يزهد لو كان في تزهيده صادقاً ... أصحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الدنيا فما باله ... يكتنز المال ويسترفد يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا تنفد الرزق مقسومٌ على من ترى ... يسعى له الأبيض والأسود ولأبي العتاهية شعر في عروض شعره هذا وقافيته أوله: أتدري أيّ ذلٍّ في السُّؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرِّجال شعر حسن جيد في معناه قد ذكرته في باب القناعة من هذا الكتاب. قال زياد بن أبي سفيان: اثنان يتعجلان النَّصب ولا يظفران بالبغية: الحريص في حرصه، ومعلِّم البليد ينبو عنه فهمه. قال داود الطائي: يا ابن آدم ارتحلك الحرص فأنساك أجلك، ونصب لك أملك ورب حريص محروم، وواجد مذموم. قال مسلم بن قتيبة: في إفراط الحرص مذلّة قبل إدراك الطلبة. كانوا يقولون: أول دناءة الحرص، تأميل البخل. قال محمود الوراق:؟ أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدُّنيا كأنَّك لا تموت فهل لك غايةٌ إن صرت يوماً ... إليها قلت حسبي قد رضيت وقال آخر: الحرص داءٌ قد أضرَّ ... بمن ترى إلاَّ قليلا كم من عزيز قد رأي ... ت الحرص صيَّره ذليلا فتجنَّب الشَّهوات واح ... ذر أن تكون لها قتيلا فلربّ شهوة ساعةٍ ... قد أورثت حزناً طويلا وقال آخر: كم إلى كم انت للحر ... ص وللآمال عبد ليس يجدي الحرص والشُّغ ... ل إذا لم يك جدُّ ما لما قد قدّر الَّل ... هـ من الأمر مردّ وقال محمود الوراق: لا ينفع الجدّ والتَّشمير والحذر ... خطّ الكتاب فلا ورد ولا صدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تستعجل النَّفس آمالاً لتبلغها ... كأنَّها لا ترى ما يصنع القدر وقال آخر:؟؟ كلُّنا نأمل مداً في الأجل ... والمنايا هنَّ آفات الأمل وقال آخر: لقد غرَّت الدُّنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّل فساخط أمرٍ لا يبدَّل غيره ... وراضٍ بعيشٍ غيره سيبدَّل وبالغ أمرٍ كان يأمل غيره ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل وقال محمود الوراق: الحرص عونٌ للزّمان على الفتى ... والصَّبر نعم العون للأزمان لا تخضعنَّ فإنّ دهرك إن رأى ... منك الخضوع أمدَّه بهوان قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللّو، فإن الَّلوَّ يفتح عمل الشيطان ". ولأبي عبد الله الصُّوري: لمَّا رأيت النَّاس قد أصبحوا ... وهمَّة الإنسان ما يجمع قنعت بالقوت فنلت المنى ... والفاضل العاقل من يقنع ولم أنافس في طلاب الغنى ... علماً بأنَّ الحرص لا ينفع ولبكر بن حمَّاد: الناس حرصى على الدُّنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير في أبيات ذكرتها في باب " ذكر الدُّنيا " من هذا الكتاب. باب الطَّمع واليأس كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستعيذ بالله من طمعٍ في غير مطمع، ومن طمعٍ يقود إلى طبع. قال عمر بن الخطاب: ما شيء أذهب لعقول الرجال من الطمع. وفي حديث آخر أن عمراً وابن الزبير قالا لكعب: ما يذهب العلم من صدور الرجال بعد أن علموه؟ قال: الطمع، وطلب الحاجات إلى الناس. وقال كعب: الصَّفا الزَّلاَّل الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء: الطمع. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: في اليأس الغنى، وفي الطمع الفقر، وفي العزلة راحة من خلطاء السوء. قال عمرو بن عبيد: في المؤمن ثلاث خلال: يسمع الكلمة التي تؤذيه فيضرب عنها صفحاً كأن لم يسمعها، ويحبُّ للناس ما يحبُّ لنفسه، ويقطع أسباب الطمع من الخلق. قال أبو العتاهية: أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أنَّي قنعت لكنت حرّا ولإسحاق الموصلي: الُّلؤم والذُّلّ والضَّراعة والفا - قة في أصل أذن من طمعا قال ابن المبارك رضي الله عنه: ما الذلُّ إلاّ في الطمع. وقال غيره: ويح من غرّه الطمع، وتمادى به الولع. وقال أبو العتاهية: أذلَّ الحرص والطَّمع الرِّقابا وله أيضاً: إنّ المطامع ما علمت مذلَّةٌ ... للطّامعين وأين من لا يطمع وقال محمود الوراق: وما زلت أسمع أنَّ النُّفوس ... مصارعها بين أيدي الطَّمع وقال بعض الحكماء: قلوب الجَّهال تستعبد بالأطماع، وتسترقُّ بالمنى، وتنال بالخدائع. قال محمد بن أبي حازم: جعلت غنيمة الأطماع يأساً ... فآوتني إلى كنفٍ وديع فتلك مطَّية الإقبال غفلاً ... بلا رحلٍ يشدُّ ولا نسوع وقال آخر: اليأس عمَّا بأيدي الناس مكرمةٌ ... والرِّزق يصحب والأرزاق تتَّسع ؟ لا تجزعنَّ على ما فات مطلبه ها قد جزعت فماذا ينفع الجزع إنَّ السَّعادة يأسٌ إن ظفرت به ... بعض المراد وإنَّ الشَّقوة الطمع أتى رجلٌ إلى خالد بن عبد الله القسريّ، فقال: أتكلم بجرأة اليأس، أم بهيبة الأمل؟ قال بل بهيبة الأمل. فسأله حاجةً فقضاها. وقال الهمداني:؟ فلا الحرص يغنيني ولا اليأس ما نعى ... نصيبي من الشَّيء الَّذي أنا آمله وقال محمود الوراق: حدَّثت باليأس عنك النَّفس فانصرفت ... واليأس أحمد مرجوٍّ من الطَّمع فكن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ ... ألاَّ أعلِّل نفسي منك بالخدع محوت ذكرك من قلبي ومن أذني ... ومن لساني فصل إن شئت أو فدع إنَّ اَّلذي ببلاد الصِّين أقرب لي ... وساء منتجعاً لو رمت منتجعي إذا تباعد قلبي عنك منصرفاً ... فليس يدنيك منِّي أن تكون معي وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ولا تلبث الأطماع من ليس عنده ... من الدِّين شيءٌ أن تميل به النّفس كان بشر بن الحارث ينشد هذه الأبيات كثيراً متمثلاً بها: المرء يزرى بلبِّه طمعه ... والدَّهر فاعلم كثيرةٌ خدعه والنَّاس إخوان كلِّ ذي نشبٍ ... قد جاع عبدٌ إليهم ضرعه وكلُّ من كان مسلماً ورعاً ... يشغله عن عيوبهم ورعه كما المريض السَّقيم يشغله ... عن وجع النَّاس كلِّهم وجعه وقال آخر: الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسنٌ جميل أصبحت مسروراً معا ... فًى بين أنعمه أجول خلواً من الأخزان خفّ ... الظهر يغنبني القليل ونفيت باليأس المنى ... عنِّي فطاب لي المقيل والنَّاس كلهم لمن ... خفَّت مؤونته خليل باب ذمِّ السُّؤال وحمد ما جاء عن غير مسألة من النَّوال روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عمر بن الخطاب عطاءً، فقال عمر: يا رسول الله أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف إليه، ولا سائل له فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ". قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً ولا يردّ شيئاً أعطيه. قال ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تسألوا الناس " قال: فما سألت أحداً شيئاً بعدها، فكان سوطه يسقط من يده، فما يسأل أحداً أن يناوله إياه. ومن حديث مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطائه فردّه، فقال له: " لم رددته "؟ فقال: يا رسول الله! أليس أخبرتنا أن خيراً لأحدنا ألاّ يأخذ من أحد شيئاً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " إنما ذلك عن المسألة، فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك ". فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحداً شيئاً ولا يأتيني شيءٌ من غير مسألة إلا أخذته. قال أبو الدَّرداء: إنّ أحدكم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنَّ الله لا يخلق له ديناراً ولا درهماً، وإنما يرزق بعضكم من بعض، فإذا أعطي أحدكم شيئاً فليقبله، فإن كان غنياً فليضعه في أهل الحاجة من إخوانه، وإن كان إليه فقيراً فليستعن به على حاجته ولا يردّ على الله رزقه الذي رزقه. قال عبد الله بن عمر: ما يمنع أحدكم إذا أتاه الله برزق لم يسأله أن يقبله، فإن كان غنياً عاد به على أخيه، وإن كان محتاجاً كان رزقاً قسمه الله له. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم ". وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " للسائل خدوشٌ أو كدوحٌ يكدح بها الرّجل وجهه إلاّ أن يسأل ذا سلطان ". وروي عنه عليه السلام، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال " إذا دخل السّائل بغير إذنٍ فلا تطعموه ". وقال عليه السلام: " من كان لا بدّ سائلا فليسأل الصّالحين، أو ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بداً ". وقد أشبعنا هذا الباب وأوضحنا معانيه في كتاب " التمهيد " والحمد لله. رفع الواقديُّ - رحمه الله - إلى المأمون رقعة، فوقع فيها المأمون: إنك رجلٌ فيك خلّتان: سخاءٌ وحياءٌ، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي منعك من أن تطلعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بثلاثة آلاف درهم. فان كنا أصبنا إرادتك فذاك، وإن لم نكن فبجنايتك على نفسك، وأنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للزُّبير " يا زبير! إن مفاتيح الرزق، بإزاء العرش، ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثَّر كثِّر له، ومن قلَّل قلِّل له ". قال الواقديّ: فقلت له: يا أمير المؤمنين! قد نسيت هذا الحديث، فكان تذكارك إياي له أعجب إليّ من الجائزة. قال أبو العتاهية: إذا ما المرء صرت إلى سؤاله ... فما تعطيه أكثر من نواله ومن عرف المحامد جدّ فيها ... وحنَّ إلى المكارم باحتياله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ولم يستغل محمدةً بمالٍ ... ولو كانت تحيط بكلِّ ماله عيال الله أكرمهم عليه ... أبثُّهم المكارم في عياله وللفقيه أبي عمر بن عبد البر رضي الله عنه: تعفُّف المرء عن سؤاله ... وكسبه الحلّ باحتياله وسعيه في الصلاح عيشٍ ... لمن يواريه من عياله مروءةٌ وبالغٌ بها ... من يبلغها منتهى كماله ومن يصن وجهه يزنه ... صيانة الوجه من جماله رضي الفتى بالقضاء عزٌُّ ... وذلَّة الوجه في ابتذاله ولأبي دلف العجلي: بلوت مرارة الأشياء طرّاً ... فما شيءٌ أمرّ من السُّؤال ولم أر في الخطوب أشدّ هولاً ... وأصعب من معاداة الرِّجال وقال أعرابي: علام سؤال النَّاس والرِّزق واسع ... وأنت صحيحٌ لم تخنك الأصابع وفي العيش أوطارٌ وفي الأرض مذهبٌ ... عريضٌ وباب الرِّزق في الأرض واسع فكن طالباً للرِّزق من رازق الغنى ... وخلِّ سؤال النَّاس فالله صانع وحج هارون الرشيد، فأرسل إلى سفيان بن عيينة فأمره أن يحدث بنيه، فقال يا أمير المؤمنين قد سألني الناس فامتنعت عليهم، ولكني أجلس لبنيك وللناس، فقال: نعم. فلما جلس صاح به الناس: سألناك الجلوس لنا فأبيت علينا، فلما جاءك المال والجائزة جلست. فقال للمستملي: أنصتهم لي. فصاح المستملي: صه صه. فسكت الناس، فأخرج سفيان بن عيينة رأسه إليهم، وقال: حدثني الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما شيءٌ أحل وأطيب من ثلاثة:صداق الزوجة، والميراث، وما أتاك الله به من غير مسألة، فإنه رزق ساقه الله إليك ".والله ما جئت هذا الرجل ولا سألته شيئاً من ماله، ولو وجّه إليّ شطر ماله لقبلته، ثم أدخل رأسه ولم يحدثهم في ذلك الموسم بشيء. أشخص المنصور سواراً القاضي من البصرة إلى بغداد في شيء أراد أن يشافهه فيه، فمر بواسط، وفيها يحيى بن سعيد الأنصاري يتولى القضاء، فدلَّ عليه، فقال له: ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ قال: نعم يعفيني من القضاء. فقال سوار للمنصور إذ قدم عليه، وكلمه فيما أراد: يا أمير المؤمنين! الأنصار تعلم ما يجب في حقهم. قال: هيه. قال: يحيى بن سعيد تعفيه من القضاء. قال:قد أعفيته. فلما انحدر سوار مرّ بواسط، فقال ليحيى بن سعيد: قد أعفاك أمير المؤمنين. فقال: لا جزاك الله خيراً عن صبية من الأنصار كانوا يقتاتون هذه الست مائة درهم في كلّ شهر. كأنه أراد أن يعرّض ولا يحقّق. كان الحسن البصريّ رحمه الله يقول: لا يردّ جوائزهم إلاّ أحمق أو مراءٍ، وقد ذكرنا من رأى قبول جوائز السلطان من أئمة أهل العلم، ومن تورع عن ذلك منهم في كتاب " التمهيد " والحمد لله. قال مطرِّف بن الشِّخير: إذا كانت لأحدكم إليّ حاجة فليرفعها في رقعة ولا يواجهني بها، فإني أكره أن أرى في وجه أحدكم ذل المسألة. وقد روي عن يحيى بن خالد بن برمك مثل ذلك، وتمثل:؟ مااعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضاً ولو نال الغنى بسؤال وإذا السُّؤال مع النوال وزنته ... رجح السُّؤال وخفّ كلُّ نوال لبعض الكتاب إلى عبد الله بن طاهر: ولقد علمت وإن نصبت لي المنى ... أنّ الخصاصة لا تداوى بالمنى فلئن وفيت لأنهضنَّ بشكركم ... ولئن أبيت لأحملنَّ على القضا فأنجز له عبد الله بن طاهر عدته. قال الحسن بن عبيد البغدادي: صن الوجه الّذي إن لم تصنه ... بقيت وأنت في الدُّنيا ذليل وعش حراً ولا يحملك ضرٌ ... على مرعىً له غبٌّ وبيل فليس الرّأي إلاَّ الصَّبر حتّى ... يديل اليسر من عسرٍ مديل أليس لكلِّ آفلةٍ طلوعٌ ... بلى ولكل طالعةٍ أفول وكان أبان بن عثمان رحمه الله يتمثل: مالي تلادٌ ولا استطرفت من نشبٍ ... وما أؤمِّل غير الله من أحد إني لأكرم وجهي أن أوجِّهه ... عند السُّؤال لغير الواحد الصَّمد عزّ القناعة والإيمان يمنعني ... من التَّعرُّض للمنَّانة النَّكد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 رضيت بالله في يومي وفي غده ... والله أكرم مأمولٍ لبعد غد قال أبو العتاهية: أتدري أيَّ ذلٍّ في السُّؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرِّجال يعزُّ على التَّنزّه من رعاه ... ويستغني العفيف بغير مال إذا كان السُّؤال ببذل وجهي ... فلا قرِّبت من ذاك النَّوال معاذ الله من خلقٍ دنيٍّ ... يكون الفضل فيه عليَّ لالي وقال أيضاً: لو رأى النَّاس نبياً ... سائلاً ما رحموه ولأبي دلف أو لعبد الله بن طاهر: أعجلتنا فأتاك عاجل برِّنا ... قلاً ولو أمهلتنا لم يقلل وقال عبد الصمد بن المعذَّل في حين قدوم يحيى بن أكثم البصرة، قالت له امرأته لو أتيته فسألته،فقال: تكلِّفني إذلال نفسي لعزِّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما تقول: سل المعروف يحيى بن أكثمٍ ... فقلت سليه ربَّ يحيى بن أكثما وقال مسلم بن الوليد: أقول لمأفون البديهة طائر ... مع الحرص لم يغنم ولم يتموَّل سل الناس إنِّي سائل الله وحده ... وصائن عرضي عن فلانٍ وعن فل قال حبيب: وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي قال محمود الوراق: يا أيُّها الطَّالب من مثله ... رزقاً له جرت عن الحكمه لا تطلب الرِّزق إلى طالبٍ ... مثلك محتاجٍ إلى الرَّحمه وارغب إلى الله الذي لم يزل ... في يده النعمة والنِّقمه وقال يونس: إنّ الوقوف على الأبواب حرمان ... والعجز أن يرجو الإنسان إنسان حتى تأمل مخلوقاً وتقصده ... إن كان عندك بالرحمن إيمان عطاؤه لك إن أعطاكه ضعةٌ ... فكيف إن كان بعد المطل حرمان ثق بالذي هو يعطي ذا ويمنع ذا ... في كلِّ يومٍ له في خلقه شان قال محمود الوراق: إنَّ السُّؤال فعدَّ عنه قليلهثمنٌ لكلِّ عطيَّةٍ أو مال والحال تقعد بالكريم فما ترى ... فيه لعزِّته تغيُّر حال وقال أيضاً: شاد الملوك قصورهم وتحصَّنوا ... من كلِّ طالب حاجةٍ أو راغب غالوا بأبواب الحديد تمنعاً ... قد بالغوا في قبح وجه الحاجب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضَّراعة طالباً من طالب وقال النمر بن تولب: لا تغضبنَّ على امرئٍ في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب وقال عبيد بن الأبرص: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب وقال النمر بن تولب ومتى تصبك خصاصةٌ فارج الغنى ... وإلى الَّذي يهب الرَّغائب فارغب وقال أبو الأسود الدؤلي: وإنَّ أحقَّ النَّاس إن كنت مادحاً ... لمدحك من أعطاك والعرض وافر وقال سلم الخاسر: وفتى خلا من ماله ... ومن المرؤة غير خال أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السُّؤال قال قيس بن عاصم: إياكم والمسألة، فإنها آخر كسب الرجل. دخل أعرابيٌّ على داود بن مزيد المهلَّبي، فقال: إني لم أصن وجهي عن مسألتك، فصن وجهك عن ردِّي، وضعني من كرمك بحيث وضعتك من أملي فيك، قال: قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، وهي أكثر من قدرك. قال: والله لئن جاوزت قدري فما بلغت قدرك. قال أبو الفرج البيغاء: ما الذُّلّ إلاَّ تحمّل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن وقال آخر: أمن بيت الكلاب طلبت عظماً ... لقد حدَّثت نفسك بالمحال وقال آخر: لعن الله نائلاً ترتجيه ... من يدي من تريد أن تقتضيه أيّ فضلٍ لصاحب الفضل من بع ... د تقاضيه وابتذال الوجوه إنما الفضل والسَّماح لمن يع ... طيك عفواً وماء وجهك فيه أيُّها الدَّائب الحريص المعنَّى ... لك رزقٌ وسوف تستوفيه فسل الله وحده ودع النَّا ... س وأسخطهم بما يرضيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أن ترى معطياً لما منع الل ... هـ ولا مانعاً لما يعطيه وقال آخر: إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فخالل مثل حسان بن سعد فتىً لا يرزأ الإخوان شيئاً ... ويرزؤه الخليل بغير كدّ وقال آخر: ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني وقال أعرابي: إنَّ المسائل للرِّجال مذلَّةٌ ... تفنى منافعها ويخلد عارها وقال آخر: ... ويمسي ليس يملك درهما يبيت يراعي النَّجم من سوء حاله ... ويصبح ضاحكاً متبسِّما ولا يسأل المثرين ما في رحالهم ... ولو مات هزلاً عفَّةً وتكرُّما ولا يسألن من كان يسأل مرَّةً ... وإن كثرت أمواله وتدرهما وقال ربيعة الرَّقِّي: ولا تسأل الناس ما يملكون ... ولكن سل الله واستكفه ولا تخضعنَّ إلى سفلةٍ ... وإن كانت الأرض في كفِّه فإنَّ الَّلئيم وإن خلته ... كريماً يذودك عن عرفه ويرجع محصول أخلاقه ... إلى أصله وإلى صنفه وكل مقلٍّ وذي ثروةٍ ... فإنّ المنيَّة من خلفه وقال محمود الوراق: اسأل العرف إن سألت كريماً ... لم يزل يعرف الغنى واليسارا فقليل الشَّريف يكسب مجداً ... وكثير الوضيع يكسب عارا وإذا لم يكن من الذُّلِّ بدٌّ ... فالق بالذُّلِّ إن لقيت الكبارا ليس إجلالك الكبير بذلٍّ ... إنَّما الذُّلُّ أن تجلَّ الصِّغارا وقال أيضاً: يا أيها المتعب بزل الجمال ... وطالب الحاجات من ذي النَّوال لا تحسبنّ الموت موت البلى ... فإنَّما الموت سؤال الرِّجال كلاهما موتٌ ولكنّ ذا ... أشدُّ من ذاك لذلِّ السُّؤال وقال محمود بن الحسن النحاس الوراق: بخلت وليس البخل منِّي سجيَّةً ... ولكن رأيت الفقر شرَّ سبيل لموت الفتى خيرٌ من البخل للفتى ... وللبخل خيرٌ من سؤال بخيل فلا تسألن من كان يسأل مرَّةً ... فللموت خيرٌ من سؤال سؤل لعمرك ما شيءٌ لوجهك قيمةٌ ... فلا تلق إنساناً بوجه ذليل وقال ابن المعتز: يا ربَّ جودٍ جرّ فقر امرئٍ ... فقام للنَّاس مقام الذَّليل فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خيرٌ من سؤال البخيل وقال أعرابي لص: وإنِّي لأستحيى من الله أن أرى ... أطوف بحبلٍ ليس فيه بعير وأن أسأل المرء اللَّئيم بعيره ... وبعران ربِّي في البلاد كثير وفي التمهيد أبيات في هذا المعنى ذوات عدد حسان لم أذكرها ها هنا. باب انتظار الفرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انتظارالفرج بالصبر عبادة ". ويروى لأبي محجن الثقفي: عسى فرجٌ يأتي به الله إنَّه ... له كلَّ يومٍ في خليقته أمر عسى ما ترى ألاَّ يدوم وأن ترى ... له فرجاً ممَّا ألحّ به الدَّهر إذا اشتدَّ عسرٌ فارج يسراً فإنَّه ... قضى الله أنَّ العسر يتبعه اليسر وقال الأضبط بن قريع: لكلِّ ضيقٍ من الأمور سعه ... والمسى والصُّبح لا بقاء معه وقال آخر: كن عن همومك معرضاً ... وكل الأمور إلى القضا وابشر بخيرٍ عاجلٍ ... تنسى به ما قد مضى فلربَّ أمرٍ مسخطٍ ... لك في عواقبه الرِّضا كان يقال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو. قال الشاعر: كن لما لا ترجو من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راج إنَّ موسى مضى ليطلب ناراً ... من ضياء رآه والَّليل داج فأتى أهله وقد كلَّم الل ... هـ وناجاه وهو خير مناج وكذا الأمر كلَّما ضاق بالنَّا ... س أتى الله فيه ساعةً بالانفراج وقال منصور الفقيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 " وما عسرٌ لمنتظر الفرج " وقال بشار: خليليّ إنَّ الصَّبر سوف يفيق ... وإنّ يساراً في غدٍ لخليق وما خاب بين الله والنَّاس عاملٌ ... له في التُّقى أو في المحامد سوق ولا ضاق فضل الله عن متعفِّفٍ ... ولكنّ أخلاق الرِّجال تضيق وقال آخر: روِّح فؤادك بالرِّضا ... ترجع إلى روحٍ رطيب لا تيأسنّ وإن ألحّ ... الدَّهر من فرجٍ قريب وقال آخر: لعمرك ما كلُّ التَّعطل ضائرٌ ... ولا كلُّ مسعىً فيه للمرء منفعه إذا كانت الأرزاق في القرب والنَّوى ... عليك سواءً فاغتنم لذَّة الدَّعه وإن ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا ربّ ضيقٍ في عواقبه سعه وقال آخر: ربَّما خير لامرئٍ ... وهو للأمر كاره ربَّ خيرٍ أتاك من ... حيث تأتي المكاره وقال أحمد بن محمود، وقيل إنها لأحمد بن صالح: إذا اشتملت على النَّاس الخطوب ... وضاق لما به الصَّدر الرَّحيب وأوطنت المكاره واطمأنَّت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانفراج الضِّيق وجهاً ... وقد أعيى بحيلته الأريب أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ ... يمنّ به الَّلطيف المستجيب وكلُّ الحادثات إذا تناهت ... فموصولٌ بها الفرج القريب ومولانا الإله فخير مولى ... له إحسانه ولنا الذُّنوب وقال الشاعر: لعمرك ما يدري الفتى كيف يتَّقي ... نوائب هذا الدَّهر أم كيف يحذر يرى الشَّيء ممَّا يتَّقي فيخافه ... وما لا يرى ممَّا يقي الله أكبر وقال منصور الفقيه: إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت لهنَّ تذوب المهج وحلّ البلاء وقلّ الوفا ... فعند التَّناهي يكون الفرج وقال آخر: واصبر على الدَّهر إن أصبحت منغمراً ... بالضِّيق في لججٍ تهوى إلى لجج فما تجرَّع كأس الصَّبر معتصمٌ ... بالله إلاَّ أتاه الله بالفرج لا تيأسن إذا ما ضقت من فرجٍ ... يأتي به الله في الرَّوحات والدُّلج وإن تضايق بابٌ عنك مرتتجٌ ... فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج قال أبو العتاهية في نفيع حاجب موسى الهادي: ما ترى عند نفيعٍ منفعه ... فسل الرَّحمن رزقاً في دعه إن يكن أمسك عنَّا نيله ... فسيغني الله كلاً من سعه وقال أبو العتاهية: النَّاس في الدِّين والدُّنيا ذوو درجٍ ... والمال ما بين موقوفٍ ومختلج من صاق عنك فأرض الله واسعةٌ ... في كلّ وجه مضيقٍ وجه منفرج قد يدرك الرَّاقد الهادي برقدته ... وقد يخيب أبو الرَّوحات والدُّلج خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه من الفرج وقال آخر: سأصبر للزَّمان وإن رماني ... بأحداثٍ تضيق بها الصُّدور وأعلم أنَّ بعد العسر يسراً ... يدور به القضاء المستدير ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه، وقيل إنها لسهل الوراق، والله أعلم: سيفتح بابٌ إذا سدّ باب ... نعم وتهون الأمور الصِّعاب ويتَّسع الحال من بعد ما ... تضيق المذاهب فيها الرِّحاب مع الهمّ يسران هوّن عليك ... فلا الهمّ يجدي ولا الإكتئاب فكم ضقت ذرعاً بما هبته ... فلم ير من ذاك قدرٌ يهاب وكم بردٍ خفته من سحابٍ ... فعوفيت وانجاب عنك السّحاب ورزقٌ أتاك ولم تأته ... ولا أرّق العين منه الطِّلاب وناءٍ عن الأهل ذي غربةٍ ... أتيح له بعد يأسٍ إياب وناجٍ من البحر من بعد ما ... علاه من الموج طامٍ عباب إذا احتجب النَّاس عن سائلٍ ... فما دون سائل ربِّي حجاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 يعود بفضلٍ على من رجاه ... وراجيه في كلِّ حين يجاب فلا تأس يوماً على فائتٍ ... وعندك منه رضاً واحتساب فلا بدّ من كون ما خطّ في ... كتابك تحبى به أو تصاب فمن حائلٌ دون ما في الكتاب ... ومن مرسلٌ ما أباه الكتاب في أبيات قد ذكرتها في موضعها من هذا الكتاب. وقال محمد بن يسير: إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصَّبر يفتق منها كلَّ ما ارتتجا لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبةٌ ... إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا أخلق بذي الصَّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وقال محمد بن حازم الباهلي: هوِّن عليك فكلّ الأمر ينقطع ... وخلّ عنك عنان الهمّ يندفع فكلُّ همٍّ له من بعده فرجٌ ... وكل أمرٍ إذا ما ضاق يتِّسع إنَّ البلاء وإن طال الزَّمان به ... فالموت يقطعه أو سوف ينقطع وقال آخر: رأيت الأمر يبعد بعد قربٍ ... ويدنو الأمر بالقدر المسوق فلا تفرح بأمرٍ إن تدانى ... ولا تيأس من الأمر السَّحيق وقال ابن المبارك: ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم تقدر وقال آخر: إن يكن يومي تولّى سعده ... وتداعى لي بنحسٍ ونكد فلعلّ الله يقضي فرجاً ... في غدٍ من عنده أو بعد غد وقال آخر: أحسن الظَّنّ بمن قد عوّدك ... حسناً أمس وسوَّى أودك إنّ رباً كان يكفيك الَّذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك قال العبسي: خرجت حاجاً فضاق صدري، فجعلت أقول: أرى الموت لمن أمسى ... على الذُّلِّ له أصلح فإذا هاتف من ورائي يقول: يا أيُّها المرء الَّذي ... يرى الهمّ به برَّح إذا ضاق بك الصَّدر ... ففكِّر في ألم نشرح وقال آخر: رأيت العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كلِّ قيل فلا تجزع وقد أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في دهرٍ طويل ولا تظنن بربِّك ظنّ سوءٍ ... فإنّ الله يأتي بالجميل ذكر الطحاوي قال: حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: حدثنا أبو النصر أحمد بن حاتم، قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: استعمل الحجّاج أبي علي بعض أعماله فنقم عليه فتوارى أبي عنه في بادية قومه وأنا معه، فبينا أنا في سحر من الأسحار إذ مرّ راكب وهو يقول: صبِّر الَّنفس عند كلّ ملمٍّ ... إنّ في الصَّبر حيلة المحتال لا تضق في الأمور ذرعاً فقد ... يكشف غمَّاؤها بغير احتيال ربَّما تجزع الُّنفوس من الأم ... ر له فرجةٌ كحلّ العقال قال: فقلت: ما ذاك؟ قال: مات الحجاج. فوالله ما أدري بأيهما كنت أشد فرحا، أبقوله مات الحجاج أم بقوله:فرجة. قال العطوي: مستشعر الصّبر مقرونٌ به الفرج ... يبلى ويصبر والأشياء تنتهج حتَّى إذا بلغت مقدور غايتها ... جاءتك تضحك عن ظلمائها السُّرج فاصبر ودم واقرع الباب الَّذي طلعت ... منه المطامع فالمغرى به يلج يقدِّر الله فارج الله وارض به ... ففي إرادته الغمَّاء تنفرج وقال هلال بن العلاء الرَّقّي: هوِّن عليك مصائر الدُّ ... نيا تكن سبلاً فجاجا لا تضجرنَّ بضيقةٍ ... يوماً فإنَّ لها انفراجا وقال آخر: كلوا اليوم من رزق الإله وأبشروا ... فإنّ على الرحمن رزقكم غدا وقال منصور الفقيه: يامن يخاف أن يكو ... ن ما يخاف سرمدا أما سمعت قولهم ... إنّ مع اليوم غدا وقال أبو العتاهية: هي الأيَّام والغير ... وأمر الله منتظر أتيأس أن ترى فرجاً ... فأين الله والقدر باب الجدِّ والحدّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجدِّ منه الجدّ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قال أكثم بن صيفي: جدُّك لا كدُّك. قال أشجع السُّلمي: سبق القضاء بكلِّ ما هو كائنٌ ... فليجهد المتقلِّب المحتال قالوا: أسعد الناس: من كان القضاء له مساعداً، وكان لذلك أهلا، وأشقى الناس: من كان مشغولاً بلا دين ولا دنيا، ولم يثق بأحد لسوء ظنه، ولا وثق به أحدٌ لسوء فعله. قال أبو الأسود الدُّؤلي: المرء يحمد سعيه من جدِّه ... حتَّى يزيَّن بالَّذي لم يعمل وترى الشَّقيَّ إذا تكامل حدُّه ... يرمي ويقذف بالَّذي لم يفعل أنشد ابن الأعرابي: الجدُّ أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدٍّ في الحوادث أو ذر فلقد يجد المرء وهو مقصرٌ ... ويجدُّ ثم يحدُّ غير مقصِّر وقال يزيد بن محمَّد المهلَّبيّ: وإذ جددت فكلّ شيءٍ نافعٌ ... وإذا حددت فكلُّ شيءٍ ضائر وإذا أتاك مهلَّبيٌ في الوغى ... والسَّيف في يده فنعم النَّاصر قال أبو يعقوب الخزيمي، وإسمه إسحاق بن حسَّان: لا تنظرنّ إلى عقلٍ ولا أدب ... إن الجدود قرينات الحماقات وقال خراش بن زهير: وكانت قريشٌ يفلق الصَّخر جدُّها ... إذا أوهن النَّاس الجدود العواثر وقال الحارث بن حلِّزة: عش بخيرٍ لا يضر ... ك النَّوك ما لاقيت جدَّا والنَّوك خيرٌ في ظلا ... ل الرّزق ممَّن عاش كدَّا وقال آخر: فعش في ظلّ أنوك حالفته ... مقاديرٌ يساعدها الصَّواب ذهاب المال في حمدٍ وأجرٍ ... ذهابٌ لا يقال له ذهاب قيل لزياد: ما الحظّ؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسره فهو ذو حظ. وكان يقال لا حظّ إلا ما أشخص عنك ما تكره، وجلب إليك ما تحب. قال محمد بن أبي حازم الباهلي: لا تعجبنّ لأحمقٍ ... نال الغنى من غير كدِّه ولعاقلٍ ما يستقلّ ... فكُّلهم يسعى بجدِّه وقال امرؤ القيس: وقاهم جدَّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ: وما لبّ الَّلبيب بغير حظٍّ ... بأغنى في المعيشة من فتيل رأيت الحظّ يستر عيب قومٍ ... وهيهات الحظوظ من العقول ولحسان أو لابنه عبد الرحمن: وإنَّ امرءاً يمسي ويصبح سالماً ... من النَّاس إلاَّ ما جنى لسعيد وقال أعرابيّ: وإنّ الَّذي ينجو من النَّار بعدما ... تزوَّد من أعمالها لسعيد ولبعض أهل عصرنا: أرى همم المرء ما لم يكن ... يساعده السَّعد همَّاً عليه وقد يعجز المرء ذو الإحتيال ... إذا الله لم يقض رزقاً إليه وقال صالح بن عبد القدوس: وليس رزق الفتى من حسن حيلته ... لكن جدودٌ بأرزاقٍ وأقسام كالصَّيد يحرمه الرَّامي المجيد وقد ... يرمي فيرزقه من ليس بالرَّامي ولرجل من بني قريع أو للمعلوط، وقيل: إنها لحاتم الطائي: متى مايرالنَّاس الغنيَّ وجاره ... فقيرٌ يقولوا عاجزٌ وبليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسِّمت وجدود وكائن رأينا من غنىٍّ مذمَّمٍ ... وصعلوك قومٍ باد وهو حميد ومعطى ثراء المال من غير قوَّةٍ ... ومحروم جمع المال وهو جليد ٍوقال حبيب الطائي: أبا جعفر ٍإنّ الجهالة أمُّها ... ولودٌ وأمّ العلم جذَّاء حائل وله أيضاً: فإنِّي ما حورفت في طلب الغنى ... ولكنَّكم حورفتم في المكارم احتاج أبو الأسود الدؤلي إلى جار له يستقرض منه، وكان حسن الظَّنِّ به، فاعتلَّ عليه ودفعه، فقال أبو الأسود: فلا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكلّ قريبٍ لا ينال بعيد وفوِّض إلى الله الأمور فإنَّما ... تروح بأرزاقٍ عليك جدود ولا تشعرنَّ النَّفس يأساً فإنَّما ... يعيش بجدٍّ عاجزٌ وبليد وفي نحو هذا لبعض أهل عصرنا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تجشَّم جسيم الهول في طلب المجد ... فنيل الغنى بين التَّجشُّم والكدِّ ودع قول ذي جهلٍ يرى العجز راحةً ... ذر الكدّ فيما رمته المنع بالجدِّ وقال آخر: تطلَّبت حتَّى لم أجد متطلَّباً ... وبالجدِّ يسعى المرء لا بالتَّطلُّب كتب كسرى إلى بزرجمهر وهو في الحبس: جنت لك ثمرة العلم أن صرت به أهلا للقتل. فكتب إليه بزرجمهر: أما ما كان معي الجد فقد كنت أنتفع بثمرة العلم، والآن إذ ولّى عني الجدّ، فقد أنتفع بثمرة الصبر. قال سابق البربري: والنَّاس في طلب المعاش وإنَّما ... بالجدِّ يرزق منهم من يرزق ولو أنَّهم رزقوا على أقدارهم ... ألفيت أكثر ما ترى يتصدَّق ما النَّاس إلاَّ عاملان فعاملٌ ... قد مات من عطشٍ وآخر يغرق وقال البحتري: ألا ليت المقادر لم تقدَّر ... ولم تكن الأحاظي والجدود فتعلم أيُّنا يغدو ويمسي ... له هذي المواكب والعبيد وقال حبيب الطائي: ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدى الفتى في دهره وهو عالم وقال ابن دريد: لا ينفع العلم بلا جدٍّ ولا ... يحبطك الجهل إذا الجدُّ علا وقال الحسين بن أحمد: بالجدِّ أجدى على امرئٍ طلبه ... ومن يطل حرصه يطل تعبه وقال آخر: عش بجدٍّ وكن هبنَّقة القي ... ي نوكاً أو شيبة بن الوليد عش بجدٍّ ولا يضرك نوكٌ ... إنما عيش من ترى بالجدود هبنقة القيسي اسمه يزيد بن ثروان، وكنيته أبو نافع، أحد بني قيس بن ثعلبة، وهو الذي شرد له بعير فجعل لمن جاء به بعيرين، فقيل له: لم هذا؟ قال: فأين فرحة الوجدان؟ وأنشدني محمد بن نصر الكاتب رحمه الله لنفسه: لا تشرهنّ إلى دنيا تملكها ... قومٌ كثيرٌ بلا عقلٍ ولا أدب ولا تقل إنَّني أبصرت ما جهلوا ... من الإرادة في مرٍّ ومنقلب فبالجدود هم نالوا الَّذي ملكوا ... لا بالعقول ولا بالعلم والحسب وأيسر الجدُّ نحوي كلَّ ممتنعٍ ... على التَّمكُّن عند البغي والطَّلب وإن تأمَّلت أحوال الَّذين مضوا ... رأيت من ذا وهذا أعجب العجب وقال إبراهيم بن المهدي: قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرِّزق من لم يؤت من تعب مع أنَّني واجدٌ في النَّاس واحدةً ... الرِّزق أروغ شيءٍ عن ذوي الأدب وخلَّةٍ قلّ فيها من يخالفني ... الرِّزق والنَّوك مقرونان في سبب يا ثابت العقل كم عانيت ذا حمقٍ ... الرِّزق أولى به من لازم الجرب وقال آخر: ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً فيه لي شوم إن المقدم في حذف بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم وقال آخر: كفى حزناً أنَّ الغنى متعذِّرٌ ... عليَّ وأنِّي بالمكارم مغرم فوالله ما قصَّرت في نيل غايةٍ ... ولكنَّني أسعى إليها فأحرم وقال آخر: ليس عن حيلة الرِّجال أصابوا ال ... مال بل قسمةٌ لهم وجدود منهم العاجز المرجَّى له الرِّ ... زق ومنهم محارفٌ مجدود قال بشار بن برد: ما ضر أهل النَّوك ضعف الكدِّ ... صادف حظاً من سعي بجدِّ وقال البحتري: وآيسني علمي بألاَّ تقدُّمي ... مفيدي ولا مزرٍ على تأخُّري ولو فاتني المقدور ممَّا أرومه ... بسعيٍ لأدركت الَّذي لم يقدَّر وقال الصابي: إذا جمعت بين امرأين صناعةٌ ... وأحببت أن تدري الَّذي هو أحذق فلا تتأمَّل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرَّق فحيث يكون النَّوك فالرِّزق واسعٌ ... وحيث يكون الحذق فالرِّزق ضيِّق باب المال حمداً وذمّاً قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " قلب الشَّيخ شابٌ في حب اثنتين: طول الحياة وكثرة المال ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " نعم المال الصَّالح للرجل الصالح ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدِّينار والدِّرهم أهلكا من كان قبلكم وإنهما مهلكاكم ". وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " لكلّ أمةٍ فتنة، وفتنة أمتي المال ". وقال أيضاً: " إنَّ أحساب أهل الدُّنيا التي إليها ينتمون: المال ". وقال عليه السلام: " ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم بأفسد لها من حب المال، والسَّرف لدين المؤمن ". قال قيس بن عاصم لبنيه حين حضرته الوفاة: يا بني عليكم بالمال واصطناعه، فإنه منبهةٌ للكريم، ويستغنى به عن اللئيم. قال الحسن البصري: لكل أمة وثن يعبدونه، وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم. وقال الحسن: إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل ماله، فانظر فيم أنفقه، فإن الخبيث ينفق في السرف. قال أبو ذرّ أموال الناس تشبه الناس، وعن أبي ذر أيضا: إنما مالك لك، أو للوارث أو للجائحة، فلا تكن أعجز الثلاثة. قال أكثم بن صيفي: من ضعف عن كسبه اتكل على زاد غيره. قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يكسب المال ليكفَّ به وجهه، ويؤدِّي به أمانته، ويصل به رحمه. قالوا للمسيح: يا روح الله أخبرنا عن المال، فقال المال لا يخلو صاحبه من ثلاث خلال: إما أن يكسبه من غير حله، وإما أن يمنعه حقه، وإما أن يشغله إصلاحه عن عبادة ربه. قال الحطيئة:؟ ولست أرى السَّعادة جمع مالٍ ولكنَّ التَّقيَّ هو السَّعيد وأنشد ابن الأعرابي:؟ المال يغشى رجالاً لا طباخ لهم ... كالسَّيل يغشى أصول الدِّندن البالي وهذا البيت في شعر لعمار الكلبي أوله: قف بالعوير على أبلاء أطلال ... كأنَّها حللٌ أو خطُّ تمثال الفقر يزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وربَّما ساد جبس القوم بالمال وفيه يقول: أصون عرضي بمالي لا أدنِّسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال إن أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال الجبس: اللئيم. وقوله: لا طباخ لهم: أي لا قوة ولا طاقة، قاله الخليل. وقال فضالة بن زيد العدواني:؟ وماالعيش إلاَّ المال فاحمد فضوله ولا تهلكنه في الضَّلال فتندم إذا جلّ خطبٌ صلت بالمال حيثما ... توجَّهت من أرضٍ فصيح وأعجم وهابك أقوامٌ وإن لم تصبهم ... بنفعٍ ومن يستغن يحمد ويكرم ويعطي الذي يبغي وإن كان باخلاً ... بما في يديه من متاعٍ ودرهم وقال لبيد: وماالبرُّ إلاَّ مضمراتٌ من التُّقى ... وما المال إلاَّ مضمرات ودائع وقال حاتم الطائي: لعمرك ما يغني الثَّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصَّدر أماويّ إنَّ المال غادٍ ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذِّكر وقال الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعفُّ من القنوع وقال المتلمس: لحفظ المال أيسر من بغاه ... وضربك في البلاد بغير زاد قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وقال آخر: واطلب المال بحرصٍ ... واسرع المشي إليه كلُّ من كان غنيَّاً ... سلَّم الناس عليه وإذا كان فقيراً ... فقد البرُّ لديه وثياب المرء أعوانٌ ... له بين يديه وقال آخر: إذا قلَّ مال المرء قلَّ صفاؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدَّامه خيرٌ له أم وراؤه إذا قلَّ مال المرء لم يرض عقله ... بنوه ولم يغضب له أولياؤه فإن مات لم يفقد ولم يحزنوا له ... وإن عاش لم يسرر صديقاً بقاؤه وقال أبو اليقظان: ما ساد في الجاهلية مملق إلا عتبة بن ربيعة. وقال محمد بن مناذر: رضينا قسمة الجبَّار فينا ... لنا حسبٌ وللثَّقفيِّ مال وقال المعلوط: وماسوَّد المال الدَّنيء ولا دنا ... لذاك ولكنَّ الكريم يسود وقال عروة بن الورد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومن يك مثلي ذا عيالٍ ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كلَّ مطرح ليبلغ عذراً أو يصيب غنيمةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح هذان البيتان أنشدهما ابن قتيبة لأوس بن حجر، وخالفه حبيب وغيره فأنشدهما لعروة. وقال عروة بن الورد: إذاالمرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصَّديق فأكثرا وصار على الأذنين كلاً وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا وقال منصور الفقيه: إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... وهي نعله أو باع في السُّوق خفَّه ولم يك مأموناً على مال جاره ... إذا ما رآه خالياً أن يلفَّه وقال الفرزدق:؟ والمال بعد ذهاب المال يكتسب قال إبراهيم النخعي: إنما أهلك الناس فضول الكلام وفضول المال. ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي الفقيه: أعاذل عاجل ما أشتهي ... أحبُّ إليَّ من الرَّائث سأحبس مالي على حاجتي ... وأوثر نفسي على الوارث وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... ويقصر دون مبلغهنَّ مالي فنفسي لا تطاوعني لبخلٍ ... ومالي لا يبلِّغني فعالي وقال أعرابي: إذا ما الفتى لم يبلغ إلاَّ لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد يذكِّرني صرف الزَّمان ولم أكن ... لأهرب ممَّا ليس منه محيد فلو كنت ذا مالٍ لقرِّب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت رشيد فذرني أجوِّل في البلاد لعلَّه ... يسرُّ صديقٌ أو يساء حسود وقال آخر:؟ أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك وقال قيس بن عاصم: سأودع مالي الحمد والأجر كلَّه ... فلا أجر في الدُّنيا ولا الحمد دائم فرحت بما قدَّمت منه وإنَّني ... على حسن ما أخَّرت منه لنادم كان يقال: شر مالك ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه. قال الشاعر: ذهاب المال في حمدٍ وأجرٍ ... ذهابٌ لايقال له ذهاب وقال آخر: وحفظك مالاً قد عنيت بجمعه ... أشدُّ من المال الَّذي أنت طالبه قال جعفر من محمد رحمهما الله: من نقله الله من ذل المعصية إلى عز الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس، وأعزّه بلا عشيرة. قال محمود الوراق: هاك الدّليل لمن أرا ... د غنىً يدوم بغير مال وأراد عزَّاً لم توطِّ ... ده العشائر بالقتال ومهابةً من غير سل ... لطانٍ وجاهاً في الرِّجال فليعتصم دخوله ... في عزِّ طاعة ذي الجلال وخروجه من ذلَّة ال ... معاصي له في كلِّ حال وقال النمر بن تولب: خاطر بنفسك كي تصيب رغيبةً ... إنَّ الجلوس مع النِّساء قبيح فالمال فيه تجلَّةٌ ومهابةٌ ... والفقر فيه مذلَّةٌ وفضوح وقال آخر: ويزري بعقل المرء قلَّة ماله ... تحمقِّه الأقوام وهو لبيب وقال حسان بن ثابت الأنصاري: ربّ حلمٍ أضاعه عدم الما ... ل وجهلٍ غطَّى عليه النَّعيم وقال الخريمي وهو أبو يعقوب: العيش لا عيش إلاَّ ما قنعت به ... قد يكثر المال والإنسان مفتقر وقال أمية بن أبي الصَّلت: إذا اكتسب المال الفتى من وجوهه ... وأحسن تدبيراً له حين يجمع وميَّز في إنفاقه ما بين مصلحٍ ... معيشته فيما يضرّ وينفع وأرضى به أهل الحقوق ولم يضع ... به الذُّخر زاداً لَّلتي هي أنفع فذاك الفتى لا جامع المال ذاخراً ... لأولاد سوءٍ حيث جاءوا وأرضعوا وقال كثير: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة نعمى أو خليلٌ توامقه بخلت وبعض البخل حزمٌ وقوَّةٌ ... فلم يفتلتك المال إلاَّ حقائقه وقال محمود الوراق: ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للنَّذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ولم أر عزَّاً لامرئٍ كعشيرةٍ ... ولم أر ذلاً نأيٍ عن الأهل ولم أر من عدمٍ أضَّر على الفتى ... إذا عاش بين النَّاس من عدم العقل وقال آخر: الفقر يزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وقد يسوِّد غير السَّيِّد المال وقال محمود الوراق: أرى دهرنا فيه عجائب جمَّةٌ ... إذا استعرضت بالعقل ضلَّ لها العقل أرى كلَّ ذي مالٍ يسود بماله ... وإن كان لا أصلٌ هناك ولا فصل وآخر منسوباً إلى الرَّأي خاملاً ... وأنوك مخبولاً له الجاه والنُّبل وما الفضل في هذا الزمان لأهله ... ولكنَّ ذا المال الكثير له الفضل فشرِّف ذوي الأموال حيث لقيتهم ... فقولهم قولٌ وفعلهم فعل ومما ينسب إلى محمود، وأظنها لغيره وهو أبو عبد الرحمن العطوي: دع الرِّياء لمن لجّ الرِّياء به ... في الأمر بالبذل واذكر ذلَّة العدم ومت على الدِّرهم المنقوش موت فتىً ... رأى الممات عليه أكرم الكرم وعدِّ عن ذا وعن هذا وقولهم ... الذكر يبقى وتفنى لذَّة النِّعم لولا غناك لكنت الكلب عندهم ... فإن أبيت فجرِّب واشق بالنَّدم وقال أبو العتاهية: والنَّاس حيث يكون المال والجاه باب جامع القول في الغنى والفقر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: " ارض بما قسم الله لك تكن أغنى النَّاس، واعمل بما افترض الله عليك تكن أعبد النَّاس، واجتنب ما حرَّم الله عليك تكن أورع النّاس ". وقال عليه السلام: " ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النَّفس ". وفي الحديث المرفوع: " الفقر أزين للمؤمن من الغدار، وعلى خدِّ الفرس ". وقد أتينا معنى الفقروالغنى، والمقدار المحمود في ذلك عند العلماء بدلائل السنن، وأقاويل السلف، بما فيه كفايةٌ وتبصرة وشفاءٌ لما في الصدور في موضعه من كتاب " بيان العلم " والحمد لله. قال أوس بن حارثة: خير الغنى القناعة، وشرُّ الفقر الضَّراعة. قال فضيل بن عياض: إنما الفقر والغنى بعد العرض على الله. أنشدنا الرياشي: ما شقوة المرء بالإقتار تقتره ... ولا سعادته يوماً بإكثار إنَّ الشَّقيَّ الذي في النَّار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النَّار قال جعفر بن محمد: العز والغنى يجولان في الأرض، فإذا أصابا موضعاً يدخله التَّوكُّل أوطناه. كان يقال: الشكر زينة الغنى، والعفاف زينة الفقر. وقالوا: حقُّ الله واجب في الغنى والفقر، ففي الغنى العطف والشكر، وفي الفقر العفاف والصبر. كان يقال: سوء حمل الغنى يورث مقتاً، وسوء حمل الفاقة يضع شرفاً. كان يقال: الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى. أنشدنا الرياشي: وبينا الفتى في الفقر إذ صار في الغنى ... وبينا الفتى في البؤس إذ صار في الخفض كذاك صروف الدَّهر تلعب بالفتى ... فنبرم أحياناً وتسرع في النَّقض وقال آخر: قد أنطقت الدَّراهم بعد عيٍّ ... أناساً طالما كانوا سكوتا فما عادوا على جارٍ بخيرٍ ... ولا رفعوا لمكرمةٍ بيوتاً كذاك المال ينطق كلَّ عيٍّ ... ويترك كلَّ ذي حسبٍ صموتا وقال آخر: نطقت مذ استفدت المال حتَّى ... كأنَّك عالمٌ ذلق اللِّسان وشجَّعك الَّذي قد كان قدماً ... يسمِّيك الجبان ابن الجبان وقال محمود الوراق: الفقر في النَّفس وفيها الغنى ... وفي غنى النَّفس الغنى الأكبر وقال حماد الراوية: أفضل بيت من الشعر قيل في الأمثال: يقولون يستغني ووالله ما الغنى ... من المال إلاَّ ما يعفُّ وما يكفي ولمحمود الوراق أيضاً: صاحب اليسر يرقب العسر والمع ... سر في دهره يراقب يسرا ليس خلقٌ له على الله حقٌ ... إنَّما حقُّه على النَّاس طرَّا لا يحابي الغنيَّ فيما أتاه ... لا ولا يظلم الذي مات فقرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يمنع الله عبده نظراً من ... هـ ويسنى له العطيَّة مكرا ليس من بخله ينقِّص ذا الفق ... ر ولم يعط ذا الغنى المال قسرا قال عبد الله بن الأهتم: من ولد في الفقر أبطره الغنى. كان يقال: خصلتان مذمومتان: الاستطالة مع السّخاء والبطر مع الغناء. كان يقال: لا تدع على ولدك بالموت، فإنَّه يورث الفقر. قال أعرابيٌ من باهلة: سأعمل نصّ العيس حتَّى يكفَّني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدثان فللموت خيرٌ من الحياةٍ يرى لها ... على الحرِّ بالإقلال وسم هوان كأنَّ الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسانٍ ناطقٌ بلسان وقال يحيى بن حكم الغزال، وتروى لغيره ابن المعتز، أو غيره: إذا كنت ذا ئروةٍ من غنًى ... فأنت المسوَّد في العالم وحسبك من نسب صورةٌ ... تخبِّر أنَّك من آدم وللغزال أيضاً: إنِّى حلبت الدَّهرأصناف الدِّرر ... فمرَّةً حلوٌ وأحياناً مقر وعلقماً حيناً وأحياناً صبر ... وجلُّ ما يسقيكه الدَّهر كدر فلم أجد شيئاً من الفقر أمرّ ... ألا ترى أكثر من فيها يفرّ مخافة الفقر إلى نارٍ سقر وقال آخر: لعمرك إنَّ القبر خيرٌ من الفقر ... لمن كان ذا يسرٍ وعاد إلى عسر ولعروة بن الورد: دعيني للغنى أسمى فإنِّي ... رأيت النَّاس شرُّهم الفقير وأحقرهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له كرمٌ وخير يباعده الخليل وتزدريه ... حليلته وينهره الصَّغير وتلقي ذا الغنى وله جلالٌ ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليلٌ عيبه والعيب جمٌ ... ولكن للغنى ربٌّ غفور وقال آخر: رأيت النَّاس لمَّا قلَّ مالي ... وأكثرت الغرامة ودَّعوني فلمَّا أن غنيت وثاب وفرىإذا هم لا أب لك راجعني وقالوا: بقدر ما يعطى الغنىُّ من الإيسار، يعطى من الإجلال، وبقدر ما ينزل بالفقير من فقر يذهب بهاؤه وتتضع منزلته، حتى يتهمه من كان يأمنه، ويسيء به الظن من كان يثق به. ومحاسن الغني مساوىء الفقير، إذا كان جواداً قالوا: مبذر، وإن كان لسناً قالوا: مهذار، وإن كان شجاعاً، قالوا: أهوج، وإن كان حليماً صموتاً، قالوا: عيّ بليد، وكل شيء هو للغنىّ مدح هو للفقير ذم. قال الشاعر: لعمرك إنَّ المال قد يجعل الفتى ... سنيَّاً وإنَّ الفقر بلمرء قد يزري فما رفع النَّفس الدَّنيئة كالغنى ... ولا وضع النَّفٍس الكريمة كالفقر وقال حبيب: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسَّيل حربٌ للمكان العالي وللمغيرة بن حبناء: وماالفقر يزري بالرَّجال ولا الغنى ... ولكن قلوب القوم للقوم تقدح وقال امرؤ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدَّرب دونه ... وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنَّما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا وقال أبو العتاهية: أجلَّك قومٌ حين صرت إلى الغنى ... فكلُّ غنيٍّ في العيون جليل إذا مالت الدُّنيا إلى المرء رغَّبت ... إليه ومال النَّاس حيث يميل وليس الغنى إلاَّغنىً زيَّن الفتى ... عشيَّة يقرى أو غداة ينيل وقال الصَّلتان العبديّ: إذا قلت يوماً لمن قد ترى ... أروني السّرىَّ أورك الغنى وقال ابن سعدان: تقنَّع بما يكفيك والتمس الرِّضا ... فإنَّك لا تدري أتصبح أم تمسي فليس الغنى عن كثرة المال إنَّما ... يكون الغنى والفقر من قبل الَّنفس وقال بكر بن أذينة: كم من فقيرٍ غني النَّفس نعرفه ... ومن غنيٍّ فقير النَّفس مسكين وقال محمود الوراق: لبست صروف الدَّهر كهلاً وناشئاً ... وجرَّبت حالي على العسر واليسر فلم أر بعد الدِّين خيراً من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر ولمحمود الوراق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ياعائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحَّ منك النَّظر أنَّك تعصي كي تنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر وفي رواية أخرى: أنَّك تعصي الله ترجو الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر وقال آخر: ولا تعدني الفقر ياأمّ مالكٍ ... فإنَّ الغنى للمنفقين قريب وهذا مأخوذ والله أعلم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " يقول الله ياابن آدم أنفق أنفق عليك ". وقال بعض الحكماء في ذم الغنى: طالب الغنى طويل العناء، دائم النَّصب، كثير التعب، قليل منه حظُّه، خسيس منه نصيبه، شديد من الأيام حذره، ثم هو بين سلطان يرعاه، ويفغر عليه فاه، وبين حقوق تجب عليه، يضعف عن منعها، وبين أكفاء وأعداء ينالونه ويحسدونه ويبغون عليه، وأولاد يمُّلونه ويودون موته، ونوائب تعتريه وتحزنه. وقال بشر بن المعتمر المتكلم: وإذاالجهول رأيته مستغنياً ... أعيا الطَّبيب وحيلة المحتال وقال الخليل بن أحمد: ماأسمج النُّسك بسأل ... وأقبح البخل بذي المال من كان محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العمِّ والخال ماوقع الإنسان في ورطةٍ ... أزرى به من رقَّة الحال قيل لبعض الحكماء: مابالنا نجد من يطلب المال من العلماء أكثر ممن يطلب العلم من ذوي الأموال؟ قال: لمعرفة العلماء بمنافع المال، وجهل ذوي الأموال بمنافع العلم. قال الشاعر: ألم تر أنَّ الفقر يزرى بأهله ... وإنَّ الغنى فيه العلا والتَّجمُّل قال أحيحة بن الجلاح: استغن عن كلِّ ذي قربى وذي رحمٍ ... إنَّ الغنىَّ من استغنى عن النَّاس والبس عدوَّك في رفقٍ وفي دعةٍ ... لباس ذي إربة للدَّهر لبَّاس باب الدَّين قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله مقبلا غير مدبر، أيكفّر الله عنّي خطاياي؟ قال: " نعم. إلاّالدَّين، بذلك أخبرني جبريل ". وعنه عليه السلام أنه قال: " صاحب الدَّين محبوسٌ عن الجنة بدينه ". وقال عليه السلام - " بعد أن فتح الله عليه وأفاء الله على المسلمين " -: " من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً فعليّ ". كان يقال: لا همّ إلاّهمّ الدَّين، ولا وجع إلاّوجع العين. وقد روى هذا القول عن النبي صلّى الله عليه وسلم من وجه ضعيف. قال عمر بن الخطاب: إياكم والدَّين، فإنّ أوله همٌّ وآخره حرب. قال جعفر بن محمد: المستدين تاجر الله في الأرض. قال عمر بن عبد العزيز: الدَّين وقرٌ طالما حمله الكرام. قال عمرو بن العاص: من كثر صديقه كثر دينه. قيل لمحمد بن المنكدر: أتحجُّ وعليك الدين؟ قال: الحج أقضى للدين. يريد الدعاء فيه والله أعلم. كان يقال: الدَّين رقّ، فلينظر أحدكم أين يضع رقّه. كان يقال: الأذلة أربعة: النَّمَّام، والكذّاب، والفقير، والمديان. كان يقال: حرّيّة المسلم كرامته، وذلُّه دينه، وعذابه سوء خلقه. كان الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب الشاعر يعامل الناس بالعينة، فإذا حلت دراهمه ركب حماراً يقال له شارب الريح، فيقف على غرمائه فيقول: بنو عمِّنا أدُّوا الدَّراهم إنَّما ... يفرِّق بين النَّاس حبُّ الدَّراهم وقال آخر: فما شأن ديني إذ يحلُّ عليكم ... أرى النَّاس يقضون الدُّيون ولا يقضى لقد كان ذاك الدَّين نقداً وبعضه ... لمرضٍ فما أدَّيت نقداً ولا عرضا ولكنَّما هذا الَّذي كان منكم ... أمانيّ ما لاقت سماءً ولا أرضا فلو كنت تنوين القضاء لديننا ... لأنسأت لي بعضاً وعجَّلت لي بعضا قال أبو عثمان المازني: سمعت معاذ بن معاذ، وبشر بن المفضل ينشدان هذين البيتين لمجنون عامر: طمعت بليلى أن تريع وإنَّما ... تقطِّع أعناق الرِّجال المطامع وداينت ليلى في خلاءٍ ولم يكن ... شهودٌ على ليلى عدولٌ مقانع وقال آخر أنشده ابن الزبير: ألا ليت النَّهار يعود ليلاً ... فإنَّ الصُّبح يأتي بالهموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حوائج ما نطيق لها قضاءً ... ولادفعاً وروعات الغريم كان يقال: الدَّين همٌّ بالليل وذل بالنهار، وإذا أراد الله أن يذل عبده جعل في عنقه ديناً. وقال آخر: إنَّ القضاء سيأتي دونه زمنٌ ... فاطو الصَّحيفة واحفظها من الفار قال كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة: قضى كلُّ ذي دينٍ فوفىَّ غريمه ... وعزَّةٌ ممطولٌ معنىً غريمها أنشدنا الصولي لسليمان بن وهب متمثلا: من النَّاس إنسانان ديني عليهما ... مليَّان لو شاءا لقد قضياني خليليّ أمَّا أمُّ عمرو فمنهما ... وأمَّا عن الأخرى فلا تسلاني باب الاقتصاد والرفق قال الله عزّ وجلّ: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " وقال: " والَّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ". فهذا أدب الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " ماعال من اقتصد ". كان يقال: ثلاثٌ من حقائق الإيمان: الاقتصاد في الإنفاق، والإنصاف من نفسك، والابتداء بالسلام. كتب بعض الصالحين إلى بعض إخوانه: كل مارده العقل، وناله الفضل فجميلٌ حسن. قال عبد الله بن عباس الهدي الصّالح، والسَّمت الحسن، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " إن الله يحبُّ الرفق في الأمر كله ". قال عليه السلام: " ما كان أرفق قط في شيءٍ إلاّزانه، ومن حرم الرفق حرم الخير ". وقال صلى الله عليه وسلّم: " ماأراد الله بأهل بيت خيراً إلا أدخل عليهم الرفق ولا أراد بهم شرَّاً إلاّ أدخل عليهم الخرق ". قال عمر بن الخطاب: لا يقل مع الإصلاح شيء، ولا يبقى مع الفساد شيء. قال المتلمِّس: وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرفق يمن، والخرق شؤم ". سئل بعض العلماء عن السكينة، فقال: هي السكون عما الحركة فيه، والعجلة لا يحمدها الله ولا يرضاها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأناة من الله، والعجلة من الشيطان ". لسهل بن هارون في يحيى بن خالد: عدوُّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوعٌ إذا ما منعه كان أحزما وقال آخر: عليك بأوساط الأمور فإنَّها ... نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعبا وقال آخر: لا تذهبنَّ في الأمور فرطا ... لا تسألنَّ إن سألت شططا وكن من النَّاس جميعاً وسطا قال أعرابي للحسن: ياأباسعيد؟؟ علمني ديناً وسوطاً لا ذاهباً فروطاً، ولا ساقطاً سقوطاً. قال له الحسن: أحسنت، خير الأمور أوسطها. قال محمود الوراق: إنِّي رأيت الصَّبر خير معوَّلٍ ... في النَّائبات لمن أراد معوَّلا ورأيت أسباب القنوع منوطةً ... بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا فإذا نبا بي منزلٌ لا يرتضي ... جاوزته واخترت عنه منزلا وإذا غلا شيءٌ عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا لبعض المتأخرين من البخلاء يوصي ابنه: إذا ما كنت في بلدٍ غريباً ... وخفت من أن تبوء بغير مال فلا تبسط يديك وكل قليلاً ... يفوتك كلُّ يومٍ في اعتدال وذبَّ عن الدَّراهم كلَّ حينٍ ... وكثِّرها وقلِّل في العيال وقل في كل شيءٍ تشتهيه ... من الأشياء هذا الشَّيء غال فترك المال للأعداء خيرٌ ... لربِّ المال من ذلِّ السُّؤال روينا عن نصر بن علي الجهضمي، قال: دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأطنب، فقلت: ياأميرالمؤمنين أنشدني الأصمعي في الرفق. فقال هاته يا نصر، فقلت: لم أر مثل الرِّفق في لينه ... أخرج للعذراء من خدرها من يستعن بالرِّفق في أمره ... قد يخرج الحيَّة من جحرها قال سابق: إنَّ التَّرفُّق للمقيم موافقٌ ... وإذا يسافر فالتَّرفُّق أوفق لو سار ألف مدجَّجٍ في حاجةٍ ... لم يلقها إلاَّالَّذي يترفَّق باب السَّفر والاغتراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السفر قطعةٌ من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجِّل الرجوع إلى أهله ". وزاد بعضهم في هذا الحديث " السفر قطعة من العذاب، فاقطعوه بالدُّلجة ". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تلقَّوا الحاجَّ ولا تشّيعوهم. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: " سافروا تصحّوا وتغنموا ". وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " مامات ميت بأرض غربةٍ إلا قيس له من مسقط رأسه إلى منقطع أثره في الجنة ". ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، قال: " موت الغريب شهادة ". ومن حديث أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: " من مات غريباً مات شهيداً ". وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فأينما وجدت الخير فأقم واتق الله ". وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - ومنهم من يرفعه - قال: من سعادة المرء أن تكون زوجته موافقة، وأولاده أبراراً، وإخوانه صالحين، ورزقه في بلده الذي فيه أهله. مكتوبٌ في التوراة: ابن آدم؟ أحدث سفراً أحدث لك رزقاً. قالت العرب: من أجدب انتجع. قيل لأعرابيّ أين منزلك؟ قال: بحيث ينزل الغيث. من أمثال العامة: البركات مع الحركات. وقالوا: ربما أسفر السَّفر عن الظَّفر. قال البحتري:؟؟ وإذا الزَّمان كساك حلَّة معدمٍ فالبس لها حلل النَّوى وتغرَّب وقال زهير: ومن يغترب يحسب عدوَّاً صديقه ... ومن لا يكرِّم نفسه لا يكرَّم وقال الأعشى: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجرّاً ومسحبا وتدفن منه الصَّالحات وإن يسيء ... يكن ماأساء النَّار في رأس كبكبا وقال آخر: إنَّ الغريب بأرضٍ لا عشير بها ... كبائع الرِّيح لا يعطى به ثمنا وقال سابق: لا ألفينَّك ثاوياً في غربةٍ ... إنَّ الغريب بكلِّ سهمٍ يرشق وقال آخر: فلم أرعزَّ المرء إلاَّ عشيرةً ... ولم أر ذلاً مثل نأيٍ عن الأهل وقال آخر: إنِّي الغريب فما ألام على البكا ... إنَّ البكا حسنٌ بكلِّ غريب وقال آخر: يجازى بالَّذي تجد القلوب ... ويأنس بابن بلدته الغريب وصادفني غريبٌ فالتقينا ... وكلُّ مساعدٍ فهو القريب وقال آخر: تغرَّبت عن أهلي أؤمِّل ثروةً ... فلم أعط آمالي وطال التَّغرُّب فما للفتى المحتال في الرِّزق حيلةٌ ... ولا لجدودٍ جدَّها الله مذهب وقال كعب بن زهير: فقرِّي في بلادك إنَّ قوماً ... متى يدعوا بلادهم يهونوا وقال آخر: ليس ارتحالك تزداد الغنى سفراً ... بل المقام على خسفٍ هو السَّفر قالوا: ترك الوطن أحد اليسارين. قال الشاعر: وماالموت إلاَّرحلةٌ غير أنَّها ... من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي وقال آخر: لقرب الدَّار في الإقتار خيرٌ ... من العيش الموسَّع في اغتراب وقال آخر: ومهمةٍ فيها السَّراب يسبح ... يدأب فيه القوم حين يصبح كأنَّما ثووا بحيث أصبحوا ... الَّليل أخفى والنَّهار أفضح قالوا: إذا كنت في غير بلدك، فلا تنس نصيبك من الذل. وأنشدوا: إنَّ الغريب له استكانة مذنبٍ ... وخضوع مديانٍ وذلٌ مريب وقال آخر: إذا كنت في قومٍ عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيِّبٍ وقال آخر: إنّ الغريب وإن أقام ببلدةٍ ... يهدى إليه خراجها لغريب وقال آخر: غريبٌ يقاسي الهمَّ في أرض غربةٍ ... فياربِّ قرِّب دار كلِّ غريب قالوا: الغريب كغرس ذابل ماتت أرضه، ونفد شربه. قال النمر بن تولب: إذا كنت في سعدٍ وأمُّك منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعد فإنّ ابن أخت القوم مصغىً إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلد قالت العرب: ليس بينك وبين بلاد نسب، خير البلاد ما حملك. وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ليس الفتى بفتىً لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار وقال آخر: سل الله الإياب من المغيب ... فكم قد ردَّ مثلك من غريب سلِّ الهمَّ عنك بحسن ظنٍ ... ولا تيأس من الفرج القريب قال بعض العقلاء: أعرف بيتاً قد بيّت أكثر من مائة ألف رجل في المساجد، وفي غير أوطانهم، وهو: فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تمش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا قال خالد بن صفوان: في السفر ثلاثة معان: الأول الغرم، الثاني القدرة، والثالث الرحيل. كان يقال: فقد الأحبة غربة. قال الشاعر: إذا مامضى القرن الَّذي أنت فيهم ... وخلِّفت في قرنٍ فأنت غريب وقال لبيد بن ربيعة: لعمرك مايدريك إلاَّ تظنِّياً ... إذا رحل السُّفار من هو راجع لعمرك ماتدري الطَّوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطَّير ما الله صانع وقال علي بن الجهم: يارحمتا للغريب في البلدالنَّا ... زح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا يقول في نأيه وغربته ... عدلٌ من الله كلُّ ما صنعا أراد أعرابي السفر فقال لامرأته - وقيل إنه الحطيئة -: عدِّي الِّسنين لغيبتي وتصبَّري ... وذري الشُّهور فإنَّهنَّ قصار فأجابته: اذكر صبابتنا إليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنَّهنَّ صغار فأقام وترك سفره. قال امرؤ القيس: وقد طوَّفت في الآفاق حتَّى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: طربت إلى الأصيبية الصِّغار ... وهاجك منهم قرب المزار وكلُّ مسافرٍ يزداد شوقاً ... إذا دنت الدِّيار من الدِّيار وقال جرير: ولما التقى الحيَّان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصببت مقاتله وقال آخر: سررت بجعفرٍ والقرب منه ... كما سرَّ المسافر بالإياب وكنت بقربه إذ حلَّ أرضى ... أميراً بالسَّكينة والصَّواب كممطورٍ ببلدته فأضحى ... غنيّاً عن مطالبة السَّحاب وقال آخر، وحكى صاحب البيان أنه لمضرَّس الأسدي: مقلٌ رأى الإفلال عاراً فلم يزل ... يجوب بلاد الله حتَّى تموَّلا إذا جاب أرضاً أو ظلاماً رمت به ... مهامه أخرى عيسه متقلقلا ولم يثنه عمَّا أراد مهابةٌ ... ولكن مضى قدماً وما كان مبسلا فلمَّا أفاد المال جاد بفضله ... لمن جاءه يرجو نداه مؤمِّلا وقال آخر، وهو الأحمر بن سالم المزني: فألقت عصاها واستقرّ بها النَّوى ... كماقرَّعيناً بالإياب المسافر وقال آخر: إذا نحن أبنا سالمين بأنفسٍ ... كرامٍ رجت أمراً فخاب رجاؤها فأنفسنا خير الغنيمة إنَّها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها وقال آخر: رجعنا سالمين كما بدأنا ... وما خابت غنيمة سالمينا وماتدرين أيُّ الأمر خيرٌ ... أما تهوين أم ما تكرهينا قال عوف بن محلِّم: عادلت عبد الله بن طاهر إلى خراسان، فدخلنا الرُّيّ في السحر فإذا قمرية تغرد على فنن شجرة، فقال عبد الله: أحسن والله أبو كبير في قوله: ألاياحمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك ميَّادٌ ففيم تنوح ثم قال: يا عوف أجزها. فقلت: شيخ كبير، وحملت على البديهة، وهي معارضة أبي كبير، ثم انفتح لي شيء، فقلت: أفي كلِّ عامٍ غربةٌ ونزوح ... أما للنَّوى من ونيةٍ فتريح لقد طلح البين المشتُّ ركائبي ... فهل أرينَّ البين وهو طليح وأرَّقني بالرَّيِّ نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشَّجو القريح ينوح على أنَّها ناحت ولم تذر عبرةً ... ونحت وأسراب الدُّموع سفوح وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح وذكر تمام الخبر. كان يقال: من لم يرزق ببلدة فليتحوّل إلى أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فحيث وجد أحدكم رزقه، فليتق الله وليقم ". قال عبد الله بن أبي الشّيص: أظنُّ الدَّهر قد آلا فبرَّا ... بألاَّ يكسب الأموال حرَّاً لقد قعد الزَّمان بكلِّ حرٍّ ... ونقّض من قواه المستمرَّا كأنَّ صفائح الأحرار أردت ... أباه فحارب الأحرار طرَّا فأصبح كلُّ ذي شرفٍ ركوباً ... لأعناق الدُّجى برَّاً وبحرا فهتَّك جيب درع الَّليل عنه ... إذا ما جيب درع الَّليل زرَّا يراقب للغنى وجهاً ضحوكاً ... ووجها للمنيَّة مكفهرَّا فيكسب من أقاصي الأرض كسباً ... يحلُّ به المحلَّ المشمخرَّا ومن جعل الظَّلام له قعوداً ... أضاء له الدُّجى خيراً وشرَّا وقال آخر: لا تصحبنَّ رفيقاً لست تأمنه ... شرُّ الرَّفيق رفيقٌ غير مأمون أنشد نفطويه: خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزةٍ ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذور إن لم تنل في مقامٍ ماتطالبه ... فأبل عذراً بادلاجٍ وتهجير لن يبلغ المرء بالإحجام همَّته ... حتَّى يباشرها منه بتغيير قالت بنت الأعشى: أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منَّا الرّحم إذا غبت عنَّا وخلَّفتنا ... فإنَّا سواءٌ ومن قد يتم وقال آخر: وقالت وعيناها تفيضان عبرةً ... أيا أملي خبِّر متى أنت راجع فقلت لها تالله يدري مسافرٌ ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع وقال آخر: حتَّى متى أنا في حلٍّ وترحال ... وطول سعىٍ وإدبارٍ وإقبال ونازح الدَّار لا أنفكُّ مغترباً ... عن الأحبَّة لا يدرون ما حالي بمشرق الأرض طوراً ثمَّ مغربها ... لايخطر الموت من حرصي على بالي ولو قنعت أتاني الرِّزق في دعةٍ ... إنَّ القنوع الغنى لا كثرة المال أنشد الأصمعي لحاجب الفيل اليشكري: لمَّا رأت بنتي بأنِّي مزمعٌ ... بترحُّلٍ من أرضها فمودِّع ورأت ركابي قرِّبت لرحالها ... قالت وغرب العين منها يدمع أبتا أتتركنا وتذهب تائهاً ... في الأرض تخفضك البلاد وترفع فيضيع صبيتك الّذين تركتهم ... بمضيمةٍ في المصر لم يترعرعوا فيهم صغيرٌ ليس ينفع نفسه ... وصغيرةٌ تبكي وطفلٌ يرضع إنَّا سنرضى ما أقمت بعيشنا ... ماكان من شيءٍ نجوع ونشبع والله يرزقنا فنرضى رزقه ... وكفى بحسن معيشة من يقنع إنَّا إذا ما غبت عنَّا لم نجد ... ممَّا تخلَّف عندنا ما ينفع تجفو موالينا ويعرض جارنا ... وقريبنا الأدنى يعزُّ ويقطع ونخاف أن تلقاك وشك منيّةٍ ... فيصيبنا الأمر الجليل المفظع فنصير بعدك ليس يرفع بيتنا ... ويذلُّنا أعداؤنا ونضيَّع هذا الرَّحيل وأمرنا ماقد ترى ... فمتى تؤوب إلى الصِّغار وترجع فخنقت من قول الصِّغار بعبرةٍ ... كاد الفؤاد لقولهم يتصدَّع وأجبتها صبراً بنيَّة واعلمي ... أن ليس يعدو يومه من يجزع وقال الغزال: وكم ظاعنٍ قد ظنَّ أن ليس آيباً ... فآب وأودى حاضرون كثير وإنَّ الَّذي أعظمته من تغرُّبيعليَّ وإن أعظمت ذاك يسير رأيت المنايا يدرك العصم عدوها ... فينزلها والطَّير منه تطير وعلِّي أمضي ثمَّ أرجع سالماً ... ويهلك بعدي آمنون حضور جعلت أرجِّيها إيابي ومن غدا ... على مثل حالي لا يكاد يحور وكيف أبالي والزَّمان قد انقضى ... وعظمي مهيضٌ والمكان شطير وإنِّي وإن أظهرت منِّي تجلُّداً ... لذو كبدٍ حرَّي عليك حسير وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يقيم الرِّجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النَّوى بالمقترين المراميا فأكرم أخاك الدَّهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقةً وتنائيا وقال الراجز: إنَّ فراخاً كفراخ الأوكر ... بأرض بغداد وراء الأجسر تركتهم كبيرهم كالأصغر ... عجزاً عن الحيلة والتَّشمر ذكرى لديهم مثل طعم السُّكَّر ... ووجدهم بي مثل وجد الأعور بعينه إذ ذهبت لم يبصر التشمر: الاكتساب، شمرت لأهلي: أي اكتسبت لهم، وتشَّمر الشجر إذا أورق. قال أبو الفتح البستيّ: لئن تنقَّلت من دارٍ إلى دارٍ ... وصرت بعد ثواءٍ رهن أسفار فالحرُّ حرٌ عزيز النَّفس حيث ثوى ... والشَّمس في كلِّ برج ذات أنوار وقال غيره: كفى حزناً أنِّي مقيمٌ ببلدةٍ ... وأنت بأخرى ما إليك سبيل خرج الشافعي الفقيه رضي الله عنه في بعض أسفاره، فضمَّه الليل إلى مسجدٍ، فبات فيه، وإذا في المسجد قوم عوامّ يتحدثون بضروب من الخنا وهجر المنطق، فتمثل: وأنزلني طول النَّوى دار غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرءاً لا أشاكله قال شريك: كان يقال: إن أنجى النَّاس من البلايا والفتن، من انتقل من بلدٍ إلى بلد. قيل لبعضهم:أيُّ سفرٍ أطول؟ فقال: من كان في طلب صاحبٍ يرضاه، أودرهم حلالٍ يكسبه. قال حاتم الطَّائي: إذا لزم النَّاس البيوت وجدتهم ... عماةً عن الأخبار خرق المكاسب قال محمد بن أبي حازم الباهلي: كم المقام وكم تعتافك العلل ... ما ضاقت الأرض في الدُّنيا ولا السُّبل فارحل فإنّ بلاد الله ما خلقت ... إلا ليسلك منها السَّهل والجبل إن ضاق لي بلدٌ يّممت لي بلداً ... وإن نبا منزلٌ بي، كان لي بدل وإن تغيَّر لي عن ودِّه رجلٌ ... أصفى المودَّة لي من بعده رجل لم يقطع الله لي من صاحب أملا ... إلاّ تجدَّد لي من صاحبٍ أمل الله قد عوَّد الحسنى فما برحت ... منه لنا نعمٌ تترى وتتَّصل يمسي ويصبح بي عمرٌ أدافعه ... برزق ربِّي حتى ينفد الأجل وقال بعض المتأخرين من المغاربة، وتنسب إلى المتنبي، ولا تصح له: رأيت المقام على الإقتصاد ... قنوعاً به ذلَّةً للعباد وعجزٌ بذي أدبٍ أن يضيق ... به عيشه وسع هذي البلاد وماغرب الرِّزق عن رائدٍ ... ولا سيما حسن الإرتياد إذا ما الأديب ارتضى بالخمول ... فلاحظَّ في الأدب المستفاد وفي الإضطراب وفي الإغتراب ... منال المنى وبلوغ المراد وشرُّ الضَّراغم ضرغامةٌ ... طوى شبله وهو في الغيل هاد وإن صارمٌ قرَّ في غمده ... حوى غيره الفضل يوم الجلاد ولو يستوي بالنُّهوض القعود ... لما ذكر الله فضل الجهاد إذا النَّار ضاق بها زندها ... ففسحتها في فراق الزِّناد فدع موطناً واغد مسترزقاً ... كذا الرِّزق غادٍ إلى كلِّ غاد ولا تفن عمرك خوف الفراق ... لبيضٍ ملاح وسمرٍ خراد يطلن البكا عند شحط النَّوى ... ويأسين كلَّ الأسى في البعاد فكم ترحةٍ من أسى فرقةٍ ... تعود سروراً بحسن المعاد إلى كم تحمَّل ضيق المعاش ... وتصبر والصَّبر صعب القياد على حالةٍ فوتها خيرها ... وضيق المعيشة سقم الفؤاد بلا حاسدٍ لي ولا حامدٍ ... قليلة خيرٍ كماء الثِّماد فلا شرَّ منِّي يخاف العدو ... ولا خير يرجوه أهل الوداد جب الأرض شرقاً وجب غربها ... إلى كلِّ فجٍ عميقٍ وواد عساك تنال الغنى أو تموت ... وعذرك في ذاك للنَّاس باد فإن يكن الفقر حتماً عليك ... فكابده في غير ناديك ناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فللموت أهون من أن تراك ... بعين الخساسة عين الأعادي فإن لم تنل مطلباً رمته ... فليس عليك سوى الإجتهاد وقال آخر:؟ مامن غريبٍ وإن أبدى تجلُّده ... إلاَّ سيذكر بعد الغربة الوطنا وقال عبيد بن الأبرص: وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب باب التحول عن مواطن الذل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " قالوا: يا رسول الله وكيف يذل نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء لما لا يطيق ". قال أوس بن حجر: ؟ أقيم بدار الحزم ما دام حزمها ... وأحر إذا حالت بأن أتحوَّلا وقال المتلمّس:؟؟؟ إنَّ الهوان حمار البيت يألفه ... والحرُّ ينكره والفيل والأسد ؟ ولا يقيم بدار الذُّلِّ يألفها إلاَّ الذَّ ليلان عير الحيِّ والوتد هذا على الخسف مربوطٌ برمَّته ... وذا يشجُّ فما يأوي له أحد وقال مالك بن الرَّيب: فإن تنصفونا آل مروان نقترب ... إليكم وإلاَّفأذنوا ببعاد ففي الأرض عن دار المذلَّة مذهبٌ ... وكلُّ بلادٍ أوطنت كبلادي وقال المغيرة بن حبناء: ومثلى إذا ما الدَّار يوماً نبت به ... تحوَّل عنها واستمرَّت مرائره ولا أنزل الدَّار المقيم بها الأذى ... ولا أرأم الشّيء الَّذي أنا قادره إذا أنت لم ترغب بدارٍ نزلتها ... فبعها بدار أو بجارٍ تجاوره أنشد أبو عبيد عن الأصمعي:؟ إذا كنت في دارٍ يهينك أهلها ... ولم تك مكبولاً بها فتحوَّل وقال الزبير بن عبد المطلب:؟ ولا أقيم بدارٍ لا أشدُّ بها ... صوتي إذا ما اعترتني سورة الغضب وقال آخر: لا تأسفنَّ على خلٍّ تفارقه ... إنَّ الأقاصي قد تدنو فتأتلف في النَّاس متبدلٌ والأرض واسعةٌ ... فيها مجالٌ لذي لبٍّ ومنصرف وقال قيس بن الخطيم:؟ ومابعض الإقامة في ديارٍ ... يعيش بها الفتى إلاَّ بلاء وقال المغيرة بن حنباء: وفي الدّهر والأيَّام للمرء عبرةٌ ... وفي الأرض عن دار الأذى مترحرح وقال معن بن أوس: وفي النَّاس إن رثَّت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحوَّل وقال عبد الصمد بن المعذل، ويروى لغيره: إذا وطنٌ رابني ... فكلُّ بلادٍ وطن وقال أبو العتاهية: من عاش قضَّى كثيراً من لبانته ... وللمضايق أبوابٌ من الفرج من ضاق عنك فأرض الله واسعةٌ ... في كلِّ وجه مضيقٍ وجه منفرج وقال الحسين بن الضحاك، أو أبو العتاهية: هممٌ تقاذفت الخطوب بها ... فهرعن من بلد إلى بلد وقال آخر: وفي الأرض عمَّن لايواتيك مرحل وقال حبيب بن أوس الطائي: وطول مقام المرء في الحيِّ مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدَّد فإني رأيت الشَّمس زيدت محبَّةً ... إلى النَّاس إذ ليست عليهم بسرمد وقال ابن المعتز: رأيت حياة المرء ترخص قدره ... فإن مات أغلته المنايا الطَّوائح كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا تخلق المرء العيون اللَّوامح وقالأ أبوالفتح البستي: وطول الماء في مستقرِّه ... يغيِّره لوناً وريحاً ومطعما وقال أبو الفتح الشدوني: إذا ما الحرُّ هان بأرض قومٍ ... فليس عليه في هربٍ جناح وقد هنَّا بأرضكم وصرنا ... لقى في الأرض تذروه الرِّياح وقال محمود الوراق: وإذا نبا بي منزلٌ لا يرتضي ... جاوزته واخترت منه منزلا وقال آخر: وإذا الدِّيار تنكَّرت عن حالها ... فدع الدِّيار وأسرع التَّحويلا ليس المقام عليك حقاً واجباً ... في منزلٍ يدع العزيز ذليلا وقال بشار بن برد: وكنت إذا ضاقت عليّ محلةٌ ... تيمَّمت أخرى ما عليّ تضيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وماخاب بين الله والنَّاس عاملٌ ... له في النّقى أو في المحامد سوق ولا ضاق فضل الله عن متعفّفٍ ... ولكنَّ أخلاق الرِّجال تضيق وقال آخر:؟ إذا كنت في دارٍ وحاولت رحلةٍ فدعها وفيها إن رجعت معاد وقال آخر: خلِّط فهذا زمانٌ فيه تخليط ... والنَّاس صنفان محرومٌ ومغبوط ولا تقم ببلادٍ لا انتفاع بها ... فالأرض واسعةٌ والرِّزق مبسوط ولا تكن غرَّةًٍترضى بغير رضىً ... فإنَّ رزقك عند الله مخطوط وقال جواس الكلبي: وإذا العلج أغلق الباب دوني ... لم يحرِّم على متن الطَّريق وكفاني جفاء من يزدريني ... قطعي الخرق بالمروخ الحروق وقال آخر: اصبر على حدث الزَّمان فإنَّما ... فرج الشَّدائد مثل حلِّ عقال وإذا خشيت تعذُّراً في بلدةٍ ... فاشدد يديك بعاجل التِّرحال إنَّ المقام على الهوان مذلَّةٌ ... والعجز أضعف حيلة المحتال وقال يحيى بن حكم الغزال: وإنَّ مقامي شطر يومٍ بمنزلٍ ... أخاف على نفسي به لكثير وقد يهرب الإنسان من خيفة الردى ... فيدركه ما خاف حيث يسير وقال المتنبي: إذا لم أجد في بلدةٍ ما أريده ... فعندي لأخرى عزمةٌ وركاب وقال أبو عثمان العروضي في مهموزته: إنَّ الفتى كلَّ الفتى من رأى ... هوانه أقبح ما قد رأى اهرب عن الذُّلِّ وعجِّل فما ... أقربه من كلِّ من أبطآ لو جرحت رأسي يدا منصفٍ ... لما تمنَّيت بأن أبرآ ولي حين رحلت من إشبيلية: وقائلةٍ مالي أراك مرحّلاً ... فقلت لها: صه واسمعي القول مجملا تنكَّر من كنَّا نسرُّ بقربه ... وعاد زعافاً بعدما كان سلسلا وحقَّ لجارٍ لم يوافقه جاره ... ولا لاء مته الدَّار أن يترحَّلا بليت بخفضٍ والمقام ببلدةٍ ... طويلاً لعمري مخلقٌ يورث البلا إذا هان حرٌ عند قومٍ أتاهم ... ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا ولم تضرب الأمثال إلاَّ لعالمٍ ... ولا عوتب الإنسان إلاَّ ليعقلا وقال ابن حازم، أو ابن بسام: وإن نبا منزلٌ بحرٍّ ... فمن مكانٍ إلى مكان لا يلبث الحرُّ في مكانٍ ... ينسب فيه إلى هوان الحرُّ حرٌّ وإن تعدَّت ... عليه يوماً يد الزَّمان والنَّذل نذلٌ وإن تكنَّى ... وصار ذا منطقٍ وشان فاسترزق الله واستعنه ... فإنَّه خير مستعان وقال أبو الفتح: متى رفضتني دار قومٍ تركتها ... وإن لم يكن منها ومن أهلها بد وقال حبيب: لا يمنعنَّك خفض العيش في دعةٍ ... نزوع نفسٍ إلى أهلٍ وأوطان تلقى بكلِّ بلادٍ إن نزلت بها ... أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان وقال ابن أبي حبيش: يا نازلاً ببطليوسٍ إذا ظفرت ... يوماً يداك بيوم البين فاستبق ولا تقم ببلادٍ لا يعاد بها ال ... مرضى وعجِّل على ما فيك من رمق إنَّ المقام بأرضٍ لا يزار بها ... ولا يعاد أخو الشَّكوى من الحمق باب التَّوديع والفراق ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في مسيره إلى العمرة، فقال: " يا أخي لا تنسنا من دعائك ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خرج أحدكم إلى سفر فليودع إخوانه، فإن الله جاعل له في دعائهم بركة ". وكان عبد الله بن عمر إذا ودع رجلا يقول: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتم عملك. قال الشعبي: السُّنة إذا قدم رجل من سفر، أن يأتيه إخوانه فيسلّموا عليه، إذا خرج إلى سفر أن يأتيهم فيودعهم ويغتنم دعائهم. ودع شعبة بن الحجّاج رجلا خارجاً إلى الحج فقال له:أما إنَّك إن لم تعدَّ الحلم ذلاً، ولا السّفه شرفاً، سلم حجُّك. ودع عبد الله بن المبارك رجلا، فقال: ونحن ننادي أنّ فرقة بيننا ... فراق حياةٍ لا فراق ممات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وقال إبراهيم الموصلي: تقضَّت لباناتٌ وجدّ رحيل ... ويشف من أهل الصَّفاء غليل ومدَّت أكفٌ للوداع تصافحت ... وكادت عيونٌ للفراق تسيل ولا بد للإلفين من ذمِّ لوعةٍ ... إذا ماالخليل بان عنه خليل فكم من دمٍ قد طلّ يوم تحمَّلت ... أوانس لا يودى لهنّ قتيل غداة جعلت الصَّبر شيئاً نسيته ... وأعولت لو أجدى عليك عويل وقال محمد بن مقسم، أنشده له ابنه أبو الحسن أحمد بن مقسم: فراق الأحبَّة داءٌ دخيلٌ ... ويوم الرَّحيل لنفسٍ رحيل سمعت ببينك فاعتادني ... غليلٌ ببقلبي وحزنٌ طويل أهذا ولم يك يوم الفراق ... فإن كان لا كان زاد الغليل وأيقنت أنِّي به تالفٌ ... ما قد وصفت عليه دليل حياة الخليل حضور الخليل ... ويفنى إذا غاب عنه الخليل وقال آخر: بكت عيني غداة البين حزناً ... والأخرى بالبكا بخلت علينا فجازيت التي جادت بدمع ... بأن أقررتها بالوصل عينا وجازيت التي جادت بدمعٍ ... بأن غمّضتها يوم التقينا وقال الزبير بن بكار: شيعني إسحاق بن إبراهيم وقال: فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم عليك السَّلام فكم من وفاءٍ ... أفارق منك وكم من كرم وقال آخر: ودّع أحبابه فما وقفوا ... ولا على ذي صبابةٍ عطفوا كم كبدٍ قطعوا بينهم ... وكم دموعٍ عليهم تلف كأنَّهم لم يجاوروك ولم ... تعرفهم والوصال مؤتلف وقال آخر: لم أنس يوم الرَّحيل موقفها ... وطرفها في دموعها غرق وقولها والرِّكاب واقفةٌ ... تركتني هكذا وتنطلق وقال آخر:؟ ليس شيءٌ من الفراق وإن كا ... ن أخو الوجد والهاً كلفا أحرق من وقفة المشيِّع للقل ... ب يريد الرُّجوع منصرفا وقال آخر: أقول له حين ودَّعته ... وكلٌّ بعشرته مبلس لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس وقال آخر: من يكن يكره الفراق فإنِّي ... أشتهيه لموضع التَّسليم إنَّ فيه اعتناقةً لوداعٍ ... وانتظار اعتناقةٍ لقدوم وقال آخر: صاح الغراب بوشك البين فارتحلوا ... وقرَّبوا العيس قبل الصُّبح واحتملوا وغادروا القلب ما تهدا لواعجه ... كأنَّه بضرام النَّار مشتعل وفي الجوانح نار الحبِّ تقذفها ... أيدي النّوى بزناد الشَّوق إذ رحلوا لمَّا أناخوا قبيل الصّبح عيرهم ... ورحَّلوها وسارت بالدُّمى الإبل وقلَّبت من خلال السُّجف ناظرها ... ترنو إليًّ ودمع العين منهمل وودّعت ببنان عقده عنمٌ ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل ويحيى من البين ماذا حلَّ بي وبهم ... من نازل البين حلَّ البين وارتحلوا يا راحل العيس عرِّج كي نودِّعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل إنِّي على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري لطول البين ما فعلوا أنشدني أبو القاسم خلف بن قاسم رحمه الله، قال أنشدني أبو بكر بن محمد ابن عبد الله بن الصَّيدلاني، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل الأخفش: سقياً ورعياً وإيماناً ومغفرةً ... للباكيات علينا حين نرتحل يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ... أنحن أغلظ أكباداً أم الإبل وقال آخر: أحجَّاج بيت الله في أيِّ هودجٍ ... وفي أيِّ خدرٍ من خدوركم قلبي أأبقى نحيل الجسم في أرض غربةٍ ... وحاديكم يحدو بقلبي مع الرَّكب وقال عمر بن أبي ربيعة: هاج القريض الذِّكر ... لمَّا غدوا فانشمروا على بغالٍ شحَّجٍ ... قد ضمَّهنَّ السَّفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فيهنَّ هندٌ ليتني ... ما عمِّرت أعمَّر حتَّى إذا ما جاءها ... حتفٌ أتاني القدر وقال آخر: أيا عجباً ممَّن يودِّع إلفه ... يمدَّ يداً نحو الفراق فيسرع هممت بتوديع الحبيب فلم أطق ... فودَّعته بالقلب والعين تدمع وينظر إليه في قول الآخر: ودَّعها طرفي فقالت له ... بالدَّمع أستودعك الله وقال حبيب مااليوم أوَّل توديعي ولا الثَّاني ... البين أكثر من شوقي وأحزاني حسب الفراق بأنَّ الدَّهر ساعده ... فصار أملك من روحي بجثماني وماأظنُّ النَّوى يرضى بما صنعت ... حتَّى تشافه بي أقصى خرسان وقال آخر: أهدى إليه سفرجلاً فتطيَّرا ... منه وظلّ مفكِّراً مستعبراً خوف الفراق لأنَّ شطر هجائه ... سفرٌ وحقَّ له بأن يتطيَّرا وقال آخر: أقيم وتظعنين وأنت روحي ... وهل جسدٌ يعيش بغير روح لئن كان الفراق غداً فإنِّي ... سأحمل لا أشكُّ إلى ضريحي تعالي بعد فرقتنا لنبكي ... فإنِّي نائحٌ أبداً فنوحي وقال أبو الشيص، وهو محمد بن عبد الله بن رزين: مافرَّق الأحباب بع ... د الله إلاَّ الإبل والنَّاس يلحون غرا ... ب البين لمَّا جهلوا وماعلى ظهر غرا ... ب البين تطوى الرِّحل ولا إذا صاح غرا ... بٌ في الدِّيار ارتحلوا وماغراب البين إلاَّ ... ناقةٌ أو جمل أنشدنيها عبد الوارث عن قاسم عن أبي خيثمة لأبي الشِّيص. وقال العلوي علي بن محمد: ولقد نظرت إلى الفراق فلم أجد ... للموت لو فقد الفراق سبيلا ياساعة البين الطَّويل كأنَّما ... واصلت ساعات القيامة طولا وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الفقيه: لعمري لئن شطَّت بعثمة دارها ... لقد كدت من قبل الفراق أليح أروح بهمٍّ ثم أغدو بمثله ... ويحسب أنِّي في الثِّياب صحيح وقال حبيب: يوم الفراق لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلداً ولا معقولا لو جاء مرتاد المنيَّة لم تجد ... إلاَّ الفراق على النُّفوس دليلا قالوا الرَّحيل فما شككت بأنَّها ... نفسي عن الدُّنيا تريد رحيلا وهذا باب أكثر فيه أهل الظرف، فرأيت اختصاره، قال الحارث بن وعلة، وتنسب إلى العتّابي كلثوم بن عمرو، وهي أبيات كثيرة أولها: ماغناء الحذار والإشفاق ... وشآبيب دمعك المهراق غرَّ من ظنَّ أن يفوت المنايا ... وعراها قلائد الأعناق ويد الحادثات رهنٌ بمرَّا ... تٍ من العيش مصرَّات المذاق كم صفيَّين متّعا باتفاقٍ ... ثمَّ صارا من بعده لافتراق قلت للفرقدين والَّليل ملقٍ ... سود أكنافه على الآفاق ابقيا ما بقيتما سوف يرمي ... بين شخصيكما بسهم الفراق هوِّني ذا عليك واقني حياءً ... لست تبقين لي ولست بباق أيُّنا قدَّمت حمام المنايا ... فالَّذي أخَّرت سريع الَّلحاق لا يدوم البقاز للخلق ل ... كنَّ دوام البقاء للخلاَّق إن قضى الله أن يكون تلاقٍ ... بعد ما قد ترين كان التّلاقي وقال آخر، وهو نفطويه: شيئان لو بكت الدِّماء عليهما ... عيناي حتَّى تؤذنا بذهاب لم يبلغا المعشار من حقَّيهما ... فقد الشَّباب وفرقة الأحباب وقال الغزال: وإن رجائي في الإياب إليكم ... وإن أنا أظهرت العزاء قصير وإن كنت تبغين الوداع فبالغي ... فدونك أحوالٌ أرى وشهور وقال آخر: ليس الفراق وإن جزعت بضائرٍ ... ما لم تفرِّق بيننا الأخلاق إن لم يحل حدث المنيَّة بيننا ... فسنلتقي وسيحفظ الميثاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 والدَّهر يجمع بين كلِّ مفارقٍ ... ولكلِّ ملتقيين منه فراق وقال محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين: مدَّت إلى البين أطرافاً مخضَّبةً ... لمَّا تولَّت وذاقت حرقة البين وودَّعتني وما همَّت ولا نطقت ... وإنَّما ودّعت وحياً بعينين بلى لقد أومأت نحوي بإصعبها ... إيماءةً ختلت عنها الرَّقيبين وقال آخر: أتذكر إذا تودِّعنا سليمى ... بعود بشامةٍ سقى البشام يريد: تشير إلينا بمسواكها مودعة. وقال أبوعوانة: كنت أجالس أبا العتاهية فأراد الخروج إلى مكة فودعني وقال: إن نعش نجتمع وإلاَّ فما ... أشغل من مات عن جميع الأنام قالت أعرابية لابن لها، وقد ودعته وهو يريد سفراً: امض مصاحباً مكلوءاً، لا أشمت الله بك عدواً، ولا أرى محبيك فيك سوءاً. ودع أعرابي رجلا، فقال كبت الله لك كل عدوّ إلا نفسك، وجعل خير عملك، ما ولى أجلك. بيت قديم: وكلُّ مصيبات الزَّمان وجدتها ... سوى فرقة الأحباب هيِّنة الخطب قال محمد بن عبد السلام الخشني: كأن لم يكن بينٌ ولم تك فرقةٌ ... إذا كان من بعد الفراق تلاق كأن لم تؤرَّق بالعراقين مقلتي ... ولم تمر كفُّ الشَّوق ماء مآق ولم أزر الأعراب في خبت أرضهم ... بذات اللِّوى من رامةٍ وبراق ولم أصطبح في البيد من قهوة النَّوى ... بكأسٍ سقانيها الفراق دهاق وقال آخر: خليليّ إلاَّتبكيا لي أستعن ... خليلاً إذا أفنيت دمعي بكى ليا كأن لم تكن بينٌ إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا قالوا: كم بين لوعة الفراق وفرح التلاق. باب الزيارة والعيادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من زار أخاً له في الله، أو عاده، خاض الرحمة حتى يرجع وقال الله عز وجلّ له: طبت ممشاك وتبوأت من الجنَّة منزلا "، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم الزائر فأكرموه " وقال حاكياً عن الله عز وجل: " وجبت محبتي للمتزاورين فيّ والمتحابين فيّ ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي هريرة: " ياأباهريرة زرغبَّاً تزدد حبّاً ".أخذه الشاعر فقال: إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً ... وإن شئت أن تزداد حبَّاً فزد غبَّا أنشدني أبو عثمان سعيد بن سيد، لعبد الملك بن جهور الوزير: وقد قال الرَّسول وكان برَّاً ... إذا زرت الحبيب عزره غبَّا وأقلل زور من تهواه تزدد ... إذا ما زرته مقةً وحبَّا ولعلي بن أبي طالب الكاتب: إنِّي رأيتك لي محبَّاً ... وإليّ حين أغيب صبَّا فهجرت لا لملالةٍ ... حدثت ولا استحدثت ذنبا إلاَّ لقول نبيِّنا ... زوروا على الأيَّام غبَّا ولقوله من زار غبَّا ... منكم يزداد حبَّا قال خارجة بن زيد النحوي: دخلت على محمد بن سيرين بيته زائراً له، فوجدته جالساً بالأرض، فألقى إليّ وسادة، فقلت له: إني قد رضيت لنفسي مارضيت لنفسك. فقال: إني لا أرضى لك في بيتي ما أرضى لنفسي، واجلس حيث تؤمر، فلعل الرجل في بيته يكره أن تستقبله. قال بشار: لا تجعلن أحداً عليك إذا ... أحببته وهويته ربَّا وصل الخليل إذا شغفت به ... واطو الزِّيارة دونه غبَّا فلذاك خيرٌ من مواصلةٍ ... ليست تزيدك عنده قربا لكن يملُّك ثمَّ تدعو باسمه ... فيقول: ها، وطالما لبَّى وقال آخر: عليك بإقلال الزِّيارة إنَّها ... تكون إذا ما دامت إلى الهجر مسلكا فإنِّي رأيت الغيث يسأم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا قال قيس بن سعد بن عبادة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً، فوقف ببابنا. قال ابن المعتز: وقفةٌ في الطَّريق نصف الزِّياره وقال آخر: وحظُّك زورةٌ في كلِّ عامٍ ... موافقةٌ على ظهر الطَّريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 سلاماً خالياً من كلِّ شيءٍ ... يعود به الصَّديق على الصَّديق كان يقال: امش ميلاً وعد عليلا، وامش ميلين وأصلح بين اثنين، وامش ثلاثة أميال، وزر في الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن قبلكم رجل يزور أخاً له في الله بقرية أخرى، فأرصد الله على مدرجه ملكا، فلما انتهى إليه قال له: أين تريد؟ قال: أريد قرية كذا. قال: وما حاجتك فيها؟ قال: زيارة أخ لي في الله. قال: وهل غيرذلك؟ قال: لا قال: فهل عليك من نعمة تربيها، أو تشكرها؟ قال: لا،إلا أنه أحبني في الله فأحببته فيه. قال: فإني رسول الله إليك، مخبرك أنه يحبك كما أحببت فيه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ثم أذن لي فيها فزوروها فإنها تذكّر الآخرة، ولا تقولوا هجراً ". كان سفيان بن عيينة يقول: لا تعمل الأقدام في الزيارة إلاّ إلى أقدارها، وينشد: فضع الزِّيارة حيث لا يزرى بها ... كرم المزور ولا يعاب الزَّائر وقال العباس بن الأحنف: يقرِّب الشَّوق داراً وهي نازحةٌ ... من عالج الشَّوق لم يستبعد الدَّارا أزوركم لا أكافئكم بجفوتكم ... إنَّ المحبَّ إذا لم يستزر زارا وقال الأحوص: وماكنت زوَّاراً ولكنَّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدَّ أن سيزور أزور على أن لست أفقد كلَّما ... أتيت عدوَّاً بالبنان يشير وقال آخر: فإنَّي لزوَّارٌ لمن لا يزورني ... إذا لم يكن في ودِّه بمريب ومستقربٌ دار الحبيب وإن نأت ... وما دار من أبغضته بقريب وقال آخر: رأيت تباعد الإخوان قرباً ... إذا اشتملت على الودِّ القلوب وليس يواصل الإلمام إلاَّ ... ضنينٌ في مودَّته مريب وقال إبراهيم بن العباس الصولي: دنت بأناسٍ من تناءٍ زيارةٌ ... وشطَّ بليلى عن دنوٍ مزارها وإنَّ مقيماتٍ بمنقطع الِّلوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها وأما قول قرم بن مالك: علام إوايم البخلاء فيها ... فأقعد لا أزور ولا أزار قال بعضهم: إن معناه علام أستوحش من الناس، وتأول من ذهب هذا المذهب في قول العرب: لولا الأوام هلك الأنام، أي لولا أنس الناس بعضهم ببعض لهلكوا إذا عمتهم الوحشة. وقال آخرون: في قولهم: لولا الأوام هلك الأنام، أي لولا أن بعض الناس إذا رأى صاحبه صنع خيراً تشبه به لهلك الناس، ولبعض أهل العصر: أزور خليلي ما بدا لي هشُّه ... وقابلني منه البشاشة والبشر فإن لم يكن هشٌ وبشٌ تركته ... ولو كان في الُّلقيا الولاية واليسر وحقُّ الذي ينتاب داري زائراً ... طعامٌ وبرٌ قد تقدَّمه بشر باب العيادة أيضا ً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عائد المريض في مخرفة الجنة ". وقال عليه السلام: " عائد المريض يخوض الرحمة، فإذا قعد عنده غمرته ". قال مالك: أو نحو هذا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حقِّ المسلم على المسلم أن يسلِّم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض ويشمِّته إذا عطس، ويشيِّع جنازته إذا مات ويجيبه لطعامه إذا دعاه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل العيادة أخفُّها ". وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن الحجاج - يعني بن أرطاة - عن المنهال عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عبّاس، قال: " من دخل على مريضٍ لم تحضر وفاته، فقال: أسأل الله العظيم، ربَّ العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفي ". قال الشاعر: ؟ إن كنت في ترك العيادة تاركاً ... حظِّي فإنِّي في الدُّعاء لجاهد ولربَّما ترك العيادة مشفقٌ ... وأتى على غلِّ الضّمير الحاسد وقال آخر: إذامرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر وقال عبد الله بن مصعب الزبيري: مالي مرضت فلم يعدني عائدٌ ... منكم ويمرض كلبكم فأعود فسمي عائد الكلب. ولجعفر بن حذار الكاتب: ؟ إنَّ العيادة يومٌ بين يومين ... واقعد قليلاً كلحظ العين بالعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 لا تبرمنَّ مريضاً في عيادته ... يكفيك من ذاك تسآلٌ بحرفين وللشافعي الفقيه رضي الله عنه وقد اشتكى بمصر شكوى عاده فيها بعض إخوانه، فلمسوا جبينه، وقالوا له: أنت بخير ونحو هذا، فقال: أقول لعائديَّ وشجَّعوني ... وغرَّهم فتور حمى جبيني تعزَّوا بالتَّصبُّر عن أخيكم ... فضجُّوا بالبكاء وودّعوني فلم أدع الأنين لقلِّ سقمي ... ولكنِّي ضعفت عن الأنين سأصبر للحمام وقد أتاني ... وإلاَّ فهو آتٍ بعد حين وإن أسلم يمت قبلي حبيبٌ ... وموت أحبَّتي قبلي يسوني قال المدائني: سقط عبد الله بن شبرمة القاضي عن دابته، فوثئت رجله، فدخل عليه يحيى بن نوفل الشاعر عائداً له ومادحاً، وكان جاره فأنشده: أقول غداة أتانا الخبير ... ود سَّ أحاديثه هينمه لك الويل من مخبرٍ ماتقول؟ ... أبن لي وعدِّ عن الجمجمه فقال خرجت وقاضي القضا ... ة منفكَّةٌ رجله مؤلمه فقلت وضاقت عليَّ البلاد ... وخفت المجلِّلة المعظمه فغزوان حرٌّ وأمُّ الوليد ... إن الله عافى أبا شبرمه جزاءً لمعروفه عندنا ... وما عتق عبدٍ له أو أمه قال: وفي المجلس جارٌ ليحيى بن نوفل يعرف ما في منزله، فلما خرج تبعه، فقال له: ياأبا معمر! رحمك الله من غزوان وأمّ الوليد؟ قال: سنَّوران في البيت فاستر عليّ. باب الحجاب قال رسول الله صلىِّ الله عليه وسلِّم: " من ولي من أمور النَّاس شيئاً فاحتجب عن حاجتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حاجته، وخلّته وفاقته ". وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: " من رفع حاجة ضعيفٍ إلى ذي سلطان لا يستطيع رفعها، ثبَّت الله قدميه على الصِّراط يوم القيامة ". حجب معاوية أبا الدّرداء يوماً وحبسه عند بابه، فقيل له: يا أبا الدرداء! ويفعل هذا بك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من يأت أبواب السلطان يقم ويقعد. قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:؟ دخلت على معاوية بن صخر على حين يئست من الدّخول وما نلت الدُّخول عليه حتّى ... حللت محلّة الرّجل الذَّليل وأغضيت الجفون على قذاها ... ولم أنظر إلى قالٍ وقيل فأدركت الّذي أمّلت منه ... بمكثٍ والخطا زاد العجول حجب أعرابيٌّ عند باب سلطان فقال: أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن يكرم النّفس الّذي لا يهينها حدثني أبو القاسم خلف بن قاسم رحمه الله، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبيد الله الصَّيدلاني، قال:حدثنا عليُّ بن سليمان الأخفش، قال: أنشدني بعض أصحابنا: في كلِّ يومٍ لي ببابك وقفةٌ ... أطوى إليها سائر الأبواب فإذا جلست وغبت عنك فإنّه ... ذنبٌ عقوبته على البوّاب استأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنه، فأبطأ إذنه، فقيل حجبك أمير المؤمنين؟ فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجب. قال معاوية لحضين بن المنذر: يا أبا ساسان كأنك لا تحسن إذنك. فأنشأ يقول: كلُّ خفيف الرّأي يمشي مشِّمراً ... إذا فتح البواب بابك إصبعا ونحن الجلوس الماكثون رزانةً ... وحلماً إلى أن يفتح الباب أجمعا قال زياد لحاجبه: يا عجلان! إنّي ولّيتك ما وراء بابي، وعزلتك عن أربعة: طارق الليل فشرٌ ما جاء به، وخبر رسول صاحب الثغر فإنّه إن تأخر ساعة أبطل عمل سنة، وهذا المنادي الصّلاة وصاحب الطعام فإنَّ الطَّعام إذا أعيد عليه التَّسخين فسد. قال مروان لابنه عبد العزيز - حين ولاّه مصر - يا بنيّ مر حاجبك يخبرك من حضر بابك كلّ يوم، فتكون أنت تأذن وتحجب، وآنس من دخل عليك بالحديث فينبسط إليك، ولا تعجل بالعقوبة إذا أشكل عليك الأمر، فإنّك على العقوبة أقدر منك على ارتجاعها. كان يقال: لا تقم على باب حتى تدعى إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أقام رجل على باب كسرى سنة، فلم يؤذن له، فقال له الحاجب: اكتب كتاباً وخفّفه أوصله لك. فقال: لا أزيد على أربعة أسطر، فكتب في السطر الأول: الأمل والضرورة أقدماني عليك، وفي السطر الثاني: ليس مع العدم صبر على الطلب، وفي السطر الثالث: الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء وفي السطر الرابع: إما نعم مثمرة، وإما لا موئسة. فوقع كسرى تحت كل سطر بأربعة آلاف درهم، فانصرف بستة عشر ألف درهم. قال أشجع بن عمر السُّلمي، في باب محمد بن منصور بن زياد: على باب ابن منصورٍ ... علاماتٌ من البذل جماعاتٌ وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل وقال بشار بن برد: يسقط الطَّير حيث ينتثر الحبُّ ... وتغشى منازل الكرماء وقال حبيب: إنّ السّماء ترجَّى حين تحتجب وقال آخر: يزدحم النَّاس على بابه ... والمشرب العذب كثير الزِّحام وقال عبيد الله بن عكراش: وإنّي لأرثي للكريم إذا غدا ... على طمعٍ عند الَّلئيم يطالبه وأرثي له من وقفةٍ عند بابه ... كمرثيتي للطِّرف والعلج راكبه كتب رجل إلى عبد الله بن طاهر: إذا كان الجواد له حجابٌ ... فما فضل الجواد على البخيل فأجابه عبد الله بن طاهر: إذا كان الجواد قليل مالٍ ... ولم يعذر تعلَّل بالحجاب وقال البحتري: أتيتك لَّلتسليم لا أنَّني امرؤٌ ... طلبت بإتيانك أسباب نائلك فألفيت بوَّاباً ببابك مغرماً ... بهدم الّذي أوطأته من فضائلك وقد قيل قدماً حاجب المرء عاملٌ ... على عرضه فاحذر جناية عاملك وكن عالماً أن لست من بعد راجعاً ... إليك ولو كان الهدى من رسائلك ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إلى عمر بن عبد العزيز: يا عمر بن عمر بن الخطّاب ... إن وقوف الحرِّ عند الأبواب يدفعه البوَّاب بعد البواب ... يعدل عند الحرّ قلع الأنياب قال بعض الأكاسرة لحاجبه: لا تحجب عني أحداً إذا أخذت مجلسي، فإن الوالي لا يحجب إلا عن ثلاث: عيٌ يكره أن يطلع عليه، أو بخل فيكره أن يدخل عليه من يسأله، أو ريبة. وقد نظم هذا كله محمود الوراق فقال: إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردّ ذوي الحاجات دون حجابه ظننت به إحدى ثلاثٍ وربّما ... نزعت بظنٍّ واقعٍ بصوابه فقلت به مسٌ من العيِّ قاطعٌ ... ففي إذنه للنّاس إظهار ما به فإن لم يك عيُّ اللسان فغالبٌ ... من البخل يحمي ماله عن طلابه فإن لم يكن هذا ولا ذا فريبةٌ ... يصرُّ عليها عند إغلاق بابه وله أيضاً: لولا مقارفة الرِّيب ... ما كنت مّمن يحتجب أو لا فعيٌ فيك أو ... بخلٌ على أهل الطَّلب فاكشف لنا وجه العتا ... ب ولا تبال من عتب وقد جمع منصور الفقيه هذا المعنى في أقل نظم، فقال: وطول الحجاب مخبِّرٌ ... عن عيِّ صاحبه وبخله فإذا الفتى لم يستبن ... هذا تبيّن ضعف عقله وأرفع من هذا قول زهير: السِّتر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر قصد إبراهيم بن المهدي بن يحيى بن خالد فحجبه، فكتب إليه إبراهيم: إني أتيتك للسّلام ولم ... أنقل إليك لحاجةٍ رجلي فحجبت دونك مرّتين وقد ... تشتدّ واحدةٌ على مثلي وقال آخر: سأترك باباً تملك إذنه ... وإن كنت أعمى عن جميع المسالك فلو كنت بوّاب الجنان تركتها ... وحوّلت رجلي مسرعاً نحو مالك وقال محمود الوراق: سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... كعهدي به حتّى يخفَّ قليلا وما خاب من لم يأته متعمِّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا وما جعلت أرزاقنا بيد امرئٍ ... حمى بابه من أن ينال دخولا إذا لم أجد يوماً إلى الإذن سلَّماً ... وجدت إلى ترك المجيء سبيلا وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 على أيِّ بابٍ أطلب الإذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه وفي معنى هذا قول الفرزدق: وكان يجير النّاس من سيف مالكٍ ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها وقال آخر: ولست بمتّخذٍ صاحباً ... يقيم على بابه حاجبا ويلزم إخوانه حقَّه ... وليس يرى حقّهم واجبا وقال أبو تمام: هشٌ إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مهذّب الخدّام وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيُّهما أخو الأرحام وقال أبو العتاهية في عمرو بن مسعدة: ما لك قد حلت عن وفائك واس ... تبدلت يا عمرو شيمة كدره ما لي في حاجةٍ إليك سوى ... تسهيل إذني فإنها عسره إّني إذ االباب تاه صاحبه ... لم يك عندي لتركه نظره لستم ترجَّون للحساب ولا ... يوم تكون السَّماء منفطره لكن لدنيا تكون بهجتها ... سريعة الإنقضاء منشمره قد كان وجهي لديك معرفةً ... فاليوم أضحى باباً من النكرة كتب أبو مسهر إلى أبي جعفر محمد بن عبدكان، وكان قد حجب على بابه: إني أتيتك للسَّلام أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب وقد علمت بأني لم أردَّ ولا ... والله ما ردّ إلاَّ الحديث والأدب فأجابه محمد بن عبد كان: لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوسٍ ففي أشعاره أدب ليس الحجاب بمقصٍ عنك لي أملاً ... إنّ السَّماء ترجّى حين تحتجب وقال منصور الفقيه: إن الحجاب عذابٌ ... وليس لي بالعذاب كلاَّ فلا تعذلوني ... على اتَّصال اجتنابي وله أيضاً: إذا كان لا بدَّ من حجبةٍ ... ومن حاجبٍ فاجعلوه رفيقا يخاطب من جاءه بالجميل ... فيأتي صديقاً ويمضي صديقا باب المصافحة وتقبيل اليد والفم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " تصافحوا يذهب الغلّ ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": إذا التقى المسلمان وتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحاتُّ الشَّجر ". كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صافح رجلاً لم ينزع يده من يده حتى يكون الرّجل هو الذي ينزع يده من يده. قال أبو مخلد: المصافحة تجلب المحبة. كان يقال: تحية المؤمنين المصافحة والسَّلام. قال الشّاعر: قد يمكث النّاس دهراً ليس بينهم ... ودٌّ فيزرعه التَّسليم والُّلطف لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأرادوا النزول على حكم سعد بن معاذ وكان قد تخلف بالمدينة لجرحٍ أصابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عليه قال للأنصار: " قوموا إلى سيّدكم ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سرّه أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ". ومذهب الحديثين أنه جائز للرجل أن يكرم القاصد إليه إذا كان كريم القوم، أو عالمهم، أو من يستحقّ البرّ منهم بالقيام إليه أو يرضى بذلك منهم. قال ابن المسيّب البغدادي جار ابن الرومي: أقوم وما بي أن أقوم مذلةٌ ... عليّ وإنّي للكرام مذلَّل على أنَّها منِّي لغيرك هجنةٌ ... ولكنَّها بيني وبينك تجمل كان يقال: تقبيل اليد إحدى السجدتين. تناول أبو عبيدة بن الجراح يد عمر ليقبِّلها، فقبضها، فتناول رجله فقال: ما رضيت منك بتلك فكيف بهذه.!! دخل عقَّال بن شبَّة على هشام بن عبد الملك، فأراد أن يقبِّل يده فقبضها، وقال: مه فإنه لم يفعل هذا من العرب إلا هلوع، ومن العجم إلا خضوع. قال الحسن: قبلة يد الإمام العدل طاعة. كان يقال: قبلة الرّجل زوجته الفم، وقبلة الوالد ولده الرأس، وقبلة الأمِّ الولد الخدَّ، وقبلة الأخت الأخ العنق. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: قبلة الوالد عبادة، وقبلة الولد رحمة، وقبلة المرأة شهوة وقبلة الرجل أخاه دين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان وزناهما النظر،والفم يزني وزناؤه القبل، واليد تزني وزناؤهما اللمس، ويصدِّق ذلك كله الفرج أو يكذبه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قال الهيثم بن عديّ قال لي صالح بن حيّان: من أفقه الشّعراء؟ فقلت: اختلف في ذلك. فقال: أفقه الشعراء وضَّاح اليمن، حيث يقول: إذا قلت هاتي ناوليني تبسّمت ... وقالت معاذ الله من فعل ما حرم فما نوَّلت حتّى تضرّعت عندها ... وأعلمتها ما أرخص الله في الَّلمم باب الرَّسول صلى الله عليه وسلم ذكر ابن الأنباري عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الرَّسول والرَّسيل والرّسالة سواء. وينشد هذا البيت على وجهين: لقد كذب الواشون ما بحث عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول ويروى برسيل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أبردتم إليّ بريداً، أو بعثتم رسولا، فليكن حسن الوجه، حسن الاسم، وإذا سألتم الحوائج فاسألوا حسان الوجوه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرجل الصّالح يجيء بالخبر الصالح، والرجل السّوء يأتي بالخبر السّوء ". أنشد أبو حازم القاضي ببغداد: وأتانا عن النبيِّ حديثا ... ن إليه كلاهما يسندان واحدٌ في الحاجات يأمرنا أن ... نبتغي من ذوي الوجوه الحسان ثم في الفال حبّه حسن الاس ... م وهذان فيك مجتمعان ومعاذ الإله أن يلفيا في ... ك كما جاء عنه لا يصدقان كان عبد الملك بن مروان إذا ولَّى رجلاً البريد، سأل عن صدقه وعفته وأمانته، وقال: إن كذبه يشكك في صدقه، وشرّه يحمله على كتمان الحق، وعجلته تهجم به على ما يندمه ويؤثمه. قالوا: الرسول قطعة من المرسل. قال عمرو بن العاص: ثلاثةٌ دالّة على صاحبها: الرسول على المرسل، والهدية على المهدي، والكتاب على الكاتب. لما قال عمر بن أبي ربيعة: من رسولي إلى الثُّريّا فإنِّي ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب هي مكنونةٌ تحيَّر منها ... في أديم الخدَّين ماء الشّباب أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمسٍ كواعبٍ أتراب ثم قالوا تحبها؟ قلت بهراً ... عدد القطر والحصى والتّراب قال له ابن أبي عتيق: والله لا كان المبلغ لهذا الشعر غيري. فارتحل من المدينة حتى أتى مكة، فصادف الثريا في الطواف. فقالت له: يا ابن أبي عتيق! ماجاء بك، وليس هذا أوان الحج؟ فقال: أبيات لعمر. فقالت أنشدني. فأنشدها الأبيات حتى أتى على آخرها. فقالت: أدى الله أمانتك، فقد أديت. قال: فضرب راحلته ورجع. قال صالح بن عبد القدوس: إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه سمع الخليل بن أحمد رجلاً ينشد بيت صالح هذا: إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه فقال: هو الدِّرهم. وقال آخر: وما أرسل الأقوام في حاجةٍ ... أمضى ولا أنفع من درهم يأتيك عفواً بالذي تشتهي ... نعم رسول الرَّجل المسلم ولبعض المتأخرين من أهل عصرنا: إذا كنت متّخذاً رسولاً ... فلا ترسل سوى حرٍّ نبيل فإن النُّجح في الحاجات يأتي ... لطالبها على قدر الرَّسول وقال الراجز: ما مرسلٌ أنجح فيما نعلم ... من طبقٍ يهدي وهذا الدِّرهم وقال منصور الفقيه: أرسلت في حاجةٍ رسولاً ... يكنى أبا درهمٍ فتمَّت ولو سواه بعثت فيها ... لم تحظ نفسي بما تمنّت باب الهديَّة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " الهدية رزقٌ من رزق الله، فمن أهدي إليه شيءٌ فليقبله ولا يردّه، وليكافئ عليه ". وقال صلى الله عليه وسلّم: تهادوا فإنّ الهدية تذهب السّخيمة، وتزيل وحر الصدور ولا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة "، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها أفضل منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أهدي إليّ ذراع لقبلت، ولو دعيت لكراع لأجبت ". قال رجل لأبي ذر: فلان يقرئك السلام. فقال:هدية حسنة، وحمل خفيف. وقال عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقد حدثنا ابن صاعد، قال: حدثنا زياد بن يحيى أبو الخطاب، حدثنا أبو عتّاب الدَّلاَّل، وحدثنا عثمان بن عبد الرحمن، حدثنا الزُّهري، عن عبد الله بن وهب بن زمعه عن أم سلمة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: " الهدية تذهب السّخيمة ". قيل: وماالسَّخيمة؟ قال: " الإحنة تكون في الصُّدور ". وعن الهيثم بن عديّ، قال: كان يقال: ما ارتضى الغضبان، ولا استعطف السُّلطان، ولا سلبت الشَّحناء، ولا دفعت المغارم ولا توقِّي المحذور، ولا استعمل المهجور بمثل الهدية والبرّ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " من أهديت إليه هدية فجلساؤه شركاؤه فيها ". قال أبو إسحاق الصَّابي: رويت في السُّنة المشهورة البركه ... أنّ الهديَّة في الجلاَّس مشتركه كان يزيد بن قيس الأرحبيّ، والياً لعلي رضي الله عنه، فأهدى إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وترك ابن الحنفية، فضرب عليّ رحمه الله على جنب ابن الحنفية وقال: وما شرُّ الثَّلاثة أمَّ عمروٍ ... بصاحبك الَّذي لم تصبحينا روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال للقرابات: " تزاوروا ولا تجاوروا، وتهادوا فإن الهدّية تثبت المروءة وتستلُّ السّخيمة ". أصبح عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالكوفة يوم نيروز هدايا كثيرة وتحف، فأنكر ذلك. فقالوا له: إنه يوم نيروز قال: فنيروز لنا إذاً كل يوم. قال أبو عمر: كان هذا منه رضي الله عنه - إن صحّ - قبل أن يدخل الكوفة، وأن يكون خليفة، لأن المحفوظ عنه من رواية الثقات أنه كان لا يقبل هدية نيروز ولا مهرجان، وأنه كان يأخذ ما أهدى إليه عماله فيضعه في بيت المال - مال المسلمين. قال يونس بن عبيد: أتيت ابن سيرين يوماً ومعي خبيص، فقلت: قولوا له: يونس بالباب. فقال - وأنا أسمع -:قولوا له: قد نام. فقلت: إن معي خبيصاً. قال: كما أنت حتى أخرج إليك. قال الشاعر: هدايا النّاس بعضهم لبعضٍ ... تولِّد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضّمير هوىً وودّاً ... ويكسوهم إذا حضروا جمالا قال أبو عوانة: قلت للأعمش: ياأبا محمد! إن عندي بطة سمينة، أفتكون عندي في الدار؟ قال: وما تصنع بعنائي؟! ابعث بها إلى الدار. قال الشاعر: إنّ الهدايا لها حظٌّ إذا وردت ... أحظى من الإبن عند الوالد الحدب وقال آخر: ما من صديقٍ وإن أبدى مودّته ... يوماً بأنجح في الحاجات من طبق إذا تلثّم بالمنديل منطلقاً ... لم يخش صولة بوابٍ ولا غلق لا تكذبنّ فإنّ النَّاس قد خلقوا ... لرغبةٍ يكرمون النَّاس أو فرق أمّا الفعال فعند النَّجم مطلعه ... والقول يوجد مطروحاً على الطُّرق وقال آخر: أهدى إليه حبيبه أترجّةً ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر خوف التّبدُّل والتَّلوُّن إنَّها ... لونان باطنها خلاف الظّاهر بعث أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع بنعل، وكتب معها: نعلٌ بعثت بها لتلبسها ... تمشي بها قدمٌ إلى المجد لو كان يحسن أن أشرِّكها ... خدّي جعلت شراكها خدِّي أهدى الطائي إلى الحسن بن وهب قلماً، وكتب إليه: قد بعثنا إليك أكرمك الل ... هـ بشيءٍ فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفِّك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل واغتفر قلَّة الهديَّة منِّي ... إن جهد المقلِّ غير قليل أولم إسحاق بن إبراهيم الموصلي وليمة، فأهدى إليه إخوانه هدايا، وأهدى إليه إبراهيم بن المهدي جراب ملح وجراب أشنان مطيب، وكتب إليه رقعة: فداك أخوك عنده، لولا أن البضاعة تقصر لجزت السَّابقين إلى برِّك، وكرهت أن تطوى صحيفة البرّ ولاحظّ لي فيها،فوّجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته، جراب ملح وجراب أشنان هدية من يحتشم إلى من لا يغتنم، وكتب أسفل الرقعة: هديَّتي تقصر عن همّتي ... وهمّتي تعلو على مالي وخالص الودِّ ومحض الهوى ... أحسن ما يهديه أمثالي بعث رجل إلى دعبل بأضحية، فكتب إليه دعبل: بعثت إلينا بأضحيَّةٍ ... وكنت حريَّاً بأن تفعلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ولكنَّها خرجت غثَّةً ... كأنك أرعيتها حرملا فإن قبل الله قربانها ... فسبحان ربِّك ما أعدلا قال قتادة: يعرف سخف الرجل في سخف هديته. قال ذلك في نعل أهديت إليه. ولي في هذا: سخافة المرء تدرى في هديَّته ... والنَّوك والُّلؤم فيها يظهران معا إنّ اللئيم إذا أهدى هديّته ... أبدى نذالته فيها لمن سمعا ولخلف الأحمر: سقى حجَّاجنا نوء الثُّريّا ... على ما كان من بخلٍ ومطل هم جمعوا النِّعال وأحرزوها ... وسدُّوا دونها باباً بقفل إذا أهديت فاكهةً وشاةً ... وعشر دجائجٍ بعثوا بنعل ومسواكين طولهما ذراعٌ ... وعشرٌ من رديء المقل خشل فإن أهديت ذاك لتحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي أناسٌ يأنفون لهم رواءٌ ... تغيم سماؤهم من غير وبل إذا انتسبوا ففرعٌ من قريشٍ ... ولكنّ الفعال فعال عكل وقال آخر في جار له أتى من الحج لم يهد إليه شيئاً: عبّاس ما وجهك بالهشِّ ... ولا أبرئك من الغشِّ لم تهد لي نعلاً ولا مقلةً ... كأنَّما جئت من الحشِّ ولمنصور الفقيه - يداعب صديقاً يكنى أبا النصر ويسمى فتحاً، قدم من الحج - شعرٌ حسن النظم مليح المعنى، رأيت إيراده لحسنه: سألت الحجيج وقد أقبلوا ... يؤمُّون مصر من أرض الحرم فقلت لهم بعد إيناسهم: أفتحٌ بمكَّة أم قد قدم؟ فقالوا: ترحَّل من قبلنا ... لعشر ليالٍ توالت حرم فقلت بحرمة من زرتم؟ ... أحقّاً تقولون؟ قالوا: نعم فأقبلت في صرخةٍ منهم ... وقلبي ممّا به يضطرم أعدِّد آلاءه والجفون ... مسافيح بالدَّمع والدَّمع دم فصادفني صالحٌ عبده ... فقال: فديتك لم تلتدم؟ وماذا دعاك إلى ما أرى ... فقلت: الحذار على ذي الكرم أبى نصرٍ البحر من جوده ... إذا المزن ضنّت بصوب الدِّيم فقال: ألم يأت من جمعةٍ ... فقلت كذبت فأين الأدم؟ وأين القفاف الحسان القدود ... وأقداح جيشان تلك السُّلم وأين النِّعال وأين الفراء ... وأين البرود وأين البرم وأين القديد قديد الظِّباء ... وأين الملوَّز مثل العنم فقال: وحقّك ما جاءنا ... بشيءٍ سوى نفسه فاغتنم قدوم صديقك واستهده ... حديث الوفود وفود الأمم إلى البيت يشهدك أخباره ... عجائب عربهم والعجم فقلت: ألا ليت أخباره ... وناقلها خلف قافٍ ولم ولخلف بن خليفة الأقطع من بني قيس بن ثعلبة في جار له غاب ثم قدم، ولم يهد له، وكانت بينهما مصافاة: أتانا أخٌ من غيبةٍ غاب أشهراً ... وكنت إذا ما غاب أنشده الرَّكبا فجاء بمعروفٍ كثيرٍ فدسَّه ... كما دسَّ راعي السُّوء في حضنه الوطبا فقلت له: هل جئتني بهديَّةٍ ... فقال: بنفسي. قلت: آثر بها الكلبا هي الَّنفس لا آسى عليها وإن نأت ... ولا أتمنّى الدَّهر يوماً لها قربا إذا هي أوفت من ثمانين قامةً ... فلا السَّهل لقَّاها الإله ولا الرَّحبا أهدى أبو أسامة الكاتب إلى بعض إخوانه في يوم نيروز وسهماً وديناراً ودرهماً، وكتب إليه: لا زلت كالورد نضير الميسم ... ونافذاً مثل نفوذ الأسهم في عزّ دينارٍ ونجح درهم أهدى أبو إسحاق بن هلال الصابي إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً على قدر الدرهم محكم الصنعة وكتب إليه: أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا ... في مهرجانٍ عظيمٍ أنت تعليه لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... سموّ قدرك عن شيءٍ تساميه لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وأهدى شمس المعالي إلى عضد الدولة سبعة أقلام، وكتب إليه: قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... م لها في البهاء حظٌ عظيم مرهفاتٍ كأنّها ألسن الحيَّ ... ات قد جاز حدَّها التّقويم وتفاءلت أن ستحوى الأقالي ... م بها كلُّ واحدٍ إقليم وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كانت الهدية فيما مضى هدية، أما اليوم فهي رشوة. وقال كعب الأحبار: قرأت في ما أنزل الله على بعض أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكيم. وقال الشاعر: إذا أتت الهدية باب قومٍ ... تطايرت الأمانة من كواها باب الجار قالت عائشة: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيِّهما أهدي؟ قال: " إلى أقربهما باباً ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " لا يؤمن جارٌ حتى يأمن جاره بوائقه " وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه ". كان داود عليه السلام يقول: الّلهم إني أعوذ بك من جار سوءٍ، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني. مكتوب في التوراة: إنّ أحسد النّاس لعالمٍ وأنعاه عليه قرابته وجيرانه. وقال عكرمة: أزهد النّاس في عالم جيرانه. قال رجل لسعيد بن العاص: والله إنّي لأحبُّك. فقال له: ولم لا تحبنّي ولست بجار لي ولا ابن عم. كان يقال: الحسد في الجيران، والعدواة في الأقارب. روى يحيى بن يحيى الباجي، قال حدثني محمد بن الفضل المكّي. قال حدثني أبي عن إبراهيم عن عبد الله، قال: مرَّ مالك بن أنسٍ بقينة تغني شعر مسلم: أنت أختي وأنت حرمة جاري ... وحقيقٌ عليّ حفظ الجوار إنَّ للجار إن تغيبّ غيباً ... حافظاً للمغيب والأسرار ما أبالي أكان للباب سترٌ ... مسبل أم بقي بغير ستار فقال مالك: علموا أهليكم هذا ونحوه. وعن مالك، أيضاً، قال مالك بن أنس، قال أبو حازم: كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، فإن قلتم: لا.فبيننا وبينكم قول شاعرهم: ناري ونار الجار واحدةٌ ... وإليه قبلي تنزل القدر ما ضرَّ جاراً لي أجاوره ... ألاَّ يكون لبيته ستر أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتّى يواري جارتي الخدر قال أبو عمر: هذا الشاعر مسكين الدارميّ. وقال آخر:؟ أقول لجاري إذ أتاني معاتباً مدلا بحقٍّ أو مدلا بباطل إذا لم يتصل خيري وأنت مجاوري ... إليك فما شرِّي إليك بواصل قال الأصمعي: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار: جاورت شيبان فاحلولى جوارهم ... إن الكرام خيار النّاس للجار من كلام عليّ رحمه الله: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، أخذه الشاعر فقال: يقولون قبل الدّار جارٌ مجاورٌ ... وقبل الطَّريق الّنهج أنس رفيق وقال آخر:؟ اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم ... لا تصلح الدّار حتّى يصلح الجار وقال آخر: يلومونني أن بعت بالرُّخص منزلي ... ولم يعرفوا جاراً هناك ينغِّص فقلت لهم كفُّوا الملام فإنّها ... بجيرانها تغلو الدِّيار وترخص قال الحسن البصري رحمه الله: إلى جنب كلِّ مؤمن، منافقٌ يؤذيه. وقال بشَّار بن بشر المجاشعي: وإني لعفٌّ عن زيارة جارتي ... وإنّي لمشنوءٌ لدى اغتيابها إذا غاب عنّي بعلها لم أكن لها ... زؤوراً ولم تأنس إليّ كلابها ولم أك طلاّباً أحاديث سرِّها ... ولا عالماً من أي جنسٍ ثيابها قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك وتكف عنه أذاك. قال علّي للعباس رضي الله عنهما: مابقي من كرم أخلاقك؟ قال: الإفضال على الإخوان وترك أذى الجيران. كان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكنه الصبر على الأذى. قال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه:؟ يا سائلي عن حسينٍ وقد مضى أشكاله أقل ما في حسينٍ ... كفُّ الأذى واحتماله قال الحطيئة: لعمرك ما المجاور في كليبٍ ... بمقصىً في الجوار ولا مضاع هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصَّناع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع وقال الحسن بن عرفطة: ولم أر مثل الجهل يدعو إلى الرّدى ... ولا مثل جار السُّوء يكره جانبه وقال آخر: لا يأمن الجار شرّاً في جوارهم ... ولا محالة من شتم وألقاب ومثل هذا قول الآخر: أجلُّ العشيرة إمّا حضرت ... ولا أتعلّم ألقابها وقال حاتم الطائي ويروى لغيره: أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما عملت الزَّاد فاتَّخذي له ... أكيلاً فإنّي لست آكله وحدي بعيداً قصيّا أو قريباً فإنّني ... أخاف مذ مّات الأحاديث من بعدي وكيف يسيغ المرء زاداً وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد وقال غيره: سقياً ورعياً لأقوامٍ نزلت بهم ... كأنّ دار اغترابي عندهم وطني إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً ... علمت أنَّهم من حيلة الزَّمن وقال ابن حبناء: إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركبٌ فضلٌ فلا حملت رجلي ولم يك من زادي له نصف مزودي ... فلا كنت ذا زادٍ ولا كنت ذا رحل شريكين فيما نحن فيه وقد أرى ... عليَّ له فضلاً بما نال من فضلي ويروى لحاتم الطائي. تذاكر أهل البصرة من ذوي الآداب والأحساب في أحسن ما قاله المولدون في حسن الجوار من غير تعسف ولا تعجرف، فأجمعوا على بيتي أبي الهندي وهما: نزلت على آل المهلَّب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمنٍ محل فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وبرُّهم حتّى حسبتهم أهلي باب الضَّيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلة الضّيف حقٌ واجب ". وقد أوضحنا في كتاب " التمهيد " معنى هذا الحديث وغيره في الضيافة، وذكرنا قول من أوجبها ومن ندب إليها؟ ووجوه أقوالهم واعتلالهم والحمد لله وحده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، وما زاد فهو صدقة، ولا يحل أن يثوي غيره حتى يحرجه ". قيل للأوزاعي: رجل قدِّم إلى ضيفه الكامخ والزيتون، وعنده اللحم والعسل والسمن؟ فقال: هذا لا يؤمن بالله واليوم الآخر. قال أبو ذؤيب: لا درَّ درِّى إن أطعمت نازلهم ... خبز الشَّعير وعندي البرُّ مكنوز قال نافع: كان ابن عمر إذا نزل على قوم لا يأكل لهم شيئاً فوق ثلاث، ويقول بعد الثلاث: أمسكوا عنا صدقتكم، ويقول لي: أنفق من عندك. ذكر أبو عبيدة أن معاوية قال يوماً لجلسائه: أي أبيات العرب في الضيافة أحسن؟ فاختلفوا وأكثروا، فقال معاوية: قاتل الله أبا النجم حيث يقول: لقد علمت عرسي فلانة أنَّنى ... طويلٌ سنا ناري بعيدٌ خمودها إذا حلَّ ضيفي با لفلاة ولم أجد ... سوى منبت الأطناب شبَّ وقودها وقالوا: أحسن شيء في الضيافة قول مسكين الدارميّ: طعامي طعام الضَّيف والرَّحل رحله ... ولم يلهني عنه غزالٌ مقنَّع أحدِّاثه إنّ الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع وقال العلوي صاحب الزنج: يستأنس الضَّيف في أبياتنا أبداً ... فليس يعلم خلقٌ أيُّنا الضَّيف ولخالد عينين، وإنما قيل له خالد عينين لأنه كان ينزل أرضا بالبحرين: يقال لها عينين: أيها الموقدان شبَّا سناها ... إنّ للضَّيف طارفي وتلادي وقال عوف بن الأحوص. ومستنبحٌ يغشى الغداة ودونه ... من الَّليل بابا ظلمةٍ وستورها رفعت له ناري فلمّا اهتدى لها ... زجرت كلابي أن يهرَّ عقورها فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا ردَّ عافي القدر من يستعيرها ترى أن قدري لا تزال كأنَّها ... لدى الغرث المقرور أمٌ يزورها وقال حسان بن ثابت: يغشون حتّى ما تهرُّ كلابهم ... لا يسألون عن السَّواد المقبل وقال أبو الطحان القيني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقد عرفت كلابهم ثيابي ... كأنّي منهم ونسيت أهلي وقال المَّرار الحملي: ألف النَّاس فما يهجمهم ... من عسيف يبتغي الخير وحرّ وقال امرؤ القيس: أعرف الحقّ ولا أجهله ... وكلابي أنسٌ غير عقر ما يرى كلبي إلا آيساً ... إن رأي خابط ليلٍ لم يهر وقال حاتم الطائي: إذا ما بخيل النّاس هَّرت كلابه ... وشقّ على الضَّيف الغريب عقورها فإن كلابي قد أقرَّت وعوِّدت ... قليلٌ على من يعتريها هريرها وقال يعقوب الخريمي: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخضب عندي والمحلُّ جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنَّما وجه الكريم خصيب وللشماخ في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: إنك يا ابن جعفر خير الفتى ... وخيرهم لطارقٍ إذا أتى وربَّ نضوٍ طرق الحيّ سرىً ... صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى إنّ الحديث جانبٌ من القرى وقال سهل الوراق: وضيفك قابله بِّبرك وليكن ... له منك أبكار الحديث وعونه وقال آخر: سلي الطارق المعترَّ ياأمّ مالكٍ ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري أأبسط وجهي؟ إنَّه أوّل القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري تمثل بهذين البيتين عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في جوابه معاوية. أما قول الشاعر: بئس عمر الله قوماً طرقوا ... فقروا أضيافهم لحماً وحر فإنه أراد لحماً دبت عليه الوحرة، وهي دويبَّة كالعظاية خضراء إذااجتمعت تلتصق بالأرض: الجمع: وحر، ومنه قيل وحر الصدر، كما قيل للحقد ضبّ، ذهبوا به إلى لزوقه بالصَّدر التزاق الوحرة بالأرض، يقال: لحم وحر، إذا دبّت عليه الوحرة. ولبن فئر إذا وقعت فيه الفأرة. وقال رجل من بني فقعس، وهو الحارث بن يزيد، يمتدح نفسه بخدمة الضيف: لعمر أبيك الخير إني لخادمٌ ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس وقال المقنّع الكندي: وإني لعبد الضِّيف مادام نازلاً ... وما شيمةٌ لي غيرها تشبه العبدا وما امتدح به ذم بضده، قال الشاعر: تراهم خشية الأضياف خرساً ... يصلُّون الصَّلاة بلا أذان وقال حمّاد عجرد: وجدت أبا الصَّلت ذا خبرةٍ ... بما يصلح المعدة الفاسده تخوّف تخمة أضيافه ... فعلّمهم أكلة واحده وقال عمرو بن الأهتم التَّميمي المنقري من أشرافهم، وكان شاعراً محسناً، يقال: كأن شعره حللٌ منشَّرة، وله صحبة: ذريني فإنَّ الشُّحَّ يا أم مالكٍ ... لصالح أخلاق الرِّجال سروق ذريني وحظِّي في هواي فإنَّني ... على الحسب العالي الرفيع شفيق ومستنبحٍ بعد الهدوء أجبته ... وقد حان من ساري الشتاء طروق فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيتٌ صالحٌ وصديق أضفت ولم أفحش عليه، ولم أقل: للأحرمهإنَّ الفناء يضيق لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق وقال آخر: وطريد ليل ساقه سغبٌ ... وهناً إليَّ وقاده برد أوسعت جهد بشاشةٍ وقرىً ... وعلى الكيم لضيفه الجهد ثم اغتدى ورداؤه نعمٌ ... أسديتها وردائي الحمد وقال القاسم بن أميَّة بن أبي الصّلت: قومٌ إذا نزل الغريب بأرضهم ... ردُّوه ربَّ صواهل وقيان باب المعروف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " كلُّ معروفٍ صدقة ". قال أبو جرى الهجيمي: يارسول الله أوصني. فقال: " لا تحقرنَّ شيئاًمن المعروف أن تأتيه، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقى، ولو أن تلقي أخاك ووجهك منبسطٌ إليه ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أهل المعروف في الدُّنيا، هم أهل المعروف في الآخرة ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إذا طلبتم المعروف فاطلبوه عند حسان الوجوه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلُّكم على شيءٍ يحبُّه الله ورسوله؟ " قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: " المعروف والتَّغابن للضَّعيف ". قال عيسى عليه السلام: استكثروا من شيء لاتمسّه النار. قالوا: وما هو يا روح الله؟ قال: المعروف. قال عبد الله بن عباس: ما رأيت رجلاً أوليته معروفاً إلا أضاء مابيني وبينه، ولا رأيت رجلاً فرط إليه مني شيء إلا أظلم ما بيني وبينه. قال زيد بن علي بن حسين: ما شيء أفضل من المعروف ولا ثوابه ولا كلُّ من رغب فيه يقدر عليه ولا كلّ من قدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمت السعادة للطالب والمطلوب منه. قال ابن عباس: المعروف أيمن زرع، وأفضل كنز، ولا يتم إلا بثلاث خصال: بتعجيله وتصغيره وستره. فإذا عجّل هني، وإذا صغّر فقد عظم، وإذا ستر فقد تمِّم. قال زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتَّق الشَّتم يشتم وقال أخر: إنَّ ابتداء العرف مجدٌ باسقٌ ... والمجد كلُّ المجد في استتمامه إنَّ الهلال يروق أبصار الورى ... حسناً وليس كحسنه لتمامه أنشد الزبير بن بكّار: أبل من شئت تقله ... عن قليلٍ لفعله ضاع معروف واضع ال ... عرف في غير أهله قال القاسم بن معن، قال رجل لعون بن عبد الله بن عتبة: ما السخاء؟ قال: التأني للمعروف. قال فما البخل؟ قال: الاستقضاء على الملهوف. قال ابن عباس لا يزهِّدنك في المعروف كفرٌ من كفر، فإنه يشكرك عليه من لم يصنعه. كان يقال: في كل شيء سرفٌ إلاّفي المعروف. قال حبيب: وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعةً ... من جاهه فكأنَّها من ماله كان يقال: لا يزهِّدنك في المعروف دمامة من يسديه إليك، ولا ينبو بصرك عنه، فإن حاجتك في شكره ووفائه لا منظره، وإن لم يكن أهله فكن أنت أهله. قال الشاعر: ولم أر كالمعروف أمَّا مذاقه ... فحلوٌ وأمَّا وجهه فجميل تمثل رجل عند عبد الله بن جعفر بقول الشاعر: إنَّ الصَّنيعة لا تكون صنيعةً ... حتَّى يصاب بها طريق المصنع فإذا أصبت صنيعةً فاعمد بها ... لله أو لذوي القرابة أو أودع فقال عبد الله بن جعفر: هذان البيتان يبخّلان الناس، لا. ولكن أمطر المعروف إمطاراً، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً، وإن أصاب اللئام كنت له أهلا. كان يقال: من أسلف المعروف كان ربحه الحمد. قال عمرو بن العاص: في كل شيءٍ سرفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع معروف، أو إظهار مروءة. وكان يقال: كما يتوخَّى للوديعة أهل الأمانة والثقة، كذلك ينبغي أن يتوخَّى بالمعروف أهل الوفاء والشكر. كان يقال: إعطاء الفاجر يقوّيه على فجوره، ومسألة اللئيم إهانة للعرض، وتعليم الجاهل زيادة في الجهل، والصّنيعة عند الكفور إضاعة النعمة، فإذا هممت بشيء من هذا، فارتد الموضع قبل الإقدام على الفعل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الصَّنيعة لا تكون إلاَّفي ذي حسبٍ أو دين، كما أنَّ الرِّياضة لا تكون إلا في نجيب ". مكتوب في التوراة:افعل إلى امرئ السُّوء خيراً يجزك شراً. كان يقال: صاحب المعروف لا يقع، فإذا وقع أصاب متكئاً. قال الشاعر: ودون النَّدى في كلِّ قلبٍ ثنيةٌ ... لها منجدٌ حزنٌ ومنحدرٌ سهل يودُّ الفتى في كلِّ نيلٍ ينيله ... إذا ما انقضى لو أنَّ نائله جزل كان الحجاج بن يوسف يقول: خير المعروف ما أنعشت به الكرام. كان يقال: من لم يرب معروفه فكأنه لم يصطنعه. كان يقال: أحي معروفك بإماتته. كتب أرسطو طاليس إلى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، وطلبك ذلك منها بالإحسان أدوم بقاء لإحسانك منه باعتسافك، وأعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطَّها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول، قدرت على أن تفعل، فاجهد ألاّ تقول تسلم من أن تفعل. كان يقال: اتق أن يسدّ عنك طريق المعروف بالكفر أو بالمنّ، فإن المنّ يفسد الصنيعة والكفر يمحوها، والشكر يمحوها والشكر يجلب النعمة. قال الشاعر: أفسدت بالمنّ ماأوليت من حسنٍ ... ليس الكريم بما أسدى بمنَّان وقال الحسن بن هانئ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فامض لا تمنن عليَّ يداً ... منك المعروف من كدره قال معاوية ليزيد: يابني اتخذ المعروف منالا عند ذوي الأحساب تشتمل به مودتهم، وتعظم في أعينهم، وتكف به عاديهم، وإياك والمنع، فإنه ضد المعروف. كان يقال: حصاد من يزرع المعروف في الدنيا، اغتباط في الآخرة. ذم أعرابي رجلا، فقال: كان سمين المال، مهزول المعروف. قال الزهيري: من زرع معروفاً حصد خيراً، ومن زرع شراً حصد ندامة. قال الشاعر: من يزرع الخير يحصد ما يسرُّ به ... وزارع الشَّرِّ منكوسٌ على الرَّأس وقال الراجز: من يزرع الخير يحصد حصاده ... موفَّراً يوماً إذا ماأراده قال بشر بن أبي خازم: وأيدي النَّدى في الصَّالحين فضول وقال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وقال عبد الله بن مبارك رضي الله عنه: يد المعروف غنمٌ حيث كانت ... تحمَّلها شكورٌ أو كفور ففي شكر الشَّكور لها جزاءٌ ... وعند الله ما كفر الكفور قال الأصمعي: سمعت أعرابيّاً يقول: أسرع الذنوب عقوبة كفر المعروف. ولابن دريد وقيل إنه أنشدها: وماهذه الأيَّام معارةٌ ... فما اسطعت من معروفها فتزوَّد فإنَّك لا تدري بأيَّة بلدةٍ ... تموت ولاما يحدث الله في غد قال بزرجمهر: خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر، واحتسب فيه الأجر، وارتهن فيه الشكر، واسترقّ فيه الحرّ. جمع كسرى مرازبته وعيون أصحابه، فقال لهم: على أي شيء أنتم أشد ندامة؟ قالوا: على وضع المعروف في غير أهله، وطلب الشكر ممن لا يشكره. قال الشاعر: وزهَّدني في كلِّ خيرٍ منعته ... إلى النَّاس ماجرَّبت من قلَّة الشُّكر وقال آخر: النَّاس من شاكرٍ للعرف محتملٍ ... ومن كفورٍ لما أوليته زمر فابسط يد الجود تحمل بعض نائلها ... وإنّما النَّاس والمعروف كالغرر وقال آخر: ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يلاقي الّذي لاقى مجير أمَّ عامر قال المهلب: عجبت لمن يشتري المماليك بماله، ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وقال: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حرّاً تملكه. قال المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت الَّلئيم تمرَّدا قال عبد مناف: دواء من لم يصلحه الإكرام الهوان. قال الشاعر: من لم يؤدِّبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه وقال محمود الوراق: فكَّرت في المال وفي جمعه ... فكان ما يبقى هو الفاني وكان ما أنفقت في أوجه ال ... برِّ بمعروفٍ وإحسان هو الَّذي يبقى وأجزى به ... يوم يجازى كلُّ إنسان ومن فساد العرف إحصاؤه ... وذكره في كلِّ إبَّان فانشر إذا أوليت عرفاً وإن ... أوليته فاستر بنسيان باب الشُّكر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من أولى معروفاً فلم يجد إلا الثنا فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ". وقال صلّى الله عليه وسلّم: " من أهدى إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء ". سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عائشة رضي الله عنها تنشد لليهودي: ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما يجزيك أو يثنى عليك وإنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى فقال: " قاتله الله ما أحسن ما قال!، من لم يجد إلا الدعاء والثناء فقد كافأ ". وفي رواية أخرى لهذا الخبر عن عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " أنشدي شعر ابن الغريض اليهودي حيث قال: إن الكريم " فأنشدته: إنَّ الكريم إذا أراد وصالنا ... لم يلف حبلي واهياً رثَّ القوى أرعى أمانته وأحفظ غيبه ... جهدي فيأتي بعد ذلك ماأتى أجزيه أو أثني عليه فإنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وهذا الشعر لا يصح فيه إلا ماروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه للغريض اليهودي وهو الغريض بن السموءل بن عادياء اليهودي، من ولد الكاهن هرون بن عامر بن ساعر، وأما أهل الأخبار، فاختلفوا في قائله، فقيل: هو لورقة بن نوفل، وقيل هو لزهير بن جناب الكلبي، وقيل: لعامر بن المجنون وقيل ليزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من قال: إنه ليزيد عن عمرو أو ورقة بن نوفل البيتان الأولان، والصحيح فيها وفي الأبيات غيرها أنهما للغريض اليهودي والله أعلم. قال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن: لوكنت أعرف فوق الشُّكر منزلةً ... أعلى من الشكر عند الله في الثَّمن إذا منحتكها منِّي مهنَّدةً ... شكراً على صنع ما أوليت من حسن وقال آخر في يحيى بن خالد البرمكي: طلبت ابتغاء الشُّكر فيما فعلت بي ... فقصَّرت مغلوباً وإنِّي لشاكر لقد كنت تعطيني الجزيل بديهةً ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر فأرجع مقنوطاً وترجع بالَّتي ... لها أوَّلٌ في المكرمات وآخر ومما أنشده الرياشي: شكري لفعلك فانظر في عواقبه ... تعرف بفضلك ما عندي من الشُّكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها، وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له إن يستغفر، وإن الرجل ليلبس الثوب فيحمد الله فما يبلغ ركبته حتى يغفر له ". وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل ". وقال: " أشكر الناس لله عز وجل أشكرهم لعباده، ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ". وفي التفسير: " اعملوا آل داود شكراً ". قالوا: الطاعات كلها شكر، وأفضل الشكر الحمد. وفي قوله في نوح عليه السلام: " إنَّه كان عبداً شكوراً "، وقالوا: كان لا يقوم ولا يقعد، ولا يلبس ثوباً، ولا يأكل ولا يشرب إلا حمد الله، فأثنى عليه الله بذلك. مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت، ولا مقام لها إذا كفرت، والشكر زيادة في النعم، وأمان من الغير. قال أبو نخيلة:؟ شكرتك إنَّ الشُّكر حبلٌ من التُّقى وما كلُّ من أوليته نعمةً يقضي وأحييت من ذكري وما كنت خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض قال حذيفة بن اليمان: ماعظمت نعمة الله على أحد إلاّ ازداد حقّ الله عليه عظما. قال عروة بن الزَّبير: من لم يعرف سوء ما يبلى لم يعرف خير مايولى. قال جعفر بن محمد: ماأنعم الله على عبد نعمة فعرفها بقلبه وشكرها بلسانه فما يبرح حتى يزداد. قال ابن عباس: لوقال لي فرعون خيراً لرددت عليه مثله. قيل لسعيد بن جبير: المجوسيّ يوليني خيراً فأشكره؟ قال: نعم قال أوس بن حجر: وقيل: إنه لأبي يعقوب الخريمي: سأجزيك أو يجزيك عنِّي ربُّنا ... وحسبك منِّي أن أودَّ وأحمدا ولأبي المعافي يعقوب بن إسماعيل بن رافع، مولى مزينة في بكار بن عبد الله الزبيري: إنَّني أثني بما أوليتني ... لم يضع حسن بلاءٍ من شكر إنَّني والله لا أكفركم ... أبداً ما صاح ديكٌ في السَّحر وقال آخر: فلو كان يستغني عن الشُّكر ماجدٌ ... لعزَّة ملكٍ أو علوِّ مكان لما ندب الله العباد لشكره ... فقال اشكروني أيُّها الثَّقلان وقال آخر: سأشكر عمرا ما تراخت منيَّتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلَّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشَّكوى إذاالنَّعل زلَّت وقال آخر: رأى خلَّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتَّى تجَّلت وقال آخر: لئن طبت نفساً عن ثنائي فإنَّني ... لأطيب نفساً من نداك على عسري فلست إلى جدواك أعظم حاجةً ... على شدَّة الإعسار منك إلى شكري قال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعمة شكر. قال جعفر بن محمد: من لم يشك الجفوة لم يشكر النعمة. قال الشاعر: إذا أنا لم أعرف لذي الفضل فضله ... ولم ألم الخبَّ الَّلئيم المذمَّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ففيم عرفت الخير والشَّرَّ باسمه ... وشقَّ لي الله المسامع والفما وقال آخر: والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم وقال آخر: وماتخفي الصَّنيعة حيث كانت ... ولا الشُّكر الصَّحيح من السَّقيم وقال العتابي: فلوكان للشُّكر شخصٌ يرى ... إذا ما تأمَّله النَّاظر لمثَّلته لك حتَّى تراه ... فتعلم أنَّي امرؤٌ شاكر وقال آخر: وإنَّك إن ذوّقتني ثمر الغنى ... حمدت الَّذي تجنيه من ثمر الشُّكر وإن يفن ما أعطيتني اليوم أو غداً ... فإنَّ الَّذي أعطيك يبقى على الدَّهر وقال آخر: لأشكرنَّك معروفاً هممت به ... إنَّ اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدرٌ ... فالرِّزق بالقدر المحتوم مصروف قال سليمان التيميّ: إن الله عز وجل أنعم على عباده بقدر طاقته، وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم. قالوا: كلّ شكر وإن قلّ، ثمن لكل نوال وإن جلّ. كانت هند بنت المهلب تقول: إذا رأيتم النعمة مستبدرة فبادروها بالشكر قبل حلول الزوال. وقال أبو النواس: أنت امرؤٌ أوليتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا لا تجدثنَّ إليَّ عارفةً ... حتَّى أقوم بشكر ماسلفا وقال البحتري: من لا يقوم بشكر نعمة حبِّه ... فمتى يقوم بشكر نعمة ربِّه أنشد المبرد لمحمود الوراق: إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ... عليَّ له في مثلها يجب الشُّكر فكيف بلوغ الشُّكر إلاّ بفضله ... وإن طالت الأيَّام واتَّصل العمر إذا سرَّ بالسَّراء عمَّ سرورها ... وإن مسَّ بالضَّراء أعقبها الأجر ومامنهما إلاّ له فيه نعمةٌ ... تضيق بها الأوهام والبرُّ والبحر قال أبو العباس المبرد: هذا معنى لطيف، يقول: إن الله عز وجل لا يحمد إلا بتوفيقه، فيجب أن يحمد على التوفيق، ثم يجب في الحمد الثاني مايجب في الحمد الأول أبداً إلى حيث لا نهاية، ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله: إذا أنت لم تزدد على كلِّ نعمةٍ ... قد آتاكها شكراً فلست بشاكر ومن أبيات ليزيد بن محمد المهلبي في هذا المعنى: فكيف بشكر ذي نعم إذا ما ... شكرت له فشكري منه نعمه قال رجل من قريش لأشعب الطمع: ياأشعب! أحسنت إليك فلم تشكر! فقال: إن معروفك خرج من غير محتسب إلى غير شاكر. قالوا: لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه. قال الشاعر:؟ إذا الشَّافع استقصى لك الجهد كلَّه وإن لم تنل نجحاً فقد وجب الشُّكر وقال آخر: والحمد شهدٌ لا يرى مشتاره ... يجنيه إلا من نقع الحنظل وقال آخر: دنوت للمجد والسَّاعون قد بلغوا ... جهد النُّفوس وشدُّوا دونه الأزرا وساوروا المجد حتَّى ملَّ أكثرهم ... وعانق المجد من وفّي ومن صبرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتَّى تلعق الصَّبرا قال جعفر بن محمد: مامن شيء أسرُّ إليَّ من يد أتبعها أخرى، لأنَّ مع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل. بابٌ في طلب الحاجات قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيِّه ماشاء ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإنَّ كلّ ذي نعمة محسود ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ لله عباداً خلقهم لحوائج النَّاس، هم الآمنون يوم القيامة ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ". قال الشاعر: أنت وصف الَّنبيِّ إذ قال يوماً ... اطلبوا الخير من حسان الوجوه وقال محمد بن واسع لقتيبة بن مسلم: إنِّي أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن أذن الله فيها قضيتها وحمدناك، وإن لم يأذن الله فيها لم تقضها وعذرناك. قال يونس رحمه الله: أنزلت بالحرِّ إبراهيم مسألةً ... أنزلتها قبل إبراهيم بالله فإن قضى حاجتي فالله يسَّرها ... هو المقدِّرها والآمر والنَّاهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 إذا أبى الله شيئاً ضاق مذهبه ... على الكبير العريض القدر والجاه وقال أبو العتاهية: خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه إلى الفرج كتب سوار بن عبد الله بن سوار القاضي إلى محمد بن عبد الله بن طاهر: لنا حاجةٌ والعذر فيها مقدَّمٌ ... خفيفٌ معنَّاها مضاعفة الأجر فإن تقصنها فالحمد لله ربِّنا ... وإن تكن الأخرى ففي أوسع العذر على أنَّه الرَّحمن معطٍ ومانعٌ ... وللرِّزق أسبابٌ إلى قدرٍ تجري فأجابه محمد بن عبد الله بن طاهر: فسلها تجدني موجباً لقضائها ... سريعاً إليها لا يخالطني فكر شكورٌ بإفضالي عليك بمثلها ... وإن لم تكن فيما حوته شكر فهذا قليلٌ لَّلذي قد رأيته ... لحقِّك لا منٌّ من لديّ ولا فخر قال معاوية يوماً لعمرو بن العاص: لي إليك حاجة. قال: ولي إليك حاجة ياأميرالمؤمنين. قال:تهب لي الوهط. قال: هو لك يا أمير المؤمنين. قال معاوية: اذكر حاجتك قال: ترده علي. قال جعفر بن محمد: حاجة الرجل إلى أخيه فتنة لهما، إن أعطاه شكر من لم يعطه، وإن منعه ذم من لم يمنعه. قال خالد بن صفوان: لاتطلبوا الحوائج عند غير أهلها، ولا تطلبوها في غير حينها، ولا تطلبوا مالا تستحقون منها، فإن من طلب مالا يستحق استوجب الحرمان. كان يقال: إذا طلب العاقل إلى كريم حاجة انقضت، لأن العاقل لا يطلب إلا ما يمكن، والكريم إذا سئل ما يمكن لم يمنع. كان يقال: إذا أحببت أن تطاع، فلا تسل مالا يستطاع. قال عامر بن خالد بن جعفر ليزيد بن الصَّعق: إنك إن كلَّفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرَّك منِّي من خلق قال رجل للأحنف: أتيتك في حاجة لا تزرؤك ولا تنكؤك. قال: إذاً لا تقضى، أمثلي يؤتي فيما لا يرزأ ولا ينكأ. قال رجل للعباس بن محمد، أو لعبد الله بن عباس: أتيتك في حاجة صغيرة، قال: فاطلب لها رجلاً صغيراً. قيل لآخر: أتيتك في حاجة. قال: اذكرها، فإن الحرّ يقوم بصغير الحاجات وكبيرها. كان يقال: لا تستعن على حاجة بمن هي طعمته، ولا تستعن بكذاب، فإنه يقرب البعيد ويباعد القريب، ولا تستعن على رجل بمن له إليه حاجة. قال ابن المقفع: الحاجة يعتري صاحبها الخيفة من مكانين: الاستقبال بها قبل وقتها، والثاني حتى تفوت، وأنشد: وقد يفوت أناساً بعض ما طلبوا ... عند التَّأنِّي فكان الحزم لو عجلوا قال أبو فزارة الغاضريّ: أصل العبادة ألا تسأل سوى الله حاجة، فلكل أحد في الله عوض من كل أحد، وليس لأحد من الله عوض بأحد. سأل رجل مطرّف بن عبد الله بن الشِّخّير حاجة، فقال:من كانت له إلي حاجة فليكتبها في رقعة، فإني أرغب بوجوهكم عن مكروه السؤال. كان يقال: لا تصرف حوائجك إلى من معيشته في رءوس المكاييل والموازين. قال العرزمي وروى لأبي الأسود الدؤلي: وإذا طلبت إلى كريم حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتَّسليم وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً ... فألحَّ في رفقٍ وأنت مديم وقال آخر: لا تطلبنَّ إلى لئيمٍ حاجةً ... واقعد فإنَّك قائماً كالقاعد ياخادع البخلاء عن أموالهم ... هيهات تضرب في حديدٍ باردٍ وقال أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان: أأطلب حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنَّ شيمتك الحياء كريمٌ لا يغيِّره صباحٌ ... عن الفعل الجميل ولا مساء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرُّضه الثَّناء وقال جرير يخاطب عمر بن عبد العزيز: أأذكر الضُّرَّ والبلوى التي نزلت ... أم أكتفي بالذي بلِّغت من خبري وقال آخر: كفاك مذكِّراً وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني وقال آخر: أروح بتسليمٍ عليك وأغتدي ... وحسبك بالتَّسليم منِّي تقاضيا كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناءً وباليأس المصرَّح ناهيا وقال آخر: تخلَّ لحاجتي واشدد قواها ... فقد أمست بمنزلة الضَّياع إذا أرضعتها بلبان أخرى ... أضرَّتها مشاركة الرَّضاع وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ولا تستعيننَّ في حاجةٍ ... بمن يبتغي حاجةً مثلها فينسى الَّذي كنت كلَّفته ... ويبدأ بحاجته قبلها وقال آخر: وإذا يصيبك والحوادث جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثق وقال أبو العتاهية: اقض الحوائج ما استطع ... ت وكن لهمِّ أخيك فارج فلخير أيَّام الفتى ... يومٌ قضى فيه الحوائج وقال الحارثي: وما روضةٌ علويَّةٌ أسديَّةٌ ... منمنمةٌ زهراء ذات ثرى جعد سقاها النَّدى في غفلة الدَّهر نوءها ... فنوَّارها يهتز كالكوكب السَّعد بأحسن من حرٍّ تضمَّن حاجةً ... لحرٍ فأوفى بالنَّجاح وبالرِّفد قال عمر بن أبي ربيعة: إنَّ لي حاجةً إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد كان يقال: من بكر يوم السبت في حاجة، كان حقاً على الله قضاؤها. قال بشار بن برد: بكِّرا صاحبيَّ قبل السَّحور ... إنَّ جلَّ النَّجاح في التَّبكير قالوا: من صبر على حاجة ظفر بها ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اصبر على مضض الإدلاج في السَّفر ... وفي الرَّواح إلى الحاجات والبكر لا تضجرنَّ ولا يعجزك مطلبها ... فالنُّجح يتلف بين العجز والقصر إنِّي رأيت وفي الأيَّام تجربةٌ ... للصَّبر عاقبةً محمودة الأثر وقلَّ من جدَّ في شيءٍ يطالبه ... واستصحب الصَّبر إلاَّفاز بالظَّفر وقال محمد بن بشير: إنَّ الأمور إذا انسدَّت مسالكها ... فالصَّبر يفتق منها كلَّ ماارتتجا لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبةٌ ... إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا أخلق بذي الصَّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلاً حاجة فلم يقضها له، وسألها غيره فقضاها إليه فكتب هذه الأبيات: ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولَّى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب الحمد رأيٌ مقصِّرٌ ... ونفسٌ أضاق الله في الخير باعها إذا هي حثَّته على الخير مرَّةً ... عصاها وإن همَّت بسوءٍ أطاعها الإلحاح لا يصلح ولا يحمل إلا على الله عز وجل. قال مؤرق العجلي: سألت ربي حاجة عشرين سنة، فماانقضت لي ولا يئست منها. قال أبو العتاهية: في النَّاس من تسهل المطالب أح ... ياناً عليه وربَّما صعبت ما كلُّ ذي حاجةٍ بمدركها ... كم من يدٍ لا تنال ما طلبت من لم يسعه الكفاف معتدلاً ... ضاقت عليه الدُّنيا بما رحبت وقال القطامي: قد يدرك المتأنِّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزَّلل كان بنو يربوع يوصون أولادهم، فيقولون: استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل فذلك أنجح لكم. قال أبو نواس: ولن يدرك الحاجات من حيث ينبغي ... من النَّاس إلاَّ المصبحون على رجل وقال أشجع السلمي: ليس للحاجات إلا ... من له وجهٌ وقاح وابتكارٌ ودوامٌ ... وغدوٌّ ورواح إن تكن أبطأت الحا ... جة عنِّي والسَّراح فعليَّ الجهد فيها ... وعلى الله النَّجاح وقال آخر: هيبة الإخوان قاطعةٌ ... لأخي الحاجات عن طلبه فإذا ماهبت ذا أملٍ ... مات ما أمَّلت من سببه وقال آخر: طلب الحوائج كلّها تغرير ... لا ترض معجزةً وأنت قدير وقال دعبل بن علي الخزاعي: جئتك مستشفعاً بلا سبب ... إليك إلاَّ بحرمة الأدب فاقض ذمامي فإنَّني رجلٌ ... غير ملحٍّ عليك في الطَّلب وقال آخر: من عفَّ خفَّ على الصَّديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مملول وقال آخر: وإذا هممت فأمض همَّك إنّما ... صلب الحوائج كلها تغرير اختلف أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع في حاجة زماناً فلم يقضها له، فكتب إليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أكلّ طول الزِّمان أنت إذا ما ... جئت في حاجةٍ تقول غدا لا جعل الله لي إليك ولا ... عندك ما عشت حاجةً أبدا وقال آخر وأظنه محمود الوراق: وذي ثقةٍ تبدَّل حين أثرى ... وما شيمي موافقة الثِّقات فقلت له عتبت عليَّ ظلماً ... فراراً من مؤونات العدات فعد لمودَّتي وعليَّ نذرٌ ... سؤالك حاجةً حتَّى الممات كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف: لئن عدت بعد اليوم إنِّي لظالمٌ ... سأصرف نفسي حين تبغى المكارم متى ينجح الغادي إليك لحاجةٍ ... ونصفك محجوب ونصفك نائم وقال الصلتان العبدي: نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجةٌ ما بقي وقال أبو العتاهية: متى تنقضي حاجات من ليس واصلاً ... إلى حاجةٍ حتَّى تكون له أخرى وقال آخر: إنَّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا صادفت هوىً في الفؤاد سئل بعض الحكماء حاجة فامتنع، فعوتب في ذلك، فقال: لأن يحمر وجهي مرة خير من أن يصفر وجهي مراراً. قال منصور الفقيه: من قال لا في حاجةٍ ... مطلوبةٍ فما ظلم وإنَّما الظَّالم من ... يقول لا بعد نعم وقال آخر: إذا قلت في شيءٍ نعم فأتمَّه ... فإن نعم دينٌ على الحرِّ واجب وإلاَّ فقل لا تسترح وترح بها ... لئَّلا يقول النَّاس إنَّك كاذب وقال آبو العتاهية: لا يزال المرء ما عاش له ... حاجةٌ في الصَّدر منه تعتلج ربَّ أمرٍ قد تضايقت به ... ثمَّ يأتي الله منه بالفرج وقال آخر: لئن أخطأت في مدحي ... ك ماأخطأت في منعي لقد أحللت آمالي ... بوادٍ غير ذي زرع وقال آخر: قد تخرج الحاجات ياأمَّ مالكٍ ... كرائم من ربٍّ بهنَّ ضنين وقال أشجع السلمي: قد خرجت حاجات أهل الحجا ... بنجحها وامتنع المنهج وليس فيهم رجلٌ واحدٌ ... منِّي إلى حاجته أحوج يريبني أنِّي أرى حاجتي ... تدخل في الحاج ولا تخرج أقول إذا أقلقني عاذلٌ ... بكلِّ ما أكرهه ملهج قد يدرك الأمر أناة الفتى ... ويسبق في الحاجة من يدلج باب السُّلطان والسِّياسة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلُّكم راع وكلُّكم مسؤلٌ عن رعيَّته، فالإمام الّذي على النَّاس راعٍ عليهم ومسؤلٌ عنهم، والمرأة راعيةٌ على مال زوجها وهي مسؤلةٌ عنه ". وقال عليه السلام: " الإمام العدل لا تكاد تردُّ دعوته ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المقسطون يوم القيامة على منابر من نورٍ عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه يمين لا يفزعون إذا فزع النَّاس ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلُّ أميرٍ لم يحط رعيَّته بالنَّصيحة لم يرح رائحة الجنة " قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدةٌ في غير عنف، ولين في غير ضعف. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة بعيد الغور، لا يطّلع الناس منه على غوره، ولا يخاف في الله لومة لائم. وعن عمر رضي الله عنه قال أيضاً: لا يقيم أمر الله إلاّ رجلٌ يتكلم بلسانه كله، يخاف الله في الناس، ولا يخاف الناس في الله. لعليّ بن أبي طالب في أول كتاب كتبه: أمّا بعد، فإنه أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري، وبسطوا الجور حتى اقتدي. قال مجّاعة بن مرارة الحنفي لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الملك والدين أخوان، لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالدّين أّس، والملك حارس فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع. قال عبد الله بن مبارك: إنَّ الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 كم يدفع الله بالسُّلطان معضلةً ... في ديننا رحمةً منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمّ أحد على سلطانه، ولا يجلس على تكرمة إلا بإذنه ". كان يقال: شرّ الأمراء أبعدهم من العلماء، وشر العلماء أقربهم من الأمراء. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من الملوك من إذا ملك زهّده الله فيما في يديه، ورغبه فيما يد غيره، وأشرب قلبه الإشفاق على ماعنده، فهو يحسد على القليل، ويتسخّط على الكثير. ولّي عليُّ بن أبي طالب عمَّ المختار بن أبي عبيد عكبرا، وقال له بين يدي أهلها: استوف منهم خراجهم، ولا تجدن عندك ضعيفاً ولا رخصة. ثم قال له: رح إليَّ، قال: فرحت إليه، فقال لي: قد قلت لك بين أيديهم ما قلت، وهم قومٌ خدعٌ، وأنا الآن آمرك بما إن قبلته وإلا أخذك الله به دوني، وإن بلغني خلاف ما أمرتك به عزلتك، لا تتبعنّ لهم رزقاً يأكلونه، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا تضربن رجلا منهم سوطاً في طلب درهم، ولا تقمه في السجن في طلب درهم، فإنا لم نؤمر بذلك، ولا تستعر لهم دابّة يعملون عليها، فإن أمرنا أن نأخذ منهم العفو. قال عمرو بن العاص لابنه: يا بنيّ!! احفظ عني ماأوصيك به، إمام عدل خير من مطر وبل، وأسدٌ حطوم خيرٌ من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم. رسالة أردشير بن بابك إلى الملوك بعده. من أردشير ملك الملوك، إلى الملوك الكائنين بعده: الخراج عمود المملكة بكنفه تعيش الرعية، وتحفظ الأطراف والبيضة، فاختاروا للعمل عليه أولى الطينة الحرة، من ذوي العقل والحنكة، وكفّوهم بسني الأرزاق يحموا أنفسهم من الارتفاق، فمااستغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور. ومن كلام الفرس في هذا الباب: لا ملك إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة،ولا عمارة إلا بعدل. ومن قولهم أيضاً: مثل الملك الذي يأخذ أموال رعيته ويجحف بهم، مثل من يأخذ الطّين من أصول حيطانه، فيطيَّن به سطوحه فيوشك أن تقع عليه البيوت. ومن كلامهم أيضاً، وينسب إلى أرسطاطاليس: العالم بستانٌ سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيه به السُّنة، السُّنة سياسة يسوسها الملك، الملك راع يعضّده الجيش، الجيش أعوان يكنفهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيدٌ يتعبّدهم العدل، العدل مألوفٌ وهو صلاح العالم. قال عبد الملك بن عمير: كان مكتوباً في مجلس زياد الذي يجلس فيه للناس بالكوفة، في أربع زوايا بقلم جليل: الوالي شديدٌ في غير عنف، ليِّنٌ في غير ضعف، العطية لأربابها والأرزاق لأوقاتها، البعوث لا تجمر، المحسن يحازى بإحسانه، والمسيء يؤخذ على يديه. فكان كلّما رفع رأسه قرأه. قال قتيبة بن مسلم: ملاك الأمر في السلطان: الشِّدة على المذنب، والِّلين للمحسن، وصدق القول. قال أشجع بن عمرو السلمي: لا يصلح السُّلطان إلاَّ شدَّةٌ ... تغشى البريء بفضل ذنب المجرم قال الوليد بن عبد الملك لأبيه عبد الملك: ياأمير المؤمنين! ماالسياسة؟ فقال: هيبة الخاصة مع شدع عفتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف منها. قال مسلمة بن عبد الملك: ماحمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز، ولا ذممتها على مكروه ابتدأته بحزم. قال معاوية لابنه يزيد: أعط من أتاك صادقاً بما تكره، كما تعطي من أتاك بما تحب، واعلم أنه إذا أعطى الأمير على الهوى لا على الغنى فسد ملكه. قيل لأنو شروان: إنك اصطنعت فلاناً ولا نسب له. فقال: اصطناعنا له نسبه. قال أبو جعفر المنصور: الذي عليّ للرعية أن أحفظ سبلهم، فينصرفون آمنين في سبيلهم ولا يصدّون عن حجهم، وقضاء نسكهم، وأن أضبط ثغورهم، وأحصّنها من عدوهم وأن أختار قضاتهم، وأعزل بالحق كيلا يصل ظلم بعضهم إلى بعض، وأن أرفع أقدار فقهائهم وعلمائهم، وأكف جهالهم عن حكمائهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج: صف لي الفتنة حتى كأني أراها رأي العين. فكتب إليه: لوكنت شاعراً لوصفتها لك في شعري، ولكني أصفها لك بمبلغ رأيي وعلمي، الفتنة تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، فلما قرأ كتابه، قال: إن ذلك لكما وصفت، فخذ من قبلك بالجماعة، وأعطهم عطايا الفرقة، واستعن عليهم بالفاقة، فإنها نعم العون على الطاعة، فأخبر بذلك أبو جعفر المنصور فلم يزل عليه حتى مضى لسبيله. قال بعض الحكماء من ملوك الفرس، لحكيم من حكماء مملكته: أي الملوك أحزم؟ قال: من غلب جدُّه هزله، وقهر لبُّه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن خطئه، ولاغضبه عن كيده. لما أراد عمرو بن العاص المسير إلى مصر، قال له معاوية: إني أريد أن أوصيك. قال: أجل. فأوص. قال: انظر فاقة الأحرار فاعمل في سدها، وطغيان السفلة فاعمل في قمعها، واستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. قال بعض الحكماء: الرعية للملك كالروح للجسد، فإذا ذهب الروح فني الجسد. وروى الهيثم بن عديّ، عن مجالد، عن الشعبي، قال عمر بن الخطاب: دلّوني عن رجل أستعمله فقد أعياني أمر المسلمين. قالوا له: عبد الرحمن بن عوف، قال لهم: ضعيف، قالوا له: فلان. قال: لا حاجة لي به. قالوا:فمن تريد؟ قال: رجل إذا كان أميرهم كان كأنّه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كان كأنه أميرهم. قالوا: ما نعلمه إلا الرّبيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم. قال أبو عمر: والربيع بن زياد هذا، كان فاضلا جليلا في قومه، ولاَّه معاوية خراسان، فاستكتب الحسن بن أبي الحسن فكان كاتبه، فلما بلغه قتل معاوية حجر بن عديّ، قال: الَّلهم إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجّل، فزعموا أنه لم يبرح من مجلسه حتى مات. كتب بعض ملوك العجم إلى ملك آخر منهم: قلوب الرعية خزائن ملوكها، فما أودعوها فليعلموا أنه فيها. قال الإسكندر لأرسطاطاليس: أوصني. قال: فانظر من كان له عبيد فأحسن سياستهم فولّه الجند، ومن كانت له ضيعةٌ فأحسن تدبيرها فولّه الخراج. وقال بعض الحكماء: لا تصغِّر أمر من جاء يحاربك، فإنك إن ظفرت لم تحمد وإن عجزت لم تعذر. قيل لكسرى ذي الأكتاف، وكان ضابطاً لمملكته: بم ضبطت ملكك؟ قال: بثمان خصال، لم أهزل في أمر ولا نهي، ولم أخلف وعداً ولا وعيداً، وولّيت للغنى لا للهوى، وعاقبت للأدب لا للغضب، وأوطأت قلوب الرعية الهيبة من غير ضغينة، وملأتها محبة من غير جرأة، وأعطيتها القوت، ومنعتها الفضول. قال عبد الملك بن عمير: سمعت زياداً وهو يخطب، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي ملّكنا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا، فلنا عليكم الطاعة فيما أحسنَّا، ولكم العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا بطاعتكم ومحض ودّنا بمناصحتكم، ومهما قصَّرت فيه من أداء حقكم فلن أقصر في ثلاث: لست محتجباً عن ذي حاجة ولو أتاني طارقاً بليل، ولا مجمِّراً لكم جيشاً، ولا حابساً عنكم عطاء ولا رزقاً لإبّانة، فادعوا الله لأئمتكم بالصلاح، فإنهم ساستكم المذبُّون وكهفكم الذي إليه تأوون، فإن تصلحوا يصلحوا، ولا تشعروا قلوبكم بغضتهم فيشتدَّ عيظكم، ويطول حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، فإنه لو استجيب لكم فيهم كان شراً لكم، نسأل الله أن يعين كلاًّ على كلّ. كان يقال: ينبغي للملك أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة عند الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن بإحسانه، والعمل بالأناة فيما يحدث له، فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان: المسارعة إلى الطاعة، وفي الأناة انفساح الرأي وإيضاح الصواب. كان يقال: من سعى بدليل في التدبير لم يقعد به إلاّ سابق قضاء لا يملك. ذكر المبرّد قال: كان بعض عقلاء ملوك الفرس إذا شاور من قد رتّبهم لمشورته فقصّروا في الرأي، دعا الذين قد وكّلهم في أرزاقهم فعاقبهم، فيقولون: يخطئ أهل مشورتك فتعاقبنا نحن. فيقول: نعم. إنهم لم يخطئوا إلاّ بتعلق قلوبهم بأرزاقهم فإذا اهتمُّوا لحاجاتهم أخطأوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قال بعض الحكماء لبعض الملوك: أوصيك بأربع خصال ترضى بهن ربَّك، وتصلح معهن رعيتك: لا يغرنَّك ارتقاء السهل إذا كان المنحدر وعراً، ولا تعدن وعداً ليس في يديك وفاؤه، واعلم أن الأمور بغتاتٌ فبادر، واعلم أن الأعمال جزاء، فاتَّق العذاب. قال زياد: كمال الرأي شدةٌ في غير إفراط، ولين في غير إهمال. ضرب مصعب بن الزبير وجه الأسقف بالقضيب، فقال: إني أجد في الإنجيل: لا ينبغي للإمام أن يكون سفيهاً ومنه يلتمس الحلم، ولا ينبغي له أن يكون جائراً ومن عنده يلتمس العدل. سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام أن يعرّفهم الزمان الذي يرضى فيه الله عن الناس، فقال: إذا استعمل منهم الهيِّن البرّالخّير. وفي خبر آخر: علامة رضا الله عن عباده أن يستعمل عليهم خيارهم، وأن ينزل الغيث في أوانه، وعلامة سخطه عليهم أن يولى عليهم شرارهم، وينزل عليهم الغيث في غير أوانه. قال معاوية لابن الكوَّاء: صف لي الزمان، فقال: أنت الزمان إن تصلح يصلح، وإن تفسد يفسد. خير من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمَّتي إذا صلحا صلح الناس، الأمراء والعلماء ". قال الأحنف بن قيس: كلّ ملك غدور، وكلّ دابة شرود، وكل امرأة خئون؟؟. قال الأعور السلمي: يا معشر بني سليم أنذركم السلطان فإنه أصبح صعباً حنوطاً يغضب كما يغضب الصبي، ويفترس كما يفترس الأسد. قال عبد الملك بن مروان: لقد كنت أمشي في الزرع فأتقي الجندب أن أقتله، وإن الحجاج اليوم ليكتب إليّ بقتل فئام من النّاس فما أحفل بذلك. قال بعض الولاة لأعرابي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال وأنت فاعمل به، فما توعَّدك الله به أشدُّ مما توعدني به. قيل لملكٍ زال عنه ملكه: لم زال عنك مللك؟ قال: لمدافعتي عمل اليوم إلى غد. قال ابن شبرمة: من أكل من حلوائهم انحطّ؟ في أهوائهم. قال كسرى لوزيره: إياك أن تدخل عليّ كثيراً فأملّك فتثقل عليّ حوائجك، ولا تطل الغيبة عني فأنساك. قال بعض الحكماء: من زال عن أبصار الملوك زال عن قلوبهم. قال ابن المعتز: أشقى النَّاس بالسُّلطان صاحبه، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً. قال الشاعر: إنَّ الملوك بلاءٌ حيثما حلُّوا ... فلا يكن لك في أفنائهم ظلُّ وما تريد بقومٍ إن هم سخطوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملُّوا وإن مدحتهم ظنُّوك تخدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكلُّ فاستغن بالله عن أبوابهم أبداً ... إنَّ الوقوف على أبوابهم ذلُّ قالوا: السلطان كالنار، من تباعد منها لم ينل من دفئها شيئاً، ومن تقرب منها أحرقته. ذكر أعرابي الملوك فقال: الملك أقرب ما تكون إليه أخوف ما تكون منه، شاهده يظهر حبك، وغائبه يبتغي غيرك. قال المأمون: لو كنت مع العامة لم أصحب السلطان. قال أبو قردودة: إنِّي نهيت ابن عمَّارٍ وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشَّعره إنَّ الملوك متى تنزل بساحتهم ... يطر بثوبك من نيرانهم شرره وقال آخر: إذا ضحك الأمير إليك فاعلم ... بأنَّ ضميره لك مستقيم ولا تحفل بضحكٍ من كفيٍّ ... فكلُّ النَّاس ضحكهم سقيم قال العباس بن محمد المنصور: ياأمير المؤمنين؟ إنما هو سيفك ودرعك، فادرع بدرعك من شكرك واحصد بسيفك من كفرك. قالوا: لا تغتر بالأمير إذا غشك الوزير. ومنهم من قال: لا تثق بالأمير إذا خانك الوزير. جلس معاوية يأخذ البيعة على الناس من عليّ. فقال رجل ياأمير المؤمنين إنا نطيع أحياءكم، ولا نبرأ من موتاكم. فالتفت معاوية إلى المغيرة بن شعبة فقال: رجل فاستوص به خيراً. كان يقال: إذا نزلت من الوالي بمنزلة الثّقة فاعزل عنه كلام الخنا والملق، ولا تكثرنّ له الدعاء في كل كلمة، فإن ذلك يشبه الوحشة، وعظّمه ووقّره في الناس. قال الشعبيّ: أخطأت عند عبد الملك بن مروان في أربع: حدثني بحديث يوماً فقلت:أعده عليّ فقال: أما علمت أن أمير المؤمنين لا يستعاد وقلت له حين أذن لي عليه: أن الشعبي فقال: ما أدخلناك حتى عرفناك. وكنيت عنده رجلا، فقال أما علمت أنه لا يكنى أحد عند أميرالمؤمنين. وحدثني بحديث فسألته أن يكتبه. فقال: إنا نكتِّب ولا نكتَّب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وهذا الخبر عندي غير صحيح، لأن المحفوظ عن الشَّعبي أنه قال: مااستعدت حديثاً قط. ولا تشبه سائر الحكاية أخلاق الشعبي. قال الشعبي: قال لي عبد الملك جنبني ثلاثاً وأورد عليَّ ما شئت، لا تطرني في وجهي، فأنا أعلم بنفسي، وإياك أن تغتاب عندي أحداً، واحذر أن أجد عليك كذبة فلا أسكن إلى قولك أبداً. وهذا مأخوذ من قول العباس لابنه عبد الله رضي الله عنهما. قال عبد الله بن عباس، قال لي أبي: إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب - يدنيك دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجدنّ عليك كذباً، ولا تغتابن عنده مسلماً، ولا تفشين له سرّاً. فقيل له: يا ابن عباس كل واحدة خير من ألف، فقال: كل واحدة خير من عشرة آلاف. قال عمر بن الخطاب لهنيّ إذ ولاه الحمى: يا هني اضمم جناحك، واتق دعوة المظلوم. قال الفرزدق: قل لنصرٍ والمرء في دولة السُّل ... طان أعمى ما دام يدعى أميرا فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجال كان بصيرا قال المهلب لابنه: يا بني اخفض جناحك واشتدّ في سلطانك، فإن الناس للسلطان أهيب منهم للقرآن. كان يقال: ثلاثة من عازّهم رجعت عزّته ذلاًّ، السَّلطان والوالد والعالم. كان يقال: أربعة تشتد معاشرتهم المتواني، والفرس الجموح، والسلطان الشديد المملكة والعالم. بصق عبد الملك يوماً فقصر بصاقه، فوقع فوق البساط، فقام رجل من المجلس يمسحه بثوبه. فقال عبد الملك: أربعة لا يستحيا من خدمتهم: السلطان، والوالد، والضيف، والدابة. وأمر للرجل بصلة. كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عامل له: إنّ مدينتنا قد احتاجت إلى مرمّة. فكتب إليه عمر: حصّن مدينتك بالعدل، ونقّ طريقها من الظلم. قال معاوية بن أبي سفيان: من وليناه من أمورنا شيئاً فليجعل الرفق بين الأمانة والعدل. قال محمد بن كعب القرظي: قال لي عمر بن عبد العزيز: صف لي العدل يا ابن كعب. قلت: بخٍ بخٍ، سألت عن أمر عظيم. كن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمثل منهم أخاً، وللنساء كذلك، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر احتمالهم، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتكون من العادين. كان يقال: ليس شيءٌ أحسن عند الله من حلم إمام ورأفته. قال زياد لابنه عبيد الله يا بنيّ: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادع له، واصفح صفحاً جميلا، ولا تريّن متهالكا عليه، ولا منقبضاً عنه. قال مالك: قيل لأبي الدرداء: يردُّك معاوية، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الّلهمَّ غفراً. من يأت أبواب السلطان يقم ويقعد. قال معاوية: لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي. قال معاوية يوماً، وقد ذكر من كان قبله: أما أبو بكر فهرب عن الدنيا، وهربت عنه. وأما عمر فأقبلت إليه وهرب منها، وأما عثمان فأصاب من الدنيا وأصابت منه، وأما أنا فقد داستني الدنيا ودستها. قال أبو عمر رضي الله عنه: سكت عن عليّ، وأنا أقول: وأما عليّ فأصابت الدنيا منه ولم يصب منها. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إني لأستعمل الرجل، وأدع خيراً منه، وذلك أني أستعمله لأن يكون أنقص عيباً وأوسع رأياً، وأشد جرأة، وأصبر على الجوع والعطش. وقد روي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كان يقال: يوم من أيام إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحاً أحوج ما تكون الأرض إليه. قال المهلب: خير الولاة من كان في رعيته كأنه غائب عنها، وهو شاهد فيها وكان المحسن في أيامه آمناً والمسيء خائفاً. وقال بعض الحكماء الناس يحبّون سلطانهم على الدِّين، والتواضع ولين الجانب، وينقادون لشدة الطّيش. قال أبو العتاهية: رضيت ببعض الذُّلِّ خوف جميعه ... وليس لمثلي بالملوك يدان وكنت امرءاً أخشى العقاب وأتَّقي ... مغبَّة ما تجني يدي ولساني ولوأنَّني عاندت صاحب قدرةٍ ... لعرَّضت نفسي صولة الحدثان فهل من شفيعٍ منك يقبل توبتي ... فإنِّي امرؤٌ أو في كلِّ ضمان وقال الحسن بن سهل: فرضت عليَّ زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا فإذا ملكت فجد وإن لم تستطع ... فاجهد بجهدك كلّه أن تنفعا وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ليس في كلِّ ساعةٍ وأوان ... تتهيَّا صنائع الإحسان فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذراً من تعذُّر الإمكان كان زياد إذا أتي بصاحب زلة، أخرّ عقوبته أياماً يسأل عن قضيته مخافة الزيادة في العقوبة. صعد عبد الملك المنبر، فقال في خطبته: يا معشر رعيتنا سألتمونا سيرة أبي بكر وعمر، ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبي بكر وعمر، ولكن نسأل الله أن يعين كلاً على كل. تعرَّض رجل للحسن بن سهل، فقال: من أنت؟ فقال: أنا الذي أحسنت إليَّ عام كذا فقال الحسن: مرحباً بمن توسل إلينا بنا. وهذا عندي مأخوذ من قول معاوية: أحب الناس إلي، من له عندي يد ثم أحبهم إليّ بعده من لي عنده يد. قال الشعبي: دخلت يوماً على ابن هبيرة وبين يديه رجل يريد قتله، فقلت: أصلح الله الأمير، أنت على فعل مالم تفعل أقدر منك على ما فعلت، ولأن تندم على العفو خير من أن تندم على العقوبة. قال: صدقت يا شعبي. وأمر بالرجل إلى السجن. قال المأمون: تحتمل الملوك لأصحابهم كل شيء إلا ثلاث خصال: القدح في الملك، وإفشاء الأسرار، والتعرض للحرم. روى ابن دريد، عن ابن أخي الأصمعي، عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء أنه دخل على سليمان بن علي، فسأله عن شيء فصرفه عنه، فغضب سليمان بن علي فخرج أبو عمرو وهو يقول: أنفت من العار عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قرَّبوا إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون منِّي بأن يكذبوا قيل للعتابي: لم لا تخدم الأمير؟ أو لا تكتب للأمير، فقال: لأني رأيته يعطي رجلاً ألف مثقال بلا خصلة، ويرمي آخر من أعلى السور على الرأس بلا ذنب، فلا أدري أي الرجلين أكون عنده، مع أن الذي أعطي في ذلك، أكثر من الذي آخذ - يريد مهجته - وركوب الغرر فيها معه، والعتابي هو القائل: تلوم على ترك الغنى باهلِّيةٌ ... زوى الدَّهر عنها كلَّ طرفٍ وتالد رأت حولها النِّسوان يرفلن في الكسى ... مقلَّدةً أجيادها بالقلائد يسرُّك أنِّي نلت ما نال جعفرٌ ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد وأنَّ أمير المؤمنين أغصَّني ... مغصَّهما بالمرهفات البوارد ذريني تجئني ميتتي مطمئنَّةً ... ولم أتجشَّم هول تلك الموارد وإنَّ كريمات المعالي مشوبةٌ ... بمستودعاتٍ في بطون الأساود وقال الغزال: وإن أعطيت سلطاناً ... فحاذر صولة الزَّمن أخو السُّلطان موصوفٌ ... بحسن الرَّأي والفطن فساعة ما يزاوله ... رماه النَّاس بالَّلعن ويصبح رأيه المحمو ... د منسوباً إلى الأفن وتبصر في مطَّيته ... سقوط العين والأذن وتسترخي مفاصله ... وتكسى كسوة الحزن كأن بشاشة السُّلطا ... ن حين تزول لم تكن وقال إدريس بن مقيم الإشبيلي: قالوا تقرَّب من السُّلطان قلت لهم: ... يعيذني الله من قرب السَّلاطين إن قلت دنيا فلا دنيا لممتحنٍ ... أو قلت دينٌ فلا ديناً لمفتون قيل لأعرابي: من أنعم الناس عيشاً؟ قال: من لم يعرف السلطان ولم يعرفه السلطان، وكان في كفاف وغنى. وأما أهل الآخرة فطريقتهم الإعراض عنهم، وترك معاشرتهم. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حدثونا أن الحسن البصري نظر إلى قوم صحبوا السلطان واتسعت دنياهم، فقال: ماتنظرون إليهم، فوالله لئن كانوا من أهل الجنة لقد عجل لهم قليل من كثير ذخرلهم، ولئن كانوا من أهل النار لقد أعطوا قليلاً من كثير صرف عنهم فأتاهم، فارحموا ولا تغبطوا. أنشدني عبد الله بن محمد بن يوسف لنفسه: مايشتهي قرب السَّلاطين ... غير ضعيف العقل مجنون لا تكذبن عنهم فما صحبهم ... منهم على دنيا ولا دين دنياهم بالخزي موصولةٌ ... ولا تسل عن دين مفتون خيرهم فاعلمه لا يرتجى ... وشرُّهم ليس بمأمون لا رأي لهم في نيل دنياهم ... حسبي بأن يسلم لي ديني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 شكت الرعية بعض العمال، فارتضى العامل بسهل بن عاصم فسأله الأمير: فقال: مافي عاملك مايشتكى إلا أن الله أمر بأمرين، امتثل فينا أحدهما وترك الآخر، قال الله عز وجل: " إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان "، فعدل فينا ولم يحسن إلينا، وفي العدل بغير إحسان عطب الرعية، فقال له الأمير: صدقت قد وليتك مكانه. ومن كلام ابن المعتز في هذا الباب: لا يدرك الغنى بالسلطان إلا نفس خاشعة، وجسم متعب، ودين منثلم. من شارك السلطان في عز الدنيا، شاركه في ذل الآخرة. فساد الرعية بلا ملك، كفساد الجسم بلا روح. إذا زادك الملك إيناساً فزده إجلالا. لا تلبسن بالسلطان في وقت التباس الأمور عليه واضطرابها، فإن البحر لا يكاد يسلم راكبه في حال سكونه، فكيف عند اختلاف رياحه واضطراب أمواجه. ريح السلطان على قوم سموم، وعلى قوم نسيم. الملك حقُّ الملك، من نشر أنواع الفضل وبسط أنواع العدل، وجانب المطامع الرديئة، والمطاعم الدنيئة. قال مطرِّف لا تنظر إلى خفض عيش الملوك، ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم، وسوء منقلبهم. سئل رجل من بني أمية عاقل، فقيل له: أخبرنا عن أول شيء كان بدء زوال ملككم، فقال: سألت فاسمع، وإذا سمعت فافهم. تشاغلنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، ووثقنا بوزراء آثروا مرافقهم على منافعها، وأبرموا أموراً أسروها عنا، فظلمت رعيتنا، ففسدت نياتهم لنا، وجدب معاشنا فخلت بيوت أموالنا، وقل جندنا فزالت هيبتنا، واستدعاهم أعداؤنا فظاهروهم علينا، وكان أكثر الأسباب في ذلك استتار الأخبار عنا. أنشدني أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب لنفسه: إذا ما الله شاء صلاح قومٍ ... أتاح لهم أكابر مصلحينا ذوي رأيٍ ومعرفةٍ وفهمٍ ... وإعداد لما قد يحذرونا فلم يستأثروا بكثير جمعٍ ... وكانوا للمصالح مؤثرينا ويسَّرهم لفعل الخير فيما ... إليهم من أمور المسلمينا وإن يشأ الإله فساد قومٍ ... أتاح لهم أكابر معتدينا ذوي كبرٍ ومجهلةٍ وجبنٍ ... وإهمالٍ لما يتوقَّعونا فظلُّوا يشرهون ويجمعونا ... وليسوا في العواقب يفكرونا وجاروا حيثما أمروا بعدلٍ ... كأن قد قيل كونوا جائرينا وقال الأفوه الأودي: لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا إذا تولَّى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم وازدادوا تلقى الأمور بأهل الرأي قد صلحت ... وإن تولت فبالأشرار تنقاد وقال محمد بن نصر: لا تحقرنَّ امرءاً إن كان ذا ضعة ... فكم وضيعٍ من الأقوام قد رأسا فربّ قومٍ حقرناهم فلم نرهم ... أهلا لخدمتنا صاروا لنا رؤسا من الأمثال في السُّلطان وصحبته إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة. لا صلاح للخاصَّة مع فساد العامة، ولا نظام للدَّهماء مع دولة الغوغاء. الحكم ميزان الله في الأرض. كلُّ الناس أحقّاء بالسجود لله عزّ وجلّ، وأحقّهم بالسجود لله والتواضع له من رفعه الله عن السجود لأحد من خلقه. كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان. لا رحم بين الملوك وبين أحد. للملوك بدوات. الملك عقيم. الملك يبقي على الكفر، ولا يبقى على الظلم. سكر السلطان أشدُّ من سكر الشراب. السلطان كالنار: إن باعدتها بطل نفعها، وإن قاربتها عظم ضررها. جاور ملكاً أو بحراً. صاحب السلطان كراكب الأسد، يهابه الناس وهو لمركبه أهيب. أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية. السُّلطان كالسُّوق ما نفق فيها جلب إليها. إن كان البحر كثير الماء فإنه بعيد المهوى. السُّلطان إذا قال لعماله:هاتوا، فقد قال: خذوا. الناس على دين الملك. عفو الملوك أبقى للملوك. من خدم السلطان خدمه الإخوان. ثلاثة لا أمان لهم: السّلطان والبحر والزمان. من تحسَّى مرقة السُّلطان أحرقت شفتاه ولو بعد حين. مثل أصحاب السلطان كقوم رقوا جبلا ثم وقعوا منه، فكان أبعدهم في المرتقى أقربهم من التلف. باب الكتّاب والكتابة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن أمّة أمِّيةٌ لا نكتب ولا نحسب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وروي عنه عليه السلام أنه قال: " من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويقبض المال، ويكثر التجار، ويظهر القلم ".يعني الكتابة. قال الحسن البصري: لقد أتى علينا زمان وإنما يقال: تاجر بني فلان وكاتب بني فلان، ما يكون في الحي إلا التاجر الواحد والكاتب الواحد، قال الحسن: لقد كان الرجل يأتي الحي العظيم فلا يجد به كاتباً. وفي الحديث المرفوع: " فشوُّ القلم، وفشو التجارة من أشراط الساعة " يعني بقوله فشو القلم: ظهور الكتابة وكثرة الكتّاب. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتربوا الكتب وسجُّوها من أسفلها فإنه أنجح للحاجة ". وفي خبر آخر عنه عليه السلام: " إذا كتب أحدكم في حاجة فليترب كتابه، فالبركة في التراب ". وروى عن بعض أهل التفسير في قول الله عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام: " اجعلني على خزائن الأرض إنِّي حفيظٌ عليمٌ ". قال كاتب حاسب. كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعلي وعثمان، وحنظلة الأسديّ، ومعاوية، وعبد الله بن الأرقم، وكان كاتبه المواظب له في الرسائل والأجوبة زيد بن ثابت، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية ليجيب عنه من كتب إليه بها، فتعلمها في ثمانية عشر يوماً. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: إذا كتبت فألن دواتك، وأطل من قلمك، وفرج بين السطور، وقارب بين الحروف. كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: إذا كتبتم فأرقّوا الأقلام، وأقلوا الكلام واقتصروا على المعاني، وقاربوا بين الحروف، تكتفوا من القراطيس بالقليل. كانت العرب تسمي كل صانع قيناً إلاّ الكاتب. قالوا: القلم أحد اللسانين. قالوا: الخطّ الحسن يزيد الحق وضوحاً. قال المأمون: الخطّ لسان اليد، وهو أفضل أجزاء اليد. قال بعض الملوك: للكاتب الناصح ثلاث خصال: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، ودفع غائلة العدوّ عنه. قال ابن القرِّيّة: خط القلم يقرأ بكل مكان، وفي كل زمان، ويترجم كل لسان، ولفظ الإنسان لا يجاوز الآذان. قال أبو ساسان حضين بن المنذر: ما رأيت بارياً لا يقيم الخط إلا رأيته لا يقيم الشعر. قيل لنصر بن سيار: فلان لا يخطّ، قال:تلك الِّزمانة الخفية. قال بعض البلغاء: صورة الخط في الإبصار سواد، وفي الأنصار بياض، وهذا عندي مأخوذ من قول ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. أمر أبو جعفر المنصور بسجن طائفة من الكتاب غضب عليهم، فكتب إليه بعضهم من طريق السجن: أطال الله عمرك في صلاحٍ ... وعزٍّ ياأمير المؤمنينا بعفوك نستجير فإن تجرنا ... فإنَّك رحمةٌ للعالمينا ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا وذكر هذا الخبر الحارث بن أسامة في كتابه المعروف بكتاب الخلفاء، وفي أخبار المنصور: أن أحزاباً من الكتاب ترددوا في ديوان داره، فأمر بإحضارهم وتقدم من تأديبهم، فقال واحد منهم، وهو يضرب: أطال الله عمرك، وذكر الأبيات الثلاثة فعفا عنهم وأمر بتخليتهم. قال ابن القاسم: سئل مالك عن النصراني أيستكتب؟ قال: لا أرى ذلك، وذلك أن الكاتب يستشار، فيستشار هذا في أمور المسلمين! ، ما يعجبني أن يستكتب. قال بعض الحكماء لبنيه: يا بني تزيوا بزيّ الكتّاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة. قدم كتاب أبي عبيدة على عمر بن الخطاب، وعنده أبو موسى، فقال له: يا أبا موسى! ادع كاتبك حتى يقرأ كتاب أبي عبيدة بالفتح. فقال: إنه لا يدخل المسجد. قال: ولم، أجنبٌ هو؟ قال: لا. ولكنه نصرانيّ، فصاح عليه صيحة وانتهره، قال: عزمت عليك إلا عزلته، ثم قال: لا تقرّبوهم بعد أن أبعدهم الله، ولا تكرموهم بعد أن أهانهم الله، ولا تشاوروهم بعد أن جهّلهم الله، قال أبو موسى: فعزلته وطردته. قال أبو عمر رحمه الله: كيف يؤتمن على سر أو يوثق به في أمر، من دفع القرآن وكذب النبي عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 استأذن على المأمون بعض شيوخ الفقهاء، فأذن له، فلما دخل عليه رأى بين يديه رجلاً يهوديَّاً كاتباً، كانت له منزلة وقربه لقيامه بما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته، فلما رآه الفقيه قال - وقد كان المأمون أومأ إليه بالجلوس -: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس قال: نعم، فأنشده: إنَّ الَّذي شرِّفت من أجله ... يزعم هذا أنَّه كاذب وأشار إلى اليهوديّ، فخجل المأمون ووجم، ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوباً على وجهه، وأنفذ عهداً باطّراحه وإبعاده، وألاّ يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله. اسم الكتّاب بالفارسية ديوان، أي شياطين، لحذقهم بالأمور ولطفهم، فسمي الديوان باسمهم. قال الزبير بن أبي بكر: كتب إليّ المغيرة بن محمد يستبطئ كتبي، فكتبت إليه: ماغيَّر النَّأي ودَّاً كنت تعهده ... ولا تبدَّلت بعد الذكر نسيانا ولا حمدت إخاءً من أخي ثقةٍ ... إلاَّ جعلتك فوق الحمد عنوانا باب الظُّلم والجور قال الله عز وجل: " وقد خاب من حمل ظلماً ". وقال عزوجل: " ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً ". وفي صحف إبراهيم عليه السلام: اتق دعوة المظلوم، فإني لا أردّها، ولو كانت من كافر أقول: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منَّا من ظلم مسلماً أو ضرَّه أو عزَّه أو ناكره ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: " ما تبالي حسَّنت جوراً أو دخلت فيه، وفتحت عدلا، أو خرجت منه ". وقد روي هذا من كلام علي رضي الله عنه فالله أعلم. لمرة بن محكان في الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: ؟؟ أحار تبيَّن في الأمور فإنَّه ... إذا الأمير عدا في الحكم أو فسدا فإنَّك محلولٌ عليك وظاعنٌ ... فمهما تصبه اليوم تدرك به غدا وقال آخر: نخاف على حاكمٍ عادلٍ ... ونرجو، فكيف لمن يظلم إذا جار حكم امرئٍ ملحدٍ ... على مسلمٍ هلك المسلم الظلم في وضع كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه، وأخذ المرء ما ليس له، ومن ذلك قولهم: من أشبه أباه فما ظلم، أي ما وضع الشبه في غير موضعه. فكل مسيءٍ ظالم، تقول العرب للمسيء المفرط في الإساءة: هذا أظلم من حية، وأظلم من ذئب، قال عمرو بن بحر: لأن الحية لا تتخذ لنفسها بيتاً، وهي تقصد كل بيت يصلح لها من بيوت الخشاش والهوامِّ فيهرب أهله عنه ويخلّونه لها خوفا منها. قال مضرّس بن لقيط الفقعسي: إذا قلت الداء بيني وبينهم ... أتى حاطبٌ منهم لآخر يقبس لعمرك لو أنّي أخاصم حيّةً ... إلى فقعسٍ ما أنصفتني فقعس فما لكم إليَّ كأنَّكم ... ذئاب الغضا والذئب بالَّليل أطلس ويقولون أيضاً: هو أظلم من ذئب، وأظلم من ورل، كما يقولون: أظلم من حية، وذلك أن الورل يقوى على الحيات كلها، ويأكلها أكلا ذريعاً، وكل شدة يلقاها ذو جحر من الحية تلقى مثل ذلك من الورل، والورل ألطف بدناً من الضب، ولكنه أشد من الضب وأجود سلاحاً، وله شحمة والأعراب يستطيبون لحم ذنبه، والورل دابة خفيفة الرأس والحركات ذاهباً وجائياً، ويميناً وشمالاً، وليس شيء بعد العظاء شيء أكثر تلفتاً منه، وبراشن الورل أقوى من براشن الضب، حكى ذلك كله عمرو بن بحر. قال: ومن أمثال العرب: من استرعى الذئب ظلم، وأنشد لبعض بني جعفر ابن كلاب يضرب المثل بجور الحية والذئب: كأنَّني حين أحبو جعفراً مدحي ... أسقيهم طرق ماءٍ غير مشروب ولو أخاصم أفعى نابها لثقٌ ... أو الأساود من صمِّ الأهاضيب لكنتم معها إلباً وكان لها ... نابٌ بأسفل ساقٍ أو بعرقوب ولو أخاصم ذئباً في أكيلته ... لجاءني كلُّهم يسعى مع الذيب قال بعض الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبها: سرعة ظلم من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغنيّ على الفقير. روي عن مجاهد أنه قال: المعلم إذا لم يعدل بين الصبيان كتب من الظلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 إنما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية حرب الفجار، وظهرت العرب على الفرس يوم ذي قار، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا فيها مظلومين. فأما حرب الفجار فكانت بين بني عامر بن صعصعة وبين قريش، وذلك أن بني عامر بن صعصعة طالبوا أهل الحرم من قريش وكنانة، بجريرة البرَّاض بن قيس في قتله عروة الرجال، وكان البراض خليعاً فاتكاً، فأقامهم إلى حربهم، فألزموهم ذنب غيرهم ظالمين لهم، فلذلك شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم دافعوا عن أنفسهم وديارهم وأموالهم، ونصروا بحضور النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك نصرت العرب على فارس يوم ذي قار برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كانت وقعة ذي قار قبل وقعة بدر بأشهر، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما بلغه ذلك، قال: " هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ". قال هشام: حدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: ذكرت وقعة ذي قار عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: " ذلك أوّل يومٍ انتصفت فيه العرب من العجم ". خرج الأضبط بن قريع السعدي من بني سعد، فجاور ناساً، فلما رأى مذهبهم وظلمهم لم يحمدهم ورجع إلى قومه، وقال: بكل واد بني سعد، فأرسلها مثلا. وقال الأشعر الرَّقبان الأسدي في قصيدة له: وأنت مليخٌ كلحم الحوار ... فلا أنت حلوٌ ولا أنت مرّ وحسبك في النَّاس أن يعلموا ... بأنَّك فيهم غنيٌّ مضرّ ومن أمثالهم: من لم يكن ذئباً أكلته الذئاب، وكان الشعبي إذا تمثل بذلك يقول ومن ذا الذي يرضى أن تأكله الذئاب. ولعبيد بن أيوب وكان قد تاب فظلم، فهم بمراجعة الضلال، فقال: ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت فأزمعوا أن يظلموني فلست بصابرٍ إلا قليلاً ... فإن لم يرعووا راجعت ديني قال زهير: ..ومن لا يظلم النَّاس يظلم أخذه ابن دريد فقال: من ظلم النَّاس تحاموا ظلمه ... وعزَّ عنه جانباه واحتمى وقال المتنبي: والظُّلم من شيم النُّفوس فإن تجد ... ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لا يظلم وله أيضاً:؟ ومن عرف الأياَّم معرفتي بها ... وبالنَّاس روَّى رمحه غير راحم وهذه الأخلاق أخلاق الفسّاق، ومن لم يتأدب بأدب القرآن، ولا استن بسنن الإسلام في الأخذ بالعفو والصفح والرحمة والرأفة، وأين قول المتنبي من قول محمود الوراق: إنِّي وهبت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي ورأيته أسدى إليَّ يداً ... فأبان منه بجهله حلمي رجعت إساءته عليَّ له ... حسناً فعاد مضاعف الجرم وغدوت ذا أجرٍ ومحمدةٍ ... وغدا بكسب الذَّمِّ والإثم فكأنَّما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم مازال يظلمني وأرحمه ... حتَّى بكيت له من الظُّلم وله أيضاً: اصبر على الظُّلم ولا تنتصر ... فالظُّلم مردودٌ على الظَّالم وكل إلى الله ظلموماً فما ... ربِّي عن الظَّالم بالنَّائم وقال آخر: نامت جفونك والمظلوم منتبهٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم وقال آخر: ومامن يدٍ إلاَّ الله فوقها ... ولا ظالمٌ إلاَّ سيبلى بظالم وقال آخر: فإن قلتم إنَّا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنَّا أسأنا التَّقاضيا وقال آخر: تأنَّ ولا تعجل وكن مترفِّقا؟ ً ... وكن راحماً بالنَّاس تبلى براحم كان يقال: إذا دعتك الضرورة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله تعالى على عقوبتك، فأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. قال الشاعر:؟ ونستعدي الأمير إذا ظلمنا فمن يعدي إذا ظلم الأمير إذا كان الأمير عليك خصماً ... فلا تكثر فقد غلب الأمير وقال آخر: والخصم لا يرتجى النَّجاح له ... يوماً إذا كان خصمه القاضي وقال آخر: من يكن القاضي أباه فليبت ... في راحةٍ من خصمه لا يلتفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قال كعب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، فقال عمر: إلا من حاسب نفسه، قال كعب: والذي نفسي بيده إنها لكذلك إلا من حاسب نفسه ما بينهما حرف. يعني في التوراة. خرج عمر بن عبد العزيز يوماً، فقال: ما شاء الله! كان الوليد بن عتبة بالشام، والحجاج بالعراق وقرَّة بن شريك بمصر، وعثمان بن حيَّان بالحجاز، ومحمّد بن يوسف باليمن، امتلأت الأرض ظلماً وجورا. ولعون بن عبيد الله بن عتبة بن مسعود:؟؟ وأوَّل ما نفارق غير شكٍّ نفارق ما يقول المارقونا وقالوا: مؤمنٌ دمه حلالٌ ... وقد حرمت دماء المؤمنينا وقالوا: مؤمنٌ من أهل جورٍ ... وليس المؤمنون بجائرينا وقال أبو العتاهية: أماوالله إنَّ الظُّلم لؤمٌ ... وما زال المسيء هو الظَّلوم إلى دياَّن يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غداً عند الإله من الملوم وكتب بها مع يحيى بن خالد بن برمك. قال الشاعر: إذا جار الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء فويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماء باب العفو والتجاوز وكظم الغيظ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " مازاد الله عبداً بعفوٍ إلاَّ عزَّاً ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من لا يرحم لا يرحم، إنما يرحم الله من عباده الرحماء ". وقال عليه السلام: " مانزعت الرَّحمة إلا من شقيٍّ ". وقال: " ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم ". وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السَّماء ". وفي الأثر المرفوع أنه: " ينادي المنادي في بعض مواقف القيامة: ليقم من له عند الله ما يحمد له، فلا يقوم إلاّ من عفا ". وفي الحديث أيضا: ً " إن الله عفوٌّ غفور يحبُّ العفو عن عباده ". وقال صلّى الله عليه وسلّم: " أقيلوا ذوي الهيئات زلاّتهم ". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل العفو عند القدرة، وأفضل القصد عند الجدة. قال سعيد بن المسيب: لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. قال جعفر بن محمد: لأن أندم على العفو خير من أن أندم على العقوبة. طلب عبد الملك بن مروان رجلا فأعجزه ثم ظفر به، فقال رجاء بن حيوة: ياأمير المؤمنين! قد صنع الله ما أحببت من ظفرك به، فاصنع ماأحبَّ الله من عفوك عنه. قال رجل للمنصور حين ظفر بأهل الشام، وقد أجلبوا عليه وخالفوه مع عبد الله ابن علي: الانتقام عدلٌ، والتجاوز فضل، ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين ولا يبلغ أرفع الدرجتين. كان يقال: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. قال المهلب بن أبي صفرة: خير مناقب الملوك العفو. قال المأمون: وددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو، فسلمت لي صدورهم. قال معاوية رحمه الله: ماوجدت شيئاً ألذَّ عندي من غيظٍ أتجرعه، ولم يعرف قيمة الأبَّهة من لم يجرعه الحلم غصص الغيظ. اعتذر رجل إلى الهادي فقال: ياأمير المؤمنين! إقراري بما ذكرت يوجب عليَّ ذنباً لم أجنه، وردِّي عليك لا أقدم عليه لما فيه من التكذيب لك، ولكني أقول: فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر فعفا عنه. قال منصور الفقيه: وقال نبيُّنا فيما رواه ... عن الرحمن في علم الغيوب محالٌ أن ينال العفو من لا ... يمنُّ به على أهل الذُّنوب وقال آخر: فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً ... فعفوٌ جميل كي يكون لك الفضل فإن لم أكن للعفو أهلاً لسوء ما ... أتيت به جهلاً فأنت له أهل سئل ثعلب عن معنى: فهبني مسيئاً، قال: معناه اعددني مسيئاً. قال محمّد بن علي بن حسين: من كظم غيظا يقدر على إمضائه حشا الله قلبه إيماناً وروي هذا مرفوعاً إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ومما ينسب إلى عمرو بن العاص: وبعض انتقام المرء يزري بعقله ... وإن لم يقع إلاَّ بأهل الجرائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وذكر ذنوب الوغد ترفع ذكره ... فدعه صريع النوم تحت القوادم وفي معنى هذا البيت الأخير قول ذي الرمة: قيل لي: قد هجاك مولى زياد ... فأجبه فقلت: ليس بكفوي لست أهجوه إنه خامل الذِّك ... ر لعلَّ الخسيس يعلو بهجوي هو كالكلب ينبح الَّليث رعباً ... فذروه يهرّ بعدي ويعوي هو من سطوتي وبأس هجائي ... في أمانٍ ما بين حلمي وعفوي كتب علي بن الجهم إلى الحسن بن وهب: إن تعف عن عبدك المسيء ففي ... فضلك مأوىً للصّفح والمنن أتيت ما أستحقُّ من خطإٍ ... فجد بما تستحقُّ من حسن فجاوبه الحسن بن وهب بأبيات منها: أعوذ بالودِّ الَّذي بيننا ... أن يفسد الأوَّل بالآخر وله أيضاً: أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الرَّدى وقال آخر: ألا إنَّ خير العفو عفوٌ معجَّل ... وشرُّ العقاب ما يجاز به القدر وقال أعرابي: ياربِّ قد حلف الأقوام واجتهدوا ... أيمانهم أنَّني من ساكني النَّار أيحلفون على عمياء ويحهم ... جهلاً بعفو عظيم العفو غفَّار وقال آخر: ياربِّ عفوك عن ذي توبةٍ وجل ... كأنَّه من حذار النَّار مجنون قد كان قدَّم أعمالاً مقاربةً ... أيّام ليس له عقلٌ ولا دين باب الغضب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب ". قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله دلَّني على عملٍ إذا عملته دخلت الجنة، وأقلل لعلّي أحفظه. قال: " لا تغضب ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: " إذا غضبت قائماً فاقعد، وإذا غضبت قاعداً فقم أو قال: فاضطجع ". أوحى الله إلى موسى: اذكرني عند غضبك، أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فارض بنصرتي لك، فإنها خيرٌ من نصرتك لنفسك. قال عيسى عليه السلام: يباعدك من غضب الله ألا تغضب. أنشد ثعلب: متى ترد الشِّفاء بكلِّ غيظٍ ... تكن ممَّا يغيظك في ازدياد قال سليمان بن داود عليهما السلام: أعطينا ماأعطي الناس وما لم يعطوا، وعلِّمنا ما علِّم الناس ومالم يعلَّموا، فلم نر شيئاً أفضل من العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السِّر والعلانية. قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إنما يعرف الحلم ساعة الغضب. وعنه أيضاً: عدوُّ العقل الغضب. كان يقال: أول الغضب جنون، وآخره ندم ولا يقوم عزّ الغضب بذلِّ الاعتذار. وروي: كل العطب في الغضب. قيل للشعبي: لأي شيء يكون السّريع الغضب سريع الفيئة، ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة؟ قال: لأن الغضب كالنار فأسرعها وقوداً أسرعها خموداً. وهذا الخبر أصح عن عبد الله بن حسن، حكاية عن كسرى، ذكره ابن عائشة القرشي التيميّ عنه. قال: قيل لعبد الله بن حسن: مابال الرجل الحديد أسرع رجعةً من البطيء؟ فقال: سئل كسرى عن ذلك، فقال: مثلهمامثل النار في الحطب، أسرعها وقوداً أسرعها خموداً. أراد المنصور خراب المدينة لإطباق إهلها على حربه مع محمد بن عبد الله بن حسن، فقال له جعفر بن محمد: ياأمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، وقد جعلك الله من قبيل الذين يعفون ويصفحون فطفئ غضبه وسكت. شهد سوَّار القاضي مجلس أبي جعفر المنصور يوماً فرآه قد غضب على أهل البصرة، فقال له: ياأمير المؤمنين! لا تغضب لله بما يغضب الله. العرب تمدح بترك الغضب. كان يقال: من أغضبته أنكرته. قال الشاعر: لم أقض من صحبة زيدٍ أربي ... فتىً إذا نهنهته لم يغضب أبيض بسّامٌ وإن لم يعجب ... ولا يضنُّ بالمتاع المحقب موكَّل الَّنفس بحفظ الغَّيب ... أقصى رفيقيه له كالأقرب قال عبد الله بن قيس الرقيات: مانقموا من بني أميَّة إلاَّ ... أنَّهم يحملون إن غضبوا وأنَّهم سادة الملوك ولا ... تصلح إلاَّ عليهم العرب قالوا: إذا غضب الرجل فليستلق، وإذا أعيا فليرفع رجليه. باب الرجاء والخوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه يعوده، فقال: كيف تجدك؟ قال: أجدني أرجو وأخاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده، مااجتمعا في قلب رجلٍ إلاّ أعطاه الله خير مايرجو منه، وآمنه من شر ما يخاف ". قال أبو الدَّرداء: من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. قال مطرِّف بن عبد الله الشِّخِّير: لووزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا. قال لقمان لابنه: يا بنيّ ارج الله رجاءٍلا تأمن فيه مكره، وخف الله مخافة لا تأيسنّ فيها من رحمته، فقال: كيف أستطيع ذلك، وإنما لي قلب؟ فقال يا بني! إن المؤمن كذي قلبين قلب يخاف به، وقلب يرجو به. قال عليّ بن أبي طالب: خذوا عني هذه الكلمات، فلو رحَّلتم فيها المطيَّ حتى أنضيتموها لم تبلغوها: لا يرجو عبد إلاّ ربّه، ولا يخاف إلاّ ذنبه. وذكر كلاماً قد ذكرته بتمامه في كتاب " بيان العلم وفضله ". كان يقال: من خاف الله ورجاه آمنه خوفه، ولم يحرمه رجاءه. وقف محمد بن سليمان على قبر أبيه، فقال: اللهم إني أمسيت أخافك عليه وأرجوك له، فحقق رجائي، وآمن خوفي عليه. قال مسلم بن يسار: ماأدري فيم خوف امرئ ورجاؤه إذا لم يمنعاه من ركوب شهوة إن عرضت له، أو لم يصبّراه على مصيبة إن نزلت به. كتب بعض العلماء إلى بعض إخوانه: أمابعد، فإنه من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء. للحسن بن هانئ وتنسب للشافعي رضي الله عنهما، والله أعلم: خف الله وارجوه لكلِّ عظيمةٍ ... ولا تطع النَّفس الّلجوج فتندما وكن بين هاتين من الخوف والرَّجا ... وأبشر بعفو الله إن كنت مسلما وفيها: فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرَّجا منِّي لعفوك سلَّما وله: قد كنت خفتك ثمَّ آمنني ... من أن أخافك خوفك الله وقال العتابي: رحل الرَّجا إليك مرتقباً ... حشدت إليه نوائب الدّهر ردَّت إليك ندامتي أملي ... وثنا إليك عنانه شكري وجعلت عتبك عتب موعظةٍ ... ورجاء عفوك منتهى عذري وقال أعرابي، وقد أدخله البعيث في شعره: وإني لأرجو الله حتّى كأنما ... أرى بجميل الظَّنِّ ماالله صانع وقال منصور الفقيه: قطعت رجائي من بني آدم طرَّا ... فأصبحت من رقّ الرَّجاء لهم حرَّا وعدّل يأسي بينهم فأجلُّهمإذا ذكروا قدراً كأدناهم قدرا غنيٌ لهم بالله لا متطاولاً ... على أحدٍ منهم ولا قائلاً هجرا وكيف يعيب النَّاس بالمنع مؤمنٌ ... يرى النَّفع ممن يملك النَّفع والضُّرَّا عليه اتّكالي في الشَّدائد كلِّها ... وحسبي به عند الشَّدائد لي ذخرا أنشدني عبد الله بن محمد بن يوسف رحمه الله لنفسه: أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجلٍ ممَّا به أنت عارف يخاف ذنوباً لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف فمن ذا الّذي يرجو سواك ويتَّقي ... ومالك من فصل القضاء مخالف فياسيّدي لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصَّحائف وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصدُّ ذوو ودِّي ويجفو المؤالف لئن ضاق عنِّي عفوك الواسع الَّذي ... أرجِّى لإسرافي فإنِّي لتالف وقال أبو العتاهية: إذا ما اتَّقى الله امرؤٌ لان جانبه ... وقارب بالإحسان من لا يقاربه يقول الفتى أرجو وأرجو وما له ... نزوعٌ عن الذَّنب الذي هو راكبه ألا ليس يرجو الله من لاّ يخافه ... وليس يخاف الله من لا يراقبه من النَّاس من يبصر الدَّهر جهله ... ويزداد فيه الضِّعف حتّى يعاتبه كفي بصروف الدهر علماً وحكمة ... لمن لم يخنه علمه وتجاربه ومن لم يثق بالله لم يصف عيشه ... ومن ضاق عنه الحقّ ضاقت مذاهبه كان أبو سعيد السيره في كثيراً ما ينشد في مجلسه: اسكن إلى سكنٍ تسرُّ به ... ذهب الزَّمان وأنت منفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ترجو غداً وغدٌ كحاملةٍ ... في الحيِّ لا يدرون ما تلد قرأت على سعيد بن نصر، أن قاسم بن أصبغ حدثهم، قال حدثنا عبد الله ابن روَّاح المدائنيّ، قال يزيد بن هرون، قال: حدثنا أبو موسى التميمي، قال: توفيت النَّوار امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة وخرج فيها الحسن، فقال للفرزدق: ماأعددت لهذا اليوم يا أبا فراس؟ قال: شهادة ألاَّ إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها فقال: أخاف وراء القبر إن لم يعافنيأشدَّّ من القبر التهاباً وأضيقا إذا جاءني يوم القيامة قائدٌ ... عنيفٌ وسوَّاقٌ يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا قال: فبكى وأبكى. باب العافية والبلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله العافية والمعافاة في الدُّنيا والآخرة، فإنه لم يؤت عبدٌ بعد اليقين بالله بأفضل من المعافاة ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من يرد لله به خيراً يصب منه ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " أشدُّ الناس بلاءً النبيُّون، ثم الأمثل فالأمثل ". والأحاديث عنه صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة جدّاً. قال عيسى عليه السلام: إنما النّاس مبتلًى ومعافًى، فإذا رأيتم أهل البلاء فارحموهم، وسلوا الله العافية. قال علي بن الحسين: ماصاحب البلاء الذي قد طال به أحقّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء. قال مطرِّف بن الشِّخِّير: لأن أعافى فأشكر، أحبّ إليَّ من أن أبتلى فأصبر، قال مطرِّف: ونظرت في النعمة التي لا يشوبها كدر فإذا هي العافية. قال سليمان التَّيمي: إن المؤمن ليبتلى ويعافى، فيكون بلاؤه كفارةً واستعتاباً، وإن الكافر ليبتلى ويعافى فيكون مثل بعيرٍ عقل، لا يدري فيم عقل ولا لم أرسل. قال منصور الفقيه: رأيت البلاء كقطر السَّماء ... وما تنبت الأرض من ناميه فلا تسألنّ: إذا ما سألت ... إلهك شيئاً سوى العافية وله أيضاً: حفظ الفتى لسانه ... محبةً في العافيه واقية من البلاء إن ... كان منه واقيه قال أكثم بن صيفي: العافية الملك الخفيّ. كان يقال: لا خير في بدن لا ينكأ ولا في مال لا يرزأ. كان يقال: من عمل بالعافية فيمن هو دونه رزقها ممن هو فوقه. قال الشاعر: بلاءٌ ليس يشبهه بلاءٌ ... عداوة غير ذي حسبٍ ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون وقال آخر، وهو أبو راسب: فلوأنِّي بليت بهاشميِّ ... خؤولته بنو عبد المدان صبرت على عدواته ولكن ... تعالوا فانظروا عن ابتلاني قال بشار بن برد: إنِّي وإن كان جمع المال يعجبني ... فليس يعدل عندي صحَّة الجسد في المال زينٌ وفي الأولاد مكرمةٌ ... والسُّقم ينسيك ذكر المال والولد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " البلاء موكَّلٌ بالقول ". أخذه الشاعر: إنَّ البلاء موكَّلٌ بالمنطق وقال آخر: فإذا رأيت أخا البليّة فاستعذ ... بالله من شرِّ البلاء النَّازل قال إبراهيم النَّخعي: كانوا يكرهون أن يسألوا الله العافية بحضرة المبتلى. باب المرض والطِّبِّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " أنزل الدَّاء الذي أنزل الأدواء ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خير ما تداويتم به الحجامة ". وقال عليه السلام: " إن كان دواءٌ يبلغ الداء فالحجامة تبلغه ". قال محمد بن سيرين كنا بساباط المدائن، فمر بي رجل، فقيل لي: هذا حجم كسرى، فدعوته فقلت له: أنت حجمت كسرى؟ قال: نعم. قال وكم حجمته؟ قال: واحدة. قلت: ولم اقتصر على واحدة؟ قال: كان يقول: آخذ من الدواء أدناه، فإن كان نافعاً من نفعه، وإن كان ضارَّاً لم أكن استكثرت من ضرره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 روى النزَّال بن سبرة عن عليّ، أنه قال: من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه كل دائه، ومن أكل إحدى وعشرين زبيبة كل يوم لم يرفي جوفه شيئاً يكرهه، واللحم ينبت اللحم، والثريد طعام العرب، ولحم البقر داء، ولبنها دواء، وسمنها شفاء، والشحم يخرج مثله من الداء. قال النزال: أظنه يريد شحم البقر. قال عليّ رضي الله عنه: وما استشفي بأفضل من السمن، والسمك يذيب البدن، أو قال: الجسد، ولم تستشف النفساء بشيء أفضل من الرطب، والسواك وقراءة القرآن يذهبان البلغم، ومن أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء، وليخفف الرِّداء، وليقلّ غشُّيان النّساء. قيل له: ياأمير المؤمنين وما خفة الرِّداء؟ قال: خفة الدَّين. قال شريح: امش بدائك ماحملك. قال حسَّان بن خريم بن الأغر: دع الدَّواء ما احتمل جسمك الداء. سئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ماالدواء الذي لا داء فيه؟ قال: هو ألا يدخل بطنك طعام وفيه طعام. قال غيره: هو أن يقَّدم الطعام إليك وأنت تشتهيه، ويرفع عنك وأنت تشتهيه. قالوا: ثلاثة تقتل: الحمَّام على الكظَّة، والجماع على البطنة، والإكثار من أكل القديد اليابس. كانوا يقولون: لو أمات العليل الداء أعاشه الدواء. قال الربيع بن خيثم: ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرسّ وقروناً بين ذلك كثيرا، ً كانت فيهم الأدواء، وكانت فيهم الأطباء، فلا المداوي بقي ولا المداوى. وقيل له في علَّته: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقال: قد نظر إلي الطبيب. فقيل له: ما قال لك؟ فقال إنِّي فعال لما أريد. وهذا نحو قول أبي الدرداء وقد قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال الطبيب أمرضني. وقد أوردنا عن العلماء في هذا المعنى ما فيه كفاية يكتفى بها في كتاب " التمهيد " والحمد لله. ولأبي العتاهية، ويروى لغيره: إنَّ الطَّبيب بطبِّه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مكروهٍ أتى ماللطَّبيب يموت بالدَّاء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى كان سفيان بن عيينة، يستحسن قول عديّ بن زيد، حيث يقول: أين أهل الدِّيار من قوم نوح ... ثمَّ عادٌ من بعدهم وثمود بينما هم على الأسرَّة والأن ... ماط أفضت إلى التُّراب الجلود ثمَّ لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا الوعد كلُّه والوعيد والأطبَّاء كلُّهم لحقوهم ... ضلَّ عنهم سعوطهم والّلدود وصحيحٍ أضحى يعود مريضاً ... وهو أدنى للموت ممن يعود أخذه علي بن الجهم، فقال:؟ كم من عليلٍ قد تخطَّاه الرَّدى ... فنجا ومات طبيبه والعوَّد وقال أبو العتاهية: نعى لك ظلَّ الشَّباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب وقبلك داوي المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطّبيب يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب وقال منصور الفقيه: كذبت إن أنا سمَّي ... ت محسناً أو مصيبا من لاّ يعاشر إلاَّ ... منجِّماً أو طبيباً وقال آخر، وهو يزيد بن خذاق العبدي: هل للفتى من بنات الدَّهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من راق هوِّن عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنَّما مالنا للوارث الباقي وقال ابن الطَّثريَّة: وكنت كذي داءٍ تبغَّي لدائه ... طبيباً فلمَّا لم يجده تطبَّبا وقال محمود الوراق:؟ قد قلت لمّا قال لي قائلٌ قد صار بقراط إلى رمسه فأين ما دوِّن من كتبه ... وجمعه الأحجار مع جسِّه لم يغنه إذا حمَّ مقداره ... ولم يساو العشر من فلسه هيهات لا يدفع عن غيره ... من كان لا يدفع عن نفسه وقال منصور الفقيه: ياسيداً باتت القلوب لأنبات كما لا يحبُّ محترقه إنّ ذوي الطِّبِّ لا أقول بمالا يعلم ربّي خلافه فسقه فلا تشاورهم فليس لهم ... على شحيح بدينه شفقه واتل من الوحي ما استطعت ولو ... في كل يومٍ وليلةٍ ورقه فما يداوي العليل يرحمك الله ... بمثل القرآن والصَّدقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 جاء في الخبر: " من كان به مرض قديم فليأخذ درهماً حلالاً، فليشتر به عسلاً ثم ليشربه بماء السماء فإنه يبرأ بإذن الله ". قال منصور الفقيه يخاطب بعض إخوانه:؟ ياذا الَّذي أنزلني منزلي علمي بما أنزله منزله إن كنت في الصِّحَّة ذا رغبةٍ ... فاعتض من المجزرة المبقله واستعمل الماشَّ وأشباهه ... وباعد الميل عن المكحله فإنَّما الجاهل كلّ امرئ ... يأكل في الصِّحَّة ماعنَّ له قال أبو عمر رضي الله عنه: دخلت على الشيخ أبي الوليد بن عباد، عائداً له من بطن كان يشكوه قد اشتد عليه، فوجدته قد أخذ شيئاً من حسو، فقلت له: يا سيدي ما لصاحب البطن والحسو؟ فقال: شيء تاقت نفسي إليه، وسئمت أكل الجامد واليابس، فانصرفت من عنده ثم كتبت إليه: ياسليل الكرام من آل لخم ... وأخا الرَّأي والدَّها والوفاء إنَّ لي من سقام جسمك سقماً ... ثابتاً في الفؤاد والأحشاء وبقلبي ممَّا بجسمك ضعفٌ ... للذي تشتكي من الأدواء وبودِّي لو كنت عنك فداءً ... بدلاً عند هجمة الضَّراء فاقبل النُّصح سيِّدي واسمع القو ... ل فإنِّي أحكي عن الحكماء لا يداوي الإسهال بالإحتساء ... لا ولا بالأمراق والباقلاء إنَّما الطبُّ طردك الضِّدَّ بالضِّ ... دِّ ودفع الأهواء بالإحتماء حسم ذا الدَّاء ما كان قوتاً ... يألف الطَّبع في قوام الغذاء وعليك الدُّعاء فالله يشفي ... ليس شافٍ سواه من كلِّ داء نعم عون العليل توبة صدق ... وكذا البرُّ جالبٌ للشفاء وسلامٌ عليك منِّي دأباً ... ما جرى الدَّمع قاطعاً للسَّماء ولمنصور الفقيه أيضاً: ياشريفاً طيُّ أمثا ... لي عنه النُّصح بدعه لو مطلت النَّفس بالفرُّو ... ج بعد اليوم جمعه لم تمت همَّاً ولم تل ... مم بك الحمَّى بسرعه فاحترس بعد فحسب ال ... مرء أن يخدع خدعه باب الطَّاعة والمعصية قال الله عزوجل: " يا أيُّها الَّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم ". وقيل في تأويل أولي الأمر قولان: أحدهما أمراء السرايا كان يرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر العلماء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة إلا في معروف، ومن أمر بمعصية فلا طاعة له ". قال عبد الله بن مسعود في قول الله عزَّوجل: " اتَّقوا الله حقَّ تقاته ": أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. وقال قتادة، مثل ذلك وزاد عليها: " فاتَّقوا الله ما استطعتم ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عزَّوجلَّ يا ابن آدم! ما أنصفتني أتحبَّب إليك بالنِّعم، وتتبغّض إليّ بالمعاصي، خيري إليك نازلٌ، وشرُّك إليّ صاعدٌ، كم من ملك كريم يصعد إليَّ منك بعمل قبيح ". قال الهلاليّ: من لم يصلح على أدب الله لم يصلح على اختياره لنفسه، ومن تعزز بمعصية الله، أذاقه الله ذلاً بحقّ. قال علي بن عبد الله بن عباس: من لم يجد نقص الجهل في عقله، وذل المعصية في قلبه، ولم يستبن موضع الخل من لسانه عند كلال حده، فليس ممن يرغب عن ذنبه، ولا ينزع عن حال معجزةٍ، ولا يكترث لفضل ما بين حجّة وشبهة. قال جعفر بن محمد: من نقله الله عزوجل من ذل المعاصي إلى عزّ الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس وأعزّه بلا عشيرة. أخذه محمود الوراق فقال: هاكّ الدَّليل لمن أرا ... د غنىً يدوم بغير مال وأراد عزَّاً لم توطِّ ... ده العشائر بالقتال ومهابةً من غير سل ... طانٍ وجاهاً في الرِّجال فليعتصم بدخوله ... في عزِّ طاعة ذي الجلال وخروجه من ذلة ال ... عا صي له في كلِّ حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قال الحسن: لا يغرك توطّيهم رقاب المسلمين، وإن هملجت بهم خيولهم ورفرفت بهم ركابهم، إن ذل المعصية في قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. كان يقال: من أحبك نهاك ومن أبغضك أغراك. قال العتبي: خطب يزيد بن الوليد فأرجز وقال: أيها الناس! الأمر أمر الله، والطاعة طاعة الله، فأطيعوني ما أطعت الله، يغفر الله لي ولكم. قالت هند: الطاعة مقرونة بالمحبة، فالمطيع محبوب، وإن نأت داره، وقلَّت آثاره، والمعصية مقرونةٌ بالبغضة، فالعاصي ممقوت، وإن مسَّتك رحمته، ونالك معروفه. كتب ابن السَّماك إلى أخ له: أفضل العبادة الإمساك عن المعصية، والوقوف عند الشبهة، وأقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة، وقاله سفيان بن عيينة. ذكر إبليس عند أبي حاتم، فقال: وماإبليس! فوالله لقد عصى فما ضرَّ، وأطيع فما نفع. قال محمود الوراق وتنسب إلى الشافعي: تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه ... هذا محالٌ في القياس بديع لو كان حبُّك صادقاً لأطعته ... إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيع في كل يوم يبتديك بنعمةٍ ... منه وأنت لشكر ذاك مضيع وقال إسحاق الموصلي: الملك والعزّ والمروءة والفط ... نة والنبل واليسار معا مجتمعاتٌ في طاعة العبد لل ... هـ إذا العبد أعمل الورعا والُّلؤم والذُّلُّ والضَّراعة وال ... فاقة في أصل أذن من طمعا وقال أبو العتاهية: أراك امرءاً ترجو من الله عفوه ... وأنت على مالا يحبُّ مقيم فحتّى متى تعصي ويعفو إلى متى ... تبارك ربِّي إنَّه لرحيم وله أيضاً:؟ أطع الله بجهدك ... صادقاً أو بعض جهدك أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك باب الغيبة والنَّميمة قال الله عزوجل: " ويلٌ لكلِّ همزةٍ لمزةٍ "، قال مجاهد: هو الطّعَّان الآكل لحوم الناس. قال الله عزوجل: " ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه وهو في بيته ". قال عمر بن الخطاب: من أدى الأمانة، وكف عن أعراض المسلمين فهو الرجل. وقع بين سعد وخالد كلام، فذهب رجل يقع في خالد عند سعد فقال سعد: مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره فقد اغتبته، وإن قلت فيه ما ليس فيه فذلك البهتان. " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كف عن أعراض المسلمين لسانه أقاله الله يوم القيامة عثرته ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراركم أيها الناس المشَّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون لأهل البر العثرات ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ لا غيبة فيهم: الفاسق المعلن بفسقه، وشارب الخمر، والسُّلطان الجائر ". قال رجل لابن سيرين: إني وقعت فيك، فاجعلني في حلّ، قال: لا أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك. قال رجل للحسن البصري: إني اغتبت فلاناً وإني أريد أن أستحله فقال: لم يكفك أن أغتبته حتى تريد أن تبهته. قال ابن عباد الصاحب: ؟؟ احذر الغيبة فهي ال ... فسق لا رخصة فيه إنَّما المغتاب كالآ ... كل من لحم أخيه قال حذيفة: كفارة من اغتبته أن تستغفر له. قال عبد الله بن مبارك لسفيان بن عيينة: التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، قال سفيان: بل تستغفره مما قلت فيه: قال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين. قال عديّ بن حاتم: الغيبة مرعى الّلئام. قال أبو العتاهية: الصَّائم في عبادةٍ ما لم يغتب. قال ابن محيريز: مامن ذنبٍ أجدر أن تجده من الرجل - وإن أعجبك - من الغيبة. قال أبو حاتم: أربح التّجارة ذكر الله، وأخسر التجارة ذكر النّاس. قال الفضيل بن عياض: ذكر الناس داء، وذكر الله شفاء. سمع قتيبة بن مسلم رجلا يغتاب آخر، فقال: لقد مضغت مضغة طالما لفظها الكرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 سمع أعرابيّ رجلا يقع في الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب النّاس، لأنّ الطالب لها يطلبها بقدرما فيه منها. قال الشاعر: ؟ ويأخذ عيوب النَّاس من عيب نفسه ... مرادٌ لعمري ما أراد قريب وقال آخر: واجرأ من رأيت بظهر غيبٍ ... على عيب الرِّجال أخو العيوب وقال آخر: فكلّ عيَّابٍ له منظرٌ ... مشتمل الثَّوب على عيب كان يقال: ظلم منك لأخيك أن تقول أسوأ ما تعلم فيه. قال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارعونَّ عن ذكر الفاسق بما فيه يعرفه الناس ". قال الحجاج بن الفرافصة: قلت لمجاهد: الرجل يكون وقّاعاً في الناس، فأقع فيه، أله غيبة؟ قال: لا. قلت: من ذا الذي تحرم غيبته؟ قال: رجلٌ خفيف الظّهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، أخرس الّلسان عن أعراضهم، فهذا حرام الغيبة، ومن كان سوى ذلك فلا حرمة له، ولا غيبة فيه. قال رجل لعمرو بن عبيد: إنّي لأرحمك مما يقول النّاس فيك. قال: فما تسمعني أقول فيهم؟ قال: ما سمعتك تقول إلاّ خيراً. قال: إيَّاهم فارحم. قال عتبة بن أبي سيفيان لابنه عمرو: يا بنيّ نزّّه نفسك عن الخنا، كما تنزّه لسانك عن البذّا، فإن المستمع شريك القائل. وهذا عندي مأخوذ من قول كعب بن زهير: ؟ إن كنت لا ترهب عن ذمِّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل فاخش سكوتي إذ أنا منصتٌ ... فيك لمسموع خنا القائل فالسَّامع الذَّمِّ شريكٌ له ... ومطعم المأكول كالآكل مقالة السُّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل ومن دعا النَّاس إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحقِّ وبالباطل فلا تهج إن كنت ذا ريبةٍ ... حرب أخي التَّجربة العاقل فإنَّ ذا العقل إذا هجته ... هجت به ذا حبل حابل يبصر في عاجل شدَّاته ... عليك غبَّ الضَّرر الآجل ومن هذا المعنى قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: فلو شئت أدلي فيكما غير واحد ... علانيةً أو قال عندي في السِّرِّ فإن أنا لم آمر ولم أنه عائباً ... ضحكت له حتَّى يلجَّ ويستشري ومن هذا أيضاً قول محمود الوراق: تحرَّ من الطُّرق أوساطها ... وعدّ عن الجانب المشتبه وسمعك صن عن سماع القبي ... ح كصون الِّلسان عن النُّطق به فإنك عند استماع القبي ... ح شريكٌ لقائله فانتبه قالت الحكماء: حسبك من شرٍّ سماعه. قال الله عزّوجلّ: " سماعون للكذب أكَّالون للسُّحت ". قال عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنه، قال لي أبي: إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر - يدنيك ويقربك، فاحفظ عني ثلاثاً: إياك أن يجرّب عليك كذبة، وإياك أن تفشي له سرَّاً، وإيَّاك أن تغتاب عنده أحداً، ثم قال: يا عبد الله! ثلاثاً وأيّ ثلاث. فقال له رجل: يا ابن عباس كلُّ واحدةٍ خير من ألف. فقال: بل كلُّ واحدةٍ خيرٌ من عشرة آلاف. قال عبد الصمد بن المعذّل: قد هجرنا مجلس الغي ... بة هجران التَّقال ألَّفته عصبة نو ... كى لقيلٍ ولقال ربّ من يشجيه ذكري ... وهو لا يجري ببالي قلبه ملآن من خو ... في وقلبي منه خال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يرفع إلينا عورة مسلم ". وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة قتّات ". وقال عليه السلام: " إياك ومهلك الثلاثة " قيل: وما مهلك الثلاثة؟ قال: " رجل سعى بأخيه المسلم فقتله، فأهلك نفسه وأخاه وسلطانه ". وقالوا: قبول السِّعاية شرٌّ من السعاية، لأن السعاية دلالة والقبول إجازة. قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النَّمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة. قال سابق: ؟ إذ الواشي بغى يوماً صديقاً ... فلا تدع الصَّديق لقول واشٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقول سابق هذا - والله أعلم - أخذه من قول معاذ بن جبل في قوله: إذا كان لك أخ في الله فلا تماره، ولا تسمع فيه من أحد، فربما قال لك ماليس فيه فحال بينك وبينه. تنقّص ابن عامر بن عبد الله بن الزبير عليَّ بن أبي طالب، فقال له أبوه: مهلا يا بنيّ لا تنقّصه، فإن بني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، وإن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئاً إلا عادت على ما بنت فهدمته. كان يقال: المعرِّض بالناس اتقى صاحبه، ولم يتق ربه. قال الفرزدق: تصرَّم عنِّي ودَّ بكر بن وائلٍ ... وما خلت عنِّي ودَّهم يتصرَّم قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم وقال يزيد بن الحكم الثقفي: تكاشر من لاقيت لي ذا عداوةٍ ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوى بدا منك غشٌّ طالما قد كتمته ... كما كتّمت داء ابنها أمُّ مدّوى جمعت وفحشاً غيبةً ونميمةً ... ثلاث خلالٍ لست عنها بمرعوي وقال زياد الأعجم: إذا لقيتك تبدى لي مكاشرة ... وإن أغب فأنت الهامز الُّلمزه ما كنت أخشى وإن طال الزمان به ... حيفٌ على النّاس أن يغتابني غمزه وقال منصور الفقيه: هبني تحرَّزت ممَّن ... ينمُّ بالكتمان فكيف لي باحتراسٍ ... من قائل البهتان وقال أيضاً: لي حيلةٌ فيمن ينمُّ ... وليس في الكذَّاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله قال موسى عليه السلام: ياربّ إن الناس يقولون فيَّ ماليس فيَّ، فاجعلهم ياربّ يقولون فيما فيّ. فأوحى الله تعالى إليه: ياموسى لم أجعل ذلك لنفسي، فكيف أجعله لك. قال المسيح عليه السلام: لا يحزنك قول الناس فيك، فإن كان كاذباً كانت حسنة لم تعملها، وإن كان صادقاً كانت سيئة عجلت عقوبتها. باب البغي والحسد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مامن ذنبٍ هو أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع مايدّخره له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحقّقوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا ". وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاثةٌ لا يكاد يسلم منهن أحد: الطِّيرة، والحسد والظَّن ". قيل: فماالمخرج منهنّ يارسول الله؟ قال: " إذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقّق ". روي عن مجاهد عن ابن عبَّاس أنه قال: لو بغى جبلٌ على جبلٍ،لدكّ الباغي منهما. أخذه الشاعر فقال: ؟ ولو بغى جبلٌ يوماً على جبلٍ ... لدكَّ منه أعاليه وأسفله وقال آخر: ذر البغي إنَّ البغي موبق أهله ... ولم يعدم الباغي من النَّاس مصرعا قال عمر بن الخطّاب: ما كانت على أحد نعمةٌ إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزاً. قال ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله عزّوجل. قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. قال الحسن البصري: ليس أحدٌ من خلق الله إلا وقد جعل معه الحسد، ومن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظّلم لم يتبعه منه شيء. وعن أنس بن مالك أنه مرّ على ديار خربةٍ خاوية، قال: هذه أهلكها وأهلك أهلها البغي والحسد، إن الحسد ليطفئ نور الحسنات، والبغي يصدِّق ذلك أو يكذبه، فإذا حسدتم فلا تبغوا. قيل للحسن: يا أبا سعيد! أيحسد المؤمن؟ قال: لاأمَّ لك! أنسيت إخوة يوسف. قال بعض الحكماء: البغي من فروع الحسد، وأقدم الناس على البغي من جهل المعرفة بسرعة نصر الله لمن بغي عليه. وقالوا: ثلاثةٌ عائدة على فاعلها: البغي والمكر والنِّكث. قال الله عزوجل: " إنَّما بغيكم على أنفسكم "، وقال: " ولا يحيق المكر السَّيِّءُ إلاَّ بأهله "، وقال تعالى: " ومن نكث فإنَّما ينكث على نفسه ". وقال يزيد بن الحكم: إنَّ الأمور دقيقها ... مما يهبج به العظيم والبغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: " لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب ". وقد ذكرنا كثيراً من الآثار المرفوعة وغيرها في الحسد عند قوله عليه السلام: " لا تحاسدوا " في كتاب " التمهيد " بما فيه كفاية والحمد لله. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل؟ قال: " المؤمن النقي القلب، ليس فيه غل ولا حسد ". كان يقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج، وبالحكماء الضجر، وبالفقهاء سخافة الدين، وبالعلماء إفراط الحرص، وبالمقاتلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالفقراء الكبر وبالشباب الكسل، وبالشيوخ المزاح، وبجماعة الناس التباغض والحسد. كان يقال: كادت الفاقة تكون كفراً، وكاد الحسد يغلب القدر، والهم نصف الهرم، والفقر الموت الأكبر. قال عليُّ بن أبي طالب في خطبة خطبها على المنبر بالكوفة: ما لنا ولقريش بلى. ولهم، إن الله فضلنا فأدخلهم في فضلنا. قال عليُّ بن أبي طالب، قال إبليس لجنوده: ألقوا بين الناس التحاسد والبغي، فإنهما يعدلان الشرك. كان يقال: أول ما عصى الله به في السماء والأرض الحسد والحرص. ذهبوا إلى أن إبليس حسد آدم فلم يسجد له، وحرص آدم على الخلود فأكل من الشجرة، وحسد ابن آدم أخاه حين تقبِّل منه قربانه فقتله. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " احذروا ثلاثاً: الحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والكبر فإنه حطّ إبليس عن مرتبته، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه ". قال عمر بن أبي ربيعة: وقديماً كان في النَّاس الحسد قال سابق:؟ جنى الضَّغائن آباءٌ لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء قال أبو الدرداء: مكتوب في التوراة: إن أحسد الناس لعالم وأبغاهم عليه قرابته وجيرانه. كان يقال:الحسد في الجيران، والعداوة في الأقارب. قال ثمامة بن الأشرس في أحمد بن خالد: ؟ أفكِّر ماذنبي لديك فلا أرى ... عليَّ سبيلاً غير أنَّك حاسد وإنا لموسومان كلٌ بسيمةٍ ... أقرَّ مقرٌ أو أبى ذاك جاحد قال بكر بن عبد الله المزني: حظُّك من الباغي حسن المكاشرة، وذنبك إلى الحاسد دوام النعمة. قال الحسين الخليع: ما للحسود وأشياعه ... ومن كذب الحقَّ إَّلا الحجر قال عبد الله بن المقفع: إن الحسد خلق دنيء ومن دناءته أنه موكّل بالأدنىفالأدنى. قال يزيد بن الحكم الثَّقفي: تكاشرني كرهاً كأنَّك ناصحٌ ... وعينك تبدى أنَّ قلبك لي دوى بدا منك عيبٌ طالما قد كتمته ... كما كتمت داء ابنها أمُّ مدَّوى لسانك ماذىّ وقلبك علقم ... وشرُّك مبسوطٌ وخيرك منطوي تمَّلأت من غيظٍ عليَّ فلم يزل ... بك الغيظ حتَّى كدت بالغيظ تشتوي ومابرحت نفسٌ حسودٌ حشيتها ... تذيبك حتَّى قيل: هل أنت مكتوي وقال النَّطاسيُّون إنك مشعرٌ ... سلالاً ألا بل أنت من حسدٍ جوى أراك إذا لم أهو أمراً هويته ... ولست لما أهوى من الأمر بالهوى وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النِّيق منهوي عدوُّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت عدوِّي ليس ذاك بمستوي وفي رواية أخرى:؟ تصافح من ألفيت لي ذا عداوةٍ ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوي قال ابن المعتز: ماعابني إلاّ الحسو ... د وتلك من خير المعايب والخير والحسَّاد مق ... رونان إن ذهبوا فذاهب وإذا ملكت المجد لم ... أملك مذمَّات الأقارب وإذا فقدت الحاسدي ... ن فقدت في الدُّنيا المطايب وأنشد ابن عائشة: خليليَّ إنّي للثّريّا لحاسدٌوإني على ريب الزمان لواجد أيجمع منها شملها وهي سبعةوأفقد من أحببته وهو واحد وقال سويد بن أبي كاهل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كيف ترجُّون سقوطي بعدما ... عمَّم الرَّأس بياضٌ وصلع بئس ما ظنُّوا وقد عرَّفتهم ... عند غايات المدى كيف أقع ربَّ من أنضجت غيظاً صدره ... قد تمنّى لي موتاً لم يطع ويراني كالشَّجا في حلقه ... عسراً مخرجه ما ينتزع مزبداً يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انفقع لم يضرني غير أن يحسدني ... فهو يزقو مثل ما يزقو الضُّوع ويحيِّيني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له لحمي رتع قد كفاني الله ما في نفسه ... وإذا ما يكف شيئاً لم يضع وقال أبو الأسود الدُّؤلي، ويقال إنها للعرزمي: تلقي الّلبيب محسَّداً لم يجترم ... شتم الرِّجال وعرضه مشتوم حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالنَّاس أعداءٌ له وخصوم وقال المرَّار الفقعسيّ: لاتسأل النَّاس عن مالي وكثرته ... قد يقتر المرء يوماً وهو محمود أمضي على سنَّةٍ من والدٍ سلفت ... وفي أورمته ما ينبت العود مطالبٌ بتراتٍ غير مدركةٍ ... محسَّدٌ والفتى ذو الُّلبِّ محسود وقال أبو الطيب: أعادي على ما يوجب الحبَّ للفتى ... وأهدأ والأفكار فيَّ تجول سوى وجع الحسَّاد داو فإنَّه ... إذا حلَّ في قلبٍ فليس يزول ولا تطمعن من حاسدٍ في مودةٍ ... وإن كنت تبديها له وتنيل وقال لبيد بن عطارد بن حاجب التَّميمي: إن يحسدوني فإنَّي غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد أنا الّذي يجدوني في حلوقهم ... لا أرتقي صعداً فيها ولا أرد وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: ماضرَّني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النُّقصان وقال مروان بن أبي حفصة: ماضرَّه حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التَّقصير قال معاوية بن أبي سفيان: كل الناس أرضيته إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها. أخذه الشاعر فقال: كلُّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلاَّ عداوة من عاداك من حسد قال معاوية بن أبي سفيان: ليس في خلال الشر أشر من الحسد، لأنه قد يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود. كان يقال: الحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت. قال الخليل بن أحمد: لا شيء أشبه بالمظلوم من الحاسد. قال محمود الوراق: ؟ أعطيت كلَّ النَّاس من نفسي الرِّضا ... إلاَّ الحسود فإنَّه أعياني لا أنَّ لي ذنباً لديه علمته ... إلاَّ تظاهر نعمة الرَّحمن يطوي على حنقٍ حشاه لأن رأى ... عندي كمال غنىً وفضل بيان ماإن أرى يرضيه إلاَّ ذلَّتي ... وذهاب أموالي وقطع لساني وقال آخر:؟ إن يكثر الله حسُّاداً لهم فعلي ... مقدار ما كثرت فيهم من النِّعم وقال محمّد بن زياد الحارثي: إذا ما حملت الشُّكر في كلِّ نعمةٍ ... يحقُّ عليك شكرها واحتمالها فدع لحسودٍ بعد ذلك خطَّةً ... يكون عليه همُّها ووبالها لك الأجر والمهنى وللحاسد الَّذي ... يكيدك فيها جرمها ونكالها وقال آخر: تمنَّى لي الموت المعجَّل خالدٌ ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده وقال نصر بن أحمد: كأنَّما الدَّهر قد أغرى بنا حسداً ... ونعمة الله مقرونٌ بها الحسد وقال آخر: إنَّ العرانين تلقاها محسَّدةً ... ولن ترى للئام النَّاس حسَّادا وقال آخر: محسَّدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا وقال آخر: إنِّي نشأت وحسَّادي ذوو عددٍ ... ياذ المعارج لا تنقص لهم عددا وقال بشار العقيلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فالله أسأله إدوام دائهم ... وأن يديم لنا ما يوجب الحسدا وقال أيضاً: قد أذهب الدَّاء حسَّادي بكثرتهم ... ولو فنوا عزَّ دائي من يداويني لا عشت خلواً من الحسَّاد إنَّهم ... أعزُّ فقداً من الَّلائي أحبُّوني أبقى لي الله حسَّادي وغمَّهم ... حتَّى يموتوا بداءٍ غير مكنون وقال محمود الوراق: لا تحسدنَّ أخاك وار ... ع له على الأيَّام عهده حسد الصَّديق صديقه ... وأخاه من سقم المودَّه وقال حبيب:؟ وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النَّار فما جاورت ... ما كان يعرف فضل عرف العود وقال أبو القاسم الداعية: أدنى الأعراض عرض لا يرتع فيه ذم. ولأحد بني الطيفان: ؟ ومولى كمولى الزِّبرقان دملته ... كما دملت ساقٌ يهاض بها كسر تراه كأنَّ الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر وقال ابن أبي طاهر: ياحاسداً فضل امرئٍ سيِّدٍ ... أصبح قد أحسن في فعله لا زلت إلاَّ باغياً حاسداً ... لكلِّ ذي نبلٍ على نبله وزاد من تحسده نعمةً ... دائمةً تبقى على مثله ولم يزل ذو النَّقص من نقصه ... يحسد ذا الفضل على فضله وقال أبو فراس الحمداني، وهو الحارث بن سعيد بن حمدان: لمن جاهد الحسَّاد أجر المجاهد ... وأعجز ما حاولت إرضاء حاسد ولم أر مثل اليوم أكثر حاسداً ... كأنَّ قلوب النََّاس في قلب واحد باب السّباب والمشاتمة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إيّاكم والفحش، فإنّ الله لا يحبُّ الفحش ولا التَّفحُّش ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " المتسابَّان ماقالا، فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم. قال بعض الحكماء: ما استبّ رجلان إلاّ غلب ألأمهما. قال الزِّبرقان بن بدر: خصلتان كبيرتان في امرئ السُّوء: شدة السّبِّ، وكثرة الّلطام. كان يقال: الغالب في الشر مغلوب. شتم رجلٌ أبا ذر، فقال له: ياهذا لا نغرقنَّ في شتمنا ودع للصلح موضعا، فإنّا لا نكافئ من عصى الله فينا، بأكثر من أن نطيع الله فيه. قال أبو مسلم صاحب الدعوة، عصبة الأشراف تظهر بأفعالها، وعصبة الأدنياء تظهر بألسنتها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه ". كان يقال: ظنُّ الحكيم كهانة. ويروى هذا لمعاوية رضي الله عنه. سئل بعض العرب عن العقل، فقال: الإصابة بالظُّنون، ومعرفة ما لم يكن بما كان. قال علي بن أبي طالب:لله درّ ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق. قال بلعاء بن قيسٍ: ؟ وأبغي صواب الظَّنِّ أعلم أنَّه ... إذا طاش ظنُّ المرء طاشت مقادره وقال أوس بن حجر: الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظنَّ ... كأن قد رأى وقد سمعا كان يقال: صحة الظن أول اليقين، أخذه سعيد بن حميد فقال: أهابك أن أدلَّ عليك ظنَّا ... لأنَّ الظَّن مفتاح اليقين وقال آخر: يظنُّ فلا يعدو الضَّمير كأنَّما ... له في الأمور الغائبات رقيب وقال كثير بن عبد الملك: رأيت أبا الوليد غداة جمع ... به شيبٌ وما فقد الشَّبابا ولكن تحت ذاك الشَّيب عزمٌ ... إذا ما ظنَّ أمرض أو أصابا وقال آخر:؟ وإنِّي لطرف العين بالعين زاجرٌ ... فقد كدت لا يخفى عليَّ ضمير وقال عبد الله بن محمد الأشبوني: ذكيٌّ يرى ما في الضمير بظنِّه ... كأن له غيباً على غامض السِّرِّ وقال آخر: أحسن الظَّنَّ بمن قد عوَّدك ... حسناً أمس وسوَّى أودك إنَّ ربَّا كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك سمع أعرابي رجلا يقول: إن الله تعالى يتولى محاسبة عباده بنفسه. فقال الأعرابي: إن الكريم إذا تولى شيئاً أحسن فيه. قال ابن عباس رضي الله عنه: الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عزوجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قيل لبعض العلماء: من أسوأ الناس حالا؟ قال: من اتسعت معرفته، وضاقت مقدرته، وبعدت همته، وأسوأ منه حالا: من لم يثق بأحد لسوء ظنه ولم يثق به أحدٌ لسوء فعله. قال غيره من الحكماء: حسب البعيد الهمة أن تكون غايته الجنة. قال أبو العتاهية: الظَّنُّ يخطئ تارةً ويصيب وقال آخر: وإنِّي بها في كل حالٍ لواثقٌ ... ولكنّ سوء الظَّنِّ من شدّة الحبِّ قال المتنبي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصَّدق ما يعتاده من توهُّم قال ابن هرمة: وحسبك تهمةً لنصيح قومٍ ... يمدُّ على أخي غدرٍ جناحا قال أبو حازم: العقل التَّجارب، والحزم سوء الظن. قال الحسن البصري: لو كان الرجل يصيب ولا يخطئ، ويحمد في كل ما يأتي لداخله العجب. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس كلِّهم - فيما علمت - ثلاثة: العزيز في قوله لامرأته حين تفرّس في يوسف: " أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً "، وصاحبة موسى حين قالت: " ياأبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ". وأبو بكر حين تفرّس في عمر رضي الله عنهما فاستخلفه. نظر إياس بن معاوية يوماً، وهو بواسط، في الرحبة إلى آجرّة، فقال: تحت هذا الآجرّة حيّة، فنزعوا الآجرة فإذا تحتها حيةٌ منطوية، فسئل عن ذلك فقال: إنِّي رأيت ما بين الآجرتين نديَّاً من بين تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس. قال عمرو بن بحر: إذا نظر الأعرابي موضع منتفخ في أرض مستوية، فإذا رآه يتصدع في تهيّل، وكان تفتحه مستوياً علم أنها كمأة وإن خلط في التصدع والحركة علم أنها دابّة، فاتقى مكانها. نظر إياس بن معاوية يوماً إلى صدع في الأرض، فقال: في هذا الصدع دابة. فنظروا فإذا فيه دابة، فقال: إن الأرض لا تنصدع إلا عن دابة أو نبات. قال معن بن زائدة: ما رأيت قفا رجل قطّ إلا عرفت عقله، فقال له الفضل بن شهاب: فإن رأيت وجهه؟ قال: فذلك حينئذ في كتاب أقرأه. ومر إياس بن معاوية ذات يوم بماء، فقال: أسمع صوت كلب غريب، قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب. قالوا: فإذا كلب غريب مربوط، والكلاب تنبحه. وأماقول العماني: ويفهم قول الحكل لو أنّ ذرّةً ... تساود أخرى لم يفته سوادها فالحكل: كل من لم يكن له صوت تستبان مخارجه، أو كلام يفهم من الجواب كله. وأما قوله: تساود فمعناه تسارّ، والسَّواد: السِّرار، ومنه قول ابنة الخسِّ: حملني على هذا قرب الوساد، وطول السِّواد. وفي حديث ابن مسعود: تعالى أساودك، أي أسارّك. قال وهب بن منبّه خصلتان إذا كانتا في الغلام رجيت نجابته: الرَّهبة والحياء. قال غيره: إذا استثقل الصبي الأدب، وضج من الحصر إلا أنه إذا حفظ وعي، وإذا فهم أدّى، كان ذلك ممن يرجى. قال غيره: إذا كان الغلام حازماً في الخلاء، فظيع اللسان في الملاء، يبغض التعليم، ويوارب المعلم، ويقدم أباه على أمه، ويؤخِّر خاله على عمه، وكنيته أحبُّ إليه من اسمه، فإنه يرجى خيره وينتظر عزّه. وقال ابن الزيّات: إذا رأيت الصبي يحب عاجل المكروه من غير أن يعرف عاجل المنفعة فهو مضعوف، قاله إذ رأى ابنه عمر يحب الكتاب فاغتّم له، فسئل عن ذلك، فقال ما ذكرنا، قال أبو عمر رضي الله عنه: قوله عندي هذا ليس بشيء. وقال غيره: يستدل على نجابة الصبي بشيئين الحياء وحبّ الكرامة، أما الحياء فهو خير كله، وأما حب الكرامة فيدعو إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. قال عمرو بن العاص: أنا للبديهة ومعاوية للأناة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لصغار الأمور وكبارها. أراد يوسف بن عمر بن هبيرة أن يولّي بكر بن عبد الله المزنيّ القضاء، فاستعفاه، فأبى أن يعفيه، فقال: أصلح الله الأمير، ما أحسن القضاء، فإن كنت كاذباً فلا يحلّ لك أن تولّي الكاذبين، وإن كنت صادقاً، فلا يحل أن تولّي من لا يحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 قال رجل من الأعراب ضرير النظر لابنته، وهي تقوده في المرعى: يا بنية انظري كيف ترين السماء؟ قالت كأنها قرون المعزي. قال: ارعي. فرعت ساعة، فقال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت كأنها خيل دهم تجرّ جلالها. قال: ارعي. فرعت ساعة ثم قال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت: كأن الرباب نعام تعلق بالأرجاء من السماء، قال: ارعي. ثم قال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت. ابيضت واسودت ودنت فكأنها عين نفسٍ تطرف. قال: أنجي ولا أراك ناجية. قال الشاعر: أكلُّ وميض بارقةٍ كذوب ... أمافي الدَّهر شيءٌ لا يريب أشار ضيف لقوم إلى بنت لهم لتقبله، فقالت والله إني إذاً لطويل العنق. فسمعها الشيخ، فقال: أشار والله إليها لتقبله. للبيد أو للبعيث: لعمرك ما تدري الطّوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع /باب الظّنّ والزّكانة قد تقدم في الباب الذي قبل هذا، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ظننتم فلا تحققوا " وقال الله تعالى: " إنّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظنّ، فإن الظنّ أكذب الحديث. قال عمر بن الخطاب: لا يحل لامرئٍ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءاً، وهو يجد لها في شئ من الخير مخرجاً. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه. قال علىّ بن طالب: حسن الظنّ بالله ألا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا ذنبك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ". قال الحسن البصرىّ: إنّ المؤمن إذا أحسن الظن أحسن العمل. قال أبو مسلم الخزلانى: أتّقوا ظنّ المؤمن، فإن الله جعل الحقّ على لسانه وقلبه. قال عبد الله بن عباس: كفى بك ظلما ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً. وعن ابن مسعود: قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: ما أمارى أخي أبداً، لأنى أرى أنى إما أن أكذبه وإما أن أغضبه. قال عبد الله بن حسين على رضى الله عنهم: المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلا يأتيك به الغضب. قال محّمد بن على بن حسين: الخصومة تمحق الدين وتنبت الشحناء في صدور الرجال. كان يقال: لاتمار حليماً ولا سفيهاً، فإن الحليم يغلبك، والسفيه يؤذيك. قيل لعبد الله بن حسين: ما تقول في المراء؟ قال: يفسد الصداقة القديمة،ويحلّ العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن يكون دريثة للمغالبه والمغالبه، أمتن أسباب القطيعه. قال عبد الله بن عباس لمعاويه: هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابى؟ قال: وما تصنع بذلك؟ أشغب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك، ويبقى في قلبى ما يضرك. قال إبراهيم التّيمى: إياكم والمخاصمات في الدين، فإنها تحبط الأعمال. قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل. قال الأوزاعىّ: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل. قال ابن أبي الزناد: ما أقام الجدل شيئاً إلا كسره جدل مثله. وقد أفردنا في كتاب " بيان العلم " باباً فيما تجوز فيه المناظرة والجدال، وباباً فيما تكره فيه المناظرة والمجادلة، وأوردنا فيهما من الآثار عن السلف وأئمة الخلف ما فيه كفاية وبيان، والحمد لله وهو المستعان. قال الأصمعى: سمعت أعرابيا يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلت كرامته، ومن أكثر من شئ عرف به. وقال مسعر بن كدام الهلالى يوصى ابنه كداما: إّني منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرصاهما لصديق إّني بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاورٍ جار ولا لرفيق والجهل يزرى بالفتى في قومه ... وعروقه في النّاس أىّ عروق وقال وصعب الزبيرى: أأقعد بعدما وجفت عظامى ... وكان الموت أقرب ما يلينى أجادل كلّ معترض خصيمٍ ... وأجعل دينه غرضاً لدينى فأترك ما علمت لرأى غيرى ... وليس الرّأى كالعلم اليقين وما أنا والخصومة وهى لبس ... تصرف في الشّمال وفي اليمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 في أبيات قد ذكرناها بتمامها في كتاب " بيان العلم وفضله " والحمد لله. قال أبو العبّاس النّاشئ: وإذا بليت بجاهل متحاملٍ ... يجد المحال من الأمور صوابا أوليته منّى السّكوت وربّما ... كان السّكوت على الجواب جوابا باب المراء والخصومة والملاحاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقّا، ولمن ترك الكذب وإن كان لاعباً، ولمن حسنت مخالفته للنّاس ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أسرى بي كان أول ما أمرني به ربى أن قال: إيّاك وعبادة الأوثان، وشرب الخمر، وملاحاة الرجال. قال قيس بن السّائب: كان رسول الله عليه وسلم شريكى في الجاهلية، فكان خير شريك، فكان لا يدارى ولا يمارى. قال معاذ بن جبل: إذا كان لك أخ في الله فلا تماره، ولا تساره الحديث. قال لقمان لابنه: يا بنى لا تمارين حكيماً، ولا تجادلن لجوجاً، ولا تعاشرن ظلوماً، ولا تصاحبنّ متهماً. قال لقمان لابنه: يا بنى من قصّر في الخصة خصم، ومن بالغ فيها أثم فقل الحق ولو على نفسك، ولا تبال من غضب. وفي الحديث المرفوع: " احذروا جدال كل مفتون، فإنّه يلقّن حجّته إلى انقطاع مدته ". سب أعرابي أعرابياً، فسكت. فقيل له: لم سكتّ عنه؟ فقال: مالى علم بما فيه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه. ولمحمد بن زياد الحارثى: وأرفع نفسى عن نفوسٍ وربّما ... تذلّلت في إكرامها لنفوس وإن رامني يوماً خسيس بجهله ... أبى الله أن أرضى بعرض خسيس وقال حسان بن ثابت: ما أبلى أنتّ بالحزن تيس ... أم لحانى بظهر غيب لثيم وقال آخر: وقل ليزيد إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتّامين للمتشتّم ولكننا نأبى الجواب ونقتضى ... بكلّ رقيق الشّفرتين غشمشم قال الخليل: الغشمشم: الجرئ الماضى، قال الشاعر: عبل الشّوى غشمشماً غاشما وقال آخر: وتبطش أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتّكلم وقال الأخطل: أنبئت كلبا تمنّى أن تسافهنا ... وطالما سافهونا ثمّ ما ظفروا قد أنذروا حيّة في رأس هضبتهٍ ... وما يكاد ينام الحيّة الذّكر وقال آخر: فإن تشتمونا على لؤمكم ... فقد تقرض العثّ ملس الأدم العث دويّبة صغيرة ليس بها إلاّ أنّها تقرض كل شئٍ وقال آخر: هل يشتمنى لا أبا لكم ... دنس الثّياب كطابخ القدر جعلٌ تمطّى في غثاثته ... زمن المروءة ناقص الشّبر أعطى الحسن بن على شاعراً، فقيل له: تعطى من يقول البهتان، ويعصي الرحمن؟ فقال: إن خير ما بذلت به من مالك ما وقيت به من عرضك، ومن ابتغى الخير اتقى الشر. وقد روى عن ابن شهاب مثل ذلك فى شاعر مدحه فأعطاه. وقد كان يقال: إعطاءُ الشاعر من بر الوالدين. قال جرير: وما حملت أمّ امرئٍ في ضلوعها ... أعق من الجاني عليها هجائيا وقال آخر: اصحب الأخيار وأرغب فيهم ... ربّ من صاحبته مثل الجرب ودع الناس ولا تشتمهم ... وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب إنّ من سبّ لئيماً كالّذي ... يبدّل الصّفر بأعيان الذّهب وقال آخر: مالى أكفكف من " وتشتمنى " ... ولو شتمت بني سعد لقد سكتوا وقال آخر: جهلاً علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن قيل للشعى: فلان يتنقصك ويشتمك. فتمثل بقول كثيّر: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت أسيئى بنا أو أحسنى لاملومةً ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت وقال قيس المجنون: حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا ... هنيئاً ومغفوراً لليلى ذنوبها وقال آخر: إذا ما شئت سبئك غير قومٍ ... وإن كنت المهذب واللّبابا يها بك كلّ ذى حسب ودينٍ ... وأمّا في اللثام فلن تهابا وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 من شاتم النّاس رموه بما ... لم يك يعتدّه في الحساب كأنه أخذه من قول كعب بن زهير: ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذموه بالحقّ والباطل وقال آخر: ولست مشاتماً أحداً لأّبى ... رأيت الشّتم من عىّ الرّجال إذا جعل اللئيم أباه نصباً ... لشاتمه فديت أبى بمالى وقال آخر: وتجزع نفس المرء من شتم مرّة ... ويشتم ألفاً بعد ذاك فيصبر وقال آخر: لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنّما سبّ الأمير المبلّغ وقال آخر: من يخبّرك بشتم عن أخٍ ... فهو الشّاتم لا من شتمك ذاك شتم لم يواجهك به ... إنّما اللّوم على من أعلمك وقال آخر: أبا حسنٍ يكفيك ما فيك شاتماً ... لعرضك من شتم الرّجال ومن شتمى وقال آخر: وما يقى عنك قوماً أنت خائفهم ... كمثل دفعك جهّالاً بجهّال فاقعس إذا حدبوا واحدب إذا قعسوا ... ووازن الشّرّ مثقالاً بمثقال وقال آخر: ثالبنى عمرو وثالبته ... فقد أثم المثلوب والثّالب قلت له خيراً فقال الخنا ... كلّ على صاحبه كاذب باب الكبر والعجب والتّيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاكياً عن الله عزّ وجل: " الكبرياء ردائي، والعظمة إزارى، فمن نازعنى واحداً منهما أدخلته النار ". وقال رسول الله صلى اللهّ عليه وسلم: " لا ينظر الله عزّ وجلّ إلى من جرّ ثوبه خيلاء، وفي حديث آخر: لاينظر الله عزّ وجلّ إلى من جرّ ثوبه بطرا ". قال رسول الله صلى اللهّ عليه وسلم: إنما الكبر أن يسفّه الحقّ، ويغّمض النّاس. قال محمّد بن علىّ بن حسين: ياعجباً من المختال الفخور الذي خلق من نطفه، ثم يصير جيفة ثم لا يدرى بعد ذلك ما يفعل به. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: سمعت أحمد بن يوسف، وذكر رجلا كان يذهب بنفسه في التيه، فقال: يتيه فلان، وما عنده فائدة ولا عائده ولا رأى جميل. قال الشاعر: يامظهر الكبر إعجاباً بصورته ... أبصر خلاءك إنّ المين تثريب لو فكر النّاس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبّانٌ ولا شيب قيل لعيسى عليه السلام: طوبى لبطن حملك، فقال: طوبى لمن علمه الله كتابه، ولم يكن جباراً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الرّجل يذهب بنفسه في التّيه حتى يكتب في الجبّارين، فيصيبه ما أصابهم ". قال مالك بن دينار: كيف يتيه من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك حاملٌ عذرة. أخذه أبو العتاهية فقال: ما بال من أوّله نطفةٌ ... وجيفة آخره يفخر أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضى وما يقدر وقال منصور الفقه: تتيه وجسمك من نطفة ... وأنت وعاءٌ لما تعلم وله أيضاً: قولوا لزوّار الكنف ... والمنشئين من نطف يا جيفاً من الجيف ... ما لكم وللصّلف كان يقال: لولا ثلاثٌ سلم النّاس: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه. قال جعفر بن محمد: علم الله عز وجل أن الذنب خير للمؤمن من العجب، ولولا ذلك ما ابتلى مؤمن بذنب. قال بلال بن سعيد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً فقد تمت خسارته. قال بعض الحكماء: البلية التي لا يؤجر عليها المبتلى بها: العجب، والنعمة التي لا يحسد عليها: التواضع. كان يقال: لاشئ أكلم للمحاسن من العجب والتيه قال نصر بن أحمد: ومن أمن الآفات عجباً برأيه ... آحاطت به الآفات من حيث يجهل وقال منصور الفقيه: لاتحلقنّ بتيّاه فتحمله ... على التّزيّد مما يسخط الله واهجره لله لا للنّاس مبتغياً ... ثواب ربّك في هجران من تاها وقال آخر: إن عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعفٌ لضعفه لو تراه راكباً والتّيه ... قد مال بعطفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لرأيت الأنف في السّر ... ج وعيسى مثل ردفه وقال ابن السّلمانى: أتيه على جنّ البلاد وإنسها ... ولو لم أجد خلقاً لتهت على نفسى أتيه فلا أدرى من التّيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفى جنسى فإن زعموا أنّى من الإنس مثلهم ... فما لي عيبٌ غير أنّى من الإنس وقال خلف الحمر: لنا صاحبٌ مولعٌ بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصّواب ألجّ لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب ولأبى العتاهية، ويروى لمنصور الفقيه: حّذتك الكبر لا يعلقك ميسمه ... فإنّه ملبسٌ نازعته الله يا بوس حامل رجسٍ ليس يغسله ... بالماء عنه إذا كلّمته تاها يرى عليك له فضلاً ومنزلةً ... إن نال في العاجل السّلطان والجاها مثنٍ على نفسه راضٍ بسيرته ... كذبت يا صاحب الدّنيا ومولاها وقال منصور الفقيه: قلت للمعجب لمّا ... قال مثلى لا يراجع يا قريب العهد بالمخ ... رج لم لا تتواضع قال على بن محمد: إنما أهلك الناس العجلة والعجب، ولو ثبتوا ولم يعجلوا لم يهلك منهم أحد. قال ابن أبى ليلى: ما رأيت ذا عجب قطّ إلا اعتراني بعض دائه. يريد أنه يبعثه على مكافأته بالتكبر عليه. قال بعض الحكماء: من استطاع أن يمنع نفسه أربعاً كان جديرا ألا ينزل به مكروه: العجلة، واللجاجة، والتواني، والعجب. ولإبراهيم بن العبّاس الصولى في محمد بن عبد الملك الزيات: أبا جعفرٍ عرّج على خلطائكا ... وأقصر قليلاً عن مدى غلوائكا فإن كنت قد أوتيت بالأمس رفعةً ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا ولمنصور الفقيه: قد كنت أيام كنت مثلكم ... أرى الهلال الخفيّ بالعجله لو مرّ بي تائهٌ على جمل ... لم أره الآن قلّةً ولا جمله باب التّواضع والإنصاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تواضع عبدٌ لله إلاّ رفعه الله. وقال صلى الله عليه وسلم: تواضعوا يرفعكم الله، واعفوا يعزكم الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته. انتسب رجلٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ عشر آباء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لاحسب إلا في التواضع، ولا نسب إلا بالتقوى، ولا عمل إلا بالنية، ولا عبادة إلا باليقين. وعنه عليه السلام أنه قال: من عظمت نعمة الله عليه فليطلب بالتواضع شكرها، فإنه لا يكون شكوراً حتى يكون متواضعاً. قال بعض الحكماء: رأس الحكمة طاعة الله، وتقديم حسن النية، وعراها التواضع في الحقّ، والإنصاف في المناظرة، والإقرار بما يلزم من الحجة، وثمرتها حفظ الثواب، في العاجلة، والنجاة في العاقبة، وحقّها العمل بها، وألاّ تمنع من من مستحقها، وأن توقر أوعيتها لوقارها. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما من أحدٍ إلاّ وفي عنقه حكمةٌ موكل بها ملك، يقول الله به: إن تواضع عبدى فارفعه، وإن ارتفع فضعه. قال بكر بن عبد الله المزنى: ما أرى امرءًا إلاّ رأيت له الفضل علىّ، لأنّي من نفسى على يقيين، وأنا من النّاس على شك. قال عبد الله بن مسعود: إن من التواضع الرّضا بالدّون من شرف المجلس، وأن تسلّم على من لقيت. قال عبد الله بن المبارك: التعزّز على الأغنياء تواضع. كان يقال: بالتواضع تتمّ النعمة، وبالتكبر تحق النقمة. كان سليمان عليه السلام يجئ إلى أوضع المجالس بنى إسرائيل فيجلس معهم فيقول: مسكينٌ بين ظهرانى مساكين. كان يقال: ثمرة القناعة الرّاحة، وثمرة التواضع المحبة. قال لقمان لابنه: يا بنىّ تواضع للحقّ، تكن أعقل الناس قال أبو الدّرداء: ليس الذي يقول الحق ويفعله بأفضل من الذي يسمعه فيقبله. قال بعض الحكماء: إذا نسك الشريف تواضع، وإذا نسك الوضيع تكبّر. ولذى الرّمّة الأسدىّ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إذا اصطحب الأقدام كان أذلّهم ... لأصحابه نفساً أبرّ وأفضلا وما الفضل في أن يؤثر المرء نفسه ... ولكنّ فضل المرء أن يتفضلا قال سالم بن قتيبه: ما تكبّر في ولايته إلا من كبرت عنه، ولا تواضع فيها إلا من كبر عنها. قال بعض الفلاسفة: أظلم الناس لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب فيمن يبعده. قال بزر جمهر: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل، أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء فأعظم بحسنه سترت من صاحبها سيئتين، وأقبح بسيئة غطّت من صاحبها حسنتين. قال عبد الملك بن مروان: أفضل النّاس من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة كان يقال: من حقوق الشّرف أن تتواضع لمن هو دونك، وتنصف من هو مثلك، وتنبل على من هو فوقك. قال ابن السّماك للرشيد: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك قال جعفر بن محمد: من أنصف النّاس من نفسه قضى به حكماً لغيره قال معن بن أوس: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل قال مالك بن الرّيب: فإن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلا فأذنوا ببعاد ففي الأرض عن المذلّة مذهبٌ ... وكلّ بلاد أوطنت كبلادى قال العباس بن عبد المطلب: أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدّما تركناهم لا يستحلون بعدها ... لذي رحمٍ يوماً من الدّهر محرماً قال الحكم بن المنذر الجارود في الإنصاف: بنى عمنّا لا تجزعوا من طعاننا ... فقد كان قبل اليوم مبكى ومجزعاً وذوقوا كما ذقنا من الحرب إنّنا ... نرى شر أهل الأرض من قد تضعضعاُ ونادى مناد يال بكر بن وائل ... ونادى بعبد القيس ناد فأسمعا فما خذلتنا الأزد إذ دارت الرّحى ... ولكنّهم يحمون عزّاً ممنّعا خطنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بنى عمّنا من يرمهم يرمنا معا وقال أبو الأسود الدؤلى: إذا قلت أنصفنى ولا تظلمنّنى ... رمى كلّ حقّ أدّعيه بباصل فما طلته حتّى ارعوى وهو كاره ... وقد يرعوى ذو الشّغب عند التجادل وإنك لم تعطف إلى الحق ظالماً ... بمثل خصيم عاقل متجاهل قالوا: ثلاثة من حقائق الإيمان: الاقتصاد في الإنفاق، والابتداء بالسلام والإنصاف من نفسك. وفي سماع أشهب، قال مالك رضى الله عنه:ليس في الإنسان شئٌ أقل من الإنصاف. قال جعفر بن سعد: ما أقلّ الإنصاف، وما أكثر الخلاف، الخلاف موكل بكلّ شئ حتى القذاة في رأس الكوز، فإذا أردت أن تشرب الماء جاءت إلى فيك، وإذا أردت أن تصب من رأس الكوز لتخرج رجعت. قال الشاعر: آخ الكرام المنصفين وصلهم ... واقطع مودّة كلّ من لا ينصف وقال أبو العتاهية: إذا ما لم يكن لك حسن فهم ... أسأت إجابةً وأسأت سمعا وقال أبو عثمان الشريشى: لو جرحت رأسى يدا منصف ... لما تمنّيت بأن أبرا باب الرّأى والمشورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تشاور قومٌ إلاّ هداهم الله لأرشد أمورهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يهلك امرؤٌ عن مشورة. قال صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن. قال الحسن: إن الله لم يأمر نبيّه بمشاورة أصحابه حاجة منه إلى رأيهم، ولكنه أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نزل به أمر فشاور فيه من هو دونه تواضعاً منه عزم له على الرّشد. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل. قيل لرجل من بنى عبس. ما أكثر صوابكم؟ ! قال: نحن ألفٌ وفينا حازم واحد، ونحن نشاوره ونطيعه، فصرنا ألف حازم. قال عامر بن الظّرب: الرأى نائم والهوى يقظان، فلذلك يغلب الهوى الرأى. كان يقال: بإجالة الفكرة يستدرّ الرأى المصيب كان علىّ بن أبى طالب يقول: رأى الشيخ خير من مشهد الغلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قال بزر جمهر: حسب ذا الرأي ومن لا رأى له أن يستشير عالماً ويطيعه. مرّ حارثه بن زيد بالأحنف بن قيس فقال: لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر. فقال: يا حارثه أجل، كانوا لايشاورون الجائع حتى يشبع والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمضلّ حتى يجد، والراغب حتى يمنح. كان يقال: استشر عدوّك العاقل، ولا تستشر صديقك الأحمق، فإن العاقل يتقي على رأيه الزّلل، كما يتقي الورع على دينه الجرح. قال ابن المقفع: ثلاثة لا آراء لهم: صاحب الخف الضيق، وحاقن البول وصاحب المرأة السليطة. قال بعض البلغاء: لا نتيجة لرأى إلا عن طاعة ونصيحة، ولا نتيجة لمشورة إلا عن محبة ومودة. وقال بعضهم: لاتترك الأمر مقبلا، وتطلبه مدبراً، فإن ذلك من ضعف العقل وقلة الرأى. كان يقال: لا تدخل في رأيك بخيلا فيقصّر فعلك، ولا جباناً فيخوّفك مالا تخاف، ولا حريصاً فيعدك مالا يرجى. قال بعض الأعراب: ولو أنّ قومى أكرمونى وأتأموا ... سجالاً بها أسقى الذّين أساجل كففت الأذى ما عشت عن حلمائهم ... وناضلت عن أعراضهم من يناضل ولكنّ قومى عزّهم سفهاؤهم ... على الرّأى حتّى ليس للرأى حامل قال النبى صلى الله عليه وسلم: الحزم: في مشاورة ذوى الرّأى وطاعتهم. قال الملهب: إذا كان الرأى عند من يملكه دون من يبصره ضاعت الأمور. قال الحكماء: إذا كنت مستشيراً فتوخّ ذا الرأى والنصيحة،فإنه لا يكتفى برأى من لا ينصح، ولا نصيحة لمن لا رأى له. ولبشار بن برد، وقيل إنها لعنترة، وقيل: إنها للعجّاج الأسدى: إذا بلغ الرّأى المشورة فاستعن ... برأى نصيحٍ أو نصاحة حازم ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً ... فإنّ الخوافى رافدٌ للقوادم وآذن من القربى المقدّم نفسه ... ولا تشهد الشورى امرءًا غير كاتم وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يوتّد بقائم فإنّك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم أنشدنى الأعرابي: وأنفع من شاورت من كلّ ناصحاً ... شفيقاً فأبصر بعدها من تشاور وليس بشافيك الصّديق ورأيه ... غريبٌ ولاذو الرّأى والصّدر واغر وقال بكر بن أذينة: ولا أشير على من لاّ يشاورنى ... إذا طوى ذات يومٍ أمره دونى قال أكثم بن صيفى: المشورة مادة الرأى. قال ابن هبيرة لبعض ولده: ولا تشر على مستبدّ، ولا على عدوّ، ولا على متّلون، ولا على لجوج، ولا تكون أول مستشار، ولا أول مشير، وإياك والرأى الفطير، وخف الله في المستشير، فإن التماس موافقه لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة. قال سليمان عليه السلام لابنه: يا بنى لا تقطع أمراً حتى تشاور مرشداً فإنك إذا فعلت ذلك لم تندم. كان يقال: من اجتهد رأيه وشاور صديقه، قضى ما عليه. قال عمر بن العاص: ما نزلت بى قطّ عظيمةٌ فأبرمتها حتى أشاور عشرةً من قريش مرتين فإن أصبت كان الحظّ لى دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسى بلائمة. قال بعض الأعراب: خليلىّ ليس الرأى في صدر واحد ... أشيرا علىّ اليوم ما تريان أأركب صعب الأمر إنّ ذلوله ... بنجران لا يقضى بحين أوان وأظن هذين البيتين من الأعرابى القائل: لقد هزئت منّى بنجران إذ رأت ... مقامى في الكبلين أمّ أبان كأن لم تر قبلى أسيراً مكبلاً ... ولا رجلاً يرمى به الرّجوان وقد تمثل بهذا البيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكتب به إلى بعض أمرائه وقضاته. كان يقال: أمران جليلان لا يصلح أحداهما إلاّ بالتفرّد، ولا يصلح الآخر إلا بالتّعاون، الملك والرّأى، فإن استقام الملك بالشركاء استقام الرأى بالاستبداد، وهذا لا يكون أبداً. قال صالح بن عبد القدوس وإن باب أمرٍ عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه وإن ناصح منك يوماً دنا ... فلا تنأ عنه ولا تقصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قال الأحنف: اضربوا الرأى بعضه ببعض يتولّد منه الصّواب، وتجنّبوا منه شدة الحزم، واتّهموا عقولكم، فإن فيها نتائج الخطأ، وذمّ العاقبة. كان يقال: خذ الأمر مقلا، فشرّ الرأى: الدّبرىّ. قال الشاعر، وهو القطامىّ: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا قال بعض العرب: قبل الرّمى يراش السّهم وقال سابق: وقبل أوان الرّمى تملا الكنائن وقال الفارسىّ: بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة، وأنشد: تدارك الأمر قبل نهبته ... أبلغ فيما تحبّ من دركه قال بعض الحكماء: حقيق أن يوكّل إلى نفسه، من أعجب برأيه. قال عبد الملك: اللحن هجنة الشريف، والعجب آفه الرأى. قال قتيبه بن مسلم: من أعجب برأيه، لم يشاور كفيا، ولم يوات نصيحاً. قال بزر جمهر: أفره الدّواب لاغنى به عن السّوط، وأعفّ النساء لا غنى بها عن الزواج، وأعقل الرجال لا غنى به عن المشورة. قال عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلىّ من أن أصيب من غير مشورة. قال قتيبه بن مسلم: الخطأ مع الجماعة خيرٌ من الصواب مع الفرقة، وإن كانت الجماعة لا تخطئ، والفرقة لا تصيب. قال المأمون: ثلاثٌ لا يعدم المرء الرشد فيهنّ: مشاورة ناصح، ومداراة حاسد، والتحبب إلى الناس. كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يستشير في الأمر، حتى إن كان ربما استشار المرأة، فأبصر في رأيها فضلا. كان يقال: ما من قوم تمالئوا على أمرهم، ثم شاوروا امرأة إلا تبّر الله أمرهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لايفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة. كان يقال: من طلب الرّخصة من الإخوان عند المشورة، ومن الفقهاء عند الشبهة، من الأطباء عند المرض، أخطأ الرّأى، وحمل الوزر، وازداد مرضاً. قال الشاعر، وأظنها لمنصور الفقيه: إذا الأمر أشكل إنفاذه ... ولم تر منه سبيلا فسيحا فشاور بأمرك في سترةٍ ... أخاك اللبيب المحبّ النّصيحا فربّتما فرّج النّاصحون ... وأبدوا من الرّأى رأياً صحيحا ولا يلبث المستشير الرّجال ... إذا هو شاور أن يستريحا وقال آخر: إنَّ الَّلبِيب إذا تفرّق أمره ... فتق الأمور مناظراً ومشاور أخو الجهالة يستبدّ برأيه ... فتراه يعتسف الأمور مخاطرا وقال آخر: وعاجز الرّأى مضياعٌ لفرصته ... حتّى إذا فات أمر عاتب القدرا وقال آخر: أنتم أناسٌ عظامٌ لا حلوم لكم ... لا تعلمون أجاء الرّشد أم غابا لا تبصرون وجوه الرّأى مقبلة ... وتبصرون إذا ولين أذنابا قال أبو عمر: الاستبداد مذموم عند جماعة الحكماء، والمشورة محمودة عند غاية العلماء، ولا علم أحداً رضى الاستبداد وحمده، إلا رجل واحد مفتون، مخادع لمن يطلب عنده لذته فيرقب غرته، أو رجلٌ فاتك يحاول حين الغفلة، ويرتصد الفرصة، وكلا الرّجلين فاسقٌ مائق، مثال أحدهما قول عمر بن أبى ربيعة. يخاطب من يخدعه. ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد واستبدت مرّة واحدةً ... إنّما العاجز من لا يستبد ومثال الآخر، قول سعيد بن ثابت العنبرى الأعرابى إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السّيف صاحبا سئل الحسن البصرىّ، عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستضيئوا بنار المشركين فقال: أراد لا تستشيروا المشركين في أموركم ولا تأخذوا برأيهم. باب كتمان السّر وإفشائه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسّر إلى أخيه سرّاً لم يحلّ له أن يفشيه عليه. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من كتم سره كان الخيار بيده، ومن عرّض نفسه للتّهمة فلا يلومنّ من أساء الظنّ به. قال عباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله رضى الله عنهما: يابنى إن أمير المؤمنين يدنيك - يعنى عمر بن الخطاب - فاحفظ عنى ثلاثاً: لا تفشينّ له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يطّلعنّ منك على كذبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قال أكثم بن صيفي: إن سرّك من دمك، فانظر أين تريقه. كان يقال: احفظوا أسراركم كما تحفظون أبصاركم وكان يقال: أكثر ما يتم به التدبير الكتمان. قال قيس بن الخطيم: أجود بمضمون التّلاد وإنّنى ... بسرّك عمنّ سالنى لضنين وإن ضيّع الإخوان سراً فإنّنى ... كتومٌ لأسرار الخليل أمين يكون له عندى إذا ما ائتمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين إذا جاوز الإثنين سرٌّ فإنّه ... بنشرٍ وإفشاء الحديث قمين وفي مثل هذا: إن السرّ لا يسمّى سرّاً حتى يسره رجلٌ واحد إلى رجل آخر. قال الصّلتان العبدى: وسرّك ما كان عند امرئ ... وسرّ الثّلاثة غير الخفى وقال سابق: فلا تخبر بسرِّك،كلُّ سرًّ ... إذا ما جاوز الإثنين فاشى وقال آخر: لكلَّ امرىء يا أمّ عمرو طبيعةٌ ... وتفضيل ما بين الرّجال الطّبائع فلا يسمعن سرّى وسرّك ثالثٌ ... ألا كلّ سرًّ جاوز اثنين ضائع وكيف يشيع القلب سرّاً وفوقه ... حجابٌ وما فوق الحجابٌ الأضالع وذهبت طائفة إلى أن السرَّ ما أسررته في نفسك،ولم تبده إلى أحد. قال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سرّاً فأفشاه فلمته، لأنى كنت به أضيق صدراً حين استودعته إياه. وإلى هذا ذهب القائل حيث قال: إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فعدر الّذى يستودع السّرّ أضيق وأنشد الأصمعى قال:أنشدنى أعرابي: لا أكتم الأسرار لكن أبثّها ... ولا أدع الأسرار تقتلنى غمّا وإنّ سخيف الرّأى من بات ليله ... حريباً بكتمان كأنّ به حمّى وفي بثّك الأسرار للقلب راحةٌ ... وتكشف بالإنشاء عن قلبك الهمّا وقال سحيم الفقعسىّ: لا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلى على قلبي وإنّ ضعيف العقل من بات ليله ... تقلّبه الأسرار جنباً إلى جنب ومثله قول الآخر: لا تفشين سرّك إّلا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحاً فإّنى رأيت غواة الرّجال ... لا يتركون أديماً صحيحاً وقال رجل من بني سعد: إذا ما ضاق صدرك عن حديثٍ ... فأفشته الرّجال فمن تلوم إذا عاتبت من أفشى حديثى ... وسرّى عنده فأنا الظّلوم وإنّى حين أسأم حمل سرّى ... وقد ضمّنته صدري سؤوم ولست محدثاً سرّى خليلاً ... ولا عرسي إذا خطرت هموم وأطوى السّرّ دون النّاس إنّي ... لما استودعت من سرّ كتوم وقال المتنبي: رضاك رضاي الذي أوثر ... وسرّك سرّى فما أظهر كفتك المروءة ما تتّقى ... وآمنك الودّ ما تحذر وسرّكم في الحشا ميّتٌ ... إذا انتشر السّرّ لا ينشر وقال حارثة بن بدر الغداني: خليليّ لولا حب زينب لم أسل ... أفي اليوم لقّيت المنيّة أم غدا خليليّ إن أفشيت سرّى إليكما ... فلا تجعلا سرّى حديثاً مبددّا فإن أنتما أفشيتماه فلا رأت ... عيونكما يوم الحساب محمّدا وقال آخر: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند النّاس أفشى وأضيع وقال ابن ميّادة واسمه الرّمّاح: يا خليليّ هجّرا كي تروحا ... هجتما للرّواح قلباً قريحا إن تروحا لتعلما سرّ سعدي ... تجداني بسرّ سعدي شحيحاً إنّ سعدي كمنية التمنّى ... جمعت عفّةً ووجهاً صبيحا كلمتني وذاك ما نلت منها ... إنّ سعدي ترى الكلام ربيحا قيل لرجل: كيف كتمانك للسر ... قال: أجحد المخبر. وأحلف للمستخبر. أسر رجل إلى رجلٍ سراً، فلما فرغ قال له: حفظت؟ قال: لا. بل نسيت. قال أبو محجن الثقفي: قد أركب الهول مسدولا ستائره ... وأكتم السرَّ فيه ضربة العنق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقال مسكين الدرامى: وإني امرؤٌ منّى الحياء الذي ترى ... أعيش بأخلاق قليلٌ خداعها أواخى رجالاً لست مطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أنّى جماعها يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ... إلى صخرةٍ أعيا الرّجال انصداعها وقال آخر: ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... منّى الضّلوع من الأسرار والخبر لكنت أول من ينسى سرائره ... إذا كنت من نشرها يوماً على خطر قال أبو الشِّيص: ضع السِّرَّ في صمَّاء ليست بصخرةٍ ... صلودٍ كما عاينت من سائر الصَّخر ولكنَّها قلب امرئٍ حفيظةٍ ... يرى ضيعة الأسرار شراً من الشَّرِّ يموت وما ماتت كرائم فعله ... فيبلى وما يبلى ثناه على الدَّهر كان يقال: لا تطلعوا النّساء على سركم، يصلح لكم أمركم قال الشاعر: ختمت الفؤاد على حبهَّا ... كختم الصحيفة بالخاتم هوت بي في حبَّها نظرةٌ ... هوىَّ الفراشة في الجاحم وقال آخر: فإن تلك ليلى حمَّلتني أمانةً ... فلا وأبي ليلى إذاً لا أخونها حفظت لها السَّرَّ الّذي الذي كان بيننا ... ولا يحفظ الأسرار إلا أمنها كان يقال: كل شئ تكتمه عن عدوك، فلا تظهر عليه صديقك وقال آخر: إذا كتم الصديق أخاه سرّاً ... فما فضل الصَّديق على العدوِّ وقال آخر: فبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرَّعته من مرِّ ما أتجرَّع ولا بد من شكوى إلى حفيظةٍ ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلَّع وقال أبو الشص: لا تأمن على سرِّي وسرَّكم ... غيري وغيرك أو طيَّ القراطيس وقال ابن وطيع: إذا كنت ذا سرًّ تخاف من أعدا ... عليه ظهوراً فاطوه دون ذي الودَّ فيا ربَّ خلًّ حال عمَّا عهدته ... فظل لما قد كنت أودعته يبدي وقال تشبيب بن البرصاء: وإني لأكمن السِّرَّ عندي وإن أتى ... لذلك من عهد الأمانة حين كمون النوى لايشعر النَّاس أنَّه ... ثوى في رفاق الأرض وهو دفين وقال آخر: تبوح بسرِّك ضيقاً به ... وتبغي لسرِّك من يكتم وكتمانك السِّرَّ ممن تخاف ... ومن لا تخوَّفه أحزم وقال آخر: أداري خليلي ما أستقام بودِّه ... وأمنحه ودي إذا يتحبب ولست ببادي صاحبي بقطيعةٍ ... ولا أنا مبدي سرَّه حين أغضب ومما أنشده الرِّياشي رحمه الله: بديهته قبل تدبيره ... متى رمته فهو مستجمع وفي كفّه للغنى مطلبٌ ... وللسِّرَّ في صدره موضع باب الحرب والشَّجاعة والجبن قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: " لا تمنَّوا لقاء العدوّ، وإذا لقيتموهم فاثبتوا " قال أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه في كتابه إلى خالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة: أخذه الشاعر فقال: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما ومن هذا قول الخنساء: نهبن النفوس وهون النُّفو ... س عند الكريهة أوقى لها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض بني عبسٍ: كم كنتم في يوم كذا؟ قال: كنا مائه، لم نكثر فنتوا كل ونفشل، ولم نقلَّ فنذلَّ. قال: فيم كنتم تظهرونّ على أعدائكم، ولستم بأكثر منهم؟ قال: كنا نصبر بعض الناس هنيهة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لابنه الحسن، وقد قيل لابنه محمد: يا بني! لاتدعون أحداً إلى البراز، فإنه بغي، ولا يدعونَّك أحد إله إلا أجبته. وقد وفد على عمر بن الخطاب بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار. قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار، فقال: إناّ لله! وأقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره!! والله إن كان هذا إلاّ عن ذنب بعدى، أو أحدثته بعدكم، ولقد استعملت يعلى بن أميّة على اليمن استنصر لكم بصلاحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق؟ قال: كنا ألفاً مثل الذهب الخالص، ليس فينا غيرنا، لم نكثر فنفشل، ولم نقل فنذل. لم يكن قبيل في العرب ألف فارس إلا ثلاث قبائل: مرّة وعبس وبنو الحارث بن كعب. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لعمرو بن معدى كرب: أخبرنى عن السّلاح. قال: سل عما شئت. قال: الرّمح، قال: أخوك وربما خانك. قال النّبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: التّرس، قال: ذلك المجنّ وعليه تدور الدوائر. قال: الدّرع، قال: مشغلة للرّاجل متعبةٌ للفارس، وإنها لحصنٌ حصين. قال: السيف؟ قال: قارعتك أمّك على الثّكل. قال عمر: بل أمّك. قال: أخبرني عن الحرب، قال: مرّة المذاق، إذا قلصت عن ساق، من صبر لها عرف، ومن ضعف عنها تلف، وهى كما قال الشاعر: الحرب أولّ ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكلّ جهول حتّى إذا اشتعلت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات خليل شمطاء جزّت رأسها وتنكرت ... مكروهةً للشّمّ والتقبيل قال حذيفة بن اليمان: الفتنة تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى. أخذ نصر بن سيار قول حذيفة هذا، والله أعلم، حين قال: إن الحرب أوّلها الكلام وهى أبيات كتبها إلى مروان بن محمد: أرى خلل الرّماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام فإن النّار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام فقلت من التّعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أميّة أم نيام بلغ أبا الأغر أن أصحابه، وقع بينهم شر، فوجه ابنه الأغر، وقال له: يا بنى كن يداً لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف، فإنه ظل الموت، واتق الرمح، فإنه رسالة المنية، ولا تقرب السهام، فإنها رسل لا تؤامر من يرسلها، قال: فبم أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رءوس رجالٍ حلّقت بالمواسم وهذا الشعر هو: تغطّى نميرٌ بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطّ اللؤم طىّ العمائم فإن تضربونا بالسّياط فإنّنا ... ضربناكم بالمرهفات الصّوارم وإن تحلقوا منّا الرّءوس فإننا ... حلقنا رءوساً باللّحى والغلاصم وإن تمنوا منّا السّلاح فعندنا ... سلاحٌ لنا لا يشترى بالدّراهم جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رءوس رجالٍ حلقت بالمواسم ومن أحسن ما قيل في الصبر على الحرب قول نهشل بن حرّى بن ضمرة: ويومٍ كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن نارٌ قيامٌ على الجمر صبرنا له حتّى تقضّى وإنّما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر ومثله قول الآخر: بكى صاحبي لما رأى الموت موقناً ... مطّلاً كإطلال السّحاب إذا اكفهرّ فقلت له: لاتبك عينك إنّما ... يكون غداً حسن الثناء لمن صبر فما أخّر الإحجام يوماً مقدّماً ... ولا عجّل الإقدام ما أخّر القدر ومن أحسن ما قيل في النظم في الصبر على الحرب، قول قطرى بن الفجاءة التميمى الخارجي: أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعى فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع ولا ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوي عن أخي الخنع اليراع سبيل الموت غاية كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي ومن لم يعتبط يهرم ويسقم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع وقال أصرم بن حميد: حرامٌ على أرماحنا طعن مدبرٍ ... ويندقّ قدماً في الصّدور صدورها مسلّمةٌ أعجاز خيلي في الوغى ... وداميةٌ لبّاتها ونحورها وقول الآخر: وقد يلتقى الجمعان والموت فيهما ... فيقتل من ولى ويسلم من ثبت وقد ذكرت في " باب الاعتذار " ... احسن ما قيل في النظم،في الاعتذار ومن أحسن ما قيل في الإنصاف في صفة الحرب،واللقّاء والصّدق في ذلك،قول عبد الشّارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بن عبد العزّى الجهنى: تنادوا يال بهثة يوم صبر ... فقلنا: أحسني ضرباً جهينا سمعنا دعوةً عن ظهر غيبٍ ... فجلنا جولةً ثم ارعوينا فلما أن تواقفنا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا ولما لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا تلألؤ مزنةٍ برقت لأخرى ... إذا جاءوا بأسيافٍ ردينا شددنا شدّةً فقتلت منهم ... ثلاثة فتيةٍ وقتلت قينا وشدّوا شدّةً أخرى فجروّا ... بأرجل مثلهم ورموا جوينا وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ ... وكان القتل للفتيان زينا فآبوا بالرّماح مسكّراتٍ ... وأبنا بالسّيوف قد انحنينا فباتوا بالصّعيد لهم أحاحٌ ... ولو خفّت لنا الكلمى سرينا وقال العديل العجلى: إذا ما حملنا حملةً ثبتوا لنا ... بمرهفةٍ تفرى السّواعد من بعد وإن نحن نازلناهم بصوارم ... ردوا في سرابيل الحديد كما نردى وقال آخر: نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إذا لم تلحق وقال آخر: إنّ الرّماح نصيرة بالجاسر وقال آخر: وقلت لنفسي إنّما هو عامرٌ ... فلا ترهبيه وانظري أين يركب قال قطرىّ بن الفجاءة: لا يركنن أحدٌ إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوّفاً لحمام فلقد أراني للّرماح دريئةً ... من عن يميني مرّة وأمامي حتى خضبت بما تحدّر من دمى ... أحناء سرجي بل عنان لجامي ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام قال عمر بن الخطاب:الجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء،فالجبان يفر عن أهله وولده،والجرئ يقاتل عمن لا يؤؤب به إلى رحله: ومن شعر لأبى يعقوب الخريمى: يفرّ جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمى شجاع القوم من لا يناسبه ويرزق معروف الجواد عدوّه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه وقال قطرىّ بن الفجاءة: يا ربّ ظلّ عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد وربّ بوم حمى أرعيت عقوته ... خيلى امتساراً وأطراف القنا قصد ويوم لهو لأهل الخفض ظلّ به ... لهوى اصطلاء الوغى أو ناره تقد مشهرّاً موقفي والحرب كاشفةٌ ... عنها القناع وبحر الموت مطرّد وربّ هاجرةٍ تغلى مراجلها ... مخرتها بمطايا غارةٍ تخد تجتاب أودية الأفزاع آمنةً ... كأنّها أسدٌ يقتادها أسد فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطّعان وقصر العاجز الكمد قالت الخنساء: ومن ظنّ مّمن يلاقى الحروب ... بألا ّيصاب فقد ظنّ عجزا وقال حبيب الطائى: ودنونا ودنوا حتّى إذا ... أمكن الضّرب فمن شاء ضرب تركوا القاع لنا إذ كرهوا ... غمرات الموت واختاروا الهرب وقال دريد بن الصّمة، ويقال: إنها لعمرو بن معدى كرب: أعاذل إنَّما أفنى شبابي ... ركوبي في الصّريخ إلى المنادى مع الفتيان حتّى سلّ جسمي ... وأقرح عاتقي حبل النّجاد وقال آخر: قوم إذا اشتجر القنا ... جعلوا القلوب لها مسالك الّلابسين قلوبهم ... فوق الدّروع لدفع ذلك ومن أحسن ما قيل في صفة الطعن،قول الحارث بن حلّزة: فرددناهم بضربٍ كما يخ ... رج من جرية المزاد الماء وفعلنا بهم كما علم الل ... هـ وما إن للخائنين ذماء وقال الفند الزّمّاني: وطعن كفم الزّقّ ... إذا والزّق ملآنّ وقال آخر: ومثلك قد كسرت الرّمح فيه ... فآب بدائه وشفيت دائى وقالت بنت المنذر بن ماء السماء: وقالوا: فارس الهيجاء،قلنا: ... كذاك الرّمح يكلف بالكريم وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ضممت إليه بالقناة قميصه ... فخرّ صريعاً لليدين وللفم وقال عنترة: فشككت بالرّمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرمّ وقال آخر: صراعنا طريفاً بأرماحنا ... ولا تأكل الحرب إلاّ السّمينا وقال عليّ بن محمد العلوى، المعروف بالمبرقع، صاحب الزّنج: ينثني الصّارم المهنّد والرّم ... ح الرّد ينيّ والشجاع الجرىّ حيث لا أنثني ولا يتثنّى ... بيدى صارمٌ ولا سمهرىّ من رآني فقد رأى مشرفيّاً ... ماضياً في يمينه مشرفيّ شأني الفارس المدجّج في النّق ... ع إذا نازل الكمىّ الكمىّ ورأيت الفضاء أضيق ما يس ... ى به حتى كأنّه مطوىّ ياابنة العمّ أوقدي النّار في الليّ ... ل فإنّي لكل آتٍ أتىّ أكرم الضيف ما أستطعت لآنّ ... مطعمي حاضرٌ وكأسي روئ كيف لا تزهق النفوس لشخصي ... حين أغشى الوغى وجدّي على ذو التقى والنبل وذو العلم والحل ... م ومن خير طينة والوصي والّذي قال إنّه البوم منى ... مثل هارون منه أخيه النبيّ وقال عبيدة بن هلال: يهوى وترفعه الرماح كأنه ... شلوٌ تنشّب في مخالب ضار فيرى صريعاً والرّماح وتنوشه ... إن السّراة قصيرة الأعمار وقال مهلهل: لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزول وقال ابن مقوم الضبى: ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل وقال أعشى همدان: أبلغ يزيد بنى شيبان مالكه ... أنّ الكتائب لا يهزمن بالكتب إنّ الوعيد بظهر الغيب معجزةٌ ... فإن أردت قتال القوم فاقترب من ها هنا والله أعلم أخذ حبيب: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب وقال آخر: وخارج أخرجه حبّ الطّمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع من كان يهوى أهله فلا رجع قال السموءل بن مادياء اليهودى: يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول كان معاوية رضى الله عنه يتمثل بهذين البيتين: كأنّ الجبان يى أنه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل وقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشّجاع البطل أشعار الجبناء قال أيمن بن خريم: إنّ للفتنة ميلاً بيّناً ... فرويد الميل منها يعتدل فإذا كان عطاء فأقم ... وإذا كان قتال فاعتزل إنّما يسعرها جهالها ... حطب النّار فدعها تشتعل وقال آخر: أضحت تشجّعنى هند وقد علمت ... أنّ الشّجاعة مقرونٌ بها العطب للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا ولست منهم ولا أبغى فعالهم ... لاالقتل يعجبني منهم ولا السّليب لا والذي جعل الفردوس جنته ... مايشتهي الموت عندي من له أرب وقال أبو الغمر المدني كاتب الحسن بن زيد: قد هان عندي لسان العار والعذل ... فلست آنف من جبن ولا فشل إنّي بخلت بنفس لا يجاد بها ... ولست بالمال أفديها من البخل هيهات تأبى لي التغرير فلسفةٌ ... ترى حضور الوغى من أكثر الزّلل متى رأيت شجاعاً مات بالأجل ... ونال من لذّة الدنيا مدى الأمل كأنّ آجال شجعان الورى خلقت ... في أنفس البيض والخطبّة الذّبل وقال أيضاً: إني أضن بنفس لا يجاد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية السّرف ما أبعد القتل من نفس الجبان وما ... أحلّه بالفتى الحامي عن الشّرف وقال أيمن بن خريم: يقول لي الأمير وقد رآني ... تقدم حين جدّ بنا المراس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فمالي إن أطعتك غير نفسي ... ومالي غير هذا الراس راس وقال الهذلى يصف جباناً: تحول قشعريراته دون لونه ... فرائصه من الموت ترعد وقال آخر: وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ... حتّى إذا التبست نفضت لها يدى فتركتهم تقص الرّماح ظهورهم ... من بين منجدلٍ وآخر مسند ما كان ينفعني مقال نسائهموقتلت دون رجالهملاتبعد وروينا أن مروان بن الحكم، دعا أيمن بن خريم إلى القتال بمرج راهط، فقال له: إن أبى وعمى شهداء بدر، وعهدوا إلى ألا أقاتل مسلما، ثم أنشأ يقول ولست بقاتلٍ رجلاً يصّلى ... على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعلى أثمي ... معاذ الله من سفه وطيش أأقتل مسلماً في غير جرمٍ ... فلست بنافعي ما عشت عيشى وقد روى أن هذه القصة جرت لأيمن بن خريم مع عبد الملك بن مروان. ولأبى الغمر كاتب الحسن بن زيد أمير المدينة: لست غداة الكر بالكرّار ... ولا على الطّعان بالصّبّار هانت علىّ سبلات العار ... وما أبالي قبلوا اعتذاري أو وسموني سمة الغدّار ... أنا طليق الرّكض والفرار فديت نفسي منه بالإضمار ... فلو تراني أو ترى إحضاري لا أعرف اللّيل من النّهار ... لخلتني عجلان ذا انشمار طرفاً نجا من وخزة البيطار ... أحكم منه الصنّع في المضمار أو عدو عير غير ما عثار ... أو كنجاء النقنق الطّيّار قيل لأسلم بن زرعة: إن انهزمت من أصحاب مرداس غضب عليك الأمير عبيد الله بن زياد فقال: لأن يغضب علىّ وأنا حىّ، أحب إلىّ من أن يرضى عنى وأنا ميت. وأسلم بن زرعة هذا هو القائل وقد عبأ جيشاً عظماً ليفزع به الخوارج، فلما رآهم لم يفزعوا، وجعلوا يقبلون إليه، قال لهم: عزمتم خار الله لنا ولكم ثم ضرب وجوه أصحابه وانصرف عنهم، ولما هزمه مرداس قال شاعرهم - وكانوا أربعين - وأسلم بن زرعة في ألفين: أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ... ويهزمهم رجالٌ أربعونا كذبتم ليس ذلكم كذا كم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا وجه أبو جعفر المنصور، روح بن حاتم إلى قتال بعض الخوارج، فلقيه أبو دلامة، فقال له روح: يا أبا دلامة! لو خرجت معنا في هذا الوجه، فقاتلت فأبليت، فذكرت بالشجاعة كما ذكرت بالشعر، فضحك، وقال: اسمع أبا خالد، قال: هات، فأنشأ يقول: آني أعوذ بروح أن يقربني ... إلى القتال فيشقى بي بنو أسد إن الدّنوّ من الأعتداء تعلمه ... مما يفرّق بين الروح والجسد قال: فضحك وأمر له بجائزة. وقال أبو الغمر: ظلّت تشجعني ضلاّ بتضليل ... وللشّجاعة خطبٌ غير مجهول هل غير أن عذلوني أنني فشلٌ ... فكلّ هذا نعم فاغروا بتعذيلى الحرب تعقب من يصلى بها حزناً ... يتم البنين وإرمال المثاكيل والله ل أنّ جبريلاً تكفّل لي ... بالنّصر خفت على علمي بجبريل الله خلصني منهم وفلسفتي ... حتّى تخلصت مخضوب السّراويل وله أيضاً: لست بداء الحرب بوقاف ... ولا على القرن بعطّاف قد أمّن الله عدوّى فما ... يخاف رماحي وأسيافي إذا رأيت الحرب من فرسخٍ ... خذرفت رجلي آي خذراف باب الاعتذار روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اعتذر إليه أخوه المسلم فليقبل عذره، مالم يعلم كذبه " قال عمر بن الخطّاب: لا تلم أخاك على ما يكون العذر في مثله قال الأحنف: إيّاك وما يعتذر منه، فإنّه قلمّا اعتذر أحدٌ فسلم من كذب قال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: لو أنّ رجلا شتمني في آذني هذه، واعتذر إلى في أذني هذه لقبلت عذره. ومن النظم في معناه: قيل لي قد أسا إليك فلانٌ ... وقعود الفتى على الضّيم عار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قلت: قد جاءنا فأحدث عذراً ... دية الذنب عندنا الآعتذار وقال الأحنف:إذا اعتذر إليك معتذر،فلتلقه بالبشر. اعتذر إلى قتيبة بن مسلم رجل فقبل منه،ثم قال:لا يدعونك أمرٌ قد تخلصت منه إلى الدخول فيما لعّلك لا تتخلص منه. قال صالح بن أبى النجم: ولربّما جاء الفتى بد نيّةٍ ... ووراءها عذرٌ له لم يفهم وكان يقال:اعتذار بمنع خير من وعد ممطول وقال صالح بن عبد القدوس: يلومني النّاس فيما لو أخبّرهم ... بالعذر منى فيه لم يلوموني قال البحتري: اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعضيك مستترا وله أيضاً: إذا محاسني اللاتي أدل بها ... عدّت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟ وقال محمود بن داود القياسي: العذر يلحقه التخويف والكذب ... وليس في غير ما برضيك لي أرب فإن أسأت فبالنعمى التي سلفت ... لمّا منيت بعفو ماله سبب وقال أبو على البصير: لم أجن ذنبا فإن زعمت بأن ... جنيت ذنباً فغير معتمد قد تطرف الكف عين صاحبها ... فلا يرى قطعها من الرّشد وقال عاىّ بن الجهم: إنّ ذلّ السّؤال والإعتذار ... خطّةٌ صعبةٌ على الأحرار ليس جهلاً بها تورّطها الحرّ ... ملكن سوابق الأقدار ارض للسّائل الخضوع وللقا ... رف ذنباً مذلّة الإعتذار وقال آخر: وما كنت أخشى أن ترى لي زلّةٌ ... ولكن قضاء الله ما عنه مهرب إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امرئ لا يقبل العذر مذنب كان يقال:من وفّق لحسن الاعتذار خرج من الذنب. اعتذر رجلٌ إلى أبى عبيد الله الوزير الكاتب،فأساء الاعتذار،فقال أبو عبيد الله: ما رأيت اعتذاراً أشبه باستئناف ذنب من هذا. وللشافعي رضى الله عنه، وقد قيل:أنما تمثّل بها: يالهف نفسي على مال أفرّقه ... على المقلّين من أهل المروءات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات ومما ينشد للفراء من قوله: أردت لكيما لا ترى لي عثرةٌ ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل وقال محمود الوراق: أراني إذا ما زدت مالاً ورفعةً ... وخيراً إلى خيرٍ تزيّدت في الشّرّ فكيف بشكر الله إذ كنت إنما ... أقوم مقام الشكر لله بالكفر بآي اعتذار أم بأية حجةٍ ... يقول الذي يدرى من الأمر: ما أدرى إذا كان وجه العذر ليس بواضحٍ ... فإنّ اطّراح العذر خيرٌ من العذر قال أبو الصولى، أخبرنى أبو بكر بن عبد الله، قال: سألني أبو سليمان الشاشى حاجة فاعتذرت بشغل في تأخيرها، فكتب إلىّ: سكنت نفسي لمّا ال ... تف حبلى بحبالك إنما أطلب من جا ... هك نفعاً لا بمالك لا تصيّر شغلك اليو ... م اعتذاراً لطلابك لو تفرغت من الشغ ... ل استوينا في المسالك وهذا عندي مأخوذ من قول أبى العتاهية: ليس ذا الشغل عاذرٌ لك عندي ... إنّما ترتجى إذا كان شغل وقال آخر: ولا تعتذر بالشغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل ولا ترتفع عنّا بشئ وليته ... كما لم يصغرّ عندنا شأنك العزل وقال آخر: وقد علمت لو انّ العلم ينفعني ... أنّ انطلاقي إلأى الحجاّج تغرير لئن رحلت إلى الحجّاج معتذراً ... إنّي لأحمق من تجرى به العير وقال آخر: لا ترج توبة مذنب ... خلط احتجاجاً باعتذار وقال ابن الدّمينة: بنفسي ومالي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البرئ ولم يزل ... به سكتةٌ حتّى يقال مريب وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فلا تعذراني في الإساءة إنّه ... شرار الرّجال من يسئ ويعذر وقال آخر: وما حسنٌ أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر النّاس عاذر وقال آخر: هي المقادير فلمنى أو فذر ... إن كنت أخطات فما أخطأ القدر وقال آخر: وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصه ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا وقال آخر: إذا عيّروا قالوا مقادير قد جرت ... وما العار إلاّ ما تجرّ المقادر قال بعض الحكماء: إياك وما يسبق للقلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره. قال محمود الوراق: أراني مع الأحياء وأكثري ... على الدهر ميتٌ قد تخونّه الدّهر فما لم يمت منّى لما مات ميّتٌ ... وبعض لبعض قبل قبر البلى قبر فيا ربّ قد أحسنت بدءاً وعودةً ... إلىّ فلم ينهض بإحسانك الشّكر فمن كان ذا عذر لديك وحجةٍ ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر وفي الأشعار في الأعتذار من الفرار قال الأصمعي: أحسن ما قيل في الأعتذار من الفرار، قول الحارث بن هشام المخزومى: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتّى علوا مهرى بأشقر مزبد وعلمت أنّى إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يحزن عدوّى مشهدي فصدرت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد وقال خلف الأحمر: أحسن ما قيل في الأعتذار في الفرار، قول هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لعمرك ما وليت ظهري محمداً ... وأصحابه جبناً ولا خفية القتل ولكنني قّلبت آمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلى وقفت فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت لعود كالهزبر أبى الشّبل فر ابن مطيع يوم الحرّة، وسار إلى ابن الزبير، فلما قوتل ابن الزبير، جعل يجتهد معه في القتال، ويقول: أنا الذي فررت يوم الحرّة ... والحرّ لا يفرّ إلا مرّة فاليوم أجزى فرّة بكرّه ... يا حبّذا الكرّة بعد الفرّه وقال أوس بن حجر: أتونا فردوا حافتينا بزاعقٍ ... من الضّرب ضرم النّار في الحطب اليبس وما بفرار اليوم عارٌ على الفتى ... إذا عرفت منه الشّجاعة بالأمس قال الأحنف بن قيس: أسرع النّاس إلى الفتنة، أقلّهم حياء من الفرار وقال آخر: العبد يذيب والمولى يقوّمه ... والعبد يجهل والمولى يعلّمه إنّي ندمت على ما كان من ذلل ... وزلّة المرء يمحوها تندّمه باب المواعيد أثنى الله عز وجل على إسماعيل عليه السّلام، فقال: " إنّه كان صادق الوعد "، وقال كعب: كان لا يعد أحداً إلا أنجزه، وقال: انتظر رجلا وعده سنة كاملة. ورى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم انتظر رجلاً وعده في موضع من طلوع الشمس إلى غروبها. وروى عنه عليه السلام: أنه انتظره ثلاثاً، والمنتظر عبد الله بن أبى الحمساء. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقاباً فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له " "، وعن ابن عباس مثله. وقال المثنى بن حارثة لشيباني: لأن أموت عطشاً أحبّ إلى من أن أخلف موعداً. قال بعض الحكماء: وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف كان يحيى بن خالد يقول: المواعيد شباك الكرام يصيدون بها محامد الإخوان، ألا تراهم يقولون: فلانٌ ينجز الوعد، ويفي بالضمان، ويصدق في المقال، ولولا ما تقدم من حسن موقع الوعد، لبطل حسن هذا المدح. وكان يحيى بن خالد، يقول: إنّ الحاجة إذا لم يتقدمها وعدٌ تنتظر نجحه، لم تتجاوب الأنفس سرورها، فدع الحاجة تختمر بالوعد، ليكون لها عند المصطنع حسن موقع ولطف محل. ومن كلام يحيى بن خالد بن برمك أيضاً: " لا " الكريم أنجح من " نعم " الئيم، لأنّ " لا " الكريم، ربما كانت في وقت غضب، وإبّان سآمة، " ونعم " الئيم تصدر عن تصنع وفساد نيّة وقبح مآل. أنشد أبو عمرو بن العلاء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتى ... ويأمن منّى صولة المتهّد وإنّي وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال آخر: لسانك أحلى من جنى النّحل وعده ... وكفّاك بالمعروف أضيق من نعل تمنّى الذي يأتيك حتّى إذا انتهى ... إلى أملٍ ناولته طرف الحبل وقال زياد الأعجم: لله درّك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجلوا ... دو حبّذا صدق البخيل وقال آخر: وإن جميع الآفات فالبخيل شرها ... وشر من البخل المواعيد والمطل قال ابن عيينة: وعد رجل ابن شبرمة عدة فمطله بها، فكتب إليه ابن شبرمة: الخير أنفعه للناس أعجله ... وليس ينفع خيرٌ فيه تطويل ومثل هذا قول سابق: وتأخير ما يرجى بلاء ٌمبرحٌ ... وأفضل ما يرجى من الخير عاجله وقال كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيدها إلا الأباطيل وقال الأشجعى: وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيتربٍ قال ابن منبّه: هكذا قرأته على البصريين بيترب بالتاء،وفتح الراء. قال ابن الكلبي، عن أبيه: كان عرقوبٌ رجلا من العماليق، فأتاه أخ له يسأله شيئاً،فقال له عرقوب: إذا طلع نخلى فلما طلع أتاه فقال له: إذا بلح، فلما بلح أتاه، فقال:إذا زهى،فلما زهى أتاه،فقال:إذا أرطب،فلما أرطب أتاه، فقال: إذا ثمر، فلمّا ثمر جذّه ليلا، ولم يعطيه شيئاً، فضربت به العرب المثل في خلف الوعد. وقال غيره: عرقوب جبل مكلّل بالسحاب أبداً، ولايمطر شيئاً. وقال الحكماء: من خاف الكذب، أقل المواعيد. وقالوا: أمران لا يسلمان من الكذب، كثرة المواعيد، وشدة الاعتذار. قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: أنا والله منه في مواعيد، تهيض العظم،وخلفٍ يذكر العدم، ولكنه إذا وعد الحريص علق نفسه لديه وأتعب رجليه، وأنشد: أمّلت منك نوالاً لست أدركه ... متى أقول الّذي أمّلت يأتينى أفي حياتي فأرجوه وينفعني ... أم في مماتي فإنّ الموت يغنيني وقال الشاعر: فلا تعد عدةً إلا وفيت بها ... ولا تكن مخلفاً يوماً تعد وأظن هذا من قول المثقب العبدي: لا تقولنّ إذا ما لم ترد ... أن يتمّ الوعد في شئٍ نعم وإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إنّ الخلف ذم وروى لعمار الكلبي، وأظن من شعره هذا: قم لوجه الله وكن ... صادق الوعد فمن يخلف يلم وقال آخر: إذا قلت في شئٍ نعم فأتمّه ... فإنّ نعم دين على الحرّ واجب وإلا فقل لا واسترح وأرح بها ... لئلا يقول النّاس إنّك كاذب وقال آخر: إنّ الكريم إذا حباك بموعدٍ ... أطاكه سلساً بغير مطال وقال عمر بن أبى ربيعة المخزومى: ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد واستبدّت مرّةً واحدةً ... إنّما العاجز من لا يستبد وقال آخر: تمنيت ما أرجوه من حسن وعدكم ... فكنت كمن يرجو منال الفراقد هبونى لم أستأهل العرف منكم ... أما كنتم أهلاً لصدق المواعد وقال عباس بن الأحنف: ما ضرّ من قطع الرّجاء ببخله ... لو كان عللنى بوعد كاذب وقال آخر: إن لم يكن وصل لديك لما ... يشفي الصبّابة فليكن وعد وقال آخر: فإن تدعى نجداً أدعه ومن به ... وإن تسكني نجداً فيا حبّذا نجد وإن كان يوم الوعد يوم لقائنا ... فلا تعذليني أن أقول متى الوعد وقال محمد بن مناذر: أنل المال ولا تبخل به ... فإذا اعسرت بالمال فعد لا تعد شراً وعد خيراً ولا ... تخلف الوعد وأنجز ما باب عيونٍ من المدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرحم أمتي بأمّتي أبو بكر، وأقواهم على دين الله عمرُ، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علىّ بن أبي طالب، وأقرأهم أبىّ ابن كسب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق من أبى ذرّ ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح ". مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال: " إنكم لتقلّون عند الطّمع، وتكثرون عند الفزع ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " خير دور الأنصار دور بنى عبد الأشهل، وفي كل دور الأنصار خيرٌ ". وقال عليه السلام: " إن الله اختارني، واختار لي أصحاباً وأنصاراً، وجعل لي منهم مزراء وأصهاراً ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناهنّ على ولد في صغره، وأرعاهن لبعلٍ في ذات يده ". ذكر أبو بكر الصديق عند ابن عباس، فقال: كان والله بالمسلم حفيا، وعلى الكافر قسيا، وعن اللذة سليا، يتواضع حيث لا توهن نصرته، ويعلو حين لا تخاف سطوته، القرآن قائده، الموت إمامه، لأن الأمر بين عينيه، وعاقبته بين يديه، رحمه الله وأحسن عنا مجازاته. ذكر ابن عباس أبا بكر رضى الله عنهما،فقال:كان ثاني اثنين إذهما فى الغار، وثاني اثنين في العريش،وثاني اثنين في القبر. قال الشّعبيّ: لما مات على بن أبي طالب رضى الله عنه، قام ابنه الحسن على قبره، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، واستغفر الله لآيه، ثم قال: نعم أخو الإسلام كنت يا أبي، جواداً بالخلق، بخيلا بالباطل عن جميع الخلق، تغضب حين الغضب، وترضى حين الرّضا، عفيف النظر، غضيض الطّرف، لم تكن مداحاً ولا ستاماً، تجود بنفسك في المواطن التي تبخل بها الرجال، صبوراً على الضّراء، مشاركاً في النّعماء، ولذلك ثقلت على أكتاف قريش. ذكر على بن أبي طالب عند ابن عباس رضى الله عنهما، فقال: كان والله يسكنه الحلم، وينطقه العلم. ذكر علي بن أبي طالب عند صعصعة بن صوحان العبدىّ، فقال: هو بالله عليم، والله في عينيه عظيم. قال معاوية لضرار الصّدائي: صف لي علياً. قال: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: لتصفنّه. قال: أما إذ لا بد من صفته، فكان والله بعيدة المدى، شديدة القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجرّ العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة عن نواحيه،يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير العبرة،طويل الفكرة، يقلب كفه ويحاسب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوى في باطله، ولا ييأس اللضعيف من عدله، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد تمثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين، يقول: يا دينا! غرّى غيري، إلىّ تعرضت؟ أم إلىّ تشوقت؟ هيهات هيهات، فد باينتك ثلاثاً لا رجعة لى فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزن من ذبح واحدها في حجرها. سئل عبد الله بن عباس عن علىّ بن أبى طالب، فقال: ما شئت من ضرس قاطع في العلم بكتاب الله، والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتبطن في العشيرة، والنجدة في الحرب، والبذل للماعون. نظر علىّ بن أبي طالب رضى الله عنه، إلى زيد بن صوخان مقتولا، فقال: والله لقد كنت ما علمت: عظيم المعونة، خفيف المؤونة. وقف علىّ على قبر طلحة بن عبيد الله رضى الله عنهما، فقال: وما تدرى إذا أزمعت أمراً ... بآي الأرض يدركك المقيل ثم قال: فتى كان يدنبه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقال أبو خراش في الذي ألقى على أبيه رداءه ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... ولكنه قد سلّ عن ماجد محض ولأعرابي في يحيى بن خالد: سألت النّدى هل انت حمٌّ فقال لا ... ولكنني عبدٌ ليحيي بن خالد فقلت شراءً قال لا بل وراثةً ... توارثها عن والدٍ بعد والد وقال آخر: إنّ للنّاس غايةً في المعالي ... وقفوا عندها وأنت تزيد قد تناهيت في الكلام والمج ... د وحزت العلى فأين تريد ولحبيب ويروي لإسحاق الموصلى: إن يكن شئٌ جميلٌ حسنٌ ... فهو في دور عبد الملك عقدت ألسنتهم عن قول لا ... فهي لا تحسن إلاّ هو لك ومن عيون ما قيل في المدح نظماً، قول حسان بن ثابت في بني جفنة: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل بيض الوجوه أغفةٌ أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطراز الأول قال جبلة بن الأيهم لحسان بن ثابت: أين أنا من النعمان؟ فقال: والله لشمالك أندى من يمينه، وقفاك أحسن من وجهه، ولأمك أكرم من أبيه. وقول الأعرابي في عمر بن عبد العزيز كأنه مأخوذ من قول حسان هذا، وذلك قوله حين دخل عليه، وهو خليفة، فقال: وأنت الذي كلتا يديك مفيدةٌ ... شمالك خيرٌ من يمين سواكبا بلغت مدى الجارين قبلك إذ جروا ... ولم يبلغ الجارون بعد مداكما فجدّاك لا جدّين أكرم منهما ... هناك تناهى المجد ثم هناكا وقال لقيط بن زرارة: وإني من القوم الذين عرفتهم ... إذا مات منهم سيّدٌ قام صاحبه نجوم سماء كلّما غار كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوى إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه وقال ظفيل الغنوىّ: نجوم ظلام كلّما غاب كوكب ... بدا ساطعاً في حندس اللّيل كوكب وقال آخر: درارى نجومٍ كلّما انقضّ كوكبٌ ... بدا كوكبٌ ترفضّ عنه الكواكب وقال المريمي يمدح بنى خريم من آل شيبان بن حارثة: بقيّة أقوامٍ من العزّ لو خبت ... لظلّت معدٌّ في العلا تتسكّع إذا قمرٌ منها تغوّر أو كبا ... بدا قمرٌ في جانب الأفق يلمع ومدح بعض بنى عمرو إخوته فقال: خبّر ثناء بنى عمرٍو فإنّهم ... أولو فضول وأنفالٍ وأخطار إن يسألوا الخير يعطوه وإن جهدوا ... فالجهد يخرج منهم طيب أخبار هينون لينون أيسارٌ بنو يسرٍ ... سوّاس مكرمة أبناءٌ إيسار من تاق منهم فقد لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يهدى بها السّارى لا ينطقون عن العمياء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار وقد قيل:إن هذا الشعر لبعض بنى كلاب يمدح بعض بنى غنىّ،وكان أبو عبيدة ينكر هذا،ويقول:محال يمدح كلابي غنوياً قالت الخنساء: أشمّ أبلج يأتمّ الهداة به ... كأنّه علمٌ في رأسه نار وقال آخر: إذا قيل أىّ فتًى تعلمون ... أهشّ إلى الطّعن بالذّابل وأضرب للقرن في مفرقٍ ... وأطعم في الزّمن الماحل أشارت إليك أكفّ الورى ... إشارة غرقى إلى ساحل ومن أحسن ما قيل في المدح أيضاً في النظم،قول أبى الجهم العدوى في معاوية رضى اللهّ عنه: تقلّبه لتخبر حالتيه ... فتخبر منهما كرماً ولينا نميل على جوانبه كأنّا ... نميل إذا نميل على أبينا وفى هذا الشأن قول زهير في هرم بن سنان: إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السّماحة منه والنّدى خلقا أغرّ أبيض فيّاض يفكّك عن ... أيدي العقاة وعن أعناقها الرّبعا وقوله أيضاً: أخو ثقة لا تذهب الخمر ماله ... ولكنّه قد يذهب المال نائله تراه إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله وقوله أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السّماحة والبذل وقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقول القاسم بن أمية بن أبى الصلت الثقفى: قومٌ إذا نزل الغريب بدارهم ... ردّوه ربّ صواهل وقيان وإذا دعوتهم ليوم كريهةٍ ... سدّوا شعاع الشّمس بالفرسان لا ينقرون الأرض عند سوالهم ... لنطلب العلاّت بالعيدان بل يبسطون وجوههم فترى لهم ... عند اللّقاء كأحسن الألوان والجيّد من النظم لا يحصى كثرة،وحسبنا أن نأتي منه بما يقرب حفظه للمذاكرة، ويقوم ببهاء مورده في المجالسة. قال عمر وبن أمية الضّمرىّ للنجاشى،حين وجهّه إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:أيها الملك! كأنك في الرّأفة علينا منّا،لم نرجك قطّ لأمر إلا نلناه،ولم نخفك قطّ على أمر إلا أمنّاه. ووقف حيّان بن مالك بن جعفر على قبر عامر بن الطّفيل،فقال:كان والله لا يضل حتى يضل النّجم،ولا يعطش حتى يعطش البعير،ولا يهاب حتى يهاب السيل. مدح أعرابىٌّ رجلا فقال:كان يغنى في طلب المكارم غير ضال في مصالح طريقها ولا متشاغل عنها بغيرها. وذكر أعرابي جلد أخيه،فقال:ما بعثته في سوادٍ إلاّ جلاّه ومحاه،ولا في بياض إلا أزكاه وأضاءه. وصف أبو مهديةّ الأعرابي قوماً،فقال:أدبتهم الحكمة،وأحكمتهم التجربة،ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة،ورحل عنهم التسويف الذى قطع الناس به مسافة آجالهم،فذلت ألسنتهم بالوعد،وأنبسطت أيديهم بالإنجاز،فأحسنوا المقال وشفعوه بالفعال. ومدح أعرابي رجلا فقال:كالمسك إن تركته عبق،وإن خبّأته عبق. قال محمد بن زياد الحارثي: تخالهم للحلم صماً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التّفاخر ومرضى إذا لاقوا حياءً وعفّةً ... وعند الحفاظ كاللّيوث الكواسر لهم ذلّ إنصافٍ ولين تواضعٍ ... بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر كأنّ بهم وصماً يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقّاء المعاير وقال آخر: لو قيل لا بن محمّد: ياذا النّدى ... قل لا، وأنت مخلدٌ ما قالها إنّ المكارم لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها مدح أعرابي رجلاً، فقال: كان إذا خرست الألسن عن الرأي حذق بالصواب كما يحذق الأريب. أثنى عمرو بن زياد العتكىّ على الحجاج بن يوسف عند عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين! هو سيفك الذي لاينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. وكان الحجاج يقصيه فلما قال ذلك أدناه. قال ابن شهاب: قال لي سعيد بن المسيب: ما مات من ترك مثلك. ومن أحسن ما قيل في المدح نظماً، وإن كان الحسن منه كثيراًَ جداً، ما ذكره أو لي البندادي رواية عن شيخوخه: أن علىّ بن الحسين بن على بن أبي طالب رآه هشام بن عبد الملك وهو خليفة في حجة حجها، وعلى يطوف بالبيت والناس يفرجون له عند الحجر تعظيما له، وينظرون إليه مبجلين له، فغاظ ذلك هشاماً، فقال: من هذا؟ كأنه لم يعرفه، فقال الفرزدق منكراً لقول هشام، ومادحاً لعلى بن حسين: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... بالبيت يعرفه والحلّ والحرم هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا التّقّى النّقّي الطّاهر العلم إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتمي الكرم ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم بكفه خيزران ريحها عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شمم مشتقّةٌ من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم ينجاب ثوب الدجى عن نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها الظّلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 حمال أثقال أقوام إذا قرحوا ... حلو الشّمائل تحلو عنده نعم هذا ابن فاطمه إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم الله فضّله قدماً وشرّفه ... جرى بذاك له في لوحة القلم من جدّه دان فضل الأنبياءٍ له ... وفضل أمته دانت له الأمم سهل الخليفة لا تخشى بوادره ... تزينه خلتان الحلم والكرم مصدّق الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريبٌ حين يعتزم أىّ القبائل ليست في رقابهم ... لأوّلية هذا أو له نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدّين من بيت هذا ناله الأمم وفيها أبيات لم أذكرها لأني أظنها مضافة مفتعلة،وقد أنشد بعض هذا الشعر حبيب في الحماسة للحر بن عبد الله الليثى في على بن الحسين بن على بن أبى طالب. هذا وذكر الفاكهى في أخبار مكة،وقال:حدثنى أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال حدثني ابن عائشة،قال:أخبرني أبى،قال:دخل الفرزدق مكة،فإذا هو بعلىّ بن عبيد الله بن جعفر يطوف بالكعبة في حلّةٍ وهو محرم،فقال:ويحكم يا معشر أهل مكة،من هذا الرجل الذي يطوف بالبيت،فو الله ما رأيت أحسن من وجهه، ولا من حلّته،فقالوا:هذا على بن عبيد الله بن جعفر بن أبى طالب،ولفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشأ يقول هذه الأبيات التي ينشدها الناس. هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم فذكر هذه الأبيات ولم يتمهّا،قال الفاكهىّ:ويقال إن الرجل الذي قال فيه الفرزدق هذا هو محمد بن علىّ بن حسين،قال:وحدثني أبو سعيد،قال:حدثني الزبير،قال:قيل هذا الشعر فى قثم بن العباس،قاله: بعض شعراء أهل المدينة، وزاد في الشعر بيتين أو ثلاث منها قوله: ؟ كم صارخٍ بك مكروبٍ وصارخةٍ ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم وأما قوله في الخبر الأول: ولفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإن علىّ بن عبد الله أمه زينب علىّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول من قال: إن هذا الشّعر قيل في علىّ بن عبيد الله بن جعفر، أو في محمد بن علي بن حسين أصح عندي من قول من قال: إنه في علىّ بن حسين، لأن على بن حسين توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين، وهشام بن عبد الملك إنما ولى الخلافة سنة خمس ومائة، وعاش خليفةً عشرين سنة، وجائز أن يكون الشعر للحر بن عبد الله في محمد بن علي بن حسين، وممكن أن يكون للفرزدق في محمد ابن علي بن حسين بن أبي جعفر - وإن كان له في أبيه علي بن حسين - فلم يكن هشام يومئذ خليفةً كما قال أبو علي في روايته، وأما قول الزبير: إنه قيل في قثم ابن عباس، فليس بشئ، وإنما ذاك شعر قيل في قثم على قافية هذا الشعر وعروضه ليس هو هذا. قال عبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم المنقرى:؟؟ عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترّحما تحيّة من أوليته منك نعمةً ... إذا زار عن شحط مزارك سلماً فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّماً وقال آخر: كريمٌ يغضّ الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرّماح دوان وكالسيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان وللخريمي: يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يقدر البحر ألا يفيضا وقال أبو جعفر محمد بن مناذر: أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار ويا حسن منظر لهم رحلةٌ في كلّ عام إلى العدى ... وأخرى إلى البيت الحرام المستّر إذا نزلوا بطحاء مكّة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فتظلم بغدادٌ ويجلو لنا الدّجى ... بمكّة ما حجوا ثلاثة أقمر فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وأقدامهم إلاّ لأعواد منير إذا راض يحيى الأمر ذات صعابه ... وناهيك من راع له ومدبّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ترى النّاس إجلالاً لهم وكأنّهم ... غرانيق ماءٍ تحت باز مصرصر وقال آخر: إذا سألت الناس أين المكروه ... والعزّ والجرثومة المقدّمه وأين فاروق الأمور المحكمه ... تتابع النّاس على ابن شبرمه وقال آخر: ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... صيّر النّاس كلّهم شعراء أنشد الأصمعى:؟ كلّ يومٍ كأنّه يوم أضحى عند عبد العزيز أو يوم فطر وهذا عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وله يقول نصيب: لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم نعمٌ غامره فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس بالمعتفين ... من الأمّ بالأبنة الزّائره وكفك حين ترى السّائلي ... ن أندى من اللّيلة الماطره فمنك العطاء ومنّى الثناء ... بكلّ محبّرةٍ سائره وذكر رجل عند الحسن، فقال: كان له خشوع الصابرين وبهاء الملوك. ومن المدح: له خلقان لم يدعا ... له مالاً ولا نشبا سخاءٌ ليس يملكه ... وحلمٌ يملك الغضبا وقال آخر:؟ فل كنت يوماً كنت يوم سعادةٍ ترى شمسه والمزن تهضب بالقطر ولو كنت ليلاً صيّبٍ ... من المشرقات البيض في وسط الشهر وقال آخر: بديهته وفكرته سواءٌ ... إذا ما نابه الحدث الكبير وأحزم ما يكون الدّهر رأياً ... إذا عمى المشاور والمشير وصدرٌ فيه للهمّ اتساعٌ ... إذا ضاقت عن الهمّ الصدّور وقال حمزة بن بيض في مخلد بن يزيد بن المهلب: بلغت لعشرٍ مضت من سنيّ ... ك ما يبلغ السّيد الأشيب نهمّك فيها جسيم الأمور ... وهم لدارتك أن يلعبوا وقال ذو الرمة: عطاء فتى بنى وبنى أبوه ... فأعرض في المكارم واستطالا قال أبو اليقظان: ولىّ الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي، قتال الأكراد فأبادهم، ثم ولاه السند والهند، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، فقال فيه الشاعر: إن السّماحة والمروءة والنّدى ... لمحمد بن القاسم بن محمّد قاد الجيوش لسبع عشرة حجّةً ... يا قرب سورة سؤدد من مولد قال أبو اليقظان: وهو الذي جعل شيراز معسكرا ومنزلا لولاة فارس. قال الحطيئة: أولئك قومٌإن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم ... من اللّوم أوسدوا المكان الذي سدوا وقال أبو الغول الطّهوىّ يمدح قومه: فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدّقوا فيهم ظنوني معاشر لا يملوز المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون ولا يجزون من حسنٍ بشرّ ... ولا يجزون من غلظ بلين ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين هم منعوا حمى الوقبى بضربٍ ... يؤلف بين أشتات المنون فنكب عنهم ظلم الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون وقال آخر بديهته مثل تدبيره ... متى رمته فهو مستجمع وفي كفه للغنى مطلبٌ ... وللسّرّ في صدره موضع وباب المديح أوسع الأبواب، لا يحيط به كتاب، والاختصار أولى بنا فيه على ما شرطنا من الإكثار. قال عبد الله بن مسعود: لا تعجلن بمدح أحد ولا بذمه، فإنه رب من يسرك اليوم يسوءك غدا. قال النّجاشى الشاعر، واسمه قيس بن عمرو الحارثي، من بني الحارث ابن كعب. إنّي امرؤٌ ما أثنى على أحد ... حتّى أرى بعض ما يأتى وما يذر لا تحمدن امرءًا حتّى تجرّبه ... ولا تذمّنّ من لم تبله الخبر قال عليّ بن حسين: إذا قال فيك رجلٌ مالا يعلم من الخير، أوشك أن يقول فيك ما يعلم من الشّر. باب عيون من الذّمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قالت عائشة رضى الله عنها:استأذن رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأنا معه في البيت:فقال: " ائذنوا له فبئس ابن العشيرة،أو قال:بئس أخو العشيرة،ثم قال:إنّ من شرار النّاس من اتقّاه الناس لشرهّ،أو تركه الناس لشره ".هذا حديث ابن عيينة،عن المنكدر،عن عروة،عن عائشة،وليس بلفظ حديث مالك المرسل. قال الحسن:ذمّ الرجل نفسه في العلانيه مدحٌ لها في السرّ. كان يقال:من أظهر عيب نفسه فقد زكّاها. ذمّ بعض البلغاء رجلا،فقال:ما الحمام على الإصرار، والدّين على الإقتار، وشدة السّقم في الأسفار،بآلم من فلان. قيل لأعرابىّ:ما تنقم من أميرك؟ قال:يقضى بالعشوة،ويأكل الرّشوة،ويطيل النّشوة. قال ثعلب:النّشوة بالفتح:السّكر،والنّشوة بالكسر:الريح. ذمّ رجلٌ رجلا،فقال:كان والله سيىّ الرّوية، قليل التقية،شديد السعاية،ضعيف النكاية. ذم خالد بن صفوان شبيب بن شيبة،فقال:أنت والله ممن إذا سأل ألحف،إذا سئل سوّف، وإذا حدّث حلف،وإذا وعد أخلف،تنظر نظر حسود،وتعرض إعراض حقود. قال حسان بن ثابت:؟ أبوك أبوك وأنت ابنه فبئس البنىّ وبئس الأب وأمّك سوداء نوبيّةٌ ... كأنّ أناملها العنظب يبيت أبوك بها معرساً ... كما ساور المهرة الثعلب وقال أعرابىٌّ:؟ أكثر ما يأني على فيه الكذب وإنّما الشّاعر مجنون كلب حيّاكم الله فإنىّ منقلب مر سفيان الثّورىّ رضى الله عنه،بقوم في السوق،أو غيرها، فقال لمن معه أما ترون النعمة عند غير أهلها،كأنها مسخوط عليها،أخذه الشاعر فقال:؟ يا حجة اللذه في الأرزاق والنّعم يا محنة لذوى الأخطار والهمم ما نراك أصبحت في نعماء ظاهرةٍ ... إلاّ وربّك غضبانٌ على النّعم قال بعض البلغاء:كفانى سقوط فلان إسقاكه. ذم رجل رجلا فقال:ذلك أعيا ما يكون عند جلسائه،ابلغ ما يكون عند نفسه. لعمر بن سليمان البجلى،في إسماعيل بن عبد الله أخى خالد بن عبد الله القسرى:؟ لو كنت ماء كنت ماء آسناً أو كنت مرعى لم يردك الورّد أو كنت من شجرٍ لكنت إلاءةً ... أو كنت من ورقٍ نفاك النّاقد قال الحرمازىّ:؟ قبّحتم آل فقيمٍ عدداً لو كنتم قولاً لكنتم فندا أو كنتم ماء لكنتم زبداً ... أو كنتم شيئاً لكنتم نقدا أو كنتم لحماً لكنتم غدداً النّقد:المعز،وفى المثل:لهو أدل من النّقد. قال أبو عثمان العروضى: لو كان حرفاً كان لا معنى له ... أو كان ظرفاً لم يكن إلاّ متى وقال آخر:؟ لو كنت ماء كنت غير عذب أو كنت سيفاً كنت غير غضب أو كنت لحماً كنت لحم كلب ... أو كنت عيراً كنت غير ندب وقال آخر:؟ لو كنت برداً كنت زمهريرا أو كنت ريحاً كانت الدّبورا أو كنت غيما لم تكن مطيرا ... أو كنت ماءً لم تكن طهورا أو كنت مخّا كنت مخّاريرا ومما أنشده ثعلب:؟ لله درّك أيّما رجلٍ يبنى أبوك وشأنك الهدم لو كنت تصعد في السماء كما ... تنحط قصّر دونك النجم مر عمر بن الخطاب رضى الله عنه،بقوم يتبعون رجلا أخذ في ريبة،فقال:لا مرحباً بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر. قال القطامي: ألا إنما نيران قيس إذا اشتووا ... لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب يقال: نار الحباحب، ونار أبي الحباحب، لكل نارٍ تراها العين ولا حقيقة لها قال دريد بن الصمّة: ياآل سفيان ما بالى وبالكم ... أنتم كثير وفي الأحلام عصفور وخير من هذا، قول حسان بن ثابت يذم قوماً: لاعيب في القوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير وقال آخر: قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المختبر وقال آخر: له صورة تعمى العيون سماجة ... وإن تختبر يوماً فأقبح مخبر وقال محمد بن مناذر،في خالد بن طليق قاضى البصرة: جعل الحاكم يا للناس من آل طليق حاكمٌ يحكم في النا ... س بحكم الجاثليق يدع الحقّ ويهوى ... في ثنّيات الطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أىّ قاضٍ أنت للنق ... ص وتعطيل الحقوق يا أبا الهيثم ما أن ... ت لهذا بخليق " لا ولا أنت بما حملت منه بمطيق حبله حبل غرورٍ ... عقده غير وثيق وله فيه أيضاً:؟ قل لأمير المؤمنين الذي في هاشم سرّها والّلباب إن كنت للسّخطة عاقبتنا ... بخالدٍ فهو أشدّ العقاب أصمّ أعمى عن طريق الهدى ... وقد ضرب النّوك عليه الحجاب كان قضاء الله فيما مضى ... من رحمة الله وهذا عذاب يا عجباً من خالدٍ كيف لا ... يخطئ فينا مرّةً بالصّواب قال أبو العتاهية:؟ وليس بحاكم من لا يبالى أأخطأ في الحكومة أم أصابا وقال آخر:؟؟؟؟؟؟؟؟ فإن تصبك من الأيّام داهيةٌ لم نبك منك على دنيا ولا دين وقال آخر:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إذا ما لقيت بنى عامر لقيت جفاءً ونوكاً كثيراً نعامٌ تجود بأعناقها ... ويمنعها نوكها أن تطيرا وقال آخر:؟ وإنّك إن حللت بدار قومٍ رحلت بخزيةٍ وتركت عارا وقال آخر: خنازير ناموا عن المكرمات ... فنبّههم قدر لم ينم فيا قبحكم في الّذي خوَّلوا ... ويا حسنهم في زوال النّعم وقال آخر: فخير منك مالا خير فيه ... وخير من زيارتك القعود وقال آخر:؟ وما ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النّفس من باهله وقال آخر: كأنَّ ريحهم من قبح فعلهم ... ريح الكلاب إذا ما مسّها المطر وقال خلف الأحمر: إذا انتسبوا ففرعٌ من قريشٍ ... ولكنّ الفعال فعال عكل وقال أبو على البصير: لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... إلى كرم وفي الدّنيا كريم ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصّح نبتها رعى الهشيم وللحطيئة في أمة، لا عفا الله عنه: تنحّى فاقعدى منّى بعيداً ... أراح الله منك العالمينا ألم أوضح لك البغضاء منّى ... ولكن لا إخالك تعقلينا أغربا لاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحّدثينا جزاك الله شراً من عجوزٍ ... ولقّاك العقوق من البنينا وللفقيه أبى عمر بن عبد البر: واصلت في شرب الشّمول سفاهةً ... حتّى غدوت كأنّ أنفك دمّل قال أعرابيّ: أتيت بغداد فإذا ثياب أجواد على ألأم أجساد، إقبال حظّهم إدبار حظوظ الكرام، شجرٌ فروعه عند أصوله، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر. قال أبو العتاهية: أذمّ بغداد والمقام بها ... من بعد ما خبرةٍ وتجريب ما عند أملاكها لمر تغبٍ ... رفدٌ ولا فرجةٌ لمكروب خلّوا سبيل العلا لغيرهم ... ونازعوا في الفسوق والحوب يحتاج راجي النّوال عندهم ... إلى ثلاث من غير تكذيب كنوز قاروق أن تكون له ... وعمر نوحٍ وصبر أيوب وقال آخر: أما لو أنّ جهلك كان علماً ... إذا لنفذت في علم الغيوب ومالك في الغريب يدٌ ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب وقال الناشئ: لو كما تجهل تدري ... كنت لله رسولا وقال حماد بن الزبرقان في حمّاد عجرد: نعم الفتى لو كان يعرف ربّه ... ويقيم وقت صلاته حمّاد هدلت مشافره الشّمول فأنفه ... مثل القدوم يسنّها الحدّاد وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد وقال رافع بن إبراهيم اليربوعي: ألستم أقلّ النّاس تحت لوائهم ... وأكثرهم عند الذبيحة والقدر وأمساه بالشّئٍ المحقّر بينهم ... وأعجزهم عند الجسيم من الأمر وقال أعرابي: العبد يجتنب الهجاء لشينه ... ولك الهجاء إذا هجيت جمال لم يبق عارٌ في البريّة كلّها ... إلا وأخبث منه فيك يقال وقال أبو عيينة: خالدٌ لولا أبوه ... كان والكلب سواء لو كما ينقص يز ... داد إذا نال السّماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أنا ما عشت عليه ... أسوأ النّاس ثناء إنّ من كان مسيئاً ... لحقيق أن يساء وله أيضاً: داود محمود وأنت مذمّمٌ ... عجباً لذاك وأنتما من عود ولرب عودٍ قد يشقّ لسجدٍ ... نفصاً وسائره لحشّ يهود وقال الفرزدق: أترجو كليباً أن تجئ صغارها ... بخير وقد أعيا عليك كبارها وقال أبو نواس: لأبي نوحٍ رغيفٌ ... أبداً في حجر دايه برّةٍ تمسحه الدّه ... ر بكم ووقاية وله كاتب سوءٍ ... خطّ فيه بعنايه فسيكفيكهم الل ... هـ إلى آخر آلايه وقال فيه أيضاً: أبو نوحٍ دخلت عليه يوماً ... فغدّائي برائحة الطّعام فكان كمن سقى الظمآن آلا ... وكنت كمن تغدى في المنام قال رجل خياط أعور لبعض الشعراء: والله لأخيطن لك قباء لا تدري أقباءٌ هو أم دوّاج، فقال: وأنا والله أقول فيك شعراً، لا تدري أمدح هو أم هجاء، فلما خاطه له قال فيه: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء قل لمن يسمع هذا ... أمديح أم هجاء فلم يدروا ما أراد: صحة عينيه أم عماه. ولرجل من بني تميم: أمن عوز الرّجال وهم كثيرٌ ... حبا نصرٌ بإمرته عقيلا فلو بكت المنابر من لئيم ... سمعت لعود منبره عويلا وقال آخر: من دون سيبك لون ليل مظلم ... وحفيف رائحةٍ وكلبٌ مرصد والضيف عندك مثل أسود سالخٍ ... لا بل أحبّهما إلأيك الأسود وقال آخر: ورثنا المجد عن آباء صدقٍ ... أسأنا في ديارهم الصّنيعاً إذا الحسب الرفيع تعاورته ... بناة السّوء أوشك أن يضيعا وأحسن من هذا: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتّكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال آخر: إن تلق ريب المنايا أو تردّفها ... لم نبك منك على دين ولا حسب وقال آخر: وإن تصبك من الأيام قارعةٌ ... لم أبك منك على دنيا ولا دين قيل لمسلمة: أجرير أشعر أم الفرزدق؟ قال الفرذدق يبني، وجرير يخرب، وليس بقوّم الخراب شئ. قال أعرابي في سعيد بن سلم: مدحت ابن سلمٍ والمديح مهزّةٌ ... فكان كصفوانٍ عليه تراب لكلّ أخي مدح ثوابٌ يعدّه ... وليس لمدح الباهلّي ثواب قال أبو بكر السّامرى: يا شاعراً يهتك من عقله ... أضعاف ما يهتك من عرضى إذا هجاني جاءني شعره ... وبعضه يضحك من بعض وهذا الباب أكثر من الحصى والتراب. باب العقل والحمق أما العقل فقد أوردت في معناه واشتقاقه والدّلالة عليه، وما جاء في ذلك من النثر والنّظم كتاباً كافياً، ونوردها هنا من صفات العاقل والأحمق ما تحسن به المذاكرة، ويجعل إيراده في المجالسة إن شاء الله تعالى. ومن حديث ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يعجبنكم إيمان الرجل حتى تعلموا ما عقدة عقله " وروى عن النبي عليه وسلّم، أنه قال: " حقٌ على العاقل أن يكون له أربع ساعات، ساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يفضى فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجعل، فإن هذه الساعة عونٌ له على هذه الساعات، وإجمام للقلوب. وحقٌ على العاقل ألا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زادٌ لمعاده، ومرمّة لمعاشه، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مالكاً للسانه، مقبلاً على شانه ". أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السّلام: أتدرى لم رزقت الأحمق؟ قال: لا قال: ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: " ثلاثٌ من حرمهنّ فقد حرم خير الدنيا والآخرة: عقلٌ يداري به الناس، وحلمٌ يردّ به السفيه، وورعٌ يحجزه عن المحارم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 افتخر رجلان عند عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، فقال: أتفتخران بأجساد بالية، وأرواح في النار؟! إن يكن لكما عقلٌ فلكما أصل، وإن لم يكن لكما خلق فلكما شرف، وإن يكن لكما تقوى فلكما كرم، وإلاّ فالحمار خير منكما، ولستما خيراً من أحد. وقال عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه: العاقل من لم يحرمه نصيبه من الدنيا حظّه من الآخرة. قال عليّ بن أبي طالب في وصيته لابنه: لا مال أعوذ من العقل، ولا قفر أشدّ من الجهل، ولا وحده أوحش من العجب، ولا مظاهرة كالمشاورة، ولا حسب كحسن الخلق. كان يقال:إذا كان علم الرجل أكثر من عقله،كان قميناً أن يضرّه علمه. قال عمرو بن العاص:ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر،ولكنه الذي يعرف خير الشرين. قال العتبيّ:العقل نوعان،فأحدهما ما تفرد الله بصنعته،والآخر ما يستفيده المرء بأدبه وتجربته،ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلاّ بصحة العقل المركب،فإنهما إذا اجتمعنا قوّى كلٌّ منهما صاحبه،كما أن النار في الظلمة نور للبصر،وأنشد: إذا لم يكن للمرء عقلٌ يزينه ... مع النّاس لم يجعل له مشفقٌ عقلا وقال آخر: ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن حسن الجسوم عقول وقال أردشير بن بابك:نموّ العقل بالعلم. وكتب عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، إلى بعض عماله: أمّا بعد، فإنّ العقل المفرد لا يقوى به على أمر العامّة،ولا يكتفي به في أمر الخاصّة،فأحي عقلك بعلم العلماء والأشراف من أهل التّجارب والمروءات،والسّلام. قال أيوب بن القرّيّة:الناس ثلاثة:عاقلٌ،وأحمق،وفاجرٌ،فالعاقل:الدّين شريعته،والحلم طبيعته،والرأى الحسن سجيتّه،إن نطق أصاب،وإن سمع وعى،وإن كلّم أجاب. والأحمق:إن تكلّم مجل،وإن حدّث وهل،وإن استنزل عن رأيه نزل. وأما الفاجر:فإن ائتمنته خانك،وإن صحبنه شانك. قال مطرّف بن الشّخّير:عقول كلّ قوم على قدر زمانهم. كان يقال:ستّ خصال تعرف في الجاهل:الغضب في غير شئ،والكلام في غير نفع،والعطيّة في غير موضعها،وإفشاء السّر،والثقة بكلّ أحد،ولا يعرف صديقه من عدوه. قيل لابن شبرمة:ما حدّ الحمق؟ قال:لا جدّ له. سئل بعض الحكماء عن العقل،فقال:الإصابة بالظّنون،ومعرفة ما لم يكن بما قد كان. كان يحيى بن خالد،يقول:ثلاثة أشياء تدلّ على عقول أربالها:الكتاب على مقدار عقل كاتبه،والرسول على مقدار عقل مرسله،والهديّة على مقدار عقل مهديها. قال ابن الأعرابي:سمّى الرجل أحمق،لأنه لا يميز كلامه من رعونته قال:والحمق أيضاً الكساد،يقال:انحمقت السّوق إذا كسدت،ومنه الرجل الأحمق لأنه كاسد العقل لا ينتفع برأيه ولا بعزمه. والحمق أيضاً:الغرور،يقال:سرنا في ليالٍ محمّقات،إذا كان القمر فيهن يستتر بغيم أبيض رقيق،فيغتّر الناس بذلك يظنون أن قد أصبحوا فيسيرون حتّى يملوا. قال:ومنه أخذ اسم الأحمق لأنه يغرّك في أوّل مجلسه بتعاقله،فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبيّن حمقه. وقيل للرّجلة البقلة الحمقاء، لأنّها تنبت في مسيل الماء،وفي طريق الإبل،فهي أبداً مدوسة. وفي الخبر المرفوع: " للعاقل خصال يعرف بها:يحلم عّمق ظلمه،ويتواضع لمن هو مثله،ويسابق بالبّر من هو فوقه،وإذا رأى باب فرصة انتهزها،لا يفارقه الخوف،ولا يصحبه العنف،يتدبرّ ثم يتكلم غنم،وإن سكت سلم، وإن عرضت له فتنة،اعتصم بالله ثم تنكّبها،وللجاهل خصالٌ يعرف بها:يظلم من خالطه، ويتكلم بغير تدبّر فيندم، فإن تكلّم أثم، وإن سكت سها، وإن عرضت له فتنةٌ أردته، وإن رأى باب فضيلةٍ أعرض عنها. ذكر المغيرة بن شعبة يوماً عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال: كان والله أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع. في كتاب " كليلة ودمنة ": رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع. قال الحجاج يوماً: العاقل من يعرف عيب نفسه، قال عبد الملك: فما عيبك؟ قال: أنا حسودٌ حقود، قال عبد الملك: ما في إبليس شرٌ من هاتين. قال الحسن البصرى: صلة العاقل إقامةٌ لدين الله، وهجران الأحمق قربة إلى الله، وإكرام المؤمن خدمةٌ لله وتواضعٌ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال عبد بن الحسن: حمق الرجل يفسد دينه، ولا دين لمن لا عقل له. وكان لا يجيز شهادة الأحمق العفيف، فكلّم في ذلك، فقال: سأريكم. ودعا بحاجبه فقال: يا ممدود، انظر لي ما الرّيح؟ فخرج ثم رجع، فقال: هي شمالٌ يشوبها شئٌ من الجنوب. فقال: أترون أن أجيز شهادة مثل هذا؟! فقال أردشير: رضاء المرء عن نفسه دليل على عقله. قال أنو شروان: ثقة الرجل برأيه، وإقراره بتوفير عقله، دليل على عقله، قيل: هل ينتهي من أول الزّجر أحمق كان يقال: إذا تمّ العقل نقص الكلام. قال على بن أبي طالب: لا تؤاخ الأحمق، ولا الفاجر، أمّا الأحمق فمدخله ومخرجه شين عليك، وأما الفاجر: فيزيّن لك فعله، ويود أنك مثله. قال سابق: المرء يجمع والزّمان يفرّق ... ويظلّ يرفع والخطوب تمزّق ولئن يعادى عاقلاً خيرٌ له ... من أن يكون له صديقٌ أحمق وقال آخر: عدوّك ذو العقل أبقى عليك ... من الصّاحب الجاهل الأحمق وذو العقل يأتى حسان الأمور ... ويعمد للأرشد الأوفق وقال دعبل بن على الخزاعى: عداوة العاقل خيرٌ إذا ... حصّلتها من خلةً الأحمق لأنّ ذا العقل إذا لم يرع ... عن ظلمك استحيا فلم يخرق ولن ترى الأحمق يبقى على ... دين ولا ودّ ولا يتّقى وقال آخر: عداوة العاقل خيرٌ لمن ... عاداه من ودّ امرئٍ جاهل بوائق الجاهل مبثوثةٌ ... وليس تخشاها من العاقل وقال صالح بن عبد القدوس: ألا إنّما الإنسان غمدٌ لعقله ... ولا خير في غمدٍ إذا لم يكن نصل فإن كان للإنسان عقلٌ فإنّه ... هو النّصل والإنسان من بعده فضل وقال أيضاً: وما المرء إلاّ اثنان عقلٌ ومنطقٌ ... فمن فاته هذا وذاك فقد دمر ولا سيمّا إن كان ممّن نصيبه ... من الدّين والدّنيا قليلٌ إذا حضر وقال ابن الرومى: وليس عتاب المرء للمرء نافعاً ... إذا لم يكن للمرء عقل يعاتبه وقال آخر: زعمت أبا سهلٍ بأنّك جامعٌ ... فنوناً من الآداب يجمعها الكهل فهبك تقول الحقّ أىّ فضيلةٍ ... تكون لذي علمٍ وليس له عقل وقال آخر: لكلّ امرئٍ شكلٌ من النّاس مثله ... فأكثرهم شكلاً أقلهم عقلاً لأنّ صحيح العقل ليس بواجدٍ ... له في طريقٍ حين يسلكها مثلا ولا خير في طول السّبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا وقال آخر: قد عرفناك باختيارك إذ كان ... دليلاً على اللّبيب اختباره وقال بشار بن برد: وما أنا إلا كالزّمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزّمان أموق وقال آخر: وأنزلني طول النّوى دار غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرءا لا أشاكله تحامقته حتّى يقال سجيّةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكنت أعاقله وقال آخر: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل فإنّى رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل وقال أبو يزيد البسطامى رحمه الله: ياذا الذي ليس له والدٌ ... يسعى على الأرض ولا والده قد مات من قبلهم آدم ... فأىّ نفس بعده خالده إن جئت أرضاً أهلها كلّهم ... عورٌ فغمّض عينك الواحده سمع عمر بن العزيز رجلا يكنى أبا العمرين،فقال:لو كان لك عقل كفاك أحدهما. قال الحسن:هجرة الأحمق قربة إلى الله تعالى. قال منصور الفقيه: أجالس كلاّ وإن لم يكن ... على ما أحبّ سوى الأموق فإبّى أجالسه مرّةً ... وأنهض عنه فلا نلتقى فما نعمةٌ بعد تقوى الإله ... أفضل من هجرة الأحمق قال بعض الحكماء:ينبغي للعاقل أن يتمسك بستّ خصال:أن يحفظ دينه،ويصون عرضه،ويصل رحمه،ويحفظ جاره،ويرعى حقّ إخوانه،ويحزن عن البذاء لسانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 كان الحسن البصرىّ إذا أخبر عن أحد بصلاح،قال:كيف عقله؟ ثم يقول:ما يتم دين أمرئٍ حتّى يتم علقه. روى أنه أهبط الله عزّ وجل آدم إلى الأرض،أتاه جبريل،فقال:ياآدم! إن الله تعالى قد أحضرك ثلاث خصالٍ لتختار منهنّ واحدة،وتخلّى عن اثنتين. قال:وما هنّ؟ قال:الحياء والدين والعقل:قال آدم:إنى اخترت العقل. قال جبريل للحياء والدين:ارتفعا فقد اختار العقل،قالا:لا نرتفع،قال:ولم عصيتما؟ قالا:لا،ولكنا أمرنا ألاّ نفارق العقل حيث كان. كان يقال:لا تعتمدّ بمن ليس له عقدهٌ من عقل. قال بعض الحكماء:وكّل الحرمان بالعقل،والرزق بالجهل،ليعتبر العاقل فيعلم أنّ الرزق ليس عن حيلة. قيل لزرعة بن ضمرة:متى عقلت؟ قال:يوم ولدت. قيل:وكيف ذلك؟ قال:منعت الثّدى فبكيت،وأعطيتها فسكتّ. قال الحسن:لأنا للعاقل المدبر،أرجى منّى للأحمق المقبل. قال الأوزاعى:قيل لعيسى عليه السلام يا روح الله! أنت تبرئ الأكمه والأبرص وتحيى الموتى بإذن الله،فما دواء الأحمق؟ قال:ذلك أعيانى. قال قيس بن الخطيم: وبعض الداء ملتمسٌ دواه ... وداء النوّك ليس له دواء وقال آخر: جنونك مجنون ولست بواجدٍ ... طبيباً يداوى من جنون جنون وقال آخر: قالوا جننت بمن تهرى فقلت لهم ... ما لذّة العيش إلاّ للمجانين الحبّ لا يستفيق الدّهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين كان يقال:الأحمق بشأنه أعلم من العاقل بشأن غيره. قال زيد بن أسلم، قال لقمان لا بنه: يا بنّي لئن يقصيك الحكيم خيرٌ من أن يدنيك الأحمق. قال عمر بن عبد العزيز: خصلتان لا تعدمك إحداهما من الأحمق، أو قال من الجاهل: كثرة الالتفاف، وسرعة الجواب. كانوا يعبّرون عن الأحمق بالجاهل، ومن ثم قالوا: غضب كسرى على عاقل فسجنه مع جاهل. يريدون سجنه مع أحمق، ويعبّرون أيضاً عن العاقل بالحلم، قال الشاعر: فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإيّاه فكم من جاهلٍ أردى ... حليماً حين واخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه قال سهل بن هارون: ثلاثة من المجانين وإن كانوا عقلاء: الغضبان: والغيران، والسّكران. قيل: فما تقول في المنعظ؟ قال: وما شرّ الثّلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذّي لا تصبحينا قال تمام بحيح: إذا قام ذكر الرجل، ذهب ثلثا عقله قال محمود الوراق، وقد نسب إلى ابن الزّيات: ليس شئٌ مما يدبرّه العا ... قل إلاّ وفيه شئٌ يريبه فأخو العقل ممسكٌ يتوقّى ... ويخاف الدّخول فيما يعيبه وأخو الجهل لا يقدر في الأم ... ر وإن أشكلت عليه ضروبه راكب ردعه كحاطب ليلٍ ... يخطئ الأمر كلّه أو يصيبه تتأتّى له الأمور على الجه ... ل إذا ما أرادها وتحبيبه وأخو العقل بعد ينتتج الرّأ ... ى فيرضى ومرّة يستريبه وإذا صيّر البعيد قريباً ... عاد فيه فازداد بعداً قريبه فهو الدّهر شاخص القلب فكراً ... ما تقضّى همومه وكروبه وقال آخر: ألا إنّ عقل المرء عينا فؤاده ... فإن لم يكن عقلٌ فلن يبصر القلب وقال آخر: أى زمناً نوكاه أسعد أهله ... ولكنّما يشقى به كلّ عاقل مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكبّ الأعللى بارتفاع الأسافل وقال آخر: عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذّ وأحلى لو لقوا ما لقيت من حرفة العق ... ل لساروا إلى الحماقة رسلا حمقى قائم بقوت عيالى ... ويموتون إن تعاقلت هزلا قال هشام بن عبد الملك: يعرف حمق الرجل بأربع: بطول لحيته، وشناعة كنيته ونقش خاتمه، وإفراط شهوته. فدخل عليه ذات رجل طويل العثنون، فقال هشام: أمّا هذا فقد جاء بواحدة، فانظروا أين الثلاث؟ قالوا: أنا أبو الياقوت الأحمر. قالوا: فما نقش خاتمك؟ قال: " وجاءوا على قميصه بدمٍ كذب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وفي خبر آخر: أن معاوية جرت له مثل هذه الحكاية، إلاّ أنّ في خبر معاوية، قيل له: فما كنيتك؟ قال: أنا أبو الكوكب الدرىّ. قيل له: فما نقش خاتمك؟ قال: " وتفقد الطير فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " قال يحيى بن الحكم الغزال: يعرف عقل المرء في أربع ... مشيته أوّلها والحرك ودورعينيه وألفاظه ... بعد عليهنّ يدور الفلك وقال آخر: طلبت الرّزق بالعقل ... من الغرب إلى الشّرق فلم يكسبنى العقل ... سوى البعد من الرّزق فأدبرت عن العقل ... وأقبلت على الحمق فلم أتعب ولم أنصب ... ولم أضرع إلى الخلق قال بعض الحكماء: من الحمق التماس الإخوان بغير وفاء، والتماس الآخرة بالرّياء. والتماس مودة النّساء بالغلظة، والتماس العلم والفضل بالدّعة والخفض. سمع الأنف رجلا يقول: ما أبالى أمدحت أم هجيت. فقال: استرحت من حيث تعب الكرام. وقالت العرب: استراح من لا عقل له. وقالت الفرس: مات من لا عقل له. أنشدني بعض شيوخي رحمهم الله: كم كافرٍ بالله أمواله ... تزداد أضعافاً على كفره ومؤمنٍ ليس له درهم ... يزداد إيماناً على فقره لا خير فيمن لم يكن عاقلاً ... يمدّ رجليه على قدره وقال آخر: ما إن يزال يبغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين أعطاهم الله أموالاً منزّلةً ... من الملوك بلا عقلٍ ولا دين ما شئت من بغلةٍ شقراء ناجيةٍ ... أو من أتان وقول غير موزون باب من أجوبة الحمقى ومراجعة السّخفاء، وألفاظ النّوكى والجهلاء استعمل معاوية رجلاً من كلب، فذكر المجوس يوماً، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت عشرة آلاف درهم، ما نكحت أميّ فبلغ ذلك معاوية، فقال: قبحه الله! أترونه لو زيد فعل؟!! قال أبو عبيدة: أجريت الخيل فطلع منها فرسٌ سابق، فإذا رجلٌ من النظّارة يكرّ ويثب من الفرح، فقال له رجل إلى جنبه: يا فتى! هذا الفرس فرسك؟ قال: لا،ولكنّ اللجام لجامي. أرسل رجلٌ من بنى عجل بن لجيم فرساً في الحلبة،فجاء سابقاً،فقال لابنه: يا بنىّ! بأىّ شئ أسميه؟ فقال:ياأبت افقأ عينه وسمه الأعور. قال الشاعر: رمتنى بنو عجل بداء أبيهم ... وأىّ عباد الله أنوك من عجل أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل قال أبو كعب القاصّ في قصصه:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كبد حمزة ما علمتم، فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزة. وقال أيضاً في قصصه:إن اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا،قالوا له:فإن يوسف لم يأكله الذئب،قال:فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. وتلا في قصصه يوماً قول الله عز وجل: " يتجرعه ولا يكاد يسيغه. فقال:اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه. قيل لبرذعة الموسوسر:أيّما أفضل غيلان أم معلّى؟ قال:معلّى، قالوا: ومن أين؟ قال: لأنه لما مات غيلان،ذهب معلّى إلى جنازته، فلما مات معلّى لم يذهب غيلان إلى جنازته. رفع رجلٌ من العامة ببغداد إلى بعض ولاتها على جار له أنّه يتزندق،فسأله الوالي عن قوله الذي نسبه به إلى الزندق،فقال:هو مرجى قدرىّ ناصبيّ رافضى،من الخوارج،يبغض معاوية بن الخطاّب الذي قتل علىّ بن العاص. فقال له ذلك الوالي:ما أدرى على أي شيء أحسدك؟ أعلى علمك بالمقالات،أم على بصرك بالأنساب. كان قوم من أهل العلم يتناظرون في أمر معاوية وعلّى،ويذكرون أبا بكر وعمر، وكان قريباً منهم رجل من العامة،ينسب إلى أنه من أعقلهم،وكان ذا سبلةٍ طويلة،فقال لهم:كم تطنبون في أمر علىّ ومعاوية وفلان وفلان!! فقال له أحد القوم:وتعرف أنت من على ومعاوية وفلان وفلان؟ قال:نعم! أو ليس هو أبو فاطمة؟ قال:ومن كانت فاطمة؟ قال:امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بنت عائشة أخت معاوية. قال:فما كان قصة علىّ؟ قال:قتل في غزاة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلّم. دخل رجلٌ من العامة الجهلة الحمقاء على شيخ من شيوخ أهل العلم،فقال:أصلح الله الشيخ،لقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 سمعت في السوق الساعة شيئاً منكراً،ولا ينكره أحد قال:وما سمعت؟ قال:سمعتهم يشتمون الأنبياء! قال:ومن المشتوم من الأنبياء؟ قال:سمعتهم يشتمون معاوية. قال: يا أخي ليس معاوية بنبىّ. قال:فهبه نصف نبىّ لم يشتم. قال عمرو بن بحر:ذكر لي شيخٌ من الإباضية أنه جرى عنده ذكر الشيعة يوماً فغضب وشتمهم،وأنكر ذلك عليهم إنكاراً شديداً. قال فأتيته يوما فسألته عن سبب إنكاره على الشيعة ولعنه لهم فقال:لمكان الشين في أول الكلمة،لأني لم أجد ذلك قطّ إلا في مسخوط،مثل شومٍ وشرّ وشيطانٍ وشيصٍ وشحّ وشغبٍ وشعبٍ وشركٍ وشتمٍ وشقاقٍ وشطرنج وشينٍ وشانى وشحطٍ وشوصة وشوكٍ وشكوى وشنآن. فقلت له:إن هذا كثير،ما أظنّ أن القوم تقيم لهم علماً مع هذا أبداً كان عندنا رجل شاهدناه،وكان من جيراننا على غاية من الجهل والغباوة،وكان إذا سلّم من صلاته في جماعة أو وحده،يقول:السّلام على الملكين الكاتبين لأبي بكر وعمر،وكان ألثغ يجعل مكان الكاف تاء. اشترى باقل،وهو رجل من قيس بن ثعلبة عنزاً بأحد عشر درهما،فقالوا له:بكم اشتريت الغز؟ ففتح كفّيه وفرّق أصابعه،وأخرج لسانه،يريد أحد عشر درهماً،فلما عيروه،قال: يلومون في حمقه باقلاً ... كأنّ الحماقة لم تخلق فلا تكثروا العذل في عيّه ... فللعىّ أجمل بالأحمق خروج اللسان وفتح البنان ... أحب إلينا من المنطق ذكر الصّولى عن ابن الجوهريّ ضروباً من العىّ والحماقة والجهل،وكان له تسبيح ظريف يسبحه بإثر كل صلاة:سبحانك يا عالمين،والحمد لله الأكرمين،ولا إله إلا الله الطيبين،والصلاة على النبي المباركين،وأزواجه أمهات المؤمنين،ونسأل الله خير عوائق الأمور. رأى معاوية بن مروان بن الحكم حمار طاحونةٍ في عنقه جلجل في حانوت طحان،فقال له: ما بال هذا الحمار في عنقه جلجل؟ فقال:أنا مشتغل في علاجى وطلب معيشتى خارج الحانوت،وبحركة الجلجل أعرف وقوف الحمار فأحرّكه للمشى،فقال له معاوية له:أرأيت إن وقف الحمار وحرّك رأسه فتحرك الجلجل؟ قال الطحان:ومن لحمارى بمثل عقل الأمير؟! ومعاوية هذا هو الذي أمر بغلق باب المدينة إذ انفلت له البازى. قال طحطاح لابنه يوماً:ما الذي تشتهى؟ قال: رأسي كبشٍ. فقال له أبوه: لا يكون للكبش رأسان، قال: فرأس كبشين، فضحك منه. قيل لمخنث: مالكم تحلقون لحاكم؟ فقال: إن البرد لا تعرف إلا بحذف أذنابها. دخل راكب البريد يوماً على المأمون، فقال له: متى خرجت، أو متى قدمت؟ فقال له:بعد غد يا أمير المؤمنين. فقال له المأمون: فإذاً أتيتنا وبيننا وبينك مرحلتان. مرض رجلٌ من الأعراب، فعاده جاره، وقال له: ماتجد؟ قال: أشكو دمّلا أهلكني، وزكاماً أضربى. قال له: فقد بلغنا أن إبليس لا يحسد على شئ من الأمراض إلاّ على هاتين العلتين لما فيهما من الأجر والمنفعة. فأنشأ الأعرابي يقول: أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برأسي وإستى دملاً وزكاما فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة زبّ لا يطيق قياما وقال أبو نواس: قد أضرت بي دمامي ... ل على الظّهر ملحّه ليتها في عين من يح ... سبه مالاً وصحّه سلم فزارة صاحب المظالم بالبصرة على يساره في الصلاة، فقيل له في ذلك فقال: كان على يميني إنسان لا أكلمه. وقال فزارة يوماً في مجلسه: لو غسلت يدى مائة مرة ما تنظفت، أو أغسلها مرتين وفيه يقول ابن المعذّل: ومن المظالم أن تكو ... ن على المظالم يا فزارة تقديم رجل مع خصمه إلى قاض، فقال: أصلح الله القاضى، لي عند هذا الزاني ابن الزانية كذا وكذا. فقال القاضي لخصمه: ما تقول فيما سمعت من دعوى خصمك؟ فقال: لا أعرف شيئاً فيما يقول، وأنا منكر لما يدعيه. فقال للمدعى: هات بينه إن كان لك. فأتاه برجلين فجلسا بين يديه، فقال لهما: بم تشهدان؟ قالا: نشهد أن لهذا الرجل على هذا الزاني ابن الزانيه كذا وكذا لدعوى خصمه. فقال لهما:قد قبلتكما. قم يازاني ابن الزانية،فأد ما شهدا به. فقال المشهود عليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أيها القاضي! إن كان هؤلاء استحلوا قذفى وقذف أمي بجهلهم، فما الذي استحللت به أنت ذلك منى؟ فقال: والله يا ابن أخي ما حسبت إلا أنه اسمك واسم أمك، لأنك لم تنكر ذلك على خصمك ولا على شاهديه. مر قاض بواسط أو بحمص على السوق في يوم رمضان، فرأى رجلا قد صنع معزفاً، فوقف عليه وقال: أيها الفاسق في الشهر المبارك تعمل آلات اللهو وظروف الشرّ فقال: أصلح الله القاضي، إنما هي مقلاة قال: لعن الله الشيطان ما حسبتها إلا معزفا،فنهض شيئاً ثم عاد إليه، فقال له:يا فاسق؟؟؟؟؟؟؟؟ وكيف تكون مقلاة من خشب؟ هذا محال. فقال له:يا قاضي إني أطليها بالقار، فلا تؤثر فيها النار. قال:صدقت، ثم انصرف عنه. وُلّى رجلٌ مقلّ قضاء الأهواز، فأبطأ عليه رزقه، وحضر عيد الأضحى وليس عنده ما يضحى به ولا ما ينفق، فشكا ذلك إلى زوجته، فقالت له: لا تغتم، فإن عندي ديكاً جليلا قد سمنته، فإذا كان عيد الأضحى ذبحناه. فلما كان يوم الأضحى، وأرادوا الديك للذبح، طار على سقوف الجيران، فطلبوه وفشا الخبر في الجيران، وكانوا مياسير، فرقوا للقاضي، ورثوا لقلة ذات يده،فأهدى إليه كلّ واحد منهم كبشاً، فاجتمعت في داره أكبش كثيرة، وهو في المصلى لا يعلم، فلما صار إلى منزله، ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته:من أين هذا؟ قالت أهدى إلينا فلان وفلان - حتى سمَّت جماعتهم - ما ترى. قال: ويحك احتفظي بديكنا هذا فما فدى إسح اق بن إبراهيم إلا بكبش واحد،وقد فدى ديكنا بهذا العدد. باب الملح وما به النّفس ترتاح من مباح المزاح قال الأصمعىّ: وصلت بالعلم، وكسبت بالملح. قال عبد الرحمن بن أبي الزّناد: قلت لأشعب: أنت شيخ كبير، فهل رويت شيئاً من الحديث؟ قال: بلى! حدثني عكرمة عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: خصلتان من حافظ عليهما دخل الجنة. قلت: وما هما؟ قال: نسيت أنا واحدة، ونسى عكرمه الأخرى. كان أشعب الطّمع كثير الإلمام بسالم بن عبد الله بن عمر، فأتاه يوماً وهو في حائط مع أهله، فمنعه البواب من الدخول عليه من أجل عياله، وقال: إنّهم يأكلون. فمال عن الباب، وتسوّر عليهم الحائط، فلمّا رآه سالم، قال: سبحان الله يا أشعب! على عيالى وبناتي تتسوّر. فقال له " لقد علمت مالنا في بناتك من حقّ، وإنك لتعلم ما نريد ". فقال له: انزل يأتك من الطّعام ما تريد. أخذ قومٌ في قطع، فقدّموا لضرب أعناقهم، فقام منهم واحدٌ، وقال: الله الله فيّ، فو الله ما كنت في شئٍ مما كانوا فيه، وإنما كنت أشرب معهم وأغنّى لهم، فقالوا: هات فغنّ لنا، فارتجت عليه الأشعار إلاّ قول الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرينٍ بالمقارن مقتدى فقالوا: صدق. اضربوا عنقه. كان بعض أمراء خراسان يتشاءم بالحول، فمتى رأى أحول ضربه بالسّياط، وربما ضرب بعضهم خمسائة سوط، وحدث أنه ركب في بعض الأيام، فرأى أحول فأمر بضربه، وكان الأحول جلداً، فلما فرغ من ضربه، قال له: أيها الأمير! أصلحك الله، لم ضربتني؟ قال: لأني أتشاءم بالحول. قال: فأينا أشدّ شؤماً على صاحبه، أنت رأيتني ولم يصبك إلاّ خير، وأنا رأيتك فضربتني خمسائة سوط، فأنت إذا أشد شؤماً. فاستحيا منه ولم يضرب بعده أحداً. كانت في سعيد بن فروخ بن القطان، والد يحيى سعيد الفقيه، غفلة شديدة مشهورة، فخرج يوم الجمعة وقد تهيأ للصلاة، فلقى رجلا من أهل البصرة كثير المزاح، فقال له: قد أخروا الجمعة إلى غد، فقال: حسن. ورجع إلى منزله. كان إسماعيل بن يسار الشاعر قد خفّ على عروة بن الزبير حتى زامله مرّةً بعض أسفاره، فقال ليلةً في سفره ذلك لغلامه: انظر هل اعتدل المحمل؟ فقال الغلام: ما هو إلاّ معتدل، فقال إسماعيل: والله ما اعتدل الحقّ والباطل قبل هذه الليلة، فمحك عروة. قال الأصمعىّ: قدم تاجرٌ من أهل الكوفوفة المدينة بأحمزة فباعها كلها إلاّ السّود منها، فلم تنفق، وكان صديقاً للدرامىّ الشاعر، فشكا ذلك إليه، وقد كان الدرامىّ تنسّك، وترك الشعر والغناء. فقال له: لا تهتمّ بذلك فإنّي سأنفقها لك حتى تبيع جميعها إن شاء الله تعالى، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت بزاهدٍ متعبّد قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتّى عرضت له بباب المسجد ردّى عليه صيامه وصلاته ... لا تقليه بحقّ دين محّمد فشاع قول الدرامىّ هذا في الناس: وقالوا: رجع الدرامىّ عن نسكه، وعاد إلى فتكه، فلم يبق في المدينة امرأة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود حتى نفد ما كان منها مع العراقي، فلما علم الدراميّ ذلك، رجع إلى نسكه ولزم المسجد. والدراميّ هذا أصله مكىّ، ثم انتقل إلى المدينة زمن عمر بن عبد العزيز، وعاش إلى خلافة بني العباس، وانقطع إلى عبد الصمد بن على وكان شاعراً مطبوعاً، ترك ذلك وتنسك، وهو القائل: ولما رأيتك أوليتني ال ... قبيح وباعدت عنّي الجميلا تركت وصالك في جانب ... وصادفت في النّاس خلاّ بديلا طويسٌ الذي تضرب به العرب المثل في الشّؤم، هو رجلٌ من أهل المدينة مولى لبني مخزوم، واسمه عيسى بن عبد الله، وهو أول من أظهر الخنا والمجون بالمدينة، وكان مغنيا يضرب الدف، وسئل عن والده، فقال: ولده، فقال، ولدت يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم، وفطمت يوم مات أبو بكر، وختنت يوم قتل عمر، وتزوجت يوم قتل عثمان، وولد لي يوم قتل على بن أبي طالب فيقولون في أمثالهم السّائرة. أشأم من طويس. كان الشّعبي يوماً جالساً في مجلسه، والناس يتناظرون في الفقه عنده، معه شيخ يطيل السكوت، فقيل له يوماً: لو سألت عن مسألة تنتفع بها، فقال: إني لأجد في قفاي حكّة، أفترى لي أن أحتجم؟ فقال الشعبي:الحمد لله الذي صرنا من الفقه إلى الحجامة. مر بالشعبي يوماً رجل يقود حماراً،فقال له:ما اسمك؟ قال:وردان. قال:وما اسم حمارك؟ قال:عمران. قال الشعبي:واخلافاه!! مر رجل معه كلب بابن أبي عتيق،فقال له:ما اسمك؟ قال:وثاّب. قال:وما اسم كلبك؟ قال:عمروزفقال ابن أبى عتيق:واخلافاه،وأنشد: ولو هيّا له الله ... من التّوفيق أسبابا لسمّى نفسه عمراً ... وسمّى الكلب وثاّبا أنشد رجل زبّان السّوّاق،قول إسماعيل بن يسار: ما ضرّ أهلك لو تطوّف عاشقٌ ... بفناء بيتك أو ألمّ فسلّها فبكى زبّان،وقال:لاشئ والله،إلا الضّجر وسوء الخلق وضيق الصدر،وجعل يبكي ويمسح عينيه. قيل لمدنّى:أما تتقى الله،تؤذي جيرانك؟! قال:فمن أوذى إذاً؟ أوذى من لا أعرفه؟! كان الفرزدق جالساً في حلقة الحسن رحمه الله،فقال رجل:يا أبا سعيد! ما تقول في الرجل يحكي عن غيره،يقول:قال فلانٌ طلقت امرأتى،وأعتقت عبدي،وفعلت وفعلت ولانّية له في ذلك. فقال الفرزدق:ياأبا سعيد:قد قلت أنا في ذلك. فقال:وما قلت يا أبا فراس؟ فليس كلّ قول يؤخذ به. قال:قلت: ولست بمأخوذٍ بشئ تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم قال الحسن:صدق أبو فراس،القول ما قال. اعترض الإسكندر جيشه يوماً،فرأى فيهم رجلا أعرج،فأمر بإسقاطه،فضحك الأعرج. فقال له الإسكندر:مم ضحكك؟ وقد أسقطتك. فقال:تعجبا منك لحبك آلة الهروب،وكراهتك آلة الوقوف،لأن معى آلة الوقوف في الحرب وتسقطني،فأمر بإثباته في خاصته،وأسنى رزقه. سمع ابن أبي عتيق يوما نصيباً الشاعر،وكان أسود،ينشد لنفسه: وددت ولم أخلق من الطّير أنّني ... أعار جناحي طائر فأطي فقال له ابن أبي عتيق:يا ابن أخي! قل:غاق تطر. شبهه بالغراب لشدة سواده. هاج بأبي علقمة الأعرابيّ الدّم،فأتوه بحجّام،قال له:يا حجّام! اشدد قصبة الملزم،وأرهف ظبة المشرط، وأسرع الوضع، وأسرع الوضع، وعجل النّزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصّك نهزاً. فقام الحجام ناهضاً، وقال: انتظر حتى يأتيك ابن القريّة فيحجمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قال الهيثم بن عدىّ: كنت يوماً بكناسة الكوفة إذ أنا برجل قد وقف على نخّاس الدّواب، فقال له: اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصادم في السّوارى، ولا يدخل تحت البواري، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت له شكر، وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس: اصبر يا عبد الله، فإذا مسخ القاضي حماراً، أصبت حاجتك إن شاء الله تعالى. خطب أبو القطوف إلى قوم وليةً لهم، فأجابوه، وقالوا لها من الضياع والمال كذا وكذا، فما مالك أنت؟ قال: إن كنتم صادقين فإن مالها يكفيني وإياها ما عشنا، فما سؤالكم عن مالى؟! وقال عبد الملك بن عبد الحميد الحارثي: يا أخت كندة عافي شرب عثمان ... وأزمعى لبنى عوف بهجران يا أخت كنده سيرى سير ساخطةٍ ... كي تنتوي غضبي وغضبان يا أخت كنده ليس الرّزق في يده ... الرّزق قي يد من لو شاء أغناني الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز فيها له شانٌ من الشّان عثمان يعلم أنّ الحمد ذو ثمن ... لكنّه يشتهى حمداً بمجّان والناس أكيس من أن يمدحوا أحداً ... حتّى يروا عنده آثاره إحسان اغسل يديك بأشنانٍ وأنقهما ... غسل الجنانة من معروف عثمان واسلح على كلّ عثمان مررت به ... إلاّ الخليفة عثمان بن عفّاف وقال الليث الحجام: حلقت بموسي الهجر ناصية الصّدّ ... وأخريت مشط الصّدّ في طرّة الودّ قصصت بمقراض القلا حجّة الوفا ... فجبهة رأس الودّ مكشوفة الجلد وشعر سبال الوصل صرت منتفاً ... ظلوماً بمنقاش القطيعة والصَّدَّ وما زلت مصَّاصاً بغير إساءةٍ ... بمحجمة الخلف القبيح دم الوعد وذكروا أن إبليس قال:ماذا ألقى من أصحاب البلغم؟ ينسون ويلعنونني. قال حسين المعروف بالجمل الشاعر: كان أحمد بن المدبر بدمشق يقصده الشعراءفمن مدحه بشعر جيد أثابه، ومن مدحه بشعر رديء وكل به من يحمله إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلى مائة ركعة. قال فدخلت عليه، فقلت: أردنا في أبى حسن مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة فقلت لهم: وما يغنى عيالي ... صلاتى إنما الشأن الزكاة ليأمر لي بكسر الصاد منها ... فتضحى لي الصلاة هي الصلات قال،فقال لي: أخذت هذا من قول أبى تمام: هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام قال الرياشي: خرج الناس بالبصرة ينظرون هلال رمضان، فرآه رجل منهم،ولم يزل يومئ إليه حتى رآه غيره وعاينوه، فلما كان هلال الفطر، جاء الجار إلى ذلك الرجل، فدق عليه الباب، وقال له: تعال أخرجنا مما أدخلتنا فيه. باب المزاح إباحة وكراهة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأمزح ولا أقول إلا حقَّا. قال ابن عباس: المزاح بما يحسن مباح، وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل إلاّ حقا. قال غالب القطان: أتيت محمد بن سيرين، وكان مزاحاً فسألته عن هشام ابن حسان، فقال لي: توفى البارحة، أما شعرت؟ فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون. فضحك وقال:؟ " الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ". جاءت إمرأة إلى الحسن، فقالت: إني نذرت أن أهدي البصرة إلى مكة،فقال:ويحك إن أهل البصرة لا يدعونك تهدى بصرتهم، ولو تركوك ما قدرت، كفري عن يمينك. وفي الحديث المأثور: " أنّ عيسى عليه السلام كان يبكي ويضحك، وكان يحيى عليه السلام يبكي ولا يضحك، فكان خيرهما المسيح عليه السلام ". قال خليفة بن زيد: كان خليفة الأقطع مزاحاً، وكان يقف على أيوب السختياني فيمازحه. قال حماد: وجاء خليفة الأقطع يوماً إلى أيوب، وأنا غلام بين يديه، فقال له:يا أبا بكر متى استحدث هذا؟ يعنى متى طلب هذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وروى هارون بن موسى الأعور عن سالم العلوى، قال: قال لي الحسن: خلّ بين الناس وبين هلالهم حتى يراه معك غيرك. وكان شعبة يقول: سالم العلوي يرى الهلال قبل الناس بليلتين. قال الخليل بن أحمد: الناس في سجن ما لم يمازحوا. مزح الشعبي يوماً، فقيل له: يا أبا عمرو أفتمزح؟ قال: إن لم يكن هذا متنا من الغم، داخل، وهواء خارج. كان محمد بن سيرين يداعب ويضحك حتى يسيل لعابه، فإذا أردته على شئ من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك. أتت ابن سيرين امرأة الفرزدق شاكية، فلما خرجت تمثل: لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت زب استه لاستقرت قيل لابن سيرين: إن قوماً يقولون من الشعر ما يوجب الوضوء، فعجب من جهلهم، وكان في المسجد، فتمثل: نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ثم قام فاستقبل القبلة وكبر مفتتحا لصلاته. وقال شعبة: أقيمت الصلاة فأنشدنا عمرو بن مرة بيت شعر غزل، ثم افتتح الصلاة، وكان إمامهم. وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء. كان يقال: لكل شئ بدء، وبدء العداوة المزاح. كان يقال: لو كان المزاح فحلاً، ما ألقح إلا الشر. قال سعيد بن العاص: لا تمازح الشريف فيحقد، ولا الدنيء فيجترئ عليك. قال ميمون بن مهران: إذا كان المزاح أمام الكلام فآخره الشتم واللطام. قال جعفر بن محمد: إياكم والمزاح، فإنه يذهب بماء الوجه. كان خالد صفوان يكره المزاح، ويقول: يسعط أحدهم أخاه بأحر من الخردل ويضحكه بأصلب من الجندل، ويفرغ عليه أشد من إلى المرجل، ويقول: مازحته. قال إبراهيم ال نخعي: لا يكون المزاح إلا في سخف أو بطر. قال أبو هفان: مازح صديقك ما أحب مزاحاً ... وتوق منه في المزاح جماحاً فلربما مزح الصديق بمزحةٍ ... كانت لباب عداوةٍ مفتاحاً وقال ابن وكيع: لا تمزحنَّ فإن مزحت فلا يكن ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدب واحذر ممازحةً تعود عداوةً ... إن المزاح على مقدمة الغضب ولأبي جعفر محمد بن جرير الطبري: لي صاحب ليس يخلو ... لسانه عن جراح يجيد تمزيق عرضي ... على سبيل المزاح روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه ". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر ضحكه استخف به وذهب بهاؤه. وقال غيره من الحكماء: إياك والمشي في غير أرب، والضحك من غير سبب. قال قتيبة بن مسلم لبنيه: لا تمازحوا فيستخف بكم، ولا تدخلوا الأسواق فترقَّ أخلافكم، ولا تبخلوا فيزدريكم أكفاؤكم. قال أبو موسى بن الحسن بن عبد الصمد بن علي بن المعتصم: الكبر ذل والتواضع رفعة ... والمزح والضحك الكثير سقوط والحرص ذل والقناعة عزة ... واليأس من صنع الإله قنوط وقال آخر: فإياك إياك المزاح فإنه ... يجرى عليك الطفل والدنس النذلا ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثه من بعد عزته ذلاَّ وقال آخر: ما أقبح الكذب المذموم صاحبه ... وأحسن الصدق عند الله والناس وقال آخر: للجد ما خلق الإنسان فالتمسن ... بالجدّ حظك لا بالهزل واللعب لا يلبث الهزل أن يجنى لصاحبه ... ذما، ويذهب عنه بهجة الأدب لا خير في الهزل فاتركه لقائله ... واهرب بعرضك منهم أوشك الهرب وقال محمود الوراق: تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر ويقول كنت ممازحاً وملاعباً ... هيهات نارك في الحشا تتسعر ألهيتنا وطفقت تضحك لاهياً ... عما به وفؤاده يتفطر أو ما علمت ومثل جهلك غالب ... أن المزاح هو السباب الأكبر فهؤلاء كرهوا المزاح وذموه، ولم يستثنوا منه قليلا من كثير، وأما منصور الفقيه فنهى عن الإكثار منه، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لا تكثرن من الفكا ... هة في حديثك والدعابه ودع الغريب من الكلا ... م لأهله عند الخطابه وإذا أصبت فكل ما ... أغفلته دون الإصابه وقد أكثر أهل الأدب في المزاح من النظم،وختلق ابن وكيع أكثر ذلك، ورأيت الأقتصار فيه على الأختصار أولى من الإكثار. كان المأمون يعجبه القائل: أخو الجدي إن لاقاك أرضاك جده ... وذو باطل إن شئتألهاك باطله باب مدح الصدق والأمانه ذم الكذب والخيانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن إذا حدث صدق،وإذ وعد انجز، وأذا اؤتمن وفى، والمنافق إذا حدث كذب،وإذا واعد أخلف،وإذا اؤتمن خان ". وقال صلى الله عليه وسلم: " لاتزال أمتي بخير مااتخذو الأمانه مغناً والصدق مغرماً قالت عائشة رضى الله عنها،قالت: يارسول الله بم يعرف المؤمن؟ قال " بوقاره ولين كلامه، وصدق حديثه " وقال صلى الله عليه وسلم: " أد الأمانه إلى من أئتمنك،ولاتخن من خانك " وقال سعد:كلا لخصال يطبع عليها المؤمن، إلا الخيانه والكذب. وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه:من كانت له عند الناس ثلاثة وجبت له عليهم ثلاث: من إذا حدثهم صدقهم،وإذا ائتمنوه لم يخنهم،وإذا وعدهم وفى لهم، وجب له عليهم أن تحبه قلوبهم، وتنطق بالثناء عليهم ألسنتهم،وتظهر له معونتهم. قيل للقمان الحكيم: ألست عبد بن فلان؟ قال: بلى. قيل: فما بلغ بك ما نرى؟ قال:تقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانه وترك ما لا يعنينى. قال نافع: طاف ابن عمر سبعاً،وصلى ركعتين،فقال له رجل من قريش: ما أسرع ما طفت وصليت يا أبا عبد الرحمن وخرجت فقال أبن عمر:أنتم أكثر منا طوافاً وصياماً،نحن نلتزم صدق الحديث،وأداء الأمانة، وإنجاز الوعد. قتل محمود الوراق: اصدق حديثك إن في الصدق الخلاص من الدنس ودع الكذب لشأنه ... خير من الكذب، الخرس وقال منصور الفقيه: الصدق أولى ما به ... دان امرؤ فاجعله دينا ودع النفاق فما رأي ... ت منافقا إلا أهينا وله أيضاً: الحمد الله شكراً ... فالشكر أيسر حقه أمسى الصدوق كثير ال ... عدو من اجل صدقه وقال أبو العتاهية: الحمد لله كل ذو مكاذبهٍ ... أمسى التصادق لايسقى به الماء قال الحسن البصري:لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه. كان يقال:كفى بالمرء خيانه أن يكون أمينا للخونه قال الشاعر: إن الأميرإذا استعان بخائنٍ ... كان الأمير شريكه المأثم قال الفارابي:كنت على الأوزعى إذ جاءه رجل فقال:يا ابا عمرو هذا كتاب صديقك فلان من بلاد كذا،وهو يقرأ عليك السلام. فقال له: متى قدمت؟ قال أمس. قال:ضيعت أمانتك لا كثر الله في المسلمين أمثالك. قال الشاعر: إذا أنت حملت الخئون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند وقال محمود الورق: تصنّع كي يقال له أمينٌ ... وما معني التّصنّع للأمانه ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطّريق إلى الخيانة وقال آخر: هو الذّئب أو للذّئب أوفى أمانة ... وما منهما إلا أذلّ خئون أستراح رجل إلى جليس له في السلطان،فرفع ذلك عليه،فلما أوقف السلطان ذلك القائل على قوله،أنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال: بل فلان سمع ذلك منك، فهل ترضى به؟ قال: نعم. فكشف الستر عن الرجل، فقال: بلى. أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة، ثم أنشأ يقول: أنت امرؤٌ إمّا ائمنتك خالياً ... فخنت وإمّا قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذّي قلت بيننا ... بمنزلةٍ بين الخيانة والإثم أنشدني على بن إسماعيل لنفسه: لا يرى إلا لدينا ... طالباً فيها ديانه وإذا قيل أمينٌ ... قد تحلّى بالأمانه وقع التحصيل منه ... بين غدر وخيانه وقال آخر: لايخون الأمين شيئاً ولكن ... ربّما تحسب الخؤون أمينا وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ألا ربّ من تعتده لك ناصحاً ... ومؤتمناً بالغيب غير أمين وقال أبو يعقوب الخريمي: يا للرجال لقومٍ قد بلوتهم ... أرى جوارهم إحدى البليّات ماذا تظنّ بقوم خبر كسبهم ... مصرّح السّحت سمّوه الامانات وفي الحديث المرفوع: " الصدق يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنّة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النّار ". يقال: صدق وبرّ، وكذب وفجر. قال بعض الحكماء: من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه. وقال محمود الوراق: إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكن ... لدي النّاس ذا صدقٍ وإن كان صادقا ومن آفة الكذّاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا حفظ إذا كان حاذقاً وقال آخر: لا يكذب المرء إلاّ من مهانته ... أو عادة السّوء او من قلّة الأدب قال بغضهم: ما أراني أوجر في ترك الكذب. قيل له: ولم؟ قال: لأني أدعه اتقاء. قالوا: الصدق عز، والكذب خضوع. قال الحسن: خرج عندنا رجل بالبصرة، فقال: لأ كذبن كذبه يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتّى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. وقال كعب بن زهير: ومن دعا النّاس إلى دمّه ... ذموه بالحقّ وبالباطل مقالة السّوء إلى أهليها ... أسرع من منحدرٍ سائل قال لقمان لابنه: يا بني! احذر الكذب فإنه شهى كلحم العصفور، من أكل شيئا منه لم يصبر عنه. عوتب بعض الأعراب على الكذب، فقال للذي عاتبه: والله لو غرغرت به لهاتك ما صبرت عنه. وقال الأصمعي: قيل لكذّاب: ما يحملك على الكذب؟ فقال: أما إنك لو تغرغرت به مرة ما نسيت حلاوته. قيل لكذاب: هل صدقت قط؟ قال: أكره أن أقول لا فأصدق. قال جميل العذرى: لحا الله من لا ينفع الودّ عنده ... ومن حبله إن مد غير متين ومن هو ذو لو نين ليس بدائم ... على خلق خوّان كلّ أمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أد الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك ". باب الحقّ والباطل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " الحق ثقيلٌ، فمن قصّر عنه عجز، ومن جاوزه ظلم، ومن انتهى إليه فقد اكتفى ". ويروي هذا لمجاشع بن نهشل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يبطل حق امرئ وإن قدم ". وقال عليه السّلام: " رحم الله عمر بن الخطّاب، تركه الحقّ ليس له صديق ". لما استخلف أبو بكر عمر، قال لمعيقيب الدّوسى: ما يقول النّاس في استخلافي عمر؟ قال: كرهه قومٌ، ورضيه آخرون. قال: فالذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟ قال: بل الذين كرهوه. قال: إن الحقّ يبدو كريها وله تكون العاقبة، والعاقبة للتقوى. قالوا: من قصد إلى الحقّ اتسمت له المذاهب حجة، ومن تعداه ضاق به أمره، وما هلك امرؤٌ عرف قدره. قالوا: الحكمة تدعو إلى الحقّ، والجهل يدعو إلى السّفه، كما أنّ الحجة تدعو إلى المذهب الصّحيح، والشبهة تدعو إلى المذهب الفاسد. قال بعض الحكماء: من جهلك بالحق والباطل، أن تريد إقامة الباطل بإبطال الحق. قال الأعرابي، وقد ذكر عنده الإصلاح والإفساد، فقال: لاتمنعن كثيراً من حقّ، ولا تضعنّ قليلاً في الباطل، فما حرّك حقّ وباطلّ إلا كان لهما شهود. قال بعض الحكماء: لها يعيد الرجل عاقلا، حتى يستكمل ثلاثاً: إعطاء الحق من نفسه في حال الرّضا والغضب، وأن يرضى للناس ما يرضى لنفسه، وألاّ ترى له زلّة عند ضجره. وقد تقدّم قول أبي العتاهية في باب الرّجاء والخوف: ومن ضاق عنه الحقّ ضاقت مذاهبه ولأبي العتاهية أيضاً: الباطل الدّهر يلفي لا ضياء له ... والحقّ أبلج فيه النور يأتلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 لما احتضر أبو بكر الصّدّيق، أرسل إلى عمر، فقال: ياعمر! إن ولّيت على النّاس فاتق الله، والزم الحق، فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ لميزان إذا وضع فيه الحقّ غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت يوم القيامة، باتباعهم الباطل في الدّنيا وخفّته عليهم، وحقّ لميزان وضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً، واعلم أن الله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، وأن الله عز وجل ذكر أهل الجّنة بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا كوتهم قلت: إنّي الخائف ألا ألحق بهم، وأن الله عز وجل ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، وردّ عليهم أحسنها، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لخائف أن أكون مع هؤلاء، وأن الله عزّ وجل ذكر آية الرّحمة مع آية العذاب، ليكون المؤمن راغباً راهباً لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله فإن أنت حفظت وصيّتي، فلا يكوننّ غائبٌ أحب إليك من الموت وهو أيتك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكوننّ غائبٌ أبغض إليك من الموت ولست بمعجزه. كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أن الزم الحقّ، ينزلك الحقّ في منازل أهل الحقّ، يوم لا يقضى إلا بالحقّ، أول كتاب كتبه علىّ بن أبي طالب في خلافته: أمّا بعد، فإنّما هلك من كان قبلكم، أنّهم منعوا الحق حتى اشترى، وبسطوا الباطل حتى اقتدى. وقال علىّ بن أبي طالب لرجل من الخوارج: والله ما عرفت حتى ظهر الباطل قال وبرة المكىّ: سمعت عن ابن عباس كلمات لهى أحبّ إلى من الدّهم الموقفة، قال: لا تتكلمن فبما لا يعينك حتى ترى له موضعاً، فرب متكلم بالحقّ في غير موضعه قد غيب، لا تمارينّ سفيهاً ولا حليماً، فإنّ السّفسه يؤذيك، والحلم يقليك، ولا تذكرنّ أخاك إذا غاب عنك إلاّ بمثل ما تحبّ أن ذكرك به إذا غبت عنه، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزىٌّ بالإحسان، ومأخوذٌ بالأجرام، فقال: رجل عنده: يا ابن عباس! لهذه خير من عشرة آلاف. قال: كلمة منها خير من عشرة آلاف. قال ابن مسعود: من كان على الحقّ، فهو جماعةٌ وإن كان وحده. قال غيره: الحقّ ثقيل، وطلابه قليل. وقال غيره: الحق كثير، والقائلون به يسير. وقال غيره: الأحمق يغضب من الحق، والعاقل يغضب من الباطل وكان يقال: من هلك في دولة الباطل، أكثر ممن حيى بالباطل. قال أنو شروان: إذا اشتبهت الأمور فالحق بين التقصير والإفراط. قال عبد الله بن مسعود: تكلّموا بالحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله. قال أبو العتاهية: وللحقّ برهانٌ وللموت فكرةٌ ... ومعتبرٌ للعالمين قديم قال مالك ابن أنس: إذا ظهر الباطل على الحقّ ظهر الفساد في الأرض. وقال: إن لزوم الحق نجاة، وإن قليل الباطل وكثيره هلكة. قال سعد بن أبي وقاص لسلمان: أوصني. قال: أخلص الحقّ يخلّصك. وأظنّ هذا من قول القائل: أعزّ الحق يذلّ لك الباطل. كان يقال: من لم يعمل من الحق إلاّ بما وافق هواه، ولم يترك من الباطل إلا ما خف عليه لم يؤجر فيما أصاب، ولم يفلت من إثم الباطل. قال العتابي: وما كلّ موصوف له الحقّ يهتدي ... ولا كلّ من أمّ الصوى يستبينها الصّوى: جمع صوّة، وهي حجارة تجعل أعلاماً في الطريق. قال رجل لخصمه: لئن هملجت إلى الباطل إنك لقطوف على الحق وقال بعض الحكماء: المنعة نفور، ولقلما اقشعت نافرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالتوبة، واستدم والرّاهن منها بكرم الجوار، واستفتح باب المزيد بحسن التوكل، فقد أعرب لك الحقّ عن نفسه، وصدقك عن أمره. قال منصور الفقيه:؟ إن بين الحقّ والب - طل فرقاً لا يحيل وعلى نيّة ذي القو ... ل من القول دليل فقل الحقّ وإن قي ... ل لك الحقّ ثقيل فاتق الله إذا ... شوورت وانظر ما تقول لا يضرنّك إن قا ... ل من النّاس جهول إن قول المرء فيما ... لم يسل عنه فضول وقال الصّلتان العبدى:؟؟؟؟؟؟؟ وللحقّ بين النّاس راضٍ وجازع وللأذناب فيه للرّءوس توابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وليس الذنابي كالقدامي وريشه ... وما تستوي في الرّاحتين الأصابع روى عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " أصدق كلمة قالها الشاعر، قول لبيد: ألا كلّ شئٍ ما خلا الله باطل " قالوا: أصدق بيت قالته العرب، قول القائل:؟؟ وما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها أبرّ وأوفى ذمّةً من محمّد قال الحاتمي: أشعر بيت قالته العرب، قول امرئ القيس بن عانس لا ابن حجر. ؟ الله أنجح ما طلبت به والبرّ خير حقيبة الرّحل وأنشد ثعلب: وإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا قال جعفر بن محمد: ما ناصح الله عبدٌ مسلم في نفسه فأخذ الحق لها، وأعطى الحق منها، إلا أعطي خصلتان: رزق من الله يقنع به، ورضى من الله عنه. كان بعض الصالحين يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. قال عبد الحميد بن يحيى الكاتب: ترحّل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالآفل فلهفي على السّلف الراحل ... ولهفي من الخلف النّازل أبكّى على ذا وأبكى لذا ... بكاء المولّهة الثّاكل تبكّى على ابن لها قاطع ... وتبكى على ابن لها واصل تقضّت غوايات سكر الصّبا ... وردّ التقى عنت الباطل بسم الله الرحمن الرحيم باب الحياء والوقار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكلّ دين خلق، وخلق الإسلام الحياء ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحياء خيرٌ كلّه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن حيّى كريم، الفاجر خبّ لئيم ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب الحيّى الحليم المتعفّف، ويبغض الفاحش البذئ السائل الملحف ". قال سليمان عليه السلام: الحياء نظام الإيمان، فإذا نحل النظام ذهب ما فيه. وفي التفسير: " ولباس التقوى ". قالوا: الحياء. وقالوا: الوقار من الله، فمن رزقه الله الوقار فقد وسمه بسيماء الخير. وقالوا: من تكلّم بالحكمة لا حظته العيون بالوقار. قال الحسن: أربع من كنّ فيه كان كاملا، ومن تعلّق بواحدة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، عقل يسدّده، وحسب يصونه، وحياء يقوده. قالت عائشة رضى الله عنها: رحم الله نساء الأمصار، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن. وقالت عائشة أيضاً: رأس مكارم الأخلاق الحياء. قال الشاعر: ما إن دعاني الهوى تفاحشةٍ ... إلا نهاني الحياء والكرم ولا إلى محرم مددت يدى ... ولا مشت بي لريبةٍ قدم وروى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ". وقال حبيب بن أوس: إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خيرٌ ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقى اللحاء وقال أبو دلف العجلى: إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... ولم ترع مخلوقاً فما شئت فاصنع وقال صالح بن جناح: إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه وقال آخر: إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاء ورب دينّةٍ ما حال بيني ... وبين ركوبها إلاّ الحياء وقال الحزين بن عبد الله اللّيثي، وتنسب إلى الفرزدق: يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلاّ حين يبتسم وقال آخر: كريمٌ يغضّ الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرّماح دواني وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان وقالت ليلى الأخيليّه: ومخزّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما وقال أمية بن أبي الصّلت في ابن جد عان التيمى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء كريمٌ لا يغيّره صباحٌ ... عن الفعل الجميل ولا مساء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: من كساه الحياء ثوبه، خفي عن الناس عبيه. أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، حدثنا أحمد بن سعيد، حدثنا ابن الأعرابي، حدثنا العباس بن محمد، حدثنا يحيى بن معين، قال ابن كناسة: فيّ اقباض وحشمةٌ فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم باب حسن الخلق وسوئه قال رسول الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا ". قال معاذ بن جبل: آخر ما أرضاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلى في الغرز أن قال: " حسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أثقل شئ في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسن الخلق يمن، وسوء الخلق شؤم ". قال كعب الأحبار: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الصائم بالنهار، الظامئ بالهواجر. وفي الخبر المرفوع أيضاً: " من سعادة المرء حسن خلقه، ومن شقائه سوء خلقه ". مكتوب في الحكمة، الرفيق خير قائد، وحسن الخلق خير رفيق، والوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح حير من الوحدة. كان يقال: من ساء خلقه قلّ صديقه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا بني عبد المطلب! إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم حسن الخلق، والقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر ". قال أبو الدراء: إنا لنكثر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم. روى في قول الله تبارك وتعالى: " " وثيابك فطهرّ "، قالوا: وخلقك فحسّن. قال سفيان بن عيينة: من حسن خلقه ساء خلق خادمه. كان يقال: حسن الخلق يكسب حسن الذكر. قال أبو العتاهية: عامل الناس بوجهٍ طليق ... والق من تلقى ببشر رفيق فإذا أنت جميل الثنا ... وإذا أنت كثير الصّديق وقال محمد بن حازم: وما اكتسب المحامد طالبوها ... بمثل البشر والوجه الطليق وقال آخر: خالق الناس بخلق حسن ... لاتكن كلباً على الناس يهرّ وقال أخر هو المغيرة بن حبناء: وما حسنٌ أن يمدح المرء نفسه ... ولكن أخلاقاً تذمّ وتمدح وقال ابن وكيع: لاق بالبشر من لقيت من النا ... س وعاشر بأحسن الإنصاف لا تخالف وإن أتوا بخلافٍ ... تستدم ودهم بترك الخلاف وإذا خفت فرط غيظك فانهض ... مسرعاً عنهم إلى الإنصراف إنما الناس إن تأملت داءٌ ... ماله غير أن تداويه شافي وقال آخر: قد يمكث الناس دهراً ليس بينهم ... ودٌ فيزرعه التسليم واللّطف وقال العتّابي يذم رجلا: فكم نعمةٍ آتاكها الله جزلة ... مترّأةً من كل خلق يذيمها فسلطت أخلاقاً عليها دميمةً ... تعاورنها حتى تفرّى أديمها وكنت امرءًا لو شئت أن تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمةٍ تستديمها ولكن فطام النفس أثقل محملا ... من الصّخرة الصّماء حين ترومها باب مكارم الأخلاق والسّؤدد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ". ويروى " محاسن الأخلاق ". أخذه أبو العتاهية فقال ليس دينا بغير دين وليس الد ... ين إلاّ مكارم الأخلاق إنّما المكر والخديعة في النا ... س هما من فروع أهل النّفاق ولإبراهيم بن المهدىّ: لا خير في الدّنيا بلا دين ولا ... في المال إلاّ منه فيما يبذل فأصب وأتلف واستفد وأفد وعش ... فيما اشتهت ممّا يحلّ ويجمل وقال آخر: وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أفعال الفتى حيث لا يدري خطب ثلاثة إخوة من العرب إلى عمّهم ثلاث بنات له، فقال: مرحباً بكم، لا أذم عهدكم، ولا أستطيع ردّكم، خبّروني عن مكارم الأخلاق. فقال الأكبر: الصّون العرض، والجزاء بالقرض. قال الأوسط: النهوض بالثقل، والأخذ بالفضل. قال الأصغر: الوفاء بالعهد، والإنجاز للوعد. قال: أحسنتم في الجواب، ووفقتم إلى الصواب. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحبّ معالى الأخلاق وأشرفها، ويكره سفسافها " قال الحسن: مكارم الأخلاق للمؤمن: قوة في لين، وحزم في دين، وإيمانٌ في يقين، وحرصٌ على العالم، واقتصاد في النفقة، وبذلٌ في السّعة، وقناعة في الفاقة، ورحمةٌ للمجهود، وإعطاءٌ في حقّ، وبرّ في استقامة. قالت عائشة رضي الله عنها: خلال المكارم عشر، تكون في الرّجل ولا تكون في أبيه ولا في ابنه، وقد تكون في العبد ولا تكون في سيّده، يقسمها الله لمن أحبّ: صدق الحديث، ومداراة النّاس، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمّم للجار،وإعطاء السّئل،والمكافأة بالصنّائع، وقرى الضّيف،والوفاء بالعهد،ورأسهنّ كلهنّ الحياء. قيل لبزر جمهر:أي شئ أنت به أسرّ؟ قال:قدرتي على مكافأة من أحسن إلى. قال مصقلة بن هبيرة الشّبياني:سمعت صعصعة بن صوحان،وقد سأله ابن عباس ما السؤدد فيكم؟ قال:إطعام الطعام،ولين الكلام،وبذل النّوال،وكفّ المرء نفسه عن السؤال،والتودّد للصّغير والكبير،وأن يكون النّاس عندك في الحق شرعا. سئل عبد الله بن عمر عن السّؤدد،فقال:الحلم والجود. كان يقال:خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر،واكتسب فيه الأجر،وارتهن فيه الشكر،واسترقّ فيه الحّر. قال الأحنف بن قيس يوماً لقومه:إنّما أنا رجل منكم ليس لي فضل عليكم،ولكني أبسط لكم وجهي،وأبذل لكم مالي،وأفضى حقوقكم،وأحفظ حرمتكم،فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد علىّ فهو خير مني،ومن زدت عليه فأنا خير منه. قيل له:يا أبا محمد! ما يدعوك إلى هذا الكلام؟ قال:أحضّنهم على مكارم الأخلاق. وقال عبد الله بن عمر:نحن معشر قريش نعدّ الحلم والجود الؤدد،ونعدّ العفاف وإصلاح المال المروءة. قال أسد بن عبد الله لرجل من بني شيبان:إن السؤدد فيكم لرخيص. فقال له:أمّا نحن فما نسّود إلا فتى يوطئنا رحله،ويفرشنا عرضه،وببذل لنا ماله. قال:أشهد أن السؤود فيكم لغالٍ. قيل لبعض العرب:من السيد فيكم؟ قال:الأحمق في ماله،الذليل في عرضه، المطّرح لحقده،المعتنى بأمر عامته. ورويت هذه القصة للأحنف،أنه سئل:من أسود الناس فيكم؟ فقال:الأخرق في ماله ثم ذكر مثله. قال أبو عمرو بن العلاء:كان أهل الجاهلية لا يسوّدون إلاّ من كانت فيه ست خصال وتمامها في الإسلام سابة:السّخاء والنجدة،والصّبر والحلم،البيان والحسب. وفي الإسلام زيادة العفاف. ذكر لعبد الله بن عمر أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية. فقال:كان معاوية أسود منهم،وكانوا خيراً منه. روى عن النّبي صلىّ الله عليه وسلّم أنه قال: " من رزقه الله مالاً فبذل معروفه وكفّ أذاه،فذلك السّيد ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار يوماً: " من سيّدكم؟ " فقالوا:الجدّ بن قيس على بخل فيه. فقال عليه الّلام: " أيّ داءٍ أدوأ من البخل؟! بل سيّدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح ".فقال شاعرهم في ذلك: وقال رسول الله والحقّ قوله ... لمن قال منا من تسمون سيّدا فقالوا له الجدّ بن قيس على التي ... نبخّله فيها وإن كان أسودا فتىً ما تخطّى خطوةً لدنّيةٍ ... ولا مدّ في يوم إلى سوءٍة يداً فسوّد عمر بن الجموح بجوده ... وحق لعمر بالندى أن يسوّدا قال بكر بن وائل:ما كان فينا أسود من ثعلبة بن أوس،كان يحلم عن جاهلنا ويعطى سائلنا. كان سالم بن نوفل سيد بني كنانة في زمانه، فوثب رجل على ابنه وابن أخيه فجرحهما، فأتى به سالم، فقال له: ما أمنك من انتقامي؟ قال: فلم سوّدناك إذاً؟ إلا لتكظم الغيظ وتحلم عن الجاهل، وتحتمل المكروه. وفي سالم هذا يقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 نسود أقواماً وليسوا بسارة ... بل السيّد المعلوم سلم بن نوفل أنشد ابن عائشة: لا يبلغ المجد أقوامٌ وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرةً ... لا عفو ذلّ ولكن عفو أحلام وإن دعا الجار لبوا عند دعوته ... في النائبات بإسراج وإلجام مستلئمين، لهم عند الوغى زجلٌ ... كأن أسيافهم أغرين بالهام قال الأصمعي: كان يقال: لا يجتمع عشرة إلاّ وفيهم مقاتل أو أكثر، ويجتمع ألف ليس فيهم حليم. كان يقال: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة حليم من سفيه، وبر من فاجر، وشريف من دنئ. قال الأحنف بن قيس: ما نازعني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال، إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه. أخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال: سألزم نفسي الصفح عن كلّ مذنب ... وإن كثرت منه علىّ الجرائم وما الناس إلا واحد من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومثلى مقاوم فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وألزم فيه الحقّ والحقّ لازم وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... مقالته نفسى وإن لام لائم وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إن الفضل للحرّ حاكم وقال آخر: لقد أسمع القول الذّي كاد كلّما ... تذكرّنيه النفس قلبي يصدّع فأبدي لمن أبداه منّي بشاشةً ... كأنّي مسرورٌ بما منه أسمع وما ذاك من عجبٍ به غير أنّني ... أرى أن ترك الشرّ للشرّ أقطع قال الحسن البصرّى: ما سمعت الله عزّ وجلّ نحل عباده شيئاً أقل من الحلم، فقال عزّ وجلّ: " إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ "، قال: " فبشرناه بغلام حليم ". قال العتابيّ: إذا سرّني دهري قبلت وإن أبي ... أبيت عليه أن أضيق له صدراً فكم من مسئٍ قد لقيت ومحسن ... فأوسعت ذا حلماً وأوسعت ذا شكراً قال عمر بن أبي طالب رضى الله: إنّ السّفيه إذا أعرضت عنه اغتمّ، فزده إعراضاً. كان يقال: يحسن السّيرة يقهر المناوئ، وبالحلم عن السّفيه يكثر أنصارك عليه. قال الشاعر: سكت عن السّفيه فظن أبي ... عييت وما عييت عن الجواب متاركة السّفيه بلا جوابٍ ... أشدّ على السّفيه من العذاب ولا شئ أحبّ إلى سفيه ... إذا وقع الكريم من السّباب سبّ الشعبيّ رجل،فقال له:إن كنت كاذباً يغفر الله لك،وإن كنت صادقاً يغفر الله لي. قال الشعبيّ:الغضب غول الحلم. قال خالد بن صفوان:شهدت عمرو بن عبيد ورجل يشتمه،فقال:آجرك الله على ما ذكرت من صواب،وغفر لك على ما ذكرت من خطأ، قال:فما حسدت أحداً حسدي عمرو بن عبيد على هاتين الكلمتين. مرّ الشّعبي بقوم ينتقصونه،فأنشد: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزّة من أعراضنا ما استحلت قال النّابنة الجعديّ: ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا وقال آخر: وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك أهواء الفؤاد المتيمّ بصائر يرشدن الفتى مستبينةٌ ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم قيل للحصين بن المنذر:بم سدت قومك؟ قال:بحسب لا يطمع فيه،ورأى لا يستغنى عنه. وذكر السّؤدد عند معاوية بن أبي سفيان،فقال:إنّه لينتقل في اليّ كما ينتقل الظلّ. قال إياس بن قتادة: وإن من السّادات من لو أطعته ... دعاك إلى نار يفور سعيرها قال:كان سفيان بن عيينة يتمثل: خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشّقاء تفرّدى بالسّؤدد قال:قال عمر بن عبد العزيز لرجل:من سيّد قومك؟ قال:أنا. قال:لو كنته لم تقله. قال الشاعر: وإنّ بقوم سوّدوك لفاقةً ... إلى سيدّ لو يظفرون بسيّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قيل للملهب:ما السّؤدد؟ قال: أن يركب الرجل في منزله وحده،ويرجع إلى منزله في جماعة. قيل لبعض العرب:ما علامة السيّد قيكم؟ قال: هو الذّي إذا أقبل هبناه،وإذا أدبر عبناه،ويروى اغتبناه. قال عبيد بن الأبرص: إذا أنت لم تعمل برأىٍ ولم تطع ... أولى الرّأي لم تركن إلى أمر مرشد ولم تجتنب ذمّ العشيرة كلهّا ... وتدفع عنها باللسّان وباليد وتحلم عن جهّالها وتحوطها ... وتقمع عنها نخوة المتهدّد فلست ولو عللت نفسك بالمنى ... بذي سؤدد باد ولا قرب سؤدد قال أنس بن مدرك: عزمت على إقامة ذي صلاح ... لأمر ما يسوّد من يسود وقال أبو الحسن الموسوى: ما السّؤدد المكسوب إلاّ دون ما ... يومي إليه السّؤدد المولود فإذا هما اتفقا تكسّرت القنا ... إن غولبا وتضعضع الجلمود كان يقال:خصلتان لا يسود صاحبهما:الاستطالة في الأقرباء،والبطر في الأغنياء. قال المرّار بن سعيد: إذا شئت يوماً أن تسود قبيلة ... فبا لحلم سد لا بالسّفاهة والشّتم وقال بعض أهل العلم:لا سؤدد إلاّ بالبخت والجدّ والسعّد،وذلك أنا قد رأيناهم يقولون:الأفعال المحمودة والأخلاق الجميلة توجب السؤدد والرياسة،والأفعال المذمومة والأخلاق الدنّية تمنع من السّؤود،ثم رأينا قوماً سادوا بأخلاق لا تحمد،وبأفعال لا ترضى،فمن ذلك:أن الحمق يمنع من السّؤدد،وقد ساد عيينة ابن حصن،وكان محمّقاً،وساد أبو سفيان وكان بخيلا،والبخيل يمنع من السّؤدد،وساد عامر بن الطّفيل،وكان عاهراً،ولا سؤدد مع العهر،وساد أبو جهل وما طرّ شاربه،ودخل دار النّدوة وما استوت لحيته،والحداثة تمنع من السؤدد،وساد شبل بن معبد البجلى،وما بالبصرة بجلىّ غيره، وهم يقولون:لا سؤود إلاّ بالعدد،ولما قال قومٌ للأحنف:لولا أنا سوّدناك ما سدت. قال فمن سودّ شبل بن معبد البجلى،وليس بالبصرة بجليّان. وساد عتبة بن ربيعة وكان فقيراً إلى أن مات،حتى قيل:إنه لم يشبع قطّ،ولم يفضل عن قوت أهله قوت ضيفٍ واحد،وهم يقولون إنّ الفقر يمنع من السؤدد. هذا كلّه يدلّك على أن السّؤدد بالبخت. وقال غيره:أسباب السّؤدد سبعة:العقل والعلم والصيانة وأداء الأمانة والحذق والحلم والسخاء. أبو سلمى: لا بدّ للسّؤدد من أرماح ... ومن سفيهٍ دائم النّباح ومن عديد يتّقى بالرّاح أي لا يتقى بالدّعاء. وقال غيلان بن سلمة الثقفيّ: لا بدّ للسّؤدد من عديد قال النابغة الذبيانيّ: تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقى صولة المستنفر الحامي قال الحسن بن سهل يوماً: الشّرف في السّرف،فقيل له: لا خير في السّرف،فقال: لا سرف في الخير، فردّ اللّفظة واستوفى المعنى. قال إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي: عجبت لمن لا يكتب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة. ابن بشّار: وإذا جزيت أخاً بذنب ... كان منه لم تسده ولقلّما طلب الفتى ... لأخيه عيبا لم يجده الهذلي: وإنّ سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل لما توفى عبد الله بن طاهر،صلىّ عليه ابنه طاهر بن عبد الله ودفنه،وأعتق عند كل زاوية من زوايا قبره رقبةً من غلمانه،وفعل ذلك إخوته،ودفع كل نجلٍ منهم إلى كلّ غلام خمس مائة درهم،وكان عبد الله بن طاهر قد خلف أربعين ولداً ذكراً،فقال أبو العميثل الشاعر لمصعب بن عبد الله وكان يختص بطاهر وينادمه:ألا أدلّك على شئ تفعله فتقدم به سائر إخوتك عند الأمير طاهر؟ قال: بلى. فأنشده هذه الأبيات وقال:اكتب بها إلى الأمير،وهي: يا من يحاول أن تكون خلاله ... كخلال عبد الله أنصت واسمع فلأقصدنّك بالنصيحة والذّي ... حجّ الحجيج إليه فاقبل أو دع إن كنت تطمع أن تحلّ محلّه ... في المجد والشّرف الأشم الأرفع فاصدق وعفّ وبرّ وارفق واتئّد ... واحلم ودار وكاف واصبر واشجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والطف ولن وتأنّ وانصر واحتمل ... واحزم وجدّ وحام واحمل وادفع هذا الطريق إلى المكارم مهيعاً ... فاسلك فقد أبصرت قصد المهيع فاستحسن طاهرٌ الأبيات،وقال:والله لقد أفدتني ما يجب به شكرك،فقلده نيسابور وأعمالها ثلاث سنين،وأكسبه ألف ألف درهم. وقال آخر: إذ هلكت أسد العرين ولم يكن ... لها خلفٌ في الغيل ساد الثعالب كذا القمر السّاري إذا غاب لم يكن ... له خلفٌ في الجو إلاّ الكواكب قال بعض الحكماء:من ابتغى المكارم فليجتنب المحارم. باب حمد الحلم وذمّ السّفه قال رسول الله صلىّ الله عليه وسلّم لأشجّ عبد لقيس: " يا أشج عبد لقيس أو يا منذر! فيك خصلتان يرضاهما الله ورسوله:الحلم والأناة " فقال:يا رسول الله! أشئ جبلني الله أم شئ اخترعته من قبل نفسي؟. فقال: " بل شئ جبلك الله عليه ".فقال:الحمد لله الذي جبلني على خلق يرضاه الله ورسوله. قال الشّعبي:زين العلم حلم أهله. قال رجاء بن أبي سلمة:الحلم أرفع من العقل،لأن الله تسمّى به. قال معاوية:إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أرجح من حلمي. وقال معاوية لعمرو بن العاص:من أبلغ الناس؟ قال:من ترك الفضول،واقتصر على الإيجاز. قال:فمن أصبر الناس؟ قال:من بذل دنياه في صلاح دينه قال:فمن أشجع الناس؟ قال:من ردّ جهله بحلمه. قال محمد بن أبي شحاذ: إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروقٌ جمةٌ ورواعد سئل الأحنف عن الحلم،فقال:هو الذلّ والصبّر. كان الأحنف إذا عجبوا من حلمه،قال:إني لأجد ما تجدون،ولكنّي صبور. وقال أيضاً:وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. قال عمر بن عبد العزيز:ما قرن شئ إلى شئ أحسن من حلم إلى علم،ومن عفو إلى قدرة. وقد روينا هذا الكلام لمن هو أسنّ من عمر وأكبر. وقال بلعاء بن قيس: أبيت لنفسي الخسف لما رضوا به ... وأوليتهم سمعي وما كنت مفحما وقال شريح:الحلم كنز موقر،والحليم مطية الجهول. قالوا:بالعقل استخرج غور الحكمة،وبالحلم استخرج غور العقل. قال أبو العتاهية: فياربّ هب لي منك حلماً فإنني ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم ويارب هب لي منك عزماً على التقي ... أقيم به ما عشت حيث أقيم ألا إنّ تقوى الله أكرم نسبةٍ ... تسامى بها عند الفخار كريم قال الخريمي: أرى الحلم في بعض المواطن ذلّةً ... وفي بعضها عزّاً يسودّ فاعله قال عمارة بن عقيل: إذا أغضبت ذا كرمٍ تخطّى ... إليك ببعض أخلاق اللثيم وإن الله ذو حلمٍ ولكن ... بقدر الحلم منتصف الحليم وقال آخر: بني هلال ألا تنهوا سفيهكم ... إنّ السّفيه إذا لم ينه مأمور وقال حسان بن ثابت: رب حلمٍ أضاعه عدم المال ... وجهلٍ غطّى عليه النعيم وقال أوس بن حجر: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل وقال صالح بن جناح،ويروي لغيره: لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج وما كنت أرضى الجهل خدناً ولا أخاً ... ولكنني أرضى به حين أحرج فإن قال بعض الناس فيّ سماجةٌ ... فقد صدقوا والذّلّ بالحرّ أسمج وقال أبو يعقوب الخريمي: وإنك تلقى صاحب الجهل نادماً ... عليه ولا يأسى على الحلم صاحبه وقال حبيب الطائي: إذا جاريت في خلق دنيّا ... فأنت ومن تجاريه سواء إذا ما رأس أهل البيت وليّ ... بدا لهم من الناس الجفاء ولآخر: أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحيانا من الجهل أقبح إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإن الجهل أعفى وأروح وفي العفو ضعفٌ والعقوبة قوةٌ ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا قال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف كان عبد الله بن عمر إذا سافر سافر معه بسيفه،فقيل له في ذلك،فقال:إن جاءنا سفيهٌ ردّ عنا سفهه،لأنا لا ندري ما نقابل به السّفهاء. وقال ابن المعتز: ولكلّ عقلٍ غفوةٌ أو سهوةٌ ... والحرّ محتاجٌ إلى التّنبيه والعاقل النّحرير محتاجٌ إلى ... أن يستعين بجاهل معتوه وقال آخر: ولربما اعتضد الحليم بجاهلٍ ... لا خير في اليمنى بغير يسارٍ وقال آخر: وليس الحليم الذي كلّ ساعةٍ ... به غضبٌ في لأنفه بتوقّد إذا أمن الجهّال جهلك لم تزل ... عليك بوادي جهلهم تتورّد وإن عقاب الجاهلين لذاهب ... بحلمك فانظر أي هاتين تعمد كان يقال:ليس الحليم من قذف فكظم، ولكن من صدم فصبر. قال البحتري: أرى الحلم بؤساً في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلاّ ما حباك به الجهل وقال آخر: قل ما بدا لك من زورٍ ومن كذبٍ ... حلمي أصمُّ وأذني غير صماَّء وقال آخر: ولا خير في عرض امرئٍ لا يصونه ... ولا خير في حلم امرئٍ ذلَّ جانبه وقال مروان بن الحكم: إذا أمن الجهال جهلك مرةً ... فعرضك للجهال غنم من الغنم وإن أنت باذيت السفيه إذا بذا ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم فلا تقرضن عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم ومن عاتب الجهال لم يشف غيظه ... ولكنه يزداد سقماً إلى سقم فدع عنك في كل الأمور عتابه ... فإنك إن عاتبته صار كالخصم وغمَّ عليه الحلم والجهل والقه ... بمنزلةٍ بين العداوة والسلم فيرجوك أحياناً ويخشاك تارةً ... ويأخذ فيما بين ذلك بالحزم فإن لم تجد بداً من الجهل فاستعن ... عليه بجهالٍ فذاك من العزم وقال أبو دهبل الجمحي: وكانوا أناساً كنت آمن غيبهم ... فلم ينههم حلم ولم يتحرجوا قال منصور الفقيه: إذا رشوةٌ من باب قومٍ تقحمت ... لتدخل فيه والأمانة فيه سعت هرباً منه وولت كأنها ... حليمٌ تنحى عن جواب سفيه وقال آخر: العفو عند لبيب القوم مكرمةٌ ... وبعضه لسفيه الرأي تدريب باب مدح الجود والكرم وذم البخل واللؤم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وبالفجور ففجروا " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا ثلاث صلح الناس:شحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ". قال الزبير بن العوام في خطبة خطبها بالبصرة: أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوماً بعمامتي من ورائي فقال: " يا زبير إن الله يقول: أنفق أنفق عليك، ولا توكئ فيوكأ عليك. أوسع يوسع عليك، ولا تضيق فيضيق عليك. واعلم أن الله يحبّ الإنفاق ولا يحب الإقتار، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية أو عقرب، واعلم يا زبير أن لله كنوز أموال سوى الأرزاق التي قسمها بين العباد، محتبسة عنده لا يعطى أحداً منها شيئاً إلا من سأله من فضله، فاسألوأ الله من فضله ". قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة. قال: ومن البخل ترك حقّ قد وجب لخوف شيء لم يقع. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أقيلوا الكرام عثراتهم " ويروى. " أقيلوا ذوى الهبات زلاتهم ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: " المؤمن كريم، والفاجر لئيم ". قال جعفر بن محمد: قال الله عز وجل: أنا جواد كريمٌ، لا يجاورني في جنتي لئيم. قيل للأحنف: ما الجود؟ قال: بذل القرى، وكف الأذى. قيل: فما البخل؟ قال طلب اليسير ومنع الحقير. وقد روى هذا من كلام أكثم بن صيفي والله أعلم. سئل الخليل بن أحمد عن الجود، فقال. بذل الموجود. قال بعض الحكماء: من أيقن بالخلف جاد بالعطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قال أحمد بن أبي دواد: من نال دنيا فلم يرفع وليا،ولا وضع عدوا فليس بكريم. قال شعيب بن حرب:ليس السخى من أخذ المال من غير حله فبذره، وإنما السخىّ من عرض عليه ذلك المال فتركه، أوجمع من حق ووضع في حق. كان زياد بن أبيه يقول:من منع ماله سبل الحمد أورثه من لا يحمده. قال إبراهيم بن أبي عبلة: سمعت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز،يقول: أف للبخل والله لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوبا طريفا ما لبسته. قال معاوية بن أبي سفيان لأبي مسلم الخولاني: إنكم معشر العباد فيكم النكاح والحدة والسماح. قال: أما النكاح فإنا لا نعدل عن أهلينا، وأما الحدة فإن قلوبنا ملئت خيراً فلا موضع فيها للشر، وأما السماح فبحسن الظن منا بالخلف من الله تعالى. قال سفيان بن عيينة: ما استقصى كريمٌ قط، ألم تسمع إلى قوله الله تعالى: " عرف بعضه وأعرض عن بعض ". قال أسماء بن خارجة: لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان ذلك عظيماً. قال زهير: ومن يك ذا فضلٍ فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم وقال محمد بن يسير: كم مانع نفسه لذاتها حذراً ... للفقر ليس له من ماله ذخر إن كان إمساكه للفقر يحذره ... فقد تعجل فقراً قبل يفتقر وقال آخر: ما أعلم الناس أن الجود مدفعةٌ ... للبخل لكنه يأتي على النشب وقال ابن مطير الأسدي: وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ... ولكنه خيم الرجال وخيرها وقال آخر: إني امرؤ أجزى الكريم بوده ... وأصد عن وصل اللئيم وأقطع وقال منصور الفقيه: جهلوا القياس للطفه فتوهموا ... أن البخيل وكلبه مثلان والكلب يحفظ أهله ويقيهم ... ويكف طارقهم عن العدوان والنذل يوحش أهله ويجيعهم ... ويحض ناصرهم على الحذلان فها ومن جعل الكلاب أعزة ... والباخلين أذلةً ضدان قال أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع، واعلموا أن الكرام أصبر نفوساً، واللئام أصبر أجساماً. قال الشاعر: إن ذا اللؤم إذا أكرمته ... حسب الإكرام حقا لزمك وأخا الفضل إذا أكرمته ... لم يصغرك ولكن عظمك قال أبو الطيب المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وقال آخر: أراك تؤمل حسن الثنا ... ء ولم يرزق الله ذاك البخيلا وقال آخر: تريدين أن أرضى وأنت بخيلة ... ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل وقال آخر: ندبتكم لنفعي أن قدرتم ... فلم أر فيكم حراً كريما ومالي عندكم ذنب أراه ... سوى أني عرفتكم قديما وقال زيد بن عمرو النخعي: لقد كذب المعاشر حين قالوا ... عليٌ والمخارق سيدان هما حجران من جبل صلودٍ ... إذا قيل ارشحا لا يرشحان فلولا البخل إن البخل عارٌ ... أبا عمرو إذا أعجبتماني وقال ابن أبي فنن: وإن أحق الناس باللوم شاعرٌ ... يلوم على البخل الرجال ويبخل وقال الحطيئة: سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيان لاذم عليك ولا حمد وقال منصور الفقيه: زاد البخيل إذا مضى لسبيله ... ذم العدا وقطيعة الوراث وأخو السماحة فحظه من أهله ... ومن الغريب مدائحٌ ومراث ولمنصور الفقيه أيضاً: أما رغيف بني السلي ... ل فمن حمامات الجرم ما إن يحس ولا يمس ... ولا يذاق ولا يشم فإذا نزلت بدارهم ... فانزل بشدقٍ ملتثم حتى تعيش مسلَّماً ... يا من يعيش بغير فم ولمنصور الفقيه أيضاً: إذا تغدوا ربطوا قطهم ... بخلاً بما تطرحه المائدة ما عرضت قطُّ لهم تخمةً ... ولا تشكوا معدة فاسدة قال الحسن بن هانئ: وباخل جئته فقدّم ... كسرة خبز وعينه عبرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فقال ما تشتهي فقلت له ... قطعة جبنٍ وكسرةً أخرى وله أيضاً: على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حل في دار الأمان من الأكل وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون ولا السهل وما خبزه إلا كعنقاء مغربٍ ... تصور في بسط الملوك وفي المثل يحدث عنها الناس من غير أن يروا ... سوى صورةٍ ما إن تمر ولا تحلى وما خبزه إلا كليب بن وائلٍ ... ليالى يحمى عزه منبت البقل وإذ هو لا يستب خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوعٌ بجدٍّ ولا هزل فإن خبز إسماعيل حل به الذي ... أصاب كليباً لم يكن ذاك عن بذل ولكن قضاءٌ ليس يسطاع دفعه ... بحيلة ذي ذهنٍ ولا فكر ذي عقل قلت: أراد بقوله: وإذ هو لا يستب خصمان عنده قول مهلهل: أودى الخيار من المعاشر كلهم ... واستب بعدك يا كليب المجلس وتنازعوا في أمر كل عظيمةٍ ... لو قد تكون شهدتهم لم ينبسوا وكليب هذا هو الذي أراده النابغة الجعدي بقوله: كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم قال عُبيد الله بن عكراش، ويروى لأبي يعقوب الخريمي: وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على طمع عند اللئيم يطالبه وأرثي له من وقفةٍ عند بابه ... كمرثيتي للطرف والعلج راكبه وقال جرير: إن الكرية ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للئام نصور وقال آخر: إن من عضت الكلاب عصاه ... ثم أثرى فمعجزٌ أن يجودا وقال منصور الفقيه: قل للكرام اعرفوا حقَّ للئام لكم ... إن اللئام لهم عند الكرام يد لولا اللئام لما عدوا الكرام ولا ... بانوا بفضلٍ إذا ما حصل العدد لكنهم جنحوا للنقص فانتقصوا ... وزاد غيرهم فضلاً بما اعتقدوا جادوا فسادوا وضنَّ الآخرون فما ... يغدو على والد من لؤمه ولد قد ساء ظني بما قد كنت أخمده ... لما رأيت جميع الناس قد فسدوا تدارسوا البخل حتى دقَّ مذهبهم ... فيه ودانوا بإخلاف الذي وعدوا فاستعقلوا كل من أصغى لبخلهم ... واستجهلوا كل من واسى بما يجد فصار للبخل حق الجود بينهم ... وألزموا الجود عار البخل لا رشدوا وقال آخر: فإن سمعت بهلكٍ للبخيل فقل ... بعداً وسحقاً له من هالكٍ مودى قال محمود الوراق: إذا أعطاك قترّ حين يعطى ... وإن لم يعط قال أبي القضاء يبخلّ ربّه سفهاً وظلما ... ويعذر نفسه فيما يشاء تنقّل عن فعال الخير جهلا ... مخافة أن يضرّ به العناء وقال الحسن بن هاني: رأيت الفضل متكئاً ... يناعي الخبر والسّمكا فقطّب حين أبصرني ... ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له ... بأني صائمٌ ضحكا ولمنصور الفقيه أيضاً أتيت عمراً سحراً ... فقال: إبّي صائم فقلت: إني قاعدٌ ... فقال: إني قائم فقلت: آتيك غداً ... فقال: صومي دائم قال جحظة: دخلت على باخل بالطعام ... فمات من الخوف لمّا دخلت فقلت له: لا يرعك الدخول ... فما جئت بيتك حتى أكلت وقال أبو نواس: أبو نوح دخلت عليه يوماً ... فغدّاني برائحة الطعام فكان كمن سقى الظمآن آلاً ... وكنت كمن تغدى في المنام وقال منصور الفقيه: إن لم يصبك من الكر ... يم الحرّ وابله فطّله إن الكريم له على ... معرفة نفسٌ تدلّه يبدي مكارمه كما ... يبدي فرند السّيف صقله قال آخر: وإن جمع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل وقال منصور الفقيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 إذا كان في بخله محكماً ... وحلّ من المجد أعلى الدّرج وجاءك يخطب زنجيةً ... مشوّهة الخلق فيها هوج فلا تحفلنّ به خاطباً ... ولا تفرحنّ ولا تبتهج وإن كان سمحاً جميل الفعال ... كريماً جواداً فإنّ الحرج وإن القطيعة في صرفه ... ولو جاء يخطب إحدى المهج بغير صداق لإعساره ... وما عسر منتظر للفرج قال حمّاد عجرد، وتروى للعتّابي: إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيّاً وهو مجهود وللبخيل على امواله عللٌ ... رزق العيون عليها أوجهٌ سود إذا تكرهت أن تعطى القليل ولم ... تقدر على سعةٍ لم يظهر الجود أورق بخير ترجّى للنوال فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقراً فهو محمود وقال منصور الفقيه: ما بالبخيل انتفاعٌ ... ولكلب ينفع اهله فنزّه الكلب عن أن ... ترى أخا الكلب مثله أخبرنا عبد الوارث،قال:حدثنا أبو عيسى،قال:انشدني ابن المعلم لعلى بن الجهم: وإذا الكريم أتيته بخديعةٍ ... ألفيته فيما تروم يسارع ليس الكريم كما ظننت بجاهلٍ ... إن الكريم لفضله يتخادع قال آخر: لا تطلبن إلى لئيم حاجةً ... واقعد فإنّك قائماً كالقاعد يا خادع البخلاء عن أموالهم ... هيهات تضرب في حديدٍبارد قال آخر: طعامه النجم لمن رامه ... وخبره أبعد من أمسه كأنّه في جوف مرآته ... يرى ولا يطمع في لمسه قال آخر: إن كنت تطمع في كلامه ... فارفع يمينك عن طعامه سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظمٍ من عظامه وقال دعبل بن على الخزاعي: لئن كنت لا تولى يداً دون إمرةٍ ... فلست بمولٍ نائلاً آخر الدّهر وأىّ جواد لم يجد في ملمٍة ... وأي بخيل لم ينل ساعة الوفر وقال منصور الفقيه: راجى البخيل وضيعٌ ... كما البخيل وضيع وما يقول سوى ذا ... في ذين إلاّ رقيع للعرزمي ويروى لأبي الأسود الدؤلي: وإذا طلبت إلى كريم حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتسليم وإذا طلبت إلى لثيم حاجة ... فألحّ في رفق وأنت مديم وقال آخر: إذا سست قوماً فاجعل الودّ بينهم ... وبينك تأمن كلّ ما تتخوّف فإن خفت من أهواء قومٍ تشتّتاً ... فالبالجود فا جمع بينهم يتألفّوا فإن كشفت عنك الملمات عورةً ... كفاك غطاء الجود ما يتكشف قال ابن شهاب:الكريم لا تبخله التجارب. ويروى عنه أنه قال:إن الكريم لا تحكمه التجارب. وسئل الحسن بن علي رضى الله عنهما عن البخل،فقال:هو أن يرى الرجل ما ينفقه تلفاً،وما أمسكه شرفا. قال طاووس:البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه،والشّح أن يشح بما في أيدي الناس،ويحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلّ والحرام ولا يقنع. وقال أبو العتاهية: وإن امرءا لم يربح الناس نفعه ... ولم يأمنوا منه الأذى للثيم وإن امرءًا لم يجعل البّر كنزه ... وإن كانت الدنيا له لعديم باب المروءة والفتوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسب المؤمن دينه، وكرمه تقواه، ومروءته عقله ". ويروى نحو هذا من كلام عمر أيضاً. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لرجل من ثقيف: " ما المروءة قال الصلاح في الدين، وإصلاح المعيشة، وسخاء النفس، وصلة الرحم. فقال عليه السلام: " هكذا هي عندنا في حكمة آل داود ". تذاكروا المروءة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثروا فيها، فقال: " أما مروءتنا فأن نعفو عمن ظلمنا، ونعطى من حرمنا، ونصل من قطعنا ". قال منصورالفقيه: أعلن وهبٌ كرمه ... في وصله من صرمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وعفوه عن كل من ... أسخطه أو ظلمه وبرّه بنفسه ... وماله من حرمه فما يراه معظمٌ ... للحق إلاّ أعظمه أبقى عليه الله ما ... أبقاه فينا نعمه وزاد فيها عنده ... وحاطه وسلمه من حديث عطاء عن ابن عباس، قال: رفع إلى عمر بن الخطاب رجل في جرم، فأراد أن يعاقبه، فأخبر أن له مروءة، فقال: استوهبوه من صاحبه. سئل عبد الله بن عمر، عن المروءة والكرم والنجدة. فقال: أما المروءة: فحفظ الرجل نفسه، وإحرازه دينه، وحسن قيامه بصنعته، وحسن المنازعة، وإفشاء السلام، وأما الكرم: فالتبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال، والإطعام في المحل. وأما النجدة: فالذب عن الجار، والصبر في المواطن، والإقدام على الكريهة. وفي رواية أخرى، أن معاوية قال في مجلسه يوماً لمن حضره: من يخبرني عن المروءة والجود والنجدة؟ فقال عبد الله بن هاشم بن عتبة، وكان بعده عفوه عنه يحضر مجلسه: قال: يا أمير المؤمنين! أما المروءة فالصلاح في الدين، والإصلاح في المال، والمحاماة عن الجار. وأما النجدة فالجرأة على الإقدام، والصبر عند ازورار الأقدام. قال طلحة بن عبيد الله: جلوس الرجل ببابه من المروءة، وليس من المروءة حمل الكيس في الكم. سئل الأحنف عن المروءة، فقال: التفقه في الدين، وبرّ الوالدين، والصبر على النوائب. ويروى عن الأحنف أيضاً أنه قال: لا مروءة لكذوب، ولا أخ لملول، ولا سؤدد لسيئ الخلق. سئل ابن شهاب الزّهري عن المروءة، فقال: اجتناب الريب، وإصلاح المال، والقيام بحوائج الأهل. سئل إباس بن معاوية عن المروءة، فقال: أما حيث تعرف فالتقوى، وأما حيث لا تعرف فاللّباس. وقال الزهري أيضاً: الفصاحة من المروءة. قال إبراهيم النخعى: ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق. قال غيره: من كما المروءة أن تصون عرضك، وتكرم إخوانك، وتقيل في منزلك. قال منصور الفقيه: من فارق الصبرّ والمرو ... ءة أمكن من نفسه عدوّه قال ربيعة بن عبد الرحمن: للسفر مروءة، وللحضر مروءة. فالمروءة في السفر: بذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله. المروءة في الحضر: إدمان الاختلاف إلى المساجد، وتلاوة القرآن، وكثرة الإخوان في الله عزّ وجلّ. وفي رواية أخرى عن ربيعة أنه قال: المروءة ست خصال: ثلاث في الحضر، وثلاث في السفر، فأما التي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، ومداعبة الرفيق. وأما التي في الحضر، فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، وعفاف الفرج. قيل لبعض الحكماء: من يجب لذى المروءة إخفاء نفسه وإظهارها؟ قال: على قدر ما يرى من نفاق المروءة وكسادها. كان يقال: صن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، وبجدتك بترك الحياء، وجهدك بالإجمال في الطب. أخبرنا عيسى بن سعيد، حدثنا مقسم، حدثنا أبو بكر محمد بن حمدان،حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله بن العباس بن عثمان بن شافع بن السّائب، عن عبد يزيد بن هشام بن عبد المطلب بن عبد مناف، قال: حدثني عمي عن إبراهيم بن محمد بن العباس، قال: سمعت سفيان بن عيينة، وقد سئل عن المروءة ماهي؟ فقال: الأنصاف من نفسك، والتفضل على غيرك، ألم تسمع قول الله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " لاتتمّ المروءة إلاّ بهما، العدل هو الإنصاف، والإحسان التفضل. روى عن الفضيل بن عياض رحمة الله، أنه سئل عن الرجل الكامل التام المروءة فقال: الكامل من برّ والديه، ووصل رحمه، وأكرم إخوانه، وحسن خلقه، وأحرز دينه، وأصلح ماله، وأنفق من فضله، وحسن لسانه، ولزم بيته. قال الشاعر: إذا الفتى جمع المروءة والتقى ... وحوى مع الأدب الحياء فقد كمل قال رجل من بني قريع: إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلا عليه شديد قال جعفر بن محمد: لا هين لمن لا مروءة له. قال أحمد بن العدل: زعموا أن الأحنف بن قيس لم يسمع له شعرٌ غير هذين البيتين، وهما: فلو مدّ سروى بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فإنّ المروءة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا وقال آخر: رزفت لباً ولم أرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال إذا أردت مساماة تقعدّني ... عما ينوّه باسمى رفة الحال وقال منصور الفقيه: كلّ من فارق المروءة عاشا ... ونما وفره وزاد رياشا وأخو الفضل والمروءة والدّي ... ن مقلٌ أموره تتلاشى وقال سفيان الثورى: من لم يحسن يتقرّا. ذكرت الفتوة عند سفيان رحمه الله، فقال: ليست بالفسق ولا الفجور،ولكن الفتوة كما قال جعفر بن محمد: طعام موضوع، وحجابٌ مرفوع، ونائل مبذول، وبشر مقبول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف. قال محمد بن داود: من كان ظريفاً فليكن عفيفاً، وأنشد لا بن هرمة: ولرب ليلة لذة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع وقال صريع الغواني: وما ذمى الأيام أن ليست حامداً ... لعهد ليلليّ التي سلفت قبل ألا رب يومٍ صادق العيش نلته ... بها ونداماى العفافة والبذل وقال منصور الفقيه: فضل التقى أفضل من ... فضل اللّسان والحسب إذا هما لم يجمعا ... إلى العفاف والأدب وقال آخر: وليس فتى من راح واغتدى ... لشرب صبوح أو لشرب غبوق ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق وقال جحظة: ألا يأهل بغداد جميعاً ... عصيتم في المروءة من براكم تذمون الزمان بغير جرمٍ ... وما بزمانكم عيبٌ سواكم باب امتحان أخلاق الرّجال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح أجنادٌ مجنده، فما تعارف منها ائتلف: وما تناكر منها اختلف ". أخذه بعض الشعراء فقال: إن القلوب لأجناد مجندةٌ ... لله في الأرض بالأهواء تعترف فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الأمير إذا تجسس على الناس أفسدهم ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " وجدت الناس اخبر تقله ". وقد روى هذا مرفوعاً عن أبي الدراء. وفي خبر آخر: " إن الناس سواسيةٌ كأسنان المشط ". كان يقال: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا قال الشاعر: سواءٌ كأسنان الحمار فلا ترى ... لذي شيبة منهم على ناشئ فضلاً قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: خالط المؤمن بقلبك، وخالط الفاجر بخلقك. كان يقال: يمتحن الرجل في ثلاثة أشياء: عند هواه إذا هوى، وعند غضبه إذا غضب، وعند طمعه إذا طمع. قال أبو عمرو بن العلاء: إذا أردت أن تعرف مالك عند صديقك فاعرف ما كان لصديقه قبلك عنده. قال سفيان الثورى: إذا أردت أن تعرف مالك عند صديقك فأغضبه، فإن أنصفك في غضبه وإلا فاجتنبه. قال الفضل بن عباس بن عتبه بن أبي لهب إذا أردت وداد امرئٍ ... فسل كيف كان لإخوانه فإمّا رضيت فأحببته ... وإما ترغبت عن ثيانه قال الأحنف بن قيس: ما كشفت أحداً قط إلاّ وجدته دون ما كنت أظن قال تأبط شرّاً: لتقرعنّ على السّنّ من ندم ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاق وقال آخر: إنّ المودة بالتجارب ... قضتّ من النّاس المآرب لم تترّك لي صاحباً ... أصبو إليه ولا أعاتب متفرداً بتوحّدي ... دون الأباعد والأقارب ارغب إلى الله الذي ... يعطى الجزيل من المذاهب بالله تتسع الفجا ... ج إذا تضايقت المذاهب كان سفيان الثوري يتمثل بهذه الأبيات: ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمنّ أمورهم وتفقد وإذا ظفرت بذى الأمانة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ودع التذلل والتخشّع تبتغي ... قرب الذّي إن تدن منه يبعد وقال آخر: أهلكني بزيادٍ ثقتي ... وظنونٌ بزيادٍ حسنه ليس يستوجب شكرا رجلٌ ... نلت خيراً منه من قبل سنه وقال يزيد بن محمد المهلبي: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه وقال آخر: إن الرجال إذا اختبرت طباعهم ... ألفيهم شتى على الأخبار لا تعجلنّ إلى شريعة موردٍ ... حتى تبين صفحة الإصدار وقال آخر: اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطّى على هفواته ستر وتجاف عنه بلا مصارمةٍ ... فلنعم صائن عرضك الصبر وقال آخر: لا تحمدن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمنه من غير تجريب وقال محمود الوراق: لا يغلبنك غالب الحرص ... واعلم بأن النّاس نقص والبس أخاك على تصنعه ... فلرب مفتضحٍ على النّص ما كدت أفحص عن أخي ثقة ... إلا ذممت عواقب الفحص وقال آخر: إذا أنكرت أخلاق الصديق ... فلست من التحيز في مضيق طريقاً كنت تسلكه سليماً ... فأسبع فاجتنبه إلى طريق وقال آخر: لا تحمدن امرءاً حتى تجربه ... فربّما لم يوافق خبره خبره وقال آخر: إذا أنت لم تستقبل الأمر لم تجد ... لكفّك في إدباره متعلّقا إذا أنت لم تترك أخاك وزلةً ... إذا زلها أوشكتما أن تفرّقا قال آخر: قد كنت أحمد أمرى فيك مبتدئاً ... فقد ذممت الذي أحمدت في صدري فاذهب فأنت امرؤٌ لا شك أوّله ... حلوٌ وآخره مرٌّ على الخبر قال معاذ بن جبل: إذا أحببت أخاً في الله، فلا تماره ولا تشاره ولا تسل عنه أحداً، فلربما أخبرك بما ليس فيه، فحال بينك وبينه. قال الشاعر: أردت لكيما لا ترى لي زّلةٌ ... ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل أجمعوا على القول بأن الله تعالى تفرّد بالكمال، ولم يبرئ أحداً من النقصان. قال أبو بكر بن دريد: إذا تصفحت أمور النّاس لم ... تلف امرءا حاز الكمال فاكتفى من لك بالمهذب النّدب الذي ... لا يجد العيب إليه مختطا كم من أخ مسخوطةٍ أخلاقه ... أصفيته الودّ لخلق مرتضى وقال النابغة الذبياني: ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه ... على شعثٍ أيّ الرجال المهذّبوقال ابن وكيع: من لم يكن مؤاخياً إلاّ الذّي ... لا عيب فيه عاش فردا في الورى وقال آخر: ما بالمنازل من ضيقٍ ومن ضجر ... بل الطّبائع منها الضّيق والضّجر وقال آخر: كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهم أروع من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه وقال آخر: كل امرئ صائرٌ يوماً لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقاً إلى حين وقال عباس بن الأحنف: وما مرّ يومٌ أرتجى فيه راحةً ... فأخبره إلا بكيت على أمس وقال آخر: عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأبى دونه الخلق ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلا أخو ثقةٍ فانظر بمن تثق وقال زهير بن أبي سلمى: ومهما تكن عند امرئ من خليفةٍ ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وقال نصيب الأصفر، مولى المهدى: إن البقاع إذا استسر بها الندى ... أنس النبات بها وطاب المربع وإذا جهلت من امرئ أخلاقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع وقال محمود الوراق: ذممتك أولا حتّى إذا ما ... بلوت سواك عاد اللوم حمداً ولم أحمدك من خيرٍ ولكن ... رأيت سواك شرّاً منك جداً فعدت إليك محتملا خليلا ... لأني لم أجد من ذاك بدّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كمجهودٍ تحامى أكل ميتٍ ... فلما اضطرّ عاد إليه شدّا وقال أيضاً: لم أبك من خبث خلّ ... إلا بكيت عليه ولم أمل عن صديقٍ ... للزّهد فيما لديه إلى سواه فأبلو ... إلاّ رجعت إليه كلّ امرئ مستبد ... بحفظ ما في يديه ذكرا بن مقسم، حدثنا محمد بن يحيى النديم، قال: حدثنا المبرد، قال: كان بين عمارة بن حمزة وبين إسماعيل بن علىّ مودة، ثم تنافرا. فكتب إليه عمارة: سأترك ما بيني وبينك ساكنا ... فإن عدت عدنا والوصال سليم ولو قد خبرت الناس حق اختبارهم ... رجعت إلى وصلى وأنت ذميم أخبرنا عبد الوراث، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: أنشدنا عيسى الأعمى، قال أنشدنا ابن المعلم لعلى بن الجهم: الناس إخوانك حتى إذا ... عرضت للخوان بالدّرهم ساءك ما سرك من خلقهم ... وصرت وسط الحلق كالعلقم وقال آخر: عتبت على سلم فلما فقدته ... وجربت أقواماً بكيت على سلم وقال آخر: لم أبك من زمن لم أرض خلته ... إلا بكيت عليه حين ينصرم وقال آخر: متى تحسب صديقك لم يقلوا ... وإن تخبر يقلّوا في الحساب وقال آخر: ونعتب أحياناً عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا وقال آخر: سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد وقال آخر: ومن يبتدع ماليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه إلى النفس خيمها وقال آخر: إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فرش والتمس نفع الذّي بهم ترمى وقال محمود الوراق: أثمّ الناس أعرفهم بنقصه ... وأقمعهم لشهوته وحمصه فدان على السّلامة من تدانى ... ومن لم ترض صحبته فأقصه وخلّ الفحص ما استغنيت عنه ... فكم من جالب غيظا بفحصه ولا تستغل عافيةً بشئ ... ولا تستر خصنّ أذى لرخصه وقال آخر: ارض من المرء في مودته ... بما يؤدّي إليك ظاهره من يكشف الناس لم يجد أحداً ... تصح منهم له سرائره وقال آخر: يكفيك من قومٍ شواهد أمرهم ... فخذ عفوهم قبل امتحان السّرائر فإن امتحان القوم يوحش بينهم ... ومالك إلا ما ترى في الظواهر وإنك إن كشفت لم تر طائلا ... وأبدي لك التكشيف خبث الضمائر وقال آخر: ولا خير في ودّ إذا لم يكن له ... على طول مرّ الحادثات بقاء وقال منصور الفقيه: إذا جمع الفتى حسبا وديناً ... فلا تعدل به أبداً قريناً ولا تسمح بحظك منه بل كن ... بحظك من مودّته ضنينا وقال آخر: لعمرك ما مال الفتى بذخيرةٍ ... ولكنّ إخوان الثقاب الذخائر وقال ابن الرومى: إذا شئت تعرف أصل الفتى ... أجل لحظ طرفك في منظره فإن لم بين لك فانظر إلى ... أفاعيله فهي من جوهره فإن غاب عنك بهذا وذا ... فلا تطلبن سوى محضره فإن المحاضر سرّ الرجال ... بها يعرف النذل من خيّره بلوت الرجال وأفعالهم ... فكلٌّ يعود إلى عنصره وقال ربيعة الرّقى: إن اللئيم وإن خلته ... كريماً يذودك عن عرفه ويرجع محصول أخلاقه ... إلى أصله وإلى صنفه باب التودّد إلى الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مداراة الناس صدقه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرني ربي بمداراة الناس ونهاني عن ملاحاتهم ". روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس ". وقد روى في خبر مرفوع: " التودّد إلى الناس نصف العقل، وحسن التدبير نصف المعيشة، وما عال من اقتصد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إنّ مما يصفى لك ودّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحبّ الأسماء إليه، وأن توسّع له في المجلس. قال بعض الحكماء: رأس المداراة ترك المماراة. وفي الحديث المرفوع: " إذا أحب الله عبداً أحبّه الناس ". أخذه الشاعر فقال: إذا أحبّ الله يوماً عبده ... ألقى عليه محبةً في الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بشراركم "؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة. ألا أنبئكم بشر من ذلكم " قالوا: بلى. قال: " من يبغض الناس ويبغضونه ". روينا أن داود عليه السلام، جلس كئيباً خاليا، فأوحى الله إليه: مالى أراك خاليا؟ قال: هجرت الناس فيك. قال: أفلا أدلّك على شئ تبلغ رضاي؟ خالق الناس بأخلاقهم، واحتجز الإيمان فيما بيني وبينك. كان يقال: من رضى من الناس بالمسامحة طال استمتاعه بهم. قال أكثم بن صيفي: من تشدّد فرّق، ومن تراخى تألف، والسرور في التغافل. قال علي رضى الله عنه: شرط الصحبة إقاله العثرة، ومسامحة العشرة، والمواساة في العسرة. قيل للعتّابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر! قال: دفع ضغينةٍ بأيسر مؤونة،واكتساب إخوان بأيسر مبذول. قال محمود الوراق: أخو البشر محمود على كلّ حالةٍ ... ولن يعدم البغضاء من كان عابساً ويسرع بخل المرء في هتك عرضه ... ولم أر مثل الجود للعرض حارساً قال أعرابي يمدح رجلا بساماً هو زياد الأعجم يمدح عبد الله بن عامر ابن كريز. أخ لك ما تراه الدّهر إلاّ ... على العلات بساماً جواداً سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا مراراً ما أعود إليه إلاّ ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا وقال آخر: ولي صاحبٌ كالموت يوم فراقه ... تغيّر والأيام جمّ عجيبها أريد له هجراً لبعض خلاله ... فتعطفي أخرى له فأجيبها وقال آخر: أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلون ألواناً كثيراً خطوبها إذا عبت منه خلّةً فهجرته ... دعتني إليه خلّة لا أعيبها وقال ابن وكيع: من لم يدار الناس عن علم بهم ... انصرفوا وكلّهم له عدا وقال كثير: ومن لا يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتبع جاهداً كل عثرةٍ ... يجدها ولا يسلم الدّهر صاحب وقال آخر: وكم من أخٍ لم يحتمل منه خلّةً ... قطعت ولم يمكنك منه بديل ومن لم يرد إلا خليلاً مهذباً ... فليس له في العالمين خليل قال آخر: وأحبب إذا أحببت حبّاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت نازع وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت راجع هذا مأخوذ من الحديث المرفوع: " أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما ". وأحسن ما نظم في هذا المعنى قول أبي العتاهية: قل لمن يعجب من ... حسن رجوعي ومقالي ربّ صدّ بعد ودّ ... وهوى بعد تقالى قد رأينا ذا كثيراً ... جارياً بين الرجال أنشد حبيبٌ للفند الزّمّاني وقال الجاحظ لا أظنها له: صفحنا عن بنى ذهل ... وقلنا: القوم إخوان عسى الأيام أن يرجع ... ن قوما كالذي كانوا قال آخر: وكنت إذا صبحت رجال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسونهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا وأبصر ما ينقصني بعين ... عليها من عيونهم غطاء وقال آخر: ما نالت النفس على شهوة ... ألذ من ودّ صديقٍ أمين من فاته ودّ أخٍ صالحٍ ... فذلك المغبون حقّ اليقين قال آخر: استوحش الناس علىّ جدّا ... ولا أرى لي من أناس بدّأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إن لم أعاشرهم بقيت فردا وقال آخر: أغمض للصديق عن المساوى ... مخافة أن أعيش بلا صديق قال آخر: أغمّض عيني عن صديقي تغافلا ... كأنّي بما يأتي من الأمر جاهل وما بي جهلٌ غير أن خليقتي ... تطيق احتمال الكره فيما يحاول متى ما يربني مفصل فقطعته ... بقيت ومالي في النهوض مفاصل وقال آخر: وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... فأشرقني على حنق بريقي غفرت ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق وقال آخر: إذا ما خليلي رابني بعض خلقه ... ولم يك عما ساءني بمفيق صبرت على أشياء منه تريبني ... مخافة أن أبقى بغير صديق وأنشد ابن الأنباري عن أبيه: إذا ما صديقي ساءني بفعاله ... ولم يك عما ساءني بمفيق صبرت على الضَّرَّاء من سوء فعله ... مخافة أن أبقى بغير صديق " قالوا:لا خير في الناس،ولابد من الناس " باب الاستيحاش من الناس والفرار منهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الناس منزلةً يوم القيامة، رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخيف العدو ويخيفونه ". وفي رواية أخرى: " حتى يموت أو يقتل، والذي يليه رجل معتزل في شعب من الشّعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور النّاس ". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطمع فقرٌ واليأس غنيٌ، والعزلة راحةٌ من جليس السوء، وقرين الصدق خير من الوحدة. قال أبو الدردّاء: نعم صومعة الرجل المؤمن بيته، يصون دينه وعرضه، وأياكم والأسواق، فإنها تلغي وتلهي. قال مكحول:إن كان في الجماعة فضل، فإن في العزلة سلامه. قال عمر بن الخطاب: خالطوا الناس في معايشكم، وزايلوهم بأعمالكم. قال أبو الدّرداء: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه. يقال: إن فيما أنزل الله في الإنجيل على عيسى عليه السلام. كن وسطاً وامشي جانباً. قال ابن المقفع: وحشة الانفراد أبقى على المرء من أنس التلاقي. قال بعض العلماء العزلة عن الناس توقي العرض، وتبقي الجلالة، وترفع مؤونة المكافأة في الحقوق اللازمة، وتستر الفاقة. قال أوس ابن حجر: وإنّي رأيت النّاس إلا أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التّنقّلا بنى أمّ ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبداً سيّد القوم جحفلا وهم لمقلّ الممال أولاد علّةٍ ... وإن كان محضاً في العمومة مخولا وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يسوءك إن ولّي ويرضيك مقبلا ولكن الأخ النّائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا وقال الحسن بن عبد الرحمن. توحشت ولكنّي ... أسرّ بالوحشة أحيانا وفي الوحشة ما يؤ ... نس من صحبة من خانا وقال أيضاً: يا حبّذا الوحشة من أنيس ... إذا خشيت من أذى الجليس وقال أبو العتاهية: برمت بالناس وأخلاقهم ... فسرت أستأنس بالوحده ما أكثر النّاس لعمري وما ... أقلّهم في حاصل العدّه كتب شيخ من أهل الرّى على باب داره: جزى الله عنا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيراً، وأما أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهم الله خيراً، فإن لم نؤت إلا منهم. قال سفيان وما وجدت من يغفر لي ذنباً، ولا يستر لي عيباً، فرأيت في الهرب من الناس السّلامة. قال الفضيل بن عياض لسفيان الثوري: دلّني على رجل أجلس إليه، قال: تلك ضالّة لا توجد. قال أكثم ابن صيفي: الانقباض عن الناس مكسبه للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة لقرناء السوء. وقال سهل الوراق: ألا ما لذا الناس قد بدّلوا ... فهم كذئاب عليها ثياب تواطئوا على كلّ مستقبحٍ ... فما لقبيح لديهم معاب وخانوا الأمانة ما بينهم ... وهل بالأمانة توفى الذئاب قال الأضبط بن قريع: أذود عن حوضه ويدفعني ... يا قوم من عاذري من الخدعه أنشد الخريري لنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 مخالط الناس في الدّنيا على خطر ... وفي بلاءٍ وصفو شيب بالكدر كراكب البحر إن تسلم حشاشته ... فليس يسلم من خوف ومن حذر وقال قدامة بن إبراهيم الجمحى: العجز ضعف ومالجزم من ضررٍ ... وأحزم الحزم سوء الظنّ بالناس لا تترك الحزم في أمر تحاذره ... فإن أصبت فما بالحزم من باس أنشدني عبد الرّحمن بن أبان، عن عثمان، قال: أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدى لنفسه: أشعرن قلبك ياسا ... ليس هذا الناس ناسا قد مضى الإبريز منهم ... وبقوا بعد بحاسا سامريين يقولو ... ن جميعاً مساسا لهلال بن العلاء: لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ ... أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيّى عدّوى عند رؤيته ... لأدفع الشرّ عنّى بالتحيات وأحسن البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد ملا قلبي محبّات ولست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات وقال ابن الرومى: يا ذا الذي منه التغي ... ر والتّنكر والنبوّ إن كان أدر كك الملا ... ل فقد تداخلني السّلوّ وقال آخر: قد كنت عبداً والهوى مالكى ... فصرت حرّا والهوى خادمى وصرت بالوحدة مستأنساً ... من شرّ أولاد بني آدم ما في اختلاط الناس خير ولا ... ذو الجهل بالأشياء كالعالم يا عاذلى في تركهم جاهلا ... عذرى منقوش على خاتمي وكان في خاتمه منقوشاً: " وما وجدنا لأكثرهم من عهد " وقال منصور الفقيه: نفرت من كلّ من وثقت به ... إذ كلهم خانني ولم أخن من لان لي جانباه لنت له ... ومن أبي أن يلين لم ألن وقال آخر: هذا زمانٌ ليس إخوانه ... يامعشر الناس بإخوان إخوان سوءٍ كلّهم فاسقٌ ... له لسانان ووجهان يلقاك بالبشر وفي قلبه ... داءٌ يواريه بكتمان حتّى إذا ما غبت عن وجهه ... رماك في الغيب ببهتان يأيها المرء فكن واحداً ... فرداً ولا تأنس بإنسان منصور الفقيه: الناس بحرٌ عميقٌ ... والبعد منهم سفينه وقد نصحتك فانظر ... لنفسك المسكينه طرفة بن العبد: كلّ خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهم أروع من ثعلب ... ماأشبه الليلة بالبارحه وقال منصور الفقيه: يا أخا الدّهر إن وفا ... وأخا الدهر إن غدر كن من الناس كيف شئ ... ت على غاية الحذر كان يقال: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار وقال ابن وكيع: فسد الناس كلّهم وانقضى الودّ ... فما في الورى أخٌ ذو صفاء وأرى طالب الفرار من النا ... س ومرتاد مربهم في بلاء ذاك بالانقباض يكسب المق ... ت ويعزى به إلى الكبرياء وأخو الانبساط يخشى انقلاباً ... من صديق يضيع حق الإخاء وإذا ما الصديق عاد عدواً ... فهو مستفرهٌ من الأعداء وقال منصور الفقيه: في الناس خيرٌ كثيرٌ ... والشرفى الناس أكثر وقد نصحتك حهدى ... فانظر لنفسك واحذر فإن وثقت بقولي ... فيهم وإلا فغرر وله أيضاً: إنما الناس فزعةٌ ... ليس في الناس مفزع ذم من شئت منهم ... فهو للذمّ موضع ولما حضرته الوفاة، قال: أستغفر الله من هذين البيتين. قال سويد بن منجوف: قبلغّ مصبعاً عنّي رسولا ... وهل تجد النصيح بكل واد تعلّم أن كثر من تناجى ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي أنشد الزبير لأبي همهمة: إخوة ما حضرت سرّون برّو ... ن فإن غبت فالسّباع الجياع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 با ينوي حتى إذا عانيوني ... بان منهم تضاؤلٌ واجتشاع فهم يغمزون مني قناةً ... ليس يألون عمزها ما استطاعوا ما كذا يفعل الكرام ولكن ... هكذا يفعل اللثام الوضاع قال أبو غسان مالك بن الله غلام أبي العتاهية:كنت عند أبي العتاهية قبل موته بثلاثة أيام،وإنه لشديد العلّة لما به،فرفع رأسه إلى وقال:يا أبا غسان! لله درّ أبيك أيّ زمان ... أصبحت فيه وأيّ أهل زمان كلٌّ يوازنك المودة دائباً ... يعطى ويأخذ منك بالميزان لإغذا رأى رجحان حبة خردلٍ ... مالت مودته مع الرّجحان في كلّ يومٍ منه تبدو قصّةً ... تنعي إليك مودّة الإخوان وقال منصور الفقيه: أيّ زمان نشأت فيه ... كذي ضلالٍ بأرض تيه ما شئت من عالم خبيثٍ ... فيه ومن جاهلٍ سفيه وقال أبو العتاهية: إن الزمان يغرّني بأمانه ... ويذيقني المكروه من حدثانه فأنا النذير من الزمان لكلّ من ... أمسي وأصبح وائقاً بزمانه ما الناس إلا للكثير المال أو ... لمسلّط ما دام في سلطانه فإذا الزمان رماهما بملمّةٍ ... كان الثّقات هناك من أعوانه قال إبراهيم بن العباس الصولى: بلوت الزمان وأهل الزمان ... فكلّ بذم ولوم حقيق وأوحشني من صديقي الزمان ... وآنسني بالعدوّ الصديق وله أيضاً وربّ أخ ناديته في ملمةٍ ... فألفيته منها أجلّ وأعظما أنشدني محمد بن نصير الكاتب لنفسه: تطلّب سبيل الهدى جاهداً ... ودع عنك مشتبهات السّبل وأصبح من الناس مستوفزاً ... فأكثرهم راصدٌ للزّلل وأجبن من قد ترى منهم ... لعمرك يردى الشجاع البطل وتصمى المقاتل أقوالهم ... بألسنةٍ وقعها كالأسل ومن حكّم الناس في عرضه ... فمن جار أكثر ممن عدل وقال آخر: وإذا دعوت أخا إخائك ... عند نائبةٍ تنوب ألفيته أحد الخطوب ... إذا تتابعت الخطوب وهذا كله عندي والله أعلم مأخوذ من قول القائل: كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار منصور الفقيه: تبارك من لو شاء ملكني نفسي ... وصيّر في الإيحاش من خلقه أنسي وباعد داري عاجلاً عن ديارهم ... كعبد مغيب الشمس عن مطلع الشمس لعلّى أن أمسي من الشر آمنا ... وأصبح مسروراً بذاك كما أمسي فما نكّد الدنيا على طيب ظلها ... وقرب جناها العذب شئ سوى الإنس قال أعرابي،وهو جابر بن ثابت،ويعرف بتأبط شرا: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوّت أنسان فكدت أطير درى الله أني للأنيس لشانئٌ ... وتبغضهم لي مقلةٌ وضمير وقال آخر: قد بلوت النّاس طرّا ... لم أجد في الأرض حراً صار أحلى الناس في عيني ... إذا ما ذيق مرّا ووجدت الحلو منهم ... عندما جرّبت صبرا وقال منصور الفقيه: إن بني دهرنا أفاع ... ليس لمن ساورت طبيب فلا يكن فيك بعد هذا ... لواحدٍ منهم نصيب وقال آخر: قد لزمت السّكوت من غير عىّ ... ولزمت الفراش من غير علّه وهجرت الإخوان لما أتتني ... عنهم كلّ خصلة مضمحلّه فعلى أهل ذا الزمان جميعاً ... ضعف قطر السّماء من لعنة الله وقال آخر: لا تعرفن أحداً فلست بواجدٍ ... أحداً أضرّ عليك ممن تعرف أما نظيرك فهو حاسد نعمةٍ ... أو دون ذاك فذو سؤال ملحف أو فوق ذلك حال دون لقائه ... بواب سوءٍ واليفاع المشرف وللشافعي الفقيه رحمه الله،وقيل إنه تمثل بها،وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ليت الباع لنا كانت مجاورةً ... وليتنا لا نرى مما نرى أحدا إن السباع لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاءٍ شرّهم أبدا فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تعش سليماً إذا ما كنت منفرداً وقال منصور الفقيه: أحذّرك الناس إلاّ قليلا ... فلا تبغين إليهم سبيلا وفارقهم عن قليّ واتخذ ... إذا ما خشيت انفراداً خليلا من الجنّ والجنّ إن تلقهم ... تجدهم أبرّ فعالا وقليلا من الإنس،لا كان مستأنساً ... بهم طالبٌ من سواهم بديلاً وقال أبو العتاهية: أياربّ إنّ الناس لا ينصفونني ... وإن أنا لم أنصفهم ظلموني وإن كان لي شيْ تصدّوا لأخذه ... وإن جئت أبغي شيئهم منعوني وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتموني وإن طرقتني نكبةٌ فرحوا بها ... وإن صحبتني نعمةٌ حسدوني سأمنع قلبي أن يحنّ إليهم ... وأحجب عنهم ناظري وجفوني أنشدني حكم بن المنذر لنفسه: وكنتم أخلائي الذين أعدّهم ... لصرف زمان إن ألمّ بداهيه فأخلفتم ظني بكم فقليتكم ... فنفسي عنكم أخر الدهر ساليه وقال آخر: ولما رأيت الناس لا عهد عندهمصدفتوبيت اللهعن صحبة الناس وصرت جليس الكتب ما عشت فيهم ... وأعلمت حسن الصبّر عنهم مع الياس رأيت لهم كاساً من الغذر بينهم ... تدار وما بالقوم صبرٌ عن الكاس وهذا الباب وما جانسه من معاني صحبة الناس والفرار منهم،واتخاذ الإخوان والزهد فيهم،قد أكثر الناس فيه جدا،وقد جمع فيه ابن وكيع فتقصىّ وكثّر وجوّد وغزر،وغرضنا في الكتاب أن نورد فيه ما تصلح المذاكرة به من غير تطويل،لأن الحفظ أكثر ما يكون مع التقليل،وبالله العون والتأييد والحول والقوة. باب الصّديق والعدو قال جعفر بن محمد: لقد عظمت منزلة الصّديق حتى عند أهل النار، ألم تسمع إلى قوله الله تعالى حاكيا عنهم: " فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم ". قال علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ صديقه في غيبته وبعد وفاته. قال سويد بن الصّامت: ألا ربّ من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري مقالته كالشّهد ما كان شاهداً ... وبالغيب مأثورٌ على ثغره النّحر تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... من الشرّ بالبغضاء والنظر الشّزر يسرّك باديه وتحت أديمه ... تميمة غشّ تبترى عقب الظهر فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالى من يريش ولا يبرى كان أبو العباس السّفاح إذا تعادى اثنان من أهل بطانته لا يسمع من أحد منهما في صاحبه شيئاً،وإن كان عدلا،ويقول:العداوة تزيل العدالة. كان يقال:لا تجالس عدوّك فإنه يحفظ عليك عيوبك،ويماريك في صوابك. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:ابذل لصديقك كلّ المودة،ولا تبذل له كلّ الطمأنينة،وأعطه من نفسك كلّ المواساة،ولا تفضي إليه بكلّ الأسرار. روى عن علىّ بن الحسين رحمه الله،أنه قال:لا يكون الصديق صديقاً حتى بقطع لأخيه المؤمن قطعةًمن دينه يرقّعها بالاستغفار. قال غيره:من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً،ولعدوّ صديقه عدوا. قال يزيد بن الحكم الثّقفي: تصافح من لا قيت لي ذا عداوه ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوى في أبيات قد ذكرتها في باب البغي والحسد وغيره،وفي رواية أخرى: عدوّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوى وقال آخر: عدوّ صديقي داخلّ في عداوتي ... وإنّي لمن ودّ الصديق ودود فلا تقترب مني وأنت عدوّ من ... أصادقه فالخير منك بعيد وقد أنشد المبرد هذين البيتين على قافية القاف على ما رواه شيخنا عيسى عن ابن مقسم،قال:أنشدني أبو على إسماعيل بن محمد الصّفّار،قال:أنشدني أبو العباس المبردّ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 صديق عدوى داخل في عداوتي ... وإنيّ على ودّ الصديق صديق أعادي الذي عادى وأهوى له الهوى ... كأنّي منه في هواه شقيق وقال العتّابي: تودّ عدوّى ثم تزعم أنّني ... صديقك إنّ الرأي عنك لعازب وليس أخي من ودّني رأى عينه ... ولكن أخي من ودّني وهو غائب قال آخر: إذا والى صديقك من تعادى ... فقد عاداك وانقطع الكلام قال معاوية: النبل مؤاخاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء. قيل لعبد الحميد الكاتب: أيّما أحب إليك أخوك أو صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي. قال بعض العلماء أهل المدينة: من ثقل على صديقه خفّ على عدوه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه مالا يعلمون. عذل رجل رجلا، فقال: أراك رطب اللسان من عيوب أصدقائك، فلا تزدهم في أعداءك، فإن الصديق يحوّل بالجفاء عدوا، وكذلك العدو يحول بالصلة صديقا. كان يقال: لا تجترئ على عداوة رجل بصداقة ألف. قال الشاعر: تكثّر من الإخوان ما استطعت أنّهم ... بطونٌ إذا استنجدتهم وظهور وليس كثيراً ألف خلًّ وصاحبٍ ... وإن عدواً واحداً لكثير ومما أنشده المبرد: ترفّع عن مخاشنة الصّديق ... ولا تلج العدوّ إلى مضيق وإن يسنح من المعروف شئٌ ... فبادر خوف إمكان الطريق وأحسن من مجاهدة الأعادي ... مجاهدة النفوس على الحقوق كان المغيرة بن شعبة يقول: إن أنكأ لعدوك ألاّ تعلمه أنك أتخذته عدوّا. سئل أعرابي عن ابن العمّ، فقال: عدوّك وعدوّ عدوّك. كان يقال: من سعادة المرء أن يرى عدوّه خلفه في حياته، ويقدمه أمامه في وفاته. كان يقال: لا تلتمس معاونة ذي عداوة بإعطائه فضل قوة يستكثر بها عليك في مخالفتك. جمع كسرى يوما مرازبته وعيون أصحابه، فقال لهم: من أي شئ أنتم أشد حزراً؟ قالوا من العدوّ الفاجر، والصديق الغادر. قال موسى بن جعفر: أتّق العدوّ، وكن من الصديق على حذر فإن القلوب إنما سميت قلوباً لتقلّبها. منصور الفقيه: احذر مودة ماذقٍ ... مزج المرارة بالحلاوه يحصى الذنوب عليك أيّام الصداقة للعداوه وقال جحظة البرامكي: لا تعدّنّ للزمان صديقاً ... وأعدّ الزمان لللأصدقاء قال آخر: دار الصديق إذا أستشاط تغضباً ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد ولربما كان التغيظ باحثاً ... لمعايب الأباء والأجداد استعدى أعرابي على بلاد ابن جرير بن الخطفي إلى قثم بن العبّاس فقال: أعوذ بالعبّاس وحقوى محمّد ... وحقويك من طول الأذى والغوائل فإنّ بلالاً يابن عمّ محمدٍ ... عدوٌ إذا جاملته لم يجامل إذا نال يوماً رشوة من مخاصمٍ ... رمى كلّ حقٍّ أدعيه بباطل قال ابن وكيع: ليس بالمنكر انقلاب صديقٍ ... ربما غصّ شاربٌ بالشراب وتلاقى الأخوان بعد فسادٍ كتلاقي ... كتلاقي الأرواح بعد الذهاب لا تضيعّ مودةً من صديقٍ ... فانقلاب الصديق شرّ انقلاب قال آخر: وروّعت حتّى ما أراع من النّوى ... وإن بان جيرانٌ علىّ كرام فقد جعلت نفسي على النأى تنطوي ... وعيني على هجر الصديق تنام وقال صالح بن عبد القدوس: إذا وتر امرءًا فاحذر عداوته ... من أن يزرع الشوك لا يحصد به عنبا إن العدوّ وإن أبدي بشاشته ... إذا رأى منك يوماً فرصة وثبا قال الصاحب بن عبّاد: لقد صدقوا والراقصات إلى مني ... بأنّ مداراة العدى ليس تنفع ولو أنني دارأت عمري حيةً ... إذا استمكنت يوما من اللسع تلسع وقال آخر: ليس الصديق الذي إن زالّ صاحبه ... يوماً رأى ذنباً غير مغفور إن الصديق الذي تلقاه يعز في ... ما ليس صاحبه فيه بمعذور وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 كان صديقي وكان خالصتي ... أيام نجري مجاري السّوق قال أبو تمام الطائي: وحسبك حسرةً لك من صديقٍ ... رأيت زمامه بيدي عدوّ قال العطوي: إذا أنكرت أخلاق الصديق ... فلست من التحيّر في مضيق طريقاً كنت تسلكه سليماً ... فأسبع فاجتنبه إلى طريق فإن قابلت يسرى منه عسرى ... فراجع من قطعت من الصّديق وقال عبد بني الحسحاس: رأيت الحبيب لا يملّ حديثه ... ولا ينفع المشنوء أن يتودّدا وقال زياد اللأعجم: عدوّك مسرور وذو الودّ بالذي ... أتى منك من غيظ علىّ كظيظ تلين لأعل الغلّ والغمز منهم ... وأنت على أهل الصفاء غليظ نسىّ لما أوليت من صالحٍ مضى ... وأنت لتأنيب علىّ حفيظ وسميت غيّاظاً ولست بغائظ ... عدوّا ولكنّ الصديق يغيظ وقال أبو الطيب: وأرحم أقواماً من العىّ والغبا ... وأعذر في بغضي لأنهم ضدّ ومن نكد الدّنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له من صداقته بدّ وقال آخر: شر البلاد مكانٌ لا صديق به ... وشرّ ما يكسب الإنسان ما يصم وقال منصور الفقيه: إذا تخلفت عن صديق ... فلم يعاتبك في التخلف فلا تعد بعدها إليه ... فإنما وده تكلف وإن تعد بعدها إليه ... فلا تلمه على التصلف وقال آخر: إذا كتم الصديق أخاه سرّا ... فما فضل الصّديق على العدوّ وقال ابن الروّمى: عدوّك من صديقك مستفادٌ ... فأقلل ما استطعت من الصّحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطّعام أو الشراب وإنّك قلّما استكثرت إلاّ ... وقعت على ذئابٍ في ثياب فدع عنك الكثير فكم كثيرٍ ... يعاب وكم قليلٍ مستطاب وما اللّجج الملاح بمروياتٍ ... وتلقى الرّىّ في النطف العذاب إذا انقلب الصديق غدا عدوّا ... مبيناً والأمور إلى انقلاب وقال منصور الفقيه: احذر عدوّك مرة ... واحذر صديقك ألف مرّة فلربمّا انقلب الصديق ... فكان أعلم بالمضرّة قال آخر: كن من صديقك خائفاً ... فلربّما حال الصديق وقال أخر: أحذر صديقك لا عدوّك إنما ... مستور سرّك عند كلّ صديق قال أبو بكر الخالدى: ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلاّ صديقٌ مخلص وقال الكميت يخاطب بني العباس: إذا نحن خفنا في زمان عدوّ كم ... وخفنا كم إنّ البلاء لراكد وقال آخر: وبغضك للتقّى أقل ضراً ... وأسلم من مودة ذي الفسوق ولن تنفك تحسد أو تعادى ... فأكثر ما استطعت من الصديق خالفه ابن الرومي فقال: عدوك من صديقك مستفادٌ ... فأقلل ما استطعت من الصديق فإن الداء أكثر ما تراه ... من الأشياء تحلو في الحلوق أكثر رجل على رجل بالسّلام وقال له: أنا صديقك. قال: وكيف؟ قال: لأني أسلم عليك. فأنشأ يقول: لئن كان من قال السّلام عليكم ... يعد صديقاً فالصديق كثير وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: لا تهن للصديق تكرمه ... نفسك حتى تعدّ من خوله يحمل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله ليس الفتى بالذي يحول عن ال ... عهد ويؤتي الصّديق من قبله ولست مستبقاً أخاً لك لا ... تصفح عن جهله رعن زلله وقال آخر: إن الصّديق فلا تأمن بوائقه ... أسواء العدوّ إذا ما سؤته أثرا وقال رجل من بنى سليم: لعمرك إنني وأبا رباحٍ ... على حال التّكاثر شر منذحين فأبغضه ويبغضنى وأيضاً ... يراني دونه وأراه دوني فلو أنّا على حجرٍذبحنا ... جرى الدّميان بالخبر اليقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقال المتلمّس: أحارث أنا لو تشاط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمسّ دمٌ دما وقال آخر: إذا كنت مما لا ترى نافعاً ... صديق ولا بالعدوّ تضرّ فسيان إن متّ أو إن حييت ... فلا ذا يسوء ولا ذا يسرّ لأبي عيينة المهلب، أو علي بن جبلة: ولما رأيتك لا فاجراً ... قوياً ولا أنت بالزاهد وليس عدوّك بالمتقي ... وليس صديقك بالحامد دخلت بك السّوق سوق الرقيق ... وناديت هل فيك من زائد؟ فما جائني رجلٌ واحدٌ ... يزيد على درهم واحد سوى رجل حان منه الشقا ... ء وحلت به دعوة الوالد محاط به معه درهمٌ ... ردئ فأقبل كالراصد فبعتك منه بلا شاهدٍ ... مخافة ردّك بالشاهد وأبت إلى منزلي غانماً ... وحلّ البلاء على الناقد وقال آخر: سأصبر من صديقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلاّ الهوانا قال العطوى: إذا ما الحرّ فاز بحسن حالٍ ... أجاز صديقه من سوء حال إذا أثرى رأى حقّا عليه ... له الإفضال من قبل السؤال لعمرك ما رأيت فتى كريماً ... يحب المال إلا للنوال أبا حسن ثكلت الحزم فيما ... أحاول من مقالي أو فعالى لقد كذبت ظنوني فيك أن لم ... أتب من حسن ظنّي بالرجال وقال آخر: إذا ما المرء كان له صديقٌ ... فبرّ صديقه فرضٌ عليه فإن عنه الصّديق أقام يوماً ... فوجه البرّ أن يسعى إليه وإن كان الصديق قليل مالٍ ... يضيق بذرعه ما في يديه فمن أسنى فعال المرء ألا ... يضنّ على الصديق بما لديه وقال آخر: ما ضاقت النفس على شهوةٍ ... ألذّ من ودّ صديق أمين من فاته ودّ أخ صالح ... فذلك المغبون حق اليقين عبد الله طاهر،ويروى لعلى بن الجهم،وهي له لا غيره،حدثنا عبد الوارث،حدثنا قاسم بن أصبغ،حدثنا أبو عيسى الأعمى الخباز ببغداد،قال:أخبرني يحيى بن المعلم،قال:مررت بعليّ بن الجهم،وقد أذّن لصلاة الظهر،وقد دخل المسجد يريد أن يركع،فسلمت عليه وقلت له:لا يمكنني أن أقيم حتى تصلى لأني مبادر،قال:فيم ذا؟ فقلت:أبيع قميصي هذا وأكافئ به صديقا له قبلى يدٌ. قال:فلم أمش إلاّ قليلا حتى ردني،فقال لي:اكتب وأنشدني: أميل مع الصديق على ابن أميّ ... وأحمل للصّديق على الشقيق وإن ألفيتني ملكاً مطاعاً ... فإنّك واجدي عبد الصديق أفرّق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق قالوا:أحذر من وترته وإن أحسنت إليه،ومن أوحشته فلا تثق به. قال الشاعر: إذا وترت امرءا فاحذر عداوته ... من يزرع الشّوك لا يحصد به عبنا إن العدوّ وإن أبدي بشاشته ... إذا رأى منك يوماً فرصةً وثبا وقد تقدم في باب التودد إلى الناس أبياتٌ تصلح في هذا الباب،فلم أروجهاً لتكرارها. بابٌ جامعٌ متخيّرٌ في الإخوان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله،فلينظر امرؤٌ من يخالل ". قال الأوزاعىّ: الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب،إن لم تكن مثله شانته. قال الشاعر: وما صاحب الإنسان إلا كرقعةٍ ... على ثوبه فليتخذه مشاكلا وقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في صحبة من لا يرى لك كالذي يرى لنفسه ". وفي الخبر المرفوع أيضا " شيئان لا يزدادان إلاّ قلة:درهمٌ حلال،وأخٌ في الله تسكن إليه " وقد روى مرفوعاً: " المرء كثيرٌ بأخيه ". قال علىّ بن أبي طالب،رضي الله عنه:لا خير في صحبة من تجتمع فيه هذه الخلال:من إذا حدّثك كذبك، وإذا ائتمنته خانك،وإذا ائتمنك اتهمك،وإذا أنمت عليه كفرك،وإذا أنعم عليك منّ عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وعن ابن عباس أنه قال:أحبب في الله،وأبغض في الله،وعاد في الله،فإنه لا تنال موالاة الله إلا بذلك،ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. قال:ولقد صارت عامة مؤاخاه الناس على أمر الدنيا،وذلك لا يجدي علىأهله،ثم قرأ ابن عباس: " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتقين "،وقرأ: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادٌ الله ورسوله " ألآية. قال المغيرة بن شعبة:النّازل للإخوان منزول. قال اامنصور لإسحق بن مسلم العقيلي:ما بقي من لذّتك؟ قال:أخٌ أشتهي معه طول السهر،ودابةٌ أستهي معها طول السّفر. قال جعفر بن محمد:حفظ الرجل أخاه بعد وفاته في تركته كرم. كان يقال:أنصح الناس لك من خاف الله فيك. قال موسى بن جعفر:من لك بأخيك كلّه،لا تستقص عليه فتبقى بلا أخ. كان يقال:الأخوّة قرابةٌ مستفاده. كان يقال:ما شئٌ أسرع في فساد رجل وصلاحه من صاحبه. ذكر الرياشي،عن الأصمعى،قال:ما رأيت شعراً أشبه بالسنة من قول عديّ بن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن مقتدى وصاحب أولى التّقوى تنل من تقاهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدى وقال أبو العتاهية: من ذا الذي يخفي عليك ... إذا نظرت إلى قرينه قال الخوارزمي: لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسد عدوي البليد إلى الجليد سريعةٌ ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد كان سفيان بن عيينة يتمثل: لكلّ امرئٍ شكلٌ يقرّ بعينه ... وقرة عين الفسل أن يصحب الفسلا وقال صالح بن جناح: وصاحب إذا صاحبت حراً مبرّزا ... يزين ويزرى بالفتى قرناؤه وقال سهل الوراق: تخيّر قريناً لا يعيب فإنّه ... يقاس لعمري بالقرين قرينه وشرّ خدين قاطعٌ لخدينه ... إذا حاد يوماً عن هواه خدينه وقال آخر: إن النّديم وإن الكأس صيّرني ... كما تراني سليب العقل والدين قالوا: من أراد أن يدوم له ودّ أخيه،فلا يمازحه، ولا يعده موعداً فيخلفه. أوصى رجلٌ ابنه فقال: يابنىّ! اصحب من إذا غبت عنه خلفك، وإن حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوّك كفّه عنك. وقال بعضهم: لا تؤاخ شاعراً، فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجاناً. لابن أخي زرّ بن حبيش: وما استخبأت في رجل خبيئاً ... كدين الصّدق أو حسب عتيق كان من كلام خالد بن صفوان: اصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك فاقة مانك، وإن رأى حسنة عدها، وإن رأىسيئة كتمها وسترها، لا تخاف بوائقه، ولاتختلف طرائقه. قال أبو العتاهية: لك الخير إنّي ناصحٌ لك فاسمع ... طمعت من الإنسان في غير مطمع طمعت من الإنسان في صفو ودّه ... ألا ليس يصفو ذو طبائع أربع خذ العفو من كلّ امرىءٍ سمت ودّه ... وإن ضاق عما سمته فتوسع ولأبي العتاهية أيضاً: ياربّ خدن كنت آمن غيبه ... أصبحت تنطف في يديه جراحي سلحته ليردّ بأس عدوّه ... فعدا علىّ فبزّني بسلاحي وقال العاقولي: من يكرم الناس يكرموه ... ومن يهنهم يجد هوانا ومن يقل عثرة يقلها ... ومن يعن لم يزل معانا كان أخا صاحباً زمانا ... فمال عن وصلنا وخانا تاه علينا،وصدّ عنّا ... فما نراه ولا يرانا وقيل لخالد بن صفوان:أيّ إخوانك أحب إليك؟ قال:الذّي يغفر زللي،ويقبل عللي،ويسدّ خللي. قال المأمون:الإخوان على ثلاث طبقات:فإخوان كالغذاء لا يستغنى عنهم أبدا،وهم إخوان الصّفاء، وإخوان كالدواء يحتاج إليهم في بعض الأوقات،وهم الفقهاء،وإخوان كالدّاء لا يحتاج إليهم أبدا، وهم أهل الملق والنفاق لا خير فيهم. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اصحب من ينسى معروفه عندك،ويذكر حقوقك عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 كان ابن عيينه ماشياً بمكة مع بعض إخوانه، فنظر فإذا أحداث يتبعونه،فقال له: انظر من صار جلاّسى اليوم بعد ثمانين سنة ... لقد كنت ابن عشرين سنة وما كنت أجالس أبناء العشرين،وإنما كنت أجالس الشيوخ والكهول، ألم تسمع إلى قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؟ قلت: لا. قال: قال عبيد الله: ألا أبلغا عني عراك بن مالك ... فإن أنتما لم تفعلا فأبا بكر ويروى: ولا تدعا أن تثنيا بأبي بكر فكيف تلومان ابن سبعين حجةً ... على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر وقال آخر: ابن لي فكن مثلي، أو ابتغ صاحباً ... كمثلك إني مبتغ صاحباً مثلي ولا يلبث الإخوان أن يتفرقوا ... إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل قيل لبعض المدنين:أي الهى أغلب؟ قال: هوى متشاكلين. ولعبد الصمد بن المعذل: الناس أشكال فكل امرئ ... يعرفه الناس بمنتابه لا تسألن المرء عن حاله ... ما أشبه المرء بأصحابه وقال أبو الأسود الدؤلي: لكل امرىءٍ شكل من الناس مثله ... وكل امرىء يهوى إلى من يشاكله ومالك بدٌ من نزيل فلا تكن ... نزيلاً لمن يسعى به من ينازله وإن أنت نازلت الكريم فلاقه ... بما أنت من أهل المروءة قائله وإن أنت نازلت اللئيم فكن فتىً ... تزايله في فعله وتحامله إذا لم تداخل عزَّ من كان ذا حجاً ... وعزمٍ وحزم لم تجد من تداخله وما الناس إلا بالأصول فإنما ... يثبت أعلى كل بيتٍ أسفله وقال جرير: وإني لأستحي أخي أن أرى له ... على من الحق الذي لا يرى ليا وفي هذا الشعر يقول جرير: ألا تخافا نبوتي في ملمة ... وخاف المنايا أن تفوتكما بيا تعرضت فاستمررت من دون حاجتي ... فحالك إني مستمرٌ لحاليا وإني مغرور أعلل بالمنى ... ليالي أرجو أن مالك ماليا فأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عرصت أيقنت ألا أخا ليا وهذا البيت من شعر جرير هذا قد أدخله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فيأبياته التي يقول فيها، فلا أدرى من تقدم صاحبه إليه: رأيت فضلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا فأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عرضت أيقنت ألا أخا ليا فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تنائيا ولست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ ... ولكن عين السخط تبدي الساويا كلانا غنى عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا وقد أدخل بعضهم في هذه الأبيات بيتين، وهما: ولست بهياب لمن لايهابني ... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا متى تدن مني تدن منك مودتي ... وإن تنأ عني تلفني عنك نائيا وقال روح أبو همام: فعين السخط تظهر كل عيبٍ ... وعين أخو الرضا عن ذاك تعمى وقال معن بن أوس: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍ تبدِّل كتب ابن عمار إلى برجوان كتاباً فيه قول الشاعر: ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل فدعا برجوان شاعراً كان قد استخصه يعرف بابن أعين، وقال له:أجب عن هذا البيت، فقال: وما زلت أهدى النصح حتى اطَّرحته ... وأقبلت عن سبل الهداية تعدل فهبك يميني استخبثت فقطعتها ... لتسلم لي نفسي أم الهلك أجمل وهذا المعنى مأخوذ من قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: ألم تر أن المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمداً ليسلم سائره فكيف تراه بعد يمناه فاعلاً ... بما ليس منه حين تدوى سرائره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أنشدني أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان، قال: أنشدنا أبو محمد قاسم ابن أصبغ، قال: أنشدنا أبو بكر بن أبي خيئمة لأبي الشيص محمد بن عبد الله ابن رزين: صاحبً كان لي وكنت له ... أشفق من والدٍ على ولدٍ كنا كساق تسعى بها قدمٌ ... أو كذراع نيطت إلى عضد وكان لي مؤنساً وكنت له ... ليست بنا حاجةٌ إلى أحد حتى إذا حلت الحوادث من ... ساحتي وحل الزمان من عقدي احول عني وكان ينظر منعيني ويرمي بساعدي ويدي حتى إذا استرفدت يدي يدهكنت كمسترفدٍ يد الأسد وقال آخر: واني لأستحي أخي أن أبره ... قريباً وأن أجفوه وهو بعيد وقال آخر: قلت للفرقدين إذ طال ليلي ... وهما في السماء مقترنان ابقيا كيف شئتما عن قليل ... سوف تطوى السما وتفترقان قيل لأعرابي: لم قطعت أخاك من أبيك؟ فقال: إني لأقطع الفاسد من جسدي الذي هو أقرب إلي من أبي وأمي وأعز فقدا. وقال آخر: لا تهني بعد أن أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ منتزعته وقال آخر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وقال آخر: لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليلٌ يكر عليهم ونهار وقال محمد بن أبي حازم الباهلي: لم يكن من شكلي ففارقته ... والناس أشكالٌ وألاف وقال ابن الرومي: " وبعض السجايا ينتمين إلى بعض " قال حبيب: ولن تنظم العقد الكعاب لزينةٍ ... كما ينظم الشّمل الشتيت الشمائل وقال المساحقي: تزهّدني في ودّك ابن مسافع ... مودتك الأرذل دون ذوي الفضل وأن شرار الناس سادوا خيالاهم ... زمانك إن الرّذل للزمن الرّذل قال أكثم بن صيفي: أحقّ من يشر كك في شر كاؤك في المكاره. أخذه دعبل فقال، ويروي لحبيب: وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السّرور لمن واساك في الحزن إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن وقال آخر: إذا ماخليلي أسا مرّةً ... وقد كان من قبلها مجملا شكرت المقدّم من فعله ... ولم يفسد الآخر الأوّلا وقال امرؤ القيس بن عانس الكندي: إني بحبلك واصلٌ حبلي ... وبريش نبلك رائشٌ نبلي وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلا بك طارقاً مثلي قال عبيد: لا ألقينّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي الخير أبقي وإن طال الزمان به ... والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد قال آخر: وإذا تكون عظيمةٌ أدعي لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب وقال آخر: إذا كنت تأتي المرء تعرف حقّه ... ويحمل منك الحقّ فالتّرك أجمل وفي البعد منجاة وفي الصرم راحةٌ ... وفي الأرض عمن لا يواتيك مرحل وقال آخر: له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لأهلها وهو الرسول قال آخر: وددتك لما كان ودّك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً مقسّماً ولن يلبث الحوض الجديد بناؤه ... على كره الورّاد أن يتهدّما وقال إبراهيم بن العباس الصولى: نعم الزمان زماني ... والشّان في إخواني ممن رماني لمّا ... رأى الزمان رماني لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان وقال أيضاً: وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وقال آخر وهو كثيّر عزّة: خير إخوانك المشالاك في المرّ ... وأين الشريك في المرّ أينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الذي إن حضرت زانك في الحيّ ... وإن غبت كان أذناً وعينا أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدّلوا كل ما يزينك شينا وإذا ما حضرت قالوا جميعاً: ... أنت من أكرم العباد علينا وقال آخر: لحا الله وصلا إن تغيبت ساعة ... فأنت وأقصى الناس فيه سواء وخلاّ إذا لم تأته بهديةٍ ... بدت لك منه غفلةٌ وجفاء وقال المثقب العبدي: تواعدني مواعد كاذبات ... تمرّ بها رياح الصيف دوني فإما أن تكون أخي بحقّ ... فيعرف منك غثّى من سميني وإلا فاطّرحني واتخذني ... عدوّا أتقيك وتتقيني فإني لو تعاندني شمالي ... عنادك ما وصلت بها يميني إذا لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوى من يجتويني وقال آخر: أفّا وتفّا لمن مودّته ... إن زلت عنه سويعةً زالت إن مالت الريح هكذا وكذا ... مال مع الريح حيثما مالت وقال صالح بن عبد القدّوس: قل الذي لست أدري من تلوّنه ... أناصحٌ أم على غشّ يداجيني إني لأكثر مما سميتني عجباً ... يد تشجّ وأخرى منك تأسوني تغتابني عند أقوامٍ وتمدحني ... في آخرين،وكلّ عنك يأتيني هذان أمران شتّى البون بينهما ... فاكفف لسانك عن ذمي وتزييني لو كنت أعلم منك الودّ هان إذاً ... عليّ بعض الذي أصبحت توليني لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني أرضي عن المرء ما أصفى مودّته ... وليس شئ من البغضاء يرضيني والله لو كرهت كفّى مصاحبتي ... لقلت إذ كرهت قربي لها بيني ثم انثنيت على الأخرى فقلت لها: ... إن تسنديني وإلا مثلها كمني لا أبتغي ودّ من يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني إنّي كذاك إذا أمر تعرّض لي ... خشيت منه على دنياي أو ديني خرجت منه وعرضني ما أدنّسه ... ولم أقم غرضاً للنّذل يرميني ربّ امرئ أجنبيّ عن ملاطفتي ... محض المودّة في البلوى يواسيني وملطفٍ بي مدارٍ ذي مكاشرة ... مغض على وغرٍ في الصدر مكنون ليس الصّديق الذي تخشى بوادره ... ولا العدو على حال بمأمون وقال آخر: لسانك معسولٌ ونفسك شحّةٌ ... ودون الثريا من صديقك مالكا وقال آخر: بنو عبسٍ أشدّ الناس بغضاً ... لنا وأشدهم بغضا إلينا فلا تقبل شهادتنا عليهم ... ولا تقبل شهادتهم علينا قال لقمان لابنه:ثلاثةٌ لا يعرفون إلاّ في ثلاثة مواطن:لا يعرف الحليم إلا عند الغضب،ولا الشجاع إلاّ عند الحرب،ولا الأخ إلا عند الحاجة. قال بعض الحكماء:الإخوان بمنزلة النار،قليلها متاع،وكثيرها بوار،فلا تسرّنّ بكثرة الإخوان إذا لم يكونوا أخياراً. قال أسماء بن خارجة:إذا قدمت المودة سمج الثناء. قال أبو العتاهية: انت ما استغنيت عن صاحبك ... الدهر أخوه فإذا أحتجت إليه ... ساعةً مجك فوه لو رأى الناس نبياً ... سائلاً ما رحموه وقال سويد منجوف: فأبلغ مصعبا عني رسولا ... وهل تجد النصيح بكل واد تعلّم أن أكثر من تناجي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي وقال آخر: لعمرك ما ودّ اللّسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودّة في القلب كان يقال:تناس مساوئ الإخوان،يدم لك ودّهم. وقال آخر: يا غارساً الكروم ... بجهله وسط السبّاخ ومحضناً بيض القطا ... تحت الحد الرجا الفراخ إن الذين تودّهم ... هم ناصبو شبك الفخاخ ذهب الزّمان بأهله ... فانظر لنفسك من تؤاخ وقال عبدة بن الطّيب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفش صداع رءوسهم أن تصرعوا فضلت عداوتهم على أحلامهم ... وأبت ضباب صدورهم ما تنزع لا تأمنوا قوماً يشبّ صبيهم ... بين الوابل بالعداوة يرضع قال لقمان لابنه:يا بني! إياك وصاحب السوء،فإنه كالسيف المسلول،يعجبك منظره،ويقبح أثره. قال المثقّب العبدي: وصاحب السّوء كالدّاء العياء إذا ... ما ارفض في الجوف يجري هاهنا وهنا ينبي ويخبر عن عورات صاحبه ... وما رأى عنده من صالحٍ دفنا كمهر سوءٍ إذا رفعّت سيرته ... رام الجماح وان أخفضته حرنا إن يحي ذاك فكن منه بمعزلةٍ ... أو مات ذاك فلا تقرب له جننا ولقعنب بن أم صاحب،وهو قعنب بن حمزه،أحد بني عبد الله بن غطفان، يهجو بني ضبة حيّ من غطفان: صمّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا فطانة فطنوها لو تكون لهم ... مروءةٌ أو تقًى لله ما فطنوا إن يسمعوا سيئاً طاروا به فرحاً ... منّي،وما سمعوا من صالحٍ دفنوا جهلا علينا وجبناً عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن فلن يراجع ودّى ودهم أبنا ... وكنت من بغضهم مثل الذي زكنوا روى عن معاذ بن جبل، وقد رفعه بعضهم، قال: إذا أحببت أخاً في الله فلا تماره ولا تساره عنه أحداً، فربما صادفت له عدوّا فأخبرك بما ليس فيه، فحال بينك وبينه. قال أبو الأسود الدؤلى: وصله ما استقام الوصل منه ... ولا تسمع به قيلاً وقالا قال محمود الوراق: لست ممن يماذق الصاحب ال ... ود إذا أظهر الجفاء الصريحا أنا أنهاه ما استطعت فإن لجّ ... أعرت الفؤاد يأسا مريحا غير أني على القطيعة لا أظ ... هر هجراً ولا أقول قبيحا باب العتاب قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أعقل الناس أعذرهم لهم. قال الأحنف: العتاب مفتاح التّقالى، والعتاب قرين الحقد. وعن الأصمعيّ قال: قال أعرابي: عاتب من ترجو رجوعه. قال بعض الحكماء: العتاب علامة الوفاء، وسلاح الأكفاء، وحاصد الجفاء. قال العتابي: ظاهر العتاب خير من مكنون الحق، وضربة الناصح خير من محبة الشّاني. قال بعض الحكماء: من كثر حقده قلّ عتابه. قال محمد بن داود: من لم يعاتب على الزلة، فليس بحافظٍ للخلّه. قال أسماء بن خارجة الإكثار من العتاب، داعية إلى الملال. قيل لبعض الأعراب: من الأديب العاقل؟ قال: الفطن المتغافل. قال بعض الأدباء: من أحب أن يسلم له صديقه، فليقبل عذره، وليقل عتابه، فإن العتاب يجرّ الملال. قال غيره: العتاب مفتاح القطيعة. قال عمرو بن بحر العتاب رائد الإنصاف وشفيع المودة، ويد للمحافظة. أنشدنا الرّياشي،وهي لهشام الرقاشي:؟ أبلغ أبا مسمع عني مغلغلةً وفي العتاب حياةٌ بين أقوام قدّمت فبلي رجالا لم يكن لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدّامي لو عدّ قبرٌ كنت أمرمهم ... قبراً وأبعدهم من منزل الذّام وقال عبيد الله بن طاهر:؟ أعاتب من يحلو بقلبي عتابه وأترك من لا أشتهينلا أعاتبه وقال آخر:؟ وليس عتاب المرء للمرء نافعاً إذا لم يكن للمرء لبّ يعاتبه وقال آخر:؟ أعلتب من أحببت في كلّ زلّةٍ ليحتمى الأمر الذي معه العتب فإني أرى التأديب عند وجوبه ... بمنزلة الغيث الذي قبله الجدب وقال على بن الجهم:؟ أعاتب ذا المودّة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب وقال آخر: لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنّم عندي كبعض الناس وقال نصر بن أحمد:؟ وتعاتب الإخوان فيما بينهم بعثٌ على الإجلال والإكرام لولا اعترافي باعترافك في الذي ... تأتي وتترك ما أتاك ملاميوهذا يشبه قول البحتري: ؟ أبا حسن ما كان عتبيك دونهم لواحدةٍ إلاّ لأنك تفهم وقال نصر بن أحمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ؟ إن كان لفظي كريها فاصطبر فعلى كره العلاج يصحّ الله أبدانا لولا العوارض ما طاب العتاب لنا ... لولا قصارتنا للثوب ما زانا إني أعاتب إخواني وهم ثقتي ... طوراً وقد تصقل الأسياف أحيانا هي الذنوب إذا ما كشفت درست ... من القلوب وإلا صرن أضغانا وقال ابن وكيع:؟ عتابي أخي في كل ذنب أتى به مخوفٌ على حال الأخوة في الودّ ولست أرى وجهاً لترك عتابه ... على ما جني إذ كان خيراً من الحقد وقال ابن بسّام:؟ عاتب أخاك إذا هفا واعطف بودّك واستعده وإذا أتاك بغيبه ... واشٍ فقل لم يعتمده من ناقش الإخوان لم ... يبد العتاب ولم يعده وقال محمد بن أبي حازم:؟ خلّ عنك العتاب إن خان ذو الودّ أو هفا عين من لا يحب وص ... لك تبدي لك الجفا وقال بشار العقلي:؟ إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تسرب مراراً على القذى ... ظمئت وأى الناس تصفو مشاربه وقال آخر:؟ البس الناس ما استطعت على النّقص وإلاّ لم تستقم لك خلّه عش وحيداً إن كنت لا تقبل العذ ... ر وإن كنت لا تجاوز زلّة وقال آخر: خذ من صديقك ما صفا ... لك لا تكن جمّ المعايب إن الكثير عتابه ال ... إخوان ليس لهم بصاحب وقال أحمد بن يوسف: رأيتك لا تميل إلى صوابٍ ... ولا ترضى الصواب من الجواب وتركك ما يريبك في كثيرٍ ... أحفّ عليك من طول العتاب ولعبيد الله بن عبد الله بن طاهر: خليليّ لو كان الزمان مساعدي ... وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري فأمّا إذا كان الزمان معاندي ... فما لكما أن تؤذياني مع الدهر وقال آخر: إن الظّنين من الإخوان يبرمه ... طول العتاب وتغنيه المعاذير وذو الصفاء إذا مسته معتبةٌ ... كانت له عظةٌ منها وتذكير وهذا قول مميّز منصف، حكم فعدل وشرح فأوضح. أنشد نفطويه: وكم من ملين لم يصب بملامةٍ ... ومتّبع بالذّنب ليس له ذنب وكم من محبّ صد من غير بغضة ... وان لم يكن في ودّ خلته عتب وقال أبو العباس الناشئ: وليست معاتبا خلاّ لأبي ... رأيت العتب يغري بالعقوق ولو أني أوقف لي صديقاً ... على ذنبٍ بقيت بلا صديق وله: إني ليهجرني الصديق تجنّباً ... فأريه أن لهجره أسبابا وأخاف إن عاتبته اغريته ... فأرى له ترك العتاب عتابا وقال آخر: عتبت علىّ ولا ذنب لي ... بما الذنب فيه بلا شك لك وحاذرت لومي فبادرتني ... إلى اللّوم من قبل أن أدّرك فكنّا كما قيل فيما مضى ... خذ اللّص من قبل أن يأخذك باب الثّقلاء والطفيليين سئل جعفر بن محمد عن المؤمن،هل يكون بغيضاً؟ قال:لا يكون بغيضاً،ولكن يكون ثقيلا. قال سفيان بن عيينة:قلت لأيوب السّختياني:لم لم تكتب عن طاووس؟ قال:أتيته فوجدته بين ثقلين،عبد الكريم بن أبي الخارق،وليث بن أبي سليم. قال الحسن البصري،في قوله عز وجل: " فإذا طعمتم فانتشروا " نقال:نزلت في الثقلاء. وقال السّري:ذكر الله تعالى الثقلاء في القرآن،في قوله: " فإذا طعمتم فانتشروا ". وقال أبو أسامة:كنا عند الأعمش،فجاء زائدة بن قدامة،فقال الأعمش حين رآه: وما الفيل تحمله ميتّاً ... بأثقل من بعض جلاّسنا كان أبو هريرة إذا استثقل رجلا،قال اللهم اغفر لنا وله،وأرحنا منه. رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه،عن أبي هريرة. كان حمّاد بن سلمة إذا رأى من يستثلقه،قال: " ربنّا اكشف عناّ العذاب إنّا مؤمنون ". وعن حمّاد بن سلمة أيضاً،أنه قال:الصوم في البستان من الثقل. كان يقال. مجالسة الثقيل حمّى الروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قيل لأبي عمرو الشيباني:لأيّ شئ يكون الثقيل أثقل على الإنسان من الحمل الثقيل؟ فقال: لأن الثقيل يقعد على القلب، والقلب لا يحتمل ما يحتمل الرأس والبدن من الثقل. كان فلاسفة الهند يقولون: النظر إلى الثقيل يورث موت الفجأة. قال ثقيل لمريض: ما تشتهي؟ قال: أشتهي ألا أراك. مرض الأعمش فعاده أبو حنيفة، فقال: يا أبا محمد! لولا أنه يثقل عليك،لعدتك كل يوم. فقال الأعمش: والله إنك على لّثقيل وأنت في بيتك، فكيف إذا عدتني؟ قال معمر: ما بقي من لذّات إلاّ ثلاثة: محادثة الإخوان، وحكّ الجرب،والوقعة في الثقلاء، وهي أفضل الثلاث. وقال عبد الرزّاق عن معمر، قال: ما بقي من لذّات الدنيا إلاّ ثلاثة:محادثة الإخوان، وأكل القديد، وحكّ الجرب. وأزيدكم واحدة: الوقيعة في الثقلاء، وأنشد: ليتني كنت ساعةً ملك المو ... ت فأفني الثّقال حتى يبيدوا قال: وسمعت معمرا يقول: رحم الله عبد الكريم أبا أمية، إن كان لثقيلا غير ثقة. قيل لأبي النضر: لم تكثر عن شعبة؟ قال: كان يستثقلني، وكنت أهلا لذالك. قال أبو هفان: مشتمل بالبغض لا تنشني ... إليه طوعاً مقلة الرّمق يظل في مجلسنا قاعداً ... أثقل من واشٍ على عاشق كان الأعمش إذا قام من مجلسه ثقيل يتمثل: إن غاب عنك ثقيل كلّ قبيلةٍ ... ممن يشوب حديثه بمراء فهناك طاب لك الحديث وإنما ... طيب الحديث بخفة الجلساء وقال آخر: إني أجالس معشراً ... نوكى أخفّهم ثقيل قوم إذا جالستم ... صدئت بقربهم العقول لا يفقهون مقالتي ... ويدقّ عنهم ما أقول وقال آخر: إذا جلس الثقيل إليك يوماً ... أتتك عقوبة من كل باب فهل لك يا ثقيل إلى خصالٍ ... تنال ببعضها كرم المآب إلى مالي فتأخذه جميعاً ... أحلّ لديك من ماء السّحاب وتنتف لحيتي وتدقّ أنفي ... وما في فيّ من ضرس وناب على ألاّ أراك ولا تراني ... مقاطعةً إلى يوم الحساب كان يقال:مجالسة الثقيل عذابٌ وبيل. قال عبد الأعلى بن مسهر: كان نقش خاتم أبي: " أبرمت فقم " فكان إذا استثقل جليسه ناوله خاتمه ليقرأنقشه. وهذا الخبر رواه أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر، قال: قال لي هشام بن يحيى:كان نقش خاتم أبيك ... فذكر الخبر. سلم ثقيل على إبراهيم بن عبد الله القارئ صاحب هارون، فقال له: يا هذا! قد والله بلغت منى غاية الأذى، أسلفنى سلام شهر وأرحنى منك. قال معمر: كنت جالساً مع سماك بن الفضل في مجلس بصنعاء، فدخل علينا صاحبٌ له ثقيل فلمّا جلس قال لي سماك: يا معمر! تعال حتى ندعو على كل ثقيل بصنعاء. قال الشاعر: أنت يا هذا ثقيل ... وثقيلٌ وثقيل أنت في المنظر إنسا ... نٌ وفي الميزان فيل وقال ابن أبي أمية: شهدت الرقاشى في مجلس ... وكان إلى بغيضاً مقيتا قال: اقترح بعض ما تشتهي ... فقلت: اقترحت عليك السكوتا فقال أبو حازم: عود نفسك الصبر الجليس والسوء، فإنه لا يكاد يخطئك. قال الهيثم بن عدّى: كنت يوماً عند مسعر بن كدام، فأتاه رقبة بن مصقلة العبدى، فقال له معسر: مالك يا ابن مصقلة؟ قال: صريع فالوذج. قال: وأين؟ قال: عند من قضى أبوه في الجماعة، وحكمّ في الفرقة. دعانا الوليد بن الحارث بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأتينا بخوان كجوبة من الأرض، وأتينا برقاق كأذان الفيلة، وجرجبرٍ كآذان المعزي، ثم أتينا بساكبة الماء كأن ظهرها ظهر طائرٍ قيراطيّ، ثم أتينا بفالوذج عديد، كأنّ الزئبق والجادى ينبعان من خلاله، يرى نقش الدرهم من تحته، فوضع على رأس حبّ فنحن على لذة من هذا وعلى يقين من ذلك. فقال له مسعر: أراك طفيفاً. فقال: يا أبا محمد! كل من ترى طفيلي إلا أنهم يتكاتمون، فو الله ما برحنا حتى طلع علينا الحارث من بعض أبواب المسجد يخطر بيديه، فقال رقبة: انظروا إلى هذا وكيف يمشى؟! لو كان أبوه جدع أنف عمرو بن العاص مازاد على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال له مسعر: أجل، قد مضى إلى لعنة الله وسقره. وقال حبيب بن أوس: يا من تبرمت الدّنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهد يمشى على الأرض مختالاً فأحسبه ... لبعض طلعته يمشى على كبدى وقال آخر: لخرط قتادة ولحمل فيل ... وماء البحر يغرف في زبيل وفك الماضغين وقلع ضرسٍ ... لأهون من مجالسة الثقيل ولأبي الحسن على بن العبّاس الرّومى: ولى أصدقاءٌ كثيرو السّلام ... علىّ وما فيهم نافع إذا أنا أدلجت في حاجة ... لها مطلبٌ نازخٌ شاسعٌ فلى أبداً معهمٌ وقفةٌ ... وتسليمةٌ وقتها ضائعٌ وفي موقف المرء عن حاجة ... يتممها شاغلٌ قاطع ترى كلّ غثٍّ كثير الفضول ... ومصحفه مصحفٌ جامع يقول الضمير إذا ما بدا: ... ألا قبّح الرجل الطالع يحدثنى من أحاديثه ... بمالا يلد به السامع أحاديث هن ّمثال الضريع ... فآكله أداً جائع غدوت وفي الوقت لى فسحةٌ ... فضاق بي المنهل الواسع تقدمت فاعتاقنى أسرة ... إلى أن تقدمنى التابع وقالت بلقيانه حاجتي: ... ألاهكذا النكد البارع أولئك لاحيهّم مؤنسٌ ... صديقاً ولا ميتهم فاجع دق طفيليٌّ دار قوم فيها طعامٌ،فقيل:من هذا؟ فقال:أنا الذي كفاكم مؤونة الرّسول. لطفيليّ: نحن قومٌ إذا دعينا أحببنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل فنقل:علّنا دعينا فغبنا ... أو أتانافلم يجدنا الرّسول دخل طفيليٌّ دار قوم بغير إذن،فاشتد عليه صاحب الدار في القول،فأغلظ له الطفيلي في الجواب،وقال:والله لئن قمت لأدخلنّك من حيث خرجت. فقال له صاحب المنزل:أما أنا فأخرجك من حيث دخلت. وأخذ بيده فأخرجه. قيل لبعض الطفيليين:كم اثنين في اثنين؟ قالكأربعة أرغفة. قال مطرّف بن مازن،قاضي اليمن: قال لي الرشيد يوماً: من عبد الرزاق ابن همام الصنعاني؟ فقلت: رجل من أهل الحديث، سليم الحديث ثقة. فقال: إن صاحب خبرنا في اليمن كتب يذكر أنه كتب ثقلاء اليمن. فقلت: صدق يا أمير المؤمنين فكتبني فيهم. قال: ولم كتبك فيهم؟ إنك لحسن الحديث خفيف المجلس، فما أستثقل منك؟ قلت: عظم قلنسوتي، وطول عنقي بغلتي. فضحك هرون، فما خرجت من عنده حتى أمر لي بكسوة وحملان. ولطفيلي: كل يومٍ أدور في عرصة الحي ... أشم القتار شم الذباب فإذا ما رأيت نار عروسٍ ... أو ختاناً أو دعوةً لصحاب لم أعرج دون التقحم لا أره ... ب شتماً ووكزة البواب مستخفا بمن دخلت عليهم ... غير مستأذنٍ ولا هياب فتراني ألف بالرغم منهم ... كلَّ ما قدموا كلفِّ العقاب ذاك أهنا من الغر ... م وغيظ البقال والقصاب كان يقال: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها، والمتآمر على ربّ البيت ... وقد ذكرنا الحكاية بتمامها في جامع النوادرمن هذا الكتاب. باب الشماتة قال الله عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام: " فلا تشمت بي الأعداء،ولا تجعلني مع القوم الظالمين ". وقيل لأيوب عليه السلام: أي شيء من بلائك كان أشد عليك؟ شماتة الأعداء. قال ابن الكلبي: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، شمتت به نساء كندة وحضرموت، وخضبن أيديهن، وأظهرن السرور لموته، وضربن بالدفوف، فقال شاعر منهم: أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أن البغايا رمن شرَّ مرام أظهرن من موت النبي شماتة ... وخضبن أيديهن بالعنام فاقطع هديت أكفهن بصارمٍ ... كالبرق أو مض في متون غمام قال النبي عليه السلام: " لا تظهر الشماتة لأخيك، فيعافيه الله ويبتليك " من منتقى الدعاء: اللهم اجعل رزقي رغدا، ولا تشمت بي أحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البلاء، ومن شماتة الأعداء ". قال عدي بن زيد العبادي: أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهلٌ مغرور من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من ألاَّ يضام خفير وقال أبو ذؤيب: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت أشهب بن عبد العزيز يدعو على محمد ابن إدريس الشافعي بالموت، أظنه قال في سجوده، فذكرت ذلك للشافعي رحمه الله، فتثمل: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد فقل للذي يبغى خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد قال محمد: فمات الشافعي رحمه الله، واشترى أشهب من تركته مملوكاً، ثم مات أشهب بعده بنحو من شهر، أو قال: خمسة عشر يوماً أو ثمانية عشريوماً، واشتريت أنا ذلك المملوك من تركة أشهب، والبيتان الذي تمثل بهماالشافعي لطرفة. قال مهلهل: كأن الشامتين بقبر جدي ... على ملك الخورنق والسدير كأن رماحنا فينا وفيهم ... إذا ما أشرعت أشطان بير وقال العلاء بن قرظة، خال الفرزدق: إذا ما الدهر جرَّ على أناسٍ ... حوادثه أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا وقال نصيب: أتصر منى عند الألى هم لنا العدا ... فتشمتهم بي أم تدوم على العهد وقال عدىّ بن زيد، وتمثل به معاوية عند موته: فهل من خالدإما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار عبد الله بن أبي عيينة: كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحساد وقال منصور الفقيه: يا من يسر بموتي ... إذا أتاه البشير إن البشير بموتي ... فلا تسر نذير واسمع فما أنت ممن ... تخفى عليه الأمور أليس من كان مثلي ... إلى مصيري يصير وله: أيها المظهر الشما ... تة إن مت قبله عن قليلٍ يصير مث ... لي من كنت مثله وله: يا شامتين بمصرعي ... اليوم لي ولكم غد وله: يا شامتاً بي إن هلكت ... لكل حيٍ مدى ووقت وللمنايا وإن تراخت ... في السير يا ذا الشمات بغت وأنت في قبضة الليالي ... تخاف منها الذي أمنت والكأس ملأى فعن قريبٍ ... تشرب منها كما شربت وقال أيضاً: ما بين يوم المهنيات ... وبين يوم المعزيات وإن توهمته طويلا ... إلا كما بين ها وهات ومما ينسب لابن المبارك وليست له وإنما هي للمبارك الطبري: لولا شماتة أعداء ذوي حسدٍ ... أو اغتمام صديق كان يرجوني لما طلبت من الدنيا مراتبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني وقال آخر: فمن يك عني سائلا لشماتةٍ ... بما نالني أو شامتاً غير سائل فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرةٍ ... صبوراً على ضراء تلك الزلازل إذا سرّ لم يفرح وليس لنكبةٍ ... إذا نزلت بالخاشع المتضائل لأعرابي وقد أغير على إبله: الا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن باب مؤاخاة من ليس على دينك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله، فلينظر امرؤ من يخالل ". وهذا معناه والله أعلم أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه، والدين العادة، فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحلّ ويجمل، فإن الخير عادة. وفي معنى هذا الحديث قول عديّ بن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقول أبي العتاهية: من ذا الذي يخفى علي ... ك إذا نظرت إلى خدينه وهذا كثير جداً، والمعنى في ذلك: ألا يخالط الإنسان من يحمله على غير ما يحمد من الأفعال والمذاهب، وأما من يومن منه ذلك فلا حرج في صحبته. قال ابن عباس: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه مقاله. قال الله عز وجل: " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها " وجاء في التفسير: أحسن منها لأهل الإسلام، أو ردوها لأهل الذمة. وقيل لسعيد بن جبير: المجوسي يوليني خيراً فأشكره؟ قال: نعم. قيل: فإن سلم علي أفأرد عليه؟ قال: نعم. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في أهل الذمة: " لا تبدءوهم بالسلام،وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " فقد قال بذلك طائفة من أهل العلم منهم مالك بن أنس رحمه الله. روى بشير بن عمر الزهراني، عن مالك، أنه كان يكره السلام على أهل الذمة كلهم. قال بشير: فقلت: أترى أن يبدءوا بالسلام؟ قال: معاذ الله أما سمعت قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوَّي وعدوكم أولياء ". وقال مالك: أكره مؤاكلة أهل الذمة، لأن المؤاملة توجب المودة. وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، أنهم كانوا يبدءون بالسلام كل من لقوه من مسلم أو ذمى. فالمعنى في ذلك، والله أعلم، أنه ليس بواجب أن يبدأ المسلم المار القاعد الذمىَّ، والراكب المسلم الذمى الماشي، كما يجب ذلك بالسنة على من كان على دينه، فإن فعل فلا حرج عليه. فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: " ليس عليكم أن تبدءوهم بالسلام " بديل ما روى الوليد بن مسلم عن عروة بن رويم، قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم وذمىّ، ويقول: هي تحيةٌ لأهل ملتنا، وأمان لأهل ذمتنا، واسم من أسماء الله نفشيه بيننا. ومحال أن يخالف أبو أمامة السنة، لو صحت في ذلك. بل المعنى على تأويلنا والله أعلم، وعلى هذا يصح تخريج هذه الأخبار ووجوهها. ذكر ابن أبي شبيب، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد الألهاني، وشرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة، أنه كان لا يمر بمسلمٍ ولا يهودي ولا بصراني إلا بدأه بالسلام. وروي عن ابن مسعود وأبي الدراء، وفضاله بن عبيد، أنهم كانوا يبدءون أهل الذمة بالسلام. وقال ابن مسعود: إن من التواضع أن تبدأ بالسلام كلَّ من لقيت. وعن ابن عباس، أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: السلام عليك. وسئل عبد الله بن وهب، صاحب مالك، عن غيبة النصراني، فقال: أو ليس من الناس؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله عز وجل يقول: " وقولوا للناس حسناً ". وقيل لمحمد بن كعب القرظي: إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ترد عليهم ولا تبدؤهم. فقال محمد بن كعب: أما أنا فلا أرى بأساً أن تبدأهم بالسلام، قيل له: لم؟ فقال: لقوله عز وجل: " فاصفح عنهم وقل سلام ". ومن حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ". وذهب جماعة من العلماء إلى مثل ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز في ذلك. وروى ابن المبارك عن شريك عن أبي إسحاق، قال: كان يقال: من الحمق أن تؤاكل غير أهل دينك. قال أبو الطمحان الأسدي: كأن لم يكن بالقصر قصر مقاتل ... وزورة ظلٌ ناعمٌ وصديق وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق ولبعضهم في مجوسي ساق عنه صداق امرأته، وهو الأقيشر الأسدي: شهدت عليك بطيب المشاش ... وأنك حرٌ جوادٌ خضم وأنك سيِّد أهل الجحيم ... إذا ما ترديت فيمن ظلم كفاني المجوسي مهر الرباب ... فدى للمجوسي خالٌ وعم روى إسماعيل بن إسحاق، قال: سمعت ابن أبي أويس، يقول: سئل مالك، أترى بأساً إذا أهدى اليهودي أو النصراني للمسلم أن يكافئه، فقال: معاذ الله وما للمسلم أن يقبل هديته حتى يكافئه. وقال آخر: وجدنا في اليهود رجال صدقٍ ... على ما كان من دينٍ يريب خليلان اكتسبتهما وإني ... لخلة ماجدٍ أبداً كسوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 للمريمي الشاعر، وهو القاسم بن يحيى، من ولد أبي مريم السلمى صاحب النبي عليه السلام، يخاطب أبا يعقوب إسحاق بن نصر الكاتب العبادي عند إسلام الوليد ابن أخيه، وكان إسحاق هذا كاتب أبي الجيش بن طولون صاحب مصر: تعزَّ فإنَّ الحرَّ لا بدَّ يخلق ... وكل امرئ للخير والشرِّ يخلق وما فرج الأيام إلا مواهبٌ ... فمن بين محرومٍ وآخر يرزق وما الحزم إلا أن ينزه نفسه ... فتىً كاد في بحرٍ من الهمِّ يغرق إذا لم يكن في ردِّ ما فات حيلة ... فإن الفتى بالصبر أحرى وأخلق أتاني غمٌ من سرورٍ سمعته ... فلا أنا مأسورٌ ولا أنا مطلق سررت بإسلام الوليد ديانةً ... وأقلقني علمي بأنك مقلق فقلبي به شطران جذلان واحدٌ ... وآخر محزونٌ من أجلك محرق أنار لكم فينا وأشرق كوكبٌ ... لنا مثله فيكم ينير ويشرق فكم راعنا من مسلمٍ متنصرٍ ... فهذا بهذا والسعيد الموفق لزيبا النصراني وكان يتشيع: عدىٌّ وتيم لا أحاول ذكركم ... بسوءٍ ولكني محبٌ لهاشم وما تعتريني في عليٍّ ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم فقلت لهم: إني لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم وله أيضاً: على أمير المؤمنين خليفةٌ ... وما لسواه في الخلافة مطمع فلو كنت أبغى ملة غير ملتي ... لماكنت إلا مسلما أشيع باب الولد والوالد قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أب يا رسول الله؟ قال: " أمك قال: ثم من يا رسول الله؟ قال: أمك: ثم من؟ قال: أباك ثم أدناك " ومنهم من يرويه: أمك ثلاث مرات، والأول أثبت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: " الصلاة لوقتها وبر الوالدين ". وقال صلى الله عليه وسلم: " البر والصلة وحسن الجوار، عمارة الديار وزيادة في الأعمار ". وقال الحسن: البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به، ما لم تكن معصية الله،والعقوق هجرانهما،وأن تحرمهما خيرك. قال عروة في قوله تعالى: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ". هو ألا يمنعهما من شيء أراده قال يزيد بن أبي حبيب: كان العلماء يقولون: حق الأم أعظم من حق الأب،ولكل حق. رأى ابن عمر رجلا يطوف بالبيت حاملا أمه، وهو يقول لها: أتريني جزيتك يا أمه؟ فقال ابن عمر: ولا طلقة واحدة، أو قال: ولا زفرة واحدة. وروى في الخبر المرفوع: " ما بر أباه من سدّد النظر إليه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن يصل أباه بعد موته، فليصل إخوان أبيه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " الود يتوارث، والبغض يتوارث ". وقال عليه السلام: " ثلاثٌ يطفئن نور العبد: أن يقطع ودّ أهل بيته، ويبدّل سنّة صالحة، ويرمي بصره في الحجرات ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة عاقّ، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مدمن سحر، ولا قتات ". للربيع بن ضبع: ألا أبلغ بنيِّ بني ربيع ... فأشرار البنين لكم فداء بأني قد كبرت ورقَّ جلدي ... فلا تشغلكم عنيِّ النِّساء إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهرمه الشتاء وأما حين يذهب كل قُرٍ ... فسربالٌ خفيف أو رداء إذا بلغ الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب البشاشة والفتاء وسئل ابن عباس، عن رجل قتل امرأته وما توبته؟ قال: إن كان له أبوان فليبرهما ماداما حيين، فلعل الله أن يتجاوز عنه. وقد جاء عنه مثل ذلك في المرأة التي تعلمت السحر ثم جاءته تطلب التوبة. قال مكحول: بر الوالدين كفارة للكبائر. قال محمد بن المنكدر: بت أغمز رجل أمّي، وبات عمي يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي. قال الشاعر في ابنه: يود الردى لي من سفاهة رأيه ... ولو متّ بانت للعدوّ مقاتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 إذا ما رآني مقبلاً غضّ طرفه ... كأن شعاع الشمس دوني يقابله ومثله: إذا أبصرتني أعرضت عنّي ... كأن الشمس من قبلي تدور ولعبد الله بن بكر السهمي: خالل خليل أخيك وارع إخاءه ... وعلم بأن أخا أخيك أخوكا وبنيك ثم بني بنيك فكن لهم ... براً فإنّ بني بنيك بنوكا والطف بجدك رحمةً وتعطفاً ... واعلم بأن أبا أبيك أبوكا روي عن ابن عباس أنه قال: إنما ردَّ الله عقوبة سليمان بن داود عن الهدهد لبره كان بأمه. رأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل، فقال: من هذا؟ فقال: أبي. قال: لا تدعه باسمه ولا تجلس قبله، ولا تمش أمامه. مكتوب في كتب الله عز وجل: لا تقطع ما كان أبوك يصله فيطفأ نورك قال كعب: مكتوبٌ في التوراة، اتق ربك، وبرّ والديك، وصل رحمك، يمدّ لك في عمرك، وييسِّر لك يسرك، ويصرف عنك عسرك. والآثار في بر الوالدين كثيرة جداً، وقد نص الله في كتابه من خفض الجناح لهما، والحضّ على برهما ما يكفي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد الصالح من ريحان الجنة ". ونظر يوماً إلى الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، فقال: " إنكم لتجبنون وتبخلون، وإنكم لمن ريحان الجنة ". دخل عمرو بن العاص على معاوية، وعنده بنت له، فقال: ابعدها عنك ياأمير المؤمنين، فوالله ما علمت إلا أنهن يلدن الأعداء، ويقربن البعداء، ويورئن الضغائن. قال معاوية: لا تقل هذا ياعمر، فو الله ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعولّ على الأحزان مثلهن، ولربّ ابن أخت قد نفع خاله. قال محمد بن سليمان: البنون نعمٌ، والبنات حسنات، والله عز وجل يحاسب على النعم، ويجازي على الحسنات. قال منصور الفقيه: لولا بناتي وسيّآتي ... لذبت شوقاً إلى الملمات لأنني في جوار قومٍ ... نغّصني قربهم حياتي وله أيضاً: أحبّ البنات،فحبّ البنات ... فرضٌ على كلّ نفسٍ كريمه لأن شعيباً لأجل البنات ... أخدمه الله موسى كليمه وقال آخر: لقد زاد الحياة إلىّ حبّاً ... بناتي إنّهن من الضعاف مخافة أن ين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف ولأبي محمد الحسن بن عبيدة الريحاني: حبذا من نعمة الل ... هـ البنات الصالحات هن للنسل وللأ ... نس وهن الشجرات وبإحسانٍ إليهنّ تكون البركات إنّما الأهلون أرضو ... ن لنا محترثات ٍفعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النّبات كان لأبي حمزة الأعرابيّ زوجتان فولدت إحداهما ابنة،فعزّ عليه،واجتنبها وصار في بيت ضرتها إلى جنبها فأحست به يوماً في بيت صاحبتها،فجعلت ترقّص ابنتها الطفلة وتقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظلّ في البيت الذي يلينا غضبان ألاّ نلد البنينا ... تا الله ما ذلك في أيدينا بل نحن كالأرض لزارعينا ... يلبث ما قد زرعوه فينا وإنما نأخذ ما أعطينا فعرف أبو حمزة قبح ما فعل، وراجع امراته. قال منصور الفقيه: لولا البنات والذنوب لم أكن ... يروعني ذكر الحنوط والكفن وقال آخر: لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم وزادني رغبةً في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرّحم أحاذر الفقر أن يلمم بساحتها ... فيهتك الستر من لحمٍ على وضم أخشى إضاعة عمٍ أو جفاء أخٍ ... وكنت أحنو عليها من أذى الكلم ما أنس لا أنس منها إذ تودّعني ... والدمع يجري على الخدّين ذا سجم لا تبرحن فإن متنا فإنّ لنا ... ربّاً تكفل بالأرزاق والقسم تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم وقال آخر: أحب بنيّتي ووددت أنّي ... سترت بنّيتي في قعر لحد وما إن ذاك من بغض ولكن ... مخافة أن تذوق البؤس بعدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 رأى ابن عباس رجلا ومعه ابنٌ له، فقال: أما إنّه لو عاش فتنك، ولو مات أحزنك. قال محمد بن علىٌّ بن حسن لابنه جعفر: يابنيّ! إن الله رضيني لك وحذّرني منك، ولم يرضك لي فأوصاك بي، يا بنيّ! إن خير الأبناء من لم يدعه البر إلى الإفراط،ولم يدعه التقصير إلى العقوق. كان يقال: الولد ريحانتك سبعاً، وخادمك سبعاً، وهو بعد ذلك صديقك أو عدوّك أو شريكك. سأل معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس عن الولد،فقال: يا أميرالمؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول عند كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحبّوك جهدهم، ولا تكن عليهم قفلا فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك. فقال له معاوية: لله أنت! لقد دخلت علىّ وإني لمملوء غيظا على يزيد ولقد أصلحت من قلبي له ما كان فسد. فلما خرج الأحنف من عند معاوية بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم، فبعث يزيد إلى الأحنف بنصفها. قال علىّ بن أبي طالب:ينبغي لأحدكم أن يتخيّر لولده إذا ولد الاسم الحسن. وفي الخبر المرفوع: من نعمة الله عز وجل على الرجل أن يشبهه ولده. قال عمر بن الخطاب: عجّلوا بكني أولادكم لا تسرع إليهم الألقاب السّود. قال أبو جعفر محمد بن علي: بادروا بالكني قبل الألقاب. قال: وإنا لنكني أولادنا في الصغر مخافة اللقب أن يلحق بهم. قال قتادة: رب جاريةً خير من غلام، ورب غلام قد هلك أهله على يديه. روى عن النبي صلى عليه وسلم،أنه قال: " ما نحل والد ولده خيراً من أدب حسن ". وروى عنه صلى الله عليه وسلم،أنه قال: " من عال ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات أو ابنتين أو أختين كنّ له حجاباً من النار، فإن صبر عليهن حتى يزوّجهن دخل الجنة. كان يقال: من بلغت ابنته النكاح فلم يزوجها فزنت فعليه مثل إثمها، وإثمها عليه وكما لا يصبحّ الجسد بلا رأس ... لا تصلح المرأة بغير زوج. كان عقيل بن علّفة غيوراً،فحمل يوماً ابنةً له وأنشأ يقول: إنّي وإن سيق إلىّ المهر ... ألفٌ وعبدان وذودٌ عشر أحبّ أصهاري إلىّ القبر قال عبد العزيز بن مروان لسعيد بن العاص:كيف حبّك لبناتك؟ قال:إني لأحبهن،على أنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء،وهن عددٌ ولسن بولد. كتب عمر بن الخطاب إلى أهل الأمصار:علّموا أولادكم العوم والفروسيّة،ورووهم ما سار،من المثل، وما حسن من الشعر. كان يقال: من تمام ما يجب للأبناء على الآباء، تعليم الكتابة والسباحة. قال الحجّاج لمعلّم ولده:علّم ولدي السباحة قبل أن تعلمهم الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم. قال الشاعر: خير ما ورّث الرجال بنيهم ... أدبٌ صالح وحسن الثناء ذاك خيرٌ من الدنانير والأو ... راق يوم شدةٍ أو رخاء وهي أبيات كثيرة قد ذكرناها وذكرنا الاختلاف في قائلها في باب التعليم في الصغر،من كتاب العلم. وفي ذلك الباب كثير من معاني هذا الباب،والله الموفق للصواب. قال أعرابي،وهو حطّان بن المعلي: أبكاني الدهر ويا ربّما ... أضحكني الدّهر بما يرضي أنزلني الدّهر على حكمه ... من شاهق عالٍ إلى خفض وابتزّني الدهر ثياب الغني ... فليس لي ثوبٌ سوى عرضي لولا بنيّات كزغب القطا ... ينهضن من بعض إلى بعض إن هبّت الريح على بعضهم ... لم تطعم العين من الغمض لكان لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعرض وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشى على الأرض كان الزبير بن العوام يرقص ابنه عروة ويقول: أبيض من آل أبي عتيق ... مباركٌ من ولد الصّديق ألذّه كما ألذّ ريقي قالوا:من كان له صبّي فليستصب له. كانت أعرابية ترقّص ابنها،أو بعض الأعراب يرقص ابنه ويقول: أحبّه حبّ شحيحٍ ماله ... قد ذاق طعم الفقر ثم ناله إذا أراد بذله بداله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قال محمد بن يحيى النديم:أول شعر قاله عليّ بن الجهم وهو غلام في المكتب،وذلك أن أباه أمر المؤدّب أن يجلسه يوم الخميس عنده في المكتب حتى يحفظ حزبه،فحبسه فكتب إلى أمه: أمّي جعلت فداك من أمّ ... أشكو إليك فظاظة الجهم قد سرّح الصبيان كلّهم ... وحسبت بالعدوان والظّلم قال الزيادي:كنت رجلا مئناثاً،فقيل لي:أكثر من الاستغفار وقت الجماع،واستغفر الله عند الجماع،فف علت فولد لي بضعة عشر ولداً ذكراً. قال الشاعر: وما كل مئناث سيشقى ببنته ... وما كلّ مذكار بنوه سرور ومن هذا المعنى ذكرٌ في باب النساء. قال أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي:ما سمعت بكار بن قتيبة القلضي قط ينشد بيت شعر إلاّ مرة،كنت عنده وأختصم إليه رجل وابنه،فكان من كل واحد منهما إلى صاحبه ما لم يحمد بكار،فالتفت إليهما وأنا أسمع. فقال: تعاطتيما ثوب العقوق كلا كما ... أب غير بر وابنه غير واصل كان لعبد الملك بن مروان بيت ملٍ كان قد حجزه من خالص غلاته وضياعه،لا يدخله شئ من الغلول،يعدّه للتزويج وشراء الجواري اللواتي يطلب أولادهن،وكان يقول:إنّ الغلول يبقى في الولد. قال أعرابي لأبيه وهو عمر بن ذّر الهمداني يعاتبه:يا أبت! إن عظيم حقك علىّ لا يذهب صغير حقيّ عليك،والذي تمتّ به إلىّ أمت بمثله إليك،ولست أزعم أنا سواء ولكني أقول لا يحل الاعتداء. قيل لأعرابي،وكان له ابن عاقّ:كيف ابنك؟ قال:عذابٌ أزغف علىّ به الدهر،فليتني قد أودعته القبر،فإنه بلاء لا يقاومه الصبر،وفائدة لا يلزم عليها الشكر. دخل إلى جعفر بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي أعرابي،فسأله جعفر عن بنيه فقال: إنّ بنّي خيرهم كالكلب ... أبرّهم أولعهم بسبّي لم يغن عنهم أدبي وضربي ... فليتني كنت عقيم الصّلب ولبعض العقلاء البررة الأدباء: بنفسي أنت لا بأبي فإني ... رأيت الجود بالآباء لؤما كان يقال:من فوائد الدهر موت الابن العاقّ. قال أمية بن أبي الصلت،وهو قد عتب على ابنه: غذوتك مولوداً وغلتك يافعا ... تعلّ بما أسعى عليك وتنهل إذا ليلةٌ جاءتك بالشكو لم أكن ... بشكواك إلاّ ساهراً أتملتل كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني عيني تهمل تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقتٌ مؤجل فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت قبل أؤمل جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... كما يفعل الجار المجاور تفعل ورضى أبو الشغب العبسي عن أبنه فقال: رأيت رباطا حين تمّ شبابه ... وولىّ شبابي ليس في برّه عتب إذا كان أولاد الرجال حزازةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانب ... إذا رامه الأعداء ممتنعٌ صعب يخبرني عما سألت بهيّنٍ ... من القول لا جافي الكلام ولا لغب وقال آخر: فلو كنتم لكيّسة أكاست ... وكيس الأمّ أكيس البنينا باب الأقارب والموالى قال رجلٌ لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم. " يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال معك من الله ظهيرٌ ما كنت على ذالك ". قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " ما من ذنبٍ أجدر بأن تجّعل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم ". ويروي عنه صلى الله عليه وسلم: " حقّ كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده ". وقال أبو الدرداء:مكتوب في التوراة: إن أحسد الناس لعالمٍ وأبغاهم عليه، قرابته وجيرانه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مولى القوم منهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قال ابن عباس: قد تقطع الرحمّ، وقد تكفر النعمى، ولا شئ كتقارب القلوب. وفي رواية أخرى عنه، تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب، وإذا قارب بين القلوب لم يزحزها شئٌ أبداً، ثم تلا: " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم ". كان يقال: لا تؤدى حقّ الرحم إلا بأن تصل من أدلى بها إذا قطعك، وتعطيه إذا حرمك. قال الشاعر: وجدت قريب الودّ خيراً وإن نأى ... من الأبعد بعدّ الود القريب المناسب ورب أخ لم يدنه منك ولدٌ ... أبرٌ من ابن الأم عن النوائب ورب بعيد حاضرٍ لك نفعه ... وربّ قريبٍ شاهدٍ مثل غائب ولمنصور الفقيه: مناسبك الأدنى أشدّ عداوةً ... وكفراً لما أوليته من عداتكا يقول الذي بيني وبينك موجبٌ ... عليك لعمري أثرتي بحياتكا وما خير من يمسي ويصبح ساخطا ... على الله في تأخيره لمماتكا وقال آخر: أشدّ عداوةً وأفلّ نفعاً ... من الرجل البعيد الأقربونا وقال آخر: ولا خير في قربي لغيرك نفعها ... ولا في صديق لا تزال تعاتبه يخونك ذو القربى مراراً وربمّا ... وفي لك عند الجهد من لا تناسبه قالت الأعرابي:ابن عمك عدوك وعدو عدوك. قال الفضل بن العباس اللهبي في بني امية: مهلا بني عمنا عن نحت أثلتنا ... سيروا قليلاً كما كنتم تسيرونا لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا مهلا بني عمنا مهلاً موالينا ... لاتنشروا بيننا ما كان مدفونا الله يعلم أنّا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا كل يداجى على البغضاء صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا قال مضرّس بن لقيط الفقعسى: فقدت موالى الذين كأنهم ... دماميل في وجهى على تنخس ولما قتل الحسين بن علىّ، قالت بنت عقيل بن أبي طالب: ماذا تقول إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلى عند منطلقى ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمى لسويد الحارثي أو غيره: بني عمنا لا تذكروا الشّعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغميم القوافيا فلسنا كما كنتم تصيبون مثله ... فيقبل عقلاً أو يحكم قاضيا ولكن حكم السيف فيكم مسلطٌ ... فنرضى إذا ما السيف أصبح راضيا فإن قلتم إنا ظلمنا فإنكم ... بدائم ولكنا أسأنا التّقاضيا وقال الأضبط بن قريع: فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأوقص لبقريب إن قطعه قال قيس بن زهير: شفيت النفس من حمل بن بدرٍ ... وسيفي من حذيفة قد شفاني قتلت إخوتي سادات قومي ... وقد كانوا لنا حلى الزمان فإن أك قد شفيت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناتي قال ذو الإصبع العدواني: ولى ابن عمّ على ما كان من خلقٍ ... مخالف لى أقليه ويقلني أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني الله يعلمني والله يعلمكم ... والله يجزيكم عني ويجزيني ماذا علىّ وإن كنتم ذوي رحمٍ ... ألا أحبكم إذ لم تحبؤني قال الأعشى: وإنّ القريب من يقرّب نفسه ... لعمر أبيك الخير لا من تنسّبا وقال آخر: وإنّي للبّاس على المقت والقلى ... بني العمّ منهم كاشحٌ وحسود أذبّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالنعمى لهم وأعود قال ابن العميد: آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب إن الأقارب كالعقا ... رب أو أشدّ من العقارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 كان عبد الله بن العباس صديقاً لعمر بن عبد الرحمن بن عوف فليقه يوماً مغتاظاً. فقال له: مالك؟ قال: لقيني فلان - لرجل من أهله - فشتمني وآذاني. فقال له: هوّن عليك فما من ضارٍ على طريدةٍ بأسرع إليها من ابن عم دنٍّي إلىابن عمسرىّ، فهوّن عليك. من شعر طرفة، ويروي في شعر عدي بن زيد: وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً ... على المرء من وقع الحسام المهنّد وقال أبو فراس الحمداني: وهل أنا مسرور بقرب أقاربي ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد قال العتابي: عشيرتك من أحسن عشرتك، وابن عمك من عمك خيره،وقرابتك من قرب منك نفعه، وأحب الناس إليك أخفّهم ثقلا عليك. وقال: إني بلوت الناس في أحوالهم ... وخبرت ما وصفوا من الأسباب فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب وقال آخر: كم من أخ لك لم يلده أبوكا ... وأخٍ أبوه أبوك قد يجفوكا وهذا مأخوذ والله أعلم من قول أكثم بن صيفي: رب أخ لم تجمعه معك ولادة. قال آخر: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي وقال أبو الأسود الدؤلي: إذا المرء ذو القربى وذو الود أجحفت ... به سنةٌ حلت مصيبته حقدي قال آخر: سآخذ منكم آل حزن لحوشبٍ ... وإن كان مولائي وكنتمبني أبي فإن كنت لا أرمى وترمى عشيرتي ... نصب جائحات النبل كشجى ومنكبي وقال آخر: فلم أر عز المرء إلا عشيرة ... ولم أر ذلاَّ مثل نأيٍ عن الأهل وقال آخر: أخاف كلاب الأبعدين ونبحها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب وقال المقنع الكندي، واسمه محمد بن عمير بن أبي شمر الكندي، وكان من أجمل أهل زمانه وأحسنهم وجها،وأتمهم قامة، فكان إذا كشف وجهه يؤذى،فكان يتقنع دهره، فسمي لذلك: المقنع. وشعره هذا من أحسن ما قيل في معناه جزالة ونقاوة وسباطة وحلاوة: يعاتني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... حقوق ثغورٍ ما أطاقوا لها سداّ ولي جفنةٌ لا يغلق الباب دونها ... مكللةٌ لحماً مدفقةٌ ثردا ولي فرسٌ نهدٌ عتيقٌ جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أحدمته عبدا وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلفٌ جداً إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيَّي هويت لهم رشداً وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم ... دعوني إلى نصرٍ أتيتهم شدا وإن زجروا طيري بنحس يمر بي ... زجرت لهم طيراً يمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جل مالي أن تتابع لي غنى ... وإن قلت مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضيف مادام نازلا ... وما شيمةٌ لي غيرها تشبه العبدا وقال طرفة: وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل وقال عوف التميمي: ولست لقومي بعيابةٍ ... وشر العشيرة من عابها أعف وابذل مالي لها ... ولا أتعلم ألقابها وقال أبو الطمحان القيني: إذا كان في صدر ابن عمك إحنةٌ ... فلا تستثرها سوف يبدو دفينها قال آخر: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وان ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح قال الثقفي: من كان ذا عضد يدركظلامته ... إن الذليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قلَّ ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد وقال أشجع السلمى: نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال محمد بن أبي حازم الباهلي: رب غريبٍ ناصح الجيب ... وابن أبٍ متهم الغيب ورب عيابٍ له منظرٌ ... مشتمل الثوب على العيب قال محمد بن أبان اللاحقي يخاطب أخاه إسماعيل: تلوم على القطيعة من أتاها ... وأنت سننتها للناس قبلي واللاحقي هو القائل: إخفض الصوت إن نطقت بليلٍ ... والتفت بالنهار قبل الكلام وفي معنى قول اللاحقي في البيت الأول قول الهذلي: فلا تفزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سنةً من يسيرها باب المملوك والمالك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الجنة سيء المملكة ". كان يقال: التسلط على المملوك دناءة. وقال بعض الحكماء: اذكر عند قدرتك وغضبك قدرة الله عليك، وعند حكمك حكم الله فيك. كان يقال: أنعم الناس عيشاً من حسن عيش غيره في عيشه. كان يقال: اللإحسان إلى الخادم يشجي العدو، ويذهب البؤس، والكسوة تظهر الغنى. قال عمر بن الخطاب: أكثروا شراء الرقيق، فرب عبد يكون أكثر رزقاً من سيده. اشترى عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي عبد بني الحسحاس واسمه سحيمٌ، وكان حبشياً سمحاً شاعراً، وكتب إلى عثمان بن عفان: إني قد اشتريت لك غلاماً حبشياً شاعراً فكتب إليه عثمان: لا حاجة لي به، فإنما حظ أهل العبد الشاعر إذا شبع أن يشبِب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم. قال لقمان لابنه: يا بني إياك وخدمة العين. قال: وما خدمة العين؟ قال: ألا يكون لك عبد لا يخدمك إلا حيث يراك. باع أعرابي غلاماً له من قومٍ من أهل البصرة، فجعلوه سقاءً على ظهر بعير لهم،فلبث الأعرابي حيناً ثم لقيه فسأله عن حاله؟ فقال: أنا في سفر لا ينقضي، وغديرٍ لا ينزح، وقوم لا يروون. قال بعض الحكماء: أفضل المماليك الصغار، لأنهم أحسن طاعة، وأقل خلافاً،وأسرع قبولا. كان يقال: استخدم الصغير حتى يكبر، والأعجمي حتى يفصح. روى سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول، عن ابن معبد، عن ابن عباس،قال: من حلف على ملك يمينه أن يضربه فكفارته تركه، ومع الكفارة حسنة. قال أبو الفتح: بطرتم فطرتم والعصا زجر من عصا ... وتقويم عبد الهون بالهون رادع وقالآخر: إذا لم يكن في منزل المرء حرةٌ ... رأى خللاً فيما تدير الولائد فلا يتخذ منهن حرٌ قعيدةً ... فهن لعمر الله بئس القعائد قال آخر: العبد يزجر بالعصا ... والحر تكفيه الملامة وقال آخر: العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الإشارة أخده من قول مالك بن الريب: العبد يقرع بالعصا ... والحر يكفيه الوعيد وقال بشار: الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردِّ كان يقال الحر حرٌ وإن مسه الضر، والعبد عبد ولو مشى على الدر أخذه الشاعر فقال: وإن الحر في الحالات حرٌ ... وإن الذل يقرن بالعبيد وقال يزيد المهلبي: إن العبيد إذا أذللتهم صلحوا ... على الهوان عن أكرمتهم فسدوا قال المتنبي: لا تشتري العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد وقال آخر: إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب باب الذكر والثناء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم "؟ قالوا:بم ذا يا رسول الله؟ قال: " بالثناء الحسن والثناء السيء، أنتم شهداء الله في الأرض، بعضكم على بعض ". قال عبد الله بن مسعود: عنوانصحيفة الميت ثناء الناس عليه. وروى ذلك عن ابن عمر أيضاً. قال كعب الأحبار: إذا أحببتم أن تعملوا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن ثناء. قال مطرف بن الشخير: عنوان كرامة الله لعبده حسن الثناء عليه، وعنوان هوانه سوء الثناء عليه. قال بعض الحكماء: الناس أحاديث، فإن استطعت أن تكون أحسنهم حديثاً فافعل. ومن ها هنا والله أعلم أخذ ابن دريد قوله: وإنما المرء حديثٌ بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى قال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أرى الناس أحدوثةً ... فكوني حديثاً حسن قال آخر: وكل جديد يا أميم إلى البلى ... وكل امرئٍ يوماً يصير إلى كان وقد مضى قوله حاتم الطائي: أخاف مذمات الأحاديث من بعدي مات ابن لحبيب بن الملهب، فقدم أخاه يزيد ليصلي عليه، فقيل له: أتقدمه وأنت أسن منه؟ قال: إن أخي قد شرفه الناس وشاع له فيهم الصيت، ورمته العرب بأبصارها، فكرهت أن أضع منه ما رفع الله. قال رجل من غنىّ: فإذا بلغتم أهلكم فتحدثوا ... ومن الحديث مهالكٌ وخلود قال آخر: فأثنوا علينا لا أباً لأبيكم ... بإحساننا إن الثناء هو الخلد قال الأسدي: فإني أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم كان أبو عمرو بن العلاء يتمثل: وسيبقى الحديث بعدك فانظر ... خير أحدوثة تكون فكنها قال داود بن جهور، وتنسب إلى منصور، وليست له وقد رويناها لداود،والله أعلم: إذا أعجبتك طباع امرئٍ ... فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على الجود المكرمات ... حجابٌ إذا جئته يحجبك قال آخر: ذكر الفتى عمره الباقي وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال قال التهامي: بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار باب البكاء على ما مضى من الأزمان والتلهف على صالح الإخوان، والحنين إلى الأوطان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: " فكيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم "؟ قيل لبعض الحكماء: بأي شيء يعرف وفاء الرجل دون تجربة واختبار؟ قال: بحنينه إلى أوطانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه. روى أبو العلاء زكريا بن يحيى بن خلاد، عن الأصمعي، قال: قال أعرابي: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من أزمانه. روى عروة عن عائشة: أنها تمثلت بقول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب يتحدثون ملالة وخيانةً ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب ثم قالت: كيف لو أدرك لبيد زماننا هذا؟ قال عروة: كيف لو أدركت عائشة زماننا هذا؟. بلغ ابن عباس قول عائشة: رحم الله لبيداً، لو أدرك زماننا هذا؟ فقال ابن عباس: رحم الله لبيداً ورحم عائشة، لقد أصبت باليمين سهما في خزائن عاد، كأطول ما يكون من رماحكم هذه، مريشٌ مفوق مكتوب عليه: فهل لي إلى أجبال هند بذي اللوى ... لوى الرمل من قبل الممات معاد بلاد بها كنّا ونحن نحبها ... إذ الناس ناسٌ والبلاد بلاد قال أبو العتاهية: لله أزمنة عهدت رجالها ... في النائبات وإنهم لكرام ماذا أقول لوافد الزمن الذي ... هلك الأرامل فيه والأيتام زمن هوت أعلامه وتقطعت ... فرقاً فليس لأهله أعلام زمن مكاسب أهله مدخولةٌ ... جداً فروع أصوله الآثام زمن تحامى المكرمات سراته ... حتى كأن المكرمات حرام روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت عليه عجوز وهو في بيت عائشة، فأكرمها وقربها ووصلها، فقالت له عائشة: من هذه العجوز؟ فقال: " كانت تأتينا وتزورنا أيام خديجة، وحفظ العهد من الإيمان ". وقال آخر: ذهب الزمان برهط حسان الألى ... كانت مناقبهم حديث الغابر وبقيت في خلف تحلّ ضيوفهم ... منهم بمنزلة اللئيم الغادر سود الوجوه لئيمةٌ أحسابهم ... فطس الأنوف من الطرز الآخر وقال آخر: مضى الذين إذا ما جئت أسألهم ... قالوا برحبٍ: على العينين والرّاس وقد بقيت بأوغادٍ أكابرهم ... ليسوا بناسٍ بلى أشباه نسناس وقال عتيبة الأعور: ذهب الذين أحبهم ... وبقيت فيمن لا أحبه إذ لا يزال كريم قو ... مٍ فيهم كلبٌ يسبّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقال الحارث بن الوليد: ذهب الذين إذا رأوني مقبلا ... هشوا وقالوا مرحباً بالمقبل وبقيت في خلف كأنّ حديثهم ... ولغ الكلاب تهارشت في منهل وقال الأحوص: ذهب الذين أحبهم سلفا ... وبقيت كالمفقود في خلف من كلّ مطوىّ على حنق ... متصنعٍ يكفي ولا يكفي وقال بشار: فسد الزمان وساد فيه المقرف ... وجرى مع الطّرف الحمار الموكف كان سفيان الثوري يقول: ذهب الناس فلا مرتع ولا مفرع ولعبد الله بن المبارك الفقيه، وتروى لغيره: دهب الرجال المتقدى بفعالهم ... والمنكرون لكلّ أمرٍ منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضاً ليأخذ معورٌ من معور ركبوا ثنيات الطريق فأصبحوا ... متنكبين عن الطريق الأكبر ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم يقدر العلم زين للرجال مروءةٌ ... والعلم أنفع من كنوز الجوهر أأخي إن من الرجال بهيمةً ... في صورة الرجل السميع المبصر فطن لكلّ مصيبة في ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعر ولأبي حفص عمرو بن علىّ بن بحر الفلاس، وكان أحد أئمة أهل الحديث الحفاظ الجلية: ألا ذهب التّكرم والوفاء ... وباد رجاله وبقى الغثاء وأسلمي الزمان إلى رجالٍ ... كأمثال الذئاب لهم عواء صديق كلما استغنيت عنهم ... وأعداء إذا نزل البلاء وقال منصور الفقيه: يا زماناً أورث الأح ... رار دلاّ ومهانه لست عندي بزمانٍ ... إنما أنت زمانه كيف نرجو منك خيراً ... والعلا فيك مهانه أجنوناً ما نراه ... منك يبدو أم مجانه وقال آخر: كنا نعيّر من يأتي بفاحشةٍ ... والناس يرعون حقّ الدين والحسب فالناس قد تركوا التعيير كلهم ... لما استوى النّاس في الفحشاء والكذب وقال آخر: ذهب الوفاء ذهاب أمس الذّاهب ... فالناس بين مجاملٍ وموارب وقال آخر: ذهب التكرم والوفاء من الورى ... وتقّرضا إلاّ من الأشمار وفشت خيانات الثقات وغيرهم ... حتى اتّهمنا رؤية الأبصار ولعبد الله بن عبد العزيز بن ثعلبة اليعقوبي الشّذني: مضى دهر السّماح فلا سماح ... ولا يرجى لدي أحدٍ فلاح رأيت الناس قد مسخوا كلابا ... فليس لديهم إلاّ النّباح وأضحى الظّرف عندهم قبيحا ... ولا والله إنّهم القباح سلام أهل إبليس عليكم ... فإن البين أوشكله الرّواح نروح فنستريح اليوم منكم ... ومن أمثالكم قد يستراح إذا ما الحرّ هان بأرض قومٍ ... فليس عليه في هرب جناح وقال آخر:؟ مضى الجود والإحسان واجتثّ أصله وأخمد نيران النّدى والمكارم وصرت إلى ضرب من الناس آخر ... يرون العلا والمجد جمع الدّراهم كأنهم كانوا جميعاً تعاقدوا ... على اللؤم والإمساك في صلب آدم كان بلال لما قدم المدينة ينشد تشوقا إلى المكة، ويرفع عقيرته:؟ ألا ليت شعرى هل أبيتّن ليلةً بوادٍ وحولى إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنّةٍ ... وهل يبدون لى شامةٌ وطفيل ولا بن ميادة واسمه الرّمّاح:؟ ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلةً بحرة ليلى حيث ربيّننى أهلى بلادٌ بها نيطت على تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي وقال آخر:؟ أحبّ بلاد الله ما بين منعجٍ إلى وسلمى أن يصوب سحابها بلادٌ بها عقٌ الشباب تمائمي ... وأول أرض مسّ جلدي ترابها وقال آخر:؟ أحنّ إلى دهرٍ مضى بغضارةٍ إذا العيش رطبٌ والزمان مواتي وأبكى زماناً صالحا قد فقدته ... يقطع قلبي ذكره حسرات تمطّى علينا الدّهر في متن قوسه ... ففرقنا منه بنبل شتات وقال متمم بن نويرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ؟؟ وكنا كندماني جذيمة حقبةً من الدّهر حتى قبل لن يتصدعا فلما تفرّقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وقال آخر: خمسون عاماً تولت من تصرّفها ... عسرٌ ويسرٌ على الحالين أشهده لم أبك من زمن صعب لشدته ... إلا بكيت عليه حين أفقده وما جزعت على ميتٍ فجعت به ... إلاّ ظللت لستر القبر أحسده وما ذممت زمانا في تقلّبه ... إلاّ وفي زمني قد صرت أحمده ولأبي عبد الرحمن العطوى، واسمه محمد بن عطية: سألت عن سبب الإقتار والعدم ... وعن زوال النّدى في العرب والعجم نودى: هوت أنجم الإفضال واشتملت ... أم التواصل في الدنيا على عقم أنعمى إليك مواساة الصديق وما ... قد كان يرعى من الأخلاق والذمم أنعمى إليك خلال الفضل قاطبةً ... لم يبق منهنّ إلا دارس العلم أين الوفاء الذي قد كان يعرفه ... قومٌ لقومٍ وأين الحفظ للحرم أين الجميل الذي قد كان ملتبسا ... أهل الوغاء وأهل الفضل والكرم أيسر أنت صديق الناس كلّهم ... ثم ابل سرهم في حالة العدم فإن وجدت صديقا عند نائبةٍ ... فلست من طرقات الخبير في أمم لما أناخ علىّ الدهر كلكله ... وخاننى كلّ ذي ودٍّ وذي رحم ناديت ما فعل الأحرار كلهم ... أهل الندى والهدى والبعد في الهمم قالوا: حدا بهم ريب الزّمان فسل ... أحداثه عنهم تخبرك عن رمم روينا عن عبد الله بن مصعب الزبيري أنه قال: خرجنا إلى الغزو زمن مروان بن محمد حتى إذا كنّا ببعض الطّريق أصابنا مطرٌ وابل، قملنا إلى قصر رفع لنا فصرنا إلى فنائه، إذ خرجت وليدة فقالت: بأبي وأمي! من أين أنتم فقلنا: من مكة. فتنفست الصّعداء، وأنشأت تقول: من كان ذا سكن بالشام يألفه ... فإن في غيره أمسى لى السّكن وإنّ ذا القصر حىّ مابه وطنى ... لكن بمكة أمسى الأهل والوطن من ذا يسائل عنّا أين منزلنا ... فالأقحوانة منّا منزلٌ قمن إذ نلبس العيش صفواً ما يكدره ... ضغن الوشاة ولا ينبوبنا الزّمن قال: فمضينا في غزونا حتى إذا قضينا شأننا وقفلنا راجعين، أخذنا المساء عند ذلك القصر، فأضافنا صاحبه وأحسن ضيافتنا، فقلت له: ثمّ حاجة. فقال: وما هي؟ قلت: وليدة صفتها كذا، إما أن تبيع وإما أن تهب، فقال: ما شاء الله كان، والله لو كانت حية ما مضيت إلاّ بها، ولكنها ماتت منذ أيام تلهفاً على مفارقة من نشأت معه. روينا من وجوه أن أبا خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج فقيه مكة رضى الله عنه، خرج إلى اليمن إلى معن بن زائدة في دين ركبه، قال: فلما نزلت عليه رحبّ بي وسهّل، وقال: ما أقدمك هذه المدرة؟ فقلت: دينٌ ركبني لم تف به جائزة أمير المؤمنين، فضاق ذرعي فلم أر له سواك، فخرجت إليك. فقال: قدمت خير مقدم، يقضي دينك وتنصرف محبوراً إلى وطنك. قال: فأقمت عنده شهوراً في أحسن مثوى وأكرم ضيافة، فإني لخارج من عنده يوماً إذ رأيت الناس يتأهبون إلى الحج، فأدركتني وحشة، ولم أملك العبرة، وحنّت نفسي إلى الوطن، فرجعت إليه وقد اغرورقت عيناي بالدموع، فقال لي: مالك؟ قلت: رأيت الناس في أهبة الحج والخروج إلى مكة فذكرت أبياتاً لعمر بن أبي ربيعة حملتني على ما ترى قال: وأى أبيات عمر هي؟ فقلت: قوله: هيهات من أمة الوهّاب منزلنا ... إذا نزلنا بسيف البحر من عدن واحتّل أهلك أجيادا فليس لنا ... إلا التذكر أو خظٌ من الحزن بل ما نسيت غداة الخفيف موقفها ... وموقفي، وكلانا ثمّ ذو شجن وقولها للثريّا وهي باكية ... والدمع منها على الخدين ذو سنن بالله قولى له في غير معتبةٍ ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها ... فما أخذت بترك الحجّ من ثمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فقال: أتعزم على الرحيل والرجوع إلى وطنك؟ قلت: نعم. قال: صحبتك السلامة، ورزقت العافية. وخرجت من عنده فما وصلت إلى موضعي، حتى سبقني خمسة عشر بغلا عليها عصب اليمن، ودراهم، وضروب من الخير، فقضيت ديني وتأثّلت منه كنزاً مما بيدي اليوم. باب مدح مغالبة الهوى وذم اتباعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حبّك الشئ يعمي ويصمّ ". قال وهب بن ممبهّ: العقل والهوى يصطرعان، فإيّهما غلب مالٌ بصاحبه. قال ابن دريد: وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا قال عمر بن عبد العزيز: أفضل الجهاد جهاد الهوى. قال بعض الحكماء: من نظر بعين الهوى خاف، ومن حكم بالهوى جار قال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى أمتناعاً. وقال: من المحقّرات تنتج الموبقات. ويقولون: إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعرٍ قطّ إلاّ هذا: إذا أنت لم تعصي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال " قلت: لو قال: إلى كلّ ما فيه عليك مقال " كان أبلغ وأحسن. قال بعض الحكماء: إنما يحتاج اللبيب ذو الرأى والتّجربة إلى المشاورة ليتجرّد له رأيه من هواه. قال بعضهم: اعص النساء وهواك، واصنع ما شئت. قلت: لو قال اعص الهوى لا كتفي. قيل للمهلّب: بم ظفرت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. قالوا: ما ذكر الله تعالى الهوى في شيئ من القرآن إلاذمه. قيل لشريح: أحمد الله لما سلمك من الفتن. قال: كيف أصنع بقلبي وهواي؟ قال: الهوى غالب، والقلوب مغلوبة. قال امتدح بترك الهوى من الحكماء، قال الزبير بن عبد المطلب: وأجتنب البوائق حيث كانت ... وأترك ما هويت لما خشيت أخبرنا عبد الوارث، حدثنا قاسم، حدثنا نصر بن محمّد الأسديّ الكوفيّ، حدثنا إبراهيم بن عثمان المصّيصي، حدثنا مخلّد بن حسين، حدثنا هشاّم ابن حسان، عن محمد بن سيرين قال: بيتا عمر بن الخطاب يجوس ذاتة ليلة إذ سمع امرأة وهي تقول: هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج فلما أصبح قال: عليّ بنصر. فجيء به، فإذا هو أجمل الناس، فقال: إنها المدينة فلا تساكنيِّ فيها. فخرج إلى البصرة فنزل على ابن عمٍّ له، هو أمير البصرة، فبينما هو جالس مع ابن عمه وامرأته، إذ كتب في الأرض: إني لأحبك حبّاً لو كان فوقك لأظلك، ولو كان تحتك لأقلك. فقرأته وكتبت تحته: وأنا. وكان الأمير لا يقرأ، فعلم أنه جواب كلام، فأكفأ عليه إناءً وقام وبعث إلى من يقرأه، فبلغ ذلك نصراً، فلم يجئ إليه، ومرض حتى سلّ وصار شبه الفرخ، فأخبر الأمير بذلك، فقال: اذهبي إليه، فأبت، فقال: عزمت عليك إلاّ ذهبت إليه وأسندته إلى صدرك وأطعمته. قال: فلما أتت الباب قيل له: هذه فلانة. فكأنه انتعش شيئاً، فصعدت إليه وأسندته إلى صدرها وأطعمته، فأفاق، فخرج من البصرة واستحيا من ابن عمه فلم يلقه بعدها. قال إبراهيم بن عثمان: الأمير مجاشع بن مسعود السلمى، وامرأته الخضراء. قال إبراهيم بن عثمان: وأخبرني محمد بن كثير، أن نصر بن حجاج كتب إلى عمر رضي الله عنه: لعمري لئن سيرتني وحرمتني ... وما جئت ذنباً إن ذا لحرام ومالي ذنبٌ غير ظنّ ظننته ... وفي بعض تصديق الظنون أثام أأن غنّت الذلفاء يوماً بمنيةٍ ... وبعض أماني النساء غرام ظننت بي الأمر الذي لو أتيته ... لمل كان لي في الصالحين مقام ويمنعني مما تمنت حفيظتي ... وآباء صدقٍ صالحون كرام ويمنعها مما تمنت صلاتها ... وبيتٌ لها في قومها وصيام فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جبَّ منّي غاربٌ وسنام قال بعض الحكماء: الهوى عدو العقل، فإذا عرض لك أمران ولم يحضرك من تشاوره فاجتنب أقربهما إلى هواك. ومما ينسب إلى الشافعي، وأظنه لسهل الوراق: إذا حار ذهنك في معنيين ... وأعياك حيث الهوى والصواب فدع ما هويت فإن الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قال غيره: اغتنم من الخير ما عجلت، ومن الهوى ما سوفت. كان يقال: إذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب عليك هواك فهو لعدوك. قال عمر لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه راداً لهواه. قال أعرابي: ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وأشد فطام النفس عند الصبر. قال نفطويه: إن المرائي لا تريد ... ك خدوش وجهك في صداها وكذلك نفسك لا تريد ... ك عيوب نفسك في هواها وعن نفطويه، قال: تضيّف صديقٌ لي من أهل الأدب إلى إمرأة من أهل البصرة، فتعرض لها، فقالت: أيها الرجل مالك حظ في غيرة الرجال على الحرم، فيكون ذلك زاجراً لك عن التعرض لحرم غيرك، إن لم يكن لك ناه من دين؟ أما علمت أن الأمور إلى أواخرها تؤول إلى أوائلها، وإن من عوّد نفسه الرفث والخنا كان كمن اتخذ المزابل مجلساً، وقلما مجن رجل إلا هلك. قال الشاعر: الحب زورٌ والهوى باطل ... والقلب ما أجريته يجري وترك ما تهوى يسيرٌ إذا ... أعملت فيه سعة الصدر وقال منصور النمري: وإن امرءاً أودى الغرام بلبه ... لعريان من ثوب الفلاح سليب قال آخر: عين المحب كليلةٌ ... عن عيب كلِّ فتىً يود قال عمر بن أبي ربيعة: حسنٌ في كلِّ عينٍ من تود وقال روح أبو همام: وعين السخط تبصر كلَّ عيبٍ ... وعين أخي الرضا عن ذاك تعمى وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكنَّ عين السخط تبدي المساويا قال أبو العتاهية: والمرء يعمى عمن يحب فإن ... أقصر عن بعض ما به أبصر باب معنى عشق النساء والهوى فيهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أسلب لعقول ذوي الألباب منكن ". سئل بعض الحكماء عن العشق، فقال: شغل قلبٍ فارغ. وجد في صحيفةٍ لبعض أهل الهند: العشق ارتياحٌ جعل في الروح، وهو معنى تنتجه النجوم بمطارح شعاعها، وتتولد الطوالع بوصلة أشكالها، وتقبله النفوس بلطيف خواطرها، وهو بعد جلاء للقلوب، وصقيل للأذهان ما لم يفرط، فإن أفرط عاد سقما قاتلا، ومرضا منهكا، لا تنفد فيه الآراء، ولا تنجع فيه الحيل، العلاج منه زيادة فيه. حضر عند المأمون يوماً يحيى بن أكثم، وثمامة بن أشرس، فقال المأمون ليحيى: خبرني عن حد العشق فقال: يا أمير المؤمنين سوانح تسنح للعاشق يؤثرها ويهيم بها تسمى عشقا. فقال ثمامة: اسكت يا يحيى، فإنما عليك أن تجيب في مسألة من الفقه، وهذه صناعتنا. فقال المأمون: أجب يا ثمامة. فقال: يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة أثقبت لمحنورٍ ساطع تستضيء به بواطن العقل فتهتز لإشراقه طبائع الحياة، ويتصور من ذلك اللمح نور حاضر بالنفس متصل بجوهرها فيسمى عشقا. وصف أعرابي عاشقا، فقال: كان يستر عيناً قد درت مآقيها، ويحنو على كبد قد أعيت مداويها. ذكر رجلٌ أيام شبابه وامرأة كان يهواها، فقال: ذلك هوى شربته النفس أيام شبابها، فاستخفت بالعاذلات وعتابها. وصف بعض الحكماء الهوى الذي هو عشقٌ للنساء، فقال: بطن فرقَّ، وظهر فكثف، وامتنع وصفه عن اللسان فهو بين السحر والجنون، لطيف المسلك والكمون. وقال بعض الأدباء: الهوى جليسٌ ممتع، وأليف مؤنس وصاحب مملّك، مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادة وأحكامه سائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطى عنان طاعتها، وقاد نصرفها،توارى الأبصار مدخله، وغمض في القلوب مسلكه. قال عباس بن الأحنف،فيما أنشده إسحاق الموصلي له. فلو كان لي قلبان عشت بواحدٍ ... وخلّيت قلباً في هواك يعذّب ولكنّما أحيا بقلبٍ مروّع ... فلا العيش يصفو لي الموت يقرب تعلمت ألوان الرّضا خوف سخطها ... وعلّمها حبّي لها كيف تغضب ولي ألف وجهٍ قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهب وللصّمّة القشيري: لعمري لئن كنتم على النّأى والغني ... بكم مثل مابي إنّكم لصديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إذا زفرات الحبّ صعّدن في الحشى ... رددن ولم يفتح لهن طريق للعباس بن الأحنف: أرى الطّريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف أنشدنا أبو القاسم محمد بن نصر الكاتب رحمه الله لنفسه في معنى بيت عباس هذا: أمر نشيطاً إذا زرتكم ... وأرجع كسلان لا أنشط وسير المطية ما كدني ... ولكن هوى لكم مفرط وقال العباس بن الأحنف: يقرب الشوق داراً وهي نازحةٌ ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا وله: مت على من غبت عنه أسفاً ... لست منهم بمصيبٍ خلفا لن ترى قرة عين أبداً ... أو ترى نحوهم منصرفا قلت لما شفَّني وجدي بهم ... حسبي الله لما بي وكفى بين الدمع لمن يبصرني ... ما تضمني إذا ما ذرفا ولمحمد اليزيدي: أتيتك عائداً بك من ... ك لما ضاقت الحيل وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل فإن سلمت لكم نفسي ... فما لاقيته جلل وإن قتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل كتب المهدي إلى الخيزران وهو بمكة: نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور فأجدوا المسير، بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا فأجابته: قد أتانا الذي وصفت من الشو ... ق فكدنا وما فعلنا نطير ليت أنّ الرياح كن يؤدي ... ن إليكم ما قد يجنّ الضمير لم أزل صبّةً فإن كنت بعدى ... في سرورٍ فدام ذاك السرور قال بعض الأدباء: ما أشد جولة الرأي عند الهوى وفطام النفس عند الصبّا، لقد تصدعت كبدي للمحبّين لو العاذلين قرطة في آذانهم ونيران متأججة في أبدانهم لهم دموع غزيزةٌ على المغائي، كغروب السّواني وأنشد: سقى الله أطلالاً لليلي وشقّقت ... عليهنّ من غرّ الغمام جيوب فما تقشعرّ الأرض إن نزلت بها ... ولكنها تزهي بها وتطيب وقال آخر: وقال أناسٌ: لا يضريك نأيها ... يلي كلّ ما شفّ النفوس يضيرها أليس يضير العين أن تكثر البكاء ... ويمنع منها نومها وسرورها وقال آخر: فلو أن شرق الشّمس بيني وبينها ... وأهلي وراء الشمس حيث تغيب لحاولت قطع الأرض بيني وبينه ... وقال الهوى لي إنه لقريب وقال الصمّة بن عبد الله القشيري: إذا ما أتتنا الريح نحو أرضكم ... أتينا برياكم فطاب هبوبها أتينا بريح المسك خالط عنبراً ... وريح الخزامي باكرتها جنوبها وقال آخر: ضاف قلبي الهوى فأكثر سهوى ... وجوى الحب مفظع كلّ حلو لو علا بعض ما علاني ثبيراً ... ظلّ ضعفاً ثبير من ذاك يهوى من يكن من هوى الغواني خلواً ... يا ثقاتي فإنني غير خلو قال العبّاس بن الأحنف: جرى السّيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيّ غروب وما ذاك إلاّ أن تيقنت أننّي ... أمرّ بوادٍ أنت منه قريب يكون أجاجا قبلكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب أيا ساكني شرقيّ دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب قال بعضهم: لو لم يكن في العشق إلاّ أنه يشجع قلب الجبان، ويسخي كف البخيل، ويصفّي ذهن الغبي، ويبعث حزم العاقل، ويخضع له عزّ الملوك، وتصرع له صولة الشجاع، وينقاد له كلّ ممتنع، لكفي به شرفا. قال الأصمي:سمعت أعرابيّا يقول: إذا ترعت هتوف الضحى على الغصون، أرسلت الشئون مياها إلى العيون،فمن ذاد عينيه عن البكا أورث قلبه حزنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 عشق أبو القمقام بن بحر السقا امرأة موسرة، فأطمعته في نفسها، فبعث يستهديها طعاماً، حتى فعل ذلك غير مرة، فلما أكثر عليها، بعثت إليه:رأيت العشق يكون في القلب ويفيض إلى الكبد، ثم يستبطن الأحشاء، وحبّك لا أراه تجاوز المعدة. قال أعرابيّ من فزارة: عشقت امرأة من طّي، فكانت تظهر لي مودّة، فو الله ما جرى بيني وبينها شئ من ريبة، غير أني رأيت بياض كفها ليلة، فوضعت كّفي على كفها، فقالت: مه! لا تفسد ما صلح، فأرفضضت عرقا من قولها، فما عدت لمثل ذلك. قال بعضهم: الرجل يكتم بغض المرأة أربعين يوماً، ولا يمكنه أن يكتم حبها يوماً واحدا، والمرأة تكتم حب الرجل أربعين يوماً، ولا يمكنها أن تكتم بغضه يوما واحداً. قال يوسف بن هرون: دقّت معاني الحبّ عن أذهانهم ... فتأوّلوها أقبح التأويل وقال كثيرّ: إذا ما رادت خلّةً أن تستميلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أوّل وقال حبيب: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكّنا لعلىّ بن الجهم: يا سائلي ما الهوى اسمع إلى صفتي ... الحّب أعظم من وصفي ومقداري ماء المدامع نار الشوق تحدره ... فهل سمعت بماءٍ فاض من نار وقال أبو العتاهية: أذاهب الهوى جسمي ولحمي وقوّتي ... فلم يبق إلاّ الروح والجسد النضو رأيت الهوى حجر الغضا غير أنّه ... على كلّ حال عند صاحبه حلو وقال آخر: أسرّ الذي بي والدموع تبوح ... وجسمي سقيم والفؤاد قريح وبين ضلوعي لوعة لم أزل بها ... أذوب اشتياقاً والفؤاد صحيح وقال الصّمّة القشيري: أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا فقالت: بلى والله ذكراً لو انّه ... يصبّ على صمّ الصفا لتصدّعا وأكثرهم ينسون إليه في هذا الشعر قوله: حننت إلى ريّا ونفسك باعدت ... مزارك من ليلي وشعبا كما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعي الصّبابة أسما بكت عيني اليسرى فلمّا زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا وأذكر أيّام الحمى ثم أنثي ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا فليست عشيّات الحمى برواجعٍ ... إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا ومهم من ينسبها إلى قيس بن ذريح، وللمجنون أيضا تنسب، والأكثر أنّها للصّمّة. /باب في وصف النساء بالحسن والرقة وما يحمد من نعوتهن، ووصف منطقهن قال أنس بن مالك: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره في حجة الوداع، ومعه نساؤه، وكان له حادٍ يحدو بهن يقال له أنْجَشةَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنجشة رفقاً! رويداً بالقوارير ". يعني أنهن ضعاف يسرع إليهن الكسر، ولا يقبلن الجبر. ذكر أعرابي امرأة، فقال: كاد الغزال يكونها لولا ماتم فيها ونقص منه. وصف أعرابي النساء، فقال: ظعائن في سوالفهن طول، غير قبيحات العطول، إذا مشين أسبلن الذيول، وإذا ركبن أثقلن الحمول. كتب الحجاج بن يوسف إلى محمد أخيه، وهو أمير على اليمن: أن اخطب على ابني امرأة حسناء من بعيد، مليحة من قريب شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، أمة لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لك، وهي خولة بين مسمع، على عظم ثدييها. فكتب إليه: إن المرأة لا يحسن صدرها حتى يعظم ثدياها. قال المهلب: عليكم من بنات خراسان بمن عظمت هامتها، وطالت قامتها. قال محمد بن حسين: عليكم بذوات الأعجاز فإنهن أنجب. كان يقال: إذا طال ساعد المرأة وعنقها وساقها لم يشك أنها تنجب. قيل لأعرابي: أي النساء أفضل؟ قال: الطويلة السالفة، الرقيقة الرادفة، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، التي في حجرها غلام، وفي بطنها غلام، ولها في الغلمان غلام. وصف علي بن أبي طالب رضى الله عنه امرأةً، فقال: تدفئ الضجيع، وتروى الرضيع. يعني بعظم ثدييها. قال ابن شبرمة: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما رأيت على رجل لباساً أزين من فصاحة، ولا رأيت لباساً على امرأة أزين من شحم. كان يقال: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أقوم العوج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقال مصعب بن الزبير: المرأة فرش فاستوثروا. كان يقال: من تزوج امرأة فليستجد شعرها، فإن الشعر أحد الوجهين. كان يقال: النساء لعب فتخيروا. من الأمثال السائرة: لن تعدم الحسناء ذاماً. وقالوا: عقل المرأة في جمالها، وجمال الرجل في عقله. وصف رجل امرأة فقال: كأن عينيها السقم لمن رآها، وكلامها البرء لمن ناجاها. قال أشهب بن عبد العزيز. سئل مالك بن أنس: أيسلم الرجل على المرأة؟ فقال: أما المتجالّة فلا بأس، وأما التي كلامها أشهى من الرطب فلا. وقال سحنون: سمعت أشهب يقول: المكيات أخنث النساء، والمدنيات أغنج النساء. وشبه الأخطل كلام امرأة بعقد انقطع فتحدر لؤلؤه، فقال: قد يكون بها سلمى تُحَدّثني ... تَسَاقُطَ الْحَلْيِ حاجاتي وأَسْرَارِي وقال القطامي: فهن يَنْبِذْنَ من قولٍ يَصِبْن به ... مواقعَ الماء من ذي الغُلَّةِ الصّادِي وقال الراعي: لهنَّ حديثٌ فاترٌ يترُك الفَتَى ... خفوقَ الْحَشَا مُسْتَهلَكَ اللُّبِّ طامِعاَ وقال أعرابي: وحديثها كالقَطْرِ يسمعُهُ ... راعى سِنينَ تتابَعَتْ جَدْبَا فأصاخ يرجو أن يكون حَياً ... ويقولُ من فرحٍ هيا رباَّ وفي رواية أخرى: فأصاخ مُسْتَمِعاً لِدَرَّتِها وقال جِرَانُ العَوْد: حَديثٌ لو أنّ اللّحمَ يصلى بحرِّه ... غَرِيضاً أتى أصحابَه وهو مُنْضَجُ وقال بشار: كأنّ حديثَها سكَرُ الَّشراب ولبشّار أيضاً: وحديثٍ كأنه قطعُ الرّو ... ضِ وفيه الحمراءُ والصفراءُ وله: وكأنّ تحتَ لِسَانِها ... هاروتَ ينفثُ فيه سِحراَ وكأنّ رجْعَ حديثها ... قِطَعُ الِّرياض كسينَ زَهْرا وله: ولها مَبْسِمٌ كغُرِّ الأقَاحي ... وحديثُ كالوَشْيِ وشْىِ الْبُرُودِ وقال علي بن العباس الرومي: وحديثُها السِّحْرُ الحلالُ لو أنّه ... لم يَجْنِ قتلَ الْمُسْلِمِ المتحرِّزِ وإن طال لمُ يمْلَلْ وإن هي أوْجَزتْ ... ودّ المحدِّث أنها لم تُوجِزِ شَرَكُ العقول ونُهْزَهٌ ما مِثْلُها ... للمطمئن وعُقلة المستوفز وقال امرؤ القيس: وهي هيفاءُ لطيفٌ خصْرُها ... ضخمةُ الثِّدْي وَلمّا ينكسرْ وقال المرار بن سعد الجبلي: صَلْتَةُ الخَدّ طويلٌ جيدُها ... ضخمةُ الثّدْيِ ولمّا يَنْكَسِرْ وقال غيره: موسومةُ بالحسن ذات حواسدٍ ... إنّ الحسان مَظَنةٌ للحُسَّدِ وترى مَآقِيَها تقلِّبُ مُقْلَةً ... سوداءَ ترغبُ عن سَوَاد إحد وقال آخر: إن النّساءَ رياحينٌ خلقنَ لَنا ... وكلنا يَشتهى شمَّ الرَّيَاحِينِ وقال آخر: ونحن بَنْو الدُّنْيَا وهنّ بَنَاتُها ... وعيشُ بنى الدُّنيا لقاءُ بَناتِها وقال حسان بن ثابت: لو يدبُّ الحَوْلِيُّ من وَلَدِ الّذ (م) ... رِّ عليها لأدمَأَتْها الكُلُومُ الحولي من ولد الذر لا يعرف من المسن، وإنما أراد الصغير من ولد الذر، كما قال الآخر: يُلَقَّطُ حَوْلِيُّ الحصا من منازِلٍ ... من الحيِّ أمست بالجَبِيبَيْنِ بَلْقَعَا وحولي الحصا صغارها، فشبهه بالحولي من ذوات الأربع. وقال حميد بن ثور: منعمةٌ لو يًصْبح الذَّرُّ سارياً ... على جلدها بَضَّت مَدَارِجُهُ دَمَا وقال عمر بن أبي ربيعة: لو دَبّ ذَرٌّ فوق ضَاحِي جِلْدِها ... لأبَان مِنْ آثارهن حُدُورَا وقال آخر: من القاصَرات الطَّرْفِ لو دب مُحْوِلٌ ... من الذَّرِ فوق الإتْبِ منها لأثّرا وقال الحسنُ بن هانئ: وكأن مَنْثُور رُمَّانٍ بوجنتها ... لو دبَّ فيها خيالُ الذَّرِ لا نجرها وقال النظام: رقَ فلو دبَّ به نملةٌ ... لخضبّتُه بدمٍ جاَرِى أُضمرُ أن أضمرَ حبِّي له ... فيشتكى إضمارَ إضماري وبلغ قول النظام هذا أبا الهذيل، فقال: لقد رقّ هذا الموصوف حتى لا يناكُ إلا بزب الوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وأخذ ابن الرومي قول النظام، فقال: رقّ فلو دبّ به ذرةٌ ... منعَّلةٌ أَرْجُلها بالحريرِ لأثّرت فيه كما أثّرت ... مَدَامَةٌ في العارض المستدير قال بعض حكماء أهل الأدب، كمال حسن المرأة أن تكون أربعة أشياء منها شديدة البياض، وأربعة أشياءٍ شديدة السواد، وأربعة أشياء شديدة الحمرة، وأربعة أشياء مدورة، وأربعة واسعة، وأربعة ضيقة، وأربعة رقيقة، وأربعة عظيمة، وأربعة صغاراً، وأربعة طيبة الريح. فأما الأربعة الشديدة البياض. فبياض اللون، وبياض العين، وبياض الأسنان، وبياض الظفر. وأما الأربعة الشديدة السواد، فشعر الرأس، والحاجبين، والحدقة والأهداب. وأما الشديدة الحمرة: فاللسان، والشفتان، والوجنتان، واللثة. وأما المدورة: فالرأس، والعين، والساعد، والعرقوبان. وأما الواسعة: فالجبهة، والعين، والصدر، والوركان. وأما الضيقة: فالمنخران، والأذنان، والسرة، والفرج. وأما الصغار: فالأذنان، والفم، واليدان، والرجلان. وأما الرقاق: فالحاجب، والأنف، والشفتان، والخصر. وأما الطيبة الريح: فالأنف، والفم، والأبط، والفرج. وأما العظيمة: الهامة، والمنكبان، والأضلاع، والعجز. أنشد ابن أبي طاهر لشريك الجعدي: ولو كنتُ بَعْد الشَّيْبِ طالبَ صَبوَةٍ ... لأَصْبَى فؤَادِي نِسْوَة بِحُلاَحِلِ عفيفاتُ أسْوَارٍ بَعِيدَاتُ ريبةٍ ... كثيراتُ إخْلافٍ قليلاتُ نائلِ تعلَّمْنَ والإِسْلاَم فيهن والتقى ... شَوَاكِلَ من علمِ الذّين ببَابلِ مِراضُ العُيون في احْمِرار مَحَاجِرٍ ... طوالُ المتونِ راحجاتُ الأسَافِلِ هضيماتُ ما بين الَّترائب والحشَا ... لِطَافُ البُطونِ ظامِئاتُ الخلاخِلِ تعوضن يوم الغيدِ من جَدَل المَهَا ... عيوناً وأعناقَ الظباءِ العَواطلِ كأن ذُرَا الأنْقَاءِ من رَمْلِ عَالِجٍ ... خَبَتْ وَالْتَقَتْ منهنّ تحت المفاصلِ ولدعبل بن علي الخزاعي: له منظر وَطْفٌ ومنسدل وحفُ ... ومبتسم يحيى إذا قتل الطّرفُ وللظَّبى عينَاه وللدًّرِّ ثغرُه ... وَللقُضُبِ الأعْلى وللكُثُب الرِّدْفُ ظلمتُكَ لما قلتُ أشْبَهَكِ الخِشْفُ ... أو القمرُ المعدود من شهره النصف ولكنك الُّنورُ المركبُ جوهراً ... من الحُسْن لم يبلغ له الوهُم وَالوصفُ أنشدني أبو عمر يوسف بن هَرون لنفسه: بحتُ بُحبِّي ولو غَرَامِي ... ويكونُ في صخرةٍ لَباحاَ ضيَّعْتمُ الرُّشْدَ من مُحبٍّ ... ليسَ يَرَى في الَهَوى جُنَاحاَ لم يستطع حَمْلَ ما يُلاقى ... فشقَّ أثْوابَهُ وَصَاحاَ مُحيِّرَ المقلَتْين قل لِى ... هل شَرِبَتْ مُقْلَتَاكَ رَاحاَ نَفْسيِ فدى لَمٍ وخدٍّ ... قد جَمَعَا اللَّيْل والصبَّاَحاَ وَعَقْرَبٍ سُلِّطَتْ عَلَيْنا ... تَملأُ أكبادَنا جِراحاَ قد طارَ من شوقِهِ فؤادي ... فصارَ شَوْقِي له جَنَاحاَ أنشدني أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب لنفسه: لَثَاتُك ياقوتٌ وَثَغْرُك لُؤْلؤ ... وريقُك شهدٌ والنَّسيِمُ عَبيِرُ ومن وَرَقِ الْوَرْدِ الجنيِّ مُقَبَّلٌ ... تَرَشُّفُهُ عند المماتِ نشُورُ وخدُّكَ وردُ الرَّوضِ والصّدغ عَقْربٌ ... وطرْفكَ سحرٌ والمجسُّ حريرُ وحاجبُك المَقْرُون نونان صُفِّفَا ... وقد لاح سَوْسَانٌ عليه نضيرُ وشعرُكَ ليلٌ فاحُم اللونِ حالكٌ ... ووجهْكَ بدرٌ تحت ذاكَ مُنِيرُ وأنفُك من دُرًّ مذَابٍ مركّبٌ ... وجيدُك جيدُ الظّبْيِ وهو غريرُ وصدرُك عاجٌ أبيضُ اللون مشرِقٌ ... ورُمّانُ كافورٍ عليه صَغِيرُ ومن فضةٍ بيضاءَ كَفّاك صِيغَتَا ... ولكنْ بمحِّمر العَقِيق تشيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقدُّك غصنٌ حين هبَّت به الصبَّاَ ... وردْفكَ دعصٌ للرمال وثيرُ وتخطو على أنبوبتين حًكاَهما ... من النخل جُمَّارٌ يجذّ؟ ُ قشير وتحتهما مشطان رَخْصاَنِ دَلّها ... عُقُولَ ذوى الألْبَابِ حين تدورُ ودَلُّكَ سحرٌ يَخْلِسُ العقل فاتنٌ ... ولفظُك دُرٌّ إن نطقت نشيرُ فمالك في الدُّنيا من الناسِ مُشبْهٌ ... ولاَلَكَ في حوُر الجنان نظيرُ وهذا الشعر من أحسن ما قاله متقدم أو متأخر في عموم وصف المرأة وأجمعه وأطبعه إن شاء الله تعالى، على أن هذا الوصف معدوم. باب النظر إلى الوجه الحسن قال الله عز وجل " قُلْ للمُؤْمِنين يَغُضُّوا من أبْصاَرِهم "، " وقلْ للمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ من أبصاَرِهِنّ ". ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس وهو رديفه، عام حجة الوداع، من النظر إلى الخثعمية، وصرف وجهه عنها. ومنع بعض أصحابه الدخول عليه من أجل صفية زوجته، وقال لهم: إنها صفية. ومنه امرأتين من نسائه من النظر إلى ابن أم مكتوم، فقالتا: أليس أعمى؟ فقال: أفعمياوان أنتما؟. قال عقيل بن علفة: لأن ينظر إلى ابنتي مائة رجل خير من أن تنظر هي إلى رجل واحد. نظر أبو حازم بن دينار إلى امرأة حسناء ترمى الجمار أو تطوف بالبيت، وقد شغلت الناس بالنظر إليها لبراعة حسنها، فقال لها: أمة الله! خمري وجهك، فقد فتنت الناس، فهذا موضع رغبةٍ ورهبة. فقالت له: إحرامي في وجهي أصلحك الله يا أبا حازم، وأنا من اللواتي قال فيهن العرجي: من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسْبةً ... ولكنْ ليقْتُلْن التَّقَّى المُغَفّلاَ فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله ألا يعذب هذه الصورة الحسنة بالنار، فقيل له: أفتنتك يا أبا حازم، فقال: لا، ولكن الحسن مرحوم. هكذا روينا هذا الخبر عن أبي حازم من وجوه بألفاظ مختلفة ومعنى متقارب. وذكر المدائني عن عبد الله بن عمر العمري، قال: خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلامٍ أرفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، وقلت: يا أمة الله! ألست خاجة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عمري، فإني ممن عناه العرجي بقوله: أماطت كِساَءَ الخزّ عن حُرِّ وجهها ... وأدْنَتْ على الخدين بُردْاً مُهَلهْلاَ من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسبَةً ... ولكنْ ليقتُلْنَ البريءَ المغَفّلاَ وترمى بعينيها القلوبَ ولحظِها ... إذا ما رَمَتْ لم تُخْط منهن مَقْتَلاَ قال: فقلت: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار، قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب؛ فقال: أما والله لو كان من أهل العراق، لقال: اغربي قبحك الله، ولكنه ظرف عباد أهل الحجاز. قال عبد الله بن طاهر: وجه يدلُّ الناظرين ... عليه في اللّيلِ البَهِيمْ فكأنه روحُ الحَيا ... ةِ يَهْبُّ مِسْكيّ النسيمْ في خدِّه ورد الجَمَا ... لِ يُعَلُّ من ماءِ النعيمْ سقْمُ الصّحيح المُستَقِلِّ ... وصحة الرَجُلِ السَّقيم نظر رجلان إلى جارية حسناء في بعض طرق مكة فمالا إليها فاستسقياها ماءً، لسقتهما فجعلا يشربانه ولا يسيغانه فعرفت ما بهما فجعلت تقول: هما استسقيا ماءً على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما فعجبا من ذلك ودفعا الإناء إليها فمرت وهي تقول: وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبَتْكَ المناظرُ رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عَنْ بعضهِ أنت صابر وقال آخر: خليليَّ للبغضاء عينٌ مُبيِنَةٌ ... وللحبِّ آياتٌ تُرَى ومعارفُ ألا إنّما العينانِ للقلبِ رَائدٌ ... فما تألفُ العينانِ فالقلبُ يألفُ يحبُّ ويُدْنِى من يقلُّ خلافُهُ ... وليس بمحبوبٍ حبيبٌ مخالفُ قال آخر: ومَالَكَ منها غير أنَك رائدٌ ... بعينيْك عينيها فهلْ ذاكَ نافِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا شعبي! بلغني أنه اختصم إليك رجلٌ وامرأته، فقضيتَ للمرأة على زوجها، فقال فيك شعراً، فأخبرني بقصتيهما وأنشدني الشعر إن كنت سمعته. فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسألني عن ذلك. فقال: عزمت عليك لتخبرني. قال: نعم، اختصمت إلى امرأة وبعلها، فقضيت للمرأة إذ توجه لها القضاء، فقام الرجل وهو يقول: فُتِن الشّعْبيُّ لّما ... رَفَعَ الطَّرْفَ إليها بفتاةٍ حين قامتْ ... رفَعَتْ مَأكَمَتَيْها ومشت مشياً رُوَيْداً ... ثم هزّت مِنْكبَيْها فتنتهُ بقوامٍ ... وبخطَّىْ حاجبيها وبنانٍ كالمَدَارِي ... واسْودادِ مُقْلتَيْها قال للجِلْوَازِ قَرّب ... هَاوأحْضِر شاهديْها فقضى جوراً علينا ... ثم لم يَقْضِ عَلَيها كيف لو أبْصر منها ... نحرَها أو سَاعِدَيها لصَباَ حتى تَرَاهُ ... ساجداً بينَ يَدَيْها بنتُ عيسى بن حَرادٍ ... ظُلِمَ الخَصْمُ لَدَيْها قال عبد الملك: فما صنعت يا شعبي؟ قال: أوجعتُ ظهرهَ حين جوّرني في شعره. هذا ما رواه سفيانُ بن عيينة، عن سالم بن أبي حفصة، عن الشعبي، وهو أصح إسنادٍ لهذا الخبر. وذكر الهيثم بن عدي، قال: خاصمت أم جعفر بين عيسى بن حراد زوجها إلى الشعبي، فلما قامت بين يديه، قيل لها: ما صعنت؟ قالت: سألني البينة، ومن سأل البينة فقد فلج، ثم قضى لها، فقال هذيل الأشجعي: فنن الشّعبىّ لما ... رفع الطرفَ إليها وذكر الأبيات: وفي رواية الهيثم بن عدي: أن الشعر لهذيل الأشجعي فيها، فبلغ ذلك الشعبي، فقال: أبعده الله، ما قضينا إلا بحق. قال الهيثم: فحدثني ابن أبي ليلى، قال: خرجنا مع الشعبي من المسجد، وقد قام من مجلس القضاء، فمررنا بجارية تغسل في إجانة فلما رأت الشعبي قالت: فُتن الشّعبيّ لما فقال الشعبي: رفع الطّرفَ إليها خاصم الوليد بن صريع، مولى عمرو بن حريث، أخته أم كلثوم ابنة صريع إلى عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، وكان يقال له: القبطي، لفرسٍ كان له فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي: لقد عثرَ القبطيُّ أو زَلَّ زلةً ... وما كان منه لا العثارُ ولا الزّللْ أتاه وليدٌ بالشُّهودِ يقودُهُمْ ... على ما ادّعَى من صامتِ المالِ والخَوَلْ يقودُ إليه كلْثُماً وكلاُمها ... شفاءٌ من الدَّاءِ المخامرِ والخَبَلْ فأدْلى وليدٌ عند ذاك بحجةٍ ... وكان وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ وكان لها دَلٌّ وعينٌ كحيلةٌ ... فأدْلَتْ بحُسنِ الدَّلِّ منها وبالكَحَلْ فأفْتنَت القبطيَّ حتّى قضى لها ... بغيرِ قضاءِ الله في مُحْكَم الطُّوَلْ فلو أنّ من في القصرِ يعلمُ علْمَه ... لما اسْتَعملَ القبِطيَّ يوماً على عَمَلْ له حين يقضي للنساء تَخَاوُصٌ ... وكان ومات فيه التخَاوص والحَوَلْ إذا ذاتُ دَلٍّ كلمتهُ بحاجةٍ ... فهمَّ بأنْ يقضى تَنَحْنَح أو سَعَلْ وبرّقَ عينيه ولاكَ لسانَهُ ... ويَرَى كل شيءٍ ما خلا شخصَها خَلَلْ فبلغ ذلك عبد الملك بن عمير، فقال: ما لهذيل أخزاه الله؟ والله لربما جاءتني النحنحة أو السعلة وأنا في المتوضأ فأردها مخافة ما قال. لعبد الله بن سليمان النحوي المكفوف: تقولُ من للعمى بالحُسْن قلتُ لَها ... كَفَى عَن الله في تحقيقهِ الخبرُ القلبُ يُدرك مالا عينَ تدركُهُ ... والحُسْنُ ما استحسنتْه النفس لا البَصرُ وما العيونُ التي تعمى إذا نظرَتْ ... بل القلوبُ التي يَعْمىَ بها النظرُ وقال أيضاً ينقُضه: ما إن يُمتِّع بالمعشوقِ عاشِقَهُ ... سمعٌ إذا لم يمتّعْهُ به البَصرُ وكل قلبٍ له حبٌّ يقلبه ... وأعذب الحبِّ ما أحباكه النظرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ولو تكافي الهوى مرأى ومستعماً ... لما تبَاينَت الأصواتُ والصورُ أنشد إسحق بن إبراهيم لعمر بن أبي ربيعة في محمد بن عروة بن الزبير، وكان جميلاً: إني امرؤٌ مُولَعٌ بالحسن أتبعُه ... لاحظَّ لي فيه إلاّ لذةُ النظرِ وقال محمود الوراق: من أطلق الطَّرْفَ اجتنى شَهْوَةً ... وحارس الشَّهوةِ غضُّ البَصَرْ والطّرْفُ للقلبِ لسانٌ فإنْ ... أرادَ نطقاً فليكرَّ النَّظَرْ يُفْهَمُ بالعينِ عن العينِ ما في الْ ... قلبِ من مكنونِ خيرٍ وشَرْ يَطْوِي لسانُ المرءِ أَخبارَه ... والطرفُ لا يملكُ طيَّ الخَبرْ وقال آخر: لا تكثرنَّ تأمُّلاً ... وامْلِكْ عَلَيْك عنانَ طَرْفِكْ فَلرُبَّما أرسلتَه ... فَرَمَاكَ في ميدانِ حَتْفِكْ وقال أعرابي: نظرتُ إليها نظرةً ما يَسرُّنِي ... وإِنْ كنت محتاجاً بها ألفُ دِرْهَمِ قال شيخ من بني نمير: نظرت إلى مولدةٍ باليمامة، فقالت: ملأت عينيك وملك غيرك. وقال ذو الرمة: على وجهِ مَيٍّ مِسْحةٌ من مَلاَحَةٍ ... وتحتَ الثِّيابِ العارُ لو كان باَدياَ ألم ترَ أنّ الماءَ يخبُثُ طعمهُ ... ولو كان لونُ الماءِ أَبيضَ صافياَ وقال بعض الأعراب: جزى الله البراقعَ من ثيابِ ... عن الفتيانِ شراً ما بَقِيناَ يوارينَ الملاَحَ فلا أرَاها ... ويوهِمْنَ القِبَاحَ فيزْدَهيِناَ وقال آخر: لقد أعجبَتْها نفسُها فتملّحت ... بأيِّ جمالٍ ليتَ شِعْرِى تَمَلَّحُ وقال إسماعيل القراطيسي: وقد أتانِي خبرٌ راعني ... مِنْ قولِها في السِّرِّ واضَيْعَتَاهْ أمثلُ هذا يبتغى وصلنَا ... أما يرى ذا وجهْهَ في المرَاهْ وقال عباس بن الأحنف: هَمّتْ بإتيانِنا حتّى إذا نظرتْ ... إلى المِرَاةِ نهاها وجههُا الحَسَنُ ما كان هذا جزائِي من مَحاسِنِهَا ... أغَرتْ بي الشَّوْق حتى شفَّني الشَّجَنُ كان يقال: أربعة تزيد في البصر: النظر إلى الوجه الحسن، وإلى الخضرة وإلى الماء الجاري، والنظر في المصحف. دخل الشعبي سوق الرقيق، فقيل له: هل من حاجة؟ فقال: حاجتي صورة حسنة، يتنعم فيها طرفي، ويلتذ بها قلبي، وتعينني على عبادة ربي. أدام إبراهيم النظام النظر إلى جاريةٍ حسناء، فقال مولاها: أراك تديم النظر إليها، فقال: مالي لا أتأمل منها ما أحل الله، وفيه دليل على حكمة صنعة الله، ومعه اشتياق إلى ما وعد الله. قال الحسن البصري: ينبغي للوجه الحسن ألا يشين وجهه بقبيح فعله وينبغي لقبيح الوجه ألا يجمع بين قبيحين. قال الشاعر: إنّ حُسْنَ الوجهِ يحتا ... جُ إلى حُسْنِ فِعَال حاجةَ الصَّادِي من الما ... ءِ إلى العَذْبِ الزَّلاَلْ باب جامع ذكر النساء وتزويج الأكفاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدُّنيا كلها متاع، وخير متاع الدُّنيا المرأةُ الصالحة ". ويروى أن داود عليه السلام قال لابنه سليمان: يا بني! إن المرأة الصالحة كمثل التاج على رأس الملك، والمرأة السوء كمثل الحمل الثقيل على ظهر الشيخ الكبير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرأة كالضلع العوجاء؛ إن رفقت بها استمتعت منها " أخذه الشاعر فقال: هي الضِّلَعُ العوجاءُ لستَ تُقِيمُها ... ألاَ إنّ تقويمَ الضلوعِ انكسارُها قيل لبعض الأعراب: من تركت عند نسائك؟ فقال: حافظين: الجوع والعري، عرين فلا يظهرن، وجعن فلا يأشرن. مما أوصى به محمد بن عبد الله بن حسين ابنيه، فقال: واعلما أن لن تسقط امرأة واظبت على ثلاث خلال: الماء والسواك والكحل فعليكما بهن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن؟ فقال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ". شبهها بنبات أخضر نضر نبت على دمنة، وهي الأبعار والأبوال تبلبل بعضها على بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قال معاذ بن جبل: أخوف ما أخاف عليكم النساء، إذا تسورن الذهب، ولبسن عصب اليمن، ورباط الشام، فأتعبن الغنىّ وكلفن الفقير مالا يجد. قال سمرة بن جندب: سمعت عمر بن الخطاب يقول: النساء ثلاث والرجال ثلاثة: امرأة عاقلة مسلمة عفيفة هينة لينة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقليلا ما تجدها. وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى غلٌ قملٌ يجعله الله في عنق من يشاء، ثم إذا شاء أن ينزعه نزعه. وذكر الرجال بما قد ذكرته في باب ثلاثة. قال منصور الفقيه: أفضلُ ما نال الفَتَى ... بعد الهُدَى وَالْعَافِيَهْ قرينةٌ مُسْلمِةٌ ... عفيفةٌ موَاتَيهْ ذكر ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: قالوا: النساء خلقن من ضعف، فداووا ضعفهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُنكح المرأة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فعليك بذوات الدين تربت يداك ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالأبكار؛ فإنهن أطيب أفواهاً، وأرتق أرحاماً، وإياكم والعجائز ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: " أعظم النساء بركةً أحسنهنّ وجوها، وأرخصهن مهوراً ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: " ترفقوا ولا تطلقوا، وانكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم، فإن العرق دساس ". كان يقال: إياكم ومناكحة الحمقاء، فإن صبحتها أذى ومناكحتها أذى ". قال أبو الأسود لبنيه: يا بني! قد أحسنت إليكم صغاراً وكباراً، وقبل أن تولدوا، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: التمست لكم من النساء الموضع الذي لا تعابون به. وشوور بعض الحكماء في تزويجٍ، فقال للمشاور: يا ابن أخي! إياك أن تزوج لأهل دناءةٍ أصابوا من الدنيا، فإنك تشركهم في دناءتهم، ويستأثرون عليك بدنياهم. قال: فقمت عنه وقد اكتفيت بما قال لي. كان يقال: لا تسترضعوا الحمقاء؛ فإن اللبن ينزع بالشبه إليها. قال عمر بن الخطاب: لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعرى. قال عمر بن الخطاب رحمه الله: استعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر. وقال أيضاً: عليكم بالسراري؛ فإنا رأيناهن يأخذنَ بعز العرب وملك العجم. قال علي بن أبي طالب: خيرُ نسائكم الطيبة الرائحة، الطيبة الطعام، التي إن أنفقت أنفقت قصدا، وإن أمسكت أمسكت قصدا، فتلك من عمال الله، وعامل الله لا يخيب. قال علي بن أبي طالب: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليخفف الرداء، وليباكر الغداء، وليقل مجامعة النساء. قيل له: وما خفة الرداء؟ قال: الدين. ثم قال: المرء بجدّه والسيف بحدّه، والثناء بعد البلاء. قال عمرو بن العاص: الناكح مغترس، فلينظر امرؤ حيث يقع غرسه. قال المغيرة بن شعبة: صاحب المرأة الواحدة امرأة مثلها، إن بانت بان معها، وإن حاضت حاض معها، وإن مرضت مرض معها، وصاحب المرأتين على جمرتين، وصاحب الثلاث على رستاق، وصاحب الأربعة كل ليلةٍ عروس، أخذه الشاعر فقال: وصاحبُ ضرتَّينِ على الليالي ... كما قد قيل بين الْجَمْرَتَيْنِ رضَا هذِى يُهيَجّ سُخْط هَذِى ... فما يَعْرَى من إحدَى السُّخْطَتين دخل أعرابي على الحجاج فسمعه يقول: لا تكمل النعمة على المرء حتى ينكح أربع نسوة يجتمعن عنده، فانصرف الأعرابي فباع متاع بيته، وتزوج أربع نسوة، فلم توافقه منهن واحدة، خرجت واحدة حمقاء رعناء، والثانية متبرجة، والثالثة فارك أو قال فروك، والرابعة مذكرة، فدخل على الحجاج فقال: أصلح الله الأمير، سمعت منك كلاماً أردت أن تتم لي به قرة عين؛ فبعت جميع ما أملك، حتى تزوجت أربع نسوةٍ، فلم توافقني منهن واحدة، وقد قلت فيهن شعراً، فاسمع مني، قال: قُل. فقال: تزوجتُ أبغي قُرّةَ العينِ أربَعا ... فياليتَ أنّى لم أكن أتزوَّجُ وياليتنى أَعْمَى أصمُّ ولم أكُنْ ... تزوجتُ بل ياليت أنى مُخَدَّجُ فواخدةٌ ما تعرفُ الله ربَّها ... ولا ما التُّقَى تدري وَلا ما التَّحرُّجُ وثانيةٌ ما إن تقرَّ ببيتها ... مذكّرة مشهورة تتبرَّجُ وثالثة حمقاءُ رَعْنَا سخيفةٌ ... فكل الذي تأتي من الأمر أعوجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ورابعةٌ مفروكةٌ ذاتُ شِرَّةٍ ... فليستْ بها نفسي مَدَى الدهر تُبْهَجُ فهنَّ طلاقٌ كلُّهُن بوائنُ ... ثلاثاً ثلاثاً فاسْهَدُوا لا تلجلجوا فضحك الحجاج حتى كاد يسقط من سريره، ثم قال له: كم مهورهنّ؟ قال: أربعة آلاف درهم. فأمر له بثمانية آلاف درهم. قال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني لا ينكبنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف. روى أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر: أن عبد الله بن رواحة وقع على جارية له، فاتهمته امرأته، فقال: ما فعلت. فقالت: فاقرأ القرآن إذاً. فقال: وفينا رسولُ اللهِ يتلوُ كتابَهُ ... كما انشقّ مشهورٌ من الصبح سَاطِعُ أتانا الهُدى بعد العَمى فقلوبُنَا ... به موقنات أن ما قال واقعُ يبيتُ يجافى جنبه عن فِرَاشه ... إذا استثقلَتْ بالهَاجعينَ المضاجعُ فقالت: أولى لك. وفي رواية أخرى في هذه القصة أنها لما قالت له: فاقرأ إذاً شيئاً من القرآن، قال: سمعتُ بأنّ وعدَ الله حقٌّ ... وأن النَّار مثوى الكاَفِرِينا وأن العرشَ فوقَ الماءِحقٌّ ... وفوقَ العرشِ ربُّ العالَمِينا قالت: ما شاء الله! كذبت عيني، وأنت الصادق. أو نحو هذا. قال المغيرة بن شعبة: إذا كان الرجل مذكراً والمرأة مذكرة تصادما العيش، وإذا كان الرجل مؤنثا والمرأة مؤنثة ماتا هزلاً، وإذا كان الرجل مؤنثاً والمرأة مذكرة كان الرجل هو المرأة، والمرأة هي الرجل، وإذا كان الرجل مذكراً والمرأة مؤنثة طاب عيشهما. قال الحسن: إياكم وسمنة البنات، فإن كنتم لابد فاعلين، فاحفظوهن. قال إياس بن معاوية: من يمن المرأة الولد، ومن بركتها مياسرتها في المهر. كان يقال: لا تزوج كريمتك إلا من عاقل، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها أنصفها. قال غيره: لا تزوج وليتك إلا من ذي دين، فإن أحبها أحسن إليها، وإن أبغضها لم يظلمها. روى أبو العباس عن الأصمعي قال: قال أعرابي لامرأته: صفيني بما تعلمي مني ولا تكتمي. فقالت: أما والله إن كنت لخفيفاً على ظهر الفرس، ثقيلاً على العدو، ضحوكاً مقبلا، كسوباً مدبراً، لا تشبع ليلة تضاف، ولا تنام ليلة تخاف. وعن الأصمعي أيضاً، قال: هلك رجل من العرب، فقيل لامرأته: صفي بعلك، فقالت: والله إن كان - فيما علمت - لضحوكاً إذ ولج، كسوباً إذا خرج، آكلا ما وجد، غير سائلٍ ما فقد. قال الأصمعي، قال الحسن: كان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة تقول: ما حسبه، وما حسبها؟ فلما جاء الإسلام، قالوا: ما دينه، وما دينها؟ وأنتم اليوم تقولون: ما ماله، وما مالها؟. قال الشاعر: لا يأمننَّ على النساءِ أخٌ أَخَا ... ما في الرجالِ على النساءِ أَمينُ إن الأمينَ وإنْ تحفّظَ جَهْدَهُ ... لابدّ أنّ بنظرةٍ سيخونُ قيل لبعضهم: ما تقول في الباه؟ قال: عندي ما يقطع حجتها، ولا يقضي حاجتها. قيل لمدني: ما عندك من هذا الأمر؟ قال: إن منعت غضبت، وإن تركتُ عجزت. قيل لآخر: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظمأ، ثم أرد فلا أشرب. مرت بعيسى بن موسى جاريةٌ، فقام إليها فصرعها، فلما رامها عجز عنها فقال: القلبُ يطمعُ والأسبابُ عاجزةٌ ... والنفسُ تهلكُ بين العجزِ والطمع كان يقال: لعن كل فاجر عند الجماع!!. قالوا: لذة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر محبتها. تزوج رجل - وهو روح بن زنباع - أم جعفر بنت النعمان بن بشير، زوجها له عبد الملك بن مروان، وقال: إنها جارية حسناء، فاصبر على بذاء لسانها، فصحبها ثم أبغضها. فمن قوله فيها: ريحُ الكرائِم معروفٌ لَهَا أَرَجٌ ... وريحُها ريحُ كلبٍ مسَّهُ مطرُ وقد هجته هي أيضاً، فمن قولها فيه: بكى الخَزُّ من رَوْحٍ وأنكرَ جلْدَهُ ... وعجَّتْ عجيباً من جُذامَ المطارِفُ قال بعض الأعراب: من منزلي قد أخْرجتنِي زوجَتِي ... تهرُّ في وجْهِي هَرِيَر الكلبةِ زُوِّجتُها فقيرةً منْ حِرْفَتِي ... قلتُ لها لمّا أراقَتْ جَرَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أمّ هلالٍ أبْشري بالحسرةٍ ... وأبْشري منّي بوقع الضرّةِ خطب النوار بنت أعين بن ضبعة المجاشعية رجل من قيس، فجعلت العقد عليها إلى الفرزدق، وكان أبوها قتلته الخوارج أيام الحكمين، وكان علي رضى الله عنه بعثه إلى البصرة، فقال لها الفرزدق: أشهدي لي أنك جعلت أمرك إلى فإني أخاف من هو أقرب إليك مني من أوليائك. فأشهدت له. فأنكحها الفرزدق من نفسه، وأشهدهم، فلم ترض النوار، فتنازعا. فخرجا إلى عبد الله بن الزبير، وكان العراق والحجاز يومئذ إليه. فتشفعت النوار يومئذ بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري، وتشفع الفرزدق بابنها حمزة بن عبد الله بن الزبير، فأنجحت خولة وشفّعها زوجها ابن الزبير وقال الفرزدق: لا تقربها حتى تصير إلى البصرة فتحكم معها إلى عاملي بها، فقال الفرزدق: أمّا بِنوه فلم يقبلْ شفاعَتَهمُ ... وشّفعوا بنتَ منظورِ بنِ زَبَّانَا ليس الشفيعُ الذي يأتِيكَ مُئْتَزراً ... مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُرْيَانَا خطب العريان بن الهذيل البرجمي امرأةً، فكان أصم وكانت عوراء، فقالت: تسأل عنا ونسأل عنك، فقال: فإن تسألِى عنّا وَعَنْكِ فإنَّنا ... كِلانَا به داءٌ أصمَّ وأعْورَا فقالت: أمّا إذ عرفت الداء فاجلس، فبعثت إلى وليها فزوجها إياه. قال الأصمعي: قيل لأعرابي: من لم يتزوج امرأتين لم يذق لذة العيش، فتزوج امرأتين ثم ندم، فقال: تزوجتُ اثنتين لفرطِ جَهْلي ... بما يَشْقَى به زوجُ اثنتين فقلتُ أصِيرُ بينهما خروفاً ... أنَّعم بين أَكرمِ نعجتينِ فصرتُ كنعجةٍ تُمْسِى وتُضْحِى ... تَرَدَّدُ بين أخبثِ ذئبتينِ رضى هَذِى يهيّجُ سُخطْ هذى ... فما أعْرَى من إحدى السّخْطتينِ وأَلْقَى في المعيشة كلَّ بُوسٍ ... كذاك المرءُ بين الضّرَّتينِ لَهذِى ليلةُ ولتلك أُخرْى ... عِتابٌ دائمٌ في الليلتينِ وقال الغزال: إن الفتاةَ وإن بَدَا لك حبهُّا ... فبقلبها داءٌ عليكَ دفينُ وإذا ادّعين هوى الكبير فإنّما ... هو للكبير خديعةٌ وقُرُونُ وإذا رأيتَ الشيخَ يهوىَ كاعباً ... فَعَلَيْه من دركِ القُرُون دُيُونُ وقال الغزال أيضاً: أنا شيخٌ وقلتُ في الشيخ مَا يَعْ ... لمُه كلُّ أبْلهٍ وذَهِينِ كلُّ شيخ تراه يكثر من كس ... ب الجوارِي فخذه لي بالقرونِ قال الأحنف بن قيس: إذا أردتم الحظوة عند النساء فأفحشوا في النكاح، وأحسنوا الأخلاق. قيل لأعرابي: ما تقول في نساء طيى؟ قال: إذا شئت. قيل: فما تقول في نساء ضبة؟ قال: نك ودحرج. روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " النساء حبائل الشيطان ". قال معاوية: ما رأيت منهوماً في النساء إلا رأيت ذلك في ضعف منته. قال عبد الملك: من أراد النجابة فبنات فارس، ومن أراد النكاح فبنات البربر، ومن أراد الخدمة فالروميات. قال سعيد بن المسيب: ما عرفنا أولادنا حتى عرفنا بنات فارس. قال أبو هلال الراسبي: جاء رجل إلى أهله بجزر، فقال: يا هذه! اطبخيه أو اشويه وكليه، فإن المطبوخ جيد للبطن، والمشوي جيد للظهر، والنِّئ جيد للجماع، قالت: ليس عندنا نار فكله. غاضب رجلٌ امرأته ثم ترضاها، فلجت فكابرها حتى جامعها، فقالت: أخزاك الله، كلما وقع بيني وبينك شيء جئتني بشفيع لا يمكنني رده. قال الشاعر أيمن بن خريم: لقيتُ من الغانياتِ العُجَابَا ... لو أدركَ منى العَذَارى الشَّبابَا ولكنّ جِمَاعُ العذاري الحِسَانِ ... عذابٌ شديدٌ إذا المرءُ شاباَ يُرَضْنَ بكلِّ عَصَا رائضٍ ... ويُصْبحْنَ كلَّ غداةٍ صِعَاباَ عَلاَمَ يكَحِّلْن حور العُيونِ ... ويُحْدثْنَ بعد خَضابٍ خِضَاباَ ويبرُقْنَ إلاّ لما تَعْلَمُون ... فلا تحْرِمُوا الغانياتِ الضّراباَ فلو كلْتَ بالمُدِّ للغانياتِ ... وظاهَرْتَ بعد الثيابِ الثياباَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولم تُنِلْهُنّ من ذاك قُرْباَ ... كأنَّك حَدَّثْتَهُنّ الكذَابَا إذا لم يُخَالَطْنَ كلَّ الخِلاَ ... طِ أصْبَحْنَ مُخْرَ نْطِماتٍ غِضاباَ يميتُ العتابَ خِلاَطْ النساءِ ... ويُحْيى اجتنابُ الخلاطِ السّبَاباَ قضى سلمان بن ربيعة على رجل بأن يأتي امرأته في كل أربع ليلة، فرضى ذلك عمر، وجعله قاضياً بالكوفة، وخبره مشهور قد ذكرناه في مواضع. وروى يعقوب بن طلحة، وإسحق بن محمد السني أن عمر بن الخطاب شكت إليه امرأة أن زوجها لا يأتيها إلا في كل طهر مرة، فقال لها: ليس لك غير ذلك ولا كرامة. روى عن أبي هريرة، وبعضهم يرويه مرفوعاً: أنه قال: فضلت المرأة على الرجل بتسعةٍ وتسعين جزءاً من اللذة، أو قال من الشهوة، ولكن الله ألقى عليهن الحياء. قال المأمون: النساء شر كلهن، وشر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن. قال غيره: الصبر عنهن أهون من الصبر عليهن. قال معاوية: هن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام. كان يقال: النكاح فرح شهر، وغم دهر، ووزن مهر، ودق ظهر. ودخل معاوية بن أبي سفيان على ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد، ومعه خديج الخصى فاستترت منه، فقال لها معاوية: إن هذا بمنزلة المرأة، فعلام تستترين منه. فقالت: كأنك ترى المثلى به أحلت له مني ما حرم الله. كان محمد بن حسين يقول: اللهم ارزقني امرأة تسرني إذا نظرت، وتطيعني إذا أمرت، وتحفظني إذا غبت. قالت أسماء بنت أبي بكر: النكاح رق النساء، فلتنظر المرأة عند من تضع رقها. ضرب عبد الملك بن مروان بعثاً إلى اليمن، فأقاموا سنين، جنى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق، قال: والله لأعسن الليلة مدينة دمشق، ولأسمعن ما يقول الناس في البعث الذي غربت فيه رجالهم، وغرمت فيه أموالهم. فبينما هو في بعض أزقتها إذا هو بصوت امرأة قائمة تصلي، فتسمع إليها، فلما انصرفت إلى مضجعها قالت: اللهم يا غليظ الحجب، ويا منزل الكتب، ويا معطي الرغب، ويا مؤدي الغرب. أسألك أن ترد غائبي، فتكشف به همي، وتصفي به لذتي، وتقر به عيني، وأسألك أن تحكم بيني وبين عبد الملك بن مروان الذي فعل بي هذا، فقد صير الرجل نازحاً عن وطنه، والمرأة مقلقةً على فراشها، ثم أنشأت تقول: تطاول هذا اللّيلُ فالعينُ تدمَعُ ... وأَرّقني حُزْنِي وقلبِيَ مُوجَعُ فبتّ أقاسي الليلَ أرعَى نجومَهُ ... وباتَ فؤادي هامداً يتفزّعُ إذا غابَ منها كوكبٌ في مغيِبهِ ... لمحتُ بعيني آخراً حين يطلعُ إذا ما تذكرتُ الذي كان بينَنَا ... وجدتُ فؤادي للهَوَى يتقطّعُ وكلُّ حبيبٍ ذاكرٌ لحبيبِهِ ... يرَجِّى لِقاهُ كلّ يومٍ ويطمعُ فذا العرشِ فُرج ما ترى من صَبابتي ... فأنت الذي ترعى أموري وتسمعُ دعوتُك في السّراءِ وَالضُّرِّ دعوةً ... على غُلة بين الشراشيف تلْذَعُ فقال عبد الملك لحاجبه: تعرف لمن هذا المنزل؟ قال: نعم، هذا منزل زيد بن سنان. قال: فما المرأة منه؟ قال: زوجته. فلما أصبح سأل كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالوا: ستة أشهر. فأمر ألا يمكث العسكر أكثر من ثلاثة أشهر. قال سليمان بن داود صلى الله عليهما: يا بني! لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبة، فترمى بالشر من أجلك وإن كانت بريئة. قال طفيل الغنوي: إنّ النساءَ كأشجارٍ نَبَتْنَ معاً ... منها المُرَارُ وبعضُ المرِّمأ كولُ إن النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ ... فإنّه واجبٌ لابدَّ مفعولُ وجد صبي منبوذ في بعض مساجد أصفهان، ومعه صرة فيها مائة دينار، ورقعة مكتوب فيها: هذا جزاء من لا يزوج ابنته. كان رجل من أهل الشام مع الحجاج بن يوسف يحضر طعامه، فكتب إلى أهله يخبرهم بما هو فيه من الخصب، وأنه قد سمن، فكتبت إليه امرأته: أُتُهدى ليَ القرطاسَ والخبزُ حاجتي ... وأنتَ على بابِ الأميرِ بطينُ إذا غبتَ لم تذكْر صديقاً وإن تُقِمْ ... فأنت على ما في يديك ضنينُ فأنت ككلبِ السُّوءِ جوَّعَ أَهلَه ... فيهزلُ أهلُ البيت وهو سمينُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 لأبي عيينة المهلبي في رجل من قومه، تزوج امرأة قد تزوجت قبلة مائة زوج فماتوا عنها: رأيتَ أثاثها فرغبت فيه ... وكم نصبتْ لغيرك بالأثاث إلى دارِ المنُون فرحّلَتْهم ... بأجنحةٍ تطيرُ بهم حِثاثِ فصيّر أمرَها بيديّ كَميْا ... أبثُّ حبالها لك بالثلاثِ وإلاّ فالسلامُ عليك مِنّى ... سآخذُ من غدٍ لك في المراثيِ قال إسحاق الموصلي، أنشدني ابن كناسة لنفسه: لقد كان فيها للأَمانِة موضعٌ ... وللسِّرِّ كتمانٌ وللعينِ منظرُ فقلت: ما بقى؟ فقال: أين الموافقة. قال ابن المقفع: وطءُ العجوز وأكل القديد يهرم. قال الشاعر: لا تَنكِحَنّ عجوزاً إن دَعَوْكَ لها ... ولو حَبَوْكَ على تزويجها الذَّهَبَا وإنْ أَتَوْك فقالوا: إنّها نَصَفُ ... فإنّ أَطيبَ نصفيها الَّذي ذَهَبَاَ كتب رجل إلى صديق له نكح عجوزاً: أمسكتَ نفسَكَ حتى إذا ... أتيتَ على الخمسِ والأرْبَعيِنَا تزوجتَها شارفاً فَخْمَةً ... فَلاَ بالرِّفَاءِ ولا بالبنينَا فلا ذاتُ مالٍ تزوجْتَها ... ولا ولدٍ تَرْتجي أن يكوناَ بِهَا أبداً فالتمسْ غيرها ... لعلَّك تُعْطَى بَغثٍ سميناَ قال دعبل، ويقال: إنها لأبي دلف: تعجَّبَتْ إذ رأتْ شيبي فقلتُ لها ... لا تعجبي، من يطل عمرٌ بهِ يُشِبِ شيبُ الرجالِ لهم زينٌ وَمكْرُمةٌ ... وشيبُكُنّ لكنَّ الويلُ فاكتئبي فينا لكنَّ وإن شيبٌ بدا أربٌ ... وليس فيكنّ بعد الشيب من أَرَبِ ولبعض الأعراب: عجوز تُرَجّى أن تكونَ صبيهً ... وقد شابَ منها الرأسُ واحدودب الظهر تَدُسُّ إلى العطار ميرةَ أَهلِهَا ... وَهَلْ يصلح العطارُ ما أفسد الدهر؟ وقال امرؤ القيس: أراهُنّ لا يُحْبِبْنَ من قلَّ مالُه ... ولا مَنْ بدا في عارضَيْهِ مشيبُ وقال آخر: كَفَاكَ بالشيب ذنباً عند غانيةٍ ... وبالشَّبَابِ شفيعاً أيُّها الرَّجُلُ وقال الأعشى: وأرى الغوانِي لا يُواصلن امْرَءا ... فقد الشبابَ وقد يَصِلْنَ الامْرَدَا وقال علقمة بن عبدة: فإن تسألُوني بالنساءِ فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النساءِ طبيبُ إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه ... فليس له في وُدِّهِنّ نصيبُ يُردْنَ ثراءَ المالِ حيثُ علمنَهُ ... وشرخُ الشبابِ عندَهُنّ عجيبُ قال منصور الفقيه: إذا ما استحَرَّ ولم يتَّسِعْ ... ولم يكُ رَطْباً ولا يابساً وحلَّ وأمكَنَ من نفسِهِ ... فنبِّه له جَارَكَ النّاعِساَ وقال منصور النمري: ما واجه الشيبَ من عين وإن وَمِقَتْ ... إلاّ لها نبوةٌ عنه ومرتَدعُ وقال حبيب: أحْلى الرجالِ من النساءِ مواقعاً ... من كان أشبههم بهنّ خُدودَا وقال آخر: أرى شيب الرجال من الغوانِي ... بموقع شيبهنّ من الرّجَالِ شاورَ رجلٌ رجلا في النكاح، فقال له: إيّاك والجمالَ الفائق، فإن الشاعر قال: ولن تصادِفَ مرعًى مُونقاً أبداً ... إلاّ وجدتَ به آثارَ مأكُولِ قال آخر: لا تأمنَنْ أُنْثى حبَتَك بودّها ... إن النساءَ ودادُهُنّ مُقَسَّمُ اليومَ عندك دَلُّهَا وحديثُها ... وغداً لغيِرك كفَهُّا والمعصمُ وقال ابن هبيرة: يا راعى الذَّودِ لا تَرْحل لِمكْرُمَةٍ ... إنّ القلاصَ إذا ما غَابَ رَاعيها لم يَثْنِها أَحدٌ دون الفحولِ فلا ... تهملْ قلوصَكَ إمّا كنت تَحميِها ولا تَلمُهَا على وِرْدٍ وقد ظَمِئَتْ ... لو شئتَ أَرْوَيْتها إذْ كنتَ سَاقيِها احُظرْ مشاربَها، واحففْ جوانبهِا ... وارْمُمْ مذاهِبَها، تسلم قَوَاصِيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 خليّتَها لفحولٍ غير فاخرةٍ ... في كلَ برِيَّةٍ قفْرٍ فَيَافِيها حتى إذا أَخْدَجَت في كل منزلةٍ ... بكيتَ، أبْكى إلهي عينَ مُبْكيِها باب الأمثال السائرة في النساء لا تحمد الحرة عام هدائها، ولا الأمة عام شرائها. من ينكح الحسناء يعط مهراً. من يمدح العروس إلا أهلها؟. لكل فتاة خاطب، ولكل أمر طالب. كل ذات دل تختال. كاد العروس أن يكون أميراً. وليس لمخضوب البنان يمين. لا تسد الثغور بالمحصنات. قال الشاعر: كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ وهذا الشعر لعبد الرحمن بن حسان، وذلك أنه كانت عند المختار بن أبي عبيد امرأتان، إحداهما أم ثابت بنت سمرة بن جندب، والأخرى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري، فعرضهما مصعب على البراءة من المختار، فأما بنت سمرة فتبرأت منه فخلاها، وأما الأنصارية فامتنعت فقتلها، فقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك: إنّ من أعجبِ العَجائبِ عِندِي ... قتلُ بيضاءَ حرةٍ عُطبولِ قُتِلَتْ باطلاً على غير جُرْمٍ ... إن للهِ دَرَّهَا من قتيلِ كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانياتِ جَرُّ الذُّيولِ النساء بالنساء أشبه من الماء بالماء، ومن الغراب بالغراب، ومن الذئاب بالذئاب. كل غانية هند. نعم لهوُ المرأة المغزل. البياض نصف الحسن، والعجيزة أحد الوجهين. لا عطر بعد عروس. أخذه الشاعر فقال: من كان يبكى لِمَا بِي ... من طولِ وَجْدٍ رَسيِسِ فالآنَ قبلَ وفاتِي ... لا عِطْرَ بعد عَرُوسِ العوان لا تعلم الخمرة. لما زوج أسماء بن خارجة ابنته، دخل عليها ليلة بنائها، فقال: يا بنية، إن كان النساء أحق بتأديبك، ولا بدّ من تأديبك، كوني لزوجك أمةً يكن لك عبداً، ولا تقربي منه جداً فيملك أو تمليه، ولا تباعدي عنه فتثقلي عليه، وكوني له كما قلت لأمك: خُذِي العَفْوَ منّى تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سوْرَتِي حينَ أغضبُ ولا تَنْقٌرِيني نَقْرَةَ الدُّفِّ مَرَّةً ... فإنّك لا تدرِين كيفَ الْمُغَيّبُ فإنّي رأيتُ الحبّ في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يَلْبث الحبُّ يذهبُ بابُ اللّباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحريرُ حلالٌ لباسهُ لإناث أمتي، حرامٌ على ذكورها ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّما يلبس الحريرُ من لا خلاق له في الآخرة ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس ثوبَ شهرةٍ وعزةٍ في الدنيا أكسبه الله ثوب مذلة يوم القيامة ". سئل عمر بن الخطاب عن لبس الحرير للنساء، فقال: هن لعبكم؛ فزينوهن بما شئتم. وروى مرفوعاً أيضاً: " من ليس منظوراً، وركب مشهوراً، لم يزل الله عنه معرضاً، وإن كان عليه كريماً ". قال عبد الله بن عمر: من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه وإن كان ولياً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك في النار، لا ينظر الله عزّ وجل إلى من جرّ ثوبه خُيَلاَء ". ولما ذكر الإزار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أم سلمة: إذاً ينكشف عنها. قال: " فذراعٌ لا تزيد عليه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم من كاسيةٍ في الدنيا، عاريةٍ يوم القيامة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " كاسياتٌ عاريات، مائلاتٌ مميلاتٌ، لا يدخلن الجنة ولا يجدنَ ريحها " وريحها يوجد من مسيرة خمس مائة عام. كان يقال: كل من الطعام ما اشتهيت، وألبس من الثياب ما اشتهى الناس. نظمه الشاعر، فقال: إن العيونَ رَمَتْك مُذ فَاجَأتَهَا ... وعليك من شَهْرِ اللِّباسِ لباسُ أمّا الطعامُ فكلْ لنفسك ما اشتهتْ ... واجعل لباسَك ما اشتهاه الناسُ ويروى: أمّا الطعام فكل لنفسك ما اشتهتْ ... والبس لباساً يَشْتهيه الناسُ وقال هلال بن العلاء الرقي: أجِدِ الّثيابَ إذا اكتسيتَ فإنّها ... زينُ الرجالِ بها تُهاب وتُكْرَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ودع التَّواضُعَ في اللّباس تحرّياً ... فاللهُ يعلم ما تجنُّ وتكتمُ فَدَنِىّ ثوبِك لا يزيدُك زُلْفَةً ... عند الإله وأنت عبدٌ مُجْرمُ وبهاءُ ثوبِك لا يضرُّك بعد أنّ ... تخشى الإله، وتَتّقى ما يَحْرُمُ كان بكر بن عبد الله المزني، يقول: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية. وقال الحسن: إن قوماً جعلوا خشوعهم في لباسهم، وكبرهم في صدورهم، وشهروا أنفسهم بلباس هذا الصوف، حتى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبراً من صاحب المطرف بمطرفه. قال الوليد بن مزيد: كان الناس عندنا يلبسون الأردية، وكان الأوزاعي يلبسها، فترك الناس لبسها ولبسوا السيجان، فرأيت الأوزاعي قد ترك لبس الأردية ولبس الساج، فقلت له: يا أبا عمرو! كنت تلبس الأردية فتركتها ولبست الساج، فما الذي دعاك إلى ذلك، فقال: يا ابن أخي! رأيت الناس يلبسون الأردية فلبستها معهم، وتركوها فتركتها معم، ولبسوا السيجان فلبست معهم، ولو عادوا إلى الأردية لعدت معهم. قال سفيان بن حسين: قلت لإياس بن معاوية: ما المروءة؟ قال: أما في بلدك فالتقوى، وأما حيث لا تعرف فاللباس. روى بقية عن الأوزاعي، قال: بلغني أن لباس الصوف في السفر سنة، وفي الحضر بدعة. كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحب من الألوان الخضرة ويكره الحمرة، ويقول: " هي زينة السلطان ". قال مالك بن الأشتر لعلي بن أبي طالب: تمام جمال المرأة في خفها، وتمام جمال الرجل في عمامته. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسامة بن زيد في بعض السرايا فعممه بيده وسدل طرف عمامته. قيل لأعرابي: إنك لتديم لبس العمامة؟ قال: إن عضواً فيه السمع والبصر لحقيق أن يوقى من الحر والقر. روى عن النبي عليه السلام، أنه قال: " الشعر الحسن كسوة الله، فأكرموه ". وقال عليه السلام لأبي قتادة: " رجل جمتك وأحسن إليها وأكرمها ". قال أبو هريرة: إذا كان في الرجل ثلاث فهو الكامل، إذا فخر في المجلس وأحسن جوابات الكتب، وأحسن كور العمامة. روى الرياشي وأبو حاتم عن الأصمعي، قال: ألا أدلك على لباس إن لبسته كان سريا، وإن رفعته كان بهيا، وإن ذخرته كان طرياً؟ قال: نعم. قال: عليك بالتقوى. قال: ألا أدلك على خليلٍ إن صحبته صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن تجرت به أربحك، وإن ترحلت به حملك؟ قال: نعم. قال: عليك بالأدب. ثم قال: ألا أدلك على بستانٍ تكون منه في أكمل روضة، وميت يخبرك عن المتقدمين، ويذكرك إذا نسيت، ويؤنسك إذا استوحشت، ويكف عنك إذا سئمت؟ قال: نعم. قال: عليك بالكتاب. قالت ابنة العوام أخت الزبير لزوجها حكيم بن حزام - وكان كثير المال -: مالك لا تلبس لباس الناس اليوم؟ قال: وما تنكرين من لباسي، وإزاري قطري، وردائي مغافري، وقميصي سابري، وعمامتي خرقانية. نظر بعض الأمراء إلى رجلٍ في أطماره فازدراه، فقال له: أصلحك الله، لا تنظر إلى هيئتي، ولكن انظر إلى همتي، فأنا - والله - كما قال عبد الله بن زياد: فإنْ أَكُ قَصْداً في الرجالِ فإنّني ... إذا حلَّ امرؤٌ ساحتي لجسيمُ وكما قال الآخر: لا تنظرنّ إلى الثيابِ فإنّني ... خَلِقُ الثَّيَاب، من المُروءةِ كاَسِي أنشد ثعلب: وإنما الشّعر عقلٌ أنت تَعْرِضه ... على المجالس إنْ كَيْساً وإن حُمُقا وإنّ أشعرَ بيتٍ أنت قائُلهُ ... بيتٌ يقالُ إذا أنشَدتَه صَدَقا البس جديدَك إنّي لابسٌ خَلَقي ... ولا جديدَ لمن لا يلبسُ الخَلَقا قال عبد الله بن المبارك: مخامر الرجال في اللحى والأكمام، ومخامر النساء تحت القمص. وأنشد غير واحد للشافعي رحمه الله تعالى: علّى ثيابٌ لو تباعُ جميعُها ... بفَلْسٍ لكان الفَلْسُ منهنّ أكثّرا وفيهنّ نفسٌ لو يقاسُ ببعضها ... نقوسُ الورى كانت أجلَّ وأكبراَ وأخذ هذا المعنى ابن أبي الفضل البصري الشاعر يخاطب المتنبي، فقال: لئن كان ثوبي فوقَ قيمته الفَلْسُ ... فلي فيه نفسٌ دون قيمتها الإِنسُ فثوبُك بدر تحت أنواره دُجًي ... وثوبَي ليلٌ تحتَ أطمارِه شمسُ وسبق إلى هذا المعنى ابن هرمه، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قد يدركُ الشرفُ الفَتَى وردَاؤُهُ ... خَلَقٌ وجَيبُ قميصِهِ مرقوعُ كان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، وكانا يتجالسان في المجلس ويتحدثان الدهر، لا ينكر واحد منهما لباس صاحبه. نظر ابن المبارك ببغداد إلى رجل عليه ثياب صوف لا تخالطها غيرها، فقال من هذا؟ فقيل له: هذا أبو العتاهية الشاعر، فكتب إليه ابن المبارك: أيُّها القارئ الذي لبس الصُّو ... ف وأضحى يُعَدُّ في العُبّادِ الْزَمِ الثَّغْرَ والتعبُّدَ فيهِ ... ليس بغدادُ موضعَ الزُّهَّادِ إن بغدادَ للملوكِ محلٌّ ... ومناخ للقارئ الصَّيَّادِ وقال محمود الوراق: تصَوَّف فازْدَهَي بالصُّوف جَهْلاً ... وبعضُ النّاسِ يَلْبَسهُ مَجاَنَه يُريكَ مَهَانَةً ويُجِنّ كِبْراً ... وليس الكبر من شكل المَهَانَه تصنّع كيْ يُقال له أمين ... وما معنَى التَّصَنُّع للأَمَانْه ولم يردِ الإلَه به ولكنْ ... أرادَ به الطريقَ إلى الخيَانَهْ وقال آخر: وثياب المرء جِلْوا ... زٌ له بَيْنَ يديَهْ وقال آخر: لا يعجبنّك من بَصُون ثيابَهُ ... حَذَرَ الْغُبَارِ وَعِرْضُهُ مَبْذولُ ولربّما افتقرَ الفتى فرأيَتهُ ... دنسَ الثيابِ وعِرْضُهُ مَغسُولُ أنشدني إبراهيم بن محمد، قال: أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي لنفسه في أبي مسلم ابن فهد الهذلي الإشبيلي، وذكر حكاية عرضت له معه: أبا مُسْلم إنّ الفَتَى بجَنَانِهِ ... ومِقْوَلِهِ لا بالمراكبِ واللُّبْسِ وليسَ ثيَابُ المرءِ تُغْنِى قُلاَمةً ... إذا كان مقصوراً على قِصَرِ النَّفْسِ وليس يُفيدُ العلمَ والحلمَ والُّتقى ... أبا مُسْلمٍ طولُ القُعود على الكُرْسِي ولا تُبْتني العليا بكأسٍ وقينةٍ ... وصهباءَ لم تَنْغَرْ بها القِدْرُ كالوَرْسِ أعيَّرْتَني أن لم أفرِّه مَطِيَّتي ... وأنّ ثيابِي غيرُ بيضٍ ولا مُلْسِ فربَّ ثيابٍ رثّة حشوُها فتىً ... أجدُّ مُمِرٌّ غيرُ فَسْلٍ ولا نِكْسِ وآخرُ بَرَّاقُ الثيابِ وعِرْضُهُ ... من العَارِ والتَّدْنِيسِ رجِسٌ عَلَى رِجْسِ فإمَّا تَهوُلَنْكَ البغالُ فإنّها ... منوّعةٌ عند اليّهُوديِّ والقَسِّ قال رجل للحسن بن أبي الحسن: يا أبا سعيد! إنا قد وسع الله علينا أفنناك من كسوة وعطر ما لو شئنا اكتفينا بدونه، فما نقول؟ قال: أيها الرجل! إن الله قد أدب أهل الإيمان فأحسن أدبهم، قال تعالى: " ليُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ، ومَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فلينفِقْ مما آتاهُ اللهُ "، وإن الله ما عذب قوماً أعطاهم الدنيا فشكروه، وما عذر قوماً زوى عنهم الدنيا فعصوه. روى عن لقمان الحكيم، أنه قال: التقنع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة. وقد روى هذا عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم. قال رجل لإبراهيم النخعي: ما ألبس من الثياب؟ فقال: مالا يشهرك عند العلماء، ولا يحقرك عند السفهاء. باب المراكب من الخيل وغيرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة، الأجرُ والمغتم ". وقد ذكرنا في الآثار الثابتة في الخيل وفضلها، وفضل رباطها، والأجر في اكتساب ذلك، في كتاب - التمهيد - ما فيه شفاء، وإشراف على المعنى والحمد لله. كان يقال: لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلوها، ولا تجزوا أعرافها فإنها أدفاؤها، ولا تجزوا أذنابها فإنها مذابُّها. وقد روى هذا الكلام مرفوعاً. قال عمر بن الخطاب: عليكم بإناث الخيل، فإن بطونها كنز، وظهورها حرز. وقد روى هذا مرفوعاً أيضاً. قال علي بن أبي طالب: الخيل المطلب والمهرب. قال ابن عباس رضى الله عنه: أحبُّوا الخيل واصْطبروا عَلَيْها ... فإنّ العزَّ فيها والَجمَالا إذا ما الخيلُ ضَيّعها رجالٌ ... رَبَطْنَاها فشاركتِ العِيَالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 نُقاَسُمها المعيشةَ كلَّ يومٍ ... ونكسوها البراقِعَ والجِلاَلاَ قال الحسن البصري: الجفاء مع أذناب الإبل، والذلة مع أذناب البقر، والسكينة مع أذناب الغنم، والعز مع نواصي الخيل وقد روى بعض هذا مرفوعاً. قال خالد بن صفوان: الخيل للرغبة والرهبة، والبراذين للدعة، والبغال للسفر البعيد والأثقال، والإبل للتحمل، والحمير للزينة وخفة المؤونة. ساير شبيب بن شيبة بعض الأمراء، وهو على برذون، والأمير على فرس، فقال له الأمير: سِر، فقال: كيف أسايرك وأنت على فرس، إن تركته سار، وإن حركته طار، وأنا على برذون، إن تركته وقف، وإن ضربته قطف. فأمر له بفرس فاره. قيل لأعرابي: صف لنا فرسك. قال: سوطه عنانه، وهمه أمامه، وما ضربته قط إلا ظالماً له. بعث الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بفرس، وكتب إليه: قد وجهت إليك بفرس حسن المنظر، محمود المخبر، أسيل الخد، رشيق القد. قال بعض الحكماء: أكرم الخيل أجزعها من الضرب، وأكرم الصفايا أشدها ولها إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهار أشدها ملازمة لأمهاتها. للحسن بن يسار: يا فارساً تَرْهَبُ الفرسانُ صَوْلَتَهُ ... أما عَلمِتَ بأن النَّفْسَ تُفْتَرَسُ يا راكبَ الفرسِ السّامي بغُرَّتِهِ ... ولابسَ السَّيْفِ يحكي لونَهُ القبسُ لا أنت تبقى على سيفٍ ولا فَرَسٍ ... وليس يبقى عليك السَّيْف والفَرَسُ وهو شعر جيد محكم، فيه مواعظ وحكم، وأوله: إنّ الحبيبَ من الأحبابِ مُخْتَلسُ ... لا يمنعُ الموتَ حُجَّابٌ ولا حَرَسُ قال بعض البلغاء: البغل تواضع عن خيلاء الخيل، وارتفع عن ذلّة العير، فهو وسط، وخير الأمور أوساطها. قال ابن أبي طاهر: ما وصف برذون بأحسن من قول المسلمي من ولد مسلمة بن عبد الملك، واسمه محمد بن يزيد: فإذا احْتَبَى قَرَبُوسَه بِعنَانِه ... عَلَكَ الشَّكيِمَ إلى انْصِرافِ الزَّائر باب الطعام والأكل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعجبه الذراع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيد أدام الدنيا والآخرة، اللحم ". قال سفينة: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حباري، وقال في الضب: " لست بآكله ولا بمحرمه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فلا تأكلوا الثوم ولا البصل، ومن أراد أكلهما فليمتهما طبخاً ". والكراث والفجل في معنى الثوم والبصل. قال عمر بن الخطاب: إياكم واللحم، فإن له ضراوةً كضراوة الخمر. إنما كره الإدمان عليه، والله أعلم، لما فيه من التنعم والتشبه بالأعاجم، ألا ترى أنه كتب إلى عماله: اخشوشنوا، وإياكم والتنعم وزي العجم. ذكر عند بعض العرب اللحم، فقال: إنه ليقتل السباع. يريد إدخال بعضه على بعض قبل تمام الهضم - والله أعلم. خطب عمر بن الخطاب يوماً، فقال: إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، مؤذية للجسم. وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد من الأشر، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة، وإن امرءًا لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه. مر علي بن أبي طالب بمجلسٍ من مجالس الأنصار، فسلم عليهم، فقاموا له وحفوا به ورحبوا وقالوا: لو نزلت فأكلت من طعامنا، فقال لهم: إما حلفتم علينا، وإما انصرفنا. قال علي بن أبي طالب: المعدة حوض البدن، والعروق واردة عليها وصادرة عنها، فإذا صحت صدرت العروق عنها بالصحة، وإذا سقمت صدرت العروق بالسقم. قال بعض الأطباء: اللحم ينبت اللحم، والشحم لا ينبت اللحم ولا الشحم. قال علي بن أبي طالب: الشحم يخرج مثله من المدا. أتى عمر بن عبد العزيز بيته يوماً، فقال: هل عندكم من طعام؟ فأصاب تمراً وشرب من ماء، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. قيل للشعبي: أي الطعام أحب إليك؟ قال: ما صنعه النساء، وقل فيه العناء. قال سلمان: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نجد في التوراة أو قال في الإنجيل: البركة في الطعام غسل اليد قبله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البركة في الطعام غسل اليد قبله وبعده ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للطعام حقا. قيل: وما حقه يا رسول الله؟ قال: ذكر الله في أوله وحمده في آخره ". ومن حديث على بن ثابت، عن حمزة بن أبي حمزة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نَسِى أن يُسم الله على طعامه، فليقرأ: قل هو الله أحد ". نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالشمال، والشرب بالشمال، وعن الاستنجاء باليمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيبه عمر بن أبي سلمة: يا بني: " قل بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ". كان علي بن أبي طالب إذا دعى إلى طعام أكل شيئاً قبل أن يأتيه، ويقول: قبيح بالرجل أن يظهر نهمته في طعام غيره. وقال رحمه الله: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقل غشيان النساء. قال منصور الفقيه: قارب فديتُك إن أكلْ ... تَ وإن شربتَ وإن غَشِيتاَ وأنا الكفيلُ لك الحيا ... ةَ بأن تعافَى ما حييتاَ قال قيس بن أبي حازم: نزل بي أعرابي من أحمس، فلم آله تكرمةً، فقال لي: أكل الحي يجد مثل هذا الذي أرى عندك؟ فقلت: إن أخبثهم عيشاً يشبع من الخبز والتمر، فقال: أقسم بالله لئن كنت صادقاً ليوشكن أن يقتتلوا، فإن العرب - والله - ما زالت إذا شعبت اقتتلت. قال قيس: فلم ألبث إلا أربعة أشهر حتى قتل عثمان، ثم كانت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين والنهروان. قال الشعبي: الناس في جنة الله تعالى ستة أشهر - يعني أيام الرطب. ذكر أبو الحسن بن مقسم، قال: سمعت محمد بن مسلم الزجاج جارنا، قال: سمعت عباس الدوري، يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: لا يمل الباذنجان عاقل. وسمعت القاضي أبا عمرو، يقول: لو علم الثور الذي يحمل الباذنجان أنه عليه، تاه على الثيران. قلت: هذا لمن استطابه، وعذب عنده، وأما من جهة الطب، فذمه عندهم أكثر من مدحه. قال طريح بن إسماعيل الثقفي: دَعْ بَعْضَ أكلك ربّ آكلِ أكلةٍ ... يوماً سيلفظها إذا هُو لاكَهَا ولبعض المتأخرين في رجل مات من أكلةٍ أكلها في شعرٍ له فيه: يا مَنْ جنت كَفُّه على جَسَدِه ... يَرْحَمُك الله يا قَتِيلَ يَدِهْ قال الفضيل بن عياض: خصلتان يقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل. قال حميد الأرقط: أتانا ولم يَعْدِلْه سحبان وائِلُ ... بياناً وعلماً بالّذي هو قائلُ فما زال عنه اللقُم حتّى كأنّه ... من العيِّ لما أن تكلّمَ باقلُ دعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى غدائه، فقال له قد تغديت. قال عبد الملك: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا تكون فيه بقية للطعام! فقال: يا أمير المؤمنين! بي فضل، ولكنى كرهت أن آكل فأصير إلى ما استقبح أمير المؤمنين. قال إبراهيم النخعي: ما رأيت راكباً أحسن من زبدٍ على تمر. قال الشاعر: ألم تَرَ أن الزُّبْد بالتّمرِ طيبٌ ... وأنّ الحُبَاري خالةُ الكَرَوَانِ قال عمر بن بحر: العامة لاتشك بأن الكروان ابن الحباري. وقال آخر: نُنَافِسُ في طيبِ الطَّعام وكلُّه ... سواءٌ إذا ما جَاوَز اللَّهَوَاتِ دعا الحجاج رجلا إلى غدائه، فقال: قد تغدّيت. قال: إنك لتباكر الغداء قال: لخلالٍ ثلاث: إن ناجيتُ رجلا لم يجد في خلوفا، وإن شربت ماء شربته على ثقل، وإن حضرت قوماً على طعام حضرتهم ومعي بقية من غرض. فعجب منه. قال سليمان بن عبد الملك لسالم بن عبد الله، وقد رآه حسن السحنة: أي شيء تأكل؟ قال: الخبر والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته. قال له: وتشتهيه؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه. قيل لأعرابي: أتحسن تأكل الرأس؟ قال: نعم. فقيل له: كيف تأكله؟ فقال: أبخص عينيه، وأسحي خديه، وأفك لحييه، وأعفص أذنيه، وأرمى بالدماغ إلى من هو أحق به مني. قيل لبعض العقلاء: أي الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم. كان يقال: نعم الإمام الجوع، ما ألقيت إليه شيئاً إلا قبله وطاب عنده. روى معن بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: الخبيص يزيد في الدماغ. وروى عن جعفر بن محمد رحمه الله، أنه قال: الخلال بعد الطعام يشد اللثات، ويجلب الرزق، ويطيب نكهة الفم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 دخل جنادة بن أبي أمية على معاوية، وهو يأكل، فدعاه إلى الأكل، فقال: أنا صائم، قلم تزل الألوان تختلف بين يدي معاوية حتى جئ بجدي محنوذ سمين، فقال جنادة: ليأمر لي أمير المؤمنين بماء أغسل يدي وآكل من هذا الجدي. فقال له: ألم تقل إنك صائم؟ قال: بلى. ولكنى على رد يوم أقدر منى على رد مثل هذا الجدي. فضحك معاوية وأمر بالماء، فغسل يده وأكل معه. قال الحسن البصري: غسل اليد قبل الطعام ينفي الفقر. وبعد الطعام ينفي اللحم. كان يقال: أحب الطعام إلى الله عز وجل ما كثرت عليه الأيدي. قال أبو بكر الهذلي: إذا جمع الطعام أربعاً كمل، إذا كان حلالاً، واجتمعت عليه الأيدي، وسمى الله في أوله، وحمد في آخره. كان يحيى بن معين يتمثل: المالُ يَنْفدُ حِلُّهُ وحَرَامُه ... يوماً وتَبْقَى في غدٍ آثامُهُ ليسَ التقىّ بُمّتقٍ في دِيِنِه ... حتى يَطِيب شَرابُه وطعامُهُ قال لقمان لابنه: يا بني! لا تأكل شيئاً على شبع، فإنك إن تركته للكلب خير لك من أن تأكله. كان الحسن بن علي رضى الله عنه، يقول: ائتونا بالخوان نأتنس به حتى يأتي الطعام. كان لكسرى جامٌ فيه حب رمان يسف منه بين كل لونين ملعقة ليعرف اختلاف الألوان. روى عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رجل من أهل الشام: أنعت لكم الأكل؟ قالوا: نعم. قال: إذا أكلت فابرك على ركبتيك. وافتح فاك، وأحدج عينيك، وفرج أصابعك، وعظم لقمتك، واحتسب نفسك. قال عبد الله بن دينار: ما سمعت عبد الله بن عمر يحدث بهذا الحديث قط، فبلغ قوله: واحتسب نفسك، إلا ضحك حتى بدت نواجذه. قال أبو الهندي، وهو من ولد شبث بن ربعي: أكلت الضِّبَاب فما عِفْتُها ... وإني لأهوى قديدَ الغَنَمْ ورَكَّبْتُ زُبْداً على تمرةٍ ... فنعم الطعامُ ونعم الأُدُمْ وما في البُيُوض كبيض الدجاج ... وبيضُ الجرادِ شفاء القَرَمْ ومُكْنُ الضِّباب طعام العُرَيْبِ ... ولا تشتهيِه نفوسُ العَجَمْ قال عمرو بن بحر: الجراد المأكول منه، ضروب: منه الأهوازي، وفيه المذنب، وأطيبه الأعرابي، وأهل خراسان لا يأكلونه. قال: والجراد الأعرابي لا يتقدمه في الطيب شيء، وما أحصى كم سمعت من الأعراب من يقول: ما شبعت منه قط، وما أدعه إلا خوفاً من عاقبته، أو لأني أعيا فأترك. قال: والجراد يطيب حاراً وبارداً ومشوياً ومطبوخاً، منظوماً في الخيط، أو مجعولا في المسلة. قال: والبيض المقدم في الطيب ثلاثة أجناس: بيض الأشبور، وبيض الدجاج، وبيض الجراد. - وبيض الجراد - فوق بيض الأشبور في الطيب؛ وبيض الأشبور فوق بيض الدجاج. قال: والجرد يؤكل يابساً وغير يابس، ويجعل إداما ونقلا. قال: وذكرت امرأةٌ الجراد، فقالت لها أخرى: كيف حبك فيه؟ قالت: والله إنه لأحب إلى من الحبل. كان بشر بن المعتمر، خاصاً بالفضل بن يحيى، فقدم عليه رجل من مواليه - وهو أحد بني هلال - فجاء به يوماً إلى الفضل ليكرمه بذلك، وحضرت المائدة، وذكر الضب ومن يأكله، فأفرط الفضل في ذمه وتابعه القوم، ونظر الهلالي فلم ير على المائدة عربياً غيره، وغاظه كلامه، فلم يلبث أن أتى الفضل بصفحةٍ ملأى من فراخ الزنابير ليتخذ له منها بزماورد، والدبر والنحل عند العرب أجناس من الذبان، فلم يشك الهلالي أن الذي رأى من ذبان البيوت والخشوش، وكان الفضل حين ولي خراسان، قد استطرف بها بزماورد الزنابير، فلما قدم العراق كان يتشهاها، فتطلب له وتساق من كل مكان، فشمت به وأصحابه لما رأى من ذلك، وخرج وهو يقول: وعِلْجٍ يعافُ الضَّبَّ لؤماً وبطنةَ ... وبعضُ إدامِ العِلْج هامُ ذُبَابِ ولو أنَّ مَلْكا في الوري ناك أمَّهُ ... لقالوا له: أوتيتَ فصلَ خطابِ قال الحسن بن هانئ: إذا ما تميميٌّ أتاك مُفَاخِراً ... فقلْ: عَدِّ عن ذا، كيف أَكْلُكَ للضَّبّ تفاخرُ أَبْنَاءَ الملوكِ سفاهةً ... وبَوْلُكَ يجري فوق سَاقِكَ والكَعْبِ وقال ابن المعتز: رأيت بيوتاً زُيِّنَت بنمارقٍ ... وزُيِّن ما فيهنَّ بالوَشْيِ والطُّرْزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فلم أر ديباجاً ولم أَرَ سُنْدُساً ... بأحسنَ في بيتِ الكريم من الخبزِ وقال آخر: فكم من أكْلةٍ مَنَعَتْ أَخَاهَا ... بلَّذةِ ساعةٍ أَكَلاَتِ دَهْرِ وكم من طالبٍ يَسْعَى لشيءٍ ... وفيه هلاكُهُ لو كان يدرِي قال المأمون: سبعة أشياءٍ لا تمل، أكل خبز البر، وشرب ماء العنب، وأكل لحم الضان، والثوب اللين، والرائحة الطيبة، والفراش الوطئ، والنظر إلى كل شيء حسن. فقال له الحسن ابن سهل: أين محادثة الإخوان يا أمير المؤمنين؟ قال: هن ثمانٍ وهي أولهن. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يرويه عن علي، أنه قال: لا يقام عن الطعام حتى يرفع. قال ابن عباس: من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج. روى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، أنه قال: رب البيت آخر من يغسل يديه. وقال أبو الزناد: من إكرام الضيف وحسن الأدب في مؤاكلته، أن تغسل يديك قبله أولا، وبعده آخراً. لعبد الله بن المبارك، وتمثل بها المأمون: احضر طعامَك وابْذُلْه لمن أكلا ... واحَلِفْ على من أبى، واشكرْ لمن فَعَلاَ ولا تكن سَابريَّ العَرْضِ مُحْتَشِماُ ... مِنَ القليلِ، فلستَ الدَّهْرَ مُحْتَفِلاَ وقال آخر في ذم الشراب: لا تفتكنّ على الكؤوس بِشُرْبها ... فهيَ التي بكَ عن قليلٍ تَفْتِكُ يكفيك منْها أنَّ عقَلكَ تَارةً ... يبكي عَلَيْك، وَأنَّ جَهْلك يضحكُ وقال آخر: وإني لأستحيي أكيلِيَ أن يَرَى ... مكانَ يدي من جانبِ الزَّاد أقْرَعَا أبيتُ هضم الكَشْح مضطمر الحشا ... من الجُوع أحْشى الذَّمَ أن أتضَلَّعَا وإنَّك إنْ أَعطيتَ بطنك سُؤْلَهُ ... وَفَرْجَكَ نالا مُنْتَهَى الذِّم أَجْمَعَا وقال كعب بن سعد الغنوي: وزادٍ رفعتُ الكفَّ عنه تَجَمُّلاً ... لأوثَر في زادِي علىَّ أكيِلي وما أنا للقول الذَّي لَيْس نَافِعِي ... ويغضبُ منه صاحبي بَقؤُولِ باب النوم وتصرف المعاني فيه روى أن المسيح عليه السلام قال: خلقان أكرههما، النوم من غير سهر، والضحك من غير عجب، والثالثة وهي العظمى: إعجاب الرجل بعلمه. قال داود لابنه سليمان عليهما السلام: إياك وكثرة النوم، فإنه يفقرك إذا احتاج الناس إلى أعمالهم. قال لقمان لابنه: يا بني! إياك وكثرة النوم والكسل والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق. كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: بلغني أنك لا تقيل، وإن الشياطين لا تقيل. قال علي: من الجهل النوم في أول النهار من غير سهر، والضحك من غير عجب، والقائلة تزيد في العقل. قال عبد الله بن مسعود: النوم - عند الموعظة من الشيطان -. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: النوم على ثلاثة أوجه، نوم خرق، ونوم خلق، ونوم حمق. فأما النوم الخرق، فنومة الضحى، يقضى الناس حوائجهم وهو نائم، وأما نوم الخلق، فنوم القائلة نصف النهار، وأما نوم الحمق، فالنوم حين تحضر الصلوات. قال غيره: نوم أول النهار خرق، ونوم القائلة خلق، ونوم العشى حمق، والنوم بين العشاءين يحرم الرزق. قيل لأعرابي: ما يدعوك إلى نومه الضحى؟ قال: مبردة في الصيف، مسخنة في الشتاء. قال بعض العلماء: النعاس يذهب العقل، والنوم يزيد فيه. قال عبد الله بن شبرمة: نوم نصف النهار يعدل شربة دواء، يعني في الصيف. قال عباس بن الأحنف: قالوا: تنامُ، فقلت: الشّوْق يمنعُني ... من أن أنامَ وعيني حشَوها السُّهُدُ أبكي الذَّين أذاقُوني مَوَدّتَهُمْ ... حتّى إذا أيقظوني للهوى رَقَدُوا هم قد دَعَوْني فلما قمتُ مقتضيا ... للجبِّ نحوَهُمُ من قُرْبهم، بَعُدُوا لأخرجنّ من الدنيا وحُبُّهُمُ ... بين الجوانِحِ لم يَشْعرْ به أحدُ كان يقال: لإبليس لعوق وكحل وسعوط، فلعوقه الكذب، وكحله النعاس عند سماع الخير، وسعوطه الكبر. قال علي بن الجهم، يهجو قوما: أكثرُ ما يعرفُه القّوْمُ ... الأكْلُ والراحةُ والنّومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 نوكي مياسيرٌ إذا عدت الْ ... أيّام لم يُعْرَف لهم يومُ وقال آخر: عجبتُ لطّرْفي والكَرَى إذ تنافَرَا ... وقد كانَ قبلَ اليومِ بينهُمَا وَصْلُ كأنّ البكا أغراهُما بتفرُّقِ ... فلم يجتمعْ من بعدهِ لهما شملُ أنشد ابن دريد: ولذِّ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيّ تركُتُه ... بأرض العِدَا من خَشْيةِ الْحَدَثَانِ ومُبْدٍ لي الشَحْناءَ بيني وبينّهُ ... دعوتُ وقد طال السُّري فَدَعَانيِ وفسر اللذَّ فقال: اللذُّ: اللذيذ، وأراد به هنا النوم. والصرخدي: الخمر، وقيل العسل. وللفرزدق، أو غيره: يقولُون طالَ الليلُ والليلُ لم يَطُلِ ... ولكنّ من يَبْكِ من الشّوّقِ يَسْهرِ وقال بشار: لم يطل ليلى ولكن لم أنَمْ ... ونَفَى عنّي الكَرَى طيفٌ أَلَمّ قال أبو ملجم الأعرابي: أبيتُ أُرَاعِي النَّجْمَ حتّى كأنّنِي ... بناصيتي حَبْلٌ إلى النَّجْم مُوثَقُ وما طال ليلى غير أنّي أَحبُّها ... أُعَلّلُ نفسي بالأماني فتَعْلَقُ وقال علي بن بسام: لا أظلمُ الليلَ ولا أدّعي ... أنّ نجومَ السّماءِ ليستْ تَغُورْ لَيْلِى كما شَاءَتْ فإن لم تَزُرْ ... طَالَ، وإنْ زارت فليِلى قصيرْ قال عدي بن الرقاع: وكأنّ ليِلى حينَ تَغْرُبُ شمسُهُ ... بسَوادِ آخرَ مثّلهُ مَوصُولُ لأبي جندب الهذلي، فيما ذكر المدائني: تعَالَوْا أعينوني على اللّيل إنَّهُ ... على كلِّ عينٍ لا تَنَامُ طويلُ قال المدائني، وهو القائل أيضاً: ألاّ أَيُّها النُّوامُ ويحكُمُ هُبُّوا ... أسَائلكم هَلْ يقتلُ الرَّجُلَ الحبُّ قال: وهو القائل: قل للمليحِة في الخمارِ الأسْوَدِ وذكر الأبيات، وليس هذا موضعها، وغير المدائني ينشد قوله: ألا أيها النوام ... لجميل بن معمر، وينشد: قل للمليحة في الخمار الأسود ... للدارمي. قال صالح بن حسان يوماً لجلسائه: أيكم ينشد بيتاً نصفه لمخنث يتفكك بالعقيق، ونصفه لأعرابي في شملة بالبادية؟ قالوا: ما نعرفه. قال: هو قول ابن معمر: ألا أيُّها الركب النِّيامُ ألا هبّوا ... أسَائِلكُم هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟ ولعباس بن الأحنف: أيّها النَّائِمون حَوْلِي أَعيِنُو ... نِي عَلَى اللَّيلِ حِسْبَةً وائْتِجَارَا حَدِّثُونِي عن النّهارِ حديثاً ... أوصفُوهُ فقد نسيتُ النّهَارَا وقال خالد الكاتب: رَقَدْتَ ولم تَرْثِ للسَّاهِرِ ... ولَيْل الْمُحِبْ بلا آخِرٍ ولم تَدْرِ بعدَ ذهابِ الرُّقَادِ ... ما فعلَ الدَّمع بالنّاظِر وقال سعيد بن حميد: يا ليلُ بل يا أَبَد ... أنائمٌ عَنْك غَدُ يا ليلُ لو تَلْقَى الذي ... أَلْقَى بها أو تجدُ قُصِّر من طُولِك أَوْ ... ضُعِّفَ منك الجَلَدُ ولبعض أهل عصرنا: إلْفِي قريبٌ وأُنْسِي ما يتمُّ بِهِ ... واللَّيْلُ يَقطَعُ صَبْرِي كلَّه طُولاَ إذا كواكبُهُ الأخْرَى أردتُ بها ... مِنْ غُمَّتِي فَرَجاً عَادَتْ لِيَ الأولَى وللمنتصر بالله: رأيتُك في المَنَامِ أَقلَّ بخْلاً ... وأطوعَ منك في غَيْر المَنَامِ فليتَ الصُّبْح زَالَ فلا تراه ... وليت الليل أُخِّرَ ألفَ عامِ فلو أنّ النُّعاسَ يُبَاع بيعاً ... لأغليتُ النُّعَاس على النيامِ باب الحمام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّكم سَتَفْتَحُون الشَّامَ، فَتجدون فيها بيوتاً تُدعى الَحمامات، فلا يَدخلها من النساء إلا مريضةٌ أو نُفَسَاء، ولا يحلّ دخولها لرجل إلاّ بمئزَر ". قال أبو هريرة: بئس البيت الحمام، يكشف العورة، ويذهب الحياء. قال أبو الدرداء: نعم البيت الحمام، يذهب الدرن، ويذكر النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قال ابن القاسم: سئل مالك عن القراءة في الحمام. فقال: القراءة بكل مكان حسنة، وليس الحمام بموضع قراءة، فمن قرأ الآية والآيتين فليس بذلك بأس، وليس الحمام من بيوت الناس الأول. كان الحسن إذا دخل الحمام أغمض مخافة أن تقع عينه على عورة أحد، وربما قادة غلامه. ودخل أبو حنيفة الحمام فرأى فيه قوماً لا مآزر لهم، فأغلق عينيه، وجعل يتهدي بيديه. فقال له أحدهم: متى ذهب بصرك يا أبا حنيفة؟ قال: منذ انكشفت عورتكم. كان يقال: إذا جمع الحمام خمس خصال فقد كمل: أن يكون قديم البناء، عذب الماء، كثير الضياء، مرتفع الهواء، وأفضل ذلك كله: أن يكون الحوض نقياً معتدل الحر. قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن دخول الحمام، فقال: ما أن وجدته خالياً، أو كنت تدخل مع قوم يستترون ويتحفظون فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان يدخله من لا يبالي ولا يتحفظ لم أر أن تدخله، وإن كنت متحفظاً. قال أصبغ: وأدركت ابن وهب يدخله مع العامة متحفظاً، ثم ترك ذلك، وكان لا يدخله إلا مختليا. قال شمس المعالي: أَنتَ في الحمّام موقو ... فٌ على قَلْبِي وَسَمْعي فتأَمّلها تجدْهَا ... كُوِّنَتْ من بعضِ طَبْعِي حَرّهَا من حَرّ أَنْفَا ... سِي وفيضُ الماءِ دَمْعي ودخل أعرابي البصرة، قدمها من البادية فنزل على قريب له، فلما رآه أشعث الرأس عزم عليه في دخول الحمام، وقال له: إنه يوم جمعة تطهر في الحمام وتنظف، فلما دخل الأعرابي الحمام، زلقت رجله وسقط، فأصابته شجة فوق حاجبه، فخرج وهو يقول: وقالوا: تَطَهّرْ إنه يوم جُمْعَةٍ ... فأُبْتُ من الحَّمامِ غيرَ مطهّرِ تزوَّدْتُ منه شَجّةً فوق حاجِبِي ... بغيِر جهادٍ بئسَ ما كان متجرِي تقول لَي الأعرابُ لما رأونني ... بِهِ لا تَلَبَّثْ، بالصَّرِيَمةِ أَعْقِرِ فما تَعْرِفُ الأعرابُ في السُّوقِ مِشْيَةً ... فكيفَ ببيتٍ ذيِ رخام وَمَرْمَرِ باب في البراغيث والبق والبعوض في الحديث المرفوع: لا تلعنوا البرغوث فإنه نبه نبياً من الأنبياء لصلاة الصبح، حديث ليس بقوي الإسناد. انفرد به سويد أبو حاتم، يباع الطعام عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أعرابي بالبصرة: ظللتُ بالبَصْرَة في مِرَاشِ وفي براغيثَ أَذَاهَا فَاشِي من نافرٍِ منها وذِي خِرَاشِ يَرْفَعُ جنبيّ عن الفِرَاشِ فأنا في حرب وفي تَخْرَاشِ يَترك في جَنْبَّي كالحَوَاشِي وزوجةٍ دائمة الهرَاشِ تَغْلِي كغَليِ المِرْجَل النَشْنَاشِ وقال رجلٌ من بني حمان، وقع في جند الشام، مندوباً في بعض حصون الساحل: أَأَنْصُرُ أهلَ الشَّام ممن يكيدُهُمْ ... وأَهْلِي بنجدٍ ذات حرص على النصرِ براغيثُ تُؤذْيني إذَا النَّاسُ نَوَّمْوا ... وبقٌّ أقاسيِهِ على سَاحِلِ البَحْرِ تضيف عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، رجلا من الأعراب كان يأتيه يتصيد عنده، ففرش له في بيت خال من ناحية داره، فبات فيه، ثم غدا عليه فقال: يا أبا عثمان! ماذا رأيت هذه الليلة! قال: وما ذاك؟ قال: سود حدب زرق آذينني، وقد قلت فيهن شعراً، قال: وما هو؟ قال: قلت: الليل نصفان نصف للهموم فما ... أقضى رقاداً ونصف للبراغيث أبيت حيث تساميني أوائلها ... أنزو وأخلط تسبيحاً بتغويث سود مداليج في الظلماء مؤذية ... وليس ملتمس منها بمشبوث كأنهن وجلدي إذ خلون به ... أيتام سوءٍ أغاروا في مواريث ليل البراغيث أنكاني وأرقني ... لا بارك الله في ليل البراغيث قال أعرابي: إن البراغيث لهن عض ... وحكة وألم ممض كأنما تنبتهن الأرض وذكرت البراغيث عند أعرابي من قيس، فقال: ليلها ناصب ومددها دائب. وذكرت البراغيث عند رجل من كلب، فقال: أخزاها الله، ما أدنأ صغارها، وما أشر كبارها، وأخفى أنظارها، وأقبح آثارها. قال أحمد بن إسحاق: ما للبراغيث أفنى الله جملتها ... حتى يقوم برغوث بدينار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لروضة من رياض الحزن معشبة ... بها الظباء تراعي غب أمطار أشهى لقلبي من درب به نبط ... ومنزل بين حجامٍ وجزار وقال آخر: ما للبراغيث أخزى الله ليلتها ... من يلق منهن ما لاقيت لم ينم كأنهن وجلدي إذ ظفرن به ... وضمني مضجعي، يطلبنني بدم قال أعرابي: لم أر كاليوم ولا مذ قط ... أطول من ليلي بنهر بط كأنما نجومه في ربط ... أبيت بين خطتي مشتط من البعوض، ومن التغطي ... إذا تغنين غناء الزط وكن مني بمكان القرط ... وخزنني وخزاً كوخز الشرط وقال آخر، يصف بعوضة وخرطومها: مثل السفاة دائم طنينها ... ركب في خرطومها سكينها ولأبي إسحق الصابي، وهو إبراهيم بن هلال الكاتب في البعوض قال: ألحت صروف الدهر من كل جانب ... على بأصناف الأذى والجوائح وأخرجنني من مواطن كان جنتي ... لحسن مرابعه وحسن الروائح وعوضنني من ذلك الظل والجني ... على الرغم من أنفي بسكني البطائح محل خسيس لا يطيب مساؤه ... لثاويه والإصباح ليس بصابح بليت ببقً ذي مناسر طعمه ... لحوم صناديد الرجال الجحاجح وقد كنت في بغداد أشكو بغاثه ... فكيف اصطباري للبزاة الجوارح أجاور في جنح الدجى كل جحفلٍ ... يجالدني أبطاله بالصفائح إذا سفكت كفى دماً من بغوضةٍ ... فذلك جزء من دمٍ لي طائح له وخزة في السمع قبل وقوعه ... على الجسم من تغريد نشوان صابح فكم مستغيث ساهر العين صائح ... إلى مثله من شاهر العين صائح وكم غائص في النوم يصفح نفسه ... لنبلة رامٍ أو لطعنة رامح لسويد بن منجوف العبدي، وكان قديماً جاهلياً: أبي القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غرير به البق والحمى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور ولأعرابي من بني جفنة مازحاً: مر الجراد على زرعي فقلت له: ... الزم طريقك لا تولع بإفساد فقال منهم خطيب فوق سنبلةٍ ... أنا على سفرٍ لابد من زاد ولابن المعتز في البعوض أيضاً: بت ليلى كله لم أطرف ... لجرجس كالزئبر المنتف يلسعننا بالسعر المخوف ... يعذب المهجة إن لم تتلف ويثقب الجلد وراء المطرف ... حتى يرى فيه كشكل المصحف ولي أصف ما لاقيت من البغوض بإشبيلية في الشرف، وفي مدينة قبتور ومدينة قبطيل، وذلك حين مبيتي بها، وما منه تلقي المدينة أيضاً: بعوض قبتور والقبطيل والشرف ... قد آذنت بذهاب النفس والتلف فمن مثير دخانٍ يستجير به ... وآخرٍ مختفٍ في الثوب ملتحف قد غيب الرأس والرجلين مستتراً ... بالبيت من طرفٍ فيه إلى طرف ويلي من الجرجس المثنى عقربه ... ينصب مثل عقابٍ جاع مختطف يؤم أذني هجماً كالمهدد لي ... وكالمنادي بأخذ الهارب النطف خرطومه كسنان لا يقوم له ... ثوب مثنى ولو قد كان من خزف يا ويله من عدو لست تدفعه ... إلا بلطم على الأعضاء منصرف نفي البعوض أناساً من مساكنهم ... على البحيرة في غربٍ من الشرف وساحل البحر طولا أصل منبته ... يغشى المدينة في الأبيات والغرف وليس عنهم بستر أو مدافعةٍ ... أو حيلةٍ قد أعدوها بمنحرف ولغيري في البعوض ببلنسية: ضاقت بلنسية بي ... وذاد عنها غموضي رقص البراغيث حولي ... على غناء البعوض باب في السجن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر ". روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه حبس رجلا في تهمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 سجن عمر بن الخطاب الحطيئة في قوله في الزبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي بعد أن سأل حساناً ولبيداً فقالا: إنه هجاء له وضعة منه، فأمر به فحبس، وقيل إنه رماه في بئر لا ماء فيها، فقال الحطيئة: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الإثر فامنن على صبيةٍ في الرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاهم بها القدر أهلي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض داويةٍ يعمى بها الخبر فكلمه فيه عبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، واسترضياه حتى أخرجه من السجن، ثم دعاه فهدده بقطع لسانه إن عاد يهجو أحداً. كتب على باب سجن بالعراق: هاهناتلين الصعاب، وتختبر الأحباب. مكتوب على باب سجن كبير من سجون الملوك: هذه منازل البلوي، وقبور الأحياء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ولأعرابي مسجون: ولما دخلت السجن كبر أهله ... وقالوا: أبو ليلى الغداة حزين وفي الباب مكتوب على صفحاته ... بأنك تنزو ثم سوف تلين وقال علي بن الجهم في السجن في شعر له: خرجنا من الدنيا من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السجان يوماً لحاجةٍ ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا فإن حسنت لم تأت عجلي وأبطأت ... وإن هي ساءت بكرت وأتت عجلي ولبعض السجان: ما يدخل السجن إنسان فتسأله ... ما بال سجنك إلا قال مظلوم وقال آخر: أسجن وقيد واغتراب وعبرة ... وفقد حبيب إن ذاك عظيم وإن امرءًا تبقى مواثيق عهده ... على كل هذا إنه لكريم كتب أبو العتاهية من السجن إلى الرشيد يستعطفه ويسترحمه، فوقع له في رقعته: لا بأس عليك. فأعاد عليه أبو العتاهية رقعةً أخرى فيها: أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يواسوا أمين الله أمنك خير أمنٍ ... عليك من التقى فيه لباس تساس من السماء بكلب بر ... وأنت به تسوس كما تساس كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس أمين الله إن الحبس باس ... وقد وقعت ليس عليك باس لما سجن عضد الدولة فناخسرو أبا إسحق الصابي وقبض عليه، واستصفى أمواله، وذلك في حين قتله عز الدولة بختيار بن أحمد بن بويه الديلمي، وكان الصابي كاتب بختيار على ديوان الإنشاء، فزار أبو الفرج الببغاء الشاعر أبا إسحق الصابي في السجن ثم قطعه، فكتب إليه الصابي: أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص مضت مدة تستام ودي غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص وآنستني في محبسي بزيارةٍ ... شفت كمداً من صاحبٍ لك قد خلص ولكنها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص وأحسبك استوحشت من ضيق محبسٍ ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص تحوشيت يا قس الطيور فصاحةً ... إذا نثر المنظوم أو درس القصص من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحدائه جرع الغصص فأجابه أبو الفرج الببغاء: أيا ماجداً في حلبة المجد ما نكص ... ويا كاملاً في رتبة الفضل ما نقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلالٍ تواري في السرار وما خلص بدولة تاج الملة الملك الذي ... له في أعالي قبة المشتري حصص تقنصت إلطافي وما كنت قبل ذا ... أظن بأن المرء بالبر يقتنص فأصبحت لا أخشى أذية جارحٍ ... ورأيك لي وكر وقلبك لي قفص باب الوكلاء قال بعض الحكماء: لا مال لمن لا صبر له على خيانة الوكلاء وإضاعة الكفاة. قال نصر بن سيار: لا تتخذ الوكيل داهيةً أريباً، ولا ذا عشيرة منيعة، فإنك إن قاومته أيام حياتك، عجز عنه ولدك بعد وفاتك. كان عمر بن مهران يكتب في نهاية اسمه: اللهم احفظه ممن يحفظه. لما مرض يعقوب بن حميد التاجر، قال له بعض ولده: أي شيءٍ تشتهي؟ قال: كبد وكيل. قال نصر بن سيار: لعن الله وكيل الضيعة، إن عشت أكلها دونك، وإن مت ادعاها بعدك، وإن كان عاجزاً جاهلا استهلكها، وإن كان قوياً ذا عارض أعملها فيك ولم يعملها لك. ذكر أن القحذمي مات وله ضيعة في يد وكيل، فكابر عليها. قال شقران العلامي: ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد الأمور الماضيات وكيل باب العادة ومالا ينسى قال أكثم بن صيفي: ما يسرني أني مكفي أمر الدنيا. قيل: ولم؟ قال: أخاف عادة العجز. قال العرب: العادة أملك بالإنسان من الأدب. وقالوا: العادة طبيعة ثانية. كان يقال: ما دخل باللبن لم يخرج إلا مع الروح. قالوا: الخير عادة، والشر لجاجة. قال الراجز: تعود الخير فالخير عادة ... تدعو إلى الغبطة والسعادة قال الشاعر: ما إن تخلقت إلا شيمتي خلقاً ... إن الخلائق تأبى دونها الخلق قال الشاعر: كل امرئٍ صائرٌ يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين وقال آخر: فإن يشرب أبو عثمان أشرب ... وإن كانت معتقةً عقارا وإن يأكل أبو عثمان آكل ... وإن كانت خنانيصاً صغارا وقال آخر: وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ... ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم وقال آخر: وكنت إذا علقت حبال قومٍ ... صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا أشاء سوى مشيئتهم فآتى ... مشيئتهم وأترك ما أشاء باب في المنجمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلم باباً من النجوم، فقد تعلم باباً من السحر، ما زاد زاد ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا ". قال عمر بن الخطاب: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم أمسكوا. قال الخليل بن أحمد: أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب شاهد أن من تكهن أو نجم ... زار على المقادير كاذب عالم أن ما يكون وما كان ... قضاء من المهيمن واجب وقال آخر: علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب شيءٍ لا ينال وبال هيهات ما أحد مضى ذو فطنةٍ ... يدري متى الأرزاق والآجال إلا الذي هو فوق سبع سمائه ... ولوجهه الإعظام والإجلال وقال أبو العباس الناشئ: سألت المنجم عن رحلةٍ ... أؤمل براً عليها وبحرا فقال المنجم لي: لا تسر ... فإنك إن سرت لاقيت شرا فإن كان يعلم أني أسير ... فقد جاء بالنهي لغواً وهجرا وإن كان يجهل سيري فكيف ... تراني إذا سرت لاقيت ضرا وقال أبو تمام الطائي: والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لاقى السبعة الشهب يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ... ما كان في فلك منها وفي قطب وفيها يقول أبو الطيب المتنبي: فتبا لدين عبيد النجوم ... ومن يدعى أنها تعقل وقال منصور الفقيه: قول المنجم شيء ... دعا إليه التوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فلا تصدق بشيءٍ ... مما يقول المنجم وله أيضاً: إذا كنت تزعم أن النجوم ... تضر وتنفع من تحتها فلا تنكرن على من يقول ... بأنك بالله أشركتها وله أيضاً: لو أن نجماً تكلم ... لقال: صكوا المنجم لأنه قال جهلاً ... بالغيب ما ليس يعلم وقال أيضاً: قالوا أعد فلان ... لخوف هذا القران زادا كثيراً وداراً ... وثيقة البنيان فقلت بات فلان ... يرجو النجاة بذان هلا استعان على ما ... يخشى من الحدثان بمن وقاه وليداً ... مكروه كل زمان ومن غذاه جنيناً ... في ضيق ذاك المكان وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: فأين الزيج والقانو ... ن والأركند والكمه وأين السند هند البا ... طل الجدول هل ثمه سوى الإفك على الله ... تعالى منشر الرمه إذا كان أخو النجم ... يرى الغيب بما ضمه فلم ذا يطلب الرزق ... طلاب العاجز الهمه وهذي الأرض قد وارت ... كنوزاً عدةً جمه فلا والله ما لل ... هـ وخلق يحتوي علمه أخبرني عبد الله بن محمد بن يوسف، قال أخبرنا أحمد بن مالك بن عابد، قال: أخبرني أحمد ابن محمد بن عبد ربه أبو عمر الشاعر، قال: دخلت على الوزير جهور بن الضيف، وكان القحط قد ألح، والغيث قد احتبس واغتم الناس لذلك، وتحدث المنجمون بتأخر الغيث مدة طويلة، فوجدت عنده ابن عزر المنجم وجماعةً من أصحابه، وقد أقاموا الطالع وعدلوا، وقضوا بتأخير الماء شهراً. فقلت للوزير: إن هذا من أمور الله المغيبة، وأرجو أن يكذبهم الله بفضله، ثم خرجت عنه وأتيت داري، فجاء أول الليل والسماء قد تغيمت، ونمت ساعة، فما أيقظني إلا نزول الماء، فقمت وقربت مني المصباح، ودعوت بالدواة والقلم، فما رفعت يدي حتى نسخت هذه الأبيات، ثم صابحت بها الوزير، فسر بها واستحسنها. وهي: ما قدر الله هو الغالب ... ليس الذي يحسبه الحاسب قد صدق الله رجاء الورى ... وما رجاء عنده خائب وأنزل الغيث على راغبٍ ... رحمته إذ فنط الراغب قل لابن عزرا السخيف الحجا ... زري عليك الكوكب الثاقب ما يعلم الشاهد من حكمنا ... كيف بأمرٍ حكمه غائب وقل لعباس وأشياعه ... كيف ترى؟ قولكم الكاذب خانكم كيوان في قوسه ... وغركم في لونه الكائب فكلكم يكذب في علمه ... وعلمكم في أصله كاذب ما أنتم شيءٌ ولا علمكم ... قد ضعف المطلوب والطالب تغالبون الله في حكمه ... والله لا يغلبه غالب محبوب الحبر الذي ماله ... في فهمه ند ولا صاحب قد أشهد الله على نفسه ... بأنه من جهلكم تائب وأنشدني عباس بن يحيى بن قزمان لعمه عيسى بن قزمان: هذا بإذن الله ما شاء قدره ... وليس فيما قضى كيوان والقمر لو كان عند النجوم السابحات بما ... يجري على الخلق من أنبائهم خبر لم يحتلل بذراهم ريب حادثةٍ ... بل كان ينجيهم الإنذار والحذر ما كان ينجل منهم عالم ولداً ... في ساعةٍ ما بها نحس ولا كدر تقيه أنجمه صرف الزمان فلا ... يأتي عليه ولا يفني له عمر هيهات ذلك أمر لا يطاق ول ... كن الفتى ينتهي حيث انتهى القدر وللقرشي سعيد بن العاص المرواني: مستحيل أن تدرك الأوهام ... علم غيب تغيب عنه الأنام كيف يحتاز علمه بشري ... وهو علم قد حازه العلام لست ممن يقول فيه يجهلٍ ... ما يقول الكندي والنظام كل من قال إن للنجم حكما ... لم يجز فاعلمن عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 سطر الأولون فيه أساطي ... ر ولم يلهموا الرشاد فهاموا إذا أرادوا بالسند هند وبالأركند والزيج روم مالا يرام خبطوا في أمورها خبط عشوا ... ء حين ضلت في كنهها الأوهام والذي هينموا به من قريبٍ ... هذيان آثاره البرسام إنما السبعة الدراري أجرا ... م ولكن لا تعقل الأجرام وصفوها بالفهم وهي شخوص ... ما لديها فهم ولا إفهام وحكوا أنها تؤثر في العا ... لم والعالمون عن ذا نيام كذبوا ليس للكواكب نقض ... في جميع الورى ولا إبرام والذي قاله الأوائل فيها ... فهو مالا يقوله الإسلام إنما سخرت بقدرة باري ... ها إلى أن يحين منه انصرام فهي تجري في رتبة ليس تعدو ... ها ولا يستحيل فيها النظام كل يومٍ تساق فيه إلى الغر ... ب سراعاً كما تساق السوام ليس يقضي كيوان أمراً كما قا ... لوا، ولا المشتري ولا بهرام لا ولا الشمس في البروج ولا البد ... ر الذي ينجلي به الإظلام إنما الأمر الذي خلق الخل ... ق وتمضي بعزمه الأحكام باب ثلاثةٍ من الحكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: " يا علي! ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثٌ منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات: فالعدل في الرضى والغضب، وخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغني والفقر. وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ". وروى عنه عليه السلام، أنه قال: " ثلاثة من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، وثلاث من شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء ". وفي الخبر المأثور: " الخير كله في ثلاث: السكوت والكلام والنظر، فطوبى لمن كان سكوته فكره، وكلامه حكمة، ونظره عبرة ". كان الحسن يقول: أصول الشر ثلاثة: الحرص والحسد والكبر، فالكبر منع إبليس من السجود لآدم، والحرص أخرج آدم من الجنة، والحسد حمل ابن آدم على قتل أخيه. قال ابن عجلان: ثلاثة لا يصلح العمل إلا بهن: التقوى، والنية الحسنة، والإصابة. روى سفيان، عن جامع بن أبي راشد، عن ميمون بن مهران، قال: ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر، الأمانة تؤدي الى البر والفاجر والعهد يوفي به للبر والفاجر، والرحم توصل برةً كانت أو فاجرة. ثلاثة لا شيء أقل منهن، ولا يزددن إلا قلة: درهم حلال تنفقه في حلال وأخ في الله تسكن إليه، وأمين تستريح إلى الثقة به. قال عمر بن الخطاب: الفواقر في ثلاث: جار سوء في دار مقام، إن رأى حسنةً سترها، وإن رأى سيئة أذاعها. وامرأة سوء إن دخلت لسنتك، وإن غبت عنها لم تأمنها. وسلطانٍ جائر إن أحسنت لم يحمدك، وإن أسأت قتلك. قال الحسن: لولا ثلاث ما وضع ابن آدم رأسه: المرض والفقر والموت. قال الضحاك أو غيره من الحكماء: إذا ظفر إبليس من ابن آدم بثلاث لم يطلبه بغيرهن: إذا أعجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسى ذنوبه. قال مسلمة بن عبد الملك: العيش في ثلاث: سعة المنزل، وكثرة الخدم، وموافقة الأهل. قال الخليل بن أحمد: ثلاث ينسين المصائب: مر الليالي، والمرأة حسناء، ومحادثة الإخوان. وقال غيره: ليس لثلاثٍ حيلة: فقر يخالطه كسل، وخصومة يداخلها حسد، ومرض يداخله هرم. وقال غيره: ثلاثة تجب مداراتهم: الملك السليط، والمرأة، والمريض. ثلاثة يعذرون في سوء الخلق: المريض، والمسافر، والصائم. ثلاثة لا يستخف بهم: عامل السلطان، والعالم، والصديق: لأن من استخف بالسلطان أفسد ونياة ومن استخف بالعالم أفسد دينه ومن استخف بالصديق أفسد مروءته. ثلاثة أشياء تخلق العقل، وتفسد الذهن: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر في البحر. ومما يفسد الذهن ثلاثة: الهم والوحدة والفكر. ثلاثة تهرم وربما قتلت صاحبها: الجماع على الامتلاء، ودخول الحمام على البطنة، وأكل القديد اليابس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ثلاثة يفرح بهن الجسد ويربو: الطيب، والثوب اللين، وشرب العسل. ثلاثة تورث الهزال: شرب الماء البارد على الريق، والنوم من غير وطاء، وكثرة الكلام برفع الصوت. فال سليمان بن موسى: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليمٌ من سفيه، وبر من فاجر، وشريف من دنئ. قال أبو الدرداء: ثلاث لا يحبهن غيري: أحب الموت اشتياقاً إلى ربي، وأحب المرض تكفيراً لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعاً لربي، فذكر ذلك لابن شبرمة، فقال: ولكني لا أحب واحدة من الثلاث، أما الفقر فو الله للغني أحب إلى منه، لأن الغنى به توصل الرحم، ويحج البيت، وتعتق الرقاب، وتبسط اليد بالصدقة. وأما المرض فو الله لأن أعافي فأشكر أحب إلى من أن أبتلي فأصبر، وأما الموت فو الله ما يمنعنا من حبه إلا ما قدمناه وسلف من أعمالنا، فنستغفر الله. يقال: ثلاث موبقات: الحرص، وهو أخرج آدم من الجنة: والحسد دعا ابن آدم إلى قتل أخيه، والكبر حط إبليس عن مرتبته. قال سفيان الثوري: دخلت على جعفر بن محمد، فقال لي: يا سفيان! إذا أنعم الله عليك نعمةً فاحمد الله، وإذا استبطأت رزقاً فاستغفر الله، وإذا حزبك أمر فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال لي: يا سفيان! ثلاث وأي ثلاث. ثلاث خصال من حقائق الإيمان: الاقتصاد في الإنفاق، والإنصاف من نفسك، والابتداء بالسلام. ثلاث من لم تكن فيه لم يطعم الإيمان: حلم يرد به جهل الجاهل، وورع يحجزه عن المحارم، وخلق يداري به الناس. ثلاث لا يعرفون إلا في ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة. قال ابن مسعود: ثلاث من كن فيه، ملأ الله قلبه إيماناً: صحبة الفقيه، وتلاوة القرآن، والصيام. قال عمر بن الخطاب: الرجال ثلاثة: رجل عاقل عفيف مسلم ينظر في الأمور فيوردها مواردها ويصدرها مصادرها إذا أشكلت على عجزة الرجال وضعفتهم، ورجل يلبس عليه رأيه، فيأتي ذوي الرأي والمقدرة فيستشيرهم، وينزل عند ما يأمرونه به، ورجل جاهل لا يهتدي لرشد، ولا يشاور مرشداً. قال: والنساء ثلاث. وقد ذكرتها في باب النساء. من فقد ثلاثاً ساء عيشه: النساء، والمال، والإخوان. ثلاث لا يأنف الكريم من القيام عليهن: أبوه، وضيفه، ودابته. ثلاث يسهرون: قرض فأر، وأنين مريض، ووكف بيت. ثلاثة لا راحة منها إلا بالمفارقة لها: السن المتآكلة والمتحركة، العبد الفاسد على مولاه، والمرأة الناشز عن زوجها. ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: إذا حمده جاره، ورفيقه، وقرابته. كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق. ثلاث الإقدام عليهن غرر: شرب السم على التجربة، وركوب البحر للغناء، وإفشاء السر إلى النساء. قال الشاعر: ولن يشرب السم الزعاف أخو الحجا ... مدلا بترياقٍ لديه مجرب ثلاثة من عازهم عادت عزته ذلة: السلطان، والوالد، والعالم. وقد قيل: السلطان والوالد، والغريم. ثلاثة تبنو الموعظة عن قلوبهم كنبو الماء عن الصفاة: امرأة مغرمة برجل، وشيخ مغرم بشرب الخمر، وملك فاجر. ثلاث لا يستحيا منهن: طلب العلم، ومرض البدن، وذو القرابة الفقير. ثلاث من أحسن شيءٍ فيمن كن فيه: جود لغير ثواب، ونصب لغير دنيا، وتواضع لغير ذل. قال سفيان الثوري: ما بقي لي من نعيم الدنيا إلا ثلاث: أخٌ ثقة في الله أكتسب في صحبته خيراً، إن رآني زائغاً قومني، أو مستقيماً رغبني، ورزق واسع حلال ليست لله على فيه تبعة، ولا لمخلوق على فيه منة، وصلاة في جماعة أكفى سهوها وأرزق أجرها. قال بزر جمهر: ثلاث نواطق وإن كن خرسا: كسوف البال دليل على رقة الحال، وحسن البشر دليل على سلامة الصدر، والهمة الدنية دليل على العزيزة الردية. قال الشاعر: وما ضربوا لك الأمثال إلا ... لتحذو إن حذوت على مثال باب أربعة أربع خصال من السعادة، وأربع من الشقاوة، فأما التي من السعادة: فالمركب الهني. أو قال: الوطي، والزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح. وأما التي من الشقاوة: فالمركب الصعب، والزوجة السوء، والمسكن الضيق، والجار السوء. أربع تعرف بهن الأخوة: الصفح قبل الاستقالة، وتقدم حسن الظن قبل التهمة، ومخرج العذر قبل العتب، وبذل الود قبل المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقال الحسن: أربع من كن فيه ألقى الله عليه محبته، ونشر عليه رحمته. من بر والديه، ورفق بمملوكه. وكفل اليتيم. وأغاث الضعيف. أربع من سنن المرسلين: التعطر، والنكاح، والسواك، والختان. أربع لا ينبغي للشريف أن يأنف منهن: قيامه عن مجلسه لأبيه، وحديثه ضيقه، وقيامه على فرسه - وإن كان له مائة عبد -، وخدمته العالم ليأخذ من علمه. ذكر بعض قريش عبد الملك بن مروان، فقال: كان آخذاً لأربع، تاركا لأربع: يأخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المئونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقى، وكان تاركاً لمحادثة اللئيم، ومنازعة اللجوج، ومماراة السفية، ومصاحبة المأفون. قال الحسن البصري: لما هبط آدم آوحى الله إليه: أربع فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك، أما واحدة فلى، والثانية فلك، وأما الثالثة فبيني وبينك، وأما الرابعة فبينك وبين الناس. أما التي لي: فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك فعملك أجزيكه أفقر ما تكون إليه، وأما الني بيني وبينك: فعليك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فتصاحبهم بما تحب أن يصاحبوك به. أربعة تحتاج إلى أربعة: الحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقرابة إلى المودة، والعقل إلى التجربة. أربعة لا بقاء لها: مودة الأشرار، والبيت الذي ليس فيه تقدير، والمال الحرام، والكسب الذي ليس معه تقدير. أربع من حصل عليها واجتمعت عنده، اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة عفيفة، وخدين موافق، ومال واسع، وعمل صالح، قال منصور الفقيه: أفضل ما نال الفتى ... بعد الهدى والعافية امرأة جميلة ... عفيفة مواتية قال عبد الله بن عمر: أربع من كن فيه بوئ بهن بيتاً في الجنة: شهادة ألا إله إلا الله، وإن أصاب ذنباً استغفر الله، وإن جرت عليه نعمة، قال: الحمد الله، وإن أصابته مصيبة استرجع فقال: إنا الله وإنا إليه راجعون. أربع تفسد العقل وتؤثر فيه: الإكثار من أكل البصل، ومن أكل الباقلاء، ومن الجماع، ومن السكر. أربع من كن فيه كان كاملا، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صلحاء قومه: دين يرشده، وعقل يسدده، وحسب يصونه، وحياء يقوده. قال منصور الفقيه: فضل التقى افضل من ... فضل اليسار والحسب إذا هما لم يجمعا ... إلى العفاف والأدب أربع من سلم منهن سلم من مكاره الدنيا والآخرة في الأغلب: العجلة، والتواني، واللجاجة، والعجب. أربعة تقبح وهي في أربعة أقبح البخل في الأغنياء والفحش في النساء والكذب في القضاة والظلم في الحكام. أربعة قالها جعفر بن محمد، لا تستقل القليل منها: الدين، والنار، والعداوة، والمرض. قال الشاعر: أربعة يعجب منها النهي ... يجهلها ذو مرةٍ حاسره فواحد دنياه قدامه ... ليست له من خلفه آخره وآخر دنياه منقوصة ... من خلفه آخره وافره وثالث فاز بكلتيهما ... قد جمع الدنيا مع الآخره ورابع مطرح بينهم ... ليست له دنيا ولا آخره الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديان، والفقير. قالوا: أربعة تشتد معاشرتهم: الرجل المتواني، والرجل العالم، والفرس المرح، والملك الشديد المملكة. أربعة تشتد مؤونتهم، النديم المعربد، والجليس الأحمق، والمغني التائه، والسفلة إذا أثرى. أربعة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والذاكر حتى يفتر، والإمام العدل، ودعوة المظلوم. أربعة لا يقدرن على أن يشبعن: النار من الحطب، والبحر من الماء، والموت من الأرواح، والشره من المال. أربعة يهدمن الجسم وربما قتلن: دخول الحمام على البطنة، وأكل القديد الجاف، والغشيان على الامتلاء، ومجامعة العجوز. أربع لا يشبعن من أربع: عينٌ من نظر، وأذن من خبر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر. أربع إذا كن في الرجل أهلكنه: حب النساء، وحب الصيد، وحب الفخار، وحب الخمر. قال عمر بن عبد العزيز: أحب الأشياء إلى الله أربعة: القصد عند الجدة، والعفو عند المقدرة، والحلم عند الغضب، والرفق بعباد الله في كل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قال المأمون: الناس في تصرفهم ومعايشهم بين أربعة أمور، من لم يكن منها كان عيالا عليها وكلاّ: الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة. أربعة لا يستحيا من الختم عليها: المال لنفي التهمة، والجوهر لأمن البدل، والدواء للاحتياط، والطبب للصيانة. قال العتبي: اجتمعت الحكماء على أربع كلمات، وهي: لا تحملن على قلبك مالا تطيق، ولا تعمل عملا ليس لك فيه منفعة، ولا تثقن بامرأة، ولا تغتر بالمال وإن كثر. باب خمسة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بُنى الإسلام على خمس ... " الحديث. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: " يا عبد الله! اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ". قال بعض الحكماء: خمسة أشياء من أعطيها فقد كمل عيشه: صحة البدن، وهو الجزء الأكبر، والسعة في الرزق، وهو الثاني، والأمن وهو الثالث، والأنيس الموافق وهو الرابع، والدعة، فمن حرمها فقد حرم العيش. واجتمع الحكماء أنه لا ينبغي للمرء أن ينزل بلدةً ليس فيها خمسة أشياء: سلطان قاهر، وقاضٍ عادل، وسوق قائمة، وطبيب عالم، ونهر جارٍ. روى الأصمعي، قال: حدثنا الفضل بن عبد الملك بن أبي شهبة، قال: قال الأحنف: لا ينبغي أن تنزل بلداً حتى يكون فيه خمس خصال، فذكرها سواء. ذكر الشافعي عن مالك، عن الزهري، قال: الذل في خمسة أشياء: حضور المجلس بلا نسخة، وعبور المعبر بلا قطعة، ودخول الحمام بلا خادم، وتذلل الشريف للدنئ لينال منه، والتذلل للمرأة لينال من مالها. خمسة لا يستحيا من خدمتهم: السلطان، والوالد، والعالم، والضيف، والدابة. خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف: الحدة في السلطان، وقلة الحياء في ذوي الأحساب، والبخل في ذوي الأموال، والفتوة في الشيوخ، والحرض في العلماء والقراء. قال وبرة بن خداش: أوصاني عبد الله بن عباس بخمس كلماتٍ هي أحب إلى من الدهم الموقوفة في السبيل، قال لي: إياك والكلام فيما لا يعنيك أو في غير موضعه، فرب متكلم فيما لا يعنيه أو في غير موضعه قد عنت، ولا تمار سفيهاً ولا فقيها، فإن الفقيه يغلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك أن يذكرك به، ودع ما تحب أن يدعه منك، واعمل بما تحب عمل رجل يعلم أنه يجازي بالإحسان ويكافى بالإجرام. قال عمر بن الخطاب: من لم يكن فيه خمس فلا ترجوه لشيء من الدنيا والآخرة: من لم يعرف بالوثيقة في أرومته، والكرم في طبيعته، وبالدماثة في خلقه، وبالنبل في نفسه، وبالمخافة لربه. خمس من طبيعة الجهال: الغضب في غير شيء، والإعطاء في غير حق، وإتعاب البدن في الباطل، وقلة معرفة الرجل لصديقه من عدوه، وتضييعه لسره. خمسة أشياء أضيع شيءٍ في الدنيا: سراج يوقد في الشمس، ومطر وابل في أرض سبخة، وامرأة حسناء تزف إلى عنين، وطعام يستجاد ثم يقدم إلى سكران أو شبعان، ومعروف تصنعه عند من لا يشكرك. خمس لا يشبعن من خمس: أذن من خبر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعالم من أثر. خمس يزدن في النسيان: إلقاء القملة، وأكل التفاح، والحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل سؤر الفأرة. ومما يدخل في هذا الباب قول الأحنف: لا راحة لحسود، ولا مروءة لبخيل، ولا إخاء لكذوب، ولا وفاء لملول، ولا سؤدد لسيء الخلق. قال الأوزاعي: خمسة كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله. باب نوادر من الرؤيا مختصرة قال رسول الله صلى الله وسلم: " إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللبن فطرة، والقيد ثبات في الدين، والغرق نار؛ لقوله تعالى: " أغرقُوا فأُدخلُوا ناراً "، ومن رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبه بي. قال أبو بكر: يا رسول الله! ما أزال أرى كأني أطأ في عذرات الناس، قال: لتلين أمور الناس قال: ورأيت في صدري كالرقمتين. قال: سنتين. قال: ورأيت كأن على حلة حبرة، قال: ولد تحبر به، وفي رواية أخرى: قال له: يا رسول اللهّ! ورأيت كأن في صدري كبتين، قال النبي عليه السلام: " على أمر الناس سنتين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه: أنه دخل الجنة، وأنه رأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه وقال: " لمن هذا! فقيل: لأبي جهل. فشق ذلك عليه صلى الله عليه وقال: ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبداً، فإنها لا يدخلها إلا نفس مؤمنة. فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل مسلماً فرح به، وقام إليه، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت أني دخلت الجنة فسقيت لبنا فشربت حتى رأيت الري - أو قال: اللبن - خرج من أظفاري، قالوا: فما تأولته يا رسول الله؟ قال: العلم ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت كأن يتبعني غنم سود يتبعها غنم عفر " قال أبو بكر: يا رسول الله تلك العرب تتبعها العجم، قال: " كذلك عبرها الملك ". مر صهيب بأبي بكر الصديق، فأعرض عنه، فقال أبو بكر: مالك؟ أبلغك عني شيء؟ فقال: لا. إلا رؤيا رأيتها لك كرهتها. قال: وما هي؟ قال: رأيتك مجموع اليدين إلى عنقك على باب أبي الحشر الأنصاري. قال: نعم ما رأيت جمع لي ديني إلى الحشر. قالت عائشة لأبي بكر الصديق: رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطن في حجري، فقال لها: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك ثلاثة من خير أهل الأرض، فلما دفن النبي عليه السلام في بيتها، قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك وهو خيرها. جاء رجل إلى أبي بكر فقال: رأيت كأني أبول دماً، قال: أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاتق الله ولا تفعل. جاء رجل إلى أبو بكر الصديق رضى الله عنه، فقال: رأيت كأني أحدث ثعلباً، قال: أنت رجل كذاب، فاتق الله ولا تفعل. رأي النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا، فقصها على أبي بكر، فقال: " يا أبا بكر! رأيت كأني أنا وأنت نرقي درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: يا رسول الله! يقبضك الله إلى مغفرته ورحمته فأعيش بعدك سنتين ونصفاً. قالت عائشة لأبي بكر: رأيت كأن بقراً نحرن حولي. قال: إن صدقت رؤياك قتل حولك فئة. قال رجل لأبي بكر الصديق: إني رأيت الليلة في المنام نوراً عظيماً يخرج من جحر صغير فجعلت أتعجب من صغر الجحر وعظم النور، ثم إن النور أراد أن يعود في الجحر فلم يقدر. فقال أبو بكر: هي الكلمة العظيمة تخرج من الرجل يريد أن يردها فلا يستطيع. رأى رجل في المنام كأنه يطلب بطة معها ثلاثة فراخ، فأدرك البطة وفاتته الفراخ فسئل فقيل: هذا رجل صلى العتمة، ونام عن الوتر حتى أصبح، فقال الرجل: ما تركت الوتر منذ ثلاثين سنة إلا البارحة. قام عمر بن الخطاب رضى الله عنه قبل أب يقتل بأيام، فقال: إني رأيت ديكاً نقرني نقرتين أو ثلاثا. فوجأه أبو لؤلؤه غلام المغيرة وجئتين أو ثلاثا فقتله. قال بعض أمراء الشام لعمر: يا أمير المؤمنين! رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا ومع كل واحد منهما فريق من النجوم. قال: مع أيهما كنت؟ قال مع القمر. قال: مع الآية الممحوة، لا عملت لي أبداً. فعزله وقتل مع معاوية بصفين. قال علي بن أبي طالب: لا رؤيا لخائف. إلا أن يرى ما يحب. رأى عامر بن عبد الله بن الزبير في النوم، امرأةً ثائرة الشعر بين الركن والمقام، وهي تقول: آذنت زينة الحياة ببينٍ ... وانقضاءٍ من أهلها وفناء فتأول الناس من رؤيا عامر الدنيا. قال رجل لابن سيرين: رأيت كأني آكل خبيصاً في الصلاة. قال: الخبيص حلال طيب، ولا يحل الأكل في الصلاة، أنت رجل تقبل امرأتك وأنت صائم. قال: نعم. قال: فلا تعد. كان ابن سيرين يعبر الأذان في النوم عملاً صالحا فيه شهرة. وقال ابن سيرين في جنازة يتبعها الناس: هذا قائد له أتباع. أتى رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت البارحة امرأة من جيراني كأنها ذبحت في بيتٍ من دارها. فقال: هذه المرأة نكحت الليلة في ذلك البيت. فعز على السائل ما ذكره؛ لأن زوج المرأة كان غائباً عنها، فلما انصرف قال له أهله: رأيت فلاناً؟ - يعنون الغائب جاره - فقال: وهل أتى؟ قالوا: نعم. وفي داره بات البارحة. فقصده وسأله، فكان كما قال ابن سيرين. قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن قرداً يأكل معي على مائدة. فقال: هذا غلام أمرد اتخذه بعض نسائك. قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن في حجري صبياً يصيح. فقال له ابن سيرين: اتق الله ولا تضرب العود. قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأني أطير بين السماء والأرض. فقال: أراك تكثر الأماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن لحيتي بلغت سرتي، وأنا أنظر إليها. فقال له: أنت رجل مؤذن تنظر في دور الجيران. كان ابن سيرين يستحب الطيب في النوم، يقول: هو ثناء حسن. وكان يعجبه الطيب الأسود كالمسك والغالية وشبه ذلك، ويقول: يتبعه عيش وثناء حسن. سئل ابن سيرين عن الفيل في النوم، فقال: أمر جسيم قليل المنفعة. قال رجل لابن سيرين: ما تقول يا أبا بكر في امرأة كانت ترى في المنام كأنها تأكل رأس جزور؟ فقال: تتقي الله ولا تبغض العرب. كان ابن سيرين يستحب الزيت في النوم، ويقول: هو بركة كله، إن أكلته أو أدخلته بيتك أو شربته أو ادّهنت به أو تلطخت، لأنه من شجرةٍ مباركة. كان ابن سيرين يقول: الماء في لا نوم فتنة، وبلاء في الدين، وأمر شديد؛ لأن الله تعالى يقول: " إنَّ الله مُبتلِيكم بنهرٍ ". وقال: " ماءً غدقاً، لنفتنهم فيه ". قال ابن سيرين: ومن عبر نهراً، قطع بلاءً وفتنة ومشقة، ونجا من ذلك. أتى رجل ابن سيرين، فقال له: خطبت امرأة فرأيتها في المنام. فقال له ابن سيرين: كيف رأيتها؟ قال: رأيتها سوداء قصيرة مكسورة الفم. فقال ابن سيرين: أما الذي رأيت من سوادها فإنها امرأة لها مال، وأما ما رأيت من كسر فمها فإنها امرأة فظيعة اللسان، وأما ما رأيت من قصرها، فإنها امرأة قصيرة العمر، وتوشك أن تموت عاجلاً، فذهب فتزوجها. كان ابن سيرين يعبر الرجل إذا رأى أنه حل إزاره أو انحل، قال: هذا رجل يرزق امرأة. وكان ابن سيرين لا يعبر الخاتم في المنام إلا امرأة يستفيدها. وكذلك كان هشام بن حسان: لا يعبر الفص في الخاتم: إلا أنه يقول: امرأة فيها قسوة. قال هشام بن حسان: كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجيب في خلال ذلك، ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب. قيل لابن سيرين: إنك تستقبل الرجل بما يكره، قال: إنه علم أكره كتمانه. رأى الرشيد رؤيا فهمته، فوجه في الكرماني بريداً، فلما أتاه ومثل بين يديه خلا به وقال: بعثت فيك لرؤيا رأيتها. فقال: وما هي؟ قال: رأيت كلبين ينهشان قبل جارية من جواري. فقال له الكرماني: ما رأيت إلا خيراً يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: قل ما تراه وهات ما عندك، فقال له: هذه جارية دعوتها لتجامعها، وكان لا عهد لك معها بذلك، وكانت ذات شعر، فكرهت أن تحلق فتجد أثر الموسي، وكرهت أن تبقى على هيئتها، فأخذت جلماً فحلقت بعض الشعر وتركت بعضه، فأشار الرشيد إليه بالقعود، وقام فدخل إلى نسائه، ودعا بتلك الجارية فسارها مستفهماً منها عن ذلك، فأقرت به وصدقت الكرماني، فخرج إليه الرشيد، فقال له: أصبت وسررتني، وأمر له بصلة سنية، ثم قال له: إياك أن تحدث بها ما كنت حياّ. قال: فو الله ما حدثت بها ما دام الرشيد حيا. قال الزبير: حدثني أبو ضمرة أنس بن عياض، قال: قيل لجعفر بن محمد: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن كلباً أبقع يلغ في دمه، فكان شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين رضى الله عنه، وكان أبرص، فكان تأويل الرؤيا بعد خمسين سنة. ذكر ابن المنتاب القاضي المالكي، قال: حدثنا بن أبي خيثمة، قال: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: وجه إلى جعفر بن سليمان ليلا، وهو أمير البصرة، فدخلت عليه، فقبلت يده فقبل يدي، وإذا هو مروع، فقال: رأيت البارحة مالك بن أنس في النوم وهو يقول: بيني وبينك الله. فقلت له: مالك بن أنس من العلم بمكان، وإنه لا يطالبك إلا بما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة والنسب. قال: فما ترى؟ قلت له: تعتق. فأعتق عن كل سوط رقبة. قال القاضي ابن المنتاب: وكان عدد الأسواط نيفاً وثلاثين سوطاً. باب من نوادر الأخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أخبرنا أحمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا علي بن عمرو، حدثنا أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن إبراهيم الكاتب الحكمي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: حدثنا محمد ابن يزيد بن سنان الزيادي، قال: حدثنا شرقي بن قطامي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: فيكم أحد من إياد؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل لكم علم بقس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: هلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إليه بسوق عكاظ يخطب الناس على جمل أحمر، يقول: أيها الناس! اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أما بعد: فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، نجوم تغور وتمور، ونجوم تغور ولا تمور، وسقف ومرفوع، ومهاد موضوع، أقسم قس قسما، ما كذب ولا أثم، لئن كان في الأمر رضا، ليكونن بعده سخط، وما هذا بلعب، وإن من وراء هذا لعجبا، أقسم قس قسما، فما كذب ولا أثم، إن لله ديناً هو أرضى من دين نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا. قال النبي عليه السلام: وسمعته ينشد شعراً فأيكم يحفظه؟ فقال بعضهم: أنا. فأنشده يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال: في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي إلى ... ولا من الباقين غابر أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه جالس مع أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم علي بن أبي طالب وجماعة من المهاجرين، فالتفت إليهم، فقال: إني سائلكم عن خصال فأخبروني بها، أخبروني عن الرجل بينما هو يذكر الشيء إذ نسيه، وعن الرجل يحب الرجل ولم يلقه، وعن الرؤيين إحداهما حق، والأخرى أضغاث أحلام، وعن ساعة من الليل ليس أحد إلا وهو فيها مروع، وعن الرائحة الطيبة مع الفجر، فسكت القوم. فقال: ولا أنت يا أبا الحسن؟ فقال: بلى والله. إن عندي من ذلك لعلماً، أما الرجل بينما هو يذكر الشيء إذ نسيه، فإن على القلب طخاءً كطخاء القمر، فإذا سرى عنه ذكر، وإذ أعيد عليه نسى وغفل. وأما الرجل يحب الرجل ولم يلقه فإن الأرواح أجناد مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. وأما الرؤيا إحداهما حق والأخرى أضغاث؛ فإن في ابن آدم روحين، فإذا نام خرجت روح فأتت الحميم والصديق، والبعيد والقريب والعدو، فما كان منها في ملكون السموات فهي الرؤيا الصادقة، وما كان منها في الهواء فهي الأضغاث، وأما الروح الأخرى فللنفس والتقلب، وأما الساعة من الليل التي ليس أحد إلا وهو فيها مروع، فإن تلك هي الساعة التي يرتفع فيها البحر يستأذن في تغريق أهل الأرض، فتحسه الأرواح فترتاع له، وأما الرائحة الطيبة مع الفجر، فإن الفجر إذا طلع خرجت ريح من تحت العرش حركت الأشجار في الجنة فهي الرائحة الطيبة. خذها يا عمر، قال: صدقت. قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: دخلت على عمر بن عبد العزيز، وعنده رجل من النصاري، فقال له: من تجدون الخليفة بعد سليمان قال النصراني: أنت. قال: فأقبل عمر بن عبد العزيز علي فقال: دمي في ثيابك يا أبا عبد الله، قال: فقلت: سبحان الله! المجالس بالأمانة. قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني من بالي، فرأيته يوماً فأمرت غلامي أن يحبسه علي، وذهبت به إلى منزلي، وسألته عما يكون، وقلت: عد لي خلفاء بني مروان واحداً واحداً. فعد لي خلفاء بني مروان واحداً واحداً. وتجاوز عن مروان بن محمد، قال محمد بن علي، فقلت له: ثم من؟ قال: ثم ابنك من الحارثية، وهو اليوم حمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 كتب صاحب الروم إلى معاوية يسأله عن أفضل الكلام وما هو؟ والثاني والثالث والرابع؟ وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله، وعن أكرم الإماء على الله، وعن أربعة من الخلق لم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن المجرة، وعن القوس، وعن مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع فيه قبل ذلك ولا بعده. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أخزاه الله! وما علمي بما ها هنا؟ فقيل: اكتب إلى ابن عباس، فكتب إليه ابن عباس: أفضل الكلام لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص لا عمل إلا بها، والتي تليها سبحان الله وبحمده، صلاة الخلق، والتي تليها الحمد الله، كلمة الشكر، والتي تليها الله أكبر، فاتحة الصلوات والركوع والسجود. وأكرم الخلق على الله آدم عليه السلام، وأكرم إماء الله مريم عليها السلام. وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم: فآدم وحواء والكبش الذي فدى به إسماعيل، وعصا موسى حيث ألقاها فصارت ثعباناً مبيناً، وأما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت الذي التقم يونس، وأما المجرة فباب السماء، وأما القوس فإنها أمان لأهل الأرض من الغرق بعد نوح، وأما المكان الذي طلعت عليه الشمس، لم تطلع فيه قبله ولا بعده، فالمكان الذي انفرج من البحر لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام. فلما قدم عليه الكتاب أرسله إلى ملك الروم، فقال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما أصاب هذا إلا من أهل بيت النبوة. وجه ملك الروم إلى معاوية بقارورة، فقال: ابعث إلى فيها من كل شيء حي، فبعث بها إلى ابن عباس، فقال: تملأ له ماء. فلما ورد به على ملك الروم، قال له أخوه: ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ قال: يقول الله عز وجل: " وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي ". قال المسيب بن واضح: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: حصر حصن بخراسان فأصابوا فيه رأس إنسان، فوزنوا سناً من أسنانه فوجدوها قدر منيين، فأنشأ عبد الله يقول: أتيت بسنين قد رمتا ... من الحصن لما أثاروا الدفينا على وزن منيين إحداهما ... تقل به الكف شيئاً رزينا ثلاثون أخرى على قدرها ... تباركت يا أحسن الخالقينا فماذا يقوم لأفواههم ... وما كان يملأ تلك البطونا إذا ما تذكرت أجسامهم ... تقاصرت النفس حتى تهونا وكل على ذاك ذاق الردى ... وبادوا جميعاً فهل خالدونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 روى أسامة بن زيد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: أخبرني عمر بن الخطاب قال: خرجت مع أناسٍ من قريش في الجاهلية في تجارة إلى الشام، فبينما أنا في سوق من أسواقها بدمشق إذ أنا ببطريق قد جاءني فأخذ بعنقي، فذهبت أنازعه نفسي، فقيل لي: لا تفعل فليس لك منه النصف، قال: فخرجت معه فأدخلني كنيسةً فإذا تراب كثير متراكم بعضه على بعض، فدفع إلى بمجرفة وفأساً وزنبيلا، فقال لي: انقل هذا التراب واحفر لي هاهنابئراً، قال: فجلست أفكر في أمري كيف أصنع، قال: فأتاني في الهاجرة وعليه سبنية قصب، أرى سائر جسده منها، ولم أحرك شيئاً، فقال لي: وإنك على ما أرى ما حركت شيئاً، ثم ضم كفه وأصابعه يضرب بها وسط رأسي، فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا عمر، أو قد بلغت ما أرى! قال: فقمت إليه بالمجرفة فضربت بها رأسه فنثرت دماغه وخر ميتاً، وخرجت إلى الطريق، وأنا لا أدري أين أسلك من بلاد الله تعالى، فمشيت بقية يومي وليلتي من الغد حتى أصبحت، ثم انتهيت إلى ديرٍ فاستظللت بظله، فخرج إلى رجل من أهل الدير، فقال: يا عبد الله! ما يقعدك ها هنا؟: فقلت: أضللت أصحابي. قال: والله ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعين خائف، قم فادخل الدير فأصب من الطعام والشراب، وأقم ما بدا لك، قال: فدخلت فأتاني بطعام وشراب وألطف لي، ثم صعد في النظر وخفضه، ثم قال: يا هذا! لقد علم أهل الكتاب أنه لم يبق على وجه الأرض رجل أعلم مني اليوم، وإني أجد صفتك، إنك الذي تخرجنا من هذا الدير، وتغلب على هذا البلاد. فقلت: أيها الرجل! ذهبت من الأمر في غير مذهب. قال: ما اسمك؟ قلت: عمر بن الخطاب. قال: أنت والله الذي لا إله إلا هو صاحبنا من غير شك، فاكتب لي على ديري هذا وأهله وما فيه أماناً، قال: قلت: أيها الرجل! قد صنعت معروفاً فلا تكدره، قال: إنما هو كتاب في رق، وليس عليك فيه مؤونة ولا شيء، فإن كنت صاحبنا فهو الذي أريد، وإن تكن الأخرى فأي شيءٍ يضرك؟ قلت: هات، فكتبت له أماناً ثم ختمته ودفعته إليه. قال: فدعا بنفقة وثوب فدفعها إلي، ثم دعا بأتان قد أوكفت، فقال: أتسمع؟ قلت: نعم. قال: اخرج على هذه الأتان فإنها لا تمر بقوم ولا أهل دير إلا علفوها، حتى إذا بلغت مأمنك فخل عنها واضرب وجهها مدبرة، فإنها تعلف وتسقي حتى تصل. قال: فركبتها ثم سرت عليها حتى أدركت أصحابي وهم متوجهون، فلم أمر بقوم إلا سقوها وعلفوها حتى لحقت أصحابي، فنزلت عنها، وضربت وجهها مدبرة، ثم سرت معهم حتى قدمت على أهلي. قال أسلم: فلما قدم عمر بن الخطاب الشام أتاه ذلك الراهب في خلافته، وهو صاحب دير العدس بذلك الكتاب، فلما قرأه عمر عرفه، فقال له الراهب: فِ لي بشرطي، فقال له عمر: جاء أمر غير ذلك، جاء ما ليس لعمر ولا لأبي عمر فيه شيء، فاستشار فيه عمر المسلمين، فقالوا: نرى أن تفي له يا أمير المؤمنين، قال عمر: هل عندك للمسلمين منفعة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأنشأ عمر يحدثنا حديثه حتى أتى على آخره، ثم قال عمر للراهب: إن أضفتم المسلمين، وأرشدتموهم الطريق، وهديتم الضال، ومرضتم المرضى ممن يمر بكم من المسلمين فعلنا، قال: نعم يا أمير المؤمنين نفعل. قال: فوفي له عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، قال: خرجت في الجاهلية بتجارة إلى الشام فنزلت في بعض الطريق لقضاء حاجة، وتقدمتني القافلة، فإني لكذلك إذ أقبل إلى راهب على أتانٍ له قد خرج في بعض الزيارات يريد فلسطين وهو يذهب عطشاً، وكان يوماً صائفاً، فسلم على واستسقاني ماء. ولم يكن معي غير فضلة في إداوةٍ معلقة على كفل الفرس، فآثرته بها، وتبين له ذلك، فشكر لي فعلى، وشكا تعباً لحقه، وأنه يريد النزول والراحة قليلا، وهو خائف من الوحدة وفساد الطريق، وكأنه أراد الأنس بي. فقلت له: انزل فإني أونسك ولا أتركك. وكنت عارفاً بالطريق، فعرجنا إلى ظل شجرة أرزٍ فعرسنا تحتها، وقلت: أعينه، ثم ألحق القافلة بعد تعريسها بساعة، وكان له غلام ورحل قد تأخرا عنه، فكان مع ذلك ينتظر، فلما نزلنا استلقى على جنبه ونام، وركبت فرسي أطلب بعض الحياض التي كنت أعرفها لأملأ إداوتي منها، فوجدت واحداً منها فملأت الإداوة، ورجعت والراهب نائم بحاله، وإذا بثعبان عظيم يسير إليه لينهشه، فاخترطت سيفي ونزلت إليه فلحقته، وقد كاد ينقره فقتلته، وجلست أخفر الراهب إلى أن قام وقد استراح من تعبه، فعرضت عليه الماء فشرب، ونظر إلى الثعبان فهاله أمره، فعرفته أنه قصده وأني قتلته فشكر، وقال: قد أحييتني مرتين، ووجب حقك علي، قد حبست نفسك علي، ونزلت معي حتى استرحت، وآنستني من الوحدة ووحشة الطريق، وأنا مع ذلك في غربة. ولا أدري بماذا أكافئك، ثم ركبنا وسرنا فما لحقنا القافلة إلا مساء، وطلبت رحلي وغلاماً كان معي إلى أن وجدته، فأنزلت الراهب معي إلى أن أصبحنا، فجاءه غلامه ورحله، فقال لي: أين تريد؟ فعرفته أني أريد دمشق بتجارةٍ معي، فسألني عنها فأخبرته، فقال لي: أي تريد؟ تدخل معي إلى مصر فإن لي بها حالا جميلة وجاهاً عريضاً، ولعلي أكافئك على ما أوليتني، فإن يدي تقصر هاهناعن مكافأتك، وعلي أن أربحك في تجارتك ضعف ما تأمله من الربح منها، فوقع كلامه بقلبي، فقلت له: على أن تخرج معي من يكفلني ويحملني في طريقي، أو تضيفني إلى من يبلغني هذا هذا المكان، فإني إذا بلغته عرفت الطريق إلى موضعي. قال: بل أردك إليه من طريق هو أقرب من طريقك هذا. فسرت معه فرأيت رجلاً جميل الصحبة والمرافقة، وكان فيه مع ذلك فهم وعلم، وكان من أبناء القبط الأولين، وكان يخبرني عن مصر وأهلها في القديم، وعن عجائبها وطلسماتها وملوكها، وخبر بخت نصر وكيف دخل البلد وأخذه بالحيلة التي تمت له حتى وصل إليه وما كان بعد ذلك، ولم نزل في أنس إلى أن دخلنا مصر، فلم نكن نمر بموضع ولا ديرٍ إلا تلقونا بالإكرام والجميل، وعدينا النيل، وسرنا حتى دخلنا الإسكندرية، فأنزلني عنده وأتاه جماعة من أهله وذوي قرابته وجماعة من وجوه أهل البلد، وكان مقدماً عندهم، فسلموا عليه وهنأوه بالسلامة وقضوا حوائجه وأكرموه وأتحفوه، ولم يكن يدخل إليه أحد من أهله وغيرهم إلا أخبرهم بخبري، وأني خلصته من العطش بما كان معي من الماء، وأني آثرته على نفسي، وخبرهم بما كان من أمر الثعبان. فما منهم أحد إلا برني وأكرمني. واجتمعت لي دنانير كثيرة، ووجه أقاربه وباع منهم ومن غيرهم البضاعة التي كانت معي، وأفضلت فيها فضلاً كثيراً، وأقمت أكثر من شهر وأنا أطوف بالإسكندرية، وأنظر إلى عجائبها ومنارها ثم استأذنته للخروج، فقال لي: إن لنا عيداً وقد حضر، فأقم عندي حتى تشاهده وأوجه معك من يخفرك إلى حدود أرض الحجاز، فأجبته إلى ذلك، وحضر العمد، وزينت كنائس الإسكندرية، وخصوا منها كنيسة مرخمة عظيمة كانوا يجتمعون إليها بأحدث الزي، وكان خارج الكنيسة أسطوان كبير واسع مفروش بالبسط، وقد جلس عليه رؤساؤهم وبطارقتهم، وكان من عاداتهم أن يضربوا خارج الأسطوان في فسيح هناك بصولجان وكرةٍ تطير إلى ذلك الأسطوان، فمن وقعت في حجره الكرة من أولئك البطارقة والرؤساء، حكم له بولاية مصر، قال عمرو: فأجلسني وسط أولئك الوجوه والبطارقة فإني لمشغول بالنظر إليهم وإلى زيهم، وأولئك خارج الأسطوان يضربون تلك الكرة إذ طارت إلى فسقطت في حجري فأكبروا ذلك، وجعلوا يتأملوني ويعجبون مني، ومن سقوط الكرة في حجري، ثم ردوا الكرة إلى خارج، وضربوها أيضاً مرة أخرى، فطارت حتى سقطت ثانية، فازدادوا عجباً، وجعل بعضهم ينظر إلى بعضٍ ويزمزمون بكلامهم، وأنا لا أعرف ما يقولون. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أخوجوا الكرة وضربوها مرة ثالثة فسقطت في حجري ودخلت في كمي، فزاد تعجبهم وقالوا: إن هذا الأمر يراد أو بطل فعل الكرة. وأقمت حتى انقضت أيام عيدهم، فسألته أن يأذن لي في الخروج إلى الحجاز، فأذن لي في ذلك، بعد أن شرط على أن لا أترك زيارته في كل وقتٍ يمكني، وأنفذني مع غلام له وجهزني بطريفٍ من ثياب الوشي التي كانت تعمل بالإسكندرية، وثياب من دبيق دمياط، وأكسية رقيقةً من صوف، وفصوص وغير ذلك، فانصرفت إلى أهل بوفر حال، وأخرجني الغلام من ناحية أستغني فيها عن الخفير، وكان الغلام الذي وجهه به معي يدري أمرهم، فسألته عن أمرة الكرة فعرفني أن من عاداتها ذلك اليوم، ألا يقع في حجر أحدٍ إلا ولي مصر، وأنهم عجبوا من ذلك، وقالوا: هذا رجل عربي وغريب. وكيف يلي هذا مصر؟! وصرفوا الأمر إلى فساد فعل الكرة، قال عمرو: فوقع في نفسي من ذلك أمر لم أعرف الوجه فيه، وسرت إلى منزلي وأنا أوفر التجار الذين خرجت معهم إلى الشام وأحسنهم حالا، وعرض في نفسي شيء من أمر مصر، فقلت: أحمل تجارة إلى بلد الروم، وأدخل إلى الملك ولعله أن يقلدني أمر مصر، ثم قلت: إن هذا النظر فاسد، وهل يترك الملك بطارقته وأصحابه ويوليني أنا وأنا عربي على غير دينه؟ فسمعت قائلاً يقول: لابد لفلان من ذلك ويصير منه إلى ما يحب. فزاد ذلك في قوة أملي في الولاية على مصر إلى أن كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان، وجاءته هدية المقوقس، وقال: " إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، وجازوا أهلها بالجميل، فإنهم خؤولة إبراهيم "، فلما سمعت ذلك تحققت أنه سيكون لي يد على مصر. وا الكرة وضربوها مرة ثالثة فسقطت في حجري ودخلت في كمي، فزاد تعجبهم وقالوا: إن هذا الأمر يراد أو بطل فعل الكرة. وأقمت حتى انقضت أيام عيدهم، فسألته أن يأذن لي في الخروج إلى الحجاز، فأذن لي في ذلك، بعد أن شرط على أن لا أترك زيارته في كل وقتٍ يمكني، وأنفذني مع غلام له وجهزني بطريفٍ من ثياب الوشي التي كانت تعمل بالإسكندرية، وثياب من دبيق دمياط، وأكسية رقيقةً من صوف، وفصوص وغير ذلك، فانصرفت إلى أهل بوفر حال، وأخرجني الغلام من ناحية أستغني فيها عن الخفير، وكان الغلام الذي وجهه به معي يدري أمرهم، فسألته عن أمرة الكرة فعرفني أن من عاداتها ذلك اليوم، ألا يقع في حجر أحدٍ إلا ولي مصر، وأنهم عجبوا من ذلك، وقالوا: هذا رجل عربي وغريب. وكيف يلي هذا مصر؟! وصرفوا الأمر إلى فساد فعل الكرة، قال عمرو: فوقع في نفسي من ذلك أمر لم أعرف الوجه فيه، وسرت إلى منزلي وأنا أوفر التجار الذين خرجت معهم إلى الشام وأحسنهم حالا، وعرض في نفسي شيء من أمر مصر، فقلت: أحمل تجارة إلى بلد الروم، وأدخل إلى الملك ولعله أن يقلدني أمر مصر، ثم قلت: إن هذا النظر فاسد، وهل يترك الملك بطارقته وأصحابه ويوليني أنا وأنا عربي على غير دينه؟ فسمعت قائلاً يقول: لابد لفلان من ذلك ويصير منه إلى ما يحب. فزاد ذلك في قوة أملي في الولاية على مصر إلى أن كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان، وجاءته هدية المقوقس، وقال: " إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، وجازوا أهلها بالجميل، فإنهم خؤولة إبراهيم "، فلما سمعت ذلك تحققت أنه سيكون لي يد على مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 روى ابن جريج، قال: حدثني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير، أنه قال: سمعته يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، فإذا بلغ " بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأسٍ شديد " بكى وفاضت عيناه، ثم يطبق المصحف. فعل ذلك ما شاء الله من الزمان، ثم قال: أي رب! أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه، فأرى في المنام مسكيناً سائلاً يقال له: بخت نصر ببابل، فانطلق بمال وأعبدٍ له، وكان رجلاً موسراً، فقيل له: أين تريد؟ فقال: أريد التجارة. فنهض حتى نزل ببابل فاكتري بها منزلاً ليس فيه أحد غيره، وجعل يدعو المساكين ويعطيهم ويلطف بهم حتى لم يبق أحد منهم إلا جاء، فقال: هل بقى مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفج آل فلان مريض يقال له: بخت نصر. فقال لغلمته: انطلقوا وانطلق معهم حتى أتاه، فقال له: ما اسمك؟ قال: بخت نصر، قال لغلمته: احتملوه. فنقله إليه فمرضه حتى براً، وكساه وأعطاه نفقةً، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بخت نصر، فقال له الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت معي ما فعلت ولا أجد شيئاً أجزيك به. قال: بل شيئاً يسيراً إن ملكت أطعتني. فجعل بخت نصر يلتوي ويقول: تستهزئ بي؟ ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلا أنه يستهزئ به، وأبي عليه. فبكى الإسرائيلي وقال: لقد علمت أنه ما يمنعك أن تعطيني ما سألت إلا أن الله تعالى يريد أن ينفذ ما قضى وما قد كتبه عنده في كتابه، ثم ضرب الدهر ضرباته، فقال سيحون وهو ملك فارس ببابل: إنا لو بعثنا طليعةً إلى الشام كان حسناً. قالوا: وما يمنعك؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. فبعث رجلاً وأعطاه مائة ألف، فخرج وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلا أن يأكل، لا همة له غير شبع بطنه، فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أرضاً أكثر أرض الله خيلا ورجلا وسلاحاً، فكسر ذلك في ذرعه، فلم يسأل ولحقه جزع، وجعل بخت نصر يمشي في مجالس أهل الشام فلا يدع مجلساً إلا وهو يقول لأهله: ما يمنعكم أن تغزوا بابل مع كثرة ما أرى معكم من الخيل والرجل، فلو غزو تموها لأصبتم بها المال والعيال. قالوا: فلا نحسن القتال ولا نعرفه، حتى استنفد مجالس أهل الشام، ثم رجع إلى الطليعة ولم ينل منهم كثير نيلٍ لما رأى، وجعل بخت نصر يقول لمن يلج على الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما يخبره فلان - يعني الطليعة - فرفع ذلك إليه، فدعاه، فأخبره الخبر، وقال: إن فلاناً لما رآها أكثر أرض الله خيلا ورجلا حسبهم أجلد الناس، فكسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإن لم أدع مجلساً بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا فقالوا لي كذا، فقال الطليعة لبخت نصر بعد خروجه من عند الملك: فضحتني أيها الرجل، فهل لك في مائة ألفٍ تأخذها وتنزع عما قلت؟ قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت. ثم أن الدهر ضرب ضربه، وقال الملك: لو بعثنا جريدة خيلٍ إلى الشام، فإن وجدوا مساغاً ساغوا، وإلا انهبوا ما قدروا عليه؟ قالوا: فما ضرك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان أو فلان. قال لهم: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبر. فدعا بخت نصر، فأرسله وأرسل معه أربعة آلافٍ من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاءوا وخربوا ولم يقتلوا، ورمى في جنازة سيحون فمات، فقالوا: استخلفوا رجلا. فقالوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم من وجهتهم، فأمهلوا حتى جاء بخت نصر فقسم ما جاء به في الناس، فقالوا: ما رأينا أحق بالملك من هذا؟ فملكوه. فلم ضرب له ملكه بجرانه، قال لهم يوماً: موعدكم ثالثة فمن استأخر بعدها منكم فليمش إلى خشبته، فغزا الشام، فذلك حين قتل، وخرب بيت المقدس وانتزع حليته وحملها، وجعل يشرب فيها الخمور وخواناً يأكل عليها الخنازير، وحمل التوراة معه ثم ألقاها في النار، وقدم فيما قدم بمائة وصيف منهم دانييل وعزير، وكان يقال له عزريا، وحنانيا وميشائيل، فقال لإنسان: أصلح لي أجسام هؤلاء، لعلي أختار منهم أربعة يخدمونني. فقال دانييل لأصحابه: اعلموا أنهم إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم. لا تأكلوا لحم الخنزير، ولا تشربوا الخمور. فقالوا للذي يصلح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعاماً هو أهون عليك في المؤونة مما تطعم أصحابنا، فإن لم نسمن قبلهم أكثر من سمنهم رأيت رأيك؟ قال: ماذا؟ قالوا: خبز الشعير والكراث. ففعل، فسمنوا قبل أصحابهم. فأخذهم بخت نصر يخدمونه. قال: فبينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 هو كذلك إذ رأى بخت نصر رؤيا، فجلس ثم نسيها، ثم عاد فرآها، ففزع فقام من نومه، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلى الحجر فنسيها، فلما أصبح. دعا العلماء والكهان، فقال: أخبروني بشيءٍ رأيت البارحة، وإذا أخبرتموني بما رأيت. فأولوا لي رؤياي، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته، موعدكم ثلاث. فقالوا: هذا خبر قد أظلنا منه بلاء، فكيف بالنجاة منه، فجعل دانييل يقول كلما مر به رجل من رجاله: لو دعاني الملك لأخبرته بما رأى وأولت ذلك. فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي! إلى أن مر به كهل فقال ذلك له، فرفعه إلى الملك وقال له: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تمثالا. قال: إيه. قال: ورأسه من ذهب. قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه: قال وصدره من حديد. قال: إيه. قال وبطنه من صفر. قال: إيه: قال ورجلاه من آنك. قال: إيه. قال: وقدماه من فخار. قال: نعم، هذا الذي رأيت. قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ثم في عنقه ثم في صدره ثم في بطنه ثم في رجليه ثم في قدميه فأهلكته، قال: نعم، فما تأويل هذا؟ قال: أما الذهب فملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ثم ملك ابن ابنك، وأما الفخار فملك النساء. فكساه جبة سبنية وسوره وأجازه وأمر أن يطاف به في القرية، وأخبر أن خاتمة جائز على ما ختم، فلما رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي فكيف نهدمه؟ قالوا: ائتوه من نحو الفتية الثلاثة أصحابه، ولا تذكروا له دانييل فإنه لا يصدقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك، وهم يكرهون ما تستحسنه، وآية ذلك أنك إذا قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطب كثير فوضع، ثم أوقدت النار ورماهم فيها، فلما كان من آخر الليل أمر بالنظر إليهم فإذا هم يتحدثون، وإذا معهم رابع يروح عليهم ودانييل يصلي، قال: من هذا يا دانييل؟ قال: هذا جبريل، ظلمت القوم. فأمر بهم فأنزلوا. قال: ومسخ الله عز وجل بخت نصر من الدواب كلها، فجعله من كل صنف من الدواب رأسه من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه بعده، وكان دانييل يسدده، وكان معه ثم رماه عنه وأقصاه، ثم أنه رأى كفاً فرجت بين لوحين مكتوب فيها سطران، فدعا الكهان والعلماء، فلم يجد عندهم منه علماً، فقالت أمه: إنك لو دعوت دانييل وأعدت إليه منزلته ومنك ومن أبيك عرفك، فدعاه فقال: إني معيد إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السطران؟ قال: أما معيد لي منزلي من أبيك فلا حاجة لي بذلك، وأما السطران فإنك تقتل الليلة. فال: فأمر أن يخرج كل من في القصر، فأخرجوا أجمعين، وأمر بقفل أبوابه فغلقت الأبواب، وأدخل معه رجلا وضع بيده سيفاً، وقال له: كل من جاءك من خلق الله الليلة فاقتله، ولو قال: أنا فلان - يعني نفسه - وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي والآخر نائم، فبينما هو كذلك إذ استيقظ ونهض إليه، فقال: أنا فلان. فضربه بالسيف فقتله؟ قال الله تعالى: " وإن عدتم عدنا ". قال: فبعث الله عليهم العرب، فلم يزالوا يسومونهم سوء العذاب، ولا يزالون إلى يوم القيامة في ذلة وصغار. قال ابن جريج: فبلغني أن سعيد بن جبير كان يحدث بهذا الحديث، فلما بلغ هذا الموضع أخذه رسول الحجاج بن يوسف. كذلك إذ رأى بخت نصر رؤيا، فجلس ثم نسيها، ثم عاد فرآها، ففزع فقام من نومه، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلى الحجر فنسيها، فلما أصبح. دعا العلماء والكهان، فقال: أخبروني بشيءٍ رأيت البارحة، وإذا أخبرتموني بما رأيت. فأولوا لي رؤياي، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته، موعدكم ثلاث. فقالوا: هذا خبر قد أظلنا منه بلاء، فكيف بالنجاة منه، فجعل دانييل يقول كلما مر به رجل من رجاله: لو دعاني الملك لأخبرته بما رأى وأولت ذلك. فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي! إلى أن مر به كهل فقال ذلك له، فرفعه إلى الملك وقال له: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تمثالا. قال: إيه. قال: ورأسه من ذهب. قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه: قال وصدره من حديد. قال: إيه. قال وبطنه من صفر. قال: إيه: قال ورجلاه من آنك. قال: إيه. قال: وقدماه من فخار. قال: نعم، هذا الذي رأيت. قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ثم في عنقه ثم في صدره ثم في بطنه ثم في رجليه ثم في قدميه فأهلكته، قال: نعم، فما تأويل هذا؟ قال: أما الذهب فملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ثم ملك ابن ابنك، وأما الفخار فملك النساء. فكساه جبة سبنية وسوره وأجازه وأمر أن يطاف به في القرية، وأخبر أن خاتمة جائز على ما ختم، فلما رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي فكيف نهدمه؟ قالوا: ائتوه من نحو الفتية الثلاثة أصحابه، ولا تذكروا له دانييل فإنه لا يصدقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك، وهم يكرهون ما تستحسنه، وآية ذلك أنك إذا قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطب كثير فوضع، ثم أوقدت النار ورماهم فيها، فلما كان من آخر الليل أمر بالنظر إليهم فإذا هم يتحدثون، وإذا معهم رابع يروح عليهم ودانييل يصلي، قال: من هذا يا دانييل؟ قال: هذا جبريل، ظلمت القوم. فأمر بهم فأنزلوا. قال: ومسخ الله عز وجل بخت نصر من الدواب كلها، فجعله من كل صنف من الدواب رأسه من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه بعده، وكان دانييل يسدده، وكان معه ثم رماه عنه وأقصاه، ثم أنه رأى كفاً فرجت بين لوحين مكتوب فيها سطران، فدعا الكهان والعلماء، فلم يجد عندهم منه علماً، فقالت أمه: إنك لو دعوت دانييل وأعدت إليه منزلته ومنك ومن أبيك عرفك، فدعاه فقال: إني معيد إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السطران؟ قال: أما معيد لي منزلي من أبيك فلا حاجة لي بذلك، وأما السطران فإنك تقتل الليلة. فال: فأمر أن يخرج كل من في القصر، فأخرجوا أجمعين، وأمر بقفل أبوابه فغلقت الأبواب، وأدخل معه رجلا وضع بيده سيفاً، وقال له: كل من جاءك من خلق الله الليلة فاقتله، ولو قال: أنا فلان - يعني نفسه - وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي والآخر نائم، فبينما هو كذلك إذ استيقظ ونهض إليه، فقال: أنا فلان. فضربه بالسيف فقتله؟ قال الله تعالى: " وإن عدتم عدنا ". قال: فبعث الله عليهم العرب، فلم يزالوا يسومونهم سوء العذاب، ولا يزالون إلى يوم القيامة في ذلة وصغار. قال ابن جريج: فبلغني أن سعيد بن جبير كان يحدث بهذا الحديث، فلما بلغ هذا الموضع أخذه رسول الحجاج بن يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وروى حماد، عن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن رجلاً من علماء أهل الشام وجد نعت بخت نصر وأنه غلام يتيم، وله والدة، وله ذؤابة في رأسه من أهل بابل، وأنه تقدم فسأل عنه وعن أمه حتى عرفهما بالنعت، فنزل عليهما وكان وهو غلام يسوق العجاجيل والدجاج، فقال له ذات يوم: إنك ستملك فارس والشام، فاكتب لي أماناً ولقومي. قال: ما أدري ما هذا الذي يذكر، فلم يزل به حتى قال له: اكتب أنت ما شئت، وكتب له ولقومه أماناً، فأراد أن يختمه، فلم يكن لبخت نصر خاتم فأخذ خاتم حديد من نطاق أمه فختمه، ثم أنه دخل الشام، فأتاه الرجل فحيل بينه وبينه، فقال لمقدمته: إن للملك ودخل عليه، فقال: ما تعرفني؟ قال: ما أعرفك. فقص عليه القصة وذكره، ودفع إليه الأمان. فقال: ما أدري ما هذا الذي تذكر، ورثث هذا كابراً عن كابر عن آبائي. فلم يزل به حتى أقر. فوفي له وأمنه، وقال: لا يسمع هذا منك أحد. ولما ظهر على الشام، إذ هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فقال: لأقتلن على هذا الدم حتى يسكن، فقتل عليه سبعين ألفاً، فجاء قاتله فقال: إن هذا الدم لا يسكن أبداً حتى تقتلني فأنا قتلته فقتله وسكن الدم، وظهر على الشام وخرب بيت المقدس وحرق التوراة، وجاء معه دانييل وميخائيل وعزير وحزقاييل ودفعهم إلى صاحب مطبخه، ثم ذكر الرؤيا وزاد فيها فيجىء بنيٌ من العرب فيغلب وينقض تلك الأوثان كلها ويكون الدين كله لله. وقال ابن الكلبي: كان سنمار الرومي من أصنع الناس للبنيان، فبنى لبعض ملوك العرب بنياناً سر به وأعجبه، وخاف إن استبقى سنمار بني بعده مثل ذلك البنيان، لغيره من الملوك، فأمر به فرمى من فوق القصر فمات، فضربت به العرب الأمثال في سوء الجزاء، حتى قال بعضهم: جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمارٍ وما كان عن ذنب سوى رصه البنيان سبعين حجة ... يعلى عليه بالقراميد والسكب فلما رأى البنيان تم سحوقه ... وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب وظن سنمار به كل حظوةٍ ... وفاز لديه بالمودة والقرب فقال اقذفوا بالعلج من رأس شاهقٍ ... فذاك لعمر الله من أعظم الخطب كتب ملك الروم إلى معاوية: إن الملوك لم تزل تراسل بعضهم بعضاً، وتجتهد أن يغرب بعضهم على بعض، أفتأذن في ذلك؟ فأذن له. فوجه إليه رجلين أحدهما طويل والآخر أيد، فقال معاوية لعمرو: أما الطويل فقد أصبنا كفؤاً له وهو قيس بن سعد بن عبادة، وأما الآخر الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه. فقال: هاهنا رجلان كلاهما إليك بغيض: محمد بن الحنفية، وعبد الله بن الزبير. قال معاوية: الذي هو أقرب إلينا منهما فلما دخل الرجلان وجه إلى قيس ابن سعد فدخل، فلما مثل بين يديه معاوية نزع سراويله فرمى بها إليه فلبسها فبلغت ثندوته، فأطرق مغلوباً. وقيل لقيس في ذلك: لم تبذلت في حضرة معاوية؟ هلا فعلت غير ذلك؟ فقال: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيسٍ والوفود شهود وألا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاديً نمته ثمود وإني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود وبّ جميع الناس أصلي ومنصبي ... وجسم به أعلو الرجال مديد ثم وجه إلى محمد بن الحنفية، فدخل فخبر بما دعى إليه، فقال: قولوا له: إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد، فاختار الرومي الجلوس، فأقامته، فانصرف الطويل والأيد مغلوبين. قلت: أما هذا الخبر فمنكر ليس بصحيح، ولا له أصل لأنه يخالف أخلاق قيس ومحمد، وليس فيه كبير فائدة لمنزلتهما. باب جامع من المذكرات مما لم يذكر في الأبواب المتقدمات كان يقال: المتقون سادة، والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة - يعني في الخير. قال عبد الله بن عباس رضى الله عنه: حلق القفا مما يزيد في الحفظ. وقال عبد الله بن عباس أيضاً: حلق الرأس لا يصح في العقوبة، لأن الله عز وجل جعل حلق الرأس نسكاً لمرضاته. قال عمر بن عبد العزيز: إياكم والمثلة في العقوبة: حز الرأس واللحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقال عبد الله بن عباس: إني لأسمع بالحكم من حكام المسلمين يعدل فأفرح به، ولعلي لا أتحاكم أبداً، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلدان فأفرح ومالي فيها سائمة، وإني لآتي على الآية فأود أن الناس يعملون بها، ويعلمون منها ما أعلم. سأل رجل مطرف بن الشخير عن شيء، فقال: يا ابن أخي لا تحمل سعة الإسلام على ضيق صدرك. كان يقال: لكل شيءٍ آفة، وآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الرياء، وآفة الحياء الضعف، وآفة اللب العجب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الجود الشرف، وآفة الجمال التيه، وآفة السؤدد الكبر، وآفة الحلم الذل. كان يقال: العجب ممن يخاف العقاب ولم يكفن ورجا الثواب ولم يعمل. قال حارثة بن بدر الغداني: طربت بقانونٍ وما كنت أطرب ... سفاها وقد جربت فيمن يجرب وما اليوم إلا مثل أمس الذي مضى ... ومثل الغد الجائي وكل سيذهب ومن وصايا إبليس، من النوادر أبيات أنس بن إياس يخاطب حارثة بن بدر الغداني هذا: أحار بن بدرٍ قد وليت ولايةً ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئاً وجدته ... فحظك من ملك العراقين سرق وباه تميماً بالغني إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق يقولون أقوالاً ولا يعرفونها ... فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا فأجابه حارثة: جزاك إله الناس خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافيا أشرت بشيءٍ لو أشرت بغيره ... لألفيتني فيه لذلك عاصيا امتحن يحيى بن أكثم رجلا أراده للقضاء، فقال: ما تقول في رجلين أنكح كل واحدٍ منهما الآخر أمه، فولد لكل واحد منهما ولد، فما قرابة ما بين الولدين؟ فلم يعرف. فسئل عن ذلك، فقال: كل واحدٍ منهما عم الآخر لأمه. دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقال له: إني تزوجت امرأة وزوجت ابني أمها، ولا غناء بنا عن رفدك، فقال له عبد الملك: إن أخبرتني ما قرابة أولادكما إذا ولدتما، فعلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين! هذا حميد بن بحدل، قد قلدته سيفك ووليته ما وراء بابك، سله عنهما، فإن أصاب لزمني الحرمان، وإن أخطأ اتسع لي العذر. فدعا به فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك ما قدمتني على العلم بالأنساب، ولكن على الطعن بالرماح. أحدهما عم الآخر والآخر خاله. لو تزوج رجل امرأة، وزوج ابنه ابنتها، ثم ولد لهما، كان أحد المولودين عم الآخر، والآخر ابن أخيه. كان يقال: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم؛ الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه، والمستخف بالسلطان، والجالس مجلساً ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه ولا يصغي إليه. ذكر الخشني عن أبي حاتم عن الأصمعي، قال: تذاكر نفر من الجن عيافة بني أسد، فقالوا: لو نظرنا إلى بعض ذلك فأتوهم، وقالوا: إنا ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا بعض من يقفو لنا أثرها، فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم ثم ساروا، فلقيهم عقاب كاسر إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام فبكى، فقالوا: ما بالك؟ فقال: كسرت جناحاً ورفعت جناحاً، حلفت بالله صراحاً ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً. قال الخشني: الجناح يؤنث ويذكر. نذرت امرأة أن تكسو ثوباً غزلته فأتقنته أفضل رجل بالبصرة، فقيل لها: الحسن، فأتت به الحسن فأرسل بها إلى أبي قلابة، فردها أبو قلابة، وقال: إن الناس أصابوا فيك وأخطأت في. قال أبو عبيد: العارضة كناية عن الندى، فإذا قيل: فلان شديد العارضة فذاك كناية عن سفه الكف بالعطاء. وإذا قيل: فلان يقتصد، فذلك كناية عن البخل. وإذا قيل العامل مستقص، فذلك كناية عن الجور. وأما قولهم في المثل: هذا أجل من الحرش، فإن الأصمعي ذكر في تفسيره ذلك، أن الضب قال لابنه: إذا سمعت صوت الحرش فلا تخرجن، قال: وذلك أنهم يزعمون: أن الحرش تحريك اليد عند حجر الضب ليخرج إذا ظن أنها حية. قال: وسمع ابنه يوماً صوت الحفر، فقال: يا أبت! هذا الحرش؟ فقال: يا بني! هذا أجل من الحرش، فأرسلهما مثلا وأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وأفطن من ضب إذا خاف حارشاً ... أعد له عند الناس عقربا وفي المثل: تعلمني بالضب وأنا حرشته. لأبي البلاد الطهوي، وكان من شياطين العرب: لهان على جهينة ما ألاقى ... من الروعات يوم رحى بطان لقيت الغول تسري في ظلامٍ ... بسهبٍ كالعباية صحصحان فقلت لها: كلانا نقض أرضٍ ... أخو سفرٍ فصدي عن مكاني فصدت وانتحيت لها بعضبٍ ... حسامٍ غير مؤتشبٍ يماني فقد سراتها والبرك منها ... فخرت لليدين وللجران فقالت: زد، فقلت: رويد إني ... على أمثالها ثبت الجنان شددت عقالها وحططت عنها ... لأنظر غدوةً ماذا دهاني إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ... كوجه الهر، مشقوق اللسان ورجلا مخدجٍ ولسان كلبٍ ... وجلدٍ من فراءٍ أو شنان أما قوله: فقالت: زد. فإنهم يزعمون - فيما ذكر عمرو بن بحر الجاحظ -: إن الغول يستزيد بعد الضربة الأولى، لأنها تموت من ضربة وتعيش من ضربتين إلى ألف، يقول: إذا ضربت ضربة ماتت، إلا أن يعيد عليها الضارب قبل أن تقضي ضربة أخرى، فإنه إن فعل ذلك لم تمت، ولذلك قال شاعرهم: فثنيت والمقدار يحرس أهله ... فليت يميني قبل ذلك شلت وهذا عندي من أكاذيب الأعراب، وحماقات عمرو بن بحر ومجونه. ومن ذلك قول مدرج الريح، وهو عامر المجنون، وإنما قيل له مدرج الريح بشعر قاله في امرأة من الجن، زعم أنه كان يهواها وتتراءى له، فمن شعره يقول: لابنة الجني في الجو طلل ... دارس الآيات عافٍ كالخلل درسته الريح من بين صبا ... وجنوبٍ درجت حيناً وطل وكان مدرج الريح محمقاً، وأما قول عبيد بن أيوب العنبري: فلله در الغول أي رفيقةٍ ... لصاحب قفرٍ خائفٍ يتقفر أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت ... حوالي نيراناً تبوخ وتزهر فإن العرب تذكر أن الغيلان توقد النيران بالليل للعب والتخييل وإضلال أبناء السبيل. قلت: والدليل على أن الشياطين تضل الناس في الطريق، وتحيدهم عن سبيلهم، قوله الله تعالى: " كالذي استهوتهُ الشياطينُ في الأرض حيرانَ " ومن الدليل على صحة الغيلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشده كعب بن زهير قصيدته اللامية التي يقول فيها: كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيده إلا الأباطيل فما تدوم على حالٍ تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول فلم ينكره. قال أبو عمر: وكان عبيد بن أيوب هذا جوالا في مجهول الأرض، فلما اشتد خوفه وطال تردده، أمعن في الهرب، فقال: لقد خفت حتى لو تمر حمامة ... لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل: أمن قلت: هذي خديعة ... وإن قيل: خوف قلت حق فشمر وخفت خليلي ذا الصفاء ورابني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذر فلله در الغول أي رفيقةٍ ... لصاحب قفرٍ خائفٍ متنفر في أبيات كثيرة، وأما قول أمية بن أبي الصلت: والحية الذكر الرقشاء أخرجها ... من جحرها أمنات الله والقسم إذا دعا باسمها الإنسان أو سمعت ... ذات الإله أتت في مشيها رزم من خلفها حمة لولا الذي سمعت ... قد كان بيتها في جحرها الحمم ناب حديد وكف غير وادعةٍ ... والخلق مختلف واللون والشيم إذا دعين بأسماءٍ أجبن لها ... لنافثٍ يفتديه الله والكلم لولا مخافة لابً كان عذبها ... عرجاء تظلع في أنيابها عسم وقد بلته فذاقت بعض مصدقه ... فليس في سمعها من رهبةٍ صمم فكيف يأمنها أم كيف تألفه ... وليس بينهما قربى ولا رحم فإنه يقول: إنها خرجت لاستحلافه إياها، لا لرحمٍ بينها ولا نسب، وقد أوضحنا في كتاب " التمهيد " أن من الحيات صنفان من الجن، وأن منهم من أسلم، فغير نكير أن يخضع لذكر الله وأسمائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومن عجائب الدنيا، صنم قادس في غرب الأندلس على البحر من كورة شذونة، وقد ذكره الأوائل، ونقل أهل الأخبار خبره، ومن أحسن ما قيل في وصفه من النظم ما أنشده غير واحد لأبي عثمان الشذوني العروضي، يخاطب بعض قواد شذونة، إذ أدخله إليه فرآه على قرب في تلك الجزيرة، فقال: يا سيدا أبصرت عيني به عجباً ... فما أبالي يقول الناس عن رهبي لله ما أبصرته في شذونة من ... عجائب كنت في إبصارها سببا آثار مملكةٍ دلت على ملكٍ ... أذل بالملك أعناق الورى حقبا وأسودٍ واقفٍ في رأس صومعةٍ ... كأنه فوقها بالروح قد صلبا مقدماً رجله اليمنى ليرفعها ... كأنه يشتكي من طول ما تعبا يمد يمناه بالمفتاح تحسبه ... مناولا غيره عجلان مكتئبا وصكه في اليد اليسرى قد انقبضت ... كأنه ساتر عنا لما كتبا يومي إلى البحر نحو الغرب وجهته ... مستقبلاً لغروب الشمس منتصبا لابد والله من قفلٍ سيفتحه ... مفتاحه بعد الميقات أو قربا وسائلٍ لي عما ضل جوهره ... والذهن في فك معناه قد انتشبا أجبته إن في أخباره عجباً ... فلا تسل عنه صفراً كان أو ذهبا قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ما خلق الله خلقاً أشر من الخزر، ما بعث منهم نبي ولا صديق. قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه لابنه الحسن: يا بني! كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال: وكيف؟ قال: الإيمان ما سمعناه بآذاننا وصدقناه بقلوبنا، واليقين ما رأيناه بأعيننا فتيقنا، وبين السمع والبصر أربع أصابع. قال: أشهد أنك ابن رسول الله. قال الحكماء: شيئان أعيت الحكماء الحيلة فيهما، إذا أقبل الأمر أعيت الحيلة فيه أن يدبر، وإذا أدبر أعيت الحيلة فيه أن يقبل. قال خالد بن صفوان: احترس من العين فو الله لهي أنم من اللسان. كان يقال: من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك. كان يقال: مثلت الدنيا بطائر، فالبصرة ومصر جناحان، والشام والعراق والجزيرة وما والاها الجوف، واليمن الذنب. تقول العرب: مضر رحاها خندف، وهامتها تميم، وفرسانها قيس، وأئمتها كنانة، ولسانها أسد. قال الخشني: لا تكرم ولا تعظم إلا من يرجى خيره، أو يخاف شره، أو يقتبس من علمه، أو من بركة دعائه. خطب أرسطو طاليس يوماً فأطال، وعنده شاب مطرق، فقال له: مالك لا تتكلم؟ قال: إن الله خلق الإنسان أذنين اثنين ولساناً واحداً ليسمع أكثر مما يقول. من أمثال العرب: من يجمع بين الأروى والنعام! لأن الأروى لا تسهل، وإنما تسكن الجبال، والنعام يسكن السهل، ولا ترقى الجبال. ومن قولهم: بيضة البلد؛ فمدح وذم، فمن المدح قول علي رضى الله عنه: أنا بيضة الإسلام، ومن المدح قول حسان: وابن الفريعة أمسى بيضة البلد يعني نفسه. وأما الذم فقول الراعي في عدي بن الرقاع: لو كنت من أحدٍ يهجي هجوتكم ... يا ابن الرقاع ولكن لست من أحد تأبى قضاعة أن تدري لكم نسباً ... وابنا نزارٍ فأنتم بيضة البلد ابنا نزارٍ: ربيعة ومضر. قال قبيصة بن جابر الأسدي، يوم صفين: قد حافظت في حربها بنو أسد ... ما مثلها تحت العجاج من أحد لسنا بأوباشٍ ولا بيض البلد قيل للأموية: أي شيءٍ أحسن؟ قالت: القصور والبيض في الحدائق الخضر. قال أبو لبيد الرياحي: سألت شيخاً لنا: أي شيء أحسن؟ قال: بيضة في روضة. تقول العرب: لا شيء أظل من حجر، ولا أفيأ من شجر. قال الشاعر: إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات وقال آخر: فلا تجزعن على أيكةٍ ... أبت أن تظلك أغصانها وقال آخر، هو الحسن بن هانئ: لا أذود الطير عن شجرٍ ... قد بلوت المر من ثمره كلم الحجاج امرأة من الخوارج، وهي معرضة عنه، فقيل لها: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. قال رجل من بني كلاب من الخوارج، يخاطب معاوية بن أبي سفيان رحمه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قد سرت سير كليب في عشيرته ... لو كان فيهم غلام مثل جساس الطاعن الطعنة النجلاء عاندها ... كطرة البرد أعيا فتقها الآسى قال عمر بن الخطاب: ما أبالي على أي حال أصبحت؟ أعلى ما أحب أم على ما أكره، لأني لا أدري فيم الخيرة، أفيما أحب أم فيما أكره. وما أبالي إذا استخرت الله في الأمر أكان أو لم يكن. وأما قول الشاعر: طلب الأبلق العقوق فلما ... لم ينله أراد بيض الأنوق فالأبلق لا يكون عقوقاً أبداً، يقال: أعقت الدابة إذا عظم بطنها للحمل، والذكر لا يكون عقوقاً، والأنوق الرخم لا يكاد يرى بيضة ولا يوجد لأنه في صدوع الصخر من الجبال الشامخة، ولا منفعة فيه، ولا يصاب إلا بمشقة ونيل مكروه. وأما الزجر بالغراب عندهم فلاشتقاق اسمه من الغربة والاغتراب، ومنه أخذ الغريب. وقيل له: حاتم بن بحير لهذا، ويشتقون من الصرد: التصريد والصرد، والصرد هو البرد، قال الشاعر: دعا صرد يوماً على غصن شوحطٍ ... وصاح بذات البين فيها غرابها فقلت: أتصريد وشحط وغربة ... فهذا لعمري نأيها واغترابها وقال آخر: تغني الطائران ببين سلمى ... على غصنين من غرب وبان فكان البين أن بانت سليمى ... وبالغرب اغتراب غير دان وقال سلامة بن جندل: ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشئوم وقال آخر: ولست أبالي حين أغدو مسافراً ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب وقد أوضحنا هذا المعنى بالآثار المرفوعة، والأخبار والأشعار في كتاب " التمهيد "، والحمد الله تعالى. باب من منثور الحكم والأمثال منتقى من نتائج عقول الرجال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة ". خير المقال ما صدقه الفعال. رأس الدين صحة اليقين. كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم. من الفساد إضاعة الزاد. امحض أخاك النصيحة، وإن كانت عنده قبيحة. التجارب ليس لها غاية، والعاقل يستزيد منها إلى غير نهاية. من بذل لك مودته، أجزل لك عطيته. الأحمق لا يبالي ما قال، والعاقل يتعاهد المقال. من غلب عليه العجب، ترك مشورة الرجال. جانب مودة الحسود، وإن زعم أنه ودود. إذا جهل عليك الأحمق، فالبس له سلاح الرفق. من طلب إلى لئيمٍ حاجةً، فهو كمن طلب صيد السمك في المفاوز. مؤمل النفع من اللئام، كزارع السمسم في الحمام. إذا صادقت الوزير، لم تخف الأمير. لا تثق بالأمير إذا خانك الوزير. من كان السلطان يطلبه، ضاق عليه بلده. الزائر لمن يستثقله مذل لنفسه. صديقي درهمي، إذا سرحته فرج همي وقضى حاجتي. من جالس عدوه فليحترس من منطقه. من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه. من عرف من نفسه الكذب، لم يصدق الصادق. كثرة الذنوب مفسدة للقلوب. من بذل لك نصحه، فاحتمل غضبه. من بذل لك ماله، فاصبر على ما يأتي منه. لن يذهب من مالك ما وعظك. من قل خيره على أهله، فلا ترج خيره. قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها. الإكثار من الملامة يولد القطيعة. صاحب الزلل موكل به الندم. الشجاعة لمن كانت له الدولة. لا ترسل الكسلان في حاجتك فيتكاهن عليك. عناء في غير منفعة خسارة حاضرة. من ألح في المسألة على غير الله، استحق الحرمان. صحبة الفاسق شين، وصحبة الفاضل زين. من أكثر الكلام على المائدة غش بطنه، واستثقله إخوانه. الكريم يواسي إخوانه في دولته. من حفظ سره ركب أمره. من جرى في ميدان أمله، عثر في عنان أجله. من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك. من لم تقدر على مكافأته، فانصح له. من لم يصبر على البلاء، لم يرض بالقضاء. من استهوته الخمر والنساء، أسرع إليه البلاء. إذا احترق الفؤاد، ذهب الرقاد. من تسلط على الناس بغير سلطان، لم يسلم ممن الهوان. الغريب الناصح خير من القريب الغاش. من نسى إخوانه في الولاية، أسلموه في العزل والشدة. من لم ينلك البر في حياته، لم تبك عيناك على وفاته. من لم يقنع برزقه، عذب نفسه. من اجترأ على السلطان، تعرض للهوان. إذا لم يواتك البازي في صيده، فاتنف ريشه. الهم ظلمة جلاؤها الفرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فقد الصبر، أعظم مصائب الدهر. ساعات السرور جالبة للمحذور. فكر في المعاد، تنس أمور العباد. الصعود إلى السماء، أيسر من صرف القضاء. من مدحك بما لا يعلم منك جهراً، ذمك بما لا يعلم منك سرا. أمسك لسانك يسلم جنانك. الحجة تدعو إلى المذهب الصحيح، والشبهة تدعو إلى المذهب الفاسد. إن قدرت ألا تسمع أذنك سرك فافعل؛ فإن الدهر إذا عرف لذة كذرها. لقاء الأحبة مسلاة للهموم. حسن التدبير مع الكفاف، خير من التبذير مع الإيسار. أشد الأشياء تأييداً للعقل مشاورة العلماء، والأناة في الأمور، والاعتبار بالتجارب. وأشدها إضراراً بالعقل الاستبداد والتهاون والعجلة. أصعب من السلو التذلل للعدو قليل مهنً، خير من كثير مكدر. كلب شاكر، خير من صاحبٍ غادر. روضة العلم أزين من روضة الرياحين. الكتاب مفيد علم من سلف، باقٍ لمن خلف. القلم لسان الغائب. رب خيرٍ جديد ألذ من مالٍ عتيد. السلام وحسن البشر، ربما زرعا المودة في القلوب. الحسود مغتاظ على من لا ذنب له عنده. المرأة العفيفة الجميلة المواتية جنة الدنيا. موت الولد العاق والزوجة المهارشة نعمة سابغة. في الوجوه تظهر المودات. القلوب تجازي، وبضميرك تستدل. من الآفات كثرة الالتفات. ومن كلام أكثر بن صيفي: مع كل حبرة عبرة، مع كل فرحة ترحة. لا جماعة لمن اختلف عليه. الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والإفراط في الأنس مكسبة لقرناء السوء. رب عجلة تعقب ريثاً. العجز والتواني سبب الفاقة. من مأمنه يؤتى الحذر. اسع بجدً أو فذر. جدك لا كدك. ستساق إلى ما أنت لاق. من جهل شيئاً عاداه، ومن أحب شيئاً استعبده. ويل عالم من امرىءٍ جاهل. إن قدرت أن ترى عدوك أنك صديقه فافعل. كم بين روعة الفراق، وفرح التلاق. من أشد العذاب فرقه الأحباب. احذر من وترته وإن أحسنت إليه. سوقي نفيس، خير من قرشي خسيس. العقل كالزجاج إن يصدع لم يرقع. موت مريح خير من فقرٍ صريح. خير القريض والكلام ما إذا فرغ منشده وقائله، أحب إعادته سامعه. إذا لم تقبل الحجة منك فالسكوت أولى بك. من وعظه اليسير استغنى عن الكثير. إذا جاء القدر عمى البصر. إذا جاء الحين غطى العين. إن غلبت على القول لم تغلب على السكوت. في الإنصاف للعلماء زيادة، وفي الإنصاف للجهال سلامة. من نظر أبصر، ومن فكر اعتبر. العيال سوس المال. حسبك من المال ما نفعك، ومن الدين ما ورعك. لا ينطق لسانك إلا على ما يتسع به بنانك. من حكم فليعدل، ومن قضى فليفصل. إذا صدق العيان لم يحتج إلى برهان. إذا خان البرهان فزعت إلى العيال. شفاء الصدور في التسليم للمقدور. شدة الحاجة ربما بعثت الحيلة. ويح ابن آدم كيف ينهي ولا يرعوي، أم كيف يأمر ولا ينتهي. الكذب عار وربما نفع. الحلف لؤم، وربما افتقر إليه. العذر قبيح، وربما حسن. البخل مذموم وربما حمد. لا شيء تراه العين، أحلى من اجتماع إلفين. حفظك ما في يدك خير من طلبك ما في يد غيرك. من التواني ما يكون سبباً للحرمان. من حلم ساد، ومن تعلم ازداد. العجب من ورثة الموتى، كيف لا يزهدون في الدنيا؟!. من أيقن بالأجر، رغب في الصبر. الإفراط في العتاب، يدعو إلى الاجتناب. من نم عندك، نم بك. من سعى إليك سعى عليك. رب أخ لك لم تجمعك به ولادة. لا يرتفع الرجل فوق قدره إلا لذلً يجده في نفسه. مدح الغائب تعريض بالحاضر. أخر الشر إذا شئت تعجيله. ما أحق من غدر بألا يوفى له. الحق أبلج، والباطل لجلج. الخط صورة فأحسنها أبينها. ذم الإنسان لنفسه في الملاء، مدح منه لها في الخلاء. بطن جائع خير من ظلم شائع. الثقيل عذاب وبيل. رب بزة ظاهرة، تحتها خلة باطنة. علم الرجل، ابنه الباقي بعده. من عالته امرأة، لم يفقد ذلا. شهود الزور كلاب القبور. العيان رائد الاستحسان. الاشتياق يذهب بالعناق. ليس بالتحفظ في الأمور يسلم من المقدور. من تردى بثوب السخاء غاب عن الناس عيبه. من يفرغ للشر يطلبه، أتيح له من يغلبه. من أمل أحداً هابه، ومن لم يدرك الشيء عابه. لا يضر السحاب نباح الكلاب. قال حسان: ما أبالي أنب بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيب لئيمُ وقال الأخطل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ما ضر تغلب وائلٍ أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران وقال آخر: ما يضر البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه غلام بحجر وقال جرير: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع وقال آخر: تهددني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها باب من نوادر الفلاسفة مختصرة قيل لأرسطو طاليس: ما الفلسفة؟ قال: فقر وصبر، وعفاف وكفاف، وهمة وفكرة. قيل لسقراط: بم فضلت أهل زمانك؟ قال: لأن غرضي في الأكل الحياة، وغرضهم في الحياة أن يأكلوا. قيل لسقراط: ما أتعب فلاناً بخضاب لحيته؟ فقال: لخوف المطالبة بالحكمة، ولا تطلب إلا من المشايخ. قال بقراط: أعظم آفة الحيوان الصامت من صممته، وأعظم آفة الحيوان الناطق من نطقه. قيل لجالينوس: بم فقت أصحابك في علم الطب؟ فقال: لأني أنفقت في زيت السراج لدرس الكتب مثل ما أنفقوا في شرب الخمر. كتب فيلسوف إلى طبيب: صناعتي أقرب الصناعات من صناعتك؛ لأنك تصلح الأبدان وأنا أصلح النفوس. قيل لفيلسوف: أين بلغت بك الحكمة؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها. قال أنوشروان لبزر جمهر: من أدبك؟ قال: قريحتيٍ، نظرت إلى ما استحسنت من غيري فاستعملته، وما استقبحته اجتنبته، ولقد تفقدت من كل شيء محاسنه، فأخذت من الخنزير قناعته، ومن الكلب محافظته، ومن القرد مساعدته، ومن الحمار صبره، ومن الغراب بكوره، ومن السنور لطافة المسألة عند الخوان. قيل لرجل من الحكماء: لمن أنت أرحم؟ قال: لعالمٍ جاز عليه حكم جاهل. وقيل له: متى يكون البليغ عييا، والعيُّ بليغاً؟ فقال: إذا وصف حبيباً، وإذا احتج البليغ على محبوب. قيل للإسكندر: رأيناك تعظم معلمك، أكثر من تعظيمك لأبيك؟ فقال: لأن أبي سبب موتى، ومعلمي سبب حياتي. نظر حكيم إلى قوم يرمون ولا يصيبون ويسبون الرمى، فجلس في الهدف إلى الغرض، فقيل له: جلست هناك! قال: لأني لم أر موضعا أوقى من هذا. قيل لبعض الحكماء: متى أثرت فيك الحكمة؟ قال: مذ بدا لي عيب نفسي. رأى أفلاطون رجلاً معجباً بنفسه، فقال: وددت أن أعدائي مثلك في الحقيقة، وأنا مثلك في ظنك. كان رجل مصوراً فترك التصوير وتتطبب، فقيل له في ذلك، فقال: الخطأ في التصوير تدركه العيون، وخطأ الطبيب تواريه القبور. سعى إلى الإسكندر بعض رجاله برجل من أصحابه فقال له: أتحب أن أقبل قولك فيه، على أن أقبل قوله فيك؟ قال: لا. قال: فكف إذاً عن الشر ليكف الشر عنك. قال الإسكندر لجلسائه: ينبغي للرجل أن يستحي من أن يأتي قبيحاً في منزله من أهله؛ وفي غير منزله ممن يلقاه. أتى الإسكندر يوماً جاسوس يخبره عن عسكر دارا الفارسي، وأخبره أن فيه خلقاً كثيراً، فقال له: إن الذئب وإن كان واحداً لا تهو له كثرة الغنم. كان في أصحاب الإسكندر رجل يسمى الإسكندر لا يزال ينهزم في الحرب، فقال له: إما غيرت اسمك، وإما غيرت فعلك. قيل للإسكندر: قد بسط الله لك في الملك، فأكثر من النساء ليكثر ولدك ونسلك، فقال لا يصح لمن غلب الرجال أن تغلب عليه النساء. سأل الإسكندر رجلان من خاصته أن يحكم بينهما، فقال: الحكم يرضي أحدكما ويسخط الآخر، فاستعملا الحق ليرضيكما جميعاً. وقال له أصحابه: قد بسط الله ملكك وعظم سلطانك، فبأي الأشياء أنت أسر: بما نلت من أعدائك، أم بما بلغت من سلطانك؟ قال: كلاهما يسير، وأعظم ما أسر به ما سننت في الرعية من السنن الجميلة والشرائع الحسنة. قال الإسكندر: ينبغي للرجل إذا صافى مصافياً أن يتوقى مباشرته، ولا يسترسل إليه فيما يشينه. قال بعض الحكماء لتلاميذه: استعملوا الكذب عند الضرورة كما تستعملون الدواء. ولما مات الإسكندر قال نادبه: حركنا الإسكندر بسكونه. أخذه أبو العتاهية فقال: يا علي بن ثابتٍِ بان مني ... صاحب جل فقده يوم بنتا قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا قال الموبذ بوم مات قباذ: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. أخذ أبو العتاهية هذا المعني، فقال: وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يقال: إن الإسكندر مات وكان عمره ستاً وثلاثين سنة، هذا قول الفرس ومنهم من يقول: كان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وفي قول الفرس: إنه ملك أربع عشرة سنة. وأن قتله لدارا كان في السنة الثالثة من ملكه، وزعم الروم أن ملكه كان ثلاثاً وعشرين سنة وأنه مات وعمره ثلاث وأربعون سنة وهم أعلم به، وزعموا أنه مات بشهرزور، وأنه حمل إلى الإسكندرية ودفن بها، وأقامت عليه النوائح شهوراً. وقيل: بل مات بالإسكندرية. قال بعض الحكماء: لا تغترن بحسن الكلام وطيبه إذا كان الغرض المقصود منه ضاراً؛ فإن الذين يخدعون الناس إنما يخلطون السم بالحلو من الأطعمة والأشربة، ولا يصعبن عليك الكلام الغليظ، إذا كان الغرض المقصود إليه نافعاً؛ فإن أكثر الأدوية الجالبة للصحة مرة مستبشعة. قيل لبعض الحكماء: أي شيءٍ أنفع الأشياء؟ قال: الاعتدال. قيل: وما الاعتدال؟ قال: هو الشيء الذي الزيادة فيه والنقص منه ضرر. يروى أن المسيح عليه السلام قال: أمر لا تعلم متى يغشاك، ينبغي أن تستعد له قبل أن يفجأك. باب الرياء جاء رجل إلى البني صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الجهاد في سبيل الله، وأحب أن يرى مكاني وموضعي، وإني أتصدق وأعمل العمل وأحب أن يراه الناس. فأنزل الله عز وجل: " فمنْ كان يرجو لقاءَ ربهِ فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادةِ ربهِ أحداً ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من راءى بعمله، راءى الله به، ومن سمع بعمله سمع الله به بين خلقه وحقره وصغره ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو إلى غيري، ليس لي منه شيء، وأنا منه برئ ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة، يوم يجازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون فيهم خيراً ". وروى في الحديث المرفوع: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل ". روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، قال: إن الملك ليصعد بعمل العبد مستفتحاً به، حتى إذا انتهى إلى ربه قال: اجعلوه في سجين، إني لم أرد بهذا. قال الأوزاعي: فما ظنك بما قد خفي عن الملك. وروى عن النبي عليه السلام أنه قال: " أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية، حبك أن تحمد بما لم تفعل " وقيل: بما عملت من الخير. والأول أجود. لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: يا رسول الله! أني أعمل العمل أريد به وجه الله، ثم يبلغني أن الناس يتحدثون به فيسرني. قال: " ذلك عاجل بشري المؤمن ". قال الشاعر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب لهونا عن الأعمال حتى تتابع ... علينا ذنوب بعدهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن لي في توبةٍ فأتوب وقال آخر: كم من مصل لا يطي ... ل صلاته لسوى الطمع متلهيا إما خلا ... وإذا بصرت به ركع يدعو وجل دعائه: ... ما للفريسة لا تقع وقال الغزال: ومراء أخذ النا ... س بسمتٍ وقطوب وخشوع يشبه السق ... م وضعف في الدبيب قلت: هل تألم شيئاً ... قال أثقال الذنوب قلت: لا تعن بشيءٍ ... أنت في قالب ذيب إنما تنبي عن الوث ... بة في حال الوثوب ليس من يخفى عليه ... منك هذا بلبيب قال محمود الوراق: أيها المغرور مهلا ... فلقد أوتيت جهلا كم إلى كم تحسن القو ... ل ولا تحسن فعلا ظاهر يجعل والباطن لا ... يخفى على ربك كلا وقال محمود الوراق: تصنع كي يقال له أمين ... وما يغني التصنع للأمانة ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة باب في الشيب ومدحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ". قال جعفر الخواص: رأيت يحيى بن أكثم في النوم، فقلت ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه فسألني وناقشني، وقال: يا شيخ السوء! لولا شيبتك لأدخلتك النار - رددها ثلاثاً - فقلت: يا رب! ما هكذا حدثني عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري عن أنس، عن نبيك، عن جبريل، عنك. قال: وما هو؟ قلت: " حدث أنه من شاب شيبةً في الإسلام لم تحرقه بالنار "، فقال الله عز وجل: " صدق عبد الرزاق، وصدق معمر، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبي، وصدق جبريل؟ انطلقوا به إلى الجنة ". وقال أبو موسى الزمن: رأيت أبا الوليد الطيالسي في النوم فقلت: يا أبا الوليد، أليس قدمت؟ قال: بلى. قلت: فما فعل الله بك. قال: غفر لي ورحمني وطيبني بيده، وقال: هكذا أفعل بأبناء الخمسين والسبعين. وممن مدح الشيب من الشعراء الفرزدق، حيث يقول: تفاريق شيب في السواد لوامع ... وما خير ليلٍ ليس فيه نجوم وقال أبو هفان: تعجبت هند من شيبي فقلت لها ... لا تعجبي فبياض الصبح في السدف وزادها عجباً أن رحت في سملٍ ... وما درت هند أن الدر في الصدف وقال دعبل: أهلاً وسهلاً بالمشيب فإنه ... سمة العفيف وحلية المتحرج وكأن شيبي نظم درً زاهرٍ ... في تاج ذي ملكٍ أغر متوج وقال أيضاً: أحب الشيب لما قيل ضيف ... لحبي للصيوف النازلينا لمحمد بن عبد الملك الزيات: وعائبٍ عابني بشيبي ... لم يعد لما ألم وقته فقلت غذ عابني بشيبي ... يا عائب الشيب لا بلغته وقال آخر: لا يرعك المشيب يا بنة عبد الله ... فالشيب جلة ووقار إنما تحسن الرياض إذا ما ... ضحكت في خلالها الأنوار ولأبي الفتح البستي: ما استقامت قناة رأيي إلا ... بعدما عوج المشيب قناتي ولدعبل بن علي: تعجبت أن رأت شيبي فقلت لها: ... لا تعجبي من يطل عمر به يشب شيب الرجال لهم زين وتكرمة ... وشيبكن لكن الويل فاكتئبي فينا لكن وإن شيب بدا أرب ... وليس فيكن بعد الشيب من أرب وقال أبو الحسن علي بن محمد السهواجي، وسهواج بلدة من أعمال مصر: ومما زاد في طول اكتئابي ... طلائع شيبتين ألمتابي فأما شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض من حب التصابي وأما أختها فكففت عنها ... لتشهد بالبراء من الخضاب فيا عجباً لذلك من مشيبٍ ... أقمت به الدليل على الشباب وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من تجاوز ذلك ". قال أبو هريرة: وأنا من أقلهم، وقاله أبو سلمة ومحمد بن عمرو. ومن حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من تعظيم خلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ". رأى إياس بن قتادة شعرةً بيضاء في لحيته، فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته، أعوذ بك يا رب من فجأة الموت. يا بني سعد! قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبي. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " خير شبابكم من تشبه بكهولكم، وشر كهولكم من تشبه بشبابكم ". من حديث أنس. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله عز وجل ليكرم أبناء السبعين ويستحي من أبناء الثمانين أن يعذبهم ". باب في خضاب الشيب ونتفه قال محمود الوراق: إذا ما الشيب جار على الشباب ... فعاجله وغالط في الحساب وقل لا مرحباً بك من نزيلٍ ... وعذبه بأنواع العذاب بنتفٍ أو بقص كل يومٍ ... وأحياناً بمكروه الخضاب فإن هو لم يحر وأتى لوقته ... فقل في رحب دار واقتراب ولا تعرض له إلا بخيرٍ ... وإن عدي على شرخ الشباب وخذ للشيب أهبته وبادر ... وخل عنان رحلك للذهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فقد جد الرحيل وأنت ممن ... يسير على مقدمة الركاب وقال محمود الوراق: وذي حيلةٍ في الشيب ظل يحوطه ... فيخضبه طوراً وطوراً ينتف وما لطفت للشيب حيلة عالمٍ ... على الدهر إلا حيلة الشيب ألطف وقال محمود أيضاً: اشتعل الشيب فأفنيته ... وكل مقراضي فأعتقته كنت إذا استقصيت قصي له ... وقلت في نفسي أفنيته عارضني من جانبٍ آخرٍ ... كأنني قد كنت زملته الشيب ما ليست له حيلة ... أعياني الشيب فخليته وله أيضاً: يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما تدرجها في كفن أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن أنشدني بعض شيوخي لابن محاسن في الخضاب: يا من يغير شببه بخضابه ... ليكون عند الغانيات وجيها هبك المشيب أحلته عن حاله ... فغضون وجهك كيف تصنع فيها هيهات توهمها بأنك تربها ... فإذا خلت بك كنت صنو أبيها ولمنصور الفقيه: هبني سترت مشيبي ... تستراً عن حبيبي فهل أروح وأغدو ... إلا بوجه مريبٍ وقال آخر: صبغت الرأس ختلاً للغواني ... كما غطى على الريب المريب أعلل مرةً وأساء أخرى ... ولا تحصى على الكبر العيوب يقوم بالثقاف العود لدناً ... ولا يتقوم العود الصليب وقال آخر: فما منك الشباب ولست منه ... إذا سألتك لحيتك الخضابا ولابن المعتز: ماذا تريدين من جهلي وقد سلفت ... سنو شبابي وهذا الشيب قد وخطا أروح للشعرة البيضاء ملتقطاً ... فيصبح الشيب للسوداء ملتقطا وقد مدح ابن المعتز الخضاب فقال: وقالوا: النصول مشيب جديد ... فقلت: الخضاب شباب جديد إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود ولمحمود الوراق: أتفرح أن ترى حسن الخضاب ... وقد واريت بعضك في التراب ألم تعلم وفرط الجهل أولىبمثلك أنه كفن الشباب لقد ألزمت لهزمتيك هوناً ... وذلا لم يكن لك في الحساب أحين رمى سواد الرأس شيب ... فغيره فزعت إلى الخضاب فكنت كمن أطل على عذابٍ ... ففر من العذاب إلى العذاب تهي لنقلة لابد منها ... فقد أثبت رجلك في الركاب وقال آخر: يا أيها الرجل المسود شيبه ... كيما يعد به من الشبان أقصر فلو سودت كل حمامةٍ ... بيضاء ما عدت من الغربان وقال ابن الرومي: رأيت خضاب المرء عند مشيبه ... حداداً على شرخ الشبيبة يلبس وإلا فما يغني الفتى من خضابه ... أيطمع أن يخفي شباب مدلس فكيف بأن يخفي المشيب لخاضب ... وكل ثلاثٍ صبحه يتنفس وهبه يواري شيبه أين ماؤه ... وأين أديم للشبيبة أملس وقال محمود الوراق: طويت عوار الشيب من فرطٍ قبحه ... بأقبح منه فافتضحت وما انطوى وأصبحت مرتاداً لنفسك ضلةً ... وقبلك ما أعيا الفلاسفة الألى وله أيضاً، ويروي لغيره: يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثةٍ يعود إن النصول إذا بدا ... فكأنه شيب جديد هذي بديهة روعةٍ ... مكروهها أبداً عتيد فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود كما تريد كان عقبة بن عامر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالسواد، ويتمثل: اسود أعلاها وتأبى أصولها ... فياليت ما يسود منها هو الأصل وقال آخر: نصول الشيب طوقني بطوق ... يلوح على من تحت السواد إذا أبصرته فكأن وخزاً ... بأطراف الأسنة في فؤادي باب جامع مختصر في الشيب والبكاء على فقد الشباب قال منصور النمري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ما واجه الشيب من عين وإن ومقت ... إلا لها نبوة عنه ومرتدع أبكي شباباً سلبناه وكان وما ... توفي بقيمته الدنيا ولا تسع قد كدت تقضي على فوت الشباب أسًى ... لولا يعزيك أن العيش منقطع ما كدت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع قال المبرد: هذا من الشعر البديع في معناه، الذي ليس لأحد من المحدثين مثله، وقد أخذه الباهلي في قوله: اذهب إليك فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيومٍ واحدٍ بدل قال الفرزدق: وتقول كيف يميل مثلك للصبا ... وعليك من سمة الكبير عذار والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار وقال الأخطل: هل الشباب الذي قد فات مردود ... أم هل دواء يرد الشيب موجود لن يرجع الشيب شباناً ولن يجدوا ... عدل الشباب له ما أورق العود وقال أيضاً: لقد لبست لهذا الدهر أعصره ... حتى تخلل رأسي الشيب واشتعلا وبان مني شبابي بعد لذته ... كأنما ضيفا نازلا رحلا وقال منصور الفقيه: من شاب قد مات وهو حي ... يمشي على الأرض مشي هالك لو أن عمر الفتى حساب ... كان له شيبه فذلك وقال محمود الوراق: مني السلام على الدنيا وبهجتها ... فقد نعاها إلى الشيب والكبر لم يبق لي لذة إلا التعجب من ... صرف الزمان وما يأتي به القدر إحدى وسبعون لو مرت على حجر ... لكان من حكمه أن يفلق الحجر وقال نفطويه: شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى بؤذنا بذهاب لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب وقال آخر: كان الشباب رداءً قد بهجت به ... فقد تطاول فيه للبلى خرق وبان منشمراً عني ومنقبضاً ... كالليلِ ينهض في أعجازه الفلق وقال يوسف بن هارون: نظرت إلى بعين من لم يعدل ... لما تمكن طرفها من مقتلي فجعلت أطلب وصلها بتلطفٍ ... والشيب يغمزها بألا تفعلي وقال محمود الوراق: أمن بعد ستين تبكي الطلولا ... وتندب رسماً وانياً محيلا وقد نجم الشيب في عارضيك ... وجر على مفرقك الذيولا وله أيضاً: أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه فمن بين باكٍ له موجع ... وبين معزٍ معذٍ إليه ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... وليس يعزيه خلق عليه وقال سهل الوراق: أرى الشيب مذ جاوزت خمسين حجةً ... يدب دبيب الصبح في غسق الظلم هو السقم إلا أنه غير مؤلمٍ ... ولم أر مثل الشيب سقماً بلا ألم وقال آخر: والشيب أعظم جرماً عند غانيةٍ ... من ابن ملجم عند الفاطميينا وقال علي بن جبلة: جلال مشيبٍ نزل ... وأنس شبابٍ رحل طوى صاحب صاحباً ... كذاك اختلاف الدول أعاذلتي أقصري ... كفي بالمشيب العذل جلال ولكنه ... تحاماه حور المقل وقال ابن مقبل: قالت سليمى وقد كانت على مقةٍ ... لا خير في المرء بعد الشيب والكبر قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: للموت تقحم على الشيب كتقحم الشيب على الشباب. وقال مسلم بن الوليد: الشيب كره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيءٍ على البغضاء مردود وقال آخر: جانبك النوم والقرار ... أن منعت وصلها نوار رأت مشيباً وفي الغواني ... عمن بدا شيبه ازورار حتى إذا استيقنت بأني ... قد شاب صدغاي والعذار ألوت بخدً إلى اللواتي ... زعمن أن المشيب عار تمسح رأسي وهي تنادي ... أحتى على رأسك الغبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 نظر كسرى إلى رجلين من مرازبته أحدهما قد شاب رأسه قبل لحيته، والآخر قد شابت لحيته قبل رأسه، فأراد أن يعرف جواب كل واحد منهما عن حاله تلك. فقال لأحدهما: لم شاب رأسك قبل لحيتك؟ قال: لأن شعر رأسي خلق قبل شعر لحيتي، والكبير يشيب قبل الصغير. وقال للآخر: لم شابت لحيتك قبل رأسك؟ قال: لأنها أقرب إلى الصدر موضع الهم والغم. قال حبيب: شاب رأسي وما رأيت مشيب ال ... رأس إلا من فضل شيب الفؤاد قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك المشيب. قال: فكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل أسبوع - يعني الخطبة. روى عن ابن عباس رحمه الله، قال: شيب الناصية من الكرم، وشيب الصدغين من الروع، وشيب الشارب من الفحش، وشيب القفا من اللؤم. قال مكي بن إبراهيم: مشيب لئام الناس في ذروة القفا ... وشيب كبار الناس فوق المفارق قال قيس بن عاصم: الشيب خضاب المنية. قال بعض الحكماء: الشيب موت الشعر. قال معمر بن سليمان: الشيب مراحل الموت. نظر بعض الأعاجم إلى شيبٍ في رأسه أو لحيته، فجمع نساءه وقال: تعالين فاندبنني إذا مات بعضي، لأبصر كيف تندبنني إذا مات كلي. باب الكبر والهرم قال الله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك أن أرد إلى أرذل عمر ". وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الغم والهم والكسل والهرم. وفد عمرو بن مسعود السلمي على معاوية بن أبي سفيان، وكان صديقاً لأبي سفيان، فلما مثل بين يدي معاوية عرفه، فقال له: كيف أنت وحالك؟ فقال: ما يسأل أمير المؤمنين عمن سقطت ثمرته، وذبلت بشرته، وابيض شعره، وانخني ظهره، وكثر منه ما يحب أن يقل، وصعب منه ما كان يحب أن يذل، وترك المطعم وكان المنعم، وهجر النساء وكن الشفاء، وقصر خطوه، وذهب لهوه، وكثر سهوه، وثقل على الأرض، وقرب بعضه من بعض، فقل إيحاشه، وكثر ارتعاشه، فنومه سبات، وهمه تارات، وأنشد شعراً حسناً في معناه، تركته لطوله. وقال أبو عبيدة: عاش أنس بن مدرك الخثعمي مائة سنة وأربعا وخمسين سنة، وكان سيد خثعم في الجاهلية، وفارسها. وأدرك الإسلام فأسلم، وقال في كبره: إذا ما امرؤ عاش الهنيدة سالماً ... وخمسين عاماً بعد ذاك وأربعا تبدل مر العيش من بعد عذبه ... وأوشك أن يبلي وأن يتسعسعا ونادي به الأدني وترضى به العدا ... إذا صار مثل الدال أحدب أخضعا رهينة قعر البيت ليس يريمه ... لقىً ثاوياً لا يبرح البيت مضجعا يخبر عمن مات حتى كأنما ... رأى الصعب ذا القرنين أو راء تبعا قال أبو عبيدة: عمر نصر بن دهمان الأشجعي مائة وتسعين سنة، واعتدل بعد ذلك وصار شاباً، واسود شعره، وكان أعجوبة غطفان في سائر العرب وفيه قال الشاعر: ونصر بن دهمان الهنيدة عاشها ... وتسعين حولاً ثم قوم فانصاتا وعاد سواد الرأس بعد بياضه ... ولكنه من بعد ذا كله ماتا روى سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، قال: دخل عمرو بن حريث على أبي العريان الهيثم بن الاسود النخعي يعوده ويزوره، فقال: كيف تجدك يا أبا العريان؟ قال أجدني قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض، ولأن مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين. وزاد غيره في هذا الخبر: وأجدني يسبقني من بين يدي، ويدركني من خلفي، وأنسي الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملاء، وأسهر في الخلاء، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت بعدت عني. ثم اتفقت الرواية: فاسمع أنبئك بآيات الكبر تقارب الخطو وضعف في البصر وقلة الطعم إذا الزاد حضر وكثرة النسيان ما بي مدكر وقلة النوم إذا الليل اعتكر أوله نوم وثلثاه سهر وسعلة تعتادني مع السحر وتركي الحسناء في حين الطهر وحذراً أزداده إلى حذر والناس يبلون كما يبلي الشجر وقال يحيى بن الحكم الغزال: تسألني عن حالتي أم عمر ... وهي ترى ما حل بي من الغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وما الذي تسأل عنه من خبر ... وقد كفاها الكشف عن ذاك النظر وما تكون حالتي مع الكبر ... اربد مني الوجه وابيض الشعر وصار رأسي شهرة من الشهر ... ويبست نضرة وجهي واقشعر ونقص السمع بنقصان البصر ... وصرت لا أنهض إلا بعد شر لو ضامني من ضامني لم أنتصر ... فانظر إلى واعتبر ثم اعتبر فإن للحلوم في معتبر قال معاوية بن أبي سفيان: من أخطأه سهم المنية قيده الهرم. مر شيخ قد انحنى بفتى شاب، فقال له: أتبيع القوس يا شيخ؟ فقال له: إن كبرت أخذتها بلا ثمن. لأعرابي في الصلع: قد ترك الدهر صفاتي صفصفا فصار رأسي جبهةً إلى القفا كأنه قد كان ربعاً فعفا أمسى وأضحى للمنايا هدفا وقال تميم بن مقبل العجلاني: كان الشباب لحاجاتٍ وكن له ... فقد فرغت إلى حاجاتي الأخر يا حر أمست بشاشات الصبا ذهبت ... فلست منها على عينٍ ولا أثر يا حر أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصفو بالكدر يا حر من يعتذر من أن يلم به ... ريب الزمات فإني غير معتذر قد كنت أهدي ولا أهدي فعلمني ... حسن المقادة أني فاتني بصري قالت سليمى لأختيها وقد صدقت ... لا خير في العيش بعد الشيب والكبر قالت امرأة لرجل عهدته شابا ثم رأته شاخ: أين شبابك؟ قال: أودى به خصال من طال أمده، وكثر ولده، وضعف جلده، وذهب عدده. قال منصور الفقيه: يا من دعته الغواني ... عماً وقد كان شبا قد كنت ورداً جنيناً ... فصرت ورداً مربا مر أعرابي وهو شيخ كبير ببعض الغلمان، فقال له: من قيدك أيها الشيخ؟ قال: الذي هو دائب في فتل قيدك، وأنشده: الدهر أبلاني وما أبليته ... والدهر غيرني وما يتغير والدهر قيدني بقيد مبرمٍ ... فمشيت فيه وكل يوم يقصر وقال آخر: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيداً أني بقيد قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: من طالت أيامه، كانت مصيبته في أحبابه، ومن قصرت أيامه كانت مصيبته في نفسه. قال محمود الوراق: ألا رب ذي أملٍ كاذب ... بعيد الرجاء قوي الطمع تمني البقاء تمادي به ... أجاب القضاء فماذا صنع تجرد أكثر جثمانه ... وفرق ما كان منه جمع ودل المشيب على رأسه ... وأعقب من بعد شيبٍ صلع وقوس متنيه بعد اعتدالٍ ... وأثبت في الرجل منه الظلع فمن ذا يسر بطول البقاء ... إذا كان يبدع هذي البدع سأل الحجاج رجلاً من بني ليث، قد بلغ سناً كبيرة، قال: كيف طعمك؟ قال: إذا أكلت ثقلت، وإذا تركت ضعفت. قال: فكيف نكاحك؟ قال: إذا بذل لي عجزت، وإذا منعت شرهت. قال: كيف نومك؟ قال أنام في المجمع، وأسهر في المضجع. قال: كيف قيامك وقعودك؟ قال: إذا أردت الأرض تباعدت مني، وإذا أردت القيام لزمتني. قال: فكيف مشيتك؟ قال: تعقلني الشعرة، وأعثر بالبعرة. وذكر المبرد قال: نظر محمد بن عبد الله بن طاهر إلى حاجب له قد رفع حاجبه عن عينيه بعصابةٍ من الكبر، فقال له: كم أتى لك من السنين يا أبا المجد؟ فقال مجيباً له: يا ابن الذي دان له المشرقا ... ن من بعد أن دان له المغربان إن الثمانين وبلغتهاقد أحوجت سمعي إلى ترجمان وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت لي العنان وأنشأت بيني وبين الورى ... عيابة من غير نسج العيان لم تبق لي عظماً ولا مفصلاً ... إلا لساني وكفاني اللسان أدعو به الله وأثنى به ... على الأمير الطاهري الجنان فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وقبل منعاي إلى نسوةٍ ... أوطانها حران والرقتان قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: من تمنى طول العمر، فليوطن نفسه على المصائب، وأقلها فقد الأحبة والقرابات. قال لبيد: المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عيشٍ قد يضره تفني بشاشته ويبقى ... بعد حلو العيش مره وتخونه الأيام حتى ... لا يرى شيئاً يسره قال التيمي: إذا كانت السبعون سنك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب وإن امرءاً قد سار سبعين حجةً ... إلى منهلٍ من ورده لقريب إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم ... وخلفت في قرنٍ فأنت غريب قام أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، فوجد في ظهره ما يجد الكبير، فأنشأ يقول: ولقد كنت كالقناة قديماً ... ثم نادت بي الحوادث طاط فتضويت للحوادث رغماً ... بعد تعديل قامةٍ وشطاط وأديم قد كان يبرق حسناً ... فتغشى الأديم بعد انبساط قال محمود الوراق: ابيض مني الرأس بعد سواده ... ودعا المشيب شبيبتي لنفاد واستحصد القوم الذي أنا منهم ... وكفى بذاك علامة لحصادي كان أبو بكر بن عياش قد بلغ ثمانين سنة، فكان يتمثل: بلغت ثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر ومما ينسب إلى بلعام بن راشد السكسكي: إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود ولما رأيك الشيب أيقنت أنه ... رجوع غضارات الشباب بعيد وقال منصور النمري: ما تنقضي خسرة مني ولا جزع ... إذا ادكرت شباباً ليس يرتجع ما كدت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع وقال محمود الوراق: أيها النادب الشباب الذي قد ... كنت تجفوه مرةً وتعقه لو بكيت الشباب عمر الليالي ... لم تكن باكياً بما يستحقه قال أبو العتاهية: مضى عني الشباب بغير أمري ... فعند الله أحتسب الشبابا فزعت إلى خضاب الشيب منه ... وإن نصوله فضح الخضابا وما من غايةٍ إلا المنايا ... لمن خلقت شبيبته وشابا وقال محمود الوراق: سقياً لأيامٍ تولت بها ... أحسن ما كانت صروف الزمن إذ أنت في شرخ الشباب الذي ... يحسن فيه منك غير الحسن ولي وما الدنيا بأقطارها ... لليوم والساعة منه ثمن ولمحمود الوراق أيضاً: إذا ما دعوت الشيخ شيخاً هجوته ... وحسبك مدحا للفتى قول يا فتى أشبه أيام الشباب التي مضت ... وأيامنا في الشيب بالفقر والغنى وقال آخر: إذا رأيت صلعاً في الهامه ... وحدباً بعد اعتدال القامه وصار شعر الرأس كالثغامه ... فايئس من الصحة والسلامه وقال النمر بن تولب: يحب الفنى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفنى بعد اعتدالٍ وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل وكان النضر بن شميل ينشد: يحب بقائي المشفقون ومدتيإلى أجل لو يعلمونقريب وما إن أرى في أرذل العمر بعدما ... لبست شبابي كله ومشيبي وأصبحت في قومٍ كأن لست منهم ... وبانت لداتي منهم وضروبي وقال رجل ليزيد بن هرون: يا أبا خالد! كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت لا يحمل بعضي بعضا كأنما كان شبابي قرضا فاستؤدي القرض فكان فرضا وصرت عوداً نخراً مرفضاً وقال حميد بن ثور: أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصح وتسلما ولن يلبث العصران يوماً وليلةً ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما وقال لبيد بن ربيعة: كانت قناتي لا تلين لعامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربي في السلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء وقال لبيد أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأبي كلما قمت راكع وقال أبو النجم العجلي: إن الفتى يصبح للأسقام كالغرضٍ المنصوب للسهام أخطأ رامٍ وأصاب رام وأظنه أخذه من قول زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم وقال آخر: من عاش أخلقت الأيام جدته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر وقال أعرابي: إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبرٍ أعضادها وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قددنا حصادها وقال عروة بن الورد: أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي رهينة قعر البيت كل عشيةٍ ... يطيف بي الوالدان أهدج كالرأل شبه هدجان الشيخ الضعيف في مشيه بهدجان الرأل، والرأل: ولد النعام والجميع: رئال ورئلان. قال أبو الرجف: أشكو إليك وجعاً بركبتي وهدجاناً لم يكن بمشيتي كهدجان الرأل خلف الهيقت وقال أبو حية النميري: وقد جعلت إذا ما قمت يوجعني ... ظهري فقمت قيام الشارب السكر وكنت أمشي على رجلي معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجرٍ وقال آخر: إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ يرى في بعضها الخلل وإن أتت للشباب الغر نادرةً ... فإن أكثر ما يأتي لها الخطل قال أبو العتاهية: أسرع في نقصٍ امرىءٍ تمامه وقال أيضاً: من يعش يكبر ومن يكبر يمت ... والمنايا لا تبالي من أتت وقال محمود الوراق: يحب الفتى طول البقاء وإنه ... على ثقةٍ أن البقاء فناء زيادته في الجسم نقص حياته ... وليس على نقص الحياة نماء إذا ما طوى يوماً اليوم بعضه ... ويطويه إن جن المساء مساء جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء قال محمد بن نصر: كنت بأرض الطفاوة، إذ سمعت امرأةً تكلم أخرى من طاقٍ إلى طاقٍ فقالت لها: ما تقولين في ابن العشرين؟ قالت ريحانة تشمين. قالت فما تقولين في ابن الثلاثين؟ قالت قرة عين الناظرين. قالت فما تقولين في ابن الأربعين؟ قالت: قوى الظهر في ماء مكين. قالت: فما تقولين في ابن الخمسين؟ قالت: تعرفين وتنكرين. قالت: فما تقولين في ابن الستين؟ قالت: كثير السعال والأنين. قالت: فما تقولين في ابن السبعين؟ قالت: اكتبيه في الضارطين. ذكر ابن الأنباري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: كان العرب تقول: الرجل يزداد قوةً إلى الأربعين، فإذا بلغ الأربعين اصلهب إلى الستين، فإذا جاوز الستين أدبر. وقال: اصلهب بقي على حال واحدة. وأنشد: وفيت ستين واستكملت عدتها ... فما بقاؤك إذ وفيت ستينا فاحتل لنفسك يا حسان في مهلٍ ... فكل يوم ترى ناساً يموتونا وذكر أبو الحسن الأخفش، قال: أنشدني أبو العباس ثعلب لبعض حكماء العرب: ابن عشرٍ من السنين غلام ... همه اللعب مولع بالغرام وابن عشرين مولع بالغواني ... لا يبالي ملامةً اللوام والذي يبلغ الثلاثين عاماً ... فضروب لدى الوغى بالحسام فإذا جازها بعشر سنينٍ ... كان أقوى من كل قرن مسام وابن خمسين للنوائب يرجى ولنقض الأمور والإبرام وابن ستين حازم الرأي طب ... كامل العقل ضابط للكلام وابن سبعين قد تولى وأودى ... وتثنى فما له من قوام والذي يبلغ الثمانين عاماً ... ذاهب الذهن دائب الأسقام وابن تسعين تائه قد تناهى ... إن تسعين غاية الأعوام فإذا جازها بعشرٍ فحي ... مثل ميتٍ مودع بالسلام باب الوصايا الموجزة قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بأيام يقول: " لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني يا رسول الله، وأقلل في القول لعلي أحفظه. قال: " لا تغضب ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، أو تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمةٍ طيبة ". أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال: " هيئ جهازك وقدم زادك، وكن وصي نفسك؛ فإنه لا خلف من التقوى، ولا عوض من الله عز وجل ". قال أبو هريرة: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ لا أدعهن أبداً؛ بالوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام في كل شهر، وركعتي الضحى. وقال لي: أحبب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً. قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني. فقال: " أوصيك بالدعاء؛ فإن معه الإجابة، وعليك بالشكر؛ فإن معه الزيادة، وأنهاك عن المكر؛ فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وعن البغي؛ فإنه من بغي عليه نصره الله، وإياك أن تبغض مؤمناً أو تعين عليه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم بالله فأجيبوه، ومن استغاثكم بالله فأغيثوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فأثنوا عليه ". أوصى النبي عليه السلام رجلا، فقال: " عليك بذكر الموت؛ فإنه يشغلك عما سواه، وعليك بكثرة الدعاء؛ فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وأكثر من الشكر؛ فإنه زيادة ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والفحش؛ فإن الله لا يحب الفاحش المتفحش؛ وإياكم والشح؛ فإنه دعا من قبلكم فقطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وإياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ". قال عبد الله بن عباس: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: " يا غلام، احفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت استعن فالله ... ". وذكر الحديث. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوصاني ربي بتسع بالإخلاص في السر والعلانية، وبالعدل في الرضا والغضب، وبالقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة ". قال الأعشى: أجدك لم تسمع وصاة محمدٍ ... نبي الهدى في حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله ... وترصد للموت الذي كان أرصدا قال موسى بن عمران للخضر عليهما السلام: إني قد حرمت صحبتك؛ فأوصني. قال: إياك واللجاجة، والمشي في غير حاجة، والضحك من غير عجب. قال أبو بكر لعمر رضى اله عنهما في وصيته إياه: إذا جنيت جنيً فكف يدك، أو يشبع من جنيت له. من نازعتك نفسك إلى شركتهم، فكن فيهم كأحدهم، ولا تستأثر عليهم، وأعلم أن ذخيرة الإمام تهلك دينه وتسفك دمه. وأوصى أبو الدرداء رجلاً، فقال له: اعتقد لنفسك ما يدوم، واستدل بما كان على ما يكون. كان جندب بن عبد الله الأنصاري صديقاً لعبد الله بن عباس، فقال له حين ودعه: أوصني يا ابن عباس، فإني لا أدري أنجتمع بعدها أم لا. فقال: أوصيك يا جندب ونفسي بتوحيد الله، وإخلاص العمل لله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فإن كل خير أتيت بعد هذه الخصال مقبول، وإلى الله مرفوع، ومن لم يكمل هذه الأعمال رد عليه ما سواها. وكن في الدنيا كالغريب المسافر، واذكر الموت، ولتهن الدنيا عليك، فكأنك قد فارقتها وصرت إلى غيرها، واحتجت إلى ما قدمت، ولم تنتفع بشيء مما خلقت. فم افترقا. كتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: أوصيك بتقوى الله، فإنه من اتقاه كفاه ووقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، فاجعل التقوى عماد بصرك، ونور قلبك، واعلم أنه لا عمل لمن لا نية له، ولا جديد لمن لا خلق له، ولا إيمان لمن لا أمانة له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا أجر لمن لا حسنة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 كان علي بن أبي طالب إذا أراد أن يستعمل رجلا دعاه فأوصاه، وقال: عليك بتقوى الله الذي لابد من لقائه، ولا منتهى لك دونه، فإنه يملك الدنيا والآخرة، وعليك فيما أمرك به بما يقربك من الله، فإن ما عنده خلف من الدنيا. دخل عثمان بن عفاف على العباس بن عبد المطلب في مرضه الذي مات فيه، فقال: أوصني. قال: أوصيك بالصدق؛ فإنه يعرف في ثلاث: في حفظ اللسان، وترك المصانعة، واستواء السر والعلانية. وروى عاصم بن بهدلة، عن أبي العدبس الأسدي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: فرقوا بين المنية؛ واجعلوا الرأس رأسين، ولا تلبثوا بدار معجزة، وأصلحوا مثاويكم، وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم، واخشوشنوا وتمعددوا وانتعلوا. أوصى أعرابي انبه فقال: يا بني؟ اغتنم مسالمة من لا يدان لك بمحاربته، وليكن هربك من السلطان إلى الوحش في الفيافي وأطراف البلدان، حيث تأمن سعاية الساعي، وطمع الطامع منك، ولا تغرنك بشاشة امرئٍ حتى تعلم ما وراءها؛ فإن دفائن الناس في صدورهم، وخدعهم في وجوههم، ولتكن شكاتك الدهر، إلى رب الدهر، واعلم أن الله إذا أراد بك خيراً أو شراً أمضاه فيك على ما أحب العباد أو كرهوا، وأرح نفسك من التعب بقبول القيل والقال، فإن كلمة السوء حبة القلب، كما أن الحنطة حبة الأرض، إذا أصابها الماء نبتت، وكذلك الكلمة السوء إذا زرعت في صدرك نبتت منها الضغائن والبغضاء والعداوة. قال أبو العتاهية: رضيت ببعض الذل خوف جميعه ... وليس لمثلي بالملوك يدان قال شبيب بن شيبة: قال لي أبو جعفر المنصور - وكنت من سماره - عظني وأوجز. قال: فقلت يا أمير المؤمنين! إن الله لم يجعل فوقك أحداً من خلقه؛ فلا ترض من نفسك بأن يكون عبد هو أشكر منك. قال: والله لقد أوجزت وما قصرت. قلت: والله لئن كنت قصرت فما بلغت كنه النعمة فيك. قال سعد بن أبي وقاص لسلمان: أوصني. فقال له: اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند لسانك إذا تكلمت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدل إذا بطشت. دخل محمد بن علي بن حسين على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أوصني. فقال: أوصيك أن تتخذ صغار المسلمين ولدا، وأوسطهم أخاً، وأكبرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبر أباك. أوصى رجل ابنه، فقال: أوصيك يا بني بتقوى الله عز وجل؛ فإنه جنب أولياء الله محارمه، وألزم قلوبهم طاعته، فكذب الأمل، ولاحظ الأجل. لما التقى هرم بن حيان بأويس القرني، كان فيما أوصاه ووعظه به أن قال: يا هرم! توسد الموت إذا بت، واجعله أمامك إذا قمت، ولا تنظر إلى صغر ذنبك، ولكن انظر من عصيت، ومن عظم أمر الله فقد عظم الله. يا هرم! ادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فإنك لم تعالج شيئاً هو أشد عليك منهما، بينما قلبك مقبل إذ أدبر، فاغتنم إقباله قبل إداره. قال وبرة: أوصاني عبد الله بن عباس بكلماتٍ لهي أحب إلى من الدهم الموقفة في سبيل الله. قال: إياك والكلام فيما لا يعنيك، فإنه إثم ولا آمن عليك فيه الوزر، وإياك والكلام فيما يعنيك في غير موضعه، فرب مسلم تقي تكلم بما يعنيه في غير موضعه فعنت. فلا تمار سفيهاً ولا فقيهاً. فأما السفيه فيوذيك، وأما الفقيه فيغلبك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن تذكر به، واعمل عمل رجلٍ يعلم أنه مكافأ بالإحسان، مجازيً بالإجرام. أوصى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس أمير سرية أتت، فقال: تاجر الله بعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تجر، وإلا احتفظ برأس المال، لا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك، أشد حذراً من احتيال عدوك عليك. كان المهلب بن أبي صفرة يقول لبنيه: إياكم أن تروا في الأسواق: فإن كنتم لابد فاعلين، ففي سوق الدواب والسلاح، فإنها من صناعة الفرسان. قال زياد بن ظبيان لابنه عبد الله وهو يجود بنفسه: ألا أوصى بك الأمير؟ قال: إذا لم تكن للحي إلا وصية الميت، فالحن هو الميت أخذه الشاعر فقال: إذا ما الحي عاش بعظم ميتٍ ... فذاك العظم حي وهو ميت قال نافع بن خليفة العبدي: جمعنا أبونا فقال: يا بني! اتقوا الله بتقاته، واتقوا السلطان بحقه، واتقوا الناس بالمعروف. فقام وقد جمع لنا أمر الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قال عمر بن عبد العزيز لمؤدبه وهو خليفة، كيف كانت طاعتي لك؟ قال: ما كان أطوعك! فقال: فقد وجببت طاعتي عليك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن قميصك حتى يبدو كعباك. أوصى رجل بنيه فقال: يا بني! عليكم بالنسك، فإنه إذا ابتلى أحدكم بالبخل.. قيل: مقتصد لا يرى الإسراف، وإن ابتلى بالعي، قيل: يكره الكلام فيما لا يعينه، وإن ابتلى بالجبن، قيل: لا يقدم على شبهة. قال محمد بن علي لابنه: أد النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى ما مضرته عليك أكثر من منفعته. قال معاوية بن أبي سفيان لسفيان بن عوف الأزدي: كل قليلا، تعمل طويلا، والزم العفاف تسلم من القول، واجتنب الرياء يشتد ظهرك عند الخصوم. قال يوسف بن أسباط: أتيت سفيان الثوري رحمه الله، فقلت: يا أبا عبد الله! أوصني. قال: أقلل من معرفة الناس. قلت: زدني يرحمك الله، قال: أنكر من عرفت. قلت: زدني يرحمك الله. قال: ابلُ الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن أمورهم وتفقد وإذا ظفرت بذي الأمانة والتقى ... فبه اليدين قرير عينٍ فاشدد قال عبد الملك بن مروان لمؤدب بنيه: إنه - والله - ما يخفى علي ما تعلمهم وتلقيه إليهم، فاحفظ عني ما أوصيك به: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وعلمهم الشعر يسمحوا ويمجدوا وينجدوا، وجنبهم شعر عروة بن الورد، فإنه يحمل على البخل، وأطعمهم اللحم يقووا ويشجعوا، وجز شعورهم تغلظ رقابهم، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس أدباً وهدياً، ومرهم فليستا كوا، وليمصوا الماء مصاً، ولا يعبوه عباً، ووقرهم في العلانية، وأدبهم في السر، واضربهم على الكذب كما تضربهم على القرآن، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فإن الحر لا يجد من شتم عرضه عوضاً، وإذا ولوا أمراً فامنعهم من ضرب الأبشار؛ فإنه على صاحبه عار باق ووتر مطلوب، واحثثهم على صلة الرحم. واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب. كان يقال: صن عقلك بالحلم، ودينك بالعلم، ومروءتك بالعفاف، وجمالك بترك الخيلاء، ووجهك بالإجمال في الطلب. أوصى معروف الكرخي رجلا فقال: توكل على الله حتى يكون أنسك وموضع شكواك، واجعل ذكر الموت جليسك، واعلم أن الفرج من كل بلاء كتمانه، فإن الناس لن يعطوك ولن يمنعوك، ولن ينفعوك، ولن يضروك إلا بما شاء الله لك، وقضاه عليك. أوصى بعض الأكاسرة رجلاً وجهه أميراً، فكان فيما قال: واعلم أنه ليس من العدو أحد مكالبة ولا أصدق مخالبةً من مستنصرٍ في ملة، أو غيران على حرمة، أو ممتعضٍ من ذلة. ومن قضاياهم: اخلع سربال الاتكال، وتنكب عثرات الاسترسال، وتدرع جلباب الاجتهاد، وتحرز من نكبات الانقياد. ومما خرج من أشعار الحكماء مخرج الوصايا الموجزة، ما أنشدني أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب - رحمه الله - لنفسه: تخير سبيل الهدى جاهداً ... ودع عنك مشتبهات السبل وأصبح من الناس مستوفزاً ... فأكثرهم راصد للزلل وأجبن من قد ترى منهم ... لعمرك يردي الشجاع البطل وتصمي المقاتل أقوالهم ... بألسنةٍ وقعها كالأسل ولا تحسبن إن تكن عاقلاً ... مريدك بالضر حيناً عقل ومن حكم الناس في عرضه ... فمن جار أكثر ممن عدل وقال أبو العتاهية: كن في أمورك ساكناً ... فالمرء يدرك في سكونه وألن جناحك تعتقد ... في الناس محمدةً بلينه واعمد إلى صدق الحدي ... ث فإنه أزكى فنونه والصمت أجمل بالفتى ... من منطقٍ في غير حينه لا خير في حشو الكلام ... إذا اهتديت إلى عيونه رب امرئ متيقنٍ ... غلب الشقاء على يقينه فأزاله عن رأيه ... فاتباع ديناه بدينه وقال أبو العتاهية أيضاً: خفف على إخوانك المؤنا ... أولا فلست إذاً لهم سكنا لا تغترر بدنو ذي لطفٍ ... يوماً إليك وإن دنا ودنا واعلم جزاك الله صالحةً ... أن ابن آدم لم يزل أذنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مستسرفاً شرس الطباع له ... نفس تريه قبيحة حسنا وقال أيضاً: اكره لغيرك ما لنفسك تكره ... وافعل بنفسك فعل من يتنزه وكل السفيه إلى السفاهة وانتصف ... بالحلم أو بالصمت ممن يسفه ودع الفكاهة بالمزاح فإنها ... تزري وتسخف من بها يتفكه وقال محمود الوراق: لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله ستراً عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيكا وقال آخر: تصاون عن الأنذال ما عشت واكتسب ... لنفسك كسباً من خلال تصونها وما للفتى بر كمثل عفافه ... إذا نفسه اختارت لها ما يزينها إذا النفس لم تقنع يكسب مليكها ... على ما أتى منه، فما تم دينها ولأبي العتاهية في ابن السماك الواعظ: يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها كالملبس الثوب من عريٍ وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه ... في كل نفسٍ عماها عن مساويها عرفانها بعيوب الناس تبصرها ... منهم، ولا تبصر العيب الذي فيها وقال أمية بن أبي الصلت: خصال إذا لم يحوها المرء لم ينل ... منالاً من الدنيا ينال به حمدا يكون له جاه وعز وثروة ... وحسن فعال حيث أحضر أو أبدى وتقوى فإن الفوز يدرك بالتقى ... ويورث في الدارين صاحبه مجدا وقال آخر: من طالب الناس طالبوه ... واعتقب الحزن والندامه من سالم الناس سالموه ... وكان في حيز السلامه وقال منصور الفقيه: نفسك رأس الغني فصنها ... من لم يصن نفسه يهنها إن صعبت حالة فدعها ... فاليأس منها غناك عنها وقال محمود الوراق: كن مع الله يكن لك ... واتق الله لعلك لا تكن إلا معداً ... للمنايا فكأنك إن للموت لسهماً ... واقعاً دونك أو بك وقال منصور الفقيه: يا أخا الدهر إن وفى ... وأخا الدهر إن غدر كن من الدهر كيف شي ... ت على غاية الحذر وقال آخر: تغنم كل ما ياتك ... ولا تأس لما فاتك ولا نغتر بالدنيا ... أما تذكر أمواتك وقال آخر: اسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد فإذا تركت لمفسدٍ لم يبقه ... وأخو الصلاح قليله يتزيد فإن استطعت فكن لنفسك وارثاً ... إن المورث نفسه لمسدد وقال منصور الفقيه: تخل عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده ستكفي من عدوك كل كيدٍ ... إذا كاد العدو ولم تكده وقال آخر: أحسن الظن بمن قد عودك ... حسناً أمس وسوى أودك إن رباً كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك وقال محمود الوراق: قدم لنفسك توبةً مرجوةً ... قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر بها علق النفوس فإنها ... ذخر وغنم للمنيب المحسن وقال منصور الفقيه: لا تلفين خليطاً ... لفاسقٍ أو كفورٍ فالقرب من ذين عار ... على الفتى المستور وقال محمود الوراق: لا تسألن المرء عما عنده ... واستمل ما في قلبه من قلبكا إن كان بغضاً كان عندك مثله ... أو كان حباً فاز منك بحبكا وقال منصور الفقيه: اسمع فهذا كلام ... ما فيه والله عله أقل من كل شيءٍ ... من لا يرى الناس قله وقال آخر: اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ ... فعسى أن يكون موتك بغته كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ... ذهبت نفسه العزيزة فلته وقال محمود الوراق: قل لهرون إن حلل ... ت به قول ذي مقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 أطبق الموت والنفو ... س على اللهو مطبقه كيف يلهو من ليس من ... عشر يوم على ثقه وقال منصور الفقيه: خذ من زمانك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر فالعمر أقصر من معا ... تبة الزمان على الغير وقال محمود الوراق: رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد وقال منصور الفقيه: لا تعرضن عن النصي ... ح للؤمه يا ابن الكريمه فالنصح أولى ما قبل ... ت وإن أتاك به بهيمه وقال محمود الوراق: إن القلوب على القلوب شواهد ... فبغيضها لك بين وحبيبها وإذا تلاحظت العيون تفاوضت ... وتحادثت عما تجن قلوبها ينطقن والأفواه صامتة فما ... يخفي عليك صحيحها ومريبها وقال منصور الفقيه: هبك نلت المنى وفوق الأماني ... وتجاوزت حالة الإنسان هل ترى ذاك باقياً لك والده ... ر سريع الهجوم بالحدثان وقال صالح بن عبد القدوس: إذا وترت امرءاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا إن العدو وإن أبدي مسالمةً ... إذا رأى منك يوماً فرصةً وثبا وقال آخر: جالس كهول الناس واحفظ حديثهم ... ولا تك للأحداث خدناً محادثا وقال سهل الوراق، وتنسب إلى الشافعي رحمه الله ولا تصح له: إذا لم تكن تاركاً زينةً ... إذا المرء جاء بها يستراب تقع في مواقع تردي بها ... وتهوي إليك السهام الصياب تبين زمانك ذا واقتصد ... فإن زمانك هذا عذاب وأقلل عتاباً فما فيه من ... يعاتب حين يحق العتاب مضى الناس طرا وبادوا سوى ... أراذل عنهم تجل الكلاب يلاقيك بالبشر دهماؤهم ... وتسليم من رق منهم سباب فأحسن وما الحر مستحسن ... صيان له عنهم واجتناب فإن يغنه الله عنهم يفر ... وإلا فذاك البلاء العجاب إذا حار أمرك في معنيين ... ولم تدر فيما الخطا والصواب فدع ما هويت فإن الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب وقال آخر: وإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائرٍ الناس عاذر وقال آخر: فلا تقنطن من عظيم الذنوب ... فرب العباد رحيم رءوف ولا تمضين على غير زادٍ ... فإن الطريق مخوف مخوف وقال عدي بن زيد: إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام بناة الشر للشر فاقعدٍ وقال يزيد بن الحكم: يا بدر والأمثال يض ... ربها لذي اللب الحكيم دم للخليل بوده ... ما خير ود لا يدوم واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم واعلم بأن الضيف يو ... ماً سوف يحمد أو يلوم والناس مبتنيان مح ... مود البناية أو ذميم واعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع العليم أن الأمور دقيقها ... مما يهاج به العظيم والتبل مثل الدين تق ... ضاه وقد يلوي العزيم والبغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم ولقد يكون لك الغري ... ب أخاً ويقطعك الحميم والمرء يكرم للغنى ... ويهان للعدم العديم قد يقتر الحول التقى ... ويكثر الحمق الأثيم يملي لذاك ويبتلي ... هذا فأيهما المضيم ما بخل من هو للمنو ... ن وريبها غرض رجيم ويرى القرون أمامه ... همدوا كما همد الهشيم وستخرب الدنيا فلا ... بؤس يدوم ولا نعيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 كل امرئ ستئيم من ... هـ العرس أو منها يثيم ما علم ذي ولد أيث ... كله أم الولد اليتيم والحرب صاحبها الصلي ... ب على تلاتلها العزوم من لا يمل ضراسها ... ولدى الحقيقة لا يخيم واعلم بأن الحرب لا ... يسطيعها المرح السؤوم وقال منصور الفقيه: توكل على الله فيما اعتراك ... ولا تشركن سواه معه فما في سواه تعالى اسمه ... لراج ولا خائفٍ منفعه باب لمع من الدعاء قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني ما ينفعني. فقال: " عليك بالدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وأكثر من ذكر الموت يشغلك عما سواه ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدعاء هو العبادة، ثم تلا: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي ... ". الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من دعاءٍ لا يسمع، وعلم لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، أعوذ بك من شر هؤلاء الأربع ". ومن دعائه عليه السلام: " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، والقلة والذلة، ومن موقف الخزي في الدنيا والآخرة ". ومن دعائه عليه السلام: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعافية والغنى، وأعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البلاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء ". ودعاؤه صلى الله عليه وسلم كثير قد جمعه جماعة من العلماء. دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، والقلة والذلة، ومن مواقف الخزي في الدنيا والآخرة، قال: بينا أنا أصلى إذ سمعت متكلما يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير وكله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، أهل الحمد أنت، لا إله إلا أنت، إنك على كل شيء قدير. اللهم اغفر لي جميع ما سلف من ذنوبي، واعصمني فيما بقى من عمري، وأعني على عمل ترضى به عني. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ملك أتاك يعلمك تحميد ربك ". كان رجل مظلوم في سجن الحجاج مغموماً، فأتاه آتٍ، فقال له: ادع الله. قال: وبم أدعو؟ قال: يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم قدرته إلا هو، فرج عني ما أنا فيه. فقالها فأطلق الله سبيله. ومن الدعاء الحسن المرجوة إجابته: يا من لا يشغله شيء عن سماع الدعاء، يا فعال لما يشاء، يا من لا يغالطه السائلون، ولا يبرمه لملحون، اغفر لي وارحمني، يا من لا يغفر الذنوب غيره. ومثله: يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، ويا من لا تغيبه الظلمات، ولا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشان، يا واضح البرهان، يا شديد السلطان، يا من هو كل يوم في شان، اغفر لي ذنوبي. وادع بهذا الدعاء فيما شئت: من دين أو دنيا، يستجب لك إن شاء الله تعالى. ومثله من الدعاء: يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لي العافية في الدنيا والآخرة. ومن الدعاء الحسن: اللهم فرغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما قد تكفلت لي به، ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذبني وأنا أستغفرك. قال أعرابي في دعائه: تظاهرت يا رب على منك النعم، وتكاثفت مني عندك الذنوب، فأحمدك على النعم التي لا يحصيها أحد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها ألا عفوك. قال سفيان، قال مسعر: كنا إذا لقينا طلق بن حبيب، لا نكاد نفترق حتى يقول: اللهم أبرم للمسلمين أمراً رشداً، يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، ويتناهى فيه عن سخطك. ومن دعاء بعض الأعراب: اللهم إني أعوذ بك من شهادة الزور، وركوب الفجور، وعذاب القبور، ومنكر ونكير. كان من دعاء شريح: اللهم إني أسألك الجنة بلا عملٍ عملته، وأعوذ بك من النار بلا ذنب ركبته. سأل أعرابي رجلاً فأعطاه، فقال: جعل الله المعروف عليك دليلا، والخير شاهداً، ولا جعل حظ السائل منك عذراً صادقاً. من دعاء معروف الكرخي: اللهم اجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطاياك، ويخشاك حق خشيتك. كان عمر بن هبيرة أمير العراق يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من صديق يطري، وجليس يغدي، وعدوً يسري. دعا أعرابي لرجل فقال: جنبك الله الأمرين، وكفاك شر الأجوفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الأمران: الجوع والعرى، والأجوفان: الفم والفرج. دعا أعرابي فقال: اللهم أمسك قلبي عن كل شيءٍ لا أتزود به إليك ولا أنتفع به يوم ألقاك. دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا لك، ومن الفقر إلا إليك. دعا أعرابي فقال: اللهم اجعل رزقي رغدا، ولا تشمت بي أحدا. دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من السلطان والشيطان والإنسان. دعا علي بن أبي طالب يوماً فقال: يا خير من رفعت إليه الأيدي، وسمت إليه الأبصار، وتحاكم إليه العباد، نشكو إليك فقد نبينا، واختلافنا بيننا. وقف شيخ أعرابي عند باب الكعبة، فقال: يا رب! سائلك عند بابك، مضت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تبعته، فارض عنه يا رب، وإن لم ترض عنه فاعف عنه، فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راضٍ، اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا، اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك. وقف محمد بن سليمان عند قبر أبيه، فقال: اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه، فحقق رجائي له، وآمن خوفي عليه. قال سعيد بن المسيب لصلة بن أشيم: ادع الله لي. فقال: رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه. وقف أعرابي بالموسم فقال: اللهم إن لك حقوقاً فتصدق بها علي، وللناس عندي تبعات فتحملها عني، وقد أوجبت لكل ضيفٍ قرى، وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه الليلة الجنة. قال الأصمعي: سمعت أعرابية تقول في دعائها: يا من ليس له رب يدعى، ويا من ليس فوقه خالق يخشى، ويا من ليس دونه إله يبقى، ويا من ليس له وزير يؤتى، ويا من ليس له صاحب يرشي، ولا بواب ينادي، ويا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا كرماً وجودا، وعلى كثرة الذنوب إلا رحمة وعفواً. قال العتبي: سمعت أعرابياً وهو يدعو في الصلاة ويقول: اللهم ارزقني عمل الخائفين، وخوف العاملين، وحتى أنعم بترك النعيم طمعاً فيما وعدت، وخوفاً مما أوعدت. هنأ رجل رجلاً بولاية فقال: إن النعم ثلاث، فنعمة هي في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله لك ما أنت فيه، وحقق طمعك فيما ترجوه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه. ويروى عن الأحنف، أنه كتب بذلك إلى صديق له. دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من حلول النقم، وزوال النعم، وتحول العافية، اللهم هب لي بنين أتقوى بهم على عشيرتي، ومالاً أرغم به حسادي، واجعلني ملياً من العقل والدين، يا أرحم الراحمين. أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام: هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع، وادعني فإني قريب مجيب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة مخلصون، فإن الله لا يقبل دعاءً من قلبٍ لاهٍ ". كان يقال: إنما يستجاب لمخلص أو مظلوم. ولامرئ القيس بن عانس الكندي: الله أنحج ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل ذكر الحميدي، عن سفيان، قال: سمعت أعرابياً يقول عند مقام إبراهيم عليه السلام: اللهم لا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي، اللهم إن كنت لا تقبل تعبي ولا نصبي، فأعطني أجر المصاب على مصيبته. اللهم إن لك عندي حقوقاً فلتهبها لي، وللناس على تبعات، فأسألك أن تحملها لهم، وقد أوجبت لكل ضيف قري، وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه العشية الجنة. قال سفيان بن عيينة: وسمعت أعرابياً يقول في الموقف: اللهم إن ذنوبي لن تضرك، ورحمتك إياي لن تنقصك، فلا تمنعني مالا ينقصك، واغفر لي مالا يضرك. قال: وسمعت إعرابياً في الموقف جاثياً على ركبتيه يقول: يا رب! عجت إليك الأصوات بأنواع اللغات لطلب الحاجات، وحاجتي أن تذكرني بعد طول البلاء إذ نسيني أهل الأرض. قال بعض أهل العلم: بينا أنا أمشي بين منى وعرفات ليلاً، إذ أنا بأعرابي قد أقبل على قعود له، رافعاً صوته، يقول: يا ذا المعارج أنت الله أسأله ... وأنت يا رب مدعو ومسؤول أدعوك في ليلةٍ حرم وفي حرمٍ ... وكل داعٍ بحلو النوم مشغول تعطي إذا شئت من يسألك من سعةٍ ... والخير منك لمن ناداك مبذول فاجمع بعفوك شملاً أنت جامعه ... إن شئت ذاك وما حاولت مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قيل لعلي: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة. قيل: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس. من قال غير هذا فقد كذب. سألت هند بنت النعمان سعيد بن العاص حاجةً فقضاها، فدعت له فقالت: لا أزال الله عنك نعمةً، ولا أحوجك إلى لئام الناس عند حاجة، وإذا زالت عن كريمٍ نعمة يجعلك الله سبباً لردها عليه. ودعا رجل لرجل فقال: لا جعلك الله آخراً تتكل على أول. كان يقال: أربعة لا ترد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والذاكر حتى يفتر، والإمام العدل، ودعوة المظلوم. دعاء لي: اللهم اجعلني مكثراً لذكرك، مؤدياً لحقك، حافظاً لأمرك، راجياً لوعدك، راضياً في كل حالاتي عنك، راغباً في كل أموري إليك، مؤملاً لفضلك، شاكراً لنعمك، يا من تحب العفو والإحسان وتأمر بهما، اعف عني وأحسن إلي، فإنك بالذي أنت له أهل من عفوك، أحق مني بالذي أنا له أهل من عقوبتك، اللهم ثبت رجاءك في قلبي، واقطعه عمن سواك حتى لا أرجو غيرك، ولا أستعين إلا إياك. ودعاء لي أيضاً: اللهم هب لي اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك، واجعل خير عملي ما قارب أجلي، رب! ظلمت نفسي فاغفر لي يا خير الغافرين، ويا أرحم الراحمين. قال بعض الأعراب، في وصف دعوة: وساريةٍ لم تسر في الليل تبتغي ... محلاً ولم يقطع بها البيد قاطع سرت حيث لم تسر الركاب ولم تنخ ... لوردٍ ولم يقصر لها القيد مانع تحل وراء الليل والليل ساقط ... بأرواقه فيه سمير وهاجع تفتح أبواب السماوات دونها ... إذا قرع الأبواب منهن قارع إذا أوفدت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راءٍ وسامع وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظن ما الله صانع أمر المنصور أبو جعفر بأشخاص سوار بن عبد الله القاضي إليه من البصرة بعد قتل إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، فلما قدم عليه قال له: يا سوار! ضربني أهل البصرة بمائة ألف سيف من غير جناية، لأفعلن بهم ولأفعلن. فقال له سوار: يا أمير المؤمنين! إن لأهل البصرة سلاحاً لا تطيقه. قال: أبسلاحهم تخوفني لا أم لك يا أمير المؤمنين: إنه دعاء بالأسحار. ووقف أعرابي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أوصيتنا فقبلنا منك، وحفظنا عنك مما وعيت عن ربك: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما "، وقد ظلمنا أنفسنا فاستغفر الله لذنوبنا، وقد أتيناك فاستغفر لنا. ثم بكى. ومما جاء من الدعاء منظوماً عن الحكماء، قال محمود الوراق: يا رب كن لي ولياً ... بالحفظ حتى أطيعك فإن ذممت صنيعي ... فقد حمدت صنيعك أو كنت أعصيك إني ... أحب فيك مطيعك قال منصور الفقيه: أصلح الله كل من ... يتولى أمورنا ووقانا شرورهم ... ووقاهم شرورنا وقال آخر: وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... على فما ينفك أن يتفرجا ورب فتىً سدت عليه وجوهه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا وقال آخر: بالله تتسع الفجا ... ج إذا تضايقت المذاهب وقال آخر: أيا من لا يخيب لديه راجٍ ... ولم يبرمه إلحاح المناجي ويا ثقتي على ظلمي وجرمي ... وإيثاري التمادي في اللجاج أقلني عثرتي وتلاف أمري ... وهب لي منك عفواً واقض حاجي فما لي غير إقراري بذنبي ... لنفسي دون عذرٍ واحتجاج قال صحار بن عابد، رأيت حسن البصري بطريق مكة، وهو يحدو: يا فالق الإصباح أنت ربي وأنت مولاي وأنت حسبي فأصلحن باليقين قلبي ونجني من كرب يوم الكرب كان يقال: عليكم بالدعاء في أوقات الصلوات، فإنها اختيرت في أفضل الأوقات. ولمنصور الفقيه أو الشافعي: يا سميع الدعاء كن عند ظني ... واكفني من كفيته الشر مني وأعني على رضاك وخر لي ... في أموري، وعافني واعف عني باب ذكر الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته احبني الله وأحبني الناس. قال: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: " يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع إليه ". وقال عليه السلام: " مثل الدنيا كركبٍ رفعت لهم شجرة في يوم صائف، فقالوا تحتها ساعةً من نهار ثم راحوا ". وقال عليه السلام: " إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخفلكم فيها، فانظروا كيف تعملون، ألا فاتقوا الهوى، واتقوا النساء ". ذكر المبرد أن علي بن أبي طالب رضى الله عنه سئل عن الدنيا والآخرة، فقال: هما كالمشرق والمغرب، بقدر ما تقرب من أحدهما تبعد عن الآخر. وروى عبد خير عن علي رضى الله عنه قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، وإن أحسنت حمدت الله عز وجل، وإن أسأت استغفرت، ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبته، ورجل يسارع في الخيرات ولا يقل عمل مع تقوى الله وكيف يقل ما يتقبل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ومن أخذها بغير حقها كان كالذي يأكل ولا يشبع، ورب منحوضٍ من مال الله ورسوله له النار يوم القيامة ". وروى عنه عليه السلام أنه قال: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ". وروى أن ذلك من كلام المسيح عليه السلام. قال الأصمعي: ذكر لنا أن أنوشروان لما ضرب عنق بزرجمهر، وجد في منطقته كتاباً لطيفاً فيه ثلاث كلمات: إن كان القدر حقاً فالحرص باطل، وإن كان الغدر في الناس طباعاً فالثقة بكل أحدٍ عجز، وإن كان الموت لكل أحد راصداً، فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. ووعظ أعرابي ابنه، فقال: يا بني! إن الدنيا تسعى على من يسعى لها، فالهرب قبل العطب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدنيا؛ فنعم مطية المؤمن يبلغ عليها الخير، وبها ينجو من الشر ". قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها، ودار نجاةٍ لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومساجد أنبيائه، ومتاجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد أذنت ببينها، ونادت بفراقها، فيا أيها الذام لها، بم خدعتك الدنيا؟ أم بماذا استذمت إليك؟ أبمصارع أمهاتك في الثرى؟ أم بمضاجع آبائك للبلى، لقد تطلب علينا الشفاء، واستوصف الأطباء حين لا يغني عنه دواؤه، ولا ينفعه بكاؤه. قيل لنوح عليه السلام - حين حضرته الوفاة -: يا نبي الله! لقد بلغت من العمر ما بلغت، فصف لنا الدنيا. فقال: ما وجدت الدنيا مع طول عمري فيها إلا كبيتٍ له بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر. قال المسيح عليه السلام: حلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة، ومن حزن على دنياه سخط على الله. وعن المسيح عليه السلام أنه قال: الدنيا لإبليس مزرعة، وأهلها لها حراث. كان يقال: مثل صاحب الدنيا كخائض الماء، هل يستطيع ألا تبتل قدماه. قال عمر بن الخطاب: يا معشر القراء! لا تلقوا كلكم على إخوانكم، ولا تدعوا دنياكم لآخرتكم، ولا آخرتكم لدنياكم، واستعينوا بهذه على هذه. قال علي بن أبي طالب: الدنيا دار ممرً إلى دار قرار، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاعها فأعتقها. وعن علي رضى الله عنه، أنه قال: إن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، وقد يجمعهما الله لأقوام. وقد روى هذا الكلام مرفوعاً عن النبي عليه السلام. أكثر قوم من ذم الدنيا عند رابعة القيسية، فقال: من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وقال سفيان الثوري: من أحب الدنيا وسرته، نزع خوف الآخرة من قلبه. قال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصي إلا فيها، ولا ينال ما عند إلا بتركها. قال حذيفة بن اليمان: ليس خياركم الذين تركوا الدنيا للآخرة، ولا الذين تركوا الآخرة للدنيا، ولكن خياركم الذين أخذوا من هذه وهذه. قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فمهما زوت عنه فليس بضائر فما تعدل الدنيا جناح بعوضةٍ ... لدى الله أو مقدار زغبة طائر فما رضى الدنيا ثواباً لمؤمنٍ ... ولا رضى الدنيا عقاباً لكافر قال أبو العتاهية: ويا دنياي مالي لا أراني ... أسومك منزلاً إلا نبا بي وما لي لا ألح عليك إلا ... نصبت الهم لي من كل باب أراك وإن طلبت بكل وجهٍ ... كحلم النوم أو ظل السحاب وكالأمس الذي ولى مريراً ... وكالحدثان أو لمع السراب وهذا الخلق منك على مسيرٍ ... وأرجلهم جميعاً في الركاب وموعد كل ذي سعىٍ وفعلٍ ... بما يبدو غداً يوم الحساب قال ابن مسعود: الدنيا كلها غموم، فما كان منها سرور فهو ربح. وقال الشاعر: ومن يحمد الدنيا لعيشٍ يسره ... فسوف لعمري عن قليلٍ يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً ... وإن أقبلت كانت قليلاً نعيمها وقال آخر: إنما الدنيا وإن سر ... ت قليل من قليل لبس يخلو أن تراءى ... لك في زيً جميل ثم ترميك من المأ ... من بالخطب الجليل قال بعض الحكماء: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. قال الخليل بن أحمد: الدنيا أمد، والآخرة أبد. وصف الحسن البصري الدنيا، فقال: أما اليوم فعمل، وأما أمس فأجل، وأما غد فأمل. قال محمود الوراق: تلذذت في الدنيا بك لطريفة ... على أنها أيضاً حرام محرم وتأمل جنات الخلود لبئسما ... تقدر، من يقضي بهذا ويحكم؟ لئن كان حكم الله يخرج هكذا ... فإنك من يحيي على الله أكرم إذا قيل: من يقضي بهذا فقل له ... ومد له في الصوت: يحلم يحلم وقال منصور الفقيه: دنيا تروح بأهلها ... في كل يومٍ مرتين فغدوها لتجمعٍ ... ورواحها لشتات بين وقال آخر: إنما الدنيا شتات ... فتأهب لشتاتك واجعل الدنيا كيومٍ ... صمته عن شهواتك واجعل الفطر إذا ما ... صمته يوم وفاتك وقال آخر: أنت في دار شتاتٍ ... فاغتنم وقت حياتك اترك الدنيا وما ... فيها ودعها لعداتك تجمع المال وتوعي ... هـ لأزواج بناتك أو لكناتٍ قريرا ... ت عيونٍ بوفاتك أو لبعل العرس من ... بعدك تحبوه بذاتك إنما الدنيا كحلم ... فانتبه من غفلاتك وقال آخر: نراع لذكر الموت ساعة ذكره ... وتعترض الدنيا فنلهو ونلعب ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها ... وما كنت فيها فهو شيء محبب قال الخاسر: أشعر الجن والإنس أبو العتاهية في قوله: سكن يبقى له سكن ... ما بهذا يؤذن الزمن نحن في دارٍ يخبرنا ... عن بلاها ناطق لسن دار سوءٍ لم يدم فرح ... لامرئ فيها ولا حزن في سبيل الله أنفسنا ... كلنا بالموت مرتهن كل نفسٍ عند ميتتها ... حظها من مالها الكفن إن مال المرء ليس له ... منه إلا ذكره الحسن كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يتمثل: ولا خير في عيش امرئ لم يكن له ... من الله في دار الحياة نصيب فإن تعجب الدنيا أناساً فإنها ... متاع قليل والزوال قريب وقال الغزال: لقد فسدت فما تلقى ... بها من ليس ذا شجن وصار الحي منا يغ ... بط الملفوف في الكفن وقال سابق البربري: لسانك للدنيا عدو مشاحن ... وقلبك فيها للسان مباين وما ضرها ما قلت فيها وقد صفا ... لها منك ود في فؤادك كامن قال ابن الحنفية: من كرمت عليه نفسه، هانت عليه الدنيا. قال الشعبي: ما أعلم لنا وللدنيا مثلا إلا كما قال كثير عزة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أسيئي بنا أو أحسن لا ملومةً ... لدنيا ولا مقليةً إن تقلت وقال أبو العتاهية: أصبحت الدنيا لنا عبرةً ... والحمد الله على ذلكا قد أجمع الناس على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا وقال لسابق البربري: جمعنا لها أكلاً وذماً بألسنٍ ... أليس عجيباً ذمها واحنلاتها قال أبو الطيب: تفاني الرجال على حبها ... ولا يحصلون على طائلٍ وقال أيضاً: ومن لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال وقال آخر: يذمون دنياهم وهم يحلبونها ... ولم أر كالدنيا تذم وتحلب وقال سعيد بن حميد: ولم أر كالدنيا تذم صروفها ... ونوسعها شتماً ونحن عبيدها وقال منصور الفقيه: ضحكت دنياك يا إن ... سان من نهيك عنها مع تمنيك على ربك ... ما لم تؤت منها قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، في خطبة له: أيها الناس! إنما الدنيا أجل محترم، وأمل منتقص، وبلاغ إلى دارٍ غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله من فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه. أيها الناس! قد علمتم أن أباكم أخرج من الجنة بذنبٍ واحد، وأن ربكم وعد على التوبة خيراً، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل. قال بعض الحكماء. إنما الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر. قال محمود الوراق: ما أفضح الموت للدنيا وزينتها ... جداً، وما أفضح الدنيا لأهليها لا ترجعن على الدنيا بلائمةٍ ... فعذرها لك بادٍ في مساويها لم تبق في غيبها شيئاً لصاحبها ... إلا وقد بينته في معانيها تفني البنين وتفني الأهل دائبةً ... ونستنيم إليها لا نعاديها فما يزيدكم قتل الذي قتلت ... ولا العداوة إلا رغبةً فيها قال أبو حفص عمر بن علي الفلاس: كتبت إلى صديق لي أشاوره في شيءٍ من أمر الدنيا، فكتب إلى رقعة فيها سطران، أحدهما: بسم الله الرحمن الرحيم، والآخر: اطلب الدنيا على قدر مكثك فيها، واطلب الآخرة على قد حاجتك إليها. كان صالح المري يتمثل: مؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل وبات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل وقال آخر: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فطوبى لعبدٍ آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقع وقال آخر: لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحول فساخط أمرٍ لا يبدل غيره ... وراضٍ بأمرٍ غيره سيبدل وبالغ أمرٍ كان يأمل غيره ... ومختلج من دون ما كان يأمل وقال آخر: ويح دنيا غرورها يضنيني ... كم إلى كم غررتني فدعيني كم تسومينني خداعاً عن الرش ... دٍ وكم ذا الخداع ويك ذريني أملي زائد وعمري يفني ... ويح نفسي عن رأيها المغبون همتي تعتلي السماء وسعيي ... كسلاً سعي عاجزٍ مأفون ويح نفسي أما كفاها من العي ... ش تقضى سنين بعد سنين ليت شعري وما انتظاري وقد ... لاح شيب بعارضي وقروني ويا ابن ستين ما اعتذارك من بع ... د بلوغ الأشد والستين قيل لراهب: كيف سخت نفسك بالخروج عن الدنيا؟ قال: أيقنت أني خارجها منها كارهاً، فأحببت أن أخرج منها طائعاً. قال بزرجمهر: من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحداً ما يستحق، إما زادته وإما نقصته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 لما قدم سعد بن أي وقاص القادسية أميراً عليها من عند عمر بن الخطاب أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في خدمها ووصائفها، فلما وقفن بين يديه قال: أيكن حرقة بنت النعمان؟ قالت: هأناذه، فما أردت بتكرارك الاستفهام، إن الدنيا دار زوال لا تدوم لأهلها على حال، تنتقل بهم انتقال الظلال، وتعقبهم حالاً بعد حال، إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبي إلينا خراجة ويطيعنا أهله مدة من الدهر، فلما أدبر عنا الأمر صاح بنا صائح الأيام، فصدع شملنا، وشتت ملأنا، وكذلك الدهر يا سعد، فلا تغتر بحال الدنيا، فإنها زائلة عنك كما زالت إليك. ثم سألته حوائجها فقضاها، فدعت: لا أزال الله عنك نعمة أتمها عليك. كتب أبي بن كعب إلى أخٍ له: أما بعد، فإن الدنيا دار فناء، ومنزل قطيعة، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الأشقياء، فغناها فقر، والعلم بها جهل. كان يقال: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. كان يقال: مثل الذي يريد أن تجتمع له الدنيا والآخرة، مثل عبدٍ له ربان فلا يدري أيهما يطيع. حج سليمان بن عبد الملك فلما أشرف في انصرفه على قديد، نظر من عسكره فأعجبه ما رأى من كثرته، ومعه عمر بن عبد العزيز، فقال له: كيف ترى يا أبا حفص؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين دنيا تأكل بعضها، أنت المبتلي بها والمسؤول عنها. وروى عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه، أو عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: الدنيا دول، ليس إلى أحد دون الله إدالتها، فما كان منها لأحد أتاه على ضعفه، وما كان منها على أحد لم يدفعه بقوته. قال أبو حازم: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً لي وشيئاً لغيري، فما كان لي منها لم ينله غيري، ولو رامه بحيلة السموات والأرض، ففيم العناء والغم والتعب. ذكرت الدنيا لأبي حازم فقال أبو حازم: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على مهارشة الكلاب. قال أبو حازم: تكدرت الدنيا وتعذرت، ما تمد يدك إلى شيءٍ منها إلا وجدت فاسقاً قد سبقك إليه. كان سفيان الثوري يقول: الدنيا داء التواءٍ لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح برخائها، ولم يحزن لشقائها. قال وهيب بن الورد: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل. سمع المسعودي رجلا يقول: أين الزاهدون في الدنيا، الراغبون فيما عند الله. قال: اقلب المعنى وضع يدك على من شئت. كان سفيان الثوري يتمثل: أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على أنهم فيها عراةٌ وجوع أراها وإن كانت تحب فإنها ... سحابة صيفٍ عن قليل تقشع وقال أبو العتاهية: يا ساكن الدنيا لقد أوطنتها ... وأمنتها عجباً وكيف أمنتها وشغلت قلبك عن معادك بالمنى ... وشغلت نفسك بالهوى وفتنتها وأشعار أبي العتاهية في ذم الدنيا كثيرة جداً، وقد جمعتها شعراً على حروف العجم مما قاله في المواعظ والحكم. وقال آخر: ما أعجب الدهر في تصرفه ... والدهر لا تنقضي عجائبه كم رأينا للدهر من أسدٍ ... بالت على رأسه ثعالبه قال محمد بن عبد الملك الزيات: هي السبيل فمن يوم إلى يومٍ ... كأنه ما تريك العين في النوم لا تعجلن رويداً إنها دول ... دنيا تنقل من قومٍ إلى قوم إن المنايا وإن أصبحت في شغلٍ ... تحوم حولك حوماً أيما حوم وقال آخر: تقنع بالذي قاتك ... ولا تأس لما فاتك ولا تغتر بالدنيا ... أما تذكر أمواتك قال بعض الحكماء: استودقت الدنيا فأنعظ الناس. لأيوب بن حول الشاربي: فلم أر كالدنيا بها اغتر أهلها ... ولا كاليقين استوحش الدهر صاحبه وقال محمود الوراق: أيها الشيخ كم تروم وتبني ... ليس منك الدنيا ولا أنت منها لا تروميها؛ فأنت وإن كن ... ت مقيماً بها كمن زال عنها قيل لعامر بن عبد قيس: لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أخبرك بمن رضى بدون ما رضيت. قيل: من؟ قال: من رضى بالدنيا حظاً عن الآخرة. قال المأمون: لو سئلت الدنيا عن نفسها ما زادت في وصفها عن وصف أبي نواس حيث يقول: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قلت: وأظنه أخذه من قول أبو العتاهية: ولم أر كالدنيا وكشفي لأهلها ... فما انكشفوا لي عن صفاءٍ وعن صدق وأول هذا: طلبت أخاً في الله في الغرب والشرق ... فأعوزني هذا على كثرة الخلق وقلت أنا: ولأبي نواس في صفة الدنيا بيت غاية أيضاً وهو قوله: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابضٍ ... على الماء خانته فروج الأصابع قال عمر بن الخطاب: والله ما الدنيا في الآخرة إلا كنفخة أرنب، وتمثل: لاشيء فيما ترى إلا بشاشته ... يبقى الإله ويفنى الأهل والولد وقال آخر: وإن امرءاً دنياه أكثر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور وقال أبو العتاهية: يا من ترفع بالدنيا وزينتها ... ليس الترفع رفع الطين بالطين إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملكٍ في زي مسكين ذاك الذي شرفت في الناس همته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين وقال أبو العتاهية: كفاك عن الدنيا الدنية مخبراً ... غنى باخليها وافتقار كرامها وأن رجال النفع تحت مداسها ... وأن رجال الضر فوق سنامها وقال آخر: الفقر في زمن اللئا ... م لكل ذي كرمٍ علامه قال نفطويه: يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال، قرضاً أو تمثلاً: ولا خير في عيشٍ إذا لم يكن له ... من الله في يوم الحساب نصيب قال الفتح بن شخرف: كم يكون الشتاء ثم المصيف ... وربيع يمضي ويأتي خريف وانتقال من الحرور إلى الظ ... ل وسيف الردى عليك منيف يا قليل البقاء في هذه الدا ... ر إلى كم يغرك التسويف قال أبو العتاهية: إن الشقي لمن غرته دنياه وقال محمد بن عبد الملك الزيات: سل ديار الحي من غيرها ... وعفاها وعفى منظرها وكذا الدنيا إذا ما انقلبت ... جعلت معروفها منكرها إنما الدنيا كظل زائل ... أحمد الله كذا قدرها وقال محمود الوراق: كفلت لطالب الدنيا بهم ... طويلٍ لا يؤول إلى انقطاع وذلً في الحياة بغير عز ... وفقرٍ لا يدل على اتساع وشغلٍ ليس يعقبه فراغ ... وسعىٍ دائمٍ مع كل ساعي وحرصٍ لا يزال عليه عبدا ... وعبد الحرص ليس بذي ارتفاع قال الحسن البصري، لست أعجب ممن هلك كيف هلك، إنما أعجب ممن نجا كيف ونجا، شيطان مريد يحرس منه السماء، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا مزينة. قال عبد الله بن الأرقم لعمر بن الخطاب: قد اجتمع عندي في بيت المال حلي كثير ومناطق من أموال فارس أفلا تقسمه؟ قال: بلى، فأتني به، فنقلته إليه في القفاف، فلما نظر إليه رأى شيئاً عجباً، فقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نحب ما حببت إلينا، ثم تلا هذه الآية: " زين للناس حب الشهوات من النساء ". الآية. ثم قال: اللهم قني شره، وارزقني أن أنفقه في حقه. قال يحيى بن خالد بن برمك: دخلنا في الدنيا دخولاً أخرجنا عنها. قال منصور الفقيه: قد صرف البواب والحاجب ... وقهرمان الدار والكاتب وأصبح الصاحب من بينهم ... بحيث لا جار ولا صاحب واعتاضت الناهد من بعده ... إلفاً سواه وكذا الكاعب وجد في تفريق ما لم يزل ... يجمعه وارثه اللاعب فكن من الدنيا على أهبةٍ ... يا زاهداً فيها ويا راغب فإنها أم لأبنائها ... منها عدو قاتل سالب وقال محمد بن أبي حازم الباهلي: ألا إنما الدنيا على المرء فتنة ... على كل حالٍ أقبلت أو تولت قال رجل لداود الطائي: عظني. فقال له: أرض من الدنيا إذا سلم لك دينك بما رضى به أهل الدنيا من الآخرة حين سلمت لهم دنياهم، وأنشد في ذلك شعراً، ذكر أن سليمان الأعمش تمثل به: أرى رجالاً بدون الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لابن أبي عيينة، أو لمحمد بن يسير: ما راح يوم على حيً ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرةً فيه إن اعتبرا ولا أتت ساعة في الدهر وانصرمت ... حتى تؤثر في قوم لها أثرا وأن الليالي والأيام أنفسها ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا قال بكر بن حماد: الناس حرصي على الدنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير فمن مكب عليها لا تساعده ... وعاجزٍ نال دبياه بتقصير لم يدركوها بعقلٍ عندما قسمت ... وإنما أدركوها بالمقادير لو كان عن قوةٍ أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير ويقال: إنها مكتوبة على قائم سيف الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه. باب الزهد والقناعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قل وكفي، خير مما كثر وألهي ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القناعة مال لا ينفد، وما عال من اقتصد ". وقال عليه السلام: " خير الرزق ما يكفي، وأفضل الذكر الخفي ". وقال عليه السلام: " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم ". قال أبو هريرة، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقنع بما رزقت تكن أغنى الناس ". قال علي بن أبي طالب: الزاهدون في الدنيا قوم وعظوا فاتعظوا، وأيقنوا فعملوا، إن نالهم يسر شكروا، وإن نالهم عسر صبروا. وفي الخبر المرفوع: " عز المؤمن استغناؤه بربه عن الناس ". قال سعيد بن المسيب: من استغنى بالله افتقر الناس إليه. قال الحطيئة: استغن عن كل ذي قربى وذي رحم ... إن الغنى من استغنى عن الناس قال أوس بن حارثة لابنه: يا بني! خير الغنى القناعة، وشر الفقر الخضوع. قال الحسن وعكرمة في قول الله عز وجل: " فلنحيينه حياة طيبةً "، قالا: القناعة. أبلغ شيءٍ جاء في القناعة، قول علي رضى الله عنه: لا تحمل قوت غدك الذي لم يأت، على يومك الذي قد أتى، فإنه إن يكن من أيام حياتك جاءك وفيه رزقك، وأعلم أنك لم تدخر أكثر من قوت يومك إلا كنت فيه خازناً لغيرك. قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين! بحقً ما أقول لكم: ما زهد في الدنيا من جزع على المصيبة فيها. وقيل له: يا روح الله! لو اتخذت حماراً تركبه؟ قال: أنا أعز على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني به. قال أكثم بن صيفي: من لم يأس على ما فاته أراح نفسه. سئل ابن شهاب عن الزهد في الدنيا، فقال: الزهد ألا يغلب الحرام صبرك، ولا الحلال شكرك. قال مالك بن أنس، وسفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل. قال بعض الحكماء: إذا كان سعيك إنما هو لطلب الراحة في الدنيا، ثم سعيت لأكثر مما يكفيك لم تزدد من الراحة والدعة إلا بعداً. قال سفيان أو إبراهيم بن أدهم: الزهد زهدان؛ فزهد فرضٍ، وزهد فضل. فالزهد في الحرام فرض، والزهد في الحلال فضل. والورع ورعان، فالورع عن المعاصي فرض، والورع عن الشبهات حذر وفضل. سئل الخليل بن أحمد عن الزهد في الدنيا، فقال: الزهد ألا تطلب المفقود حتى تفقد الموجود. قال إبراهيم بن أدهم: إذا بات الملوك على اختيارهم لأنفسهم، فبت على اختيار الله لك وارض به. أصيب مكتوباً على صخرة: لست مدركاً أملك، ولا فائتاً أجلك، ولا آخذاً ما ليس لك. وفي موضع آخر: القضاء غالب، والأجل طالب، والمقدور كائن، والهم فضل. قال بعض الحكماء: القفاعة. ثوب لا يبلى، وهي شعار الأنبياء. ولابن المبارك: لله در القنوع من خلقٍ ... كم من وضيعٍ به قد ارتفعا يضيق صدر الفتى بحاجته ... ومن تأسى بدونه اتسعا قال بعض الحكماء لبنيه: يا بني! أظهروا الزهد والنسك، فإن رأى الناس أحدكم بخيلا قالوا: مقتصد لا يحب الإسراف، وإن رأوه عييا قالوا: يكره الكلام فيما لا يعنيه، ويؤثر الصمت خير من مقال يرديه، وإن رأوه جباناً قالوا: لا يقدم على الشبهات. قال العتبي، كان يقال: من عدم القناعة، لم تزده الثروة إلا عناءً. قال أبو العتاهية: تبغي من الدنيا الكثير وإنما ... يكفيك منها مثل زاد الراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لا تعجبن بما ترى فكأنه ... قد زال عنك زوال أمس الذاهب قال منصور الفقيه: كل من في هذه الدن ... يا من الناس ذليل وأذل الناس من لم ... يرضه منها القليل وقال آخر: كم كافرٍ بالله أمواله ... تزداد أضعافاً على كفره ومؤمن ليس له درهم ... يزداد إيماناً على فقره لا خير فيمن لم يكن عاقلاً ... يمد رجليه على قدره وقال منصور الفقيه: منافسة الفتى فيما يزول ... على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل وله أيضاً: إذا قال لي قائل كيف أن ... ت أقول له: أنا في عافيه لأشياء منها الرضى بالكفاف ... وما كل نفسٍ به راضيه وقال أيضاً: ألا إن رزق الله ليس يفوت ... فلا ترعن إن القليل يقوت رضيت بقسم الله حظاً لأنه ... تكفل رزقي من له الملكوت سأقنع بالمال القليل لأنني ... رأيت أخا المال الكثير يموت وقال الحسين بن الضحاك: يا روح من حسمت قناعته ... سبب المطامع من غدٍ وغد من لم يكن لله متهماً ... لم يمس محتاجاً إلى أحد ويروى لأبي العتاهية أو العطوي: عندي من الناس أنباء وتجربة ... على اختلافهم في العقل والشيم حسبي بظل جدارٍ من مهادهم ... ومن مياههم ما أستقي بفم كم قد أهابت بي الدنيا فقلت لها: إليك عني ففي أذني كالصمم إني قنعت بقوتٍ لا أجاوزه ... وصون وجهي عن لالا وعن نعم ولست أذخر فضل القوت عن أحدٍ ... في كل يوم يجىء الله بالطعم لعبد الله بن المبارك وقيل إنها لغيره: ومن البلاء وللبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع مرة ويجوع وقال آخر: إذا لم يهن عرضي على ولم يكن ... بوجهي من ذل السؤال كدوح فقوت بلا ذمً وبيت يكنني ... وطمران أغدو فيهما وأروح هو العيش لا ظل انتظار لموعدٍ ... ولا مالك أمري على شحيح ولي أمل في الناس ليس شقاوةً ... سوى دين سياح عليه مسوح وقال آخر: يا رب ساع له في سعيه أمل ... أودى ولم يقض من لذاته الوطرا ما ذاق طعم الغني من لا قنوع له ... ولا ترى قانعاً ما عشت مفتقرا وقال منصور الفقيه: إذا شئت أن تحيا بلا عائبٍ أصلا ... فكن راضياً بالقوت واجتنب الفضلا وكاف ذوي الإجرام بالصفح عنهم ... وقل لهم إما لقيتهم أهلا ولا تلق خلقاً سائلا وزن ذرةٍ ... ولو جاد بالدنيا نسائله بذلا فما وضع المرء الحسيب ولا ارتقى ... بأدنى الورى بيتاً إلى المنزل الأعلى سوى صبر هذا عن سواه وحرص ذا ... فبع بالغني فقراً وبالعزة الذلا وقال آخر: ما سرني أن نفسي غير قانعةٍ ... وأن أرزاق هذا الخلق تحت يدي وقف أعرابي على الحسن، وهو يعظ جلساءه، فقال: يا أعرابي! ما أظنك تعلم شيئاً مما نحن فيه، فأنشأ يقول: مهما جهلت فقد علم ... ت بأنني بشر أموت والناس في طلب الغنى ... وغناهم من ذاك قوت شادوا لغيرهم وبا ... دوا والقبور هي البيوت وقال أبو العتاهية: طال همي بغير ما يعنيني ... واشتغالي بكل ما يلهيني ولو أني قنعت لم أبغ رزقي ... كان رزقي هو الذي يبغيني ولعمري إن الطريق إلى الحق ... منير لناظر المستبين أحمد الله حمد عبد شكور ... ما عليها إلا ضعيف اليقين وقول أبي العتاهية: كان رزقي هو الذي يبغيني، مأخوذ - والله أعلم - من قول ابن أذينة: أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني وقد ذكرت هذه الأبيات في باب الرزق. قال العطوي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في دهره هماً يؤرقه قال الأضبط بن قريع: اقنع من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه قال سليمان بن داود عليه السلام: كل العيش قد جربناه، لينه وشديده، وبلوناه فوجدناه يكفي منه أدناه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسمه، معه قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا ". قال منصور الفقيه: إذا القوت تأتي لك ... والصحة والأمن وعف الفم والفرج ... تقي لله والبطن وأصبحت أخا حزنٍ ... فلا فارقك الحزن وقال آخر: إذا ما كساك الله سربال صحةٍ ... ولم تخل من قوتٍ يحل ويعذب فلا تحسدن الكمثرين فإنهم ... على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب وقال هلال بن خثعم في أبيات له، ونسبت إلى بشار بن بشر المجاشعي: إن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمورٍ اجتنابها قال يحيى بن خالد: دخلت على الرشيد يوماً فأصبته متكئاً يسطر في ورقةٍ فيها كتابة بالذهب، فلما رآني تبسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية، وقد أضفت إليهما ثالثاً، وأنشدني: إذا سد باب عنك من دون حاجةٍ ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها ولا تك مبذالا لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها وعن أبي محمد اليزيدي، قال: دخلت على الرشيد.. فذكر مثله حرفاً بحرف. روى أبو خليفة الفضل بن حباب، عن محمد بن سلام، قال: قال حماد الراوية: أفضل بيت روى من أشعار العرب، قول الحطئية: يقولون يستغني ووالله ما الغنى ... من المال إلا ما يكف وما يكفي وقال محمود الوراق: إن القناعة ما علمت غنىً ... والحرص يورث ذا الغنى فقرا وقال منصور الفقيه: إذا قنعت بقوتٍ ... ولبس ثوبٍ مرقع ولم يكن لي عيال ... نفسي لهم تتفجع ولا بنون صغار ... قلبي لهم يتقطع ولا صديق مصافٍ ... فراقه أتوقع وقد عزفت عن الله ... ووالغنى والتمتع وكان لله نسكي ... فما بي الدهر يصنع وقال آخر: قنع النفس بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها قال الأصمعي: أحكم بيتٍ قالته العرب، بيت أبي ذؤيب الهذلي: والنفس راغبةً إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع وقال محمد بن أبي حازم: لعمرك للقليل أصون وجهي ... به في الأوحدين وفي الجميع أحب إلى من طلبي كثيراً ... تمد إليه أعناق الخضوع فعش بالقوت يوماً بعد يومٍ ... كمص الطفل فيقات الضروع ولا ترغب إلى أحدٍ بحرصٍ ... رفيعٍ في الأمور ولا وضيع قال الخليل بن أحمد: إن لم يكن لك لحم ... كفاك خبز وزيت أو لم يكن لك هذا ... فكسرة ثم بيت تظل فيه وتأوى ... حتى يجيئك موت هذا كفاف وأمن ... فلا تغرنك ليت وقال ابن بسام أو غيره: رضيت بالقوت من زماني ... وصنت عرضي عن الهوان مخافةً أن يقول قوم ... فضل فلانٍ على فلان من كنت عن ماله غنياً ... رأيته مثل ما يراني أزوره إن أراد وصلي ... وأقطع الوصل إن جفاني فاستغن بالله عن فلانٍ ... وعن فلان وعن فلان ولعبد الله بن المبارك: أرى رجالاً بدون الذين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين لعمر بن محمد بن عبد الملك الزيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 شره النفوس على النفوس بلية ... فتعوذوا من كل نفسٍ تشره ما من فتى شرهت له نفس وإن ... نال الغنى إلا رأى ما يكره وقال آخر: إذا ما شئت أن تعر ... ف يوماً كذب الشهوه فكل ما شئت يغنيك ... عن المرةٍ والحلوه وطا ما شيت يغنيك ... عن الحسناء والذروه فكم أسلاك ما تهوا ... هـ فعل الشيء لم تهوه وقال منصور الفقيه: من كفاه من مساعي ... هـ رغيف يغتذيه وله بيت يواري ... هـ وثوب يكتسيه فلماذا يبذل العر ... ض لنذلٍ أو سفيه كل مالٍ منعته ال ... بر أيدي باذليه فهو للوارث والوز ... ر على مكتسبيه وقال محمود الوراق: مروءة معسر عف قنوعٍ ... يقدر في معيشته ويمسك تزيد على مروءة كل مثرٍ ... يروح ويغتدى جم التملك وأكثر من سخاتك بالعطايا ... سخاء النفس عما ليس تملك وقال سهل الوراق: ترى المرء مشغوفاً بدنياه متعبا ... وراحته لو صح فيها يقينه صباحاً مساءً في طلاب وماله ... من الرزق إلا ما الإله ضمينه وقال كعب بن زهير: إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا ... ومن سوانا، فلسنا نحن نرتزق وقد مضى في باب الرزق أشياء من معاني هذا الباب. وقال محمود الوراق: غنى النفس يغنيها إذا كنت قانعاً ... وليس بمغنيك الكثير من الحرص وإن اعتقاد الهم للمرء جامع ... وقلة هم المرء يدعو إلى النغص ولمحمود الوراق أيضاً: من كان ذا مالٍ كثير ولم ... يقنع فذاك الموسر المعسر وكل من كان قنوعاً وإن ... كان مقلا فهو المكثر الفقر في النفس وفيها الغنى ... وفي غنى النفس الغنى الأكبر وقال منصور الفقيه: ليس هذا زمان قولك ما الحك ... م على من يقول: أنت حرام؟ والحقى بائناً بأهلك أو أن ... ت عتيق محرر يا غلام ومتى تنكح المصانة في العد ... ةٍ عن شبهةٍ، وكيف الكلام؟ في حرامٍ أصاب سن غزالٍ ... فتولى وللغزال بغام إنما ذا زمان كدً إلى المو ... ت، وقوتٍ مبلغٍ والسلام لأبي العتاهية رحمه الله: أتدري أي ذل في السؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرجال يعز على التنزه من بغاه ... ويستغنى العفيف بغير مال إذا كان النوال ببذل وجهي ... فلا قربت من ذاك النوال معاذ الله من خلق دنىً ... يكون الفضل فيه على لالي توق يداً تكون عليك فضلا ... فصانعها إليك عليك غال يد تعلو يداً بجميل فعلٍ ... كما علت اليمين على الشمال وجوه العيش في سعةٍ وضيقٍ ... وحسبك والتوسع في الحلال أتنكر أن تكون أخا نعيمٍ ... وأنت تصيف في الظل الظلال وأنت تصيب قوتك في عفافٍ ... ورياً إن ظمئت من الزلال متى تمسى وتصبح مستريحاً ... وأنت الدهر لا ترضى بحال تكابد جمع شيءٍ بعد شيءٍ ... وتبغي أن تكون رخي بال وقد يجري قليل المال مجرى ... كثير المال في سد الخلال إذا كان القليل بسد فقرى ... ولم أجد الكثير فلا أبالي هي الدنيا رأيت الحب فيها ... عواقبه التفرق عن تقال تسر إذا نظرت إلى هلالٍ ... ونقصك إن نظرت إلى الهلال تعالى الله يا سلم بن عمروٍ ... أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال فما ترجو بشيءٍ ليس يبقى ... وشيكاً ما تفرقه الليالي فلما اتصل بسلم الخاسر، وهو سلم بن عمرو، قول أبي العتاهية، كتبت إليه: ما قبح التزهيد من واعظٍ ... يزهد الناس ولا يزهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الدنيا فما باله ... يستكثر المال ويسترفد يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد الرزق مقسوم على من ترى ... يسعى له الأبيض والأسود وقد قيل: إن الأبيات التي فيها ذكر سلم بن عمرو، ليست في الشعر المذكور، وإنما هي في قول أبي العتاهية: نعى نفسي إلى من الليالي ... تصرفهن حالاً بعد حال فما لي لست مشغولا بنفسي ... ومالي لا أخاف الموت مالي لقد أيقنت أني غير باقٍ ... ولكني أراني لا أبالي تعالى الله يا سلم بن عمروٍ ... أذل الحرص أعناق الرجال باب من المواعظ الموجزة قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب ". قال عليه السلام لعبد الله بن مسعود: " يا عبد الله! لا تكثر همك ما يقدر يكن، وما ترزق يأتك ". قال عليه السلام لعبد الله بن عمر يعظه: " يا عبد الله! اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ". أخذه محمود الوراق، والله أعلم، فقال: بادر شبابك أن تهرما ... وصحة جسمك أن تسقما وأيام عيشك قبل الممات ... فما قصر من عاش أن يسلما ووقت فراغك بادر به ... ليالي شغلك في بعض ما فقدر فكل امرئٍ قادم ... على علم ما كان قد قدما سئل علي عليه السلام: من الزاهد في الدنيا؟ قال: من لم ينس المقابر والبلى وترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، وعد نفسه في الموتى. قال عليه السلام: " ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسدا، أو هرماً مقيداً، أو موتاً مجهزاً، والدجال شر غائب، تنتظره الساعة، والساعة أدهى وأمر ". قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أر كالنار نام هاربها، ولم أر كالجنة نام طالبها ". قال جعفر بن محمد: الناقص من الناس من لا ينتفع من المواعظ إلا بما آلمه أو لزمه. كان يقال: اجعل عمرك كنفقةٍ رفعت إليك، فأنت لا تحب أن يذهب ما ينفق منها ضياعا، فلا يذهب عمرك ضياعاً. قال أبو عمرو بن العلاء: أول شعر قيل في ذم الدنيا، قول يزيد بن خذاق العبدي: هل للفتى من بنات الدهر من راق ... أم هل له من حسام الموت من واق قد رجلوني وما بالشعر من شعث ... وألبسوني ثياباً غير أخلاق ورفعوني وقالوا أيما رجلٍ ... وأدرجوني كأني طي مخراق وأرسلوا فتيةً من خيرهم حسباً ... ليسندوا في ضريح القبر أطباقي وقسموا المال وارفضت عوائدهم ... وقال قائلهم مات ابن خذاق هون عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي قال ابن عباس: ما انتفعت بشيءٍ بعد وعظ ر سول الله صلى الله عليه وسلم منفعتي بشيءٍ كتب به إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يدركه، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وليكن همك لما بعد الموت. قال أبو سليمان الداراني: رأيت على باب دمشق: وكم من فتىً يمسي ويصبح لاهياً ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري قال أعرابي لابنه: يا بني! من خاف الموت بادر الفوت، ومن لم يصبر على الشهوات، أسرعت به إلى الهلكات. ووعظ أعرابي أخاه فقال: يا أخي! أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، فكأن ما قد غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، يا أخي! كأنك لم تر حريصاً محروماً، ولا زاهداً مرزوقاً. كتب علي بن الحسين إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك أعز ما تكون بالله، أحوج ما تكون إليه، فإذا عززت به فاعف له، فإنك به تقدر، وإليه ترجع والسلام. وفي الحديث المرفوع: " عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء: أما بعد، فإنك لا تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي، ولن تبلغ ما تأمل، إلا بالصبر على ما تكره، فليكن قولك ذكراً، وصمتك فكراً، ونظرك عبرة، واعلم أن أعجز الناس من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله، وأن أكيسهم من أتعب نفسه وعمل لما بعد الموت. قال الحسن البصري: يا معشر الشيوخ! الزرع إذا بلغ ما يصنع به؟ قالوا: يحصد. قال: يا معشر الشباب! كم زرع لم يبلغ قد أدركته آفة. قال مسلم بن الوليد: كم رأينا من أناسٍ هلكوا ... فبكى أحبابهم ثم بكوا تركوا الدنيا لمن بعدهم ... ودهم لو قدموا ما تركوا كم رأينا من ملوكٍ سوقةٍ ... ورأينا سوقةً قد ملكوا وقال آخر: رب قومٍ غبروا من عيشهم ... في نعيمٍ وسرورٍ وغدق سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق وقال آخر: باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تمنعهم القلل وقال محمود الوراق: أبقيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال؟ القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال ملوا البكاء فما يبكيك من أحدٍ ... واستحكم القيل في الميراث والقال مالت بهم عنك دنيا أقبلت لهم ... وأدبرت عنك والأيام أحوال وقال تميم بن مقبل: ما أنعم العيش لو أن الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم وكل حصن وإن طالت سلامته ... على دعائمه لابد مهدوم ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشئوم وقال كعب بن زهير: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوماً على آلةٍ حدباء محمول كان عمر بن عبد العزيز يتمثل: من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا في قعرٍ مظلمةٍ غبراء موحشةٍيطيل فيها ولا يختارها اللبثا تجهزي بجهازٍ تبلغين به ... يا نفس واقتصدي لم تخلقي عبثا وكان يتمثل أيضاً - رحمه الله -: أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... مدامع عينيك الدموع السواجم نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... ونومك ليل والردى لك لازم يغرك ما يفني وتشغل بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم وتشغل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال محمود الوراق: أيها الشيخ المعل ... ل نفسه والشيب شامل والليل يطوي لا يفتر ... والنهار بك المنازل اعلم بأنك نائم ... فوق الفراش وأنت راحل يتعاقبان بك الردى ... لا يغفلان وأنت غافل وقال ابن الكلبي، عن أبيه: خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد، ومعه عدي بن زيد، فمر بشجرة، فقال له: أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا. قال: تقول: رب ركبٍ قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال قال: ثم مر بمقبرة، فقال له عدي: أتدري أيها الملك ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا. قال: تقول: أيها الركب المخبون ... على الأرض المجدون كما أنتم كنا ... كما نحن تكونون فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لم يتكلما، وإنما أردت موعظتي، فما السبيل الذي تدرك به النجاة؟ قال: تدع عبادة الأوثان، وتعبد الله، وتدين بدين المسيح. قال: فتنصر يومئذ. ولعدي بن زيد: كفى واعظاً للمرء أيام دهره ... تروج له بالواعظات وتغتدي قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم المدني: عظني. فقال: عظم ربك أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ومن مواعظ بعض العرب: كل من ازداد نقص، وكل من أقام ظعن وشخص، ولو كان يميت الناس الداء أعاشهم الدواء. وأنشد أبو العباس المبرد: تصرفت طورا كي أرى كل عبرةٍ ... وكان الصبا مني جديداً فأخلقا فما ازداد شيء قط إلا لنقصه ... وما اجتمع الإلفان إلا تفرقا وقال محمود الوراق: أراني في انتقاصٍ كل يومٍ ... ولا يبقى مع النقصان شيء طوى العصران ما نشراه مني ... فأخلق جدتي نشر وطي فإن أك قد فنيت ومات بعضي ... فإن الحرص باقٍ في حي عصيت الرشد إذ أدعى إليه ... وملك طاعتي ضعف وعي وقال عمرو بن هند: نعلل والأيام تنقص عمرنا ... كما تنقص النيران من طرف الوقد وقال محمود الوراق: إن عيشاً إلى الممات مصيره ... لحقيق ألا يدوم سروره وسرور يكون آخره المو ... ت سواء قليله وكثيره ويروي: طويلة وقصيرة. كان يزيد الرقاشي يتمثل كثيراً بهذا البيت: إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى يدني من الأجل روى من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: ما من أهل بيتٍ إلا وملك الموت يأتيهم، فمن وجده قد انقضى أجله قبض روحه، فإذا بكى أهله قال: لم تبكون، ولم تجزعون؟ والله ما نقصت لكم عمرا، ولا حبست عنكم رزقاً، ومالي ذنب، وإن لي فيكم لعودة ثم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد. قال أبو الدرداء في خطبة خطبها بدمشق: مالي أراكم تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وتأملون مالا تدركون، إن من كان قبلكم جمعوا كثيراً وبنوا شديداً وأملوا بعيداً، فأصبح جميعهم بوراً ومنازلهم قبوراً، وأملهم غروراً، هذه منازل عاد وثمود بين قطري الأرض ما يسرني أنها لي بدرهمين. وجد مكتوباً في حجر: ابن آدم! لو رأيت يسير ما بقى من أجلك؛ لزهدت في طول ما ترجوه من أملك، وإنما يلقاك ندمك، لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب وودعك الحبيب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت في عملك بزائد، ولا إلى أهلك بعائد؛ فاعمل لنفسك قبل يوم القيامة، وقبل الحسرة والندامة. قال محمود الوراق: يا ناظراً يرنو يعيني رافد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد منتك نفسك ضلة فأجبتها ... طرق السفاهة فعل غير الراشد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى ... فوز الجنان ونيل أجر العابد ونسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنبٍ واحد وجد حجر في بئر باليمامة، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها معتق مكتوب فيه: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يومٍ لا تسيرونا حثوا المطى وأرخوا في أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناساً كما كنتم فغيرنا ... دهر، فأنتم كما كنا تكونونا قال عبد الله بن ثعلبة: أمسك مذموم منك، ويومك غير محمودٍ لك، وغدك غير مأمون عليك. ومما أنشده ابن أبي الدنيا - رحمه الله -: قل للمؤمل إن الموت في أثرك ... وليس يخفي عليك الموت في نظرك فيمن مضى لك إن فكرت معتبر ... ومن يمت كل يوم فهو من نذرك دار تسافر منها في غدٍ سفراً ... ولا تؤوب إذا سافرت من سفرك تضحى غدا سمراً للذاكرين كما ... كان الذين مضوا بالأمس من سمرك قال علي بن أبي طالب: يا ابن آدم! لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي قد أنى، فإنه إن يكن من أجلك أتى الله فيه برزقك، واعلم أنك إن تكسب شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك. قال بعض الحكماء: الأيام ثلاثة، فأمس صديق مؤدب، أبقى لك عظةً وترك فيك عبرة، واليوم صديق مودع، أتاك ولم تأته، كان عنك طويل الغيبة، وهو عنك سريع الظعن، فخذ لنفسك فيه، وغد لا تدري ما يحدث الله فيه، أمن أهله أنت أم لا. لأسقف نجران، ويروى لتبع الحميري: منع البقاء تصرف الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسى وطلوعها بيضاء صافيةً ... وغروبها صفراء كالورس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اليوم تعلم ما يجئ به ... ومضى بفصل قضائه أمس وقال أبو العتاهية: الشمس تنعي ساكن الدنيا ... ويسعدها القمر أين الذين عهدتهم ... لهم المهابة والأثر أودوا وصار عليهم ... ركم الجنادل والمدر أفناهم غلس العشا ... ء وهز أجنحة السحر ما للقلوب رقيقةً ... وكأن قلبك من حجر ولقلما تبقى وعو ... دك كل يومٍ يعتصر وقال أبو العتاهية: سبحان ذي الملكوت أية ليلةٍ ... مخضت صبيحتها بيوم الموقف لو أن عيناً أوهمتها نفسها ... يوم الحساب تمثلاً لم تطرف وقال أبو العتاهية أيضاً: أيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد والله في كل تحريكةٍ ... وفي كل تسكينةٍ شاهد وفي كل شيءٍ له آية ... تدل على أنه الواحد وقال آخر: ومنتظرٍ للموت في كل ساعةٍ ... يشيد ويبني دائباً ويحصن له حين تبلوه حقيقة موقنٍ ... وأفعاله أفعال من ليس يوقن عيان كإنكارٍ وكالجهلٍ علمه ... لمذهبه في كل ما يتيقن وقال العطوي: نحن أهل اليقين بالموت والبع ... ث وعرض الأقوال والأعمال ثم لا نرعوي وقد أمهل الل ... هـ بطول الإيقاظ والإمهال أي شيءٍ تركت يا عارفاً ... بالله للممترين والجهال مكتوب في التوراة: البر لا يبلي، والذنب لا ينسى، والمال يفنى، والخير يبقى، والديان حي لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان. وجد حجر مكتوب فيه: ما أكلنا نلنا، وما قدمنا وجدنا، وما تركنا ندمنا. وخير من هذا قول ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وغير ذلك فإلى وارثه ". ولأعرابي من بني أسد: يقولون ثمر ما استطعت وإنما ... لوارثه ما ثمر المال كاسبه فكله وأطعمه وجنبه وارثا ... شحيحا ودهراً تعتريك نوائبه وقال آخر: وللمنايا تربى كل مرضعةٍ ... وللخراب يجد الناس عمرانا وقال آخر: فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده وقال أبو العتاهية: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى تباب لمن نبني ونحن إلى ترابٍ ... نصير كما خلقنا للتراب ألا يا موت لم تقبل فداءً ... أتيت فما تحيف ولا تحابي كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي وقال آخر: كم من مصيخٍ إلى أوتار مسمعةٍ ... ناحت عليه وقد كانت تغنيه وقال منصور الفقيه: تراوح ما ليس يرضى الإله ... وتغدو عليه وتخشى البلاء كفعل النساء إذا ما أسأن ... فعاتبتهن أطلن البكاء ولو كنت داويت قرح الذنوب ... بترك الذنوب جمعت الدواء وقال عروة بن أذينة: نراع إذا الجنائز قابلتنا ... ويحزننا بكاء الباكيات كروعة ثلةٍ لمغار سبعٍ ... فلما غاب عادت راتعات وقال أبو العتاهية: إذا ما رأيتم ميتين جزعتم ... وإن لم تروا ملتم إلى صبواتها قال علي بن أبي طالب: لا وجع إلا وجع القلوب من الذنوب، ولا شيء أشد من الموت، وكفى بما سلف تفكرا، وكفى بالموت واعظاً. قال عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها وهل بدل الدين غير الملوك ... وأحبار سوءٍ ورهبانها قال أبو العتاهية: مالي أراك بغير نفسك لا أبالك تشتغل خذ للوفاة من الحيا ... ة بحظها قبل الأجل واعلم بأن الموت ... ليس بغافلٍ عمن غفل أين المرازبة الجحا ... جحة البطارقة الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وذوو التفاضل في المجا ... لس والترفل في الحلل قال عمر بن عبيد للمنصور: إن الله قد وهب لك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها. كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: خف ما خوفك الله يكفك ما خوفك الناس، وخذ مما في يديك لما بين يديك، فعند الموت يأتيك الخبر اليقين. قال الحسن بن أبي الحسن، وقد نظر إلى الناس يلعبون ويضحكون في يوم العيد: إن الله قد جعل شهر رمضان مضمار الخلق، يستبقون فيه لطاعته إلى مرضاته، فالعجب من الضاحك واللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته عن تجديد ثوب أو ترجيل شعر. وقال منصور الفقيه: أتلهو وقد ذهب الأطيبان ... وأنذرك الشيب قرب الأجل كأنك لم تر حياً يموت ... ولم تر ميتاً على مغتسل كان بعض الحكماء يقول: لئن كانت الحظوظ بالجدود فما الحرص، وإن كانت الأيام ليست بدائمةٍ فما السرور، وإن كانت الدنيا غرارة فما الطمأنينة. قال أحمد بن زهير: سمعت مصعب بن عبد الله الزبيري يقول: أبو العتاهية أشعر الناس، فقلت: بأي شيءٍ استحق ذلك عندك؟ فقال: بقوله: تعلقت بآمالٍ ... طوالٍ أي آمال وأقبلت على الدنيا ... ملحاً أي إقبال أيا هذا تجهز ل ... فراق الأهل والمال فلابد من الموت ... على حالٍ من الحال ثم قال مصعب: هذا كلام حق لا حشو فيه ولا نقصان، يعرفه العاقل، ويقر به الجاهل. قال عمر بن عبد العزيز: خلقنا لأمر إن كنا نؤمن به إنا لحمقى، وإن كنا تكفر به إنا لهلكي. قال أبو العتاهية: أتطمع أن تخلد لا أبا لك ... أمنت قوى المنية أن تنالك أما والله إن لها رسولا ... أقسم لو أتاك لما أقالك توقع حيث كنت نزول يومٍ ... يشتت بعد جمعهم عيالك كأني بالتراب عليك يحثى ... وبالباكين يقتسمون مالك ولست بحاملٍ منه نقيراً ... ولا متزوداً إلا فعالك قال داود الطائي: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله قصر عمله. وقال سابق البربري: أين الملوك التي عن خطبها غفلت ... حتى سقاها بكاس الموت ساقيها نرجو ونأمل أياماً تعد لنا ... سريعو المر تطوينا ونطويها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودارنا لخراب الدهر نبنيها قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً، وعنده سابق البربري ينشده شعراً، فكان مما حفظت منه: فكم من صحيحٍ بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتةً بعد ما هجع فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتةً ... فراراً ولا منه بحيلةٍ امتنع ولا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجةٍ يدع وقال مصبح الأسدي: كفى خيبةً بالمرء يا أم مالكٍ ... ركوب المعاصي عامداً واحتقارها وقال محمود الوراق: دب في السقام سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضواً فعضوا لهف نفسي على ليال وأيا ... مٍ تمليتهن لعباً ولهوا بليت جدتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا ويروى لمنصور الفقيه: إذا لم يكن لك في المحكمات ... وفي الموت ناه عن المنكرات فلا تغدون إلى واعظٍ ... فلست بمنتفع بالعظات وقال أيضاً: من لم تعظه المنايا ... ولم يعظه الكتاب فليس ينجع فيه ... فلا تعن عتاب الحسن بن هانئ، ويروى لأبي العتاهية: وعظتك أجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حي لم تمت وتكلمت عن أوجهٍ ... تبلي وعن صورٍ شتت وقال محمود الوراق: حياتك أنفاس تعد وكلما ... مضى نفس منها انتقصت به جزءا فتصبح في نقصٍ وتمسى بمثله ... وما لك معقول تحس به رزءا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 يميتك ما يحييك في كل ساعةٍ ... ويحدوك حادٍ ما يريد بك الهزءا وقال منصور الفقيه: يا رسوم الجدث المه ... جور قولي لابن سعد لو رأت عيناك عيني ... كيف سالت فوق خدي بعد دفني بثلاثٍ ... ما هناك العيش بعدي وقال آخر: من كان لا يطأ التراب بنعله ... وطئ التراب بصفحة الخد من كان بينك في التراب وبينه ... شبران فهو بغاية البعد لو كشفت للناس أغطية الثرى ... لم يعرف المولى من العبد خرج النعمان بن المنذر يتنزه بظاهر الحيرة ومعه عدي بن زيد العبادي، فمرا على المقابر فقال له عدي: أبيت اللعن! أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. قال: فإنها تقول: من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موفٍ على قرن الزوال وصروف الدهر لا تبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال رب ركبٍ قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تردي في الجلال عمروا الدهر بعيشٍ حسنٍ ... آمني دهرهم غير عجال ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال كان عمر بن الخطاب يتمثل: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوبٍ إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذبٍ ... لابد من ورده يوماً كما وردوا وقال آخر: وإذا مضت للمرء من أعوامه ... خمسون وهو إلى التقى لم يجنح عقدت عليه النابحات وقلن قد ... أرضيتنا فأقم كذا لا تبرح وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حياً، وقال: فديت من لم يفلح نظر مالك من ملوك الفرس يوماً إلى ملكه فأعجبه، فقال: إن هذا لهو الملك لو لم يكن بعده هلك، وإنه لسرور لولا أنه غرور، وإنه ليوم، لو كان يوثق له بغد. قال مالك بن أنس: سكن القبور رجل مجاوراً لها ملازماً، فعوتب في ذلك، فقال: إنهم جيران صدق لا يؤذونني، ولي فيهم عبرة. قال ابن المعتز: وجيران صدق لا تزاور بينهم ... على قرب بعض في التجاور من بعض كأن خواتيماً من الطين فوقهم ... فليس لها حتى القيامة من فض وقال الخليل بن أحمد: كن كيف شئت فقصرك الموت ... لا مزحل عنه ولا فوت بينا غنى بيتٍ وبهجته ... زال الغنى وتقوض البيت وقال آخر: اسمع فقد أسمعك الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت كل كل ما شئت وعش ناعماً ... آخر هذا كله الموت وقال آخر: إذا ما وعظت الجاهلين بحكمةٍ ... فلم يعرفوها أنزلوها على هجر فعظ كل ذي عقلٍ على قدر عقله ... ولا تعظ الحمقى على ذلك القدر باب العمل قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " اعملوا، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ". وقال عليه السلام: " لا تعمل شيئاً رياءً ولا تتركه حياء ". قال أبو ذر: قلت يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه ويحبه الناس عليه؟ قال: " ذلك عاجل بشري المؤمن ". قال أبو الدرداء: اعملوا ما شئتم أن تعملوا، فإنه لن يأجركم الله حتى تعملوا. قال القاسم بن محمد: أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل. قيل لمحمد بن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. قال بعض العلماء: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ". لما قدم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون من العراق، وسئل عن أهلها، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بها ما شئت من رجلٍ نبيلٍ ... ولكن الوفاء بها قليل يقول فلا ترى إلا جميلا ... ولكن ليس يفعل ما يقول وقال دعبل: ولي صاحب أسترزق الله قوته ... خفيف عليه قول ما ليس يفعل قيل لسفيان الثوري: ما العمل الصالح؟ قال: مالا تحب أن يحمدك عليه أحد. قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ". قال المأمون: نحن إلى أن نوعظ بالأعمال، أحوج منا إلى أن نوعظ بالأقوال. كان أبو معاوية الأسود يقول: الله أكرم من أن ينعم بنعمةٍ إلا يتمها، ويستعمل بعمل إلا يقبله. قال بعض الحكماء: لو ثقل الكلام على الواعظين كما ثقل على العاملين، قل كلامهم. قال ابن السماك: قليل من توفيق، أحب إلى من كثير من عمل. كان يقال: العمل قرين لا يستطاع فراقه، فمن استطاع أن يكون قرينه صالحا فليعمل، فإنه لا يصحبه في آخرته غير عمله. قال الشاعر: الموت داء لا دواء له ... إلا التقى والعمل الصالح رأى أعرابي جنازة حمزة الزيات وقد حشد لها الناس، فقال: ما رأيت أرفع لخساسة من عمل صالح. قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبداً، واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً. كان يقال: اعمل وأنت مشفق، ودع العمل وأنت تحبه. قيل لرابعة القيسية: هل عملت عملاً ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان فمخافة أن يرد علي. قال أبو بكر المزني: رحم الله من كان قوياً فأعمل قوته في طاعة، أو كان ضعيفاً فكف عن معصية الله. كان أبو حنيفة رحمة الله يتمثل: كفى حزناً ألا حياة هنيةً ... ولا عمل يرضى به الله صالح وقال آخر: يا أيها الناس كان لي أمل ... أعجلني من بلوغه الأجل فليتق الله ربه رجل ... أمكنه في حياته العمل وقال محمود الوراق: لقد رأيت الصغير من عمل الخي ... ر ثواباً عجبت من كبره حذ وقد رأيت الحقير من عمل الشر ... جزاء أشفقت من خدره وقال أيضاً: قطع الدهر بأسباب العلل ... وأعار السهو أيام الأجل ألف اللذة حتى اعتادها ... واشتهى الراحة واستوطا الكسل فهو الدهر يقضي أملاً ... ولعل الموت في طى الأمل يحسن القول إذ قال ولا ... يتحرى حسناً فيما فعل صير القول بجهلٍ عملاً ... ثم أجراه على مجرى العمل ليته كان كما قال ولا ... يقطع الأيام إلا بالجدل باب مختصر من التعازي في المصائب والصبر على النوائب روى عن النبي عليه السلام، من حديث ابن عمر، أنه قال: " من كنوز البر كتمان المصائب ". قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " ليعز المسلمين في مصائبهم المصيبة بي ". وفي حديث آخر: " من عظمت مصيبته فليذكر مصيبتي، فإنها ستهون عليه مصيبته ". كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه إذا عزى قوماً، قال: ليس مع العزاء مصيبة، وليس مع الجزع فائدة، والموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، اذكروا فقد ر سول الله صلى الله عليه وسلم تسهل عليكم مصيبتكم. قال أبو العتاهية: اصبر لكل مصيبةٍ وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد أو ما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبةٍ؟ ... هذا قبيل لست فيه بأوحد وإذا أتتك مصيبة تشجي بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد وقال منصور الفقيه: ألا أيها النفس السئوم تنبهي ... وألقى إلى السمع إلقاء حازمه ضلال لأذهان وظن مكذب ... رجاؤك أن تبقى على الدهر سالمه وقد غص بالكأس الكريهة أحمد ... ومات فمات الحق إلا معالمه عليه سلام الله ما فصل الندى ... وصدق ذو الشح المطاع لوائمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تنزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقال عليه السلام: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ". وقال عليه السلام: " ثلاث من رزقهن فقد رزق خير الدنيا والآخرة؛ الدعاء في الرخاء، والرضا بالقضاء، والصبر عند البلاء ". قال علي رضى الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له. قال محمد بن علي بن الحسين: الصبر صبران؛ فصبر عند المصيبة حسن جميل، والصبر عما حرم الله أفضل. مات ابن لداود عليه السلام، فجزع عليه جزعاً شديداً، فأوحى الله إليه: أتفرح إذ جعلته فتنة، وتجزع إذ جعلته صلاة ورحمة. مات ابن لخالد بن عبد الله القسري، فقامت الخطباء تعزيه فأطنبت، فقام دهقان فقال: أيها الأمير! إن رأيت أن تقدم ما أخرت من الصبر، وتؤخر ما قدمت من الجزع فافعل. فلم يحفظ إلا كلامه. مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فكتب إليه بعض إخوانه يعزيه عنه، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن هذا أمر كنا نعرفه، فلما وقع لم ننكره، والسلام. عزى ابن عباس عمر عن ابن له، فقال له: عوضك الله منه ما عوضه منك. عزى عبد الله بن عباس عبد الله بن جعفر، فقال: لا أعدمك الله الأجر على الرزية، ولا الخلف من الفقيد، وثقل به ميزانك. قال العتبي: كل حزن يبلي على قدم الدهر ... وحزني يجده الأبد فجعت باثنين ليس بينهما ... إلا ليالٍ ليست لها عدد ما عالج الحزن والحرارة في الأح ... شاء من لم يمت له ولد قال سهم بن عبد الحميد: شهدت يونس بن عبيد وقد عزاه عمرو بن عبيد على ابنٍ له هلك، فقال: إن أباك كان أصلك، وإن ابنك كان فرعك، وإن امرءاً ذهب أصله وفرعه لحرى أن يقل بقاؤه. قال عمر بن عبد العزيز: ما أحسن تعزية أهل اليمن، فكانت تعزيتهم: لا يحزنكم الله ولا يفتنكم، وأثابكم ما أثاب المتقين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة. عزت امرأة المنصور عن أخيه أبي العباس، فقالت: أعظم الله أجرك، فلا مصيبة أعظم من مصيبتك، وبارك الله لك فيما أتاك، فلا عوض أحسن من خلافتك. كتب بعض العلماء إلى المنصور يعزيه: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن أحق الناس بالرضا والتسليم لأمر الله من كان إماماً بعد الله، ولم يكن له إمام إلا الله. عزى الزبير عبد الرحمن بن عوف عن بعض نسائه فقام على قبرها، فقال: لا اصفر الله ربعك، ولا أوحش بيتك، ولا أضاع أجرك، رحم الله متوفاك، وأحسن الخلافة عليك. مات لرجل بنون فترك كلام الناس حيناً ثم انبسط وضحك، فقيل له في ذلك، فقال: كان قرحاً فبرأ. قال حذيفة: إن الله لم يخلق شيئاً قط إلا صغيراً ثم يكبر، إلا المصيبة فإنه خلقها كبيرةً ثم تصغر. قال الطائي: ومهما يدم فالوجد ليس بدائم وقال آخر: وكما تبلى وجوه في الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن خرجت امرأة من العرب تريد المقابر حتى جلست على قبر ابنها، فقالت بصوتٍ لها ضعيف: هذا والله المنزل الحق، والوعد الصدق، والوعيد الشديد، والمسكن الذي ليس لأهل الدنيا عنه محيد، هذا والله المفرق بين الأحباب، والمقرب من الحساب، وبه يعرف الفريقان منازلهم، أهل السعادة وأهل الشقاء، لا أقول هجراً، ولكني أحتسب على الله مصابي بك يا بني، ففسح الله لك في ضريحك، وجمع بينك وبين نبيك، أما إني أقول علمي بك، كنت - والله عليم بباطنك - جواداً، إن أتيت أتيت رشاداً، وإن اعتمدت وجدت عماداً. ثم أنشأت تقول: يا ليت شعري كيف غيرك الردى ... أم كيف صار جمال وجهك في الثرى لله درك أي كهلٍ غيبوا ... تحت الجنادل لا يحس ولا يرى لباً وحلماً بعد حزمٍ زانه ... بأس وجود حين يطرق للقرى لما نقلت إلى المقابر والبلى ... دنت الهموم فغاب عن عيني الكرى قال: ثم لم تزل تبكي وتشهق وتضرب على قرنيها حتى ماتت. كان خالد بن برمك يقول: التعزية بعد ثلاث تجديد للمصيبة، والتهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 دخل عبد الله بن عمر بن عتبة على المهدي يعزيه بالمنصور، فقال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين، وبارك له فيما خلفه فيه، فلا مصيبة أعظم من المصيبة بإمام، ولا عقبي أفضل من خلافة الله على أمة نبيه عليه السلام، فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عنده أفضل الرزية. قال عبد الصمد بن المعذل، أو صالح بن عبد القدوس: إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء فيه أجل وقال محمود الوراق: تعز بحسن الصبر عن كل هالك ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبة ... سلوت على الأيام مثل البهائم وليس يذود النفس عن شهواتها ... من الناس إلا كل ماضي العزائم وقال أيضاً: يمثل ذو العقل في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت لم تكن بغتة ... لما كان في نفسه مثلا رأى الهم يفضي إلى آخرٍ ... فصير آخره أولا وذو الجهل يأمن أيامه ... وينسى مصارع من قد خلا فإن بدهته صروف الزمان ... ببعض مصائبه أعولا ولو قدم الحزم في رأيه ... لعلمه الصبر عند البلا وقال أبو تمام الطائي: أتصبر في البلوى عزاءً وحسبةً ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم كتب رجل إلى صديق: أما بعد، فإن الصبر سجية المؤمن، وعزيمة المتوكل، وسبب درك النجح في الحوائج، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب: أصيب الأحنف بمصيبةٍ فلم يجزع لها، فقيل له: إنك لصبور! فقال: الجزع شر الحالين، يباعد المطلوب، ويورث الحسرة، ويوقع على صاحبه العار. وقيل لامرأة أصيبت بولدها: كيف أنت والجزع؟ فقالت: لو رأيت فيه دركاً ما اخترت عليه، ولو دام لي لدمت عليه. جزع أعرابي على موت ابنه؟ فليم على ذلك، فقال: أعلى قدر الله أتجلد؟ والله للجزع من قدر الله أحب إلي، لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة. سئل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن الرجل المسلم تموت له أم نصرانية كيف يعزى فيها؟ فقال: تقول: الحمد الله على ما قضى، قد كنا نحب أن تموت على الإسلام ويسرك الله بذلك. وسئل أيضاً عن الجار النصراني يموت وله ولي من النصارى، كيف نعزيه؟ قال: تقول: إن الله كتب الموت على خلقه، والموت حتم على الخلق كلهم. عزى أعرابي عمر بن عبد العزيز في ابنه، فقال: تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد لما قطعت رجل عروة بن الزبير تمثل بأبيات معن بن أوس: لعمرك ما أهديت كفى لريبة ... ولا حملتني فوق فاحشةٍ رجلي ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك حين دويت رجله، فقيل له: اقطعها. فقال: إني لأكره أن أقطع مني طائفة، فارتفعت إلى الركبة، فقيل: إن وقعت في ركبتك قتلنك فقطعها، فلم يقبض وجهه ولا تأوه. ويقال: إنه لم يترك حزبه في تلك الليلة. وقيل له قبل أن يقطعها: نسقيك دواءً لا تجد لها ألما؟ قال: ما يسرني أن هذا الحائط وقاني أذاها. فلما كان بعد أيام قام ابنه محمد بن عروة ليلا فسقط من أحد الأسطح في اصطبل دواب الوليد، فضربته بقوائمها حتى قتلته. فأتى رجل عروة يعزيه، فقال له عروة: إن كنت جئت تعزي برجلي فقد احتسبتها. فقال: بل أعزيك في محمد ابنك. قال: وماله؟ فخبره بشأنه، فقال: وكنت إذا الأيام أحدثن نكبة ... أقول شوى، ما لم يصبن صميمي اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت. ولما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق، فأتاه محمد بن المنكدر، فقال له: كيف كنت؟ قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. وجاءه عيسى بن طلحة، فقال لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل. فقال عيسى بن طلحة: أما والله يا أبا عبد الله ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا ما كنا نحتاج إليه منك، رأيك وعلمك، فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال سهل بن هارون: التهنئة على آجل الثواب أولى من التعرية على عاجل المصيبة. قال عيينة بن حصن الفزاري، وقد قدم من سفر، وقد أصابه مصيبة، فأتاه قومه فقال لهم: اجعلوا لقاءكم سلاماً، ولا يأتي أحدكم معزياً، فإن التعزية تهيج التذكرة، ومن أراد أن يدعو بخير في الرزية فليظهر العتب. أصيب محمود الوراق بجارية يقال لها نشوى، كان علمها وخرجها وأعطى فيها مالا كثيراً فأبى، فأتى بعض إخوانه يعزيه عنها، وهو عنده أنه شامت، فجعل يعذله على ما كان يحمل إليه من ثمنها ويذكر حاله، ويطنب في وصفها، فأنشأ محمود يقول: ومنتصح يكرر ذكر نشوى ... على عمدٍ ليبعث لي اكتئابا فقلت وعد ما كانت تساوي سيحسب ذاك من خلق الحسابا عطيته إذا أعطى سرور ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا فأي النعمتين أعم فضلا ... وأحمد في عواقبها إيابا أنعمته التي أهدت سروراً ... أم الأخرى التي أهدت ثوابا بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ ... أحق بشكر من صبر احتسابا وقال محمود أيضاً في نشوى: لعمري لئن غال صرف الزمان ... نشوى لقد غال نفساً حبيبه ولكن علمي بما في الثواب ... عند المصيبة ينسى المصيبة روى يحيى القطان، عن خالد بن أبي عثمان، قال: أتاني سعيد بن جبير يعزيني عن أبي، فرآني مستكيناً، فقال لي: أما علمت أن الاستكانة من الجزع. كان علي رحمه الله إذا عزى قوماً قال: عليكم بالصبر؛ فبه يأخذ الحازم، وإليه منصرف الجازع. ولما دفن علي فاطمة رضى الله عنهما تمثل على قبرها بهذين البيتين: لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليل على ألا يدوم خليل يقال: إنها له، وقال ابن الأعرابي: هي أبيات لسقران السلاماني. كان يقال: جزعك على مصيبة أخيك أحمد من صبرك، وصبرك على مصيبتك أحمد من جزعك. ومن أبيات لضابئ بن الحارث البرجمي: ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب عزى رجل رجلاً فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. قال بعض تميم: لقد عزى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود ومن عجبٍ قصدن له المنايا ... على عمدٍ، وهن له جنود أخذه يعقوب بن الربيع في رثائه جاريته، فقال: لئن كان قربك لي نافعاً ... لبعدك أصبح لي أنفعا لأني أمنت رزايا الدهور ... وإن جل خطب فلن أجزعا وقال محمود الوراق: لا تطل الحزن على فائتٍ ... فقلما يجدي عليك الحزن سيان محزون لما قد مضى ... ومظهر حزنٍ لما لم يكن وقال أخو ذي الرمة: تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع ولم تنسني أوفى المصائب بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع وقال آخر: أترجو البقاء وهذا محال ... ولله عز وجل البقاء فلو كان للفضل يبقى كريم ... لما مات من خلقه الأنبياء تموت النفوس وتبقى الشخوص ... وعند الحساب يكون الجزاء دخل أبو العتاهية على الفضل بن الربيع يعريه بابنه العباس، فقال: الحمد الله الذي جعلنا نعريك عنه، ولم يجعلنا نعزيه عنك. فدعا الفضل بالطعام فأكل، وقد كان قبل ذلك امتنع من الأكل. ومن أحسن ما قيل في رثاء البنين قول العتبي: ألا يزجر الدهر عنا المنونا ... يبقى البنات ويفنى البنينا وأخنى على بلا رحمةٍ ... فلم يبق لي فوق جفنٍ جفونا وكنت أبا صبية كالبدور ... أفقي بهم أعين الكاشحينا فمروا على حادثات الزمان ... كمر الدراهم بالناقدينا وما زال ذلك دأب الزمان ... حتى أماتهم أجمعينا وحتى بكى لي حسادهم ... وقد أقرحوا بالدموع العيونا وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 رأيت بني على ظهرها ... فصاروا إلى بطنها ينقلونا فمن كان يسليه مر الزمان ... فحرني تجدده لي السنونا ومما يسكن وجدي بهم ... بأن المنون ستلقى المنونا وقال آخر: فإن تصبرا فالصبر خير مغبةٍ ... وإن تجرعا فالأمر ما تريان قال يونس بن حبيب: أشعر بيت قالته العرب، قول دريد بن الصمة: قليل التشكي للمصيبات ذاكر ... من اليوم أعقاب الأحاديث من غد وقال آخر: وما كثرة الشكوى بأمرٍ حزامة ... ولا بد من شكوى إذا لم يكن حرم وقال منصور الفقيه: ماذا جنته الليالي ... فيما جلبن إلينا وفي كل يوم نعزى ... فيمن يعز علينا وقال آخر: غز امرؤ منته نف ... س أن تدوم له السلامه هيهات أعيا الأولي ... ن دواء دائك يا دعامه عرى رجل رجلاً ماتت امرأته من نفاسها، فقال: أعظم الله أجرك فيما أباد، وبارك لك فيما أفاد. قال جرير: وأهون مفقودٍ إذا الموت غاله ... على المرء من أحبابه من تقنعا وقال آخر: ولم أر نعمةً شملت كريماً ... كنعمة عورةٍ سترت بقبر وقد مضى من هذا المعنى ذكر في باب الولد. ومن شعر جرير في رثاء امرأته: لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار صلى الملائكة الذين تخيروا ... والطيبون عليك والأبرار قال عمر بن الخطاب: أفضل الصبر التصبر. قال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: اصبر إذا عضك الزمان، ومن أصبر عند الزمان. وقال محمود الوراق: أئن فات ما كنت أملته ... جزعت وماذا يرد الجزع ففوض إلى الله كل الأمور ... فليس يكون سوى ما صنع ولا يخدعنك صرف الرمان ... فإن الرمان كثير الخدع وقال آخر: إذا ضيقت أمراً زاد ضيقاً ... وإن هونت ما قد عز هانا فلا تهلك لشيءٍ فات حرناً ... فكم أمرٍ تصعب ثم لانا وقال آخر: فإذا أتتك مصيبة فاصبر لها ... عظمت مصيبة مبتلىّ لا يصبر وأنشد ابن عائشة: يعزى المعزى ساعةً ثم ينقضى ... ونفس المعزى في أحر من الجمر لأن المعزى إلفه في مكانه ... وإلف المعزى في ضريحٍ من القبر وأنشد ابن عائشة أيضاً: خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على صرف الزمان لواجد أيجمع منها شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد وقال ربيعة الرقي: أليس الزمان كما قد علمت ... فمالك تجزع من صرفه وعندك علم به ثاقب ... وعين تدل على وصفه وأيامه دول والنفوس ... رهون الحوادث من حتفه فأين المعافى من النائبات ... ومن صاحب الدهر لم يعفه ومن صاحب الدهر لاقى الذي ... يخاف على الرغم من أنفه فكن حازم الرأي واصبر له ... فللحر صبر على ضعفه وقال أبو العتاهية: ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصبر وقال آخر: رمن لم يسلم للنوائب أصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا وقال آخر: لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقى ... نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر يرى الشيء مما يتقى فيخافه ... وما لا يرى مما يقي الله أكثر وقال أبو العتاهية: حيلة من ليست له حيلة ... حسن عزاء النفس بالصبر لضابئ بن الحارث البرجمي: وما عاجلات الطير تدنى من الفتى ... رشاداً ولا عن ريثهن يخيب ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخشاتهن وجيب ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطىء في الظن الفتى ويصيب وقال آخر: كم نعمةٍ مطويةٍ ... لك بين أثواب النوائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ومسرةٍ قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب وقال آخر: كم نعمةٍ لا يستقل بشكرها ... لله في طى المكاره كامنه باب من كلام المحتضرين روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهمي مولى الزبير، عن عائشة رحمها الله، قالت: لما احتضر أبو بكر قالت: لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فقال: يا بنية! لا تقولي هكذا، ولكن قولي: " وجاءت سكرة الحق بالموت، ذلك ما كنت منه تحيد ". وكذلك كان يقرأها فيما زعموا. ثم قال: انظروا إلى ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. وقد روى من وجوه في هذا الخبر أن أبا بكر - رحمه الله - قال لها: قولي: " وجاءت سكرة الموت بالحق " على ما في مصحف عثمان. قيل لبعض الصالحين - وهو يجود بنفسه -: كيف تجدك؟ وكيف حالك؟ فقال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد، ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس، وينطلق إلى رب ملك بلا حجة. لما احتضر عمر بن الخطاب بكي، فكلمه ابن عباس أو غيره بكلام فيه ثناء عليه، فقال: المغرور من غررتموه، ليت أمي لم تلدني. ثم أوصى بوصايا حسان. لما احتضر معاوية، قيل له: قل: لا إله إلا الله، فضعف عنها حتى كررت عليه ثلاثاً، كل ذلك لا يقدر يقولها، ثم قال في آخر ذلك: أولست من أهلها؟!. وفي خبر آخر: أن معاوية لما احتضر، قال لابنه: يا بني! كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخذت من شعره بمشقص، وهو عندي في موضع كذا، فإذا أنا مت فخذوا ذلك الشعر واحشوا فمي ومنخري، ثم قال: إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... عذاباً لا حاق لي بالعذاب أو تجاوز وأنت رب رحيم ... عن مسىءٍ ذنوبه كالتراب ثم أغمى عليه، ثم أفاق فقال: فهل من خالدٍ إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار ثم قال لأهله الذين حضروا: اتقوا الله؛ فإن الله يقى من اتقاه. ثم قضى. وفي خبر آخر: أن معاوية لما حضرته الوفاة احتوشه أهله، فجعلوا يقبلوا به. فقال: إنكم لتقبلون حولاً قلبا إن نجا من النار. ثم قال: لا يدفع ريب المنية الحيل. وفي خبر آخر: أنه لما احتضر معاوية، رفع يديه؛ وهو يجود بنفسه، وقال متمثلا: هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وجد بحلمك على من لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، فإنك واسع الرحمة، نعفو بقدرة، وما وراءك مذهب لذي خطيئة موبقة، يا أرحم الراحمين. وفي خبرٍ آخر عن سعيد بن المسيب، قال: لما احتضر معاوية قال: أقعدوني. فأقعد. فجعل يذكر الله، وقال: يا رب! ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، وعزتك إن لم تغفر لي فقد هلكت، ثم غشى عليه فبكى أهله، ثم أفاق، فأنشأ يقول متمثلاً: لعمري لقد عمرت في الملك برهةً ... ودنت لي الدنيا بوقع البواتر وأضحى الذي قد كان منى يسرني ... كلمحٍ مضى في السالفات الغوابر فاليتني لم أغن في الملك ساعةً ... ولم أغن في لذات عيشٍ نواضر وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ ... من الدهر حتى زار ضيق المقابر ثم مات رحمه الله: لما احتضر عمرو بن العاص قال: اللهم أمرتني فلم ائتمر، وزجرتني فلم أزدجر، ووضع يده في موضع الغل، فقال: اللهم لا قوى فأنتصر، ولا برئ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت. فلم يزل يرددها حتى مات. رحمه الله. وفي خبر آخر، قيل لعمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب. فلما قربت نفسه من أن تفيض قال له ابنه: قد كنت تحب أن ترى عاقلاً فطناً قد احتضر؛ فتسأله عما يجد المحتضر وقد احتضرت، وأنا أحب أن تصف لي الموت. فقال: أجد كأن المساء منطبقة على الأرض، وكأني أتنفس من خرم إبرة. لما نزل بهشام بن عبد الملك الموت، نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلبه إن لم يغفر الله له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقال معمر المتكلم صاحب المعاني: حضرت الوفاة رجلاً كان معي في الحبس، وكان داؤه البطن، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: أجد تحرري أكثر من تبردي، وأجد روحي قد خرج من نصفي الأسفل، وكأن السماء قد دنت مني فلو شئت أن ألمسها بيدي لفعلت، ومهما شككت في شيءٍ فلا تشك أن الموت برد ويبس، وأن الحياة رطوبة وحرارة. ليعقوب بن الربيع يرثي جاريته: حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسهلت منها محاسن وجهها ... وغدا الأنين تحثه بتنفسٍ رجع اليقين مطامعي يأساً كما ... رجع اليقين مطامع المتلمسٍ لما احتضر سعيد بن المسيب، وجه إلى القبلة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: وجهناك إلى القبلة. فقال: أولست على القبلة؛ أليس وجهي إلى الله حيث كان. قال عطاء بن يسار: تبدي إبليس لرجل عند موته، فقال: نجوت قال ما أمنتك بعد. لما احتضر عمرو بن عبيد، قال: جاءني الموت ولم أتأهب له، اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران لك في أحدهما رضى، ولي في الآخرة هوىً، إلا اخترت رضاك على هواي، اللهم فاغفر لي. قيل لبعضهم، وقد احتضر: أي شيءٍ تشتكي؟ قال: تمام العدة، وانقضاء المدة. قيل لأعرابي في مرضه: ما الذي تجدٍ؟ قال: أجد مالا أشتهي، وأشتهي مالا أجد. قال: لما احتضر الحجاج قال: والله لئن كنت على سبيل هدىً فليس حين جزع، وإن كنت على سبيل ضلالة فليس حين فزع. قال عبد الأعلى بن حماد البرقي: دخلت على بشر بن منصور، وهو في الموت: فرأيته مستبشراً، فقلت له: ما هذا السرور؟ قال: أخرج من بين الحاسدين والباغين والمغتابين، وأقدم على رب العالمين، ولا أفرح. لما مرض أمية بن أبي الصلت - اسم أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف من ثقيف - مرضه الذي مات فيه، جعل يقول: قد دنا أجلي، وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد، فلما دنت وفاته أغمى عليه قليلاً، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما. لا مال فيقذيني ولا عشيرة فتنجيني. ثم أغمى عليه أيضاً بعد ساعة حتى ظن من حضر من أهله أنه قد مضى، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما، لا برئ فأعتذر، ولا قوى فأنتصر. ثم إنه بقى يحدث من حضره ساعة، ثم أغمى عليه مثل المرتين الأوليين، حتى يئسوا من حياته، وأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما محفوف بالنعم، محفوظ من الريب: إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبدٍ لك لا ألما ثم أقبل على القوم، فقال: قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي، وحدثهم قليلا، ثم يئس القوم من موته، وأنشأ يقول: كل عيشٍ وإن تطاول دهراً ... قصره مرةً إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما إن بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا اجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا ثم قضى نحبه، ولم يؤمن بالنبي عليه السلام. لما احتضر سيبويه، جعل رأسه في حجر أخيه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على وجهه، فأفاق من غشيته، وقال: أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى المنزل الأقصى ومن يأمن الدهرا قال محمد بن إبراهيم الكاتب، دخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه، ومعنا صالح بن علي الهاشمي، فقال له صالح: تب إلى الله يا أبا علي؛ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله هنات. فقال: أسندوني. فأسندوه، فقال: إياي تخوف الله؟ قد حدثني حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "، أتراني لا أكون منهم؟ وقد حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة ". ورآه بعض إخوانه بعد موته بأيام في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها، وهي الآن تحت وسادتي. فنظروا وإذا برقعة تحت وسادته في بيته فيها مكتوب: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو إليه المجرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أدعوك رب كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظني ثم أني مسلم حدث محمد بن يعقوب البزاز: كنت جارا لأبي نواس، فعدته في مرضه الذي مات فيه، ودخل عليه طبيب نصراني اسمه سعيد، فنظر إليه ووصف له دواء يعلله به، ثم خرج وخرجت بخروجه، فغمزني وقال: مرهم لا يعذبوه بالدواء؛ فإنه الساعة يموت، فرجعت إليه فقال: سألتك بالله ما قال لك النصراني، فإني رأيته قد غمزك؟ فقلت: ما عسى أن يقول؟! فقال: أقسمت عليك لما أخبرتني. فأخبرته، فرفع عينيه إلى السماء، وسالت دموعه على خديه، وقال: يا رب إني لم أزل ... في مثل حال السحره حين استلاذوا بعرى ... الدين وكانوا كفره فآمنوا يوماً ففا ... زوا بثواب البرره ولم أزل مستشعر ال ... إيمان ياذا المقدره فاغفر فإني منك أو ... لي منهم بالمغفره ويروى أن آخر بيت قاله محمود الوراق في مرضه الذي مات فيه: إن ظني بحسن عفوك يا رب ... جميل وأنت مالك أمري صنت سري عن القرابة والأهل ... جميعاً وأنت موضع سري ثقة بالذي لديك من السر ... فلا تخزني به يوم نشري يوم هتك الستور عن حجب الغيب ... فلا تهتكن للناس ستري لمحمد بن مناذر من شعره المطول: نحن للآفات أغراض فإن إنما أنفسنا عارية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256