الكتاب: مسامرات الظريف بحسن التعريف المؤلف: محمد بن عثمان بن محمد السنوسي، أبو عبد الله (المتوفى: 1318هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- مسامرات الظريف بحسن التعريف محمد السنوسي الكتاب: مسامرات الظريف بحسن التعريف المؤلف: محمد بن عثمان بن محمد السنوسي، أبو عبد الله (المتوفى: 1318هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] 1 المولى حسين باشا باي [1080 1153] هو الأمير أبو محمد حسين بن علي تركي. كان مقدم والده من بلد كندية من جزيرة قريد أوائل دولة بني مراد، وتقدم للخدمة حتى ولي قيادة أزمة الأعراب، توفي سنة ثلاث ومائة وألف. وولد ولده صاحب الترجمة سنة ثمانين وألف، ونشأ باعتناء والده، وتقدم في خدمة الدولة وتقلد الوظائف المعتبرة مثل قيادة عمل الأعراض والجريد، وتقدم كاهية دار الخلافة على عهد الباشا إبراهيم الشريف باي داي. ولما انهزم مخدومه بمحله الجزيريين عند الكاف على يعد عشِّي حسن وأسروه وأوثقوا أخاه رجع كاهيته صاحب الترجمة طالباً منجاته إلى أن وصل إلى زاوية الشيخ سيدي حسين السيجومي، فأرسل إلى الحاضرة يطلب أهله للفرار بهم، ولما تحقق أعيان الحاضرة انهزام المحلة وأسر إبراهيم الشريف اجتمعوا على مبايعة كاهيته حسين بن علي، فخرج إليه أهل الحل والعقد وأكرهوه على ذلك بعد الامتناع ورجعوا به إلى الحاضرة وبايعوه بالديوان المقابل لباب القصبة بحاضرة تونس صبيحة يوم الاثنين موفى عشرين من ربيع الأول سنة عشرة ومائة وألف. واطمأن الناس ببيعته وعندها أولى محمداً الأصفر دايا، وأخذ يستعد لمدافعة الجزيريين، ولما قدموا إلى الحاضرة ردهم على أعقابهم خاسرين، ولحق بهم وهم على أسوأ الحال، والعرب تنتهب أطراف محلتهم، وهم يتركون مجاريحهم وأثقالهم في كل مكان. وبينما هو يمهد السبل وإذا محمد الأصفر أخذ يستعيد استبداد الدايات بالمظالم التي لم يتحملها الباشا حسين باي حتى خرج إلى الفحص، وحين اشتدت وطأة الداي على الأهالي ونفرته العساكر خرجوا لطلب استرجاع الباشا حسين وعزل الداي فعزله وأولى مكانه قاره مصطفى داياً وقدم الباشا حسين إلى الحرايرية. وطلب إخراج محمد الأصفر من البلاد قبل دخوله فأخرجه الجند وحملوه إلى الباشا غير أنه قتله أحدهم قبل الوصول إليه. وعند ذلك دخل الحاضرة وجددت له البيعة سابع رمضان سنة سبع عشرة ومائة وألف وسكن بدار حمودة الباشا المرادي التي بالقصبة ثم تنقل إلى بساتين باردو فعمر قصوره وأحيا مسجده وجعل له منارة وصيره جامعاً وأقام له قاضياً لتوقف صحة الجمعة عليه. وأول من تقدم لقضاء باردو والمحلة معاً الشيخ علي شعيب أحد علماء باجة. ثم إن الباشا أخذ يمهد السبل ويرم ما خربه من قبله فأقام مباني القيروان، وأحيا رسوم العلم في سائر جهات المملكة, وبني المدارس بالقيروان وصفاقس والجريد وجربه، وأقام بها العلماء والمؤدبين للتعاليم الدينية زيادة على إحيائه مساجد الله وزوايا أوليائه. وكف المظالم، وهدم حانات الخمارين بالحاضر، وشاد الجامع الحسيني العظيم البناء والتربة الملاصقة له التي أعدها لدفنه والمدرسة التي إلى جنبه هنالك. وبنى المدرسة الضخمة التي قرب ساباط عجم وقدم لمشيختها الشيخ محمد الخضراوي مدرس جامع محمد باي وبنى المدرسة ذات النخلة التي قرب جامع الزيتونة وأوقف على جميعها الأوقاف الكافية وأجرى جراية بيت المال على علماء جامع الزيتونة وأجرى السقايات وبنى الجسور. وعدل وتحرى لدينه في قتل النفس ما أمكنه بحيث إنه لا يقتل إلا بحكم المجلس الشرعي. وساعده البخت بخصب المملكة فتوالت النعم علة عموم المملكة وأعظمها نعمة الأمن. وله خاصة نفسه اعتناء برواية الحديث بين يديه وكان يروي له إمامة الشيخ الحاج يوسف برتقيز. وله شغف زائد بدلائل الخيرات وحسن الأذكار وعمل البر والمحافظة على أوائل أوقات الصلوات إلى غير ذلك من مكارمه التي عد كثيراً منها المؤرخ حسين خوجة في تاريخه "بشائر أهل الإيمان". وقد اتخذ كاهيته أولاً علي بن مامي ثم عزله وأولى عوضه مملوكه أحمد شلبي واتخذ خزنداره أزلاً حمَمَّدّ ثم عزله وأولى مكانه محمود السايري الأندلسي، واتخذ كاهية دار الباشا مملوكه الحاج سليمان كاهية، وكان باش كاتب الشيخ بلحسن الوسلاتي. ولما توفي أولى عوضه الشيخ قاسم ابن سلطانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد تبنى أولاً ابن أخيه على بن محمد إلى أن رزقه الله كرام البنين وهم محمد الرشيد باي وعلي باي محمود باي ومصطفى باي. ولما شب بنوه قدم ابن أخيه للباشية بدار الباشا التي هي أعظم من ولاية الأمحال ورجا أن يكون الملك لأبنائه وعقبهم فخرج عليه ابن أخيه وترامى لدى مملكة الجزائر وانتصر بهم على عمه، وفي أثناء ذلك فقد أصغر بنيه وهو مصطفى باي فسار إلى رحمة الله تعالى، ثم وردت المحلة الجزائرية، ولما قاربت الحاضرة خرج لها الباشا حسين باي متجهزاً في عسكره ونزل بسمنجة لمدافعة ابن أخيه، وتلاقى الجيشان، ووقع القتال بينهما يوم الأحد سادس عشر ربيع الأول سنة ثمان وأربعين، وصدق الجزيريون ومن انضم إليهم من الإعراب القتال، ونجا الباشا حسين وأبناؤه إلى القيروان، واعتصموا بها، وحاصرهم ابن أخيه بعد حروب باشر أكثرها ابنه يونس. ولما طال الحصار نجا أبناؤه الكرام ومن انضم إليهم إلى الغرب وخرج الباشا حسين باي بمن بقي معه لمدافعة حفيد أخيه، وهو يونس باي ووقع قتال استشهده فيه الحفيد المذكور قبلي مدينة القيروان يوم الجمعة سادس صفر الخير سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف وحمل ودفن بتربته الرفيعة عليه رحمه الله. 2 المولى علي باشا باي [1100 1169] هو الأمير أبو الحسن علي بن محمد بن علي تركي، لما لم يكن لعمه حسين بنون تسلمه من أخيه وتبناه واعتنى بتربيته وأحضر لتعليمه من العلماء أولاً الشيخ محمد التونسي فتهذب به، وصار به عالماً، ثم حضر له الشيخ محمد الخضراوي للإقراء والمجالسة، وضم إليه من ذوي الرأي الخبيرين من يكتسب منهم حسن التربية ونشأ على تلك الحال حتى بلغ مبالغ الرجال. ولما ولي عمه الملك أولاه سفر الأمحال في صفر الخير من سنة ثماني عشرة ومائة وألف، وزوجه بابنه كاهيته على بن مامي فأوتي منها بأبنائه يونس ومحمد وسليمان، ثم زوجه ابنته، وأمل بذلك أن يرث الملك من بعده. ولما رزقه الله الولد طلب له من الدولة العثمانية الفرمان لسلطاني والقطفان العثماني على العادة، وذلك على عهد السلطان الغازي أحمد خان الثالث. وقدمه لخطة الباشية بدار الباشا سنة سبع وثلاثين ومائة وألف وأسكنه بدار رمضان باي بتونس، وعند ذلك أنف من صنيع عمه به، وتحفز للوثوب للطيران وخرج بابنه يونس هارباً غروب شمس يوم الجمعة عاشر رجب سنة أربعين ومائة وألف، وتحصن بحبل وسلات مدة ثمانية عشر شهراً أجلاه في آخرها عمه إلى الغرب بعد قتالات عديدة فدخل الجزائر وأقام بها عدة سنين يطلب الإعانة على قتال عمه حتى أمده حاكمها إبراهيم باشا على شروط تواعدوا عليها. وانفصل بالمحلة الجزائرية في حجة الحرام سنة سبع وأربعين ومائة ألف، ونازل عمه في سمنجة حتى استولى على محلته وأصبح مقيماً بسمنجة إلا أنه لم يدر خبر أهل الحاضرة. ولما تحقق أهل الحاضرة نجاه العم المذكور وأبنائه وأحضروا مراداً ومحموداً أخوي على باشا وأخرجوا أباه محمداً باي من السجن الذي وضعه فيه أخوه حين رآه مظاهراً لابنه فأخذ عليهم البيعة لابنه علي باشا باي وأركبوا لتلقيه ابنيه محمداً وسليمان فأعلماه بما وقع، فأرسل ابنه يونس ودخل الحاضرة يوم الثلاثاء، وجلس بالقصبة، ووفدت عليه الأهالي للتهنئة, ثم أقبل الأمير علي باشا إلى الحاضرة يوم الأربعاء تاسع عشر صفر الخير سنة ثمان وأربعين ومائة ألف وتمت له البيعة يومئذ، وانقلب الجزيريون لبلادهم بعد لدد ومشاغبة وأخذوا ما وعدهم به، وبعد أيام توفي أبوه محمد باي فجأة. ولما استقل الباشا المذكور أرهف الحد في شيعة عمه، واشتدت سطوته، وصادر الأمة بالمال الكثير، وعرضت في مدة ولايته محاربات فاز فيها بالظفر. وكانت رجال دولته المقربون لديه باش كاتب الشيخ عبد اللطيف السهيلي وقد وليها بعد عزل الشيخ بوديدح، وكاتبه المقرب عبد الرحمن البقلوطي وعامل الأعراض الحاج مصطفى بن متيشة، وآغا باجة عصمان المملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وفي آخر أمره اختلف عليه بنوه وكابد منه ولده نصيره يونس باي عَرق القِربةِ! حتى وثب للطيران إلا أنه تحزب على والده وتحصن بالقصَبة هو ومن معه فدخلها ظهر يوم الاثنين تاسع جمادى الثانية سنة خمس وستين ومائة وألف وكان النصف القبلي من البلاد في نصرته، فأطلق المدافع ودافعه أبوه وأطلق الكور في وسط البلاد واستمر الحال على ذلك بعد توسط العلماء في إصلاح ذات البين ولم يغنوا شيئاً إلى أن نفدت ذخائر القصبة فخرج هو وكاتبه أحمد السُّهيْلي من مماليكه وأتباعه ضحوة يوم السبت الثالث من شعبان وأبقى أبناءه الثلاثة أحمد باي وإسماعيل باي ومصطفى باي وفر بمن معه إلى قسمطينة. وعند ذلك دخل أخوه محمد باي إلى الحاضرة وسفط السيف على من قدر عليه، وأظهر ما في نفسه من الحقد واحتقار وجوه الناس وأبوه مرتض لصنيعه. ولم يزل يتمادى في سوء صنيعه حتى فوق سهمه لأخيه سليمان وخشي من وراثته الملك بعد أبيه لما يرى لأبيه من إيثاره عليه لما فيه من الأهلية فعاجله بالإطعام فمرض أسبوعاً وفاضت نفسه على حين لم يكن والده ليتوقع له ذلك، فتوفي ظهر يوم الجمعة من صفر الخير سنة ثمان وستين ومائة وألف، وترك ولده نعمان باي، فعدم أبوه بمكيدة ولده وسوء صنيعه بأخيه، وتحقق أن الله أذاقه بأس ولده محمد بإعدامه لعضدي نصرته يونس بالفرار وسليمان بالممات. وكان ذلك من مبادىء انتقام الله منه، والله عزيز ذو انتقام. وقد كان علي باشا باي مع سفكه للدماء وامتهانه للخاصة وإضراره للمملكة بمظالمه- معدوداً في العلماء، وشرح تسهيل ابن مالك النحوي شرحاً مهماً اعتكف الناس على قراءته بجامع الزيتونة مدة دولته، وقرظه سائر علماء عصره. وكتب عليه الشيخ أبو الحسن علي البارع قوله: [الكامل] لله شرح للأمير موضح ... لم يتصف بصعوبة التلويح سهل التناول بالخفاء مصرّح ... قد فاق في التسهيل والتصريح فإذا افتقرت إلى كتاب موضح ... فكتابه المغني عن التوضيح وقد كان الباشا مع علمه ولوعاً بالكتب واكتسابها، وبنى تربته التي بالقشاشين ومدرسة الباشية، وقدم لمشيختها الشيخ محمد المحجوب الحنفي، وبنى المدرسة التي نسبها لولده سليمان، وقدم لمشيختها العالم الرباني، الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني. وجميع هاته الأبنية كانت حول الجامع الأعظم. وبنى مدرسة بئر الحجار وقدم لمشيختها الشيخ مسعود المغراوي الباجي. وبنى مدرسة حوانيت عاشور وقدم لمشيختها الشيخ عبد الله السوسي. وجميع هاته المدارس أوقف عليها أوقافاً من الربع والعقار تخرج منها جرايات كافية للشيوخ والتلامذة إعانة على طلب العلم الشريف. واعتنى بتحصين البلاد، وجهز الثغور، وأجرى السقايات العظيمة النفع، وهدم حانات الحفصية، ومنع بيع العنب لمن يعتصر الخمر، وبنى المباني الضخمة بباردو. ولما امتلأ مكياله ولاقى من عقوق بنيه ما صنعه لعمه وقيدته هموم فقد ولديه بعد أن جمع جميع أموال المملكة بين يديه دهمه الخبر بتجهيز أبناء عمه بالمحلة المنصورة من الجزائر تحت رئاسة حسن باي، فوردت المحلة إلى الحاضرة مع من حشد إليهم من الأعراب حتى نزلوا قبلي الحاضرة، ولج الباشا هو وابنه محمد في القتال حتى انهزما معاً، وقتل ولده محمد قرب الملاسين، وترك ولدين، وهما محمود باي ويوسف باي. واستؤسر الباشا بمحلة الجزيريين وأقام في الأسر عند حسن بايمما الجزيري على حال سيئة أياماً تعادل أعوام تملكه. ثم أمر بقتله فقتل أواسط ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف. وقد استكمل استقصاء خبره مع عمه وخبر أبناء عمه المؤرخ الشيخ محمد ابن يوسف الحنفي الباجي في تاريخه المسمى. "المشرع الملكي، بدولة أبناء علي تركي" بما يشفي الغليل. وقد دفن حيث دفن ولداه بتربته. عليه رحمة الله وأرخ وفاته كاتبه الشيخ محمد الورغي بقوله: مضت دولة الباشا عليِّ كأنه ... من الدهر يوماً في البريةَّ ما عاشا أتته المنايا وهو في عُظم قوة ... وجيش كثيف مثله قط ما جاشا فصار دفيناً بعد ما كان دافناً ... فقلت وقد أرخته: دفن الباشا 3 المولى محمد الرشيد باشا باي [1122 1172] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 هو الأمير أبو عبد الله محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، فاعتنى والده بتربيته وتعليمه وحنكه بما أهله إلى المراتب العالية، واختصه بإمامه الشيخ الحاج يوسف برتقيز، فاعتكف على إقرائه العلوم العقلية والدينية إلى أن بلغ خمس عثرة سنة، فأجمع رجال الدولة على طلب تقديمه لولاية الأمحال ليكون وارث الملك بعد والده، وألحوا بالطلب على والده، لما رأوا فيه من الأهلية لذلك فأجاب مطلبهم، وقدمه لولاية الأمحال أوائل سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، وظهرت فيه الكفاءة لذلك مع ملازمته لقراءة العلم. وأكثر ولوعه بالعلوم المعقولة، وعلى الخصوص الأدب، فقد نسج فيه على منوال ملوك الأندلس، وأبدع رقيق الشعر باعتناء قاضي محلته وأستاذه الشيخ محمد بن محمد الشافعي الشريف ومن انضم إليه من الأدباء. ولم يزل مدة تملك والده في اعتناء عظيم بالعلم والأدب. ولما انقضت دولة والده وخشي سطوة ابن عمه خرج من القيروان بعد طول الحصار هو وأخواه علي باي ومحمود باي ومعهم الموفون بالعهد من أشياخهم وكتابهم وأتباعهم أوائل صفر الخير سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف فقصدوا الجزائر، وطلبوا من حاكمها نصرتهم على ابن عمهم. وبعد طول المقام جهزهم بمحلة خرجوا بها في ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائة وألف. وكان أمير المحلة حسين باي قسمطينة فوصلوا بها إلى الكاف، وامتدت أعناق الآمال إلى الإسعاف، ووافتهم نجوع العرب بالمدد، وواصلوهم بالرجال والعدد، لولا ما غدر به أمير المحلة فردها بدون كبير قتال، وغره في ذلك ما وصله من المال، وتفرقت جموع الحاشدين، وأسفوا من شماتة الحاسدين، حتى أتى الأسف على أخيهما محمود باي ففاضت نفسه بقسمطينة في الحادي عشر من شوال سنة تسع وخمسين، ولازم الأخوان الصبر مع قوة الرجاء في الله جل جلاله. ولم يكن هذا الأمير في جميع هاته المدة يعلق آماله بغير الله وأوليائه حسبما يعلم ذلك من مطالعة ديوان شعره المملوء بالتوسلات التي حقق الله إجابتها. ومن أعز ما رأيته في ذلك مكتوبه الذي وجهه إلى الولي العارف بالله الشيخ أبي العباس أحمد بن باباس وهو من إنشاء شيخه الشريف الشافعي، ولأهمية هذا المكتوب في واقعة الحال التزمت إثباته منقولاً من خطه المختوم بختم الأمير وهذا نصه: [الطويل] رفعت إليك الحال يا نجل باباس ... وليس لهدا الأمر غيرك من آسي فأنت نهاراً كوكب الخور في الدنا ... وبالليل نبراس السما أيُ نبراس فكن فارساً حامي الذمار بسيفه ... وجئني بعباس وجئني بمرداس يحاربني قوم بأصناف مكرهم ... وجاءوا بأنواع الحروب وأجناس وما علموا أني بعزك عائذ ... فأنت لهم يا أيها الجبل الراسي وخذ بيدي لله طال تفكري ... وضربيَ أخماسي زمانا بأسداسي أجب دعوة المظلوم ولتكُ ناصراً ... له حين لاذوا النصر يوجد في الناس وخُلْ جولةً تمحو بها كل ماكر ... وما كان من ضر وما كان من باس رجوتك تكسوني من المجد حلة ... فأنت لأبناء السبيل هو الكاسي وأحظى بما أرجوه فيك من المنى ... ويذهب إيحاشي ويُقْدِم إيناسي عليك سلام ليت حامله الصَّبَا ... إليك فلا أحتاج فيه لقرطاس ولو أنني اسطَعْتُ المسير لجئتكم ... فطوراً على عيني وطوراً على رأسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أقول بعد حمد الله الذي به تنجلي الكربات، وتكشف البليات، وتسري النكبات، وتدرأ الرزيات، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وحبيبه ومجتباه، صلاة تمحو آثار الكرب، وتهزم كتائب النوب، إني لما زحف إليّ الزمان بمحاله، وسقاني صرف كؤوس أهواله، وأجلاني من مقري، وكسا بجلباب الخسوف بدري، وكرَّ عليَّ بجيوش الكمد، وأعدمني الوالد والولد، فاستنسر عليَّ البغاث، وفقد المستصرخ والمستغاث، لم أزل أستجير من ظلمه فلا أجد مجيراً، واستنصر عليه ولا أوافي نصيراً، فأنا في غمار تلك الحال، ضجيع أوحال وأوجال، ناداني الفكر المطاع، بما لبته القلوب والأسماع، يا هذا لقد جئت شيئاً فريا، ونسيت من لم يك منسيا، أيا هذا الإنسان، المغمى عليه من تداول الأشجان والأحزان، حتى غفل عن الملاذ بذوي العرفان، الآسي ما تقرح من جراح الزمان، تالله لقد حدت عن الباب، والتمست الزكاة من غير مالك نصاب، وطالبت الضامن والمضمون حاضر، وتحيرت والأمن ظاهر، أين أنت عن أصفياء الله، وذوي الحمية والجاه، أين أنت عن المولى الذي ربضت الفضائل بناديه، ولبى المنى لمناديه، وعرجت الآمال بأرجائه، وآب قاصده برجائه، وانتشرت معارفه في الأقطار، ووكفت عوارفه كصيبات الأمطار، وكتبت على صفحات الزمان مفاخره، وصفت بواطنه وظواهره، سابق فبرز، ونال من المحاسن غايتها وأحرز، فأي عبارة تفي بعلياه وأي رام يطمع في بلوغ مرماه، هيهات هيهات ما هو إلا غرة هذا العصر، وحسنة من حسنات الدهر، تطلب المجد جاهداً، وتناول النيرين قاعداً، الجامع بين الشريعة والحقيقة، المتخذ الأتباع رفيقه وفريقه، فانتبهت لنداء الفكر من نومتي، وأفقت من غفلتي، علمت أني ظمئت والماء أمامي، وضللت وبجنبي إمامي، وأن المعني بالخطاب، والموجه إليك ذلك الجواب، وحامل لواء العرفان بلا ارتياب، الآتي من دقائق العلوم ورقائق الفهوم بالأمر العجاب، بقية أهل الإملا، والمدخر للجلى، حامي من بحماه احتمى، مروي صدى من أتاه على ظما، عمدتي وعياذي، وعدتي وملاذي، ومنبع إيجاري وإنقاذي، ومقصد تعريجي ولواذي، نتيجة قضايا الحجا ولا ريب ولا التباس، ومجمع أصناف الذكاء فأنى يضاهيه إياس، مظهر أساس العرفان حين تلاشت الأساس، لابس حلل التربية التي فيه حين نبذ ذلك اللباس، مولاي وأستاذي أبو العباس، سيدي أحمد بن باباس، لا زال مهتصراً من المعارف والعلوم أفناناً وأي أفنان، آية من آيات الزمان، ناشراً لسنة عنصر آل عدنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما بعد فأيها السيد الجليل، ذا الفخر العريض الطويل، أهدي إلى حضرتكم سلاماً أشهى من البرء للعليل، وأنفع من الماء للغليل، ورحمة الله وبركاته. وأشكو إليك جوى فؤاد عولت عليك أفلاذه، وأعول طويلاً وأنت مالكه وأستاذه، وفارقه وسنة، ورافقه حزنه وشجنه، وهام في طرقات همه، وأمسى أمسه خيراً، من يومه، وارتدت على أعقابها آماله، وغدا شذر مذر حاله. وموضوع قضيتي مطال، وشرح قصتي تكل عنه الأقوال، وقد اقتضى الحال سرد بعضها على حضرتكم، وعرض أمري على سدتكم، ليتضح من ينسب الظلم إليه. ويظهر الباغي والمبغي عليه، وذلك أن والدنا رحمه الله لمها قلد بطراز الولاية، ورشح لهذه الرعاية، اتفق على ولايته أهل الحل والعقد، ورضيه ذوو الاختبار والنقد، ولم يزل راغباً عن الإمارة، راهباً من ورطة النفس الأمارة، إلى أن ولوه بالرغم عليه، حيث توسم الناس الخير فيه، فقام في ذلك المقام، أحسن قيام، وعامل الناس بالرفق، وسلك سبيل الحق، واجتهد في إعلاء السنة المحمدية، وإحياء الشريعة الأحمدية، حتى غدا عصره أحسن عصر، ومصره أجمل مصر، والناس بحسن سيرته في أمن وعافية، وعيشة راضية، ولعله بلغكم ما فعله من الخيرات، وسوابغ الحسنات، ولولا الحرص على تعريف حضرتكم بالحال، وشرح المقال، لما سطرت يمناي في هذه التزكية حرفاً. ولا أعملت في ميدانها طرفاً. ثم إن والدنا رحمه الله لما جرته الأقدار إلى موقف الملك، وانتظم في ذلك السلك، كان له ابن أخ رباه صغيراً، وسقاه من صنوف الإحسان سلسلاً نميراً، فرأى أن الأقارب أحق بالتقريب، وصلة الأرحام من أحسن ما سعى إليه اللبيب، فقرب ذلك الربيب وأدناه، وخصصه واجتباه، وولاه الولايات. ورأسه على الجبايات، وصاهره بكريمته، وأسنى في قيمته، وقدمه على الأجناد، وفعل معه ما لا يفعله إلا الوالد مع الأولاد، إلى أن أضحى بالعيون مرموقاً منظوراً، ولم يكن شيئاً مذكوراً، فلما شب وازدهى، واقتعد السهى، نبهوا والدنا عليه، وقرروا عنده ما يجنح إليه. وأغروه به، وعلى الاستراحة من نصبه وتعبه، فرأى والدنا رحمه الله أن هذا محض ظن ووهم، وإن بعض الظن إثم، وأن الإقدام على الحد بغير ثبوت شرعي يسخط الرب، ويدخل في ظلمات الذنب، فأعرض عنه إعراض من ثبت لديه بغيه، وما يرتاده سعيه، وتغافل عما يبدو منه وأغضى، واختار الرضى بالقضا، فلم يلبث إلا قليلاً وفر ذلك الربيب ومال إلى بعض الجبال، وجمع عليه أهل البغي والضلال، وأفسد الطرقات، ومنع المعيشات، ورماح بغيه على المسلمين شرعٌ، وأموالهم نهب يوزع، ولم يزل والدنا يقاسي في حسم ذلك الفساد، والبلاء النازل على العباد، إلى أن أجلي من تلك الأقطار، وعاد الأمن إلى ما كان، وحسن الزمان، وسرت البلاد والعباد، وانمحى البغي والفساد، وحين وضعت الحرب أوزارها، وراجعت العافية دارها، رأى والدنا أن تأخير الحج المفروض المحتم، كتأخير رأس مال السلم، فعزم على الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبره عليه السلام، وأن يلازم ذلك المحل، إلى أن تتلاشى روحه وتضمحل، وعمد أن جمع مجلساً عاماً حضره العلماء الأخيار، والفضلاء الأبرار، وعهد إليّ بالولاية، وقلدني بالملك والرعاية، وبايعني الناس عامة على السنة المألوفة، والطريقة الموصوفة، وهذا العدو إذ ذاك بالجزائر يفسد في نفوس حكامها، وولاة أحكامها، ويحسن لهم القيام علينا، وإضرام نار الحرب في نواحينا، حتى استزلهم بدهاه، وبلغ من ذلك مناه، وكان ما في علمكم، وتقرر عندكم، وآل أمره إلى أن جرع والدنا الحمام بيده. وتولى ذبح مربيه ووالده، وغصب لنا ملكنا، واستحل هلكنا، وأقبل على الخلق قتلاً وصلباً، ونهباً وسلباً، وبدل الناس البأس بالعيش الأول، وأفعال الله لا تعلل. [الخفيف] هذه قصتي وهذا حديثي ... وإذا كنت خاذلي من يجير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقد قصدت جنابك، وطرقت بابك، ويممت فناك، وأملت دعاك، وتوسلت إليك بسيد البشر، الشفيع المشفع في المحشر، أن لا تتركني سدى، ولا تشمت بي الأعدا، يا بدر الصالحين، يا تاج العلماء العارفين؛ جئت إليكم مستجيراً، فالله الله في هذا النازح الوطن، المحالف الشجن، المفارق الألف والسكن، ناشدتك الله لا تنبذني ظهرياً، ولا تتركني نسيأ منسياً، أيخيب القاصد حماكم، أيرمى المتمسك بدعاكم، وأنتم أهل الله لا يخيب من بكم استجار، ولا يخشى صولة الأذعار، حنانيك أي هذا الإمام، جوارك يا علم الأعلام، لألو لك أن تعرض عمن بكم لاذ، وبسواكم استعاذ، وبحرمكم استظل، وبفيض كرمكم أم وأمل، ألا راحم لغربتي، ألا ساد لحلتي، ألا منفس لشجوي وكربتي، أليس عاراً عليكم، ضيعة القاصد بعزمه إليكم، فلا تتركوني مضاعاً، وفؤادي ملتاعاً، وقلبي شعاعاً، وأشجاني أجناساً وأنواعاً. كيف أضام وإليكم قصدت، كيف أحرم وبكم وثقت وتعلقت، كيف لا أظفر بمرادي، وأنتم مخيم ودادي، ومواليَّ وأسيادي. وعليكم اعتمادي، وبهمتكم إمدادي وإسعادي، وإني أتوسل إلى حضرتكم بالله الذي لا إله إلا هو الرحيم الرحمن، الرؤوف المنان، والأنبياء والمرسلين، وبمحمد الصادق الأمين. والسادة صحابته، والأخيار قرابته، وبالمهاجرين والأنصار، والأقطاب والنجباء والأخيار. وبجميع الأولياء والصالحين، والعلماء الراسخين، أن لا تحرمني من دعاكم، والتوجه بهمتكم، إلى خديم سدتكم، حتى أظفر بمأمولي، وأبلغ غاية سؤلي، فلا خاب من إليكم انتسب، وعليكم أكب، فأغيثوا هذا المظلوم، الكثير الكُلوم، الغريب الديار، المقلب على الجمار، كلا فإني لما وفقت لقصدكم، واشتملت بودكم، وانتميت لذلك المقام، واعتززت بذلك الذمام، ظفرت بالأهل المطلق، ونزلت على المحلق. فمثلكم من يحمي جاره. ويبلغه أوطاره. لا زلتم موقف الآمال، ومحط المجد والنوال. وعائد السلام عليكم، كما بدا من ابنكم المنتمي إليكم، الطالب فضلكم ورفدكم، الفقير إلى رحمة ربه ولطفه محمد باي ابن حسين باي ابن علي. وكتبت بتاريخ أواخر جمادى الأولى من عام1161. هذا والغيب قد هيأ لهؤلاء الأمراء أعز السعادة المستدامة إلى أن تخلصوا خلوص التبر، وحنوا إلى وطنهم وساعدهم القدر. وأعيا الناس ما لاقوه من ابن عمهم، وكاتبوهم يستنهضونهم، فجهزهم حاكم الجزائر بمحلة منصورة تحت رئاسة حسن باي أزرق عينه. وأقبلوا مع من حشد إليهم من نجوع الأعراب الذين أعياهم الجلد وقاموا بإمدادهم إلى أن تغلبوا على عدوهم، واتصلوا بتراث أبيهم من غاصبه، واقتص الله لهم دم أبيهم ودخلوا الحاضرة في يوم مشهود، خفقت فيه الرايات والبنود، وهو يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف، فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهم واطمأنت الأنفس وقرت العيون. [الطويل] وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر وأقام الجزيريون أياماً كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلاً، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلاً: [الطويل] أيشبهنا في العالمين قبيل ... ونيل علانا ما إليه سبيل أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا ... ولا في حمانا يستذُّل ذليل وأعراضنا بين الأنام جواهر ... وجوهرنا في الخافقينْ يسيل ترى السعد والأيام ملك يميننا ... تميل على العِلات حيث نميل صوارمنا تطغى على طول دهرنا ... لها في رؤوس الدارعين صليل إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا ... فماضيه بالنصر العزيز كفيل وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا ... وللخيل وقع في الثرى وصهيل تكاد جال الأرض من عظم بأسنا ... تذوب على سطح الثرى وتميل تسع وستين ومائة وألف، فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهم واطمأنت الأنفس وقرت العيون. [الطويل] وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وأقام الجزيريون أياماً كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلاً، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلاً: [الطويل] أيشبهنا في العالمين قبيل ... ونيل علانا ما إليه سبيل أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا ... ولا في حمانا يستذُّل ذليل وأعراضنا بين الأنام جواهر ... وجوهرنا في الخافقينْ يسيل ترى السعد والأيام ملك يميننا ... تميل على العِلات حيث نميل صوارمنا تطغى على طول دهرنا ... لها في رؤوس الدارعين صليل إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا ... فماضيه بالنصر العزيز كفيل وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا ... وللخيل وقع في الثرى وصهيل تكاد جال الأرض من عظم بأسنا ... تذوب على سطح الثرى وتميل عوائدها التي كانت عليها تلك المدة، وساعده البخت فأخصبت البلاد، وأعلن أصحابه ومن كانوا بمعيته بأفراحهم فاستعملوا الآلات المطربة للأنس بعد طول غربتهم، وجرى معهم في ذلك الميدان غيرهم. حتى كانت أيام تلك الدولة كأنها أعراس، وفاقت به وسطى دول بني العباس، ولا سيما وقد أكرم الله هذا الأمير بولديه أبي الثنا محمود باي وأبي الفداء إسمعيل باي اللذين جعل الله الملك مخلداً في عقب أولهما جزاءً من الله على حسن طوية هذا الأمير. وكان عالي الهمة عزيز النفس ضخم الدولة مشيداً لدعائم شارات الملك وتعظيم شأن الدولة والميل إلى المعالي وحب العلم والعلماء وهو منهم، له ديوان شعر بديع جيد النظم والنثر والتوشيح. وقد نظم قصائد نبوية وتوسلية تدل على حسن وثوقه بالله وأوليائه. أما قصيدتاه الميمية والقافية فهما آية الله في الإبداع. وقد سمى أولاهما "محركات السواكن، إلى أشرف الأماكن" وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل] هل زَورَة تشمِي فؤاد متيم ... يا أهل مكة والحطيم وزمزم وشرحها أستاذه الشريف الشافعي بجزأين ضخمين التزم في شرح كل بيت منها خمسة فنون؛ وهي اللغة والنحو والمعاني والبيان والبديع عدا حاصل المعنى وسمى شرحه المذكور "إظهار النكات، من خبايا المحركات " فكان شرحاً مشحوناً علماً وأدباً حيث اعتكف به مؤلفه على استخراج الدر من بحرها العميق إذ أنه لما استقر به النوى ورجع مع تلميذه ومخدومه إلى أرضه التونسية التزم الإقامة بجبل المنار تاركاً جميع علائق الدولة. وكان الأمير يرسل له ليلة كل جمعة فرسه الأشهب، ولم يمتطه غير أستاذه المذكور فيحضر عنده بباردو للمبيت ومن الغد يرجع الفرس المذكور موصولاً بجميل الصلات، ووافر العطيات، وهو في رغد العيش من إقبال السعد، بإنجاز الدهر لجميل الوعد، يرصع تيجان تلك القصيدة، بالجواهر النضيدة، حتى أظهر ما احتوت عليه من النكات، بالآيات البينات، فرحم الله الناظم والشارح، إذ أخصبا تلك المسارح. وأما القصيدة الثانية القافية فقد شرحها الشيخ محمد الكواش وقيل شارحها والده الشيخ صالح الكواش غير أني لم نطلع عليه. وقد عم فضل هذا الباشا سائر الموفين بعهده من أصدقائه ومن أدركهم من رجال دولة والده إلى أن مرض نحو العشرة أيام، وأدركته المنية ليلة الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ محمد الورغي بقصيدة كتبت على قبره وهي قوله: [الكامل] هذا ضريح للإمام الأمجد ... نجمِ الملوك السيد ابن السيد علم غدا للقاسمين مجاوراً ... فأضا أمامهما ضياء الفرقَد لاقى برأفته العباد فربه ... يلقاه بالغفران يوم الموعد عم الأنامَ الهديُ في أيَّامِه ... إحكام حكم قل من لم يهتد فالحلم شيمته وحليته الرضا ... والخير فيه لمن يروح ويغتدي يا واقفاً بضريحه سل ربه ... كرماً يمتعه بجور نهدِ واقرأ له أم الكتاب هدية ... فعسى يفوز برحمة يم تنفذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بشرى له إذ جاء في تاريخه ... (يا حسن حور زيني لمحمد) 4- المولى علي باشا باي [1124 1192] هو الأمير أبو الحسن علي بن حسين بن علي تركي ولد سنة أربع وعشرين ومائة وألف، ونشأ بين يدي والده في التدريب والتهذيب وقراءة العلم الشريف على الشيخ الحاج يوسف برتقيز، وأكثر ميله إلى العلوم الدينية لا سيما الحديث النبوي، ونشأ على ذلك إلى أن غاب غيبته ورجع رجوع الدر إلى معدنه صحبة أخيه يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف وتمت البيعة لأخيه فقلده هو ولاية الأمحال ولازم السفر بالأمحال لاستخلاص الجباية مدة. وبعد انتقال أخيه أجمع أهل الحل والعقد على تقديمه للإمارة فبايعوه يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ووفدت عليه الوفود بالتهنئة، واستقر على كرسي المملكة وأقَّر رجال دولة أخيه على مناصبهم وقرر الأمور على ما كانت عليه واستعمل من الرفق والحنان ما جلب به جميع القلوب. واصطفى لمجلسه العلماء ودخل في زمرتهم مع ما له من الذكاء والمشاركة في العلوم وحب المحاورة وملازمة رواية صحيح البخاري بنفسه يستحضر للمبيت عنده كل ليلة طائفة من العلماء للمسامرة على العلم وسرد الكتب المهمة والمحاورة فيها، وكثيراً ما يورد عليهم المشكلات، والإشكالات من توقفاته ويديرون في ذلك كؤوس محاضراتهم ومحاوراتهم ويجزل عطاء المجيد منهم. ومن ذلك توقفه في مسألة إجزاء أداء النذور في وقت الكراهة مع أنه وقت إثم، وقد كتب له في المسألة شيخ الإسلام البارودي كتابة حرر فيها إشكال الأمير والنصوص التي توقف في الجمع بينها بما يدل على رتبة الأمير في العلوم الدينية. وقد اتفق له أيضاً أنه كان يقرأ تفسير القاضي البيضاوي والعلماء بين يديه فمرت به عبارة فيها مخالفة بين الضمير ومفسره في التذكير والتأنيث فسأل عن وجهها فلم يحضرهم الجواب ثم أجابه الشيخ عبد الكبير الشريف بأن ذلك لمراعاة الخبر فاستحسن جوابه وأجزل صلته حتى قال بعض الحاضرين: إن هذا الجواب الذي أجاب به الشيخ مشهور مسطر تحت كل ورقة فقال له الأمير: وهلا أجبت أنت بهذا الأمر المشهور؟ ثم قال لهم: إني لم أعظم جائزة الشيخ استغراباً لما أجاب به وإنما قصدت بذلك إظهار تعظيم أهل العلم وترغيب الناس في تعليمه والحث عليه. وبمثل ذلك كان العلماء لا يتخلفون عن مجلسه وهو يوسعهم براً وكرماً، مؤدياً لحقوق احترامهم الواجب، حتى أنه لم يشرب الدخان في مجلس اجتماعهم، ويتكلف في ليالي الشتاء الخروج لإجل التدخين حتى لا يرتكب ذلك بينهم. ولما راوده بعض العلماء على عدم الخروج متعللاً له بعدم الفرق بين دخان الاستنشاق المستعمل عند جميعهم وبين التدخين، أجابه بأن عموم كراهة رائحة التدخين فارقٌ بينهما وأنه يجتنب ذلك قياماً بواجب حق علمهم. وفي مجلسه العلمي كان اجتماع الشيخ محمد الشحمي مع الشيخ لطف الله الأعجمي شارح أسماء الله الحسنى حين وفد على تونس عام ثمان وسبعين ومائة وألف ووقعت بينهما محاورة في علوم حكميّة اعترف في آخرها بفضل الشيخ الشحمي، وكان جسيماً فوضع الشيخ لطف الله يده على بطن الشيخ الشحمي، وقال له: إنها ملئت علماً لا شحماً. وهكذا كان الأمير يجمع بين يديه العلماء وتقع بينهم المحاورات وينثر بينهم نثار الذهب، ويتحلى من اجتماعهم بأحسن حليّ الأدب، ويوسع جميعهم براً وعطاءً. يرجو به من الله جزاءً، ويرجعون من بيته الرفيع ولسان حالهم ينشد: [الطويل] فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب بل هذا البيت أنشده بين يديه لسان مقال أحد الجلة الحاضرين في بعض الليالي عندما أجزل لهم العطاء من نفائس اللآلي فأصبح تضمينه مجالاً لتسابق فصحاء الشعراء وضمنه جميعهم في قصائد بديعة، من أجلها تضمين الشيخ الحاج حمودة ابن عبد العزيز في آخر قصيدة يخاطب الأمير بقوله: [لطويل] إذا زارك الوفد انثنوا وجميعهم ... من البحر ذي التيار للدر جالب فيشكرك الركبان من كثرة الجبا ... وتشكوك من ثقل العطايا الركائب ومذ صدوراً والعيس كالنخل ... إذْرها سألناهُم كيف العلا والمناقب "فعاجوا فاثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقد ثار عليه ولد ابن عمه إسماعيل بن يونس باي وكفاه الله أمره بعد محاربات طويلة في جبل وسلات فمات حتف أنفه بقسمطينة وخلف ولداً اسمه حسن مات بعد ذلك. ثم إن الأمير حارب الدولة الفرانساويِّة وانفصل معها بصلح سنة أربع وثمانين. وأعان السلطان مصطفى خان على محاربة الموسكو سنة خمس وثمانين. وضم ابني أخيه إلى أبنائه حمودة وسليمان وعثمان والمأمون في التعليم والختان والتدريب على أحوال الدولة حتى جهز لجميعهم محلة وجعل الحكم فيها على التناوب بينهم جميعاً. وقد شاد من المباني والمفاخر ما بقي ذكره، فبنى تربته الشهيرة والمدرسة المجاورة لها. وأقام مكتباً لتجويد القرآن العظيم لصق جامع والده وأسس التكيتين لإيواء الفقراء من الرجال والنساء وإطعامهم وكسوتهم وفراشهم وأوقف على جميع ذلك أوقافاً مهمة أجرى بها التعاليم والصدقات الجارية إلى هذا اليوم، وعطل الخمر، وهدم الحانات، وأجرى كثيراً من السقايات، وأقام الجسور، وجدد كثيراً من الزوايا والمساجد، وبنى المباني الباذخة بباردو. وكان عالماً عادلاً، ذا صيانة وعفاف وفروسية ونجدة وتقى وحلم وكرم، أقام في دولته سوق العلوم والأدب، فكثرت فيها الشعراء وتنافسوا في مدائحه بدواوين من الشعر وأولاهم من الجوائز والصلات ما بعثهم على الاعتكاف على مدائحه. وكانت له في منطقة حبسَة أبدع حامل لواء شعراء تلك الدولة في وصفها بما يتمنى به أشهر فصحاء الملوك أن يكون له مثلها فيوصف بجميل أوصافها التي وصفه بها هذا الشاعر البليغ، وهو الكاتب الشيخ محمد الورغي إذ رصع إحدى عيدياته يخاطب الأمير بقوله: [الطويل] وما فتن الألبابَ مثلك ناطقاً ... بأسهل ألفاظ على المطلب الوعر وقتكَ أذى المعيان في ذاك حبسة ... ترد على أعضائه شهقة المكر وعوضتَ منها في جنانك فسحةً ... يغيب بها ما في الحضيض إلى النسر وسعت لها تأميل كل مؤمل ... وآويت في أكنافها كل ذي ذعر وما ضر أن كانت لجودك آية ... كما أن غيم الجو كمن آية القطر إذا ما شفعت الميم أتبعت منحة ... أو الباء جاء البر منك على الإثْر ولولا الحيا والعلم أنك صالح ... لقلنا بفيكِ العذبِ فأفأةُ السحر وفيك وفيها رحمة حين ينزوي ... أمامك ذو ذنب أو الطالب البر فيأخذ هذا عن عتابك مهلة ... ويطنب ذا فيما يقودك للأجر وإن زدت فيها عند ذاك تبسماً ... فتلك لعمر الله منقبَة الفخر كذلك فلينعتك من كان مغرماً ... بحبك وليصدع بما فيك من سر وقد أفرد له كاتبه المقرب الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز تاريخاً جمع فيه مفاخر مملكته ودولته واستوفى من خصاله الحميدة وقصائد مديحه ما لم يحط به غيره من المؤرخين. ولما شاخ هذا الأمير قدم ولده حمودة باي على ابن أخيه محمود باي الأكبر سناً فجعل ولده ولي عهده وأجلسه لتعاطي الحكم بين يديه والسفر بالأمحال ثم توالى على الأمير المرض إلى أن حضر أجله فتوفي يوم السبت الثالث عشر من جمادى الثانية سنة ست وتسعين ومائة وألف ودفن بتربته التي أحدث بناءها قرب ساباط عجم عليه رحمة الله. 5 المولى حمودة باشا باي [1173 1229] هو الأمير أبو محمد حمودة بن علي بن حسين بن علي تركي. ولد ليلة السبت ثامن عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، وتربى في حجْر ملك والده المعتني به غاية الاعتناء فقد ضم إليه من المربين العارفين بفنون السياسة من لهم عنده ذكر. وقدم لإقرائه العلوم المعقولة والدينية العالمين الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز، ومن ذلك السلم ارتقى إلى رتبته العالية التي بلغها في الدولة، والشيخ حمودة بن باكير فقرأ عليهما ما أهله لكل كمال، حتى أنه لما استكمل السبع عشرة سنة وأراد والده تقديم خليفة لملكه أجمع نصحاء الدولة على اختياره، فأرسل إلى الدولة العثمانية بطلب تقديم ولده المذكور فأسعفته بذلك على عهد الغازي السلطان سليم خان الثالث، ووجهت له الخلعة العثمانية وأحضره والده بالديوان بالحاضرة وقلده الولاية وتمت بيعته غرة المحرم سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، ووفدت عليه الوفود بالتهاني من كل فج وجلس للحكم والأوامر تصدر بختم والده وباشر السفر بالمحلة شتاءً وصيفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وظهرت منه الكفاءه والخبرة وحسن الفراسة؛ أتته امرأة في أحد أسفاره تشكوه افتقاد غلة تينها منذ إبان إثماره كل يوم لا تجد ما نضج منه مع أن ذلك هو توت أولادها فأحضرها في خلوته، وأمرها أن تجعل في أسفل كل تينة أشرفت على النضج شعيرة، وأمر من الغد بجمع التين الذي يؤتى به لسوق البلد ليطعمه العسكر. ولما حضر بين يديه التزم التأمل في ذات الغلة بنفسه لينظر جيدها من رديها حتى رأى وعاء ملآنا من التين الذي في أسفله الشعير فأظهر استحسانه للغلة، وطلب صاحبه يسأله عن سانيته وعن خدمته لها وضايقه في السؤال حتى تبين منه أنه اختلسه للمسكينة فسجنه وأحضرها وأمره أن يحاسبها على جميع ما استغله من سانيتها. ولما توفي والده استقل بالملك وشمر عن ساعد الجد في فك أسر البلاد من سلطة الجزيريين، فبنى سور البلاد وأتم بناءه عام سبعة عشر، وأقام سائر الأبراج المحيطة بها والأبواب الشاهقة. وكان تمام بناء الأبراج عام إثني عشر. وأقام القشل الخمس التي في المدينة وهي قشلة البشامقية وقشلة سوق الوزر، وقشلة سيدي عامر، وقشلة العطارين، وقشلة طريق سيدي المرجاني. وأسكن بها من عساكر الترك نحو الأحد عشر ألفاً وأكثر هن الاحتفاء بهم والتزيي بزيهم حتى أنه اتخذ لنفسه بيتاً بينهم في قشلة البشامقية وعاوض دار حمودة باشا المرادي التي بالقصبة وبناها لمساكنة جنوده بالحاضرة. وأقام عدة فنادق بالأرباض لسكنى زواوة، واعتنى بعمل المدافع في الحفصية والبارود في القصبة. وأحضر جيد الأسلحة وأعمل التطلع على أحوال الجند والبر بهم حتى كان ذلك هو غاية شغله يركب إليهم في أكثر أوقاته. وبنى أبراج حلق الوادي. وجدد أبراج الكاف وسورها وجهز جميعها بما تحتاج إليه. وأرسل وزيره يوسف صاحب الطابع إلى دار الخلافة العثمانية فأحكم وصلته معها سنة عشر. ولما استكمل جهازه حشد الأمحال الضخمة وأوعبها أبطال جنده وأرسلها تحت رئاسة سليمان كاهية الأول سنة إحدى وعشرين فنزل بها على قسمطينة ورماها بالكور والبونبة وطال بها الحصار نحو الأربعة أشهر إلى أن أشرف على فتحها فخرجت منها محلة عظيمة للدفاع عنها آل أمرها إلى هزم المحلة التونسية. ثم جهز الأمير أمحالاً أخرى حشد بها جنوده المجندة وأرسلها تحت رئاسة صاحب طابعه يوسف خوجة ووقع النزال مع الجزيريين في سراط فانتصر التونسيون انتصاراً هائلاً، واستولوا على سائر ما احتوت عليه محلة الجزيريين من العدد الحربية وغيرها، ورجعت المحلات المنصورة غانمة في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف. وزينت البلاد وتوالت الأفراح ومن ذلك اليوم نزعت البلاد أطمار مهانة الجزيريين ولبست ثياب العز وأصبحت رافلة في جلابيب أمنها. وكان قبل ذلك حارب البلنسيان سنة أربع، وبعد الطول انفصل معهم على صلح كان أواخر سنة تسع بعد المائتين والألف. وثار عليه عسكر الترك ليلاً في شعبان سنة ست وعشرين ومكنه الله منهم فقمع ثورانهم، وأطفأ نيرانهم. ومن مفاخر دولة هذا الأمير الأساطيل التي اتخذها في البحر وغنم بها وسبى وانتصر بها على الجزيريين لما اقبلوا عليه من البحر بأسطول عظيم إلى حلق الوادي سنة ثمان وعشرين فعطب كثيراً من أجفانهم وردهم. وقد أغاث بقوة جنوده ابني باشا طرابلس لما استنصروا به على عدوهم فجهز لهم المحال تحت رئاسة وزيره وصهره الحاج مصطفى خوجة سنة تسع بعد المائتين والألف، فانتصر بالمنشية وفر المستولي هارباً فأجلسهم على كرسي إمارة طرابلس وعقد لهم البيعة ورجع غانماً فائزاً بهذا الفخر الذي خلده لمخدومه وكان من رجال دولته الفائزين بالقرب منه. وأما بقية رجال دولته فهم: سليمان آغا كاهية المحلة، وخير الدين كاهية دار الباشا وليها بعد سليمان السابق الذكر، والحاج حسن خزندار، والشيخ محمد الأصرم باش كاتب. وكار الأمير ولوعاً بإكرام الوافدين عليه من ملوك الجهات بحيث إنه خلف للبلاد مآثر ومفاخر لا يحصيها عدد بسبب ما عنده من الغيرة والحمية الوطنية وإعمال الفكر في أمن البلاد وثروتها، وله في ذلك أخبار لا يفي بها غير تاريخ مستقل. وقد تصدى الشيخ إبراهيم سيالة لتأليف تاريخ في مفاخر دولة المذكور وقفت على قطعة منه غير أنه لم يستكمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومن منقولات أخباره في الحرص على نفع البلاد أنه كان لا يلبس إلا طيلسان بلد جربة واتفق له أن لبس الطيلسان الكشمير فلم تمض عليه مدة حتى رأى جميع رجال دولته مثله ففطن لكساد صناعة البلاد ورواج السلع الخارجية، وعند حضور موكب العيد أقبل عليهم لابساً طيلساناً من صناعة جربة، وفي ذلك اليوم ترك جميعهم الطيلسان الكشمير، ولبس مثل لبس الأمير. مزورة عليه مع أنها كانت بعقد عدلين لا ريبة في عدالتهما وهما ميتان والرسم قديم، لكنه مع ذلك رأى من تلهف المدعى عليه بها ما تشكك به في ثبوت ذلك عليه، فأخذ الكاغذ الذي كتبت فيه الحجة وأحضر بعض الإفرنج العارفين بتواريخ إنشاء الكاغذ، وكشف الغيب على أن تاريخ كتابة الرسم كان قبل إنشاء أصل الكاغذ بسنين كثيرة وبالاختبار تبين أن الرسم مفتعل وأن الشهادة مزورة على شهيديها. وكان متخذاً القبة الحمراء أمام باردو لقبول جواسيسه عشية كل يوم يعلم منهم جميع ما وقع ذلك اليوم حتى انفرد بمعرفة حقيقة ما عليه البلاد وأهلها. وبالجملة فإن هذا الأمير تصرف في المملكة تصرف الأب الشفوق في أبنائه وأحيا لها ذكراً، وفك لها أسراً. وبنى المسجد الذي قرب القصبة وأقام به الأحزاب الجارية إلى هذا اليوم بما أوقفه عليها. وكان شهماً حازماً غيوراً، عالي الهمة، عزيز النفس أبيَّ الضيم حامياً للذمار، غير متحمل للعار، خبيراً بسياسة البلاد، نصوحاً لها، حسن التدبير، محباً للعلماء والصالحين، يباشر المهمات بنفسه مقتصداً في شخصياته، حافظاً لأموال المسلمين عن غير مصالحهم، لا تأخذه في الحق لومة لائم، صادق الفراسة التي كاد أن يطلع بها على الغيب، بحاثاً عن الأحوال، كاظماً للغيظ، أصيب بفقد ولده محمد المأمون باي فدخل عليه الشيخ صالح الكواش يعزيه وقال له في تعزيته: إن الله ما بولدك ابتدا، ولا عليك اعتدى، فإن رضيك ذلك فيا حبذا، وإلاَّ فعليك بذا ثم بذا، وأشار إلى الحائطين بميمنته وشماله، فاسترجع الأمير ولازم صبره. ولم يزل على اعتنائه بشأن ملكه إلى أن فاجأته المنية بعد مغرب ليلة الجمعة مفتتح شوال سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله ورثاه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل] حكم المنية نافذُ الأحكام ... والدار ما جعلت بدار مُقام كم فتتت كبداً وكم أبكت دماً ... ولرب عرش ثل بعد نظام ولربما هان المصاب وفيك يا ... حمودة جلل على الأيام يفنى الزمان ورزءُ فقدِك حادث ... يُتلى على الأفواه والأقلام إن تسخُ جامدة العيون بدرها ... فلطالما رويتْ بكأس منام أو تلبس الدنيا عليك حدادها ... فغروب شمسك مؤذنٌ بظلام لكن مآثرك التي خلدتها ... أبقت سناك وأنت تحت رِجام السور ما سوَّاه إلاَّ عزمُه ... ومشيدُ الأبراج تحت ضرام أما الثغور فإنها غصصُ العدى ... وشفا الصدورِ بآية الإسلام ولكم سقيت الرعب من شق العصا ... ومزجت كأس سروره بحِمام مم بعد ما بالغتَ في إرشاده ... وغضضتَ جفنَ الحلمِ غضَّ كرام حتى أطاعك فيهمُ النصر الذي ... خضعوا به قسراً خضوع لِئام وبلغْتَ أنّك إن رأوا لك عسكراً ... هزموا بلا طعن وسل حُسَام وغدت بذلك تونسٌ تفترُّ في ... حلل الهنا عن ثغرها البسَّام محسودة كعقاب جوٍّ منعةً ... بشموخها وكميِّها الضِّرغام والآن فهي لفقده محزونةٌ ... تبكي عليه بكل طرفٍ دام فكأنما عين الحواسد فوقتْ ... لجمالها عن قوسه بسهام لما دعا داعي الرضا فأجابه ... مستسلماً لله في الأحكام فافسح له اللهمَّ عندك منزلاً ... واسمح له بزيادة الإنعام ولقولتي حقق بفضلك فيه إذ ... أرختُ: قيلَ: ادخُلْ لنا بسلامِ 6- المولى عثمان باشا باي [1176 1230] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 هو الأمير أبو النور عثمان بن علي بن حسين بن علي تركي، ولد ليلة الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وسبعين ومائة وألف، وتربى في حجر اعتناء أبيه وعز دولة أخيه إلى أن توفي أخوه فاجتمع خاصته ورجال دولته للمشاورة فيمن يقدمونه للولاية حيث إن الملك يستحقه ابن عم أميرهم وهو أكبر الموالي سناً ونفوسهم منبعثة إلى غير ذلك فاجتمع هنالك صهر الأمير المفتي الشيخ الحاج أحمد البارودي، ووزيره يوسف صاحب الطابع، ورئيس الكتاب الشيخ محمد الأصرم، ومن حضر هنالك لموكب ليلة العيد، وعند اجتماعهم استقدموا الموالي الكرام، فجلسوا على حسب مراتبهم، وكان أبناء صاحب الترجمة وشيعته متقلدين سلاحاً خفياً وهم متأهبون للحرب، وقدم ابنا عمهم وبنوهما على حالة أمن، ولما انتظم مجلس اجتماعهم بادرهم الوزير يوسف صاحب الطابع بالتعزية والتسلية، ثم استشار جمعهم فيمن يقدمونه للولاية، فأجابه أكبرهم سناً وأعلاهم مجلساً وصاحبها استحقاقاً المولى محمود باي بقوله. إن الأمر واضح، وإنما الخيار بأيديكم في المبايعة، فانتهزها منه فرصة وقال. إنما يرث الميت أخوه، وعجل بالبيعة إلى صاحب الترجمة، وتبعه على ذلك شيعته وتمت له البيعة. وأصبح على كرسي المملكة بذاته والتصرف بيد بعض المسارعين لبيعته حتى آل الأمر إلى استبدادهم عليه، وكاد أمر الدولة أن ينحل غير أن مدة ولايته كانت خصبة وكثر فيها الرخاء والأمن وعندما رأى أبناء عمه أشراف الدولة على خطر الانحلال أجمعوا على خلعه فخرجوا إليه ليلاً مع من قام بنصرتهم، وما الله مريد ظلماً للعالمين، فدخلوا عليه واستشهد بعد هرج أطار نوم تلك الليلة. ومن الغد قتل ابناه صالح باي وعلي باي. وسجن مولوده تلك الليلة محمد باي. وكانت ليلة قتل الأمير المذكور ليلة عاشوراء من المحرم الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف ودفن هو وابناه بتربة والده عليهم رحمة الله. 7- المولى محمود باشا باي [1170 1239] هو الأمير أبو الثناء محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد سنة سبعين ومائة وألف وتربى في حجر عناية عمه مضموماً إلى بنيه، وكان هو أكبرهم سناً وهو المقدم عليهم في استحقاق الملك غير أن عمه آثر لوراثة الملك من بعده ولده أبا محمد حمودة باشا فغض الطرف عن ذلك حياءً من عمه وكظم غيظه. ولما انقضت دولة ابن عمه المذكور لم يحتسب أن في رجال الدولة من يؤثر الحيف فكان من أمرهم ما كان في تقديم أبي النور عثمان باشا وعند ذلك أيقن أن المآل هو غصْب حقهم في ملك أبيه وجده، ثم رأى من اختلال الدولة ما أكد له تهمة اغتيال الدولة حيث رأى أنها صارت طُعمة لكل متناول فجمع أمره ونهض هو وأخوه معتضداً بابنيه وتسلم حقه في ملك أبيه بعد استشهاد ابن عمه ووقعت له البيعة صبيحة يوم عاشوراء سنة ثلاثين ومائتين وألف ولم يختلف اثنان في مبايعته فباشر أمور الدولة بلين ورفق وحسن صنع. وحيث إن الإمارة أتته على كبر السن واعتراض المرض فوض الأمر لابنه وتخير الإقامة جوار سيدي أبي سعيد الباجي بجبل المنار والتنزه في المرسى وأحدث فيها أبنية. وقد ثار عليه جند الترك سنة إحدى وثلاثين واجتمعوا ببطحاء القصبة، وقدموا أحد أشقيائهم فتهاون الأمير بشأنهم وتركهم في ظلماتهم يخبطون فلم يستكملوا اليوم الثاني حتى اجتمعوا لديه، وقتل منهم من استحق القتل وأدرك من خرج وعمّ الباقين بحلمه وعفوه وكفى الله المؤمنين القتال. وقد بنى الأبنية الباذخة، وشيد من فضله القواعد الراسخة، فأقام كثيراً من المشاهد والزوايا وأنفق الأموال العظيمة في جلب الأقوات الكافية لسد خلة المملكة في مجاعة عام ستة وثلاثين وعقد الصلح مع الجزائر بشروط مرضية وتم انعقاده في جمادى الثانية سنة ست وثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومن رجال دولته سليمان آغا كاهية المحلة والحاج حسن كاهية دار الباشا والشيخ محمود الأصرم باش كاتب أما عمدة الدولة ووزيرُها لديه فهو الشريف العربي زروق خزندار وكان من أبناء أعيانها، المتغذين بعذب لبانها، وهو أبو عبد الله محمد العربي بن محمد بن أحمد بن عمر زروق بن أبي القاسم بن علي بن أبي رياح فرج بن أحمد بن أبي عمران بن موسى بن عبد الله بن علي بن فرج بن محمد بن عبد الله بن داود بن سليمان بن إدريس بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قدم جده أحمد بن عمر زروق من الغرب إلى حاضرة تونس صحبة الأخوين والده عمر وعمه الشيخ محمد زروق صاحب زاوية ربض باب السوبقة على عهد المقدس الباشا حسين بن علي ونال عنده الحظوة وحج بيت الله الحرام. ولما رجع امتحنه الباشا علي وفر ولده محمد والتحق بالموالي إلى أرض الجزائر، ونال منهم القرب حتى أنهم لما عزموا على العود إلى الحاضرة استودعوه الحريم هناك إلى أن أخذوا قرارهم فاستقدموه بمن معه من حريمهم وكلفوه بمهمات وجرت على يده أبنية باردو المعمور. ولما توفي أقيم في خدمته ولده المذكور وجرى على يده إصلاح حصون الكاف وغيرها من أبنية الأمير حمودة باشا ولما أفضت الدولة إلى صاحب الترجمة الأمير محمود باشا استخلصه للوزارة فأحيا به خطة خزندار وأولاه إياها ثالث ربيع الأول سنة ثلاثين ولم يزل في خدمة الدولة إلى أن ناهز من العمر السبعين سنة وأدركه الحِمام ثالث عشر صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف. وكان هذا الأمير المحمود الأخلاق، الطيب الأعراق، المشتهر بالحلم في سائر الآفاق، ليناً سمحاً كريماً سهل الجانب قنوعاً، ذا بر وحنان تعاطى الشعر غير أنه لم يصل فيه للنسج على منوال والده، يحب الخير للعموم ولا يرضى السوء لأحد، كثير العفو كريم النفس. قضى مدة دولته في أمن وخفض عيش وجذل قلب وسرور إلى أن حضرته المنية فتوفي ثامن رجب الأصب سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف ودفن بتربة عمه عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل] ما مات من يبقي الثنا ذكراه ... ويمينه ظفرت بكل مناه كالسيد الباشا الرضا وهو الذي ... طيب اسمه يُهْدي شذا معناه ملك إذ عد الملوك فإنما ... هُو صالح قد فاق في تقواه أحنى على الضعفاء من لين الحشا ... وأمنُّ من أرواحهم رُحماه وهو الذي بسط الهناء بيُمْنه ... فالهرج ما ناب الورى بدجاه سبحان من جمع الكمال لمفرد ... لم يحكه في ذاك إلاّ ابناه ثم اختفى كالشمس فرصاً لا سنا ... فابناه في فلك الحياة سناه قل للأُّلَى سفكوا دماء عيونهم ... أأسىً بما قرت له عيناه؟ لم ينتقل إلا لخير وافر ... فيرى جزا ما قدمته يداه ولذا بحسن الظن قلت مؤرخاً: ... (كان التحيةَ والسلامَ قراه) ورثاه أيضاً الشيخ أحمد الكيلاني بقوله: هي المنية لم ترهب ولم تهب ... تعدو على الأسد والأقيال في الحجب كم من قلوب غدت منها ممزقة ... ومن جفون تفيض الدمع كالسحب هيهات لا سوقةً تُبقي ولا ملكاً ... كل يصاب بهذا الحادث الأشب فليسع ذو بصر فيما يقربه ... إلى المنجاة ويحميه من العطب كما سعى في طريق الرشد مجتهداً ... نجل الرشيد جليل القدر والحسب (محمود) من حمدت في الناس سيرته ... زعيم آل حسين شامخ النسب ببيت الفخار الذي طالت دعائمه ... حتى ارتقت شفاً عن مركز الشُهب هذي الجدود وقد أغناه ما كسبت ... يمينه من علا عن قول: كان أبي دعاه داعي المنايا فاستجاب له ... ولم يبال بملك لا ولا نشب وار في أثر الإسراء محتفلاً ... بما يؤمل للمخلوق في العقب لله يا رمس كم واريت راق منظره ... وطاب مخبره في العجم والعرب لما قضى نحبه أنشأ مؤرخه ... (محمود حن لفوز الخلد في رجب) 8 المولى حسين باشا باي [1192 1251] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 هو الأمير حسين بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف، وتربى في حجر اعتناء والده، وهو في نفسه عالي الهمة. ولما استقبل بالملك والده أولاه إمارة الأمحال، فسافر بالمحلة حتى اطلع على سائر حال المملكة، ورتب أحوالها ثم تولى أمر الدولة فباشر الحكم وإدارة أمور الدولة بتخلي والده له، وقام لها قيام الزعيم معتضداً برجال الدولة مثل صهريه حسين خوجة باش مملوك وشاكير صاحب الطابع ومن انضم إليهما من رجال دولة والده، وأحسن التصرف في المملكة والرعايا. ولما احتضر والده عهد بالولاية إليه، فاستقبل بالملك صبيحة الثامن من رجب سنة تسع وثلاثين وألف، ووفدت الوفود من أعيان سائر جهات المملكة للبيعة والتهنئة، فجرى على سنته المستقيم. ولم يرع الدولة والأهالي إلا فقد شخص والده. فابتدر إلى إنشاء أسطول تألف من عدة سفن وكبح ثورات كثيرة أخذت تمد أعناقها لروع أمن دولته فصد جميعها بحزمة وعدده. واحتفل لعرس ابنه بنيه المولى محمد باي احتفالاً بعد العهد بمثله بحيث إنه أظهر فيه من بذاخة الملك وارتفاع شان الدولة وبستطها وعزها ما لا يحيط بوصفه القلم. ولما أقبل المهاجرون من الجزيريين أوائل سنة ست وأربعين قابلهم بإحسانه وفضله وأحلهم محل الأمن. ثم إنه اتخذ العسكر النظامي من أهل المملكة، ووفدت عليه الخلعة النظامية في جمادى الأولى سنة وأربعين ومائتين وألف صحبة الداي مصطفى البلهوان كبير جوانب الترك والشيخ أحمد بن أبي الضياف أحد أعيان الكتاب فلبسها في يوم مشهود وتبعه في اللباس المذكور سائر رجال دولته، واعتنى بالنظام وأسس تربته، وابتنى لسكنى العسكر النظامي قشلة المركاض التي لم يعهد لها مثل في الاتساع وإحكام البناء وحسن التنظيم. وأقام بناء البرج العظيم الذي قرب السيدة المنوبية قرب باب القرجاني وما حوله من السور، وأقام أبنية كثيرة بباردو وحمام الأنف وغيرهما، وبني عدة زوايا للأولياء بالحاضرة وغيرها لا زال اسمه مخلداً على بنائها، إلى غير ذلك من الفاخر التي غرست حبه وحب ذريته في قلوب كافة أهل المملكة التونسية ولا سيما أهل حاضرتها فإن دولته معدودة عندنا من مواسم الأيام. وهو الذي أطلع أقمار ملوكها شموساً في دياجي الظلام، فكان بنوه في الخضراء هم زينة أفقها، الراكبون أعز بلقها، هم الملوك العظام، والسعداء الكرام محمد باي، والصادق باي، وحمودة باي، والمأمون باي والطيب باي، والطاهر باي، والعادل باي، ومحمود باي، ومراد باي، وهم الذين ذاع على أردانهم عابق البشر، وعوذهم الله بعدد العشر. أما محمود ومراد فقد توفيا في الصغر، وأما العادل باي فقد توفي سنة أربع وثمانين، وأما المأمون باي فقد توفي سنة ثمان وسبعين، وأما الطاهر باي فقد توفي سنة وثمانين ,أما حمودة باي فقد بلغ إلى ولاية الأمحال وتوفي سنة خنس وثمانين ومائتين وألف، أسبغ الله على جميعهم الرحمة والنعيم، وأدام عز لملك بمن بقي من ألهم الكريم. وكانت ولادة المرفع أبي الحسين ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وارتقى إلى ولاية الأمحال بعد وفاة أخيه أبي محمد حمود فهو اليوم ولي العهد، أدام الله به ابتهاج ذلك المجد. وكانت ولادة المرفع الطيب الغراسة في ثامن ذي القعدة الحرام سنة وثلاثين بعد الألف والمائتين، أدام الله به للملك أكرم جفن قرير، في ظل دولة مولانا المشير. وقد تزينت البلاد في دولة صاحب الترجمة مرتين سروراً بسلامته أحداهما حين سلم من عثار كروسته، والثانية لما نقه من مرضه، وفي كلتيهما أظهرت البلاد من مفاخرها ما لا حد له من الفرش والآلات والتحف والأكسية مما يدل على كمال علو همة أهاليها وغاية لطفهم وودهم لأميرهم. وكان شهماً هماماً وقوراً، عالي الهمة، محباً لأعالي الأمور، محافظاً على شارات الملك، كرم النفس لطيف الأخلاق، شجاعاً مهيباً، سمحاً كثير العطايا، محباً لخير البلاد وأهلها، حليماً، أمنت في دولته البلاد والعباد، وهو بين بنيه قرير العين جذلان الفؤاد. إلى أ، حضر أجله فصار إلى جنة المأوى ودفن بالتربة عليه رحمة الله ورثاه الشيخ محمد الخضار بقوله: أيقظ فؤادك لات حين منام ... وأبك الرسوم بكل طرف هام وانظر إلى الأيام ماذا أنزلت ... من شاهق لا درَّ للأيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أخلين من كسرى محل سريره ... وسلبن تاج الملك من بهرام وأرعْن بالحدثان كل مملك ... ونبذن بالجزعان كل إمام أمم حدا بهم الحمام فأسرعوا ... وتبددوا كالعقد بعد نظام وحواهم سلك الفناء كما حوى ... هذا المملكَ بعد عز مقام رحل ابن محمود حسين وانطوى ... كالبرق أسرع عليه ثوب ظلام فهوى به عيش المكارم واكتسى ... وجه الزمان عليه ثوب ظلام إن ما تحاماه الحمام فإنه ... نّمَّى الحماة لشوكة الإسلام ولكان حباب الأمور مجربا ... بادي البشاشة سابغ الأنعام خمدت بدولته الحروب وأخصبت ... فيها الذرى للناس والأنعام يا واقفاً بضريحه استغفر له ... بعد السلام عليه ألف سلام وعليه من منن المهيمن رحمة ... موصولة تقضي له بدوام ما قال لما اقبروه مؤرخ: ... يا قبر ألقي فيك بدر تمام 9ت المولى مصطفى باشا باي [1201 1253] هو الأمير أبو النخبة مصطفى بن محمود بن محمد الرشيد ين حسين بن علي تركي. ولد عام واحد ومائتين وألف، وتربى في حجر اعتناء والده، ولما فوض والده وجميع مدة دولة أخيه، فكان أعرف الناس بأحوال أطراف المملكة وأحوال الأعراب وأهل المدن والقرى. ولما توفي أخوه تقدم للملك فبايعه الناس البيعة الخاصة بمجرد وفاة أخيه في الحادي عشر من المحرم الحرام سنة إحدى وخمسين وما ئتين وألف، وبعد ذلك هرع الناس لبيعته وتهنئته. فابتدأ الأمر من حيث انتهى إليه أخوه ولم يغير شيئاً على الدولة، وأعاد المجلي الشرعي للاجتماع بين يديه على عادته السابقة يوم الأحد. ووفد عليه من الدولة العثمانية نيشان أمير الأمراء، فلبسه في اليوم العاشر من شعبان سنة إحدى وخمسين ومعه سيف محلى، فهو أول من لبس النيشان المذكور في ذلك اليوم المشهوج، وهو أول يوم ضربت فيه النوبة النظامية. واعتمد على مصطفى صاحب الطابع وصهره مصطفى آغا وجرى على سنن أخيه في الاعتناء بالعسكر النظامي وأتم بناء قشلة المركاض وحشد إليها كتائب العساكر في سنة اثنتين وخمسين وهو أول من صاغ نيشان الافتخار ونقش عليه اسمه بالألماس. وقد بني زاوية الشيخ بن مسيكة. وأحيا مسجد الطراز ورتب به قراء ومحدثين. واستناب كبير أ÷ل الشورى من العلماء المالكية الشيخ إبراهيم الرياحي في حج بيت الله الحرام. وكان براً بأخيه المقدس وبنيه الكرام مع أن له ولدين وهما أحمد باي، ومحمد الأمين باي. أما الثاني فقد توفي سنة ثلاث وتسعين، وأما الأول فكان ولي عهد والده ومع ذلك جعل ولاية الأمحال يتناولها ولده ولي عهده المذكور وأكبر أبناء أخيه مرة بعد مرة. وقد عرف بالرأفة وكرم النفس والذهن الوقاد في فهم ما يرد عليه من النوازل إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي نالها بكرم أصله. وكانت أيام دولته أيام وسكون إلى أتاه أجله فسار إلى رحمة ربه يوم الثلاثاء عاشر رجب سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن بالتربة عليه رحمة الله ورثاه الشيخ محمد الخضار بقوله: [كامل] جد الرحيل إلى أشط قرار ... والركب شد حيازم الأكوار والدهر يعبث بالكرام وينتقي ... قبل الأراذل أنفس الأحرار لم ينج من حدثانه ذو موكب ... حفل ولا ذو جحفل جرار آلي الزمان بحلفة مبرورة ... أن لا يغض الجفن عن ديار منع البقاء ولا بقاء لراحل ... يطوي سواد الليل إثر نهار نزل الحمام بساحة من دونها ... شهب الدجى ومنازل الأقمار فلذا همت ديم الدموع زواخرا ... تبكي الدفين بوابل مدرار والملك السلطان ليس لذي يد ... في الدهر بل للواحد القهار هذا الضريح لمصطفى بن أبي الثنا ... ناهيك من ملك عزيز الجار قد كان براً بالرعية رافعاً ... للشرع أعلى رتبة ومنار ذا عفة ونباه وسماحة ... وجلالة وسكينة ووقار يعفو عن الزلات بعد تمكن ... فضلاً ويقبل من ذوي الأعذار فعليه من منن الإله عواطف ... تسقي ثراه برحمة الغفار لما مضى لسبيله أرخته ... ماضي له الفردوس أكرمُ دار 10 المولى المشير أحمد باشا باي [1221 1271] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 هو المشير أبو العباس أحمد بن مصطفى بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي. ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ونشأ بين يدي والده بتربية مصطفى صاحب الطابع إلى أن أتت الدولة إلى والده فتناوب سفر الأمحال مع ابن عمه. ولما توفي والده تقدم للولاية وأجلسه على كرسيها ابن عمه وإخوته وتمت له البيعة يوم الثلاثاء عاشر رجب الأصب سنة وخمسين ومائتين وألف. فنهض للمملكة نهوضاً لم يسبق له نظير وأرسلت له الدولة العثمانية الخلعة السنية ونيشان المشيرية صحبة أريالة بك مصطفى البلهوان باش حانبه ومن بمعيتهما، وذلك على عهد السلطان محمود خان. فتقلد لباس المشيرية في مركب مشهود صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين من صفر الخير سنة أربع وخمسين ومائتين وألف. وعند ذلك نظم دولته وجمع رجالها، فكان مربيه مصطفى صاحب الطابع هو ذا اليد العليا والمرجع في الأمور، واستوزر مملوكه مصطفى خزندار، وجعل أمر الحرب لنظر مصطفى آغا صاحب الزغاية، ونظارة البحرية لمحمود كاهية، والتنفيذ للداي كشك محمد، وأمور الخارجية لنظر النصراني جوزاف راف. وجمع كتائب العساكر، وبنى الرباطات والأبراج، فبنى قشلة الطوبجية سنة ست وخمسين، وأتم بناء قشلة الخيالة سنة ثمان وستين، وبنى رباطات المحمدية وقصورها وحصونها التي أتم بناءها سنة تسع وخمسين. واعتنى بالعساكر فجمع تحت رايته المنصورة من العسكر النظامي ما ينيف على الثلاثين ألفاً، واعتنى بتنظيمهم غاية الاعتناء يحضر مواكب تعليمهم بنفسه، وله بجميعهم برور تام مع شدة في الحكم العسكري ووقوف في مقتضيات القوانين العسكرية حتى انتهى في ذلك إلى أخبار يضيق النطاق عن حصرها. وقد أحيا ثغر غار الملح وعمره بالعدد والعدد، وشحن القشلة الكبرى وأبراج حلق الوادي بالرجال والمدافع والأسلحة النارية حتى طار له بذلك صيت عظيم. ولما لم يكف لذلك مدخول البلاد وظف مكوساً وأرباعاً وأداءات على الأشياء المبتاعة توفر بها دخل الدولة. وتقدم لها حمود بن عياد فاستخلصها مضاعفة وهو المصدق في كل دعوى وتكلف بشؤون العسكر من طعام ولباس وغيرهما، فكان هو القابض والدافع، وجميع مداخيل الدولة له وجميع مخاريجها من تحت يده مدة خمس عشرة سنة, وأقام معمل الملف الذي قرب طبربة على يده وأتم بناءه سنة ستين ومائتين وألف. ولما سافر محمود بن عياد إلى باريس خلفه في قبض الأموال ودفعها في الدولة اليهودي نسيم شمامة. ولما استكمل المشير استعداده خرج بنفسه لتفقد حال أطراف المملكة في جيشه الكثيف في ربيع الأول سنة ست وخمسين، واستصحب في سفره قاضي حاضرته الشيخ محمد بن سلامة، وباش كاتب الشيخ محمد الأصرم، وكاتب سره الشيخ أحمد بن أبي الضياف وغالب رجال دولته فطاف الناحية القبلية ودخل الوطن القبلي وعمل الساحل وصفاقس وقابس وفيها قتل القاتلين لآخذي المكوس التي رتبها وركب البحر ودخل إلى جربة وعاد إلى حضرته، وبذل في سفره المذكور مالاً عظيماً. ولما رجع أبطل جميع أداء الزيت والزيتون وجعل على شجر الزيتون قانوناً يؤديه سنوياً وأصدر بذلك منشوره الشهير المؤرخ بالرابع من جمادى الأولى سنة ست وخمسين. وأبطل بعد ذلك ملكية العبيد في 28 المحرم الحرام سنة اثنتين وستين. وسافر باريس لمقاصد سياسية فخرج من الحاضرة صبيحة يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وستين مصحوباً بخاصة رجال دولته ورجع يوم الأربعاء الثاني عشر من المحرم الحرام سنة ثلاث وستين. وأقام بناء باب البحر بناء في غاية الضخامة والإحكام، وأتم بناءه سنة أربع وستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وفي أثناء مدة دولته شيد رسوم رسوم العلوم، ببنائه المحكم المعلوم، فجمع آلاف المجلدات من الكتب وأوقفها بجامع الزيتونة وجعلها في صدر الجامع في عشرين خزانة، وكان إدخالها للجامع في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وخمسين، وأقام بجامع الزيتونة ثلاثين مدرساً انتخبهم من علماء عصره؛ منهم خمسة عشر من المالكية، ومثلهم من الحنفية، ويقرئ كل واحد منهم درسين في الجامع من أي فن شاء ويأخذ ريالين. وعين لإجراء الجراية المذكورة مدخول بيت المال وكان ذلك في السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف, وجمع الأوقاف الموقوفة على الدروس بجامع الزيتونة، وجعلها لنظر زكيل ورتب منها اثني عشر مدرساً ستة مالكية ومثلهم حنفية يأخذ كل واحد منهم ثلاثة أرباع كل يوم عن درسن يقرئهما بالجامع. وجعل طابعاً للقاضي المالكي. وأجرى على أهل المجلس الشرعي من المالكية جراية دار الباشا التي كان اختص بها المشايخ الحنفية، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وخمسين. وبالجملة فقد صرف جانباً عظيماً من همته في الاعتناء بالعلم والعلماء حتى رأى ثمار غراسته في دولته وأصبحت تونس كثيرة الفحول، من حفظة المعقول والمنقول. وهو أول من اتخذ عمل المولد النبوي بإحياء ليلته والحضور لقراءته صباحاً بجامع الزيتونة في موكب يحضره جميع رجال الدولة بملابسهم الرسمية ويحضره جميع العلماء وأمر بإطلاق المدافع تبشيراً به. وهو من العمل الذي لا يضيع له عند الله. وحين وقعت الدولة العثمانية في الحرب مع الروس جهز لها من عسكره النظامي آلافاً رئاسة رشيد، وشحن بهم وبعددهم ومونتهم مراكب عظيمة وجهها إعانة لخلافة الإسلام على عهد السلطان عبد المجيد خان. وكان شهماً حازماً، ذا صولة عظيمة، عالي الهمة، وافي الكرم، يعطي العطايا الباهظة، ولوعاً بتعظيم شأن الدولة، لا يهاب المخاطر، خصه الشيخ محمد بن سلامة بتاريخ ضمنه كثيراً من قصائد مديحه. ولم يزل في صولته إلى أن أصابه فالج عطله مدة وأدركته المنية فتوفي بحلق الوادي ليلة الخميس السادس عشر من شهر رمضان المكعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف ودفن بالتربة عليه رحمة الله. 11 المولى المشير محمد باشا باي [1226 1276] هو المشير أبو عبد الله محمد بن حسين بن محمود بم محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، وأمه فاطمة بنت محمد بن عثمان بن علي بن عثمان وفاطمة هاته أمها شلبية بنت على بن مصطفى الشريف ممن عرفوا بالشرف ويلبسون علامته بحاضرة تونس. أما عثمان الأعلى جد فاطمة المذكورة فوالدته تركية بنت حسين خوجة صهر الداي أسطى مراد، ويقال: إنها لها شرفاً من قبل أمها، على كل حال فإن المشير المذكور له شرف يتصل به. وقد ولد سنة ست وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في بذاخة عز دولتي جده وأبيه. وزوجه والده بابنة شيخ الإسلام البيرمي الثالث، وأقام له العرس الفاخر الذي جرى على نسق أعراس الملوك العباسيين. وأولم له بدعوة الجفلى، وأظهر فيه فخامة الملك ومآثر الفضل والبذل ما لا يدخل نحن حصره، وكان زفافها إليه ليلة الخامس عشر من شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين وألف. وسافر في الأمحال على عهد تملك عمه فجعلها عمه بينه وبين ولده يتداولانها إلى أن توفي عمه، فاستقل هو بولاية الأمحال، وباشر خفي الولاية وجليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ولما توفي ابن عمه قبل هو البيعة العامة صبيحة يوم الخميس السادس عشر من شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف. ووفدت عليه الوفود للبيعة والتهنئة، فزان ملك آبائه وأجداده كابراً عن كابر، وأقر سائر الوزراء على وظائفهم، فكان مصطفى خزندار وزير العمالة والمال، ومصطفى آغا وزير الحرب. وجعل خير الدين وزير البحر، والنصراني فيلسين راف وزير الخارجية، وجعل التنفيذ بيد الداي محمد، وأقام صهره إسماعيل السني صاحب طابعه. واستدرك حال المملكة وضنكها، فأمر بتسريح جموع العساكر التي وجدها ولم يبق من عشرات آلافها المتآلفة إلا من بهم الحاجة للحراسة وحفظ شارات الملك، وأجرى على من أبقاهم فيوضاً من الإحسان، وهواطل من امتنان، وزيادة على تخليص جراياتهم التي يستحقونها، واستصحبهم معه في تنزهاته وخروجاته الشهيرة، وأطعمهم أعز الطعام من اللحوم والطيور والفواكه والمصنوعات السكرية البديعة، فأصبحوا في نعيم التنعيم، وخلد بذلك لنفسه ذكراً حميداً بين جموع السلامة من آلاف العساكر التي انتقاها، ولحفظ الراحة تخيرها وأبقاها. ولما وردت عساكر الجهاد الذين كانوا في دار الخلافة العثمانية أكرم قبولهم وأثنى على صنيعهم الحميد وتلقاهم بغاية البر والإنعام وجازاهم بزيادة الخمس في مرتب جميع العساكر النظامية، وكان ذلك في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وسبعين. وقد أسقط غالب الأداءات التي وجدها مضروبة على المبيعات من الحيوان وغيره مما ضاق به ذرع المكاسب العمومية. وأزال عن الإعراب وسكان القرى جميع ما كانوا فيه من ضيم المكوس وأداءاتها وضرائبها وخطاياها، وفك أسرهم من ذلك كله وعوض للدولة من جميع ما أسقطه وأزاله أداءً معيناً على الرجال القادرين من الأعراب وسكان القرى قدره ستة وثلاثون ريالاً سنوياً لا يكلفون بغيرها، وأصدر بذلك منشوره الشهير المؤرخ بأواسط شوال سنة اثنتين وسبعين، وذلك بعد أن أطلق المقَيَّدِين في العسكرية. فاطمأن الناس عموماً وأقبلت الأعراب وسكان القرى على شأن الفلاحة آمنين على كسبهم من الخطايا والضرائب. وساعد البخت بحصول الخصب العظيم، فأثرت المملكة ثروة بعد العهد بمثلها مع الأمن العام، وكثر التبايع وتعاطي الأسباب، وحصل الرخاء وتحسن المعاش، وأباح بيع اللحوم على تراض المتبايعين، فتنافس القصابون في اختيار الغنم والبقر التي يذبحونها. وباشر الملك بنفسه، وأحيا وظيفة الحسبة بالاحتساب العام على مصالح البلاد ةالرعية والأوقاف بحيث أن محتسبه العام قائم في سائر الحقوق العامة بتفقد السجون وإعادة النظر في استحقاق المسجونين، ومن وجده مظلوماً أخرجه، وأقام من خواصه حارسين على تصرف العمال وجواسيس في سائر الأعمال مع ما له من الاهتمام بالبحث عن حال الرعية، يخرج للصيد، فينفرد عن الجموع الذين يخرجون معه، ويتقصص أحوال العمال من الأعراب العابرين السبيل. وتشدد في عزل من يشكوه أهل عمله العمال وإن كان من أقرب الناس إليه، واقتص لهم منهم ما أمكنه حتى حال بين العامل والمعمول، بما فوق المأمول. واجتهد في تأمين الرعية في الحواضر والبوادي فأعمل السيف في قطاع الطرق والمحيرين لراحة السكان بكثرة السرقة, وقتلهم سياسة شرعية، حتى انقطع المتعاطون للسرقات، واطمأنت العباد والبلاد، وعدل بين الرفيع والوضيع وقبل الشكايات في مجلس حكمه بآحاد رجال دولته وأنصف المظلومين من غير محاباة. وكان محباً لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظم العلماء فأبقى على جامع الزيتونة ما تأسس فيه، وأجرى عمل المولد النبوي، واعتنى بتنظيم المجلس الشرعي، فبنى دار الشريعة المعمورة وجعل الحكم فيها يومياً يحضرها القاضيان المالكي والحنفي، ويحضر مع كل واحد منهما في كل يوم مفت من شيوخ مذهبه. ويجتمع جميع المجلس الشرعي في كل يوم خميس لفصل نوازل الخلاف بمحضر الداي فكان هو المؤسس لديوان الشريعة المطهرة، وقد فتحه صبيحة يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، وحضر يوم فتحه بنفسه اهتماماً بشأن الشريعة الإسلامية أدام الله عزها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأتم الجسر العظيم الذي ابتدأه والده على وادي مجردة في طريق بنزرت، فكان إتمامه بغاية الإحكام. وأقام جسراً بين سوسة والمنستير قطع به سعي الثعابين السارية، فتواصل ما بين البلدين، بدون أين، وأصلح قنطرة وادي أبي حميدة بالفخص قرب زغوان. وبنى زاوية الشيخ سيدي مدين التي ببطحاء سيدي المشرف وأتقن بناءها ويسر بها مرتفعات السكنى لأهل الحرمين الشرفيين، وأقام بها أحزاباً وأوراداً أوقف عليها أوقافاً لم يزل ثوابها جارياً عليه, وأمر بجلب ماء عين زغوان العظيمة الماء المنهمر لكفاية البلاد مؤونة العطش، فجلب الماء في الأنابيب الحديدية الضخمة من بلد زغوان إلى تونس، إلا أن وصوله كان بعد انتقاله إلى جنة النعيم. وأقام المجلس البلدي لتنظيم البلاد والنظر في عامة مصالحها، وجعل أعضاءه من أعيان أهل البلد تحت رئاسة مستشار خارجيته حسين فكان هو أول واضع لهذا النمط الكفيل بمصالح البلاد في ربيع الأول سنة خنس وسبعين ومائتين وألف. وكانت مدة دلته أحسن من الابتسام في ثغر الأيام. وُلِعَ بسكنى المرسى، وأقام فيها الأبنية الفاخرة الدالة عل علو همته، ولازمها في أغلب أحايينه، وضرب حول أبنيته الضخمة فسطاطه الضخم المتسع الرائق الكسو والابتهاج، وجعله محكمته يجلس فيه عند الحكم، ويحضر به رجال الدولة وأرباب الخدمة، وخيام العساكر وخيام العساكر الحارسة مضروبة حوله وقلوبهم جذلانة مطمئنة بالسرور والاستبشار. وخرج إلى حمام الأنف الشامخ، فتوجه بالأبنية الضخمة التي ثبتت على قديم بنائه الراسخ، وزادر فيه أبنية كثيرة وضرب حولها الخيام، وأقام فيها عساكره الكرام، وقضاها أياماً يقصر اللسان عن وصفها بذل فيها العطايا والتكرمات، ونفيس المطعومات والمشروبات، ولازم به الطراد والصيد مصحوباً بآحاد أهل الرماية، وإن برز على جميعهم بما له من الإصابة والدراية، كثيراً مات يكون راكباً في كروسته فيرى الطائر فيتناول مكحلته ويصيبه حالة كون كروسته سائرو. ولربما عين ريشة من أحد جناحيه فبل الرمي فلم يخطئها ويجعل الخاتم غرضاً فلا تخطئ رصاصته حلقته. وكم له في هذا الباب من خبر مع أنه فارس الفرسان، لا يجاريه في مضمار الفروسية والرماية إنسان. وقد أبعد الشيخ علي الرياحي في قصيدته الطرادية التي امتدحه بها في بعض خروجاته للصيد لإذ قال في أثنائها: [الكامل] ملك تعود بالنوال فكفه ... تنلُّ واكفةً بما لم يسأل حتى أضاف الوحش في فلواته ... وسقى دم الرِئْبَال بنت الجيأَلِ في يوم صيد هاج حرب هياجه ... لله من يوم أغر محجل نفسي الفداء لمن حوله فيه المدى ... وأبان آية مجده المتأثل ما عنَّ فيه واقع أو طائرٌ ... إلا رماه بالقضاء المنزلِ يرمي فيُمصي ماشياً أو راكباً ... متأملاً أم ليس بالمتأمل فإذا نظرت إلى مجال طراده ... لم تلف غير معقرٍ ومجدلِ عجباً كان ثقيله ذا فطنة ... أم كان فيه مغنطيس المقتل لو ساعدته إلى المطار سبوحه ... شن الإغارة بالسماك الأعزل كرمت فكانت للكريم وقلما ... تجد الشبيه لغير مشبهه ولي يا فارس الفرسان غير مدافع ... وأجل من نيطت حلاه بمحمل يا ابن الحسين محمد المولى الذي ... ورث السيادة أفضلاً عن أفضل إن الفراسة والرماية دون ما ... لك كم حلى المجد الأعز الأطول وقد بنى بين قصور باردو المعمورة قصراً تحار دونه الألباب، أتى فيه من بدايع الأبنيو بالعجب العجاب. وكان مع ذلك ولوعاً بكثير من دقائق الصنائع بحيث أنه استخدم عنده لعمل نفسه معامل كثيرة في الصياغة والسبك والخرط والتمويه وعمل التحف من الأواني ومستقطرات العطور الفائقة وعمل العنبر الرفيع مما كان به في دولته رواج المصوغات والأحجار الثمينة وأنواع الطيب الرفيع ورقائق الصنائع الفاخرة حتى أنه أرسل إلى فرانسا وجلب المعامل والآلات. وفي أثنائها جلب أحرف الطبع وآلات الطبع الحجري واستعمل المطبعة في الحفصية لطبع التذاكر الخفيفة العمل فهو أول من أدخل المطبعة إلى البلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وهو أول من ضرب سكة الذهب والفضة والنحاس باسمه في أحد وجهي المسكوك واسم صاحب السلطنة العثمانية بالوجه الآخر وكانت قبل ذلك مسكوكات الفضة والنحاس لا غير إنما يضرب فيها اسم صاحب السلطنة العثمانية، ويذكر في الوجه الثاني اسم تونس فقط. فتح لذلك دار السكة التي بباردو واعتاد ضرب جميع أنواع السكة عند رأس كل سنة وتوزيع سائر أنواعها على آل بيته ووزرائه ورجال دولته فهو أول من أجرى هذه العادة التي تنبئ على حسن بذله وكرم فضله. ومن ولوعه بدقائق الأشياء أنه أرسل إلى النمسا في جلب تحف الأواني الثمينة وقد تيسر له التوسع في أبواب الترف مع إتقان تنظيم منزله الرحب العامر بتنزيل كل واحد من حاشيته وأتباعه منزلته. وما منهم واحد إلا وهو يرجوه ويخشاه، حتى كان قصره على أحسن حالة من التنظيم والسكون وغاية إتقان وع الأشياء في مواضعها مما يتلى حديثه في علو الهمة والبذاخة ولطف المأكل المتنوع الرفيع والملبس المتجدد الفاخر، والتطيب بما لا حد له، وحسن المركب على الخيل المسومة والسروج المملوكة المرصعة. وتنعم في رغد ذلك العيش سائر آل بيته وخواصه ورجال دولته حيث كان ملتزماً لاستصحابهم اصطناعاً لهم، ومع كمال تودده، جميعهم يخشى سطوته لعلمهم بعدم مبالاته في الحق وإن كان آية الله في الوفاء والحنان مع الكرم الحاتمي الذي كفى به كثيراً من الناس وجلب به قلوب الخاصة وأثّل به الصيت الشهير في الممالك الأجنبية. قدم على عهده ولد ملكة انكلترا فأكرم نزله وأراده من بذاخة الملك ولطف الصنيع ما لم ير مثله في ممالك الدنيا، وأهدى إليه من النفائس الدرية والتحف العنبرية والملابس المنوعة والسروج المرصعة ما عظم به شأن المملكة، كل ذلك كان بما جبل عليه من كرم النفس وسعة ذات اليد وعلو الهمة, والأهالي في أثناء ذلك كله متواصلو الأمن والأفراح، وجميع أرباب الصنائع والفلاحة أصبح السعد مساعدهم بمساعدة لصاحب مملكتهم. ولما مهد السبل أصدر عهد الأمان لسائر السكان في حفظ النفس والمال والدين والعرض، وعم بذلك سائر أهل الملل المختلفة وبناه على إحدى عشرة قاعدة هي أصول قوانين الجنايات، وكان صدور المنشور المذكور بتاريخ عشرين من المحرم سنة أربع وسبعين، وطبع بالطبع الحجري يومئذ وجمع أعيان علماء البلد ورجال الدولة للمفاوضة في العهد المذكور ليضعوا قوانين الجنايات المبنية على ذلك الأساس. أما كرام بنيه فه سعيد باي، وحسين باي، محمد الناصر باي، وإسماعيل باي، والهادي باي، ومحمود باي، أما الثلاثة الأخيرون فقد أسرعوا إلى النعيم على حين الصغر. وأما أكبر بنيه فقد أدركته السعادة في السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ثمان وسبعين. وكانت ولادة حسين باي في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة خمس وخمسين. وكانت ولادة الناصر باي في الثامن والعشرين من شوال سنة إحدى وسبعين. ولايوم هما أعزهما الله من أكمل كواكب أفق الملك، وأجمل درر ذلك السلك. وقد كان أبوهما صاحب الترجمة شهماً ثباً، حازماً بحاثاً عن الرعية، سليم الطوية، دمثَ الأخلاق، لين العريكة، جذلان القلب، متمتعاً بأمن المملكة ونضارة عيش أهلها إلى أن أدركته السعادة فسار إلى رحمة ربه ليلة السبت السادي والعشرين من صفر الخير سنة سبعين ومائتين وألف ودفن بالتربة ورثاه الشيخ محمد بيرم الرابع بقوله: [الطويل] عجبت لهذا الدهر يسلب ما يسدي ... ويلحم من نسج ابن آدم ما يسدي ويورده محض السراب مخادعاً ... وبمزج في إطعامه السم بالشهد ومصداق ذا هذا الموسد خده ... ثرى الرمس معتاظاً من الدَّست باللحد تزخرفت الدنيا إليه وأوسعت ... له أملاً لم ترفه فيه بالوعد وغالته مقظوم الأماني مسارعاً ... لقد سل سل السيف من أوسع الغمد طوته كما يطوى الرداء ولم يكن ... بقاء لغير الواحد الدائم الفرد ألا أنه الباشا المشير محمد ... سليل الملوك الشم سلسلة المجد مليك له من نفسه الفخر وافراً ... وقد ضم الملوك الشم من الأب والجد لقد كان ذا بشر وصدر موسعٍ ... رحيماً بريئاً من مصاحبة الحقد وكم فاه عن حسن الطوية مفحصاً ... فيرجو الثواب الجزل عن حسن القصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تولى أمور الناس فانتعشت به ... نفوس وحلت منه في كتف رغد ولكنه لم يؤت في الملك مدة ... سوى حِجَج لم تكمل الخمس في العد ولما أتى الحكم المحتم لم يكن ... لإرجاع محفوظ الوديعة من بد مضى فبكت حتى المعالي تأسفاً ... ومنه اشتكت فقدان واسطة العقد فَعِيلَ إذا صبر وسالت مدامع ... لَوَ أنَّ مسيل الدمع عن واجد يجدي وأنّ جميل الظن في الله أنه ... يسامحه والرب ذو الرفق بالعبد كما دلنا طيب الثناء فإنه ... دليل إلى حسن المصير له يهدي وقلت استمع ما الله أجرى بخاطري ... وأرخته: مأواك في جنة الخلد 12 المولى المشير محمد الصادق باشا باي خلد الله بقاءه [1229 1299] هو المشير أبو الوفاء محمد الصادق بن حسين بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، يتصل بشرف والدته السابقة الذكر في ترجمة شقيقه المشير الثاني، وهو ثاني عشر ملوك آل بيته العظام، وخامس آبائه الذين تجملت بتاج ملكهم عروس الأيام. ولد في الثاني عشر رجب الأصب سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، وتربى في حجور عز دولتي جده وأبيه. وحصل من اعتناء والده به ما بلغه إلى الشأن النبيه, وقد تقدم إلى ولاية الأمحال أواسط شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف. وخرج في اول محلة فأوقع ببغاة عمدون حيث وجدهم متخبطين في أشراك بغيهم، فأوقع بهم. وظهر منه في تلك المحلة من حسن السعي والتدبير ما حمد به خبره حيث أنه بعد أن قهرهم استعمل معهم الرفق والحلم واصطنعهم للملكة. ولازم السفر بالأمحال مدة دولة المقدس أخيه إلى أ، اشتد المرض بأخيه وكان هو مسافراً بالمحلة في باجة فأرسل إليه أخوه واستقدمه على جناح طائر فحضر مشهد جنازة أخيه. وقبل البيعة العامة من كافة رجال الدولة والأهالي صبيحة يوم السبت السادس والعشرين من صفر الخير سنة ست وسبعين. ووفدت الوفود لبيعته وتهنئته فأقر سائر رجال دولة أخيه على مناصبهم ووردت إليه الخلعة العثمانية صحبة وزير البحر خير الدين ورئيس المجلس البلدي حسين فتقلد السيف الخاقاني صبيحة الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة ست وسبعين وأعمل الحزم في إنجاز مشروع أخيه بإتمام القوانين المبنية على عهد الأمان, وجمع لها خاصة العلماء والأعيان، فاستكملوا وضعها وأجملوا صنعها. وخرج إلى مملكة الجزائر حين قدم إليها إمبراطور فرنسا نابليون الثالث لإحكام علاقة المجاورة التي بين المملكتين وكان ركوته من الحاضرة صبيحة السبت التاسع العشرين من صفر الخير سنة سبع وسبعين. ووصل إلى مرسى الجزائر بوصول الإمبراطور فأكرم نزله وأحسن تلقيه واستصحبه في سائر المشاهد والملاعب والطرادات التي هيئت له. وقلد كل منهما صاحبه نيشانه، وقضاها ثمانية أيام بديعة، لخص ما وقع فيها مستشار الخارجية حسين في رسالة مطبوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ورجع ثامن ربيع الأول وجرى على قويم منهجه في حث رجال القانون على إنجاز عملهم فاستكمله ونظم المجالس القانونية وتزينت لذلك البلاد زينة لم يسبق لها نظير ليلة الأحد منتصف شوال سنة سبع وسبعين، وفي صبيحة الأحد كان مبدأ اجتماع المجالس فوضعت على الترتيب الآتي، وهي المجلس الأكبر، وله رئيسان، وهما: مصطفى صاحب الطابع، ومصطفى خزندار، وكاهيته خير الدين، والمجلس الاعتيادي، ورئيسه محمد خزندار، وكاهيته حسونة بن أحمد الحداد الأندلسي، ومجلس التحقيق، ورئيسه صاحب الطابع إسماعيل السني، وكاهيته الشيخ محمد الشاهد، ومجلس الجنايات، ورئيسه فرحات آغة الكاف، وكاهيته الشيخ صالح النيفر. وباشرت المجالس الحكم على مقتضى القانون وأظهرت الأمة حرية آرائها في الأحكام والعوائد واستمر حكم القوانين نحو ثلاث سنين إلا أدن المجلس الأكبر رأى توفير مداخيل الدولة بجعل مال الإعانة على ست مراتب أدناها ستة وثلاثون وأعلاها مائة وثمانية ريالات تعم أهل الحواضر والقرى وأغراب المملكة ويقع تعيين ذلك عليهم على حسب كسبهم، وصدر معروض المجلس الأكبر في ذلك بتاريخ عاشر شوال سنة ثمانين. ثم جعلت اثنين وسبعين ريالاً على عموم الأفراد. وصدرت بذلك أوامر الدولة. وحين انتشر هذا الخبر اختلف صنيع أهل المملكة فأما عقلاء الحواضر والأعراب فقد رفعوا شكاياتهم وتلطفوا في طلب التخفيف، وأما أجلاف الأعراب ولا سيما أهالي الجبال فإنهم تجمعوا وأشهروا السلاح ومنعوا الطرقات وتعمدوا البغي، وجمع كيدَهم أحذ أجلافهم وهو دعي أصله من ماجر يسمى علي بن غذاهم. فخرج لهم فرحات آغة الكاف بسرية قاصداً ناحيتهم فتلقته عروش ونيفة وقاتلوه إلى أن قتلوه. واشتطت حمقاهم فنادوا بطلب إبطال القوانين، وعند ذلك صدرت الأوامر العلية بإيقاف أحكام القوانين صبيحة الرابع والعشرين من القعدة الحرام، سنة ثمانين، ونن الغد صدرت الأوامر العلية في إسقاط ما زاد على الستة والثلاثين. ونودي بذلك في سائر أطراف المملكة في الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ثمانين ومائتين وألف، وخرجت المحال المنصورة، فتوجه إسماعيل السني صاحب الطابع إلى الجبل بمحلة مركبة من نحو خمسة آلاف من العسكر وباشر الأمور بلين وسكن حمق الأعراب بمواعيد الدولة وتأمينها وتفرقت كلمتهم ورجع عقلاؤهم على سفهائهم بعد وقوع أضرار كثيرة بالفلاحة ونهب بين الأعراب، وكاد سكون الفتنة أن يستتب. فرجع صاحب الطابع مريضاً من المحلة المذكورة وسافر عوضه للترؤس عليها وزير العمالة رستم. ثم أعاد رئيس البغاة علي بن غذاهم الكرة وأخذ يجمع إليه القبائل ورام الملك لنفسه وجعل له وزراء ينادونه الباي علي بن غذاهم وجعل طابعاً وكَتَبة، وأصدر أوامر نفذت بين البغاة. وسرى ذلك الداء من الجهة الغربية إلى الجهة القبلية من المملكة وخرج وزير الحرب أحمد زروق لجهة الساحل بمحلة مركبة من خمسة آلاف من العسكر، وحضر إبان خروج المحلة الاعتيادية إلى الجريد فخرج الأمير علي باي بمحلته مركبة هن خمسة عشر ألفاً وظهر الفساد في أكثر البلاد، وتوجه وزير العمالة رستم في طلب رئيس البغاة علي بن غذاهم وأخذ في أثره بمحلته المنصورة وقاتل جموعه الأعرابية بين راكب وراجل واستنجد محلة الأمير علي بادا فأدركته الأعراب بمكان يقال له تاجموت، وكان على أهبة لقتالهم فأمر الفرسان بملاقاتهم ريثما اصطفت المدافع ولما أقل سيل البغاة تأخرت فرسان المحلة وراء المدافع وتلقتهم المدافع فاغرة أفواهُها السود فأوقعت بهم حتى رجعوا على أعقابهم خاسرين بعد أن تركوا الأرض محمرة من دمائهم وقتلاهم ملقون على الأرض، وسارت الخيالة في أثرهم وحين رأى ذلك الشقي رئيس البغاة ما حل به وعلم أنه مأخوذ فر إلى خارج حدود المملكة، ودخل بين اللمامشة فقبض عليه قائدهم في الرابع عثر من شعبان الأكرم سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف بعد أن كسرت المحلة أنصاره، وسيق إلى محبسه الذي مات فيه بحلق الوادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وأما محلة وزير الحرب أحمد زروق فقد أتت على بغاة الساحل فنزلت بحلق المنجل وانضم إليها جلاص وأهل بلد القلعة الكبرى واقتربت المحلة من البلد المذكور حين بلغها تجمع بغاة الساحل تحت رئاسة أحد أشقيائهم الدهماني البوجي من بلد مساكن فهاجموا المحلة واعتضدت بمن انضم إليها يوم الجمعة أول جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وانتصرت جيوش المحلة ووقع القبض على الدهماني وكبراء أنصاره وقتل جميعهم وعند ذلك سكنت فتنة الساحل وانقاد العسكر من أهل الساحل للخدمة، ونزلت المحلة حول سوسة حيث إنها لم تتجاسر على العصيان ورجعت جلاص بعد أن هجم بعضهم على القيروان وكادوا أن يوقعوا بعاملها رشيد كاهية. ولما تمّ القبض على زعماء البغاة الأشقياء جالت يد أنصار الدولة في القبض على أعضاء الثورة ومن تشيع إليهم وهز عصا الشقاق ونال كل واحد منهم ما ناله من القتل والسجن أو الضرب واشتدت الوطأة على كثير من الأشقياء بطلب مغارم الثورة وضربت تلك المغارم على الأعراض وجربة وصفاقس وعموم بلدان الساحل عدا أهل سوسة والقلعة الكبرى لتقدم طاعتهم ورجعت محلة الأمير علي باي مصحوبة بمن قيدتهم من البغاة ودخلت الحاضرة يوم الخميس ثاني ذي الحجة الحرام سنة إحدى وثمانين. وفي يوم السبت وزع جناب المشير نيشاناً جديداً خضه بمن باشروا هاته الحرب جعله على صنفين من ذهب وفضة، فقلد لأخيه أمير المحلة نيشاناً ذهباً أعطى منه لأصحاب الرتب العالية ثم وزع النيشان الفضة على سائر العساكر وهكذا صنع مع رجال محلة وزير الحرب ورجال محلة وزير العمالة التي تأخرت بجبل باجة للحراسة وكان قدومها يوم الخميس التاسع عشر من جمادى الثانية سنة أربع وثمانين ومائتين وألف. وأفاض المشير محاسن إنعامه على رجال دولته، وصنع نيشاناً جديداً مزججاً سماه عهد الأمالت وقلده رؤساء المحال وخاصة رجال الدولة وتدارك عموم الرعايا من البغاة وغيرهم بحلمه، ونهض لمباشرة الحكم بنفسه، وأمر بإصلاح الأبراج، وبنى قنطرة وادي الزرقاء على طريق الرحيات وأتمّ بناء قشلة القيروان التي كان ابتدأ بناءها المشير الأول، وفتح لها باباً ثانياً وكان تمام بنائها سنة ثلاث وثمانين، وحسن قشلة الطوبجية، ووقع استبدال مدافع سائر الأبراج من نوع النحاس بمدافع أخرى. واجتمع شمل العساكر وقام الأمير بعدله وإنصافه وأحسن الصنع مع الأهالي، وحفظ شارات الملك بما يلزم حتى منع تقبيل اليد لغير الملك. وأصدر الإذن بذلك تاسع صفر الخير سنة ثلاث وثمانين، وأعمل يعملات حزمه غير أن تلك الثورة أعقبت تناقصاً عظيماً في الفلاحة بسبب الغارة وإفساد الزرع حتى عظم تناقص المكاسب، وقلت الدراهم في البلاد فاضطر الحال إلى تكثير الدراهم، وجلبت سكة جديدة من النحاس ذات قيمة نصف الريال والربع والثمن والخروبة ضربت في الخارج من نوع سكة البلاد، فاستكثر الصرافون قيمتها وأبخسوا ثمنها وغلت الأشياء من ذلك غلواً لم يعهد وبلغ صرف مائة الريال من الفضة أو الذهب إلى ثلاثمائة ريال من سكة النحاس المذكورة وبذلك بلغ سعر الويبة من القمح إلى خمسة وخمسين ريالاً، والمَطر الزيت إلى مائة وعشرة ريالات كل ذلك كان أوائل عام ثلاثة وثمانين فأسقط الأمير من قيمة السكة المذكورة نصفها في الحادي عشر من شعبان سنة ثلاث وثمانين. ثم في الخامس عشر منه أسقط من قيمتها نصف الباقي فصارت قيمة النصف الريال السابق ثُمناً وعلى نسبته ما دونه، وبذلك اعتدل الصرف وتنازلت الأسعار. غير أن مواسم الأمطار تخلفت أيضاً في تلك السنة وجاهر أهل جبل باجة بالخلاف أول عام أربعة وثمانين فخرج لهم وزير الحرب أحمد زروق في محلة من العسكر النظامي والطوبجية والخيالة وزواوة وحشد معه كلأ من الهمامة ودريد. ثم أدركهم أمير المحلة علي باي في منتصف جمادى االأولى، وسكن الفتنة بعد أن سد منافذ ظهورها وكز راجعاً فدخل إلى باردو المعمور في الثامن عشر من جمادى الثانية بعد أن تقدمه أخوه العادل باي بستة أيام. ورجعت محلة وزير العمالة رستم التي خرجت منذ الثورة السالفة وعند ذلك زال الخلاف، واجتمعت القلوب على الإسعاف، كير أنه في زمن الشتاء ظهر مرض الحمى وانتشر ذلك المرض في سائر الجهات، وتكاثرت الأموات تكاثراً وبائياً، واجتمع على الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كل من المجاعة والمرض في آخر عام أربعة وعام خمسة وثمانين. وامتلأت الطرقات بالأموات والأعراب السائلين المصابين بألم الجوع، وانتهبوا الخبز من الباعة واستغاث الناس في دفع الكروب التي اعترضت الأمة. وأعمل المشير غاية وسعه في جلب القمح من الممالك الأجنبية، وفتح فابريكة الخبز، ووزع في كل يوم آلاف الخبز على كل راغب. وتولى المارستان دفن الأموات الغرباء على كثرة أعدادهم وتكاثر ورودهم من سائر ضواحي البلاد بحيث أنه يقضي بياض النهار في قبول الأموات وتجهيزهم ودفنهم. ثم لما حضر إبان الزرع مع قلته في أول صائفة عام خمسة وثمانين أتى عليه الجراد المنتشر حتى اتخذه ذو الفاقة بدلاً عن النعمة، وجمعوه للبيع في الأسواق بعد طبخه في الأفران. ثم تراجع الأمر ونقهت البلاد شيئاً فشيئاً بعناية الأمير وبذل وسعه في مساعدة ذوي الفاقة وتدارك المجاعة. ولم يزل بعد ذلك يرُمُّ ما تداعى من مباني المملكة، ويتدارك عليها ما بقي، وعندما أخذت المملكة مأخذها لي التراجع إلى كمالها الأول نهض لتدارك ما أبقته الست السنوات في التجهيزات العسكرية، وتدارك خطر المملكة من الديون التي تراكمت على الدولة مع ضعف الدخل في المملكة. وأقام جمعية لضبط ما ترتب على الدولة من الديون وموازنتها بالدخل فجعل كومسيوناً مركباً من الأهالي والأجانب الذين عينهم أرباب الديْن تحت رئاسة خير الدين، وأدخل لتصرفه جميع مداخل الدولة عدا المجبي وبعض مداخيل أخرى أبقاها لإقامة إدارة الدولة وكان انتصاب الكومسيون المالي في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة ست وثمانين ومائتين وألف فضبطت المداخيل وانحصرت الديون في نحو مائتي مليون وتعين لازم فائدتها السنوية: 12.932.925 من الريالات التونسية. ثم أعمل الرأي في المجبي بالنظر لأحوال الرعية فجعلها خمسة وعشرين ريالاً، وترتفع بالتدريج بخمسة ريالات في كل سنة إلى أن تصل إلى الأربعين ريالاً فتستمر عليها. وكذلك جعل أعشار الفلاحة سبعة مكايل نصفها قمح ونصفها شعير وترتفع بزيادة ويبة في كل سنة إلى أن تصل إلى عشر مكايل أنصافاً بحيث يكون ارتقاء ذلك على حسب ترقي الفلاحة وجعل ذلك منضبطاً بقانون صدر بتاريخ السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة ست وثمانين. ثم أسقط عن كافة من بقيت عليهم بقايا من الأعشار أو القوانين الثلثين منها مراعاة لفاقتهم مدة وجوبها، وأسقط النصف من قانون مراجع الوطن القبلي تنشيطاً للفلاحة وخفف قانون زيتونه وصيره ثمانية نواصر على كل عود، وأقام مجلساً لمحاسبة العمال في سائر الأعمال عما جالت فيه أيديهم من أموال الرعية. وأصدر الأمر العلي برفع ظلامة كل من صودر في شيء من المال أو الدؤاب أو الحبوب، فأقبلت الناس من كل فج وظهر للعيان ما جالت فيه أيدي العمال وانتزع جميعه منهم بدون مبالاة، واستعمل على الساحل مَحمد خزندار لضبط أحواله وضبط ديون أهله التي ارتكبوها في تلك السنوات وأعمال وجوه مع أرباب تلك الديون ففك بذلك أسر أهل الساحل قاطبة. كل هاته الأعمال أجراها في شهر شعبان ورمضان من سنة ست وثمانين استدراكاً لما بقي، فعالج المملكة معالجة الطبيب الحاذق وأعاد عليها شرخ الشباب. ولما استتم ضبط أحوالها على الوجه الأكمل غير إدارة الدولة فجعل الوزارة الكبرى مركبة من وزارة المال ووزارة العمالة ووزارة الخارجية، ولها النظر على الحرب والبحر، وكان الوزير الأكبر مصطفى خزندار، ووزير الحرب رستم، ووزير البحر مَحمد خزندار، وجعل لمسمى الوزارة الكبرى أربعة أقسام القسم الأول لسياسة المملكة والقسم الثاني للواردين من المتوظفين، والقسم الثالث للنوازل الشخصية، والقسم الرابع لأمور الخارجية، وجميعها تحت رئاسة وزير مباشر. وفي كل قسم مستشار أول فكان الوزير المباشر خير الدين، ومستشار القسم الأول الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب، ومستشار القسم الثاني حسين، ومستشار القسم الثالث الشيخ أحمد بن أبي الضياف، ومستشار القسم الرابع النصراني فليكس راف. وكان ذلك في منتصف شوال سنة سبع وثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وأرسل إلى الدولة العثمانية في طلب تجديد القزمان العالي الشأن في حفظ الإمارة وإجرائها على نسق الإمارات الممتازة في الدولة العلية لإحكام الوصلة وربط العلاقة بينه وبين الدولة وحفظ الأمن على البلاد فجددت له الدولة العثمانية فَرمانها العالي، وأرسلت له سيفاً مع النيشان المجيدي صحبة خير الدين، واحتفل لذلك موكب تلاوة الفرمان، ولبس النيشان صبيحة خاص شهر رمضان المعظم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، وتزينت لذلك تونس وسائر بلدان لمملكة زينة لم يسبق لها نظير استمرت بقية شهر رمضان، وأكثر شهر شوال. ولما وقعت الحرب للترك مع الروس فتح دار الباي بتونس وأذن بجمع إعانة تطوعية فصدر الأمر العلي بذلك سادس وجب سنة ثلاث وتسعين. ودفع هو ورجال دولته ما نشط الأهالي فأقبلت الأمة من كل فج، واجتمعت من ذلك إعانة كافية مالية بلغت إلى 59004.663.433.09 ريالات تونسية فضلاً أرسلها للدولة العثمانية، ثم جمع لها من الخيل والبغال التي تطوع بها الأعيان مقداراً معتبراً وأرسله إعانة دولة الإسلام. وهو الذي أقام خزنة مكاتيب الدولة ورسومها وغير ذلك على وجه بديع يسهل معه تناول أي بطاقة من علائق الدولة في طرفة عين وقد حسن كثيراً من الأعمال، فغير نوع السكة التي كانت جلبت خلل الصرف، وضرب سكة من النحاس بقيمة لا تقبل التغيير ذات ثمن وخروبة ونصفها، فدارت السكة المذكورة صبيحة يوم الخميس الثالث عشر من جمادى الأولى لسنة تسع وثمانين. وفتح دار السكة لقبول السكة القديمة بقيمتها وتعويضها بالسكة الجديدة وعند ذلك طبع كثيراً من سكة الفضة بقيمة أربعة ريالات وريالين وريال ونصف ريال، ثم لما تكاثر نوع السكة المذكورة في البلاد أراد الصرافون أن يعيدوا فتنة الصرف فتدارك الأمر وأسقط من النوع الذي قيمته أربعة ريالات ثلاثة أرباع الريال. وهكذا جرى الإسقاط في بقية الأنواع على تلك النسبة وصدر الأمر بذلك في الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وتسعين. وقد أقام كثيراً من المجالس والقوانين لضبط فروع الإدارات وتحسينها، فأقام مجلس النظافة تحت رئاسة رئيس المجلس البلدي الشريف محمد العربي زروق للاعتناء بتنظيف البلاد ورفع المزابل في كل يوم على مقتضى قانون تألف من تسعة عشر فصلاً صدر بتاريخ الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين، ووظف على كل محل قدراً معيناً يدفع بعد كل ثلاثة أشهر بعد أن وظف أداء الخروبة على قيمة كراء الأملاك من الديار وغيرها من الرباعات كخروبة الأكرية. وأصدر بذلك قانوناً مؤرخاً بالتاسع والعشرين من ربيع الأول سنة تسعين، ذلك بعد أن عمم تضريس البلاد من غالب جهاتها وأزال أوحالها، وحسنها تحسيناً يشهد له بغاية حبه لها، وخرج بالتحسين إلى ما حول الحاضرة فحسن طريق باردو من باب الخضراء وباب سيدي عبد السلام وباب سعدون وباب حومة العلوج وباب سيدي عبد الله الشريف وضرس جميع تلك المسالك وحفها بالشجر عن اليمين وعن الشمال وسوى البطحاء التي أمام باردو وزانها بالفوارة الضخمة وجدد باب باردو، وكذلك مهد طريق حمام الأنف من باب عليوة بعد أن بنى هو ذلك الباب. وأدار على مقبرة الزلاج سوراً لحمايتها من الدواب. وجعل قشلة العطارين سجناً مقسماً إلى فروع كثيرة لمجرمي الأهالي والأجانب، وجعل له حفظة لتنظيفه، وأجرى عليه مونة كافية بعد أن كانت المساجين يسجنون في دهليز من العذاب وربما مات من تطول إقامته فيه، وجعل له قانوناً يشتمل على أربعة وعشرين فصلاً مؤرخاً بالتاسع عضو من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين. وأقام مجلساً للتحفظ ركبه من الأهالي والأجانب الأطباء وغيرهم للنظر في الواردات البحرية وصحة أهلها يجري عمله على مقتضى قانون مؤلف من عشرين فصلاً بتاريخ الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين. وأقام في هذا التاريخ مجلساً مختلطاً أعضاؤه مركبون من سائر الدول التي لها رعايا كثيرة في البلاد تحت رئاسة أحد الأهالي للحكم في النوازل المالية التي بين الأجانب والأهالي. وأول رئيس انتسب عليه حسونة بن أحمد الوزير الأندلسي أمين الشواشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وضبط سياسة الدولة مع سائر الدول الأورباوبة التي لها رعايا بتونس بمعاهدات يجري التعامل بمقتضاها فكان الاتفاق المنعقد مع دولة إنكلترا مؤلفاً من سبعة عشر شرطاً بتاريخ يوم السبت السادس والعشرين من ربيع الثاني سنة ثمانين، ثم حرره باثنين وأربعين شرطاً بتاريخ يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وتسعين. والاتفاق الواقع مع دولة إيطاليا يتألف من ستة وعشرين شرطاً. وأكد الاتفاق الذي كان عقده أخوه مع دولة النمسا المتركب من عشرين شرطاً المؤرخ بغرة جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين، وبذلك أتم سياج السياسة الخارجية. وضبط الفلاحة في داخلية المملكة بقانون يحتوي على ثلاثة وسبعين فصلاً في ضبط أحكامها ومصالحها بتاريخ الخامس والعشرين من صفر سنة إحدى وتسعين. وضبط خدمة العمال والمتعينين للأعراب وغيرهم بقوانين تجري عليها إدارة خدمة العمال ومقدار ما يأخذه المتعينون من المجرمين ب التشديد على من يتجاسر على أخذ شيء زائد فكان قانون خدمة العمال مؤلفاً من عشرة فصول وقانون خدمة المتعينين من تسعة عشر فصلاً وكلاهما بتاريخ أوائل ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين. وأسقط قانون زيتون الوطن القبلي وصيره عُشْراً شرعياً على الزيت لما رأى من ضعف الزيتون المذكور عن أداء القانون في الرابع والعشرين من شوال سنة تسعين وبذلك تضاعف أمن المملكة واستكمل فخرها حتى أمنت فيها السبل واطمأن أهاليها عموماً فكان هو المجدد للدولة وله فخر تجديدها. ولم يكفه هذا التجديد، الجاري على مناهج الرأي السديد، بل ترقى في حفظ أمن البلاد وتحسين إدارة الدولة فأقام مجلساً شورياً تحت رئاسة الوزير الأكبر للنظر في مهمات نوازل الدولة الداخلية والخارجية. فكان أول اجتماعه صبيحة يوم الاثنين الثامن عشر من رجب الأصب سنة ست وتسعين بسراية حلق الوادي، ورئيسه الوزير الأكبر الحالي وأعضاؤه وزير الورى مَحمد خزندار الوزير السابق، ووزير الشورى الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب، ووزير الشورى حسين المكلف بالمعارف العمومية والنافعة، ووزير البحر أحمد زروق، ووزير الحرب سليم، ومستشار الوزارة الخارجية الشيخ محمد البكوش، ومستشار القسم الثاني محمد المرابط، وكاهية باش كاتب الشيخ محمود بوخريص، والمدرس الشيخ مصطفى رضوان رئيس كتاب الكومسيون. ثم ضمّ إليهم رئيس المجلس البلدي الشريف محمد الربي زروق، ورئيس جمعية الأوقاف المدرس الشيخ محمد بيرم، وعند سفر، وليها عوضه رئيس كتاب القسم الثاني الشيخ يوسف بن أحمد جعيط، فكان لجميعهم تعاون على مصالح البلاد+ وذلك من أعظم مآثر هذا الأمير الفائز بالسبق على سائر الأمجاد. أما اعتناؤه بالعلوم وأربابها لقذف الروح في جسد المملكة فحديثه في هذا الباب طويل الذيل ونقتصر منه على الأمهات، فنقول: إنه بإثر استوائه على كرسي المملكة أمر بإرجاع جميع أرباب خطة العدالة إلى خطتهم التي كانوا عزلوا منها، وكذلك أرجع سائر المؤذنين بعد أن كانوا عزلوا أيضاً اقتصاداً في العدول والمؤذنين فنال بذلك من الدعاء الصالح ما لا حد له. ثم لما رئب المجالس وكان من مقتضياتها أن الحجج لا تمضي لديها بدون ختم شرعي أذن جميع أرباب الخطط الشرعية من القضاة والمفتين بوضع أختام بعد أن كان الختم خاصاً بالقاضيين لا غير. ثم لما انقضت السنون التي أتت على المملكة وأهلها بما تناقصت به جميع المداخيل ولم يبق لبيت المال دخل يقوم برواتب المدرسين بجامع الزيتونة وحدث بعض فتور في العلم أمر بجمع المدرسين وأهل المجلس الشرعي بجامع الزيتونة، واستنهض همتهم العلمية وعين لأهل الرتبة الأولى ثلاثة ريالات يومياً تخرج مرا الدولة زيادة على ما لهم في بيت المال. وجعل لأهل الرتبة الثانية ريالاً يومياً زيادة على ما لهم من وقف المدرسين. وأبرز بذلك منشوراً قرىء بجامع الزيتونة بمحضر جميع العلماء في كرة رجب الأصب سنة سبع وثمانين ومائتين وألف. وعين أربعة من رجالي الدولة لتفقد أحوال الجامع وتقريرها لدى الدولة، وهم: الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب، وحسين مستشار القسم الثاني من الوزارة الكبرى، والشيخ أحمد بن أبي الضياف، والشيخ محمد البكوش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وأبطل وظيفة الحسبة التي كانت تجتمع لنظرها جميع أوقاف المملكة لصرف فواضلها لأرباب الخطط الشرعية فوزع مهمات أوقاف المملكة على المشايخ أهل المجلس الشرير كل واحد يقوم بشعائر الأوقاف التي لنظره ويستقل بفاضله واستمروا على ذلك أكثر من ثلاث سنين غير أن دخل الأوقاف ضعف وتناقصت جراية الدولة عن المدرسين، فاستدرك الحالة بقانون علمي مؤلف من سبعة وستين فصلاً مؤرخ بالثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وتسعين، قد اجتمع على تأليفه أعيان علماء العصر، فكان أكمل أنموذج يجري عليه نظام التعليم بجامع الزيتونة مع تعيين مائة كتاب وستة عشر كتاباً منتخبة من ثلاثة وعشرين فناً تدرّس بجامع الزيتونة. وحفظ نظارة العلم بمستشار من الدولة، وأول من تقلد هاته النظارة حسين المكلف بالمعارف العمومية وجعل له نائبين من أعيان المدرسين يباشران النظر على أعمال الجامع كل يوم. وعين الامتحان العام لسائر طبقات التلامذة في شهر ماية الأعجمي من كل سنة، وقرىء منشور ذلك بجامع الزيتونة أول المحرم من سنة اثنتين وتسعين، فتكاثرت الدروس والمدرسون، وأقبل الطلبة على العلم حتى بلغ عدد الدروس التي أقرئت بجامع الزيتونة في سنة أربع وتسعين إلى أحد وعشرين ألف درس ومائتين ودرسين من الكتب التي اقتضاها الترتيب. وبلغ الآن عدد المتصدرين للإقراء تطوعاً إلى ثمانية وخمسين عالماً زيادة على الذين يستحقون الجرايات المعينة وفد منح المتأهلين للإقراء بإجازة الامتحان التقديم لخطة العدالة على مقتضى الإلحاق الصادر بتاريخ الثاني والعشرين من صفر الخير سنة سبع وتسعين، وأصدر بذلك منشوراً قرىء بجامع الزيتونة بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء الثالث والعشرين من الشهر المذكور ترغيباً في العلم، وقد بلغ عدد التلامذة بالجامع الأعظم إلى أكثر من سبعمائة تلميذ، وحسبك بذلك مزية لهاته الدولة. وقد جمع جميع أوقاف الحاضرة وسائر بلدان المملكة لنظارة جمعية تجعل من تحت تصرفها وكلاء يقومون بلوازم شعائر الأوقاف، وما يفضل من ذلك يدخل لإدارة الجمعية تدفع منه مرتباً للمشايخ أهل المجلس الشرعي بالحاضرة قدره ثمانية آلاف ريال في السنة لكل واحد من شيخي الإسلام وستة آلاف لكل واحد من بقية الشيوخ وثماني عشرة مائة ريال لكل واحد من قضاة حواضر المملكة و 1440 ريالاً لكل واحد من مفتيي بلدان المملكة، و 1080 لبقية قضاة البلدان، ويدفع منه من مرتب المدرسين المقدار المعين على الدولة. وأصدر بذلك ترتيب أعمال الجمعية المشتمل على أربعة وعشرين فصلاً المؤرخ بالمحرم الحرام سنة إحدى وتسعين فأخذت الجمعية في ضبط الأوقاف ومداخيلها وأموال ما عوض منها مما جرى تأمينه تحت يد أفراد معتبرين البالغ قدر ذلك إلى ما يقرب من الثلاثة الملايين لتستخلص منه ما يمكن خلاصه وتعاوض به أوقافاً واجتمعت الأوقاف أحسن اجتماع بلغت به مداخيلها من ثمن الغلال والأكرية والإنزالات إلى 01.678.016 ريالات فضة في سنة خمس وتسكين وبذلك وقع استدراك ما أتى عليه الخراب من الموقوف والموقوف عليه في الحاضرة وسائر بلدان المملكة. وأقيمت شعائر جميعها بإجراء لوازمهما مع مرتبات أربابها السنوية البالغ لازم ذلك إلى ما يقرب هن الستمائة ألف ريال فضة. وأصلحت جميع جوامع الخطب بالحاضرة، وفتح باب جامع القصبة من السور في رمضان المعظم سنة إحدى وتسعين فانتفع به عموم المسلمين. وأحييت المساجد والزوايا حتى بلغ الآن عدد القائم من مساجد الحاضرة إلى مائتين وخمسين مسجداً أغلبها وقع فيه إصلاح له بال فضلاً عما أعيد أصل بنائه منها وأصلحت جميع المدارس وأحييت كثير من الأوقاف بعد أن لم تكن منتفعاً بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ووقع مثل ذلك في أغلب الزوايا والمكاتب وأصلح سور الحاضرة من عدة جهات وسور صفاقس، كذلك سور بنزرت وسور القيروان، وتجدد سقف جامعها الأعظم الذي هو من وضع الصحابة. وهكذا عمّ الإصلاح سائر جهات المملكة وأصلح أيضاً كثيراً من الأبراج. وأعيد بناء برج حمة قابس بحيث إن نحو ربع المدخول في هاته السنين صرف في الإصلاحات المهمة لإحياء الأوقاف زيادة على إجراء الشعائر على وجهها على مقتضى نصوص المحبسين. ثم إن فاضل الدخل أجريت منه المرتبات المعتبرة الكافية لجميع أهل الخطط الشرعية والمدرسين بالحاضرة وبلدان المملكة البالغة إلى 234.325 ريالاً فضة في كل سنة تدفع لهم مشاهرة على حسب اختلاف القدر المعين لهم وما يفضل تقام به مصالح عمومية في البلاد، كل ذلك من البر الذي حسناته في صحيفة هذا الأمير أبقاه الله. وقد عين قشلة طريق سيدي المرجاني فجعلها مكتباً عاماً أوقف عليه أوقافاً لها بال وأجراه على نظام المكاتب الجديدة لتعليم أبناء الأهالي العلوم الدينية واللغوية واللغات الأجنبية والمعارف الإفرنجية من الرياضات وغيرها وجعل لذلك قانوناً اجتمع على ترتيبه أعيان علماء العصر فكان مؤلفاً من اثنين وثمانين فصلاً صدر بتاريخ خامس ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين ففتح المكتب المذكور بعد إتقان تقسيمه وتحسينه وأجرى به مونة الطعام لعموم التلاميذ والكسوة والفراش للمقيمين به خاصة وأقام به معلمين من علماء الحاضرة والترك والإفرنج وظهرت منه نشأة بارعة وحضر بنفسه في موكب امتحانهم السنوي. وأوقف كتباً كثيرة ملأت ست خزائن جعلها بصدر جامع الزيتونة أواسط سنة إحدى وتسعين. وأعاد ترتيب تلك الخزنة بتحرير أسماء كتبها البالغة نحو عشر آلاف مجلد ووضع أعداداً متوالية على تلك المجلدات بعد تحرير قيمتها التي لم تزل اليد جائلة في إتمامها. وقد جمع جميع كتب المدارس والجوامع الأُخَر وضمّ إليها كتباً أخرى وجعلها مكتبة عامة بالمحل الذي بناه أبو عبد الله الحفصي بجامع الزيتونة عند صحن الجنائز وخضه بالمطالعة والنسخ هنالك من غير إخراج كتاب إلى خارج المكتبة فكانت المكتبة المذكورة تشتمل على أكثر من ثلاثة آلاف مجلد تحتوي على عشرين فناً من خط اليد الجميل وليس فيها من الكتب المطبوعة أو الرديئة الخط إلاّ ما ندر، وقد عمّ بها النفع للغرباء والمحتاجين بالمطالعة والنسخ اليومي فيها. وجعل بها ثلاثة قيمين تستمر إقامتهم سائر اليوم كله وأجرى عليهم الجرايات الكافية على مقتضى قانون رسمه نجي صدر أزمة المكتبة يحتوي على ستة عشر فصلاً بتاريخ الثاني عشر من ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين. ووضح ترتيباً قانونياً لتنظيم ديوان الشريعة المطهرة اجتمع على تأليفه شيوخ المجلس الشرعي وتألف من ستين فصلاً أصدره بتاريخ صرفي ثلاثين من ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين. وتعينت به مراسم خطة القضاء ورسوم خطة الإفتاء والأعمال التي يجري عليها الوكلاء والأعوان والخصماء. وجعل يومئذ طابعاً يخص ديوان الشريعة لختم حجج الأحكام الشرعية زيادة على ما كان عينه من كون سائر حجج العدالة لا يصح كتبها إلا بالرقاع المختومة بالختم المسمى بالتانبر منذ ذي الحجة الحرام سنة أربع وثمانين. ووضع قانوناً لضبط حجج الإشهاد يجري عليه عمل الشهود في الحاضرة وسائر بلدان المملكة، وجعل لجميعهم دفاتر لا تشذ عنها شهادة، كل ذلك بعد إحصاء سائر الشهود، وتعيين الاقتصار على عددهم الموجود، إلى أن يتناقصوا بما دون الحاجة. وعين العدد المحتاج إليه في كل جهة فضبط بالقانون المذكور كيفية تحمل الشهادة وأدائها وقد تألف من ستة عشر فصلاً أصدره بتاريخ موفي ذي القعدة الحرام سنة إحدى وتسعين كل ذلك اعتناء بالمعارف وأربابها ومحافظة على الحقوق الشرعية فكان هو الذي أسس هاته الأساسات المحكمة البناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وزاد اعتناؤه بحفظ الصحة فعين قشلة البشامقية وجعلها مستشفى نقل إليه مرضى المارستان وأقام به أطباء ومرافق وتحسينات مع الاعتناء بالنظافة وأفرز فيه قسماً للنساء خاصة وأقام به حفظة وقيمين وأحضر له آلات جراحية غريبة حتى كان في غاية التنظيم في تفان الوضع الجاري على أحد وأربعين فصلاً من قانونه المؤرخ بيوم الأحد السادس والعشرين من المحرم سنة ست وتسعين. وحضر بنفسه يوم فتحه صبيحة يوم الاثنين الثامن عشر من صفر السنة المذكورة في موكب حضره جميع رجال الدولة، وباشر سائر الغرباء المرضى هنالك فرداً فرداً فخلّد بذلك ذكراً جميلاً وجرت إقامة جميع لوازم المستشفى بدخل وقف المارستان على أكمل نظام، وأتقن إحكام. وأما اعتناؤه بالأشياء التحسينية التي خلّدها في المملكة فمن أعظمها فتح دار المطبعة ونشر صحيفة الرائد لتعليم أهل المملكة أحوال الدول وما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية تمديناً لهم. وكان ابتداء نشره أواخر عام سبعة وسبعين. وواصل بين المملكة التونسية وسائر ممالك الدنيا بسلك البرق الذي يبلغ به الخبر في طرفة عين ومد سكة الحديد بين تونس وحلق الوادي وباردو، وأوصلها بعد ذلك من تونس إلى أطراف الحدود الغربية وأصدر الأمر العلي بذلك في اليوم الثاني عشر من ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين على اتفاق تألف من ثمانية وعشرين شرطاً تصل به السكة المذكورة مق حاضرة تونس إلى جندوبة خاصة على أن يجري عمل السكة على نحو ما تحرر في التسعة والأربعين فصلاً التي عينتها الدولة، وجرى ذلك على الوجه أية تم مع شوكة تسمى الباتينيون ثم منح لشركة عنابة وقالمه مد السكة من محطتها بدخلة جندوبة إلى طريق الجزائر على ستة شروط تحررت بتاريخ الثالث والعشرين من المحرم الحرام سنة خمس وتسعين. وقد ابتدأ سير الأقطار صبيحة يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة ست وركب في ذلك القطار الأمير وسائر رجال الدولة وتلقته أعراب تلك الجهات بالملاعب والسرور وعاد مسروراً بسرورهم. وقد أجرى نور الغاز الهوائي في الأنابيب لإيقاد البلاد وتنويرها بهذا النور الساطع وكان ابتداء جريانه أواسط ربيع الثاني سنة إحدى وتسعين بعد أن عمم سائر حومات البلاد بساقيات ماء زغوان وأجراه في سائر منازلها ومنازهها. وأقام الخزنة الضخمة البناء التي عند باب سيدي عبد الله الشريف مجتمعاً للماء الوارد من المنبع المذكور. وأقام فوقها الفوارة الضخمة الدائمة الانهمال، وعمّ سقيها بساتين منوبة ومنازه حلق الوادي وبساتينه. وكان وصول الماء المذكور إلى الحاضرة سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف. وقد وسع كثيراً من المناهج بواسطة مراسم المجلس البلدي، ومن أعظمها طريق البحيرة المقسم والنهجان الموصلان إلى محطتي سكة الحديد وذلك بعد هدم سائر الأبنية القديمة التي كانت أمام باب البحر. وهدم فندق الغلة القديم، وسوى هنالك مركزاً لكراريس الكراء سنة اثنتين وتسعين. وأقام الجنينة التي أمام باب البحر والجنينة التي جعلها في القصبة مع تسوية بطحائها وسائر منافذ طرقها المتسعة وتمهيد الطريق الواصلة من باب البنات إلى باب سويقة بعد أن كان مهدها من باب السويقة إلى باب الجزيرة خطأ واحداً في غاية الاتساع والاستواء بالضرس، وهدم ما تداعى من السور المحيط بالمدينة حيث لم يكن به نفع مع وجود السور الخارجي وبقي خرابه كلأ على البلاد فأزاله ووسع بمحله الطرق وسواها بحيث أزال باب قرطاجنة وباب السويقة وباب البنات وما بينهما من السرور، وأزال باب سيدي علي الزواوي وباب الجزيرة حيث أن جميعها في وسط البلاد وعلى البلاد السور الخارجي الضخم الأبواب، وأعاد بناء باب الخضراء وحسن مسالكه سنة اثنتين وتسعين. وقد عين جرايات كافية للالتزام بإصلاح ذلك على الوجه الحسن وبموجب القيام بمصاريف تلك الطرقات وظف أداء على الكراريس والكراريط بحيث أن كروسة المالك تودي خمسة ريالات وكروسة الكراء تؤدي أربعة ريالات والكرطون. يؤدي ريالين جميع ذلك مشاهرة يستوي فيها الأهالي والأجانب وأصدر بذلك قانوناً مؤلفاً من أحد عشر فصلاً مؤرخاً بالثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وتسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وأما أبنيته الفائقة فأولها بناؤه لدار باردو المعمور ثم بنى الأبنية الفائقة في قصر البرطال الذي حول باردو وسماه القصر السعيد فأبدع إحكام بنائه ونضد فرشه، وسكنه أواخر سنة ست وثمانين ورضع جبهته بعد ذلك بسراية فاخرة سماها مقر السعادة، فكان من أعظم أبنية البلاد، وكذلك أبنيته التي شادها بحلق الوادي فقد شيد به السراية وأحدث بيت البحر من أضخم البناء وأروقِه وأحيا جامعه وأقامه أكمل إقامة بعد تجديده، ومن ذلك تحسينه لبناء جامع باردو وفتح بابه الضخم وبناء سوق القصبة والعلو الباذخ الذي قبالته على دار المولى حمودة باشا المرادي التي عاوضها حمودة باشا الحسيني في غرة شوال سنة تسع عشرة. وجدد بناءها على الوجه الأتقن، وبنى حولها سوق الباي المشهور فكان هذا العلو الصادقي كالتاج على جبهة ذات الجمال وتسمى اليوم بسراية المملكة. وبنى زاوية الشيخ سيدي محرز بن خلف البناء العظيم وشيد قبابها الهائلة البديعة النقش بعد أن جدد بابه الخارجي سنة تسع وسبعين وجدد قبة زاوية الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي وأحضر لها عملة نقش حَديدة فأتى بها أغرب صنع وقع في البلاد وأتم تجديدها سنة خمس وتسعين في أعلى شاهد على دقة مصنوعات البلاد وعلو همة صاحبها فمن علم منه هاته المآثر الجمة والمفاخر المهمة، صح له أن يلقبه "بفاتح عصر التمدن في البلاد التونسية". فقد باشر الحكم بنفسه بإنصاف وتحر فيه وتثبت مع كمال فطنة واستحضار النوازل وما سبق فيها، وشدة التحري في قتل النفس بحيث إنه لا يأمر بالقتل إلا بعد حكم الشرع العزيز، ولربما بذل من عنده الفداء إلا إذا تشدد أولياء المقتول في طلب الاقتصاص، وبالجملة فإنه فارس المحكمة ولذلك جميع أصحاب النوازلط يترصدون بنوازلهم يوم حكمه الفصل، وله أعظم حزم في الذب عن حقوق المملكة والاعتناء بحفظ الدين يليق بعراقة مجده وغيرته على مملكة آبائه وأجداده. وله شغف بحب الأولياء وتعظيم الأشراف والعلماء واعتبار أعيان المملكة حتى خلد بذلك أعظم مودة له في نفوس جميع الأهالي. ومع ذلك قد حصل بعناية الله على تحسين حال المملكة وتقديم أهلها إلى مسالك التمدن حتى أصبح في خفض عيش وحسن تمتع ببلوغ الآمال. يسكن القصر السعيد حول باردو وأغلب السنة عدا زمن الحر في المصيف فإنه يسكن في سراية حلق الوادي وبيت البحر. وقد خرج أواخر عام ثلاثة وتسعين في زمن الثاء إلى حمام الأنف وأحدث به هالك أبنية. وأقامت العساكر النظامية حول أبنيته في أخبيتهم مدة تلك الإقامة، ولما ورد وارد إقبال رأس العام وهو مقيم في تلك المنازه هنيت جنابه بقصيدة سميتها "مورد الهناء المعين. بعام أربعة وتسعين" فقلت: [الكامل] عام انتزاه الصادق المنصور ... وافى ببشر ليس بالمحصور فأتى إليه وخلفه الأعوام سا ... عية لمعهد فضله المشكور كل لعزه وافد كي يلتقي ... بجمال طلعته ممر عصور لكن هذا العام جلى بينها ... فأتى كإخوته ممر عصور وسترتقي من بعده الأعوام في ... درج اقتباله في أجل حبور إذ أنه الملك الذي أحيا لنا ... ربْع المعارف بعد محض دثور إذ أنه الملك الذي أسدى لنا ... نعماً تريه سعادة المقدور إذ أنه الملك الذي أيامه ... قد أطلعتْ في الفق خيرَ بدر إذ أنه الملك الذي قد ضُمِّختْ ... أخبار دولته بطيب عطور إذ أنه الملك الذي قد سددت ... أعماله فأباد كل فجور إذ أنه الشهم المشير المرتضى ... مجري سيوب الفضل مثل بحور الصادق العَلَم الحسينيُّ الذي ... به تونسٌ حيطت بأعظم سور فهو المسَهِّد جفن عدل آمن ... به كان حفظ الغافل المغرور حاط المحاكم والشعائر والمعا ... رف والزروع بغير ما منشور فغدا براحة مأمن الأهلين في ... نِعَمِ الهناء يجر ذيل فخُور وارتاح راحة حازم ما سيم غي ... ر حراس صارم رأيه المشهور يفْري مضاءُ غُرابِه الدُّهْمَ التي ... هالت بصعب مبْهَم منكور فالتاج للأمن المحيط بمنزه ... يزهو بفاضل ذيله المجرور وسعى له بحلي تهان جملة ال ... أعيان زاهية بيمن خُيور فكان يوم وصوله عيد الهنا ... وكأن وفده مجمع المحشور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فأتى إلى إكرامه الحيوان مِنْ ... نَعَم ووحش شارد وطيور والكل بين مضرج ومعفر ... ومجندل ومعقر منحور فلحومها كانت قِرَى لجيوشه ... وحديثُها يرويه كل شكور كرمٌ جزيل قد أعِّدَ لوافدٍ ... أو نازلٍ بجواره مبرور فالناس من طرب وحسن تنزه ... خلعوا عذارا واجتلوا بسرور يدعون ربَّهُم ببُقيا مجده ... شمساً تنبرُهم بكل بكور ولذا أتى العام الجديد مهنئاً ... برخي عيش رائق وافى إليه غداة حل منازهاً ... حيطت بجيش بالعلا مذكور فليَهْنَ هذا العام إذ ألفاه في ... حمام أنف شامخ معمُور فأتى إليه مهنئاً يبغي به ... طهراً وتوشيحاً بكل فخور ليكون بين يدي علاه مطهراً ... من ماء عدل كماله المشهور إذ أنه الملك الذي أجرى لنا ... ينبوعُ عدلٍ ساكب موفور فاعْجَبْ إلى الأيام حيث تلطفت ... لعلاه في إهداء عام بشور فغدا بذلك منبئاً بمديد عُمْ ... ر بالسعادة والهنا مأثور وله بذا فخر على الأعوام إذ ... قد جاء يرفل في ثياب حبور فمتى تحاول وصفه أرخ وقل: ... عام انتزاه الصادق المصنور وقد قرظ هاته القصيدة أمام أيمة البراعة والإنشاء الجهبذ النحرير الفاصل الشيخ محمد الباجي المسعودي رئيس كتبة القسم الثاني من الوزارة بقوله: [الكامل] زارت تجرر ذيلها الديجُوري ... فانجاب صبح الوصل للمهجور وأتت تذكر عهْدَ أُنسي بالمَهَا ... وزمانَ لهوِي بالظِبا والحور مياسة الأعطاف تحسب أنها ... نشوى براح من كؤوس مدير تشدو بلحن "الموْصِلي" و "معبد" ... و"مُخارِق" في نغمة المأخور فتعيد ميْت الصد حياً مثل ما ... أحيا "السنوسي" النظم بعد دثور جر اليراع فضم أشتات العلا ... نصباً لناظرها لنفخ الصور وسما لتخليد المآثر والحِلى ... للغابرين وشُهَّدٍ وحضور وتقلدت منه البلاد نفائساً ... وفرائداً ب (الرائد) المشهور تُزرى بأزهار الرياض، وحسنُها ... في عين كل محقق وبصير أمحمَّدُ وابن الذين علاهُم ... في القطر مثل "يلملم" و"ثبير" شرفتني بفريدة أبدعتها ... "عام انتزاه الصادق المنصور" فظَللْتمن طرب أميل كأنني ... نشوان ماء الكرمة المعصور وكأنَّ ما نتلوه من أبياتها ... نظُم "الفرزدق" أو نِظامُ "جرير" فنظمت مايرجو المحب قبوله ... من كاسد للعجز والتقصير داعٍ لكم بسعادة أبدية ... وإعانة ومبرة وسرور وقرظها أيضاً الدراكة النحرير الماجد الشاعر الفاضل المدرس الشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن الخوجة بقوله: [الكامل] زارت تجر مطارفاً من نور ... ولها الفخار على الحسان الحور بدوية الأعراق إلا أنها ... حضرية في لطفها المشكور قسماً بمُحْكم نسجها لو أنها ... في العُرب قام بها لسان فخور قسماً بطرف حديثها إني بها ... لما أتيحت مع ألذ سمير ملكت قلوب مطالعيها بحسنها ... فاستوْصِهَا بفؤادي المأسور حلت بها شتى المحاسن مثل ما ... حلت بوصف وليها المشهور ذاك الذي جمع الفضائل بعد ما ... كانت طرائق في بني المعمور ذاك "السنوسي" الذي ملك العلا ... وعلا على كرسيها كأمير إن قلت كل الصيد في جوف الفَرا ... فهي الفضائل في حمى المذكور قُسُّ الفصاحة حِلْفُ كل فضيلة ... مبدي البدائع وهو غير فخور منح المعارف للنهي لكنه ... راعى التلطف فاكتنى بمدير فذٌّ على سن الحداثة قد سما ... وحوى من العلياء كل عسير ما السن يُلحِق بالصغير نقيصة ... ولقد يكون الشيخ غير كبير مهلاً أبا عبد الإله فإنني ... في حصْر فضلك منتم لقصور وإليك من جهد المقل وليدة ... جاءت لتخدم ستَّها بسُطُورِ وقرظها الأديب المحقق النحرير الماجد الزكي الشيخ محمد بن حمودة بن أحمد جعيط وكتب قبله قوله: [الخفيف] أيها الخل إن أبكار فكري ... عطِشت لارتياد ورد القرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 إذ أريتم فتانة الطرف لطفاً ... فأتوا"مورد الهناء المعين" وهذا نص تقريظه: جاءت مسربلة ثياب سرور ... وتذيع نشْر ثنائها المعطور باكورة العام الجديد تطلعت ... وتقلدت عقد الهنا بنُحور برزت ومنْهلَّ السرور تبثه ... فانهلت الأمطار مثل بحور وأدارت الراح الحلال على الورى ... في كأس جوهر لفظها المسطور في لطف "أندلس" وحسن جزالة ... تُزري بأبكار "العراق" الحور لا غرو أن شمخت بأنفٍ وهي في ... "حمام أنف" شامخ معمور وكِناسها البيت الحسينيُّ الذي ... شمخت دعائم مجده المشهور ومديرها الفذ "السنوس مَحمدٌّ" ... حاوي على المنظوم والمنثور ذاك الذي اقتنص المعارف عندما ... قد خاض يم العلم خوض بصير فغدا يرصع تاج دهر فاغتدى ... يسمو بدر نفائس التحرير ويفيض ينبوع القريض بمقْول ... يزري بشعر "فرزدق" و"جرير" فلذا أراك فريدة من لفظها ... ينهلّ موردُ للهنا كبحور لله موقع لطفها في أذن مَن ... قد كان بالأغراض خير خبير لما سطت حسناً عليَّ جعلتها ... وسطى لتاج الرائد المبرور فبراعة استهلال مطلعيه قد ... جاءت بأن العامَ عامُ سرور نشروا لمطوي الثنا كل الورى ... لجميل لطف الرائد خبير عهدي به يرعى الهشيم فريثما ... وافيت جاء بلؤلؤ منثور وغدا يثير عزائم الإسلام للن ... هج القويم بوعظه المسطور وروته فرسان الطِّراد وزينو ... أن الذي أنشاه خيرُ سمير وهو المجلي لا يقاس بفارس ... رام النزال بمسلك مهجور دم أيها الخل الصديق مرفعاً ... واللطف حاط بكم إحاطة سور تبدي البدائع والإله يُمِدّكم ... بالعون منه على ممر دهور ولو أردنا ذكر جميع مفاخير هذا الأمير، ومدائحه الأدبية التي تزري بطيب العيير، وتفاصيل مآثره ونتائج أعماله، التي بلغ بها إلى غاية آماله، لضاق بنا غرض الكتاب، دون البلوغ إلى غاية الآراب. ولكن دلالة الآثار تغني البصير عن تفاصيل الأخبار، وفيما ذكرناه عنوان، على ما له من المزية وعلو الشان. وقد استوزر هذا الأمير في الوزارة الكبرى أولاً وزير ابن عمه وأخيه مصطفى خزندار وهو من مماليك المشير أحمد باشا باي، وقد صاهره بأخته واستوزره مدة دولته، فأقام على تلك الخطة إلى أن تجاوز فيها الثلاثين سنة وتأخر عنها في موفي الثلاثين من شعبان سنة تسعين. توفي قبل زوال يوع الجمعة السادس والعشرين من رجب الأصب سنة خمس وتسعين. وكان تأخيره بولاية صهره خير الدين، وهو أيضاً من مماليك المشير المذكور وعلى عهده ولي أمير لواء على الخيالة وترقى في الخطط وسافر إلى باريس في محاسبة محمود بن عياد، وأقام هنالك عدة سنين وأنتج حسابه معه لدى المجالس هنالك ك27.238.337. ريالات تونسية وتمّ له الحكم بتاريخ رجب الأصب سنة ثلاث وسبعين وولي في وزارة البحر، وتقدم في رئاسات المجالس وألف "كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك". وجوت على يده الإصلاحات التي كانت من مبدأ ولايته وزيراً مباشراً إلى أن استعفي من خطة الوزارة الكبرى. وتقدم لها عوضة محمد خزندار صبيحة السبت الحادي عشر من رجب الأصب سنة أربع وتسعين وهو من مماليك المقدس حسين باشا باي وولي وظيفة خزندار على عهده وباشر القيادات المهمة مثل الأعراض والساحل وارتقى في الخطط وتحنك بالتجارب وباشر الحكم في القسم الثاني من الوزارة وباشر الوزارة الكبرى إلى أن استعفى فأقام على وزارة الشورى. وقدم الأمير للوزارة الكبرى ابن تربيته مصطفى بن إسماعيل آغا صبيحة يوم السبت السادس والعشرين من شعبان الأكرم سنة خمس وتسعين وذلك بعد أن رقاه في خدمته إلى رتبة أمير لواء العسة المنصورة في قصره، ثم رقاه في الخطط وولاه قيادة الوطن القبلي وخطة صاحب الطابع ووزارة البحر واستعمله على الساحل وصار وزير الشورى وباشر الحكم في القسم الثاني من الوزارة مدة وزارة من قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وسافر سفيراً إلى إيطاليا لتهنئة ملكها بجلوسه على سرير الملك. وكان ركوبه صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين ورجع يوم الخميس الثامن عثر من صفر. ثم سافر إلى باريس عند افتتاح معرض سنة 1878 مسيحية صبيحة يوم السبت التاسع من جمادى الأولى ورجع يوم الثلاثاء السادس عشر من جمادى الثانية. واستمر على مباشرة خدمته مع القيام بشخصيات مصالح مخدومه، ثم ارتقى إلى خطة الوزارة الكبرى والوزارة الخارجية ورئاسة الكومسيون المالي بعد استعفاء من قبله. وباشر التصرف في الخطط المذكورة على الوجه الأتم. وحين أقبل عام سبعة وتسعين اجتمع بعض أعيان الأهالي على عمل مصحفين كريمين دفتاهما ذهب مرصع بالألماس وخرج يوم رأس العام وفد من أعيان الأهالي يقدمهم الشيخ محمد الشريف إمام جامع الزيتونة وتلقاهم الأمير بموكبه المحتفل بسراية باردو وعن انتظام الموكب خطب الشيخ خطبتين في الغرض الذي قدموا من أجله وقدموا المصحف الأول هدية للأمير والثاني هدية للوزير فخطب الشيخ محمد العزيز بوعتور باش كاتب على لسان الأمير خطبة هذا نصها: "الحمد لله فياض ذوارف المنن، الذي أنبت في قلوبنا حب الوطن، النبات الحسن، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي فاز بطاعته المحسنون، وسعد باتباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً يتأرجان عن شذا الزَّهر، ويتبلجان عن سني الكواكب الزُّهو. هذا ويا أيها الملأ الأعيان إن أسعد أماني وأقصى آمالي، تقدم البلاد ونجاح الأهالي، ولما انطوت عليه ضمائري من حب بلادي ومملكتي، ومنبتي ومنبت سلفي وعترتي، فلم أزل أخلص لله في وسائل أمنهم وراحتهم نيتي، وأعقد على جر خيرهم طويتي، فتخيرنا لكم من آثرناه لخدمتنا، وربيناه تحت كنفنا، وفي ظل نعمتنا، وأحللناه محل الولد، وفلذة الكبد، وهذبنا بالآداب خلقه، وعلم سبب العمران وفئ قه، فجاء على قدر، وسبق إلى كل مكرمة وضاحة الغرر، مع حسن الطوية وخفض الجناح للمضطهد والمضطر، فما اخترت لمصالح البلاد إلا غرْسي، ولا أحببت لها إلا من أحببته لنفسي، وهو الصدر العماد وزيرنا الأكبر ابننا مصطفى بن إسماعيل آغا. أسبغ الله تعالى على الجميع آلاءه إسباغاً. هذا وإن مقدمكم أيها الملأ الأعيان، وقع مني موقع المسرة والاستحسان، وتلقيت هديتكم كاب الله تعالى المجيد أمان الأرض، وشارع الشريعة وفارض الفرض، ومنار الهداية إلى سواء السبيل، بغاية من القبول والتعظيم والتبجيل، والله عز اسمه وري الإعانة، على القيام بأعباء الأمانة". القسم الأول في التعريف بأئمة جامع الزيتونة أدام الله عمرانه اعلم أن هذا البيت العتيق من المواضع المباركة في بلاد الإسلام، وصومعتُه كان يتعبد بها أحد الرهبان، وكانت إلى قربه زيتونة، وهنالك موضع شيخه الراهب صاحب الصومعة بسياج من الشوك حفظاً له، ولما أقبلت العرب على ذلك المحل سألوا الراهب عن سبب وضعه ذاك السياج في ذلك الموضع فأخبر أنه يرى في كل ليلة عموداً من نور متصلاً بالأفق فأراد حفظه من الأقذار. ولما قدم حسان بن النعمان الغساني الأزدي على عهد عبد الملك بن مروان ووصل إلى تونس سنة تسع وسبعين من الهجرة وفتحها في أخبار مذكورة أسس عند تلك الصومعة هذا الجامع الأعظم وجعل المحراب في موضع عمود النور، وأبقى شجرة الزيتون فسمي بها. ثم لما قدم إلى تونس عبيد الله بن الحبحاب على عهد هشام بن عبد الملك بن مروان أتم بناء جامع الزيتونة سنة إحدى وأربعين ومائة فقان سقف بيت الصلاة مقاماً على أكثر من مائة وخمسين أسطوانة من الرخام وبعضها مرمر. وقد جاء تاريخه (اعلم 141) المرتسم على الأقواس التي فوق التوابت. ثم إن زيادة الله بن الأغلب بنى فيه الأبنية الضخمة حين بنى سور الحاضرة التونسية ونقش في القبة التي فوق المحراب اسم أمير المؤمنين المؤمنين المستعين بالله بتاريخ سنة خمسين ومائتين فكان تأسيس هذا الجامع الأعظم على تقوى من الله في البقعة المباركة. وفيه مواضع كثيرة معروفة بمحلات استجابة الدعاء وأماكن أخبر عنها أصحاب الكشف أنها محل لحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لخاصة أولياء الله رضي عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقد كساه وحسّنه أمير المؤمنين يحيى بن المستنصر الحفصي ووقع الفراغ من كسوه سنة ست وسبعين وستمائة. وفي عام ستة عشر وسبعمائة أمر السلطان زكرياء الحفصي بعمل عوارض وأبواب من خشب لبيت الصلاة وكتب تاريخ ذلك في أعلى باب البهور ثم إن السلطان أبا عبد الله الحفصي أنشأ فيه المقصورة التي بابها مما يلي صحن الجنائز. وأوقف بها كتباً جمة وبنى السبيل الذي تحتها على رأس المائة العاشرة وجعل النظر على المكتبة لإمام الجامع يومئذ الشيخ محمد بن عصفور. ثم إن الأمير محمد باي المرادي شيد منه أعلى صومعته وسقَّفها وأدار بها السياج المحيط بها، ووضع الرخامة لتحرير الوقت وكتب عليها اسمه ثم إن إمام الجامع الشيخ محمد تاج العارفين البكري بنى في صحن الجامع المجنبة الشرقية في ذلك العهد وكتب اسمه في سقفها. أما التغيير في سقف الجامع وأبنيته فقد وقع بكثرة وقد أدركت تغييراً كثيراً من سقف بيت الصلاة وسائر بناء مجنبات الصحن وسقفها وبناء صحن الجنائز وسقفه إلى غير ذلك من الإصلاحات الجارية. وقد أحدث به أميرنا المشير الثالث بيتاً بالمقصورة المسماة مقصورة النواورية المشرفة على الطيبيين وكان وضع البيت المذكور لخصوص اجتماع المشايخ النظار بجامع الزيتونة للمفاوضة في الأعمال العلمية التي اقتضاها الترتيب السابق الذكر. ولم يزل أهل البر يوقفون على هذا البيت المعظم الأوقاف المعتبرة لإقامة شعائره وإيقاده وتحصيره على أكمل وجه. وهو قائم الشعائر بإقامة الخميس والجمعة والعيدين على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه. ومع ذلك تجري به الدروس العلمية سائر أيام الأسبوع على ما سلفت إليه الإشارة في ذكر اعتناء الأمير بالعلم وأهله. أما أحزاب القرآن العظيم التي تتلى به كل يوم فهي كثيرة على نوعين: منها ما يتلى عن ظهر قلب بقراءة حزبين في كل يوم بحيث يكون تمام الختمة بشهر. ومنها ما هو بقراءة الأسفار بحيث تختم الختمة كل يوم وهي أحزاب أقامها أربابها من أهل البر بأوقاف جارية على من يتولى القيام بها من القراء، ونظر أغلبها إلى إمام الجامع. وأعظم هاته الأحزاب حزب الأسبوع، وهو يقرأ تلاوة بعد صلاة الصبح كل يوم وقراؤه منقسمون إلى سبع دول كل دولة يحضر قي قراؤها يوماً من الأسبوع يقرؤون به سبعاً من القرآن العظيم أقام المحراب تلاوة، وتمام الختمة يحصل يوم الجمعة من كل أسبوع وعليه أوقاف لها بال ولا يتقدم للقراءة إلا من يشهد بحفظه شيخ مشايخ تلك الدول بالتلاوة بين يديه وأخذ التقديم منه بعد الحصول على تذكرة الأمير. وأما بقية الأحزاب التي بالجامع فهي ثلاثة أحزاب بعد صلاة الصبح، وسبعة أحزاب قمل الزوال، وثلاثة أحزاب عند الزوال، وستة عشر حزباً قبل صلاة الظهر، وخمسة عشر حزباً بعدها، وثلاثة عشر حزباً بعد صلاة العصر، وحف بان بعد صلاة المغرب عدا تجويد شيخ الختمة وصاحب سجادة الجامع على كرسيه قبل الصلاة نسأل الله أن يديم عمرانه بدوام ذكره. وحيث إن هذا البيت اختص بالمزايا الفاخرة، كانت خطة الإمامة به من أعظم خطط البلاد زيادة على تعظيمها الشرعي. وقد تقدم لها من جهابذة علماء الدين وحفاظ المذهب المالكي وصالحي الرجال أعيان كثيرون منذ صارت حاضرة تونس مستقراً لسلاطين إفريقية وأمرائها، وذلك أواسط المائة السابعة من الهجرة على ما سبق ذكره في صدر المقدمة. وهنا نقدم على المقصد أنموذجاً في ذكر من ولي هذه الخطة الجليلة من خطباء جامع الزيتونة وأئمته منذ ذاك التاريخ رضي الله عنهم أجمعين فممن ولي هاته الخطة قاضي الجماعة: 1 "الشيخ إبراهيم بن عبد الرفيع" واتفق مدة ولايته أن جُدِّد السقف الذي تحته منبر الجامع، فأمر بتغطية ذلك الموضع بالحصر، وخطب فقام أبو علي القروي منكراً على الإمام خطبته بدون سقف وأغلظ عليه في القول بين العامة فأمر به فسجن. وعان ابن عرفة يقول ليس من شرط الخطبة أن تكون تحت سقف إذ ليس من شرط الجامع أن يكون مسقفاً كله فلو خطب الخطيب في الصحن جاز. 2 وقد تأخر الإمام ابن عبد الرفيع عن الخطبة، ثم وليها العالم الصالح "الشيخ هارون الحميري" فكان إماماً وخطيباً ومفتياً بعد صلاة الجمعة بجامع الزيتونة إلى أن توفي في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وسبعمائة. 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وكان في مرضه استخلف عمدة المذهب الشيخ محمد بن عبد السلام الهواري فبلغ ذلك إلى قاضي الجماعة ابن عبد الرفيع فمنعه. وقال: إن أهل تونس لا يولون جامعهم إلا لمن هو من بلدهم. 4 واستخلف المدرس (الشيخ محمد بن محمد بن عبد الستار التميمي) شيخ مدرسة المعرض. واستقل بالخطبة عند وفاة أبي موسى الحميري. وكان ورعا يتعاطى الفلاحة بنفسه. يخطب يوم الجمعة بثياب صلاته وإذا كان من الغد لبس جبة خشنة وجعل على ظهر حماره الرَّشا وساقه بيده إلى جنانه الذي كان يخدمه بيده ويتمعش منه. أما الفُتيا بعد صلاة الجمعة فوليها الشيخ محمد بن محمد بن هرون الكناني وكان الخليفة إمام الخمس على عهد ابن عبد الستار الحافظ الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن علي بن عبد البر التنيوخي خطيب جامع القصبة. وكان عدلاً ذات سمت حسن له عناية بالتاريخ والرواية. اختصر ذيل السمعاني، واقتضب تاريخ الغرناطي، وألف تاريخاً على طريقة الطبري في ستة أسفار، وكان يجلس لرواية مقامات الحريري بدُويْرة جامع الزيتونة، واحتج ابن عرفة في مختصره الفقهي بصنيعه في ذلك مع ما في المقامات من المثالب. وتوفي في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وولي بعده خليفة بالجامع الشيخ إبراهيم البسيلي. ولم يزل الشيخ ابن عبد الستار خطيب الجامع وإمامه الأكبر إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة. 5 ووليها القاضي الشيخ عمر بن عبد الرفيع قال الأبي في شرح مسلم: كان خطيباً بجامع الزيتونة الأعظم. ولا يقرأ في الخطبة آية (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً) لعذر يمنعه من طول الوقوف إلى أن أمره حاجب السلطان الشيخ ابن تافراجين بقراءتها أو ترك الخطة فالتزمها. 6 ولما توفي الخليفة الشيخ إبراهيم البسيلي سنة ست وخمسين وسبعمائة تقدم عوضه لإمامة الخمس حافظ المذهب صاحب المختصر الفقهي (الشيخ محمد بن محمد بن عرفة الورغمي) ثم ولي خطيباً سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، وكان يومئذ المفتي بعد صلاة الجمعة هو الشيخ أحمد الغبريني إلى أن توفي سنة سبعين وسبعمائة، ودفن بجبل المنار، فوليها عوضه الإمام ابن عرفة. ولما خرج لحج بيت الله الحرام سنة اثنتين وتسعين استخلف للخمس والفتيا بجامع الزيتونة تلميذه، أبا مهدي عيسى الغبريني وللخطبة به الشيخ محمد البطرني ولما عاد باشر خططه بنفسه لحى عادته. وكان إماماً في العلوم، وصنف في كثير منها، واشتغل في آخر عمره بالفقه. وكان معتنياً بالمدونة ملازماً للنظر فيها محتجاً بها، صواماً قواماً كثير التلاوة لكتاب الله عز وجل، مجداً في دنياه موسعاً عليه فيها مالأ وجاهاً ونفوذ كلمة، عاش سبعاً وثمانين سنة وتوفي في الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث وثمانمائة. ودفن تحت جبانة ولي الله المنتصر بالزلاج وقد جمع الشيخ محمد الورغي تواريخ ولادة الإمام ابن عرفة وإمامته وابتداء تأليفه المختصر الفقهي وانتهائه وحجته ووفاته في بيتين وهما قوله: [الطويل] ولادته: أرّخ سروري وأمهُ: ... نثور، وبدء الكتب: فتحكُمُ يدري [716] [756] [772] وإكماله: درع التمام، وموته: ... خراب، وكان الحج: فاض من السر [786] [803] [797] 7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وبعد وفاة ابن عرفة ولي عوضه إماماً وخطيباً ومفتياً بجامع الزيتونة بعد صلاة الجمعة تلميذه حافظ المذهب قاضي الجماعة (الشيخ أبو مهدي عيسى الغبريني) قال الشيخ عبد الواحد الغرياني: لما ولي شيخنا القاضي عيسى الغبريني إمامة جامع الزيتونة سألني هل عندك علم في مسند النقارة (طبلة صغيرة ينقر عليها) التي تهز بدويْرة الجامع إعلاماً بإقامة الصلاة، فأخبرته: أن أبي حدثني عن شيخه عبد الله بن عبد البر أنه كان إذا أتى للجامع أكثر ما يجلس على إصطبل بإزاء باب الجنائز فإذا رآه المؤذن هنالك أقام الصلاة. وقليل جلوسه في الدويرة إلا لعذر أو رواية كتاب عليه بحيث ربما لا يعرف المؤذن هل هو هنالك أم لا فتجد خدمة الجامع يهزون تلك النقارة إعلاماً بحضوره على وجه الندرة، قال: فاستحسن إعلامي والتزم تركها. وكان يقول: لم أدرك وجهاً للخلاص في فعلها، واستعادها البرزلي اقتداءً بشيخه ابن عرفة. ثم اختلف حال الأيمة من بعده فمنهم من فعلها ومنهم من تركها كالإمام أبي الحسن اللحياني. اهـ. قلت: أما اليوم فقد انقطع استعمالها ولم يبق من آثار الإعلام بحضور الإمام غير مناداة قيم الجامع عند باب الدويرة المسماة اليوم "مقصورة الإمام" قبل صلاة الظهر خاصة بقوله "الصلاة حضرت يرحمكم الله" فينادي بها المؤذنون عند أبواب الجامع وهو إعلام حسن. وقد توفي الإمام الغبريني في التاسع والعشرين من ربيع الثاني سنة خمس عشرة وثمانمائة ودفن بالزلاج. 8 ثم وليها عوضه شيخ مدرسة ابن تافراجين الفقيه الحافظ (الشيخ أبو القاسم بن أحمد بن محمد البرزلي) فاجتمعت نجيده الإمامة والخطبة والفتيا بعد صلاة الجمعة بجامع الزيتونة، ولازم القيام بالخطط المذكورة مثل شيخه إلى أن بلغ من العمر إلى مائة وثلاث سنين. وكان يلقب شيخ الإسلام. وتوفي في الخامس عشر من ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة ودفن بالزلاج. 9 وولي في الخطط المذكورة عوضه قاضي الجماعة (الشيخ أبو القاسم القسنطيني) وولي يومئذٍ الشيخ عمر القلشاني خطبة جامع التوفيق والفتيا به عوض قاضي الجماعة. وأما مدرسة ابن تافراجين فقد وليها بعد البرزلي الشيخ محمد بن عصفور وأقام القاضي القسنطيني على الخطط المذكورة مع خطة القضاء إلى أن ضرب بمغروس وهو على سجادته عند باب البهور بعد سلامه من صلاة الصبح يوم الأربعاء السابع عشر من صفر الخير سنة ست وأربعين وثمانمائة. وقتل ضاربه في الحين تحت صومعة الجامع، ورفع الشيخ إلى داره فكتب وصيته ومات في الليلة القابلة ودفن هت الغد بالزلاج. 10 وتقدم عوضه (الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله القلشاني الباجي) شارح الطوالع ومختصر ابن الحاجب نولي خطة قضاء الجماعة وخطبة جامع الزيتونة والفتيا به بعد صلاة الجمعة. وأما إمامة الخمس فوليها الشيخ محمد بن عمر المسراتي القروي خطاب جامع القصبة. وتنقلت خطبة جامع التوفيق والفتيا به بعد صلاة الجامعة من الشيخ القلشاني إلى الشيخ محمد بن عقاب. ولازم الشيخ عمر القلشاني القيام بالخطط المذكورة إلى أن بلغ من العمر أربعاً وسبعين سنة وأصيب بالوباء، وطال به مرضه المتصل بوفاته ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وثمانمائة ودفن بالزلاج. 11 وتقدم عوضه خطيباً بجامع الزيتونة (الشيخ محمد المسراتي) وأما فتيا الجامع وقضاء الجماعة فوليهما الشيخ محمد بن عقاب مع خطبة جامع القصبة. وتوفي الشيخ محمد المسراتي يوم الجمعة الثامن عشر من شوال سنة خمسين وثمانمائة ودفن من الغد بالزلاج. 12 وتقدم عوضه للإمامة والخطبة قاضي الجماعة (الشيخ محمد بن محمد بن عقاب) فاجتمعت لديه الخطط الثلاث مع خطة القضاء. وتنقلت خطبة جامع القصبة مع التدريس بالمدرسة التوفيقية إلى الشيخ أحمد بن محمد القلشاني. وتوفي الإمام ابن عقاب بعد العشاء من ليلة الاثنين السابع عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وثمانمائة. ودفن من الغد بجبل المنار بجبانة سيدي أبي سعيد الباجي. 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وتقدم عوضه للإمامة والخطبة بجامع الزيتونة (الشيخ محمد بن أبي بكر الونشريسي) . وأما الفتيا بعد صلاة الجمعة فوليها قاضي الأنْكحة الشيخ محمد البحيري خطيب جامع أبي محمد بباب السويقة في الثامن من المحرم سنة اثنتين وخمسين فكان يصلي الجمعة بجامع أبي محمد ويأتي للفتوى بجامع الزيتونة. وقد توفي الإمام الونشريسي عند العصر من يوم الأربعاء خامس ربيع الثاني سنة ثلاث وخمسين ودفن من الغد بالزلاج. 14 وتقدم عوضه للخطبة (الشيخ محمد البحيري) يوم الجمعة سابع الشهر المذكور مع الفتيا به بعد صلاة الجمعة. وأما إمامة الخمس فوليها الشيخ أبو الحسن بن محمد اللحيائي ومات الخطيب البحيري عشية الاثنين خامس ذي القعدة الحرام سنة ثمان وخمسين ودفن من الغد بالزلاج. 15 وولي عوضه في الخطبة والفتيا بعد صلاة الجمعة (الشيخ أحمد بن محمد القلشانى) مع مشيخة المدرسة الشماعية منتصف رجب وهو شارح المدونة ومختصر أبن الحاجب والرسالة. ولما توفي إمام الخمس اللحياني تقدم عوضه خليفة الشيخ أبو الحسن الجباس. ومات في الثامن والعشرين من المحرم الحرام سنة إحدى وستين. وتقدم عوضه خليفة لإقامة الخمس بجامع الزيتونة الشيخ أحمد بن عمر المسراتي أوائل صفر. وتنقلت منه خطبة جامع أبى محمد والفتيا به إلى قاضي الأنكحة الشيخ أحمد القسنطيني، ولم تزل فتيا جامع الزيتونة وخطبته بيد الشيخ أحمد القلشاني إلى أن توفي عند غروب شمس يوم الأحد ثامن شعبان سنة ثلاث وستيى وثمانمائة ودفن من الغد بالزلاج. وبعد وفاته لعشرة أيام خرج السلطان بمحلته ثم أرسل لتأخير الشيخ أحمد القسنطيني مر قضاء الأنكحة وخطبة جامع م بي محمد والفتيا به. 16 ومن الغد تقدم الشيخ أحمد بن عمر المسراتي إلى خطبة جامع الزيتونة مع الإمامة، وتقدم قاضي الجماعة الشيخ محمد بن عمر القلشاني خطيبا بجامع القصبة ومفتياً بعد صلاة الجمعة بجامع الزيتونة، وتقدم الشيخ محمد الزنديوي للخطبة والفتيا بجامع التوفيق ومشيخة المدرسة الشماعية وتقدم الشيخ محمد الغافقي للخطبة والفتيا بجامع باب الجزيرة ومشيخة مدرسة ابن تافراجين. واستقرت إمامة جامع الزيتونة وخطبته بيد الشيخ أحمد المسراتي. وهو الذي صفى على جنازة الغوث الشيخ سيدي أحمد بن عروس رضي الله عنه ثاني صفر الخير سنة ثمان وستين وتوفي الإمام المسراتي سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة. 17 وتقدم عوضه قاضي الجماعة (الشيخ محمد القلشاني) فجمع بين الخطط الأربع وهي القضاء وفتيا جامع الزيتونة والخطبة والإمامة إلى أن أقعده المرض أواسط صفر سنة ست وثمانين. 18 ولما توفي تقدم عوضه للخطط المذكورة (الشيخ محمد بن بلقاسم الرصاع الأنصاري) شارح حدود ابن عرفة، ثم تخلى عن القضاء. ولازم القيام بوظائف جامع الزيتونة إلى أن توفي سنة أربع وتسعين وثمانمائة. 19 فولي عوضه (الشيخ محمد بن محمد بن عصفور) وهو حفيد الأستاذ النحوي أبي الحسن علي بن موسى الحضرمي الملقب بابن عصفور الإشبيلي. ولد بإشبيلية سنة سبع وتسعين وخمسمائة. وتوفي بتونس ليلة الأحد الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة تسع وستين وستمائة. ودفن بمقبرة ابن مهنى قرب جبانة ابن نفيس. وقد تقدم حفيده أبو عبد الله محمد بن عصفور إلى ولاية نظارة الأحباس خامس شعبان سنة ثمان وخمسين وثمانمائة غير أنه صرف منها بولاية الشيخ محمد البيدموري أواخر سنة إحدى وستين وسبعمائة. وتوفي محمد بن عصفور في صفر سنة اثنتين وستين. وتقدم ولده محمد إلى مشيخة مدرسة ابن تافراجين ثم إلى الخطبة والإمامة بجامع الزيتونة بعد وفاة إمامه الأنصاري ولازم ذلك إلى أن توفي سنة أريع وتسعمائة. 20 وجميع هؤلاء الأيمة ملأ ذكرهم سائر تواريخ البلاد فنشرت من تراجمهم وحسن أخبارهم في العلم والفضل ما اشتهر به فضلهم، ولذلك اقتصرت على مجرد تواريخ ولاياتهم ووفياتهم غير أنه بعد ذلك توالت على البلاد طواعين والتاثت أمور السلطنة ولم يوجد في البلاد من يؤرخ رجالها، ولذلك لم نقف على خبر للمتولين خطة الإمامة إلى أن وليها الشيخ محمد بن إبراهيم الأندلسي الأنصاري فكان هو القائم بإمامة جامع الزيتونة سنة سبعين وتسعمائة. 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ثم وليها (الشيخ أبو الفضل بن أبي القاسم البرشكي) حفيد قاضي الجماعة إلى أن توفي سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة. 22 ثم وليها (الشيخ محمد بن سلامة) الفقيه المفسر الواعظ إلى أن توفي في جمادى الثانية سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة. 23 ثم وليها (الشيخ محمد الأندلسي) الأستاذ النحوي تلميذ العيسي ولازمها إلى أن توفي سنة سبع عشرة وألف. 24 وولي (الشيخ أبو يحيى بن قاسم الرصاع الأنصاري) خطيباً وإماماً بجامع الزيتونة بعد أن استقال من الفتيا ولازم القيام بإمامة الجامع أكثر من سبع عشرة سنة. ولما مرض قيل له: هل يصلح ابنك للإمامة؟ وكان صغير السن بين يديه قال: لا، فقيل له: هل يصلح الشيخ محمد براو؟. وكان إماماً في العربية فقال: يصلح لها إلا أن أهل المدينة يأنفون منه لكونه ليس منهم، فقيل له: والشيخ محمد الغماد؟ فقال: جوهرة عليها الران. فقيل له: والشيخ محمد تاج العارفين؟ فقال: جوهرة ما مستها يدان. وتوفي الإمام الرصاع يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثلاثين وألف. 25 وتقدم عوضه (الشيني محمد تاج العارفين البكري) ، واستمرت الإمامة في بيته بين بنيه مائة وثلاثاً وتسعين سنة. وفي أثنائهم كان مبدأ الدولة الحسينية خلد الله عزها، ولذلك نذكر هنا الآيمة من عهد المقدس حسين بن علي تركي إلى الآن على شرطنا السابق فنقول وبالته نستعين: الشيخ علي البكري هو الشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر الأموي رابع من تقدم لخطة الإمامة الكئرى بجامع الزيتونة من السادة البكريين رضي الله عنهم أجمعين وحسبه بذلك فخراً. ورث الفضائل كابراً عن كابر، ملئت بمفاخرهم الصحف والدفاتر. من ذرية الخليفة الثالث جامع القرآن، عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فهم عفانيون وجدهم الذي ينتسبون إليه هو (الشيخ أبو بكر) دفين المنيهلة من غابة تونس وثروتهم أشهر من أن تذكر لسعة أوقاف بيتهم. قيل: إن هناشير أوقافهم خاصة بلغت مائة هنشير وهنشيراً عدا العقارات، كلها هم المختصون بعشر زكاتها ليس للدولة معهم شيء منه. وكان والد الشيخ تاج العارفين من أهل الله الكرماء ونشأ ولده (الشيخ محمد تاج العارفين البكري العفاني) إماماً في العلم والصلاح، وتقدم لإمامة جامع الزيتونة في الثالث والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثلاثين وألف بإشارة أستاذه الإمام من قبله الشيخ أبي يحيى الرصاع، وقام بالإمامة والخطبة وزان المحراب والمنبر بعلمه وعمله. قيل: إنه لم يخطب على منبر جامع الزيتونة من إنشاء غيره ولم يكرر خطبة قط، مع ما فيه من المعرفة بالته جل جلاله وفصاحة اللسان وثبات الجنان، ومع ذلك له من الحزم والدراية ما ليس لغيره، ولذلك لما وقعت المشاغبة بين تونس والجزائر واشتد القتال بين العسكرين في واقعة عام الشطار في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وألف خرج الشيخ محمد تاج العارفين ومعه ولي الله الشيخ إبراهيم الجديدي والشيخ عبد النبي خطيب جامع القصر ومن معهم لعقد الصلح بين الفريقين وتعيين الحدود، فكاد الحد الذي تعين بين المملكتين هو وادي سراط بحيث أن غربيه للجزائر وشرقيه لتونس. وكتب رسم التحديد لشهادة المفتي المالكي الشيخ قاسم البرشكي والشيخ محمد بن أبي الربيع الحنفي ورمضان أفندي خطيب الجامع اليوسفي وعلي آغة كرسي الجزائر ورجع الشيخ محمد تاج العارفين بإتمام الصلح وقرار الراحة. وهو زينة جامع الزيتونة يومئذ يقرىء صحيح البخاري دراية ودروساً في علوم الدين وله في النثر يد، ورأيت هن إنشاءاته مراسلة أرسلها من قصر جابر مكاتباً بها صديقه الشيخ عبد الكريم الفكون وهذا نصها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الحمد لله الذي أطلع شمس الطلعة الفكونية من الأفق المغربي ويا عجباً من طلوعها أماناً للعالم، وجمع فيها ما افترق من شتات العلوم في كل نحرير عالِم، وأزاح بها سحب الإشكال، وأراح بها من سحب الجهالة المخدرة لوجوه المعاني والأشكال، وقيد شوارد العلوم، وقرت بها على طريقة التحقيق بين المعوق والمفهوم، أحمده حمد من ركب إليه في استصواب الصواب، وأشكره شكر من علم أن شكره سبحانه هو غاية المرغوب والثواب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد محقق في إيمانه، مخلص في عرفانه وإيقانه، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله الذي أوتي من الكلم جوامعه، وعُمِّر به من كل سبيل صوامعه وجوامعه، الفهم صل وسلم عليه وعلى آله أولي الجد والتحقيق، وصحبه خير صحب وأكثر فريق، ما ذر شاردتي وأشرق غارب، وسكب هاطل وهطل ساكب. وبعد فسلام يسابق النسيم، ويجاري برقته نفاسة التسنيم، يصافح الروض فيكتسب من بشره، ويفاوح الأزهار فلا تجد أذكى من نشره، يسترقُ العنبر من عبيره، ويسترق المسك لفوته عنه في كثرة الشم وتكويره، كما قلت: أهدي إليك سلاماً ... يفاوح الندَّ نشره يلقاك من كل فج ... إذا تلقاك بشره أهديه إلى السيد الفقيه، العالم العلم النزيه، النحرير المتفنن الوجيه، من لنا إلى حبه ركون، سيدي عبد الكريم الفكون، كان الله له في الحركات والسكون، آمين. هذا واعلم أيها الصديق الحميم، أذاقنا الله وإياك برد الرضا والتسليم، أني رقمته والخجل في الوجنات يبدي حمرته، والوجل يظهر تارة صفرته، في منزل به خيام المَحَال، أسأل الله أن يجعل الإسعاد بها لا من المحال. وقد تفاءلنا باسمه جابر، وقد طاب منه مشربه الرائق الزاهر، منزل جبر الله فيه القلوب، وشر الله فيه كل مرغوب ومطلوب، من إصلاح الله سبحانه بين عباده، ورد سيف المعاند والكائد في أغماده، أوجب الله لكم السعادة، وشمر لكم أسباب الحسنى وزيادة، وأن السيد الفقيه، المشارك الوجيه، سيدي أبا العباس أحمد بن الحاجّة، جعل الله حسناته في أسواق القبول رائجة، هو ومن معه من السادات الفقهاء الأعيان شنفوا أسماع الفقير، بما لا يسعه وضع لسان القلم وإملائه على التطريس والتسطير من محاسن أخباركم التي راءت لنا منهم بكل وجه جميل، وكرروا علينا عائدها في البردين والمقيل. ولقد قلت في ذلك: [الطويل] شغفت بكم لما تشنف مسمعي ... وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى لا جرم كاتبناكم وأيدي الشوق تتلقف حبات القلوب، وقد شبّ عمرها عن الطوق، وكفى أن عَلِمَ ذلك علاَّمُ الغيوب. وأعلمكم أني لا أنساكم من الدعا، كما أني أطلب ذلك منكم لاسيما بإصلاح الوعا، فإن الدعاء بظهر الغيب مستجاب، والتحابُّ في الله في هذا الزمان الصعب من العجب العجاب. ولا تنْسنا من مكاتبتكم مع الواردين، كما أنها ترد إليكم منا مع الصادرين. سقاكم الله رحيق الوداد في كاسات الإخلاص، وأورد صحائفكم مبيضة الوجوه مع زمرة صحائف أهل الاختصاص، ومن معنا من الجماعة وهم: سيدي محمد العامري، وسيدي علي الشرفي، وسيدي محمد الأندلسي، وسيدي الحاج عون الله، يُهدون إليكم أطيب السلام، ويخصونكم بالتحية والإكرام، ويطلبون دعواتكم، في خلواتكم وجلواتكم، ومعاد عليكم منا ورحمة الله وبركاته. رقَّمه بأنامل التقصير، العبد العاجز الفقير، المذنب الجاني، محمد تاج العارفين العثماني. لطف الله تعالى به بمنه. بتاريخ أوائل ذي القعدة الحرام عام سبعة وثلاثين وألف بقصر جابر. جبر الله صدع قلوبنا، وغفر عظيم ذنوبنا، وجعل استعدادنا لمعاده ووفر دواعينا فيما ينجينا ويقربنا منه زلفى بمنه ورحمته. وصفى الله على مسكة الختام، ولَبِنة التمام، سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام 10 هـ. 26 [الشيخ أبو بكر البكري] وبعد وفاة تاج العارفين تقدم لخطة الإمامة والخطبة ورواية الحديث بجامع الزيتونة ولده (الشيخ أبو بكر) وكان من رجال العلم والدين جلس لإقراء صحيح البخاري دراية بجامع الزيتونة وعمره سبع عشرة سنة وحضر درسه جميع علماء ذلك العصر عدا والده، فرأوا آية كبرى، وجزموا لأن ذلك كان بعناية ربانية زيادة على علمه وكانت أمه ابنة الشيخ أبي الغيث القشاش ومن بيتها انجر غالب أوقاف البكريين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قيل إنه كان في صغره واقفاً عند باب دارهم فمر به الولي الصالح الشيخ علي دبوز وبيده إناء مملوء لبناً فيه رائحة كريهة وعرض عليه شربه فشرب جميعه، ولما دخل وأخبر والده الخبر قال له: ذلك مرادي. وقد قرأ بزاويتهم على الشيخ محمد بن عبد الله "الكبرى وتفسير الجلالين" ونسج في علمه وعمله وإقامة منار الجامع على منوال والده، وظهرت له مكاشفات وأسرار، نقل عن خليفته بالجامع الشيخ عدي العامري أنه خرج معه مرة في زمن الربيع إلى زرع له فأعجبه خصبه فقال الشيخ لخليفته: أما أنا فلا آكل منه فكان عام وفاته. وفيه ختم البخاري دراية بملازمته لذلك في الثلاثة الأشهر المعظمة نقل عنه في يوم ختمه أنه كان كثير الاستظهار بحيث إنه سمع منه في ذلك الدرس عنوان المباحث ب (قلت) كثيراً. وكان خليفته يومئذ في إقامة الخمس والخطبة بجامع الزيتونة الشيخ علي بن محمد العامري وهو شيخ القراء بالجامع وعمدة المدرسين به- رضي الله عنه- وكانت وفاة الإمام أبي بكر البكري بسبب طاعون أصابه فتوفي سنة اثنتين وسبعين بعد الألف وأرف الشيخ محيد الوزير السراج بقوله: [المتقارب] أبو بكر أحزننا موته ... وكان لدينا رواءَ الأوام وكان قديماً خديمَ الحديث ... فسار بعزٍّ لدار السلام تقدم ممتثلاً للقضا ... وإن التقدم شأن الإمام فبادرْ بنصْبِ الأكف دُعاً ... لجرّ النعيم ورفع المقام فمسك أحاديثه عدها ال ... هداة وقد أرخوه: الختام [1072] 27 [أبو الغيث البكري] وعند ذلك تقدم للإمامة والخطبة ورواية الحديث بجامع الزيتونة أكبر بنيه (الشيخ أبو الغيث بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري) ثالث الأيمة البكريين رضي الله عنهم أجمعين. وكان شجاعاً فاضلاً قليل الكلام عزيز النفس يروي الحديث الشريف بدون دراية بحيث أن تدريس الأيمة للحديث بجامع الزيتونة في الثلاثة الأشهر المفضلة انقطع به، وقد قال الرعيني في تاريخه المؤنس: لم يكن بالديار التونسية من يوم حلّ بها العسكر العثماني من تعاطى الرواية والدراية إلا الإمام العالم الرباني، الشيخ أبو عبد الله محمد تاج العارفين العثماني، سقى الله ثراه من صوب الرحمة والرضوان. وكان مجلسه بالجامع من أجل المجالس وتحضره الأجلاء من أهل العلم وتدور بينهم المباحث الجميلة في العلوم الجليلة، ولا يخلو مجلسه من فوائد في الثلاثة الأشهر رجب وشعبان ورمضان إلى يوم الختم، وهو اليوم السادس والعشرون من رمضان. ثم تلاه ولده العلم الشهير، والعالم النحرير، الشيخ أبو بكر فسار بسيرة والده، وقام بعلم الحديث الشريف أحسن قيام، وشهد له بالدراية علماء الإسلام. فكان في هذا الفن نسيج وحده، وحصل له سر أبيه وبركة جده، إلى أن سار إلى رحمة ربه في سنة ثلاث وتسعين وألف (هكذا ذكر) فتغيرت تلك القاعدة وصارت رواية لا غير، وجرت بها العادة للتبرك، وانقطعت المادة من السير لأن ولديه لم يبلغا مبلغه ولا سعيا سعيه اهـ. وكان خليفته في إقامة الخمس والجمعة هو خليفة أخيه أعني الشيخ علي العامري هو شيخ المدرسة العنقية، وليها بعد وفاة الشيخ أبي الفضل المسراتي سنة خمس وثمانين وألف، وكان يقرىء بها الكبرى وعند وفاته تقدم خليفة عوضه أكبر ابنيه الشيخ أبو الفضل العامري شيخ القراء أيضاً بعد والده. وبعد وفاته ولي عوضه أخوه الشيخ حسن العامري فلازم إقامة الخمس ومشيخة القراء، وواظب على إقراء التجويد بالجامع، واستفاد منه خلق كثير إذ كان صاحب سجادة القراءة مجيزاً بالجامع والمدرسة المرادية. وقد أخذ عن الشيخ أحمد التدغي، ولازم خدمة الجامع بإقامة الخمس والتلاوة، والإمام أبو الغيث البكري يقيم الجمعة والعيدين ورواية الحديث خاصة. وعلى عهده جرت واقعة الشيخ حمودة فتاتة وذلك أنه كانت له مودة مع رمضان باي لحسن محاضرته ولطف أدبه ووئوق علمه وكان والده الشيخ محمد فتاتة يومئذ هو صاحب الفتيا بمذهب مالك وبذلك كانت وجاهة ابنه مع علمه عظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وكان لرمضان باي مغن يحسن ضرب الأرغنو يسمى مزهودا فتمكن بضرب الآلة من نفس سيده وتركه مشتغلاً بالملاهي. وأخذ يتصرف في الدولة وسعى في فصل مودة الشيخ حمودة فتاتة حتى منعه من الدخول إلى باردو، فرجع الشيخ إلى دروسه العلمية بجامع الزيتونة وتصدى لإقراء المختصر الخليلي والهمزية ثم ابتدأ درساً من صحيح البخاري دراية على حين لم يكن بجامع الزيتونة من يقرىء الصحيح دراية وكان راويه يومئذ هو الشيخ محمد زيتونة صاحب حاشية تفسير أبي السعود، فاجتمع على الدرس المذكور خلق كثير بين صلاتي الظهر والعصر وازدحمت عليه الخاصة والعامة حتى اضطر الأبعدون إلى سماع الدرس على حالة القيام ليتمكنوا من مشاهدة الشيخ وطار له بذلك صيت أحسَّ منه مزهود فأرسل إلى الإمام أبى الغيث البكري بأن يمنعه من إقراء درس الحديث بالجامع إذ ربما يؤول به الأمر إلى طلب إمامة الجامع وإن رأى منه عدم الامتثال والتمادي يمتنع من الحضور للصلاة ليكون ذلك سبب بعده عن الجامع فأرسل إليه الإمام البكري بإبطال الدرس فلم يتأخر، ولما رآه جلس إلى درسه خرج من الجامع ولم يقم صلاة العصر ذلك اليوم بجامع الزيتونة. ولما رأى الشيخ حمودة فتاتة صنيع الإمام تنقل بدرسه إلى مسجد سوق البلاط وغص المسجد بالرواة ولم يزد ذلك مزهوداً إلا غماً وحسداً فأغرى به رمضان باي ومنعه من الخروج من داره ولم يكفه ذلك حتى أرسل حرسأ هجموا على دار الشيخ وأخرجوه بترويع أمه وأبيه، وأهله وبنيه، وأوقعوا به ما بلغ به إلى الشهادة، ولاقى من الله الحسنى وزيادة. ولم يشعر بذلك رمضان باي إلا بعد الفوات، وكان ذلك على الدين وأهله من أعظم الحسرات. لكن لم تمض غير أيام، وقد شتت الله شمل مزهود وسيده وأشياعه بعد الالتئام، فدارت عليهم الأيام، والله عزيز ذو انتقام. وحسبك أن والده مفتي الأنام قابل تلك المصيبة بالتوجه إلى سيد الأنام، حيث قال في ذلك المقام: [الطويل] إليك رسولَ الله وجهت آمالي ... وألقيت ياسُؤلي ببابك أحمالي وأدعوك يا أعلى النبيئين رتبةً ... أغثني فإني في ضيق وأهوال أغثني أغثني يا ملاذي وملجئي ... فأنت عمادي في مُقامي وترحالي ألستَ الذي أرسلتَ للخلق رحمةً ... ويلجأُّ في الضرَّا إلى بابك العالي ألسْت الذي ما في سواك مؤمل ... وليس بمرجُوٍّ سواك في لأوجالِ ألست ملاذ الخلق في كل شدة ... وفي كل مكروه ألمَّ وأوبال فكن ليَ يا خيرَ الأنام وسيلة ... إلى الله كيما أن أبلغ آمالي ويا رب أنت الله سؤلي وموئلي ... وغايةُ قصدي ليس دونك من والِ بعينكَ ما قد نالني من مهانة ... وما شفَّني من سوء حال وإذلال وجئتك مضطراً بقلب به أسى ... ودمع جرى في صفحة الخد هطَّال فكن لي ولياً وانتصر لي ووالِني ... وجدْ لي بلطف منك ياخير مفضَال وإن لم تكن لي ناصراً وموالياً ... فمن ذا الذي أرجو لتسديد أحوالي وخذ ليَ حقي من ظَلوم أصابني ... بسوء وعجل ذاك يارب في الحال ومزِّقه ياذا البطش كل ممزق ... على الفور يا جبار من غير إمهال وسلط عليه منك كل بلية ... تعاجله في النفس والأهل والمال ودمره تدميراً وصيره مثلة ... ذليلاً حقيراً كاسف الذهن والبال وكدْه وشتت شمله وامحُ ذكره ... وأَحلِلْه في هون وبؤس وإذلال بجاه أُولي العزم الكرام وفضلهم ... وجملة أصحاب النبي مع الآل ولما ولي مراد باي ثامن شهر رمضان المعظم سنة عشر ومائة وألف وأرسل من قتل رمضان باي وأحرقه وألقى رماده وأعمل السيف في جميع شيعته كان من جملة أعماله في الحاضرة أنه عزل الإمام أبا الغيث البكري وبعد عزله خرج إلى حج بيت الله الحرام وأتم الحج والزيارة، وتوفي ليلة الخميس الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائة وألف. 28 [علي الرصاع] والذي تقدم لإمامة جامع الزيتونة والخطبة ورواية الحديث به هو المفتي (الشيخ علي بن حميدة الرصاع) حفيد الإمام أبي يحيى الرصاع السابق الذكر. 29 [أبو الحسن البكري] ولما أفضت الدولة إلى إبراهيم الشريف أواسط المحرم الحرام سنة ثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 عشرة ومائة وألف أرجع الدر إلى معدنه فقدم لإمامة الجامع رابع الأيمة البكريين وهو أخو البكري السابق: الشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر البكري صاحب الترجمة لفضله ودينه. يروى بين يديه صحيح البخاري والشفا، وهو زينة المحراب والمنبر. وقد أتقن حفظ القرآن وهو حسن الصوت والأداء، خطيب مؤثر، جهوري الصوت عالي الهمة، كريم وافر العطاء. وكان خليفته في إقامة الصلوات الخمس والخطبة، شيخ القراء الشيخ "حسن العامري" فناب عنه وعن أخيه السابق الذكر. وبعد وفاته ولي عوضه ولده العالم الشيخ حمودة العامري وقد ولد سنة ستين وألف وأخذ القراءات عن الشيخ "إبراهيم الجمل الصفاقسي" وأخذ العلم عن الشيخ "علي العامري" والشيخ "محمد قويسم" وتقدم بعد وفاة والده خليفة الخمس والخطبة وشيخ القراء بجامع الزيتونة ولازم القيام بذلك مع تدريس النحو والفقه والقراءات بالمقصورة مدة الإمام أبي الحسن البكري صاحب الترجمة الذي كانت وفاته أواخر ليلة الثلاثاء منتصف شعبان الأكرم سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ودفن بزاويتهم من ربض باب السويقة مع سلفه عليهم رحمة الله وأرخه الشيخ محمد الوزير السراج بقوله: [المتقارب] تُوفي علي ويا طالما ... على منبر الفضل إذْ ماخطب وأمَّ الأنامَ كما أمه ... ذوو فاقة فانثنوا بالأرب وإذ ما تمطِّى جواد الفنا ... وسار فأرخ تمام الخطب 30 الشيخ حمودة البكري هو الشيخ أبو محمد حمودة بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري خامس الأيمة البكرين تقدم للإمامة صبيحة الثلاثاء منتصف شعبان الأكرم سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف، وكان عمره يومئذ دون الثلاثين سنة، فصلى على والده بجامع الزيتونة وكانت العادة أن البكريين يصلون عليهم في بيوتهم. واستخلف خليفة والده الشيخ "حمودة العامري" فاجتمع حمودتان في خطة الجامع. وكان البكري المذكور عزيز النفس عالي الهمة رفيع الحسب إلى أن أدركته المنية فتوفي عليه رحمة الله. 31 الشيخ أبو الغيث البكري هو الشيخ أبو الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سادس الأيمة البكريين تقدم للإمامة بعد أخيه غير أنه لم تكن فيه أهلية لها وكان جليل الحسب والمقدار، رفيع النسب مرموقاً بعين الاعتبار، إلى أن أدركته المنية فتوفي عليه رحمة الله. وكان صاحب السجادة على عهده الشيخ "أحمد بن قاسم عزوز". ولد بتونس واشتغل بعلوم القراءات وأتقن العشر عن الشيخ "عبد الرحمن العصابي"، وله مشاركة في كثير من العلوم، وكان خطيباً بجامع الحلق خارج الباب الجديد وصاحب سجادة التجويد بالجامع الأعظم والمدرسة المرادية إلى أن أدركته المنية وهو يتلو القرآن سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف عليه رحمة الله. وكاد شيخ الختمة بجامع الزيتوتة يومئذ هو الشيخ "علي بن محمد سويسي" شيخ شيوخ جامع الزيتونة وخطيب جامع سبحان الله بربض باب السويقة إلى أن توفي نحو سنة ست وأربعين ومائة وألف عليه رحمة الله. 32 الشيخ حمودة الريكلي هو الشيخ "أبو محمد حمودة الريكلي الأندلسي" ولد بتونس وتصدى لقراءة العلم على فحول أوائل المائة الثانية عشرة ثم اختص بعالم العصر الشيخ "محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 زيتونة المنستيري" رضي الله عنه فلازم دروسه وقرأ عليه معقول العلوم ومنقولها بجامع الزيتونة والمدرسة المرادية حتى عد من فحول العلماء. ولما أراد أستاذه الشيخ (محمد زيتونة) السفر إلى حج بيت الله الحرام سنة أربع وعشرين ومائة وألف اختاره للنيابة عنه في المدرسة المرادية فأقام دروسها، ولما عاد الشيخ من حجته ورجع إلى القيام بوظيفته قدم الأمير "حسين بن علي التركي" تلميذه صاحب الترجمة مدرساً بجامع الزيتونة، وعين له مرتباً من جراية بيت المال فأفاد الطالبين وتخرج عليه كثير منهم. ولما أوقف محمود خزندار أوقاف التدريس بمسجد سيدي معاوية اختاره مدرساً وأجرى له ولطلبته جراية الوقف فنفع هنالك أيضاً. ولما توفي شيخه صبيحة يوم الخميس الخامس من شوال سنة ثمانٍ وثلاثين وألف قدمه المقدس حسين باشا لمشيخة المدرسة المرادية التي بسوق القماش فكان هو ثالث شيوخها إذ أن مراد باي لما أتم بناءها أواخر سنة خمس وثمانين وألف قدم لمشيختها أولاً الشيخ "محمد الغماد" ولما توفي ثاني رمضان سنة ست عشرة ومائة وألف تقدم عوضه الشيخ "محمد زيتونة" بمناظرة جرت عند باب الشفاء بجامع الزيتونة حضرها أمير العصر. ولما توفي تقدم لها صاحب الترجمة بعلمه، وأقرأ بها الدروس التي أفادت العموم وأوضح بها مسالك المنطوق والمفهوم. وانتصب للإشهاد فكان من موثقي عدول المدينة، وانتصب منصبه في الإشهاد ولداه "محمد وأحمد" فكانا أيضاً في العدالة مثل والدهما رضي الله عنهم أجمعين. ثم إن علي باشا قدمه إلى خطة القضاء بالحاضرة فزانها بعلمه وعدله مع كمال عفة وتواضع حتى أنه لما توفي الشيخ أبو الغيث البكري وخلف ولدين صغيرين قدمه الباشا عوضه خطيباً وإماماً وراوياً للحديث بجامع الزيتونة، وخطب على منبره من إنشائه مدة إلى أن صلح للإمامة الشيخ عثمان البكري فارتجع الخطة منه باستحقاق الوراثة من آبائه الكرام وأقام صاحب الترجمة على خطة القضاء، وبث العلم في صدور الرجال. وكان عالماً عفيفاً صالحاً متقشفاً خمولاً قليل الكلام كثير المحاورة في العلم فصيح العبارة حسن التقارير متثبتاً، لا تأخذه في الحق لومة لائم يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء. قيل: إن الباشا المشار إليه ذكر لهم في بعض الليالي حسن معاملته للعلماء وتقريبهم من مجلسه مع ما كانوا يعانونه من الدول السالفة فسكت جميع الحاضرين وبعضهم شكر فضله. أما صاحب الترجمة فلم يتهيب أن قال له: إن ما كان يعانيه العلماء السابقون كان متسبباً عن وقوفهم مع أمرائهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واليوم جميع الحاضرين لا تجد واحداً منهم ينكر عليك ما أنت فاعله. فلم يقدر الأمير على إجابته وتوقع بعض الحاضرين للشيخ ما توقع وزاد الأمير بعد انتهاء المسامرة أن أرسل إلى الشيخ بأن لا يرجع إلى تونس صباحاً فلم يشك الشيوخ فيما توقعوه، لكن من الغد أجزل الباشا صلته وشكره على حسن تنبيهه وأركبه في شريوله للإياب إلى الحاضرة فكانت منقبة جميلة لكل منهما. ولم يزل الشيخ على فضله وفخره في بث العلم ومباشرة القضايا إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة إحدى وستين ومائة وألف عليه رحمة الله. 33 الشيخ عثمان البكري هو الشيخ أبو النور عثمان بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سابع الأيمة البكريين. لما توفي والده أخذ في اكتساب ما يؤهله للالتحاق بسلقه، فتعلم القرآن العظيم وتصدى لقراءة العلم الشريف على الشيخ "محمد سعادة" ولازم الدروس، لإحياء ما ذوى في أصوله من الغروس، إلى أن برقت على أساريره بروق النجابة، ولاحت غياهب الجهل عن وجهه منجابة، وكاد أن يحيى ما عفا من مراسم بيته الرفيع، ويلتحق بأجداده فيكون زهرة في روض فضلهم المريع. وعند ذلك أعمل الأسباب، وأمل من دهره نيل الآراب، فجرى ذكره بخير عند الباشا، وحسنوا عنده إلحاقه في إمامة الجامع فصيح العبارة حسن التقارير متثبتاً، لا تأخذه في الحق لومة لائم يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قيل: إن الباشا المشار إليه ذكر لهم في بعض الليالي حسن معاملته للعلماء وتقريبهم من مجلسه مع ما كانوا يعانونه من الدول السالفة فسكت جميع الحاضرين وبعضهم شكر فضله. أما صاحب الترجمة فلم يتهيب أن قال له: إن ما كان يعانيه العلماء السابقون كان متسبباً عن وقوفهم مع أمرائهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واليوم جميع الحاضرين لا تجد واحداً منهم ينكر عليك ما أنت فاعله. فلم يقدر الأمير على إجابته وتوقع بعض الحاضرين للشيخ ما توقع وزاد الأمير بعد انتهاء المسامرة أن أرسل إلى الشيخ بأن لا يرجع إلى تونس صباحاً فلم يشك الشيوخ فيما توقعوه، لكن من الغد أجزل الباشا صلته وشكره على حسن تنبيهه وأركبه في شريوله للإياب إلى الحاضرة فكانت منقبة جميلة لكل منهما. ولم يزل الشيخ على فضله وفخره في بث العلم ومباشرة القضايا إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة إحدى وستين ومائة وألف عليه رحمة الله. 33 الشيخ عثمان البكري هو الشيخ أبو النور عثمان بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري سابع الأيمة البكريين. لما توفي والده أخذ في اكتساب ما يؤهله للالتحاق بسلقه، فتعلم القرآن العظيم وتصدى لقراءة العلم الشريف على الشيخ "محمد سعادة" ولازم الدروس، لإحياء ما ذوى في أصوله من الغروس، إلى أن برقت على أساريره بروق النجابة، ولاحت غياهب الجهل عن وجهه منجابة، وكاد أن يحيى ما عفا من مراسم بيته الرفيع، ويلتحق بأجداده فيكون زهرة في روض فضلهم المريع. وعند ذلك أعمل الأسباب، وأمل من دهره نيل الآراب، فجرى ذكره بخير عند الباشا، وحسنوا عنده إلحاقه في إمامة الجامع وكان الأمير المذكور يميل إلى إجراء الأمور على عوائدها التي كانت عليها مدة المقدس والده حسين باشا فقيل له: إن من عادة جامع الزيتونة مدة المقدس الوالد أمر الجامع يكون بيد إمامه الأكبر يولي فيه من يشاء وعند ذلك فوض الأمير وظائف الجامع إلى الإمام البكري فعزل خليفته الشيخ غيث غلاب لولايته مكانه مدة الباشا واستمر معزولاً مدة ثم أعاده إلى النيابة بوسائط واستمرت الإمامة بيد صاحب الترجمة وهو مرموق بعين احترامها، معدود في زمرة أعلامها، إلى أن أتاه محتوم الأجل سنة ست وسبعين ومائة وألف ودفن بزاويتهم عليه رحمة الله. 35 الشيخ حمودة البكري هو الشيخ أبو محمد حمودة بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري ثامن الأيمة البكريين- وليها بعد وفاة أخيه المتقدم مع أنه بعد وفاة والده لم يتعاط شيئاً من اكتساب ما يتأهل به لولاية الخطة المذكورة وبقي في تنعم بيته بعد وفاة والده ومدة إمامة أخيه إلى أن توفي أخوه واستحق هو إرث الخطة المذكورة فقدمه إليها الأمير علي باشا باي الحسيني إماماً أكبر بجامع الزيتونة. قيل: إنه لما صعد على المنبر يوم الجمعة لم يقدر أن يفوه ببنت شفة وبقي حصة صامتاً إلى أن استنزله المزوار بهيئة ازدراء وخطب مكانه خليفة الجامع واستمر على خطته وجهله محترماً معظماً إلى أن توفي عليه رحمة الله. وكان خليفة الجامع يومئذ "الشيخ محمد بن علي سويسي" يقيم الخطبة والخمس بجامع الزيتونة مع ما له فيه من الدروس العلمية. وشيخ الختمة ولده "الشيخ علي سويسي" فزان كرسيها بحسن تلاوته مثل جده سميه، وصاحب سجادة التجويد هو "الشيخ محمد بن أحمد عزوز" ولد سنة ست ومائة وألف وأخذ القراءات عن والده وأخذ معقول العلوم ومنقولها عن الشيخ "محمد زيتونة" والشيخ "علي سويسي" والشيخ "أحمد مجاهد". وتقدم بعد وفاة والده خطيباً بجامع الحلق، وتصدى للتجويد على سجادة جامع الزيتونة فنفع كثيراً إلى أن توفي عليه رحمة الله. 36 الشيخ أبو الغيث البكري هو الشيخ أبو الغيث بن حمودة بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين البكري، تاسع الأيمة البكريين، وليها بعد وفاة والده فخلف أباه وجده في عدم التأهل وأشرك معه قريبه "الشيخ تاج " واستمرت الخطة بيده وهو محترم باحترامها، وإليه مرجع الأمر والنهي في الجامع إلى أن توفي وصرف بوفاته قريبه المذكور، عليه رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وكان خليفة الجامع على عهده "الشيخ محمد سويسي" قاضي الحاضرة. وبعد وفاته سنة أربع ومائتين وألف أقيم عوضه خليفة لإقامة الخمس والجمعة الشيخ "محمد بن أحمد الطويبي" قاضي الحاضرة وحيث أن الإمامين البكريين الأخيرين لم ينتفع منهما الجامع بإمامة ولا بخطبة ولا برواية الحديث زاد الأمير علي باي خليفة آخر إماماً ثالثاً لإقامة شعائر الجامع عند عجز الخليفة. وقدم لذلك الشريف "الشيخ علي بن أحمد محسن" فكان الإمام البكري يحضر بذاته في الجامع وقت رواية الحديث وخليفتاه يروبان بين يديه صحيح مسلم والشفا للقاضي عياض رضي الله عنهم أجمعين. الشيخ علي البكري هو الشيخ أبو الحسن علي بن أبي الغيث بن حمودة بن أبي الغيث بن علي بن أبي بكر بن محمد تاج العارفين، عاشر الأيمة البكريين. وليها بعد وفاة والده مع عدم تأهله، وزاد على من قبله بالتغفل والبله حتى كمان محجوراً عليه ونظره للوجيه أبي العباس "أحمد النوّي" وكان يمنعه من الخروج ستراً لحاله. وكان خليفته الإمام الثاني على عهده الشيخ "محمد الطويبي" قاضي الحاضرة والإمام الثالث الشيخ علي محسن. ولما توفي الإمام الثالث في السادس والعشرين من ذي القعدة سنة تسع ومائتين وألف تقدم عوضه بعدَ حين شيخ التجويد على الختمة العالم الشريف الشيخ "عمر المحجوب" في غرة رجب سنة عشر. وتقدم للتجويد على كرسي الجامع الشيخ "محمد بن محمد الصفار القيرواني الرعيني". ولما توفي الإمام الثاني ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من يناير الموافق لتاسع شوال سنة سبع عشرة قدم حمودة باشا يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال عوضه الشيخ "عمر المحجوب" إماماً ثانياً، وأقام العالم الصالح الشيخ "محمد العيوني" إماماً ثالثاً، وكان يستند في تدريسه إلى الإسطوانتين المتلاصقتين أمام الختمة وظهرت له في الجامع كرامة، وذلك أن الإمام الثاني اتفق له أن مرض ورام هذا الشيخ المبيت بجبل المنار فاستناب شيخ الختمة للصلاة وخرج لجبل المنار فاتفق للنائب أن اعترضه إسهال أول الليل حضر معه لصلاة العشاء بالجامع محلى غاية التعب وتزايد به الأمر بعد ذلك، وبينما كان الشيخ العيوني مع مجالسيه بجبل المنار أواسط الليل قال لهم: إنه لا بدّ لي من أن أرجع الآن إلى تونس، وخرج في ذلك الحين راجعاً يستضيء بضوء القمر. ولما حان وقت صلاة الصبح وأيس وقادُ الجامع من حضور النائب فتح الجامع وبقي محتاراً ينتظر ما يصنع وإذا بالشيخ العيوني أقبل على الجامع رضي الله عنه. ولم تطل مدة إمامته بل إنه لم يلبث أن توجه إلى طريق الله وأعرض عن الدنيا وعلائقها على حين مرض الإمام الثاني فأرسل الأمير حمودة باشا بتولية العالم الفاضل الشيخ "عمر بن علي المؤدب" فتقدم إماماً ثالثاً صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة عشرين وأقام بجامع الزيتونة لإقامة الخمس والجمعة والتدريس بالجامع مدة حيث إن الإمام البكري عاجز والخليفة مريض ولم يزل الشيخ "محمد الصفار" شيخ الختمة في جلالة خطته واحترامها. قيل: إن الأمير حمودة باشا لما بلغه خبر وفاة المنفرد بحسن الصوت الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 لم يأت بعده مثله في التجويد الشيخ "حمادة بن الأمين" المتوفى يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة عشرين قال: كنت أتمنى أن نوليه على ختمة جامع الزيتونة غير أن الحياء من الشيخ الصفار منعني من ذلك، ولما تأخر الخليفة الإمام الثاني الشيخ "عمر المحجوب" قاضي الحاضرة من خططه يوم الجمعة التاسع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وعشرين أبقى الأمير الإمام الثالث على خطته، وقدم الشيخ "الطاهر بن مسعودبن أبي بكر اليعسوي كذا الفاروقي" إماماً ثانياً خليفة بجامع الزيتونة رضي الله عنه بعلمه وجلالته وهو عالم العصر، والمفرد العلم في هذا المصر، آية الله في التحصيل والذكاء. ولد بقبيلة أولاد سيدي عيسى من الناحية الغربية في بيت جده سيدي عيسى المذكور بيت العلم والصلاح والفضل من عهد جدهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقدم إلى تونس في طلب العلم ونزل بالمدرسة التوفيقية فقرأ المعقول والمنقول بجامع الزيتونة على الشيخ "صالح الكواش" والشيخ "أحمد بوخريص" والشيخ "محمد الطويبي" والشيخ "حسونة الصباغ" وقرأ "القطب" على الشيخ "حسن الشريف" ونحو ربع المختصر الخليلي على الشيخ "عمر المحجوب". وتصدى لبث العلم بما له من الذكاء والتحصيل والتحرير فانتفع به كثير من الفحول حملة المعقول والمنقول. وتقدم لمشيخة المدرسة السليمانية بعد وفاة شيخها الغرياني وأقرأ بها. وشرَخ الرسالة السمرقندية في علم البيان شرحاً بديعاً تعقب به شروح العصام والملّوي والدمنهوري وسلك فيه مسلك التحقيق، فقاق على سائر شروحها السالفة. وقد كتبت على قطعة منه حواشي. والأمل في الله أن نبلغ المراد في إتمامها على الوجه المأمول رضي الله عنه. وقد استمر الخليفة المذكور على خطته وملازمة بث العلم إلى أن بلغ من العمر نيفاً وستين سنة فأصابه الطاعون في صلاة الصبح بمحراب جامع الزيتونة، وبقي ثلاثة أيام مريضاً وأدركته المنية بعد فراغه من صلاة العصر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر الخير سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ودفن من الغد جوفي الزلاج، فكان هو رابع إخوته الدفينين بتونس، وهم: الشيخ محمد الكبير، والشيخ العربي، والشيخ العابد، وكلهم علماء قرأوا في بلادهم ولحقوا بأخيهم. وكانت وفاتهم بتونس ولهم ببلدهم أيضاً ثلاثة إخوة أخر، وهم: الشيخ الزين، والشيخ الطيب، والشبخ إبراهيم. وكان أبوهم صالحاً ذا كرامات رضي الله عنهم أجمعين. أما الإمام البكري صاحب الترجمة فلم يكن له في مدة ولايته من مباشرة خطة الإمامة بجامع الزيتونة إلا حضور جسده في وقت رواية البخاري وخليفتاه من العلماء الأعلام يتداولان الرواية بين يديه واستمر على ذلك إلى أن توفي بسانيتهم بمرناق في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف. وهو آخر الأيمة البكريين فاستمرت الإمامة في بيتهم مائة سنة وثلاث وتسعين سنة تخلفت عنهم مدة يسيرة في خلال ذلك غير أنهم- رضي الله عنهم- كانوا معتمدين في شرفهم وفضلهم على الخطة المذكورة إلى أن بلغوا إلى الغاية التي أخرجتها من أيديهم. وهذه عادة الله الجارية في بيوت الفضل والشرف من الملوك وغيرهم إذا تطاول عليها الزمان واعتمد عليها أبناؤها ولم يحصلوا على شرف لأنفسهم فلا يلبث بهم الاشتغال بالترف ونضارة العيش أن يهدم معاليَهم التي بناها آباؤهم وغفلوا عن تجديد زقها رحم الله أعظم جميعهم. وسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون. 38 الشيخ حسن الشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 هو الشيخ أبو محمد حسن بن عبد الكبير بن أحمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا ابن حسن بن علي بن حسن بن أحمد بن القاسم بن محمد بن قريش بن عيسى بن عبد الرحمن بن خلف بن علي بن نهج بن علي بن محمد المكتوم بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. حبذا عقد سؤدد تناسقت جواهر آل البيت النبوي فيه اتساقاً، وأفق فخر طلعت بدورُه لا تختشي خسموناً ولا محاقاً، نبغ فيه هذا الإمام، وطلع شمس هداية في دياجي الظلام، علماً وشرفاً توارثهما من آبائه الكرام، وأجداده السادة العظام. أصل هذا الفرع النبوي من الهند، ومنه كان مقدم جدهم إلى حاضرة تونس، وهم من ذرية الشريف السيد علي ابن الشريف السيد محمد المكتوم جد الملوك العبيديين، ولا زالت فروع هذا الجد الشريف في نواحي الهند إلى هذا اليوم ببلد أجمير، وبها زاوية الشيخ علي المذكور قائمة المعالم والشعائر فهم أشراف هنديون ولذلك يقال لهم: بنو الشريف الهندي وإلى ذلك يشير شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن محمد بن الخوجة في مدح آل هذا البيت بقوله: [الطويل] ألا أن نور الله بعد محمد ... بنو بنته الأطهار من وصمة الحقد وكلهُم سيف فِرنده لامع ... ولكنما الأسياف أشرافها الهندي وكان ثالث أجداد هذا الإمام الشريف الحسيني (الشيخ أحمد الشريف) الإمام بمسجد دار الباشا عالماً صالحاً. ولد بتونس وأخذ العلم عن الشيخ "ساسي بن محمد نوينة الأنصاري الأندلسي" وعن الشيخ "محمد جمال الدين القيرواني". وولع بكتب الأعاجم النحوية، وكتب الحديث والفقه، ولازم التدريس عند الفجر بمسجد دار الباشا وكان يقول: لي في إمامة هذا المسجد سبعة أجداد. وقد حجّ بيت الله الحرام أميراً على الركب التونسي. وكان جميل الصورة، نحيف الجسم، نظيف الشيب، يقبل يده كل من لاقاه قد تجمّلت التواريخ التونسية بذكر مناقبه ومآثر علمه وصلاحه، إذ كان شيخ شيوخ جامع الزيتونة علماً وفضلاً يقرىء الصحاح الست وسائر العلوم بالجامع. وقد نقل عن معاصره الولي الصالح الشيخ "ابن خودانه" قال: إن الشيخ أحمد الشريف بلغ إلى القطابة وله كرامات محفوظة منها: إن بعض تلامذته ممن كان يسكن ربض باب السويقة قد تأخر في المدينة في قضاء حاجة له إلى أن غلق عليه الباب مدة عتو الترك في البلاد، فحضر لدار الشيخ بحوانيت عاشور وطلب منه أن يبيت عنده فأحسن قبوله، ثم لم يلبث الشيخ أن خرج إليه وقال له: إن والدتك كادت تتمزق كبدها من جهتك فلابدّ أن تذهب إليها فقال له ة يا سيدي إن الباب مُغلق وأنا أخشى سطوة الترك أن يقتلوني فقال له: اذهب ولا تخف، وإذا بلغت عند زاوية الشيخ سيدي محرز تجد هنالك رجلاً يذهب معك ليفتح لك باب السويقة ويبلغك إلى دارك، فكان الأمر كما ذكر الشيخ وأدرك والدته تتخبط في أشراك جزعها عليه، وله كرامة سيدنا يحيى فإنه قد هرم وآيست زوجه ولم يولد له، فاتفق أن آذاه بعض أقاربه بسبب عدم الولد فشكى ذلك إلى زوجه وكانت ابنة المفتي الشيخ "أبي الفضل المسراتي"، ولما كانت آيسة من نفسها خرجت تخطب له زوجة، وأخذت بكراً وجهزتها له وأحضرتها بنفسها رغبة في الولد. ولما كانت ليلة الدخول توضأ الشيخ وصلى وسأل الله جبر زوجته التي تركته يدخل على زوجة أجنبية وطلب أن تكون منها عمارة داره، ودخل بزوجه فلم تمض مدة حتى ظهر الحمل على كل من الزوجتين، وولدتا له ولدين سمى أحدهما الحسن وسمى ولد زوجته الأولى محسنا، ثم إن الزوجة الجديدة لم تحمل أكثر وعاد الحمل ثانية إلى الأولى، فولدت ولده محمداً جد صاحب الترجمة ولم يزل أبناء محمد وأبناء محسن يتقلبون في فضل فخره ودعائه وأبناء الحسن تناقلوا مع والدهم إلى ربض باب السويقة، ولم يزالوا هنالك مرموقين بعين اعتبار فضل شرفهم رضي الله عنهم. وقد توفي الشيخ يوم الاثنين الثاني عشر من رجب سنة اثنتين وتسعين وألف، وصلي عليه بجامع الزيتونة ودفن بجبل الفتح من الزلاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ونسج أبناؤه على منواله في العلم والتقوى حتى كانوا كعوباً متناسقة في الفضل وكراماتهم وآثارهم يرويها الخلف عن السلف. فولي ولده الشيخ مَحمد بفتح الميم عوضه في إمامة مسجد دار الباشا ومنه تنقلت إلى ابنه سميّ جده الشيخ أحمد مدرس الجامع الحسيني ونائب خطة القضاء بتونس وقد تداولوا يقابة الأشراف وورثها بعد المذكور ولده "الشيخ عبد الكبير" مع إمامة مسجد دار الباشا، ودرس جامع محمد باي المرادي، ودرس باب الشفا ودرسين آخرين بجامع الزيتونة كما ولي مشيخة مدرسة حوانيت عاشور بعد وفاة الشيني "عبد الله السوسي". وولي خطبة جامع أبي مَحمد ثم تأخر عنها وكان عالماً صالحاً شاعراً جليلاً اجتمع بشمهووش الصحابي رضي الله عنه. وذلك أنه وقعت مرمة عندهم رأى فيها أحد الخدامين ثعباناً قتله فوقع صريعاً ثم رأى نفسه بين يدي قوم من الجن يدَّعون عليه قتل واحد منهم على يد شمهروش فسأله عن ذلك فأنكر القتل، وقال: إنما قتلت ثعباناً، واستشهد بالشيخ عبد الكبير الشريف فطلب منه الاجتماع به في خلوة وعند وقوعه سأله عن ذلك وبمجرد ما أعلمه الشيخ القصة قال شمهروش: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تطور بغير صورته فقمل فدمه هدر" وعند ذلك خفي سبيل الخادم المسكين. ولما أقبل الجزائريون على نهب البلاد قصدوا داره فوضع الشيخ يده على بابه يقرأ عليه فبادره أحد أشقيائهم ببلطة ليضرب بها الباب فلم يشعر إلا وحديدها عاد عليه وخر من ضربتها ميتاً فصاح أصحابه يطلبون من الشيخ العفو وأتوا بصنْجَق وضعوه على باب الدار، وأقاموا عليها حراساً منهم حموا بهم جميع أهل تلك الحومة. على أنه آية الله في تحصيل العلوم، والخبرة بمواقع المنطوق والمفهوم، مع ذكاء وميض، وبحث عريض، وقد سبق له ذكر في مجلس الأمير علي باي وكم له من ظهور على مجادليه، بلغ به في العلم إلى الشأن النبيه. وقد امتدحه في بعض ظهوراته تلميذه الشيخ محمد الغضبان بقوله: [المجتث] أمن تألُّقِ بَرْق ... في الدَّجْن لاحت غزاله أم بدر تم تبدَّى ... حفته بالنور هاله أم روضة العلم لاحت ... ووشَّحتْها الجزاله ببحث حبْر جليل ... تاج الهدى والعداله كبيرِ قدرٍ وعلمٍ ... وتفي الذكا والمقاله يُعزَى لخير البرايا ... من كلَّمتْه الغزاله قل للمُجادِل فيه ... قد خضت بحرَ الجهاله إن عُدْتَ للحرب يوماً ... أهْدَى إليك نباله وإن جنحت لسَلم ... تنجو على كل حاله سلم لبحر المزايا ... لبَّاس بُردِ الجلاله كم مستفيد أتاه ... لنيل مجد فناله من نحوه الشُّهبُ ترمي ... لمن يروم مناله لذا الأمير اصطفاه ... لقربه فاستماله فراية العدل منه ... هالت فضاهي مثاله والسعد وافاه يسعى ... لمن يروم نِزاله لازال في المجد يرقى ... وأصلح الله باله وحفه بسرور ... ومجْدُه في استطاله بحق من قد أتانا ... بالسيف ماحي الضلاله عليه أزكى سلامٍ ... ماسح مزن سجاله وقد اعتكف على بث العلم وانتفع الناس بعلمه إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة ست ومائتين وألف وله من العمر خمس وثمانون سنة، وفخر علمه وفضله متلو بكل لسان. وقد ولد ولده صاحب الترجمة عام ثلاثة وسبعين ومائة وألف ونشأ في حِجر تعاليم أبيه، صاحب الشأن النبيه، العالم الشهير الشيخ "عبد الكبير"، وقرأ عليه المعقول والمنقول والفروع والأصول، كما قرأ أيضاً على فحول المتقدمين من علماء تونس منهم أبو "عبد الله الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني الطرابلسي". ومنهم أبو محمد الشيخ "عبد الله السوسي" ومنهم أبو عبد الله الشيخ "محمد الشحمي" وغير هؤلاء من فحول العلماء فلازم الأخذ مدة شبابه وتصدى للإقراء. ثم إن والده قدمه عِوضه لدرس باب الشفاء والدرسين الآخرين بجامع الزيتونة ومشيخة مدرسة حوانيت عاشور واعتكف على بث العلم، وله في الأدب يد طاوَل بها نجوم الأفلاك، حيث فاقت بدائعه على الدر في الأسلاك، مع فصاحة اللسان عند المحاورة، وغرابة اللطائف في المحاضرة، عاتبه العالم الشيخ "محمد القابسي" بقوله: [الكامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يا فاضلاً حاز الفخارَ ذكاؤه ... فله بحل المشكلات تكفُّلُ لازال ربع الدرس مأهولاً بكم ... ولكم بنشرٍ للعلُومِ تجمّل أَغْمِد سيوفَ الصدِّ والأعراض عن ... خلٍّ وفيٍّ ما عراه تنقل ثم السلام من أربعين م وخُمسها ح ... مع أربعين م وعشرها لا يبطل يُهدى لسيدنا الذي أعنيه في ... نظمٍ بديعٍ بالمحاسن يرفل من سدس عشر الثاني ضف لثلاثة ... أخماسَ سدس العشر الأول يحصل وأنسب لآخر أولاً أيضاً وقل ... أخماس رباع لخمس يافُلُ والسدس من ثانٍ أخيرِ ثم في ... حُسنٍ به صدر المفاخر يكمُل فأجابه الشيخ "حسن الشريف" من شعره بقوله: [الكامل] لك في المعالي المكرماتُ الكمّلُ ... وسواك من تلك المآثر أعزلُ ولمثْلِكَ الهممُ التي أدنى مرا ... تبها لها فوق الثريا منزل ذو راحة قد كنت أحسب أنها ... غيثٌ ولكنْ هذه لا تمْحل خبرٌ إذا جالت قرائحه على ... حلِّ العويص أطاعهن المُشكِل أوجفْتَ خيلَ ملامةٍ نحوي وقد ... سلسلتَ عتبَك وهو عذب سلسلُ فطرِبتُ لمَّا أن تضمن ذكرهم ... وودته لو كان من ذا أطول إني لعمرِي ما تركت زيارة ... لك من جفا أو كنت عنكم أعدِلُ لكن علمْتَ لكثرة الشغب التي ... قد أذهلت يا ليت عذري يقبل أتظن أن أسلُو ولو كاشفت عن ... ما بالضمير ظننت بي ما يجمُل ورأيت فيه من الوفاء لكُم من ال ... مثل الذي ضربوه حق أمثلُ فعزمت في يوم الخميس أزوركم ... وأنال من لقيَاكم ما آمَلُ لازلت في أفق العُلا قمراً به ... هُدِيَ البرية ما ترنم بلبل وعليك أزكى تحية ياذا العُلا ... ما صافحت زهر الحدائق شمأل ولكمال براعته في حسن الإنشاء انتخبه الأمير حمودة باشا لخطة الكتابة، وقربه اهتماماً بشأن شرفه وخضه بأسراره حتى أحش منه كاتب سره يومئذ العزيزي فتجسس على بعض الأسرار المودعة عند الشيخ وأفشاها ناسباً روايتها إلى الشيخ الذي أمانته ينبو عنها مثل ذلك، لكن على كل حال اتخذ كاتب السر المذكور ذلك وسيلة للتنديد على الأمير في تقريب الشيخ حتى عزله الأمير من خطة الكتابة فكان عزله رحمة للعلم وأهله. وأصبح الشيخ يملي الدروس العلمية واجتمع عليه فحول العلماء حتى كان شيخ شيوخ العصر. وبعد برهة من عزله تحقق الأمير براءته مما نسب إليه، وعلم حقيقة ما جرى لديه، فبقي ينتظر ما يحسن أن يقدمه إليه، وهو ملازم للتدريس في معقول العلوم ومنقولها، مع فصاحة وحسن خلق، ولين مع التلامذة ومواظبة على الدروس، بحيث لا يتخلف إلا لعذر عظيم، وبذلك انتفع عليه كثير من فحول جامع الزيتونة لا يحصى لهم عدد، وكانت تلامذته لا يصبرون على مفارقة درسه وقد كان مريض سنة ست وعشرين ومائتين وألف. ولما أن عوفيَ من مرضه قدم إليه تلامذته وفي مقدمتهم الشاعر المُجيد الدراكة الوحيد الشيخ "قاسم بن كرم" وأنشده من رائق شعره البديع تهنئة لطيفة وهي قوله: [البسيط] بشرى فذَا بارقُ الأفراحِ قد ومضا ... واشرق النْسُ وإنجاب الأسَى ومضَى بالأمس كان الضحى كالليل حين دجا ... والآن أضحى الدجى مثل النهار أضا أبدت محاسنها الدنيا وزينتها ... للناظرين، فأحمِدْ للمنى غرضا وافى السرورُ ووفّى الأمنُ موعدَه ... والحمد لله أن دهر الأسى انقرضا فهذه أنعمُ لله عمَّ بها ... كل العباد فكان الشكر مُفترضا إذ الرضا الأشرف الأسى الهمام أبو ... محمدٍّ حسن من سُقمِه نهضَا ذاك الذي شرَّف الله العبادَ به ... فصاغه جوهرا مذ صانه عرضا فلم نجد منه بُدّا لا ولا بدلا ... فيهم ولم نلفِ عنه منهُم عوضا علا على طائر النسرين مرتفعا ... إذا نراه جناحا للورى خفضا مولّى إلى اللهو لم ينفض قط ول ... كن من يديه أمانِي النفس قد نفضا وحفَّظ الله في سر وفي علنٍ ... وما ثنى الجد عن كسب الثنا حفضا هو المعانيُّ مع فرط الحجا وبه ... طرْفُ العلا في بحار الجد كم ركضا يأيّها الأعلم الأعلى الأجل ومن ... له بكل كمال ذو الجلال قضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فكان أكرم مخلوق وأشرف من ... مشى على الأرض أو من في صما ومضا شفاك ربُّك من داء الجهالة يش ... في العالمين وثوب السقم عنك نَضا أضنى بصحتك الله العباد وفي ... قلوبهم مرض قد زادهم قرضا يهنيك يا سيدي هذا الشفاء وإن ... كان به أبدا شانيكمُ جرضا إن غض ذو الجهل طرفاً عن سناك فلا ... غروٌ فذا النور نار للبغيض غضا تالله ما ضدّكم آل النبي سوى ... مضلل تائه، عنه الهدى رفضا تفديك من كل مكروه نفوسٌ فتى ... سر الإله عليه حبكم فرضا كم أبرد البرء من صدر وأثلجه ... فكان قبلاً يحاكي حره الرمَضَا أحيا النفوسَ ورد البؤسَ طالعُه ... يا حبذا فرفي منه الضنا حبضا يا أفضل الناس لكن ليس أفضل للتش ... ريك فافخر بفضل ليس معترضا وابسط يمينك كي تُشفى الشفاهُ بها ... يا من على المجد والعليا بها قبضا لازلت ملجأ ذي الجلَّى إليك على ... أن ليس إلاَّك إن ما حادث نقضا فكم أمَطّتَ أذى في العين كان قذى ... وفادحا جللا جليت إذ بهضا إليك حجَّتْ ذوو الحاجات وانصرفوا ... وكلُّهم وطراً مما يروم قضى كذا لكل المهمات الهمام فلا ... سواك أمرأهمَّ المرءَ إذ عرضا بنيت للدين والدنيا بناءَهما ... يهدي إليك لنيل الحامل الغرضا قد أقرض الله قرضاً عنده حسنا ... منْ في محاسنكم شعراً له قرضا حق علينا لكم حق الوفاء به ... وحقِّكم ليس مَن أوفى كمَنْ نقضا ألستَ سِبْط النبي المجتبى كرما ... من خالص النصح كل الخلق قد محضا صلى وسلم مولاه عليه كما ... يحبه وعليهم مع مزيدِ رضا وكان له صلابة في الحق وغيرة على حقوق الله بلغت غايتها. اتفق له في بعض الأيام أن كان قادماً لجامع الزيتونة قبل الظهر ولما قرب من زاوية الشيخ سيدي أحمد بن عروس وجد جندياً من الترك ماسكاً بأطراف بنت وهي تستغيث ولا يتجرأ أحد على افتكاكها من يده فوقف الشيخ ونهاه فلم ينته فألقى برنسه وهجم عليه وأيده الله فافتك منه البنت وخلى سبيلها وأمسكه وسار به إلى الدريبة والناس من خلفه، ولما قرب من الدريبة تعرضت له الحوانب لأخذ الجندي من يده فلم يسلمه إلاّ بين يدي الدولاتلي وأخبره بالقصة ورجع الشيخ إلى الجامع لإقراء دروسه فكتب الدولاتلي بذلك إلى الأمير حمودة باشا فأرسل الأمير في الحين مكتوباً بخط يده يأمره بخنق الجندي بالقصبة. وما هاته بأولى غيرته وهمته الهاشمية عليه من الله أزكى التحية. ولم يزل ملازماً للتدريس إلى أن توفي الإمام البكري رضي الله عنه أواخر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف فقدمه الأمير حمودة باشا إماماً أكبر بجامع الزيتونة، فزان المحراب والمنبر بعلمه وعمله وفصاحته، وخطب من إنشائه خطباً رائقة أطنب فيها ما شاء وأبدع، وجمعها ديواناً في غاية النفاسة ما زال يتداوله خطباء تونس. وعلى عهده توفي الإمام الثاني الشيخ "الطاهر بن مسعود" فقدم الأمير محمود باشا الشيخ "عمر بن المؤدب" إماماً ثانياً، والشيخ "محمود بن علي محسن" إماماً ثالثاً أواخر صفر الخير سنة أربع وثلاثين. ولم يزل الإمام الأكبر صاحب الترجمة قائماً بأعباء خطة الإمامة الكبرى وملازماً للتدريس بجامع الزيتونة مع التأليف بما تخلد في صدور الرجال وبطون الأوراق ومع ذلك لما توفي الشيخ "سويسي" في ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وثلاثين قدمه المولى محمود باشا باي إلى خطة الإفتاء فصار مفتياً ثانياً وزان الخطة المذكورة، وأفاد المستفتين وتحرى لدينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وكتب في الفتاوى كتائب عزيزة من أهمها كتابه "معين المفتي" وكتب "حاشية جليلة على القطر" لابن هشام سلك فيها مسلك المحققين من علماء المعقول قد طبعت في المطبعة التونسية وقرأناها وأقرأناها فإذا هي عنوان علم واسع ومدرك شاسع، ومنها يستفاد أن له كتابة على شواهد المغني غير أنا لم نقف عليها، أما "حاشيته على لامية الزقاق" فهي كنز التحارير الرقاق، وناهيك به من إمام شريف، تحلى بالعلم والتأليف، وزين ذلك بحسن الأدب اللطيف، له غيرة وحمية، وكرم نفس وإنسانية، وهيبة ربانية، رفعت مقامه على سائر أهل الروية. وله من علو المقدار وحسن الآثار، ما خلد ذكر، بكثير من الأخبار، الدالة على خلوص علمه وعمله بغير إنكار، ولم تزل الرجال تأخذ عنه طبقة بعد طبقة إلى أن أتاه أجله فتوفي ليلة السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ودفن بتربة آبائه في أعلى الزلاج عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ "أحمد الكيلاني" بقوله: [الطويل] أيا عينُ فيضي واهطلي بسجامِ ... أمامَ ضريح ضم خير إمام ويا قلبُ كيف الصبر قد حال بيننا ... وبين غَمام الديق غيم حمام فأعظْم به رزءاً لقد حل بالثرى ... وأمسى به في حيرة وهيام وأظلم أفق الجو واعبَرَّ لونه ... متى هتف الناعي بنعي همام إمام جليل القدر من آل هاشم ... سليلِ فحول من بطون كرام هو الحسن الندْب الشريف الذي رقت ... به زمرة الأشراف أعلى مقام فقد كان في دنياه أعذبَ مورد ... وقد صار مرجوٌّا ليوم قِيام وقد كان للدين الحنيفي صارماً ... وللعان والملهوف صوبَ غمام وما كنت أدري قبل أن ضمه الثرى ... بأن الثرى يُخفي بدورتمام فراح ولم تعرف له قط هفوةً ... وسار إلى فردوسه بسلام فمن لدروس العلم أو لمنابرٍ ... ومن للقضايا عند نشر خصام ومن لعويص القول من بعد سيد ... يحلُّ من التعقيد كل كلام تآليفه قد طار في الأرض صيتُها ... بتحرير أبحاث وحسن نظام سَيتْدُبُه البيت العتيق ومن به ... ويبكيه طول الدهر كل إمام ولا غرْوَ أن شخ السماء بنوْئه ... وصار الثرى من فقده كرجام وماذا عجيب للذي كان علمه ... سراجاً منيراً في سواد ظلام فلا زلت يا فخر الزمان مخلدا ... لأرفع مجد في أعز مقام ولازلت يا طود العلوم مُرقرقاً ... على تربك المسكي فيضُ ركام عليك سلام الله ما هبت الصَّبَا ... وما لاح برق من خلال غَمَام مدى الدهر ما قد قال فيك مؤرخ: ... فلله من رمس لأسمى همام [..1234..] 39 الشيخ محمد الشريف هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكبير أخو الإمام المتقدم الذكر، وناهيك به من جوهرة برزت من أصداف النبوة، وتقدم إلى التكريم والتبجيل في زمن الفتوة، ولد سنة خمس وستين ومائة وألف وتربى في عز بيته وتعاليم أبيه وجده، وأخذ عن والده والشيخ "صالح الكواش" والشيخ "محمد الغرياني" وعن خاله الشيخ "محمد الشحمي" والشيخ "محمد بن قاسم المحجوب" وغيرهم من أعلام جامع الزيتونة إلى أن بلغ في العلوم أشده، وظهرت عليه البراعة التي أضافت إلى شرفه ومفاخره مكارم مستجدة، وجلس للتدريس، وقلد الأجياد من در علومه النفيس. وتقدم لشهادة الديوان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة عشرين ومائتين وألف عوضاً عن الشيخ "حسونة بوكراع"، ثم قدمه والده عوضه للتدريس بجامع محمد باي المرادي، ونقابة الأشراف، وإمامة مسجد دار الباشا فزان جميعها بعلمه وفضله. غير أنه عند وفاة والده تنقلت نقابة الأشراف من بيتهم واستمر هو في خدمة العلم لولا أنه شغلته خطة الإشهاد على أوقاف الديوان، وكانت من الخطط النبيهة في ذلك الأوان، بما يقتضيه التحري والوقوف على جزئيات مداخيل الوقف ومصاريفه كما هو شأن عدول الرضا أمثاله، ولذلك لم يبلغ في بث العلوم إلى غاية آماله. ومع ذلك كان يقرىء بجامع الزيتونة قرب باب الشفاء وأقرأ شرخ التاودي على العاصمية وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وعند وفاة أخيه الإمام الأكبر بجامع الزيتونة قدس الله روحه قدمه الأمير محمود باشا باي إلى خطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة، وولاه مشيخة مدرسة حوانيت عاشور ودرس باب الشفاء عوض أخيه فزان المنبر والمحراب، وترنم في التلاورة فأتى من حسن تأثير صوته بالعجب العجاب، تتفجر الدموع من سامعيه انفجاراً، وتخشع القلوب من مواعظه وتتأجج إنذاراً. ومع ذلك لم يترك بالمرة التدريس بالجامع، بل كان يقرىء فيلقي الدرر اللوامع، وكان مع ذلك جانحاً إلى أخلاق الصالحين، في الزهد والقناعة ولين الجانب والأخذ بخواطر المساكين. وهو معتقد للخاصة والعامة رضي الله عنه. أخبرني حفيده أنه كان في بعض الأيام قرع عليه البات ربئ غريب فخرج إليه الشيخ فطلب منه الدعاء، وقال له: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبت منه الدعاء، فقال لي: اذهب إلى ولدي محمد الشريف يدعو إليك فجئتك لذلك، فدعا له بما يسر. وأما واقعة الشيخ "أحمد بن الخوجة" القاضي الحنفي معه فهي شهيرة أخبرني بها حفيده شيخ الإسلام، وذلك أن الشيخ الإمام كان مطلوباً في نازلة عند الشيخ القاضي الحنفي فأرسل إليه فامتنع من القدوم عليه عدة مرات حتى تشدد عليه في ذلك فلما كانت تلك الليلة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بمساعدته، وقال له: إنه ولدي وعندما أصبح ذهب إليه بنفسه وبمجرد تلاقيهما أكبا على بعضهما يبكيان وتسامحا أحسن مسامحة، وعند ذلك بادر الشيخ إلى أداء ما عليه من الحق على أكمل وجه- رضي الله عنهما أجمعين- وقد أشرت إلى الواقعتين المذكورتين في قصيدتي "الأجنة الدانية الاقتطاف بمفاخر سلسلة السادة الأشراف" بقولي: [البسيط] كان المجابَ الدعا في غير حادثة ... وأهل عصره من ذا الباب كم نقلوا لذاك وافاه شيخ طالب أملاً ... بدعوة منه عنها ليس ينعزل وقال: إن رسول الله أرشده ... لنجله ذاك وهو السيد الجللُ والمصطفى أمر القاضي ببره في ... فصْل القضا حيث مافي حكمه جدل فجاءه يترضى وهو سامحه ... مبادراً لأداء الحق يمتثل وعلى عهده توفي الإمام الثاني الشيخ "عمر بن المؤدب" ليلة الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى سنة خمس وأربعين. وتقدم الشيخ محمود محسن إماماً ثانياً والشيخ الشاذلي بن عمر بن المؤدب إماماً ثالثاً ولم يزل صاحب الترجمة في الإمامة الكبرى إلى أن بلغ عمره التسعين سنة فأصابه نقط جلدي عطله نحو شهر وتوفي ليلة السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. وتبرك الأمير والمأمور بمشاهدة جنازته عليه رحمة الله. 40 الشيخ إبراهيم الرياحى هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد الرياحي ابن الفقيه إبراهيم الطرابلسي المحمودي. قدم جده إبراهيم من طرابلس، ونزل بالموضع المعروف بالعروسة من عمل رياح، وكان يحفظ القرآن، وله معرفة بسر الحروف فاشتغل هنالك بتأديب صبيان تلك الجهة، ثم تنقل ابنه أحمد إلى بلد تستور، وبها دفن هو وابنه عبد القادر، وبها كانت ولادة صاحب الترجمة عام ئمانين ومائة وألف وقرأ هنالك القرآن وكان هنالك الوليّ الشيخ "صالح بن طراد"، معروف بالجذب فأتى بجلاب مملوء أطعمة مختلطة من أنواع كثيرة ووضعه على أُسكفَّة باب المكتب، فعمد إليه صاحب الترجمة واستف جميع ما حواه الحلاب وتركه في مكانه. فجاء الشيخ يسأل عمن أكل طعامه، فاعترف له، وعندما علم أنه هو الذي أكله صار يصيح به، ويلتفت إليه وإلى مؤدبه يظهر التعجب، ويقول له: أأنت أكلت الجميع ولم تترك شيئاً لأحد من إخوانك إنها لك عطية من الله. وبعد أن قرأ القرآن بتستور ارتحل إلى تونس في طلب العلم الشريف أواخر القرن الثاني عشر ونزل بمدرسة حوانيت عاشور مدة، ثم تنقل منها إلى مدرسة بئر الحجار، وأعمل يعملات اجتهاده في العلم ولازم دروس الفحول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فقرأ النحو على عالم عصره الشيخ "حمزة الجباس" كان يقرأ عليه في حانوت الإشهاد كتاب المغني لابن هام. وكان الشيخ يقرىء بدون نسخة وتلميذه يظن أنه نظر قبل حضوره حتى اتفق له ذات يوم أن اختلف تقرير الشيخ مع ما في نسخة التلميذ، ولما سرد عليه محل الاختلاف شك الشيخ في تحريف نسخة تلميذه فأمره أن يقوم إلى مرفع هنالك عليه كتب الشيخ قد سترتها الغبرة، وقال له! نظن أن نسختي في هذا المرفع فقام التلميذ فوجدها متلاصقة الأوراق بالزاج، فإذا هي الصحيحة والأمر فيها كما قرره علي تطاول عهده به. وكان الشيخ حمزة المذكور مفرد علم العربية. وقد توفي سنة سبع عشرة ومائتين وألف، ودفن بالزلاج، وأرخ وفاته الشيخ "قاسم بن كرم" بقوله: [الكامل] أما الحياة فتلك ظل زائلُ ... تخفي الشموس وكل بدر آفلُ طوبى لمن طابت يقينا نفسُه ... فاختار أخراه وذاك العاقل هذا أبو يعلى المعلَّى حمزة ال ... جباس أستاذ الأنام الكامل قد أبعد الدنيا الدنيئة إذ دنا ... من ذي الجلال فنال ما هو آمل فهو المتوج منه بالرضوان تش ... رسيفاً وفي حلل السعادة رافل مولى بتقوى الله مغرى قلبه ... وبعلمه والله يشهد عامل أنسى (إياساً) في الذكاء وعنده ... (سحبان وائل) في الفصاحة (باقل) تبدي بسلك الدرس كل نفيسة ... ما إن لها من ناقد بل ناقل تبدي لمنتجع الهدى غيث الندى ... ويشيم برق السؤل منها السائل درسَت ربوع العلم بعد دروسه ... والروض يبلى أن عداه الوابل فلطالما أجلى دجى جهل كما ... ينجاب بالحق المبين الباط وتحلت العليا بعقد وجوده ... واليوم جيد المجد منه عاطل ولذاك لما أدى مضى أرخته: ... مات الرضا الملجا الهمام الفاضل [ ... 1217 ... ] [الشيخ صالح الكواش] وقرأ أيضاً صاحب الترجمة على الشيخ "صالح الكواش" وهو عالم البلد على الإطلاق، الورع الصالح صاحب العلَم الخفاق، أبو الفلاح صالح بن حسين بن محمد الكافي. قدم جده محمد من بلد الكاف إلى تونس بعد المائة والألف ونقل عن الشيخ أن نسبهم ينتهي إلى الشيخ سيدي عبد السلام بن مشيش لن ألي لكربن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام بن المزوار بن حيدرة بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو شريف حسني. وكان ارتحالهم من المغرب إلى الكاف، ومنها تنقل محمد الكافي إلى تونس، ونشأ بها ولده حسين في تعاطي الفلاحة وحج بيت الله الحرام. وكان كواشاً في كوشة سيدي المشرف. وقد ازداد ولده ليلاً في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائة وألف وكان في زراعة له، فسمع تلك الليلة هاتفاً ينادي. يا صالح (ثلاثاً) ولما رجع إلى أهله وعلم بازدياد ولده سماه صالحاً واعتنى به في حفظ القرآن، فظهرت له نجابة كان بها مؤدبه يملي عليه ما يمكنه فيحفظه بالإعادة مرتين أو ثلاثاً، واتفق له في صغره أن مر على الشيخ عبد الله أبي العظام، فسقاه لبناً حامضاً امتلأ به حتى خشي عليه، وكان الشيخ "عبد الله المغربي" يقول له: يا شيخ المشرق والمغرب، فتوفي والده وتركه وعمره أربع عشرة سنة وتوجه إلى خدمة العلم الشريف، وقرأ بجامع الزيتونة على فحول العلماء فقرأ الأزهرية على الشيخ حسونة الترجمان، وقرأ علم الكلام والمنطق وقطعة من شرح العقائد النسفية بجميع حواشيه على الشيخ "محمد الغرياني" محشي الخبيصي، وقرأ على الشيخ "عبد الكبير الشريف" والشيخ "حمودة الريكلي" والشيخ "أحمد اللعلاع" والشيخ "محمد المنصوري" شارح المختصر الخليلي شرحاً يبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أربعة عشر جزءاً في النصفي، والشيخ "عبد الله الغدامسي" معقول العلوم ومنقولها، واجتمع مع الشيخ "محمد الشحمي" على نظر مختصر السَنوسي في المنطق وخرج إلى طرابلس في طلب العلم فأدرك بها الشيخ "محمد التاودي بن سودة الفاسي" فختم عليه الشفا، وقرأ هنالك التفسير والحديث على الشيخ "نسوس المغربي"، ورجع إلى تونس على أكمل حالة من التحصيل، إذ بنى علمه على أصل أصيل، له اليد الطولَى في المعقول، وهو المرجع في الفروع والأصول، وتقدم لمشيخة المدرسة المنتصرية بعد وفاة الشيخ "إبراهيم المزاج الأندلسي" قاضي الحاضرة في ذي القعدة الحرام سنة خمس وسبعين ومائة وألف، وأقرأ بها دروسه الفائقة واعتكف على العلم والعمل، إلى أن بلغ في نفع العباد إلى غاية الأمل. وقد رحل من تونس على عهد الأمير علي باي حيث أنكر على قراء الأحزاب أسلوب قراءة القرآن الذي أفضى إلى تغييره وشدد النكير عليهم في النهي حتى وقع اضطراب بين العامة فاضطره الأمير إلى الرحيل ورجع بعد حين، ونال به العلم وأهلُه قرة العين، إذ كان يلازم التدريس بجامع الزيتونة والمدرسة وهو شيخ شيوخ البلاد، وصالحُها الذي بلغت به إلى غاية المراد، متخلق بالزهد وملازم للتقشف لا تأخذ في الحق لومة لائم حاضر الجواب لا يتهيب فيما يخطر بباله، سواء عنده الأمير والمأمور في جميع الأمور. استدعاه الأمير حمودة باشا لمنزله في بعض الليالي، ولما دخل إلى مجلسه أصابت شمعة ثوبه فتلا قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) . وقد ثقل عليه ضعف بصره في آخر أمره وبلغ من العمر نحو التسعين سنة وأدركته المنية فتوفي يوم الاثنين السابع عشر من شوال سنة ثماني عشرة ومائتين وألف. ودفن من الغد خلف ضريح الإمام ابن عرفة من الزلاج عليه رحمة الله ورثاه تلميذه شاعر البلاد الشريف العالم الشيخ "أحمد زروق" قاضي المحلة بمرثية ميمية مثبتة في شعره أبدع فيها ما شاء، وأرّخ وفاته بقصيدة غراء سارت بخبرها الركبان وكتبت على ضريحه وهي قوله: [الطويل] لمثلك من خطب تنوحُ النوائحُ ... وترتاع في أغمادهن الصفائحُ أُرِيقَت له دون الدموع دماؤنا ... وشفت له دون الجيوب الجوارحُ هو القدر المحتوم يلقاه سانح ... ويرمي به في غامض اليم سابح وأما وقد أودى الحِمام بصالح ... وقد عم ثلم في علا الدين واضح هو العلم العلاّمة الفرد مَن غدا ... ولا فرد في أدنى معاليه طامح هو المنهل الفياض ينبوع علمه ... بماء حياة بحره العذب طافح إمام الورى الشيخ الهمام الذي له ... مآثر راقت في علاها المدائح فتى كان أمّا فكره فهو معجز ... ذكاءً علمه فهو فاضح حوى فكره كل العلوم فنقلها ... ومعقولها متن له وهو شارح فص لعلوم الدين من بعد صالح ... إذا نابها خطب من الغير فادح كوى مصرعُ (الكواش) أكبادَ أهله ... ففي قلب كل من جوى الحزن قادح حوى قبره معْ ضيقه من علومه ... رواسيَ قد ضاقتْ بهن الأباطح حوى جامع العلم الذي انقاد لاسمه ... إذا ما تلا من مشكل العلم جامح فما غاب حتى أدبرت أنجم الهدى ... وصاح بإدبار المعارف صائح وقال الورى قد مات علاّمة الورى ... فأرّخ: يموت العلم إن مات صالح [ ... 1218 ... ] [محمد الفاسي] وقرأ أيضاً صاحب الترجمة المذكور على الشيخ "محمد الفاسي" الذي كان وفوده إلى تونس قبل طاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف في سن الشبوبية بين العشرين والثلاثين، وقرأ على الشيخ صالح الكواش والشيخ حسونة بن خليل الحنفي، وقرأ المختصر الخليلي بمدرسة علي باي على الشيخ "محمد بن خليل الحنفي"، إلى غير ذلك من الدروس التي لازمها، وطلع بدراً في هالاتها، حتى أصبح من فحول علماء تونس مع ما عنده من الخيرية والفضل والتصدي لنفع المتعلمين ومعرفة الأسرار الربانية، وقد اختص به الشيخ "محمد بن حسين البارودي" فكان يلازم بيتهم إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ودفن بتربة البارودي قرب كوشة المنتشالي عليه رحمة الله ورثاه تلميذه صاحب الترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل] شرفُ الورى يا دهر كيف هدمته ... وقصدت عمدا للهدى فثلمتهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 يا ليت أنَّك والمنى ممنوعةٌ ... تلوي على نقض الذي أبرمته لمْ تألُ في سوقِ الخيار إلى الردى ... يا ليت شعري هل بذا أكرمته؟ أفلمْ يغب بغروب شمس محمدَّ ... فضلٌ سما عن أن تكون علمته؟ والعلمُ لو كانت لقلبك رقةٌ ... لبكيته من بعده ورحمته يا من إلى نور الكتاب وسرَّه ... يسعى لقد أخفقت فيما رمته (كشافُ) أسرارِ البلاغة قد مضى ... ولسان (تلخيص) البيانِ عدمته من للكلام إذا يدوَّن فخرهُ ... منْ مبطلٍ شبه الضلال كلمته؟ ومتى أتى بوساوسٍ متفلسفٌ ... أرهقته وهدى الإله أقمته ولوَ أن أفلاطون ساعده اللقا ... لدرى بأن العلم ما علَّمته يا محييَ (الإحيا) ليهنك مغنمٌ ... عمرٌ بإحياء العلوم ختمته لهفي عليك ولستُ فيه بمفرد ... يا مفرداً جمع الكلام نظمته شمس بفاسٍ أشرقتْ وبتونسٍ ... غربت فيا أسفا عليك ضرمته قسماً بمن أعطاك خلقاً كاملاً ... وثبات حلم في الأمور عزمته لو تفتدى لفداك من تحت السما ... وبقيت حيا ما تشاء أقمته لكنَّ ما تلقاه من حسن القرى ... خيرٌ وأبقى والذي قدمته فله دعا داعي الورى فأجبته ... وجميل ظنك بالرجا أحكمته والله أحرى أن ينبلك كلَّ ما ... بجميل ظنك في الضمير كتمته وحرٍ لمجدك أن يناديَ زائر ... ومؤرخ: وا رمسُ كيف ضممته فكانت قراءة الشيخ إبراهيم على هؤلاء الفحول جد واجتهاد، أتى بها على فنون من المعقول بلغ فيها غاية المراد، وأخذ بها عنهم أعالي الكتب التي بلغ بها العلم إلى أعلى الرتب، وقد قرأ أيضاً على الشيخ "عمر المحجوب" والشيخ "حسن الشريف" والشيخ "إسماعيل التميمي" والشيخ "الطاهر بن مسعود" وغيرهم من علماء الحاضرة التونسية إلى أن ظهر عليه فضل العلم والعمل، وبلغ من تحصيله غاية الأمل، وأجازه الشيوخ فتصدر للتدريس، وشهد الخاصة له بالفخر النفيس. قيل: إن الشيخ "الطاهر بن مسعود" كان يقرئ مختصر السعد في جامع الزيتونة وتلميذه صاحب الترجمة كان يقرئ المختصر المذكور أيضاً بطرف الجامع، فاتفق أن سكنت زماجر العلماء، فسكت الشيخ الطاهر في أثناء درسه فسمع تلميذه المذكور يقرئ سمعه حصة ثم قال لمن حوله: ما أحوجنا أن يحضر جميعنا في هذا الدرس، مشيراً إلى درس تلميذه الشيخ إبراهيم وكفى بذلك له شهادة في مبدأ أمره. وأما معارفه الربانية وطرق وصوله إليها فإنه قد أخذ عدة طرق وانتهى إلى الطريقة الشاذلية سالكاً في ذلك مسلك أستاذه العارف بالله الشريف الشيخ البشير ابن عبد الرحمن بن السعدي بن محمد بن أبي القاسم بن الحبيب بن العابد بن أبي عبد الله بن محمد بن عيسى بن عبد الكريم بن عبد الله بن محمد بن عبد السلام بن مشيش رضى الله عنه وعن آله، وكان باراً بأستاذه المذكور ملازماً لخدمته وهو يدخله بيته بدون إذن مستنزله منزلة ابنه وهو يستمد به المعارف الربانية والأسرار حسبما تدل على ذلك استغاثته الرجزية في برء أستاذه المذكور التي قال فيها بعد توسلات كثيرة: [الرجز] ثم بذاك الجاه والقدر الكبير ... نسأل في شفاء شيخنا البشير وفي آخرها يقول: ويسأل الناظم إبراهيم ... محبة بسكرها يهيم والعطف من شيخ الصفا البشير ... والجمع في اليقظة بالبشير صلّى وسلّم عليهِ الله ... ما لا يفي العد بمنتهاه ثم إنه في سنة ست عشرة ومائتين وألف رأى من عناية الله به في نومه أنه دخل جامع الزيتونة فوجد به رجلاً مغربياً بين يديه محفل وكتاب متنه أكثر من شرحه وأنه قال له: يا شيخ إبراهيم عليك بالطريقة الأحمدية، ولم يسبق له في ذلك سابق، ولما دخل جامع الزيتونة من الغد تذكر الرؤيا فنظر فإذا الرجل الذي رآه في النوم جالس على تلك الحالة في الموضع الذي رآه فيه، فقصده وبمجرد رؤيته له ضحك، وقال له: أجلس يا شيخ إبراهيم فرأى آية كبرى من المعرفة بالله والصلاح، وإذا هو العارف الشيخ أبو الحسن على حرازم أحد أصحاب الشيخ أحمد التجاني رضى الله عنهم فأعلمه أن ذلك منتهى سفره وأنه قدم من المغرب فطلب منه أن ينزل عنده في بيته بمدرسة بئر الحجار، فنزل عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ولم تزل الكرامات تظهر على الشيخ حرازم حتى اتفق في بعض الليالي أن أيقظه وقال له: قم واطلب من اله ما تريد فكتب مطالب بلغ بها غاية الآمال، في جميع الأعمال، وقد وقفت على تقييدها منقولاً من خطه، وهذا نصه: 1 طلبت من الله تعالى دوام رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا تلبيس. 2 وطلبت عليك يا رب التصرف بالاسم الأعظم. 3 وطلبت عليك يا رب المعرفة لك التامة على أن تكون مقاماً لا حالاً. 4 وطلبت عليك يا رب معرفة الكيميا ونتائج عملها بسهولة. 5 وطلبت عليك يا رب أن لا تتولاني بعجزي عن أن أتولاك. 6 وطلبت عليك يا رب امرأة على وفق المراد على سبيل الدوام. 7 وأبناء صالحين. 8 وعمراً طويلاً بالخير معموراً بالطاعة. 9 ومشيخة في علمي الظاهر والباطن على وفق ما يرضيك ويرضى رسولك. 10 وأن تغني قلبي وكفي. 11 وأن تسخر لي الروحانية والجن والإنس. 12 وأن تبلغني في الآخرة والدنيا ما يليق بكرمك مما لا نعلمه ولا ندري كيف نسألك إياه. 13 وأن تفهمني عنك فهماً حقيقياً. 14 والموت على الإيمان الكامل. وقد أجاب الله مطالبه، وقضى له مآربه، حتى حصل على سعادة الدارين، ولم يزل رضى الله عنه في اتباع الشيخ مدة طويلة حتى خشي من ملازمته، وتوقع أن يعتريه الحال فطلب من الشيخ أن يقيل عثاره فأخذه الشيخ وضمه إلى صدره وستره بثوبه، قيل: أنه عند ذلك رأى جميع ما كان ويكون، ثم أطلقه واستدعاه للطريقة الأحمدية التجانية فقال له: يا سيدي نرجو أن تتركني إلى أن نستأذن أستاذي فأجابه لذلك وعند ذلك ذهب إلى دار أستاذه الشيخ البشير، وكان من عادته الدخول بدون إذن وبمجرد قرعه للباب خرجت له أمة واستوقفته إلى أن تستأذن عنه وبعد برهة خرجت وقالت له: إن الشيخ يسلم عليك ويقول لك: تمم ما أتيت من اجله، فأخذ ذلك الإذن منه وتلقى الطريقة التجانية عن إذن شيخه العارف بالله من الشيخ العارف بالله، وابتدر إلى مدح الشيخ علي حرازم بقصيدة جليلة نال بها جائزة جميلة، قد أثبتها في أثناء ديباجة غراء ذكر فيها اجتماعه بهذا الأستاذ وأخذه عنه هذه الطريقة ووظائفها من الذكر وبعض فضائلها المنقولة عن مظهرها الشيخ أحمد التجاني، وهذا نصها: الحمد لله الذي من علينا بالاجتماع، مع شيخنا الإمام العلم الهمام رأس العارفين بلا نزاع، وقطب الواصلين بلا دفاع، ولي الله الذي هو في مراقبة الله وعبادته، مولانا ووسيلتنا إلى الله سيدي الحاج علي حرازم أبقى الله وجوده ونوره لائح الأسرار، وسره ساطع الأنوار، بحرمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، فأخذنا عنه والمنة لله الطريقة التجانية المنسوبة لشيخه أمير الأولياء، وخاصة الأصفياء الأظهر، العارف الأكبر، والكهف الأفخر، مركز دائرة المختر بن أحمد بن سالم، العالم المشهور حفظ الله علاه، ولا زال بعين الرضا من مولاه، أواسط جمادى الأولى من شهور سنة 1216 (ست عشرة ومائتين وألف) فأجازني في الورد والوظيفة.. وهنا ذكر الورد والوظيفة وبعض فضائلهما. ولما اشتد به وجدي، ولم يطق حمل أعباء شوقي ومحنتي به جهدي، أنشدته إنشاد الهائم، وأنشأت له قصيدة مطرزة ببعض شمائله، ولم أخف فيه لومة لائم، فقلت، وعلى فيض سره عولت: كرمَ الزمانُ وله يكن بكريمِ ... وصفا فكان على الصَّفاء نديمي وأفاض من نعمٍ عليَّ سوابغا ... لله يشكرها فمي وصميمي عظمت على الشعر البليغ وربما ... عجز الثناءُ عن الوفا بعظيم وأجلها نظري إلى (ابن حرازم) ... وتمتعي من وجهه بنعيم وتلذذي من خلقه بمحاسن ... وتنعُّمي من خلقه بنسيم وتعرُّفي من عرفه بعوارفٍ ... ومعارفٍ ولطائفٍ وفهومِ وتعزُّزي يتذلُّلي لجماله ... وتشرفي من نعله المخدوم ذاك الذي حملت خزائن سرَّه ... ما لو بدا لارتاب كل حليم وهو الذي منح المعارف فارتقى ... منها لأرفعِ سرَّها المكتوم وهو الذي جعلت أسرَّةُ وجهه ... مرآة إسعاد وبرء سقيم وهو الذي نال الرضا من ربه ... وبنيله إن شاء غير ملوم وهو الذي أذن الرسول بوصله ... وأمدَّه من عنده بعلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وهو الذي (التيجاني) أودع سره ... فيه وخصَّ مقامه بعموم وهو الذي وهو الذي وهو الذي ... وهو الذي معناهُ غيرُ مروم عظمت لديه مواهبٌ أضحت لها ... هممُ الورى تسعى بكل سليم وسعت محبَّته إلى أرواحهم ... فهي الغذاء لراحلِ ومقيمِ يا سيدي، ولكمْ دعوت لسي ... حتى عرفتك فاستبنتُ رجومي وعلمت أني كنت أرقمُ في الهوا ... وأسيرُ خلفي والشفاء نديمي هل أنت كاشفُ كربتي فلقد سطتْ ... وطغت عليَّ وساوسي وهمومي؟ هل أنت راحمُ شقوتي فتريحني ... فخيارُ أهلِ الله خيرُ رحيم؟ هل منقذٌ من قد تحير لم يجد ... من مسعد بجلا الهموم زعيم؟ فارحم دموعاً قد رأتك عيونها ... فتكرمت باللؤلؤ المنظوم وجوانحاً جعلتك في سودائها ... وقد اصطلت وتكلَّمتْ بكلوم وجوارحاً ضرعتْ إليك يقودها ... أصلٌ عظيمُ الشأن غيرُ هضيم وسرائراً لو أنَّها بليت لما ... وجدت سوى شرقٍ إليك أليمِ ومتيماً لولا التذكر لم يكن ... بمجدَّدِ الأشواق غير رميم لا تقطعنْ أملي وقد وجَّهته ... يسعى إليك وأنت خيرُ كريم وقد اتخذتك في الأنام وسيلة ... وتوسلي بهواك غيرُ فصيم وجعلت حبَّي عند فضلك ذمّةً ... وتذممي بعلاك غيرُ ذميم ورجوت من ربي بفضلك ما أنا ... أصبحت من معناه غيرَ عديم يا مسندي يا مقصدي يا سيدي ... يا منجدي يا موئلي وحميمي أنت الذي ربي اصطفاك لسرَّه ... وحباك من فضلٍ عليك عميمِ فلك الهناءُ فأنت سلطان الورى ... وليّ الهناءُ بأن تقولَ خديمي ورسوله أولاك ما اعترفت به ... لك أهل سرَّ الله بالتقديم فسلام ربك كلما هّبت صبا ... يغشاك طيب مزاجه المختوم فلما أنشدت بين يديه، وقد اعتراه من الحال ما لا يذكر، وأسبل من الدمع ما هو من الوبل أغزر، فقال: هلم بمحبرة وقرطاس، ودفع بخطه المشرف والناس جلاس، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: جزاك الله عني وعن نفسك خيراً، ولك مني المحبوبية ومن الله جل جلاله واتصل حبك بعروتي لا انفصام له ولك من الله ومني الرضا بما مدحت به خديمي والحق أنك مدحتني لأنه مني وإلي ولك مني الرضا التام ولك بذلك معارف وأنوار وسرور والسلام عليك ورحمة الله. فكان صاحب الترجمة هو أول من تلقى الطريقة التجانية بحاضرة تونس، وتعلق بها ونشرها، وأقام أورادها، وأسس لذلك زاويته الشهيرة قرب حوانيت عاشور، وارتقى من ذلك إلى معارج الفتح والشغف بالحضرة النبوية، وحسبه من الفخر ما أبدعه وأجاده وهو "النرجسة العنبرية في الصلاة على خير البرية" وهي من أعز الصلوات البليغة التي كلمت بأعز صيغة، ولعزة هاته الصلاة التزمت إثباتها في تاريخ مفاخره المشهورة، وآيات فضله المشكورة وهذا نصها: "الحمد لله فاتح خزائن الجبروت، في حضرة غياهب تجلي اللاهوت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد مرآة الذات والأسماء والنعوت، وعلى آله الكارعين في حياض سر الناسوت". أما بعد فهذه صلوات جيدات أنوارها قد أشرقت فيها من الأسرار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت سميتها "النرجسية في الصلاة على خير البرية"، قصدت بذلك خدمة حضرة سيد الوجود، ومعدن الحقائق والشهود، صلى الله عليه وعلى آله جبالي الدين الشوامخ، وأصوله الرواسي الرواسخ. بسم الله الرحمن الرحيم "إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". لبيك اللهم ربي وسعديك، امتثالاً لأمرك، ومحبة لرسولك، وتعظيماً لقدره، وتشبثاً بأذياله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 اللهم إني أسألك يا الله يا الله يا أول يا آخر يا أحد بغيب الهوية الذي استأثرت بعلمه الذي هو اسمك الأعز أن تصلي على مستودع سرك، ومستقر أمرك، كنز الحقائق الحامل لتجليك الأعظم، أول ملب لدعوتك، وأسبق منقاد لأمرك، الحد الأوسك، روح كل كائن، النور الذي به ظهر وجودك، وانصدع فجر ليل الغيب في آفاق التنزلات إلى أن صار الأول آخراً، والباطن ظاهراً، صلاتك التي بدوامها يستمد القلم، ويجري في اللوح بما أنت به أعلم، صلاة بها تنبسط رحمتك التي وسعت كل شيء، على أسرارنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا ونفوسنا وعلى كل شيء منا حتى نتأهل لرؤيته، ونغرق في بحار محبته، وعلى آله وصحبه. اللهم يا هو يا هو يا هو أسألك خاضعاً ذليلاً بالهوية التي هي قائمة بكل هوية، بل هي هية، أن تصلي على الحقيقة المحمدية، صلاة خصوصية قدسية، تمتد منها رقائق لطفانية إلى حقيقتي الروحانية، فتردها إلى حقيقتها الأصلية، رجوع البعضية إلى الكلية، حتى نفنى في محاسنها الجمعية، وتلتذ بأذواقها الشهدية الوصلية، وفي مقاماتها الصدقية الشهودية، لا إله ألا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. اللهم مالك يوم الدين المؤمن المهيمن، صلَّ على سيدنا محمد صلاة تملأ الأكوان أنوارها وتمد الأدوار أسرارها، وتنبت المحبة والمعرفة في أراضي قلوبنا الجدبة أمطارها، صلاة من حضرة ذاتك، ونور أسمائك وصفاتك، تنجذب بها إليه رقائقنا انجذاب الحديد للمغناطيس، وتنجلي عن لطائفنا ما غشيها من ظلم الحناديس، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. اللهم يا سميع يا سريع يا سلام، أسألك بسر سيدنا محمد، وبعقل سيدنا محمد، وبروح سيدنا محمد، وبقلبي سيدنا محمد، وبذات سيدنا محمد، وبجسد سيدنا محمد، وبشان سيدنا محمد كله، أن تصلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، الصلاة التي أنت أهل إهدائها، وهو أهل قبولها، كما صليت عليه صلاة انتشر به الطي، وصار للوجود بها فيّ، وتدرج في المظاهر إلى ذاته الذي هو عرش استواء الكمال فأعرب بجوامع كلم ليس معها عيّ، ولا ليّ، عن كل شيّ، وسلم تسليما. اللهم وأسألك يا قريب يا قيوم يا قدير، بما تعلمه من جلالك وجمالك وكمالك، وشأنك كله، أن تصلي على محبوبك الأول، ومحبك الأكمل، الذي اصطفيته لفتح أقفال جودك، واجتبيته لوضع أسرار وجودك، صلاة جمالية أنبساطية تتشعشع في قلوبنا وأرواحنا ونفوسنا أنوارها، وتمتزج بكليتنا وأسرارنا أسرارها، وتنشلنا من الأحوال إلى مرتقى الكمال حقائقها، وتجذب لطائفنا إلى الاستغراق في ذلك الجمال رقائقها، حتى ننصبغ بالفناء في أحدية وجوده، ونستقر خالدين في جنة شهوده، الذي لا ظمأ بعد وروده، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وعلى آله وسلم تسليما كثيرا. اللهم وأسألك يا كافيء يا كفيل يا كبير، بكلمتك العليا التي برز عنها كل كائن بل بأحدايتك التي لا ثبوت معها لسواك، إلا من حيث إثباتك، أن تصلي على مجلاك الأتم، المتلقي نور القدم، على ما فيه من الكمال الأعم، بإدامة إفاضة مددك، وعلى آله وصحبه صلاة تحبها يدوم بها جودك، على كل أهل وجودك، ويستقر بها في مركز ظلمانية عوالمنا، وسفلية أطوارنا، جاذب نوراني، ومزعج شوقاني، إلى حيث يبقى الباقي، ويفنى الفاني، لا إله إلا الله يفني العبد ويبقى الله (ثلاثاً) . اللهم يا حي حين لا حي في ديمومية ملكه وبقائه، ويا حق ويا حكيم أسألك بك، ولا أعظم من سواك بك، أن تزيد الحقيقة المحمدية إمداداً يليق باسمك الجامع، وعطائك الواسع، حتى تتسع فلإفاضة على الأنهار المستمرة، من عذب بحورها الممدة لأشجار العوالم بمعين رحمتك التي وسعت كل شيء، صلاة نستعد بها، لإرواء قلوبنا العطاش من مشاهدة جمال وجهه الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 اللهم وأسألك يا لطيف يا لطيف يا لطيف بلا إله إلا أنت أن تصلي وتسلم على الواسطة في سريان لطفلك في كل عوالمك إذ أنت اللطيف الخبير وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما نستحق بهما بمنك وكرمك لطفا يستولي على لطائفنا وكقائفنا حتى لا نشهد إلا إياك كما انه لا وجود لسواك، يا نور النور أنت منور أحلاك العدم بتجلي نورك، فأسرج نورك في سري وعقلي ونفسي وروحي وقلبي وجسدي وكلي وبعضي حتى لا أكون إلا نوراً، وفي نورك الأحدي مغموراً، كي اوحدك توحيد العارفين، وأعبدك عبادة المقربين، والأمر كله بك منك إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. اللهم وأسألك يا علي يا عظيم يا عليم بأحب ما به تسأل وأعظم ما به تجيب أن تصلي علي الحقيقة الكلية أم الحقائق بأسرها التي هي عين العين الجامعة لكل كمال اختصت به أو فصلته في مجاليك وفرعته في عواليك بعد ما أصلته بها فكان كل كائن على سبيل العموم الحقيقي راجعاً إليها ابتداء وانتهاء رجوع المستمد للممد والبعض للكل والفرع للأصل ولذلك كانت حقيقة سيدنا محمد بن عبد اله بن عبد المطلب بن هاشم الذي أرسل رحمة للعالمين، وكان رسوا الله وخاتم النبيين، ونطق بعموم رسالته إلى جميع الناس لسان الكتاب المبين، واستوت ذاته الجامعة على حذافر الخلق العظيم والحسن العزيز والكمال المتين، وجاء بمتسع بحر الشرع الزخار الذي امتدت علومه في جميع الأقطار ليعلم كل أناس مشربهم من عذبه المعين، سبحان الحكيم الذي رمز بالشاهد على الغائب تلطفاً في إقامة البراهين، وعلى آله وصحبه صلاة تعم وتخصنا بمناسبة جزئية للإفاضة من تلك الجمعية، حتى ينظم الشمل المفروق، ويستولي المحبوب على المشوق، وذلك أقصى ما يرجوه المحب الصدوق، وتسلم تسليما كثيراً. اللهم إني أتوسل إليك بس والقرآن الحكيم وبالم وبالم وبالمص وبالر وبالر وبالر وبالمر وبالر وبالر وبكهيعص وبطه وبطسم وبطس وبطسم وبالم وبالم وبالم وبالم وبص وبحم وبحم وبحم عسق وبحم وبحم وبحم وبحم وبق وبن والقلم وبجميع سور القرآن وأسراره وأنواره ومبانيه ومعانيه وظاهره وباطنه ومطلعه ومقطعه وشانه كله أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه صلاة ينعكس شعاع شمس إمدادها على مرة باطني ويمتد منه إلى ظاهري نوراً أستضيء به في سلوك صراطك المستقيم حتى أكون في جميع أحوالي على بصيرة منك وحتى تتولى أمري بيدك تولي الكرام عليك المحبوبين عندك لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 اللهم سيدي ومولاي أسألك يا صادق الوعد بص والقرآن ذي الذكر وبالصدق الذي توحدت به وكل صدق صادق فإنه به ومنه أن تصدق عليك ظني وتحقق أملي في أن تتجلى عليّ بأكمل الحقائق برقائق سريانية تجلياً يأخذني عني مصحوباً بلطف لطيف يستولي على لطائفي استيلاء يتمحض لك فيه التوحيد الذي ترضاه وترضى به عني ويرتفع به البين الذي اقتضته حكمتك وانتظم به غاض قدرك، فصل اللهم عليه وسلم صلاة وسلاماً يوجبان رضاه الأكمل وعطفه الذي إياه أسأل كما أنهما منك أوجبا له تمام خلقه وخلائقه، فجاء كتاباً ما فرطت فيه من شيء وعالماً بسطت من حقيقته التي هي مادة الأكوان كل عالم ولخصت في ذاته الذي هو مركز سرك الأكبر ما نبسط من حقيقته فكمل بها الجلاء والاستجلاء ثم عرجت بها إلى حيث كان قاب قوسين أو أدنى، فيحق هذا التنزل الخفي والعروج الجلي ارحمني ارحمني بشهودة الذي هو شهودك فإن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله رحمة تغسل باطني من نجاسة الإخلاد إلى أرض النفس وتجلي صدري بالانحياش الكلي إلى حضرة القدس وعلى آله وصحبه يا الله يا هو يا مالك يا سميع يا قادر يا كافي يا حكيم يا لطيف يا عليم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يا صادق القيل ومن اصدق من الله قيلا، أنت الملك الذي لا يحتاج إلى وزير، والمدبر الغني عن المعين والمشير، والحاضر الذي كل غيب عنده شهادة والخبير الغني التعبير، أسألك بكمالك الذي لا يعلمه غيرك وبكهيعص وحم عسق أغنني لك عمن سواك وتول أمري يدك بيدك واجمعني بخير عبادك ,' صلى الله عليه وسلم وطهرني بأسرار قدسك حتى أصلح للوصول بعد الفصل وأعطني مع ذلك ما أنت أهله من كل ما لا يعلمه أحد من خلقك فإنك الواسع الموسع القادر المقتدر، وصلي الله على سيدنا محمد وعلة آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً أثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. [الطويل] على باب خير الخلق أوقفني قصدي ... لعلمي بأن المصطفى واسعُ الرفدِ وقد جئته لا علم عندي ولا تقى ... ولكنَّ كل الخبث يا سيدي عندي فيا من وجود الكائنات بأسرها ... به، أترى غني وعندكمُ رشدي؟ ونفحة جود منك يا أجود الورى ... لعمريَ وجد ما له بعدُ من فقد توسلت بالصديق خلَّك والذي ... مراراً أتى التنزيلُ وفق الذي يبدي وعثمان ذي النورين من حييت له ... ملائك فاستحييت من وجهه الوري وحمزة والعباس والصحب كلهم ... ولا سيما آل خصوصاً ذوي ودَّ أبا حسنٍ باب العلوم ومن أتىٍ ... بنوه بحوراً عذبها دائم المد بهم جئت يا خير الورى متوسلاً ... أرى أنني ألححت في مطلبي جهدي وحاشا لهم أني أخيب وقد أتى ... بأسمائهم نظمي فرائدَ في عقد أدرت بهم أفلاك أمري كما ترى ... بروجاً ولكن كلها مطلع السعد همُ حسن ثمَّ الحسين ونجله ... علي الذي زان العبادة بالزهد وباقرُ علم وهو والد جعفر ... أبي الكاظم القرم الهمام بلا جحد عليُّ الرضا ثم الجواد محمد ... غليُّ التقى والعسكريُّ أبو المهدي وسيدنا المهدي الذي سوف تنجلي ... به ظلمات الجور والزيغ عن حد فما أنا مدل يا كريم بجاهم ... وحاشا لهم أني أقابل بالرد وصلّى عليك الله ما أنت أهله ... وسلّم تسليما تقدس عن عد وآلك والأصحاب طراً وتابع ... وبعد فذا ذلي لجدواك يستجدي الصلاة والسلام عليك وعلى آلك وأصحابك وكل من شهد أنك رسول الله إلى جميع الخلق يا سيدنا يا رسول الله من عين الذات حيث لا اسم ولا رسم. الصلاة والسلام عليك وعلى آلك وأصحابك وأزواجك وذريتك وأنصارك وأشياعك وجميع أمتك يا سيدنا يا رسول الله من الحضرة الجامعة لكل صفة واسم. الصلاة والسلام عليك وعلى آلك وجميع أمتك يا سيدنا يا رسول الله من حضرة الذات التي هي منقطع الإشارات على حقيقتك التي هي روح حياة الوجود، المستمد منها القلم الأعلى الكاتب بإفاضة حقائق العوالم في اللوح الكلي جميع الرقائق والدقائق، وكل ما خلقه الحق وما هو خالق، ثم سرى ذلك المدد في المراتب على انبساط كثرتها إلى أن اجتمع تفرقه في ذاته الجامع الذي هو سبب الكون إرادة وقصدا، ونتيجته التي نظمت مقدمات العوالم لأجلها عقدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 إلهي وسيدي ومولاي هب لسيدنا محمد أجلَّ ما تهب من التقريب، وامنحه أكبر ما تمنحه أهل التحبب والتحبيب، وزده مما يليق بواسع عطائك، ما لا يعلمه أحد من ملائكتك وأنبيائك، واجمع البالغة تدق عن أنظار الأذكياء، وقدرتك القاهرة التي لا يتعاصى عليها في الأرض ولا في السماء، إنك على كل شيء قدير. [الطويل] وعدتَ الذي يدعو وها أنا سيدي ... دعوتك مضطرَّا وأنت سميعُ وحقَّقتُ يأسي من سواك لفقره ... وجئتك محتاجاً فكيف أضيعُ وناديت والآمال فيك قويةٌ ... وقلبيَ من ضرب الذنوب وجيعُ وفي علمي سقمٌ وعلمي شهوةٌ ... وفي الصدر روعٌ للحساب مروع أتطردني عن باب فضلك سيدي ... وروضك للعافي الفقير مريع؟ وكيفَ يرى ظني لديك مخيباً ... وعندي على طردي إليك رجوع وهل لي من مولى سواك أرمه ... تعاليت، وصلى من سواك قطيع وأيَّ نوالٍ غير فضلك يرتجى ... وأي حمى إلاَّ حماك منيع لئن حجتني عن نوالك زلة ... تلظت لها مني حش وضلوع وأخلدني منها إلى الأرض شهوةً ... وقهقرني وجدٌ بها وولوعُ فما بيدي حول ولا لي حيلة ... سوى أنني نحو الدعاء سريع بإذنك توفيقي، وفضلك واسع ... إذا لم توفقني فكيف أطيع؟ أسوَّف بالإقلاع قلباً مقلَّباً ... وعالم حلم منك فيك طموع وقد صدَّني عن ذاك قلب مغفَّل ... له كل يوم في هواه وقوع عسى سعة وافت على حين شدة ... وقد يرتجى بعد الغروب طلوع ولم يزل الشيخ إبراهيم بعد سفر الشيخ حرازم لشيخ تربيته الشيخ البشير رضى الله عنهم أجمعين مع ملازمة زيارته والرجوع إليه في قليل الأمر وجليله، ورأى من عناية الله به ما بلغ به أمله وكم له من خواطر ربانية ظهرت عليه، ومن عنوان ذلك قصيدته النومية التي أنشأها في حال منامه وأملاها في يقظته من حفظه وهي قوله: [البسيط المخلع] الحمد لله وهو حسبي ... وفاز من حسبه الحسيبُ يختص منْ شاء لا بشيء ... إلاّ بجودٍ، لهُ صبيب ثم الصلاة على المنيا ... وآدم طينه لزيبُ والآل والصحب والموالي ... من كل في الهدى نجيب وبعد يا خالقي فإني ... أدعو بكل الذي تجيب أن تجمع الشمل وهو فرق ... يجمعه المصطفى الحبيب الفاتح الخاتم المرجَّى ... لساعة هولها مشيب السيد الكامل المعلَّى ... الطاهر الطَّيبُ المطيب كنزُ الكمال الذي لكلَّ ... وإن علا قدره نصيبُ منْ مدحه في الكتاب يتلى ... ماذا عسى يمدح الأديب هو الرؤوف ويا رحيمٌ ... ما غير وصلك لي طبيب إن لم تدارك حليف سقم ... فعيشه بعد ذا غريب هذا بكاء بدا مديحاً ... وذا اشتياق وذا نحيب عليك من ذي العلا صلاةٌ ... لا ينذوي غصنه الرطيب وقد كان ملازماً للتدريس غير أن دنياه ضاقت عليه، وسئم سكنى المدرسة وتطلب التزوج فعزم على الخروج من الحاضرة لعله يجد ما يبلغ به أمله في أي أرض من بلاد الله، وعند ذلك تداركه صاحب الخيرات يوسف صاحب الطابع فثبطه عن السفر، وأخذ له داراً جهزها له بجميع ما تحتاج إليه من الأثاث والفرش وزجه وأجرى عليه من عوارفه ما هو أهل له ليبقى زينة للبلاد وبذلك سكن خاطر الشيخ وأقام على بث العلم في صدور الرجال. ولما وقعت مجاعة سنة سبع عشرة التزم الأمير حمودة باشا أن يستمير السطنة الغربية فتخير وفداً كان الشيخ في أولهم لطلب ذلك من السلطان الشريف مولاي سليمان بن محمد رضى الله عنه، فخرج الشيخ في السفر لما ذكر سنة ثماني عشرة ومائتين وألف واستصحب معه مكتوباً بديعاً إلى وزير الدولة السلطانية من أستاذ العالم الشريف الشيخ عمر المحجوب قاضي الحضرة يومئذ وهذا نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المقام الذي اهتصر من العلوم غصونها، واقتطف من البدائع أزهارها وعيونها، وسام من رياض البلاغة فنونها، وفجر من ينابيع البراعة معينها، الخير الأرضي، العلامة الأحظى، والمحتلي من الفضائل والفواضل بالردائ الأضفى، مقام اخينا في الله الشيخ سيدي عبد القادر بن شقرون، لا زال ميمون الطائر في الحركة والسكون، ولا برح محمود المساعي، مخصب المراعي، ووراء التحية المتعطرة بذكراه، والسلام الذي يفوح لنشره برياه، والبث الذي أعوزه حسن لقياه، لولا التعلل بإطالة محياه، إنا لنحمد إليكم الله تعالى الذي جلت الآؤه، وغمرتنا على كل حال نعماؤه، ونفذ حكمه وقضاؤه، لم نظعن عن معاهد المودة، ولم نبرح عن الثناء على مقامكم من تلك المدة، ونسائل عنكم الركبان القادمين إلينا، ونبحث عن أنبائكم من السفر المجازين علينا، رعياً لأوشاج العلم والأدب، ومبرة للسلسلة التي هي أصح من سلسلة النسب فننثني من أخباركم بما ينشط القلب والألباب، ويستخلص من الحمد والشكر خالص اللباب، وإنكم بحمد الله تعالى على الحالة التي يرتضيها كمالكم، وتبتسم بالإعجاب بها آمالنا وآمالكم، تحت الإيالة التي نسأل الله تعالى أن لا يقلص عن المسلمين ظلالها، وأن يسوغكم زلالها، وإلى هذا نعرفكم عرفكم الله عوارفه، وأسبغ عليكم من الفضل مطارفه، ان حضرة إفريقية حاطها الله بعنايته الكافية، وأسبغ على أهليها رداء العفو والعافية، قد أعوزها الخصب في الأعوام المنفصلة، وتوالى عليها الجدب في سنين متصلة، لا سيما هذه السنة الشهبا، فإنها تلونت لأهلها تلون الحربا، وما كشفت النقاب عن عوارها، ولا أوضحت لهم مكنون إعسارها، لكون الزرع قد استغلظ واستوى على سوقه، ولاحت لهم من الخصب واضحات بروقه، فما راع القوم إلاَّ إخلاف أنوائها، وتجهم أشد من الصحو لسمائها، قضاء من الله تعالى مقدراً، وحكماً سابقاً في أم الكتاب مدبراً، ولم يجد القوم ملاذاً من هذا الأمر، ولا مفزعاً لأن يكشف الله سبحانه عنهم هذا الضر، إلا انهما أنفذوا الأنفار المذكرورين أعلاه للمشهور الأفخم، والنادي الأعظم، حضرة مولانا السلطان الشريف، ذي القدر المنيف، أعز الله سلطانه، وحرس بعين العناية أرجاءه وأركانه، وهؤلاء القوم وإن كان بأيديهم مكتوب من أميرنا الباشي أيده الله تعالى في طلب ابتياع الميرة من ممالك مولانا السلطان نصره الله تعالى إلا انهم في الحقيقة وفد هذا الرعيل من جماعة المسلمين، أوفدهم على حضرة السلطان ممتارين قائلين: "مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين"، ولا جرم أنهم أصابوا المرمى واستبصروا، حين فزعوا لحضرة مولانا السلطان واقتصروا، وبهمته العالية على القحط استنصروا، وأرسلوا الأنفار المذكورين وفداً لطلب الميرة وانتظروا، ونعرفكم بأن الأول منهم هو الفقيه المتفنن البراع أبو اسحق سي إبراهيم الرياحي من نجباء الطلبة الذين أخذوا عنا، وميزه تحصيله بمزيد الوصية عليه منا، ولعلكم إن شاء الله إذا بلوتم نجابته واستنفصتم كنانته تحمدون في العلوم ذكاءه، وترضون توغله في معارجها وارتقاءه، لكنه ربما يتعسر عليه فيما هو بصدد سفارته الإنتاج، ويجهد على علله الأدواء والعلاج، فالمطلوب من مقامكم ووافر عزكم واحترامكم أن تكون لهؤلاء الوفد معيناً، وأن تقر لنا ولهم بمعونتك عيناً، وتهديهم للظفر بالمقصود سواء السبيل، وتوضح لهم كيفية الإنتاج في هذا الأمر على التفصيل، حتى تترتب لهم الأقيسة المنتجة، وتنفتح الأبواب المرتجة، ولكم مزيد الدعاء بألسنة الخصوص والعموم، والثناء بدلالة المنطوق والمفهوم، والثواب الجزيل في اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، والله تعالى يبقيكم ومن طوارق الزمان يقيكم ولا زال ظل مولانا السلطان ممدوداً، وإرفاده محموداً، وقطره مقصوداً، وبره معموداً مصموداً، بمنه وكرمه والسلام. ولما بلغ الشيخ إلى حاضرة فاس، لاقى من إقبال فضلائها ما تعطرت له به الأنفاس، وقدم للحضرة العلوية السلطانية قصيدته الشهيرة التي هي من أعز كلمه، وقد وقفت عليها وعلى مواليتها مرقومتين بلسان قلمه فقال: [الكامل] إنْ عزَّ من خير الأنام مزار ... فلنا بزورة نجله استبشارُ أوليس نور المصطفى بجبينه ... كالشمس يظهر نورها الأقمارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فاشف الغليل بقربه فلطالما ... شط المزار وعاقت الأقدار واحفظ جفونك من سناه فإنه ... ببريقه تنخطَّفُ الأبصار وإذا أنامله اللَّطاف لثمتها ... فحذار من غرقٍ فهنَّ بحار وافخر على كل الملوك بلثمها ... ما بعده للمستقر فخار شتان بين ابن الرسول وغيره ... أو يستوي ليلٌ دجا ونهار هذا يزين الشعر طيبُ حديثه ... حسناً وذلك تزينه الأشعار هذا الخليفة وابن أكرم مرسلٍ ... وسليلُ من فخرت به الإعصار وخلاصة الأشراف والخلفاء منْ ... بيت البتول ومن حواه إزار وأعزّ وارث ملك إسماعيل من ... بطل شذا أخباره معطار وأجلُّ سلطان وأكرم مالك ... شرفت بملك يمينه الأحرار وأحقُّ من تحت السماء بأن يرى ... ملكَ البسيطة والورى أنصار لكن إذا كلُّ القلوب تحبُّه ... فلغيره الأجسام وهي قفار هذا سليمان الرضا ابن محمدٍ ... من أشرقت بجبينه الأنوار هذا الذي رد الخلافة غضةً ... وسما به للمسلمين منار واعز دينَ الله فهو يشكره ... في أيكها تترنم الأطيار وحمى حماه بفصله وبنصله ... وهو الذي يحمي لديه منار فلسانه يومَ الجدال صوارمٌ ... وسنانه يوم الكريهة نار بمعارف وشهامة علوية ... من قبل أرهف حدها الأخطار تخشى الضراغمُ بأسه في غابها ... وتصاغرُ الأبطال وهي كبار ويخاف صولة عدله الدهرُ الذي ... مهما يجرْ يوماً فنعم الجار وهو الذي يرجى لكل ملمّة ... ضاقت بحمل ضئيلها الأقطار وهو الذي يسعى إليه إذا دجا ... ليلُ الخطوب وساءت الأفكار كمجيئنا نسعى إليه وقد سطا ... جدب وعم جميعنا إضرار علماً بأنا الدنيا بمقلة زاهد ... ودرى بأن جمالها غرَّار مولى رأى الدنيا بمقلة زاهد ... ودرى بأن جمالها غرَّار فرمى بها منتزهاً وكذاك من ... كانت كرامَ أصوله الأطهارُ وتخير الأخرى بهمة عارف ... لم يرضها دون الجنان قرار فرحت به الأخرى كما صلحت به ... الدنيا فطاب لأهلها استقرار عمَّ البريئة حلمه وحياؤه ... وتواترت بسخائه الأخبار مع ما له من مستلذ شمائلٍ ... نمَّتْ بطيب نسيمها الأزهار إن تلفه لاقيته متهللاً ... وله إليك هشاشة وبدار متبسماً يجلو الظلام جبينه ... مستبشراً تجلى به الأكدار من عصبة ورثوا العلا وتناسقوا ... فيها كما انتسقت بها أسطار وتسابقوا في المكرمات فلن ترى ... منهم سوى من فضله مدرار صلحاء أبرارٌ أماجدُ سادةٌ ... علماء أخيارٌ تلت أخبارُ خلفاء أشرافٌ كرام قادة ... سرجٌ بها للمهتدي استبصار أسدٌ إذا حمي الوغى وإذا دجا ... ليل بكت لبكائها الأسحار من كل أحزمَ يتقيه حمامه ... شاكي السلاحِ له اليقين دثار درب على طعن الأباهر والكلى ... وعليه للحرب العوان مدار قومٌ إلى نهب النفوس إذا سطا ... فطوال آمال العداء قصار شد الإله بهم معاقد دينه ... والله جلّ لدينه يختار وأعزَّهم بعزيز نصرته التي ... رعب القلوب أمامها ستَّار أفما رأيت الكفر ذلَّ لعزهم ... وسنانه لسواهم خطَّار تهوى المشارق أن تكون مغاربَّا ... ليعمها في الملتحين جوار وتنال من عز الشريف كما رأت ... إذا كان فيها للخلافة دار رد الزمان لصدره فكأنما "ال ... فاروق" بين ظهرونا أمَّار العدل يبسط والنفوس سوامحُ ... والدين يظهر والعلوم تدار والناس في رغد الحياة بجبذضة ... تجري لهم من تحتها الأنهار فليذكروا النَّعم التي عمتهمُ ... الله يعلم أنَّهن عزار ولنسألِ استمرارها ببقائه ... فبقاؤه لصلاحنا استمرار الله يبقى نصره متأيَّدا ... في عزة خضعت لها الأقدار ويديمُ أملاك السماء تحوطه ... بعناية شيدت لها أسرار والأرضُ قبضة راحتيه وأختها ... منها له تنتزل الأسرار ما دمتمُ يا أهل بيت محمد ... حرماً يطوفُ ببيته الزوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أو ما ترنم منشدٌ بحلاكم ... وتزينت بحلاكم الأذكار ثم الصلاة على النبيْ وآله ... ما ناف لي بمديحكم مقدار قال الناظم: "ولما أنشدت بين يديه أيده الله بنصره ارتاب بعض الحاضرين في مجلسه أن يكون ناظمها هو العبد الفقير إذ رأى شدة وقوعها الموقع العزيز من قلب الممدوح زاده الله عزاً ونصراً فجاءني بعض كتابه وأخبرني وقال دفع هذا الريب أن تنظم قصيدة في اتفاق غريب وقع لمولانا السلطان خلد الله ملكه وذلك انه وقف يوماً في إقرائه للتفسير على قوله تعالى: (وأعلموا أنما غنمتم) الآية صباحاً فاتفق أن جاءته غنيمة في مساء ذلك اليوم وتبارت الشعراء في البيان عن هذا الغرض العجيب والاتفاق الغريب، فإذا أحسنت في البيان عن هذا الشأن، ارتفع الريب وحسبت من فرسان هذا الميدان، فقلت معرضاً، ولخيام الشك مقوضاً: [الطويل] دلائلُ فضل الله فينا تترجم ... وإن غفلت عنها طوائف نوَّمُ ومن أكبر النعمى ولايةُ منْ له ... علينا وفينا حكمة وتحكُّم تلطف في إخفائها متستَّراً ... ومن كلمت فيه الولاية يكتم ولما أراد الله إظهار سرّه ... جرى الأمرُ في الإظهار من حيث يعلم ألم تغتنم وقت المساء وغدوةً ... بدا الوقفُ في التفسير آية: "واعلموا" ليدري صحيح الذوق أن مليكنا ... له في طريق الكشف نهج مقوم وأن لنا فيما قضاه مغانماً ... فعجَّل ذي بدءا لما هو أعظم فلا زالت الأيام تخدم سهده ... ولا زال مثلي في علاه ينظَّمُ وأنشدت بين يديه أيضاً ولإثر إنشادها وقعت منه أبقاه الله وحفظه العطيةُ الجميلة والجائزة الجليلة، فجزاه الله الرضوان الأكبر الذي لا انقطاع لسببه، وجعل الخلافة كلمة باقية في عقبه". ا. هـ?. ثم غن المولى السلطان الرشيف أجاب طليبته وقضى حاجته على أحسن حال وحصل من ذلك على الغنيمة الوافرة، وعظمت سعادة سفارته المذكورة بالاجتماع مع القطب الرباني الشيخ احمد التجاني رضي الله عنه فأناله من الأسرار والكرامات ما هو أهل له، وقدمه لطريقته، وعدّ بذلك في أصحاب الشيخ الفائزين بمفازه رضي الله عنهم وعن سائر أولياء الله أجمعين أخبر أنه عند وصوله إلى حاضرة فاس قصد على البديهة دار الشيخ، ولما استفتح الباب سألته خادم: هل أنت إبراهيم التونسي؟ فقال: نعم، فأدخلته، واجتمع هنالك بالشيخ العربي، والشيخ علي التماسيني، والشيخ علي حرازم، وغيرهم ممن فاز بحضرة الشيخ، ثم قدم إليه قدح من لبن فشرب جميعه، ثم أقبل الشيخ من خلوته يعلوه غبار سفر، وبعد أن قبل تحية زائره قال له: عظم الله أجرك في شيخك الشيخ صالح الكواش، فقد كنا الآن في جنازته، فيكون ذلك اليوم هو يوم الاثنين السابع عشر من شوال سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، وقد أعلمه الشيخ بعد ذلك بما سيلاقيه من الحضرة العلوية السلطانية وأرشده إلى ما فيه سداده. ولم يزل يتردد عليه مدة إقامته إلى أنن حصل على جميع آماله، مع نجاح أعماله، وفي آخر مدة إقامته قال له الشيخ، أقم عندنا أحداً وعشرين يوماً أخر، وأنا نبلغك إلى زيارة ضريح سيدي أبي الحسن أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه غير أنه لما قضى أمره الذي توجه فيه لم تمكنه زيادة الإقامة فاعتذر إليه وفاز بمغانمه السرية، والمالية والميرية، التي نالها من هذا السفر، الذي لاقى به كل يمن وظفر، وعظمت بذلك وصلته بالحضرة السلطانية العلوية، ولذلك تلا مديحها أن قام عليه أبناء عمه فظهر النفاق في السلطنة وظفر السلطان بالقائم عليه فهنأه الشيخ إبراهيم الرياحي بقصيدة بديعة وهي قوله: [الكامل] بشرى الورى بلأمن بعد مخاف ... وقفوا به في موقف الأعراف قرت به عينُ الهدى أما الهوى ... فلحزنه حزنت بنو الإرجاف أغفت جفون الرشد ثم تنَّبهت ... بلطائفٍ قد كنَّ تحت سجاف ما صحّ لولا ذاك في حق امرئٍ ... رؤيا سليمان بعين خلاف وهو الذي عمّ البرية فضله ... فأحاط بالدنيا إحاطة قاف والدين في عزَّ به والناسُ من ... بركاته في جنةٍ ألفاف قل للمغارب: هل جهلت كماله ... وكماله في الكون ليس بخاف أضحكت سنَّ الشرق إذا أبكيت في ... ما قد أتيت مدامع الإنصاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 رمت القياس بغير معنى جامعٍ ... وغرست لاستثمار غصن خلاف إنَّ الكواكب في السماء كثيرة ... لكن ذكاءُ فريدةُ الأوصاف وكذلك الأشراف كلَّ جوهرٌ ... وأبو الربيع فريدةُ الأصدافِ هل عمكم منه التقى فسئمتمُ ... نعمَّا سوابغ سترهن ضواف؟ أم علمه أم حلمه أم عدله ... أم وكف كفَّ يمينه المتلاف؟ أم رمتمُ بطراً وكم من قرية ... بطرت فجرّ بها إلى الإتلاف فنقضتمُ العهد الذي قد أوثقت ... كفُّ الشريعة في يد الأسلاف ونسيتم يومَ الولايةِ وهو في ... كرهٍ لها والقوم في إلحلاف لم يرضها لولا صلاحٌ رامه ... وتضرُّع العلماء والأشراف حتى إذا استولى كما شاء الهدى ... وبشمتمُ بالبر والألطاف قلتم نخالفه وأي فضيلة ... في منهل عذب الموارد صاف؟ لم يرضني والعالمين بأسرهم ... إدٌّ أتيتم للرشاد مناف تستوجبون بذاك لولا حلمه ... ما استوجبته القوم بالأحقاف لكن عفا والعفو فيه سجيةٌ ... واتى بصفحٍ وافرٍ وعفاف لم يلتفت لنفاذ قدرته التي ... بالنون مدَّ مديدها والكافِ وأمدَّ من جند السماء وراثة ... من جدَّه المختار بالآلاف لكنَّ طودَ ثباته لم يهتزز ... بعواصف من غيهم أصناف ورعى حقوق الله والأرحام في ... قوم زعانف للضلال خفاف كرهوا الهدى والحقَّ لما جاءهم ... جنفا إلى الإهمال والإسراف ولو إنما اتبع الهدى أهواءهم ... جاؤوا بسم للأنام زعاف يا خاتم الخلفاء لا تخفل بهم ... واصدع بأمر الله صدع مصاف وأصبر كما صبر الهداة فإنها ... محنٌ يلدن منائح الإتحاف فالله حسبك والذين استيقنوا ... فتصامموا عن ناعق استخفاف واحلم على المولى (السعيد) فإنه ... برُّ البنوة صادق الإسعاف مثل اليزيد جفا فجاء بصارم ... في فيه للسلطان ذا استعطاف فأناله بالحلم واسع عطفه ... عطف الأبوة سابغ الأعطاف لا تيأس القربى حنانك بعدما ... فاضت سحائبه على الأطراف ما همَّمهم نصرٌ له لكنهم ... نصروا سخائم في النفوس خوافِ ولك الثناءُ مخلَّدٌ في هذه ... والفتح والنصر العزيز مواف يا منْ إذا تليت محاسنُ مدحه ... طرب النهى من كأسها بسلاف ومتى يوم مثن عليك بلوغه ... في الأرض قال له المديح أنافي دامت حياتك للقلوب مسرةً ... والله جلّ بنصره لك كاف خذها جناناً في عيون أجلةٍ ... ولها لهيبٌ في قلوب سخاف قصرت نبالي أن تناضل دونكم ... فبريتُ من نبع الجدال قواف ترمي العداة بكل معنى مصعقٍ ... وبكل لفظ مبرق خطَّاف شكراً لأنعمك التي أسبغتها ... ولو أنه لعلاك غيرُ مكاف أهدي إليك تحيةً عطريةً ... تغشى منازل آل عبد مناف بعد اختصاص المصطفى بصفيها ... وتعمُّ نشراً كلَّ من هو قافِ ولما أن استناب المولى السلطان ابنه العلوي الشريف إبراهيم إلى حج بيت الله الحرام سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر بأنه قاصد المرور على طريق تونس استحضر له الشيخ إبراهيم قصيدة ليتلقاه بها لكن تبين أنه رجع من حجه إلى حاضرة فاس فأرسلها إلى حضرة والده السلطان مولاي سليمان رضي الله عنه وهي قوله: هذا المنى فانعم بطيب وصال ... فلطالما أضناك طول مطال مذا وكم أوليتني يا نخبري ... بقدومه من منَّةٍ ونوال بشرتني بحياتي العظمى التي ... قد كنت احسبها حديث خيال بشرتني ابن الرسول لو غنما ... روحي ملكت بذالتها في الحال بشرتني بسلالة الخلفاء منْ ... أمداحهم تتلى بكل مقال من حبُّهمْ فرض الكتاب كما ترى ... (إلا المودّة) حين يتلو التال من ضمَّهم شمل العباء وأذهبوا ... رجساً فيا لك من مقام عال من قوَّموا أود المكارم بعدما ... شادوا الهدى بمعارفٍ ونبال لولاهمُ كان الورى في ظلمة ... مرَّتْ غياهبها بكل ضلال آباءك الأطهار أقصدْ يا أبا ... إسحاق يا نجلَ المليك العالي يا حبَّه وصفيه من قومه ... وخياره من سائر الأنجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 لو لم تكن أهلاً لصفو وداده ... لم يستنبك لجده المفضال لكن توسم فيك كلَّ فضيلةٍ ... فحبا يمينك راية الإقبال وأقام جودك بل وجودك زادَ من ... يبغي ببيت الله حطَّ رحال أنت استطاعتهم فما عذرُ الذي ... ترك الزيارة خيفة الإقلال؟ وبك المشاعر أطربت طرب التي ... وجدتْ على ولهٍ فقيد فصال ووصلتها رحماً هناك قطيعة ... دهراً مضى وبللتها ببلال وتأنَّس الحرمان منك بطلعة ... أغنتهما عن وابل هطَّال كرمٌ لكم أدريه يومَ أفاضه ... عني سليمانٌ بأي سجال وهب الألوف وكان أكرمَ منزلٍ ... يسلي الغريب ببره المتوالي يوم التشرف لي يلثم يمينه ... وتمتعي من وجهه بجمال وتلذذي بخطابه المعسول إذ ... حفَّتْ به للدرس رجال لمْ أنسهُ يوماً حسبت نعيمه ... للذائذ الجنات ضربَ مثال عجباً له يحي القلوب بعلمه ... ويميتُ جند الفقر منه بمال وإذا تقلَّب للوغى فحسامه ... تعنو الرقاب له بغير قتال يتلوه بالفتح المبين عساكرٌ ... قد أرهفت بالنصر حد نصال تخشى الملوك مقامه ولذكره ... رعباً، تطير فرائسُ الأبطال وينال آمله لخفض جناحه ... ما ليس يخطر قطُّ منه ببال حتى سقى أصفى مناهله الألى ... يسعى لمروتهم ذوو الأثقال وأتت لمغربه الشريف مشارقٌ ... والشمس تغرب لاقتضاء كمال لما تخلَّف عاجزٌ فبقلبه ... يسعى لفعل شعائر الإجلال أمنية وقعت أشرت لذكرها ... في مدحها قدماً بصدق مقال تهوى المشارق أن تكون مغارباً ... لتنال من جدواه أيَّ منال يا فخر دين الله منه بناصر ... وسعادة الدنيا به من وال لا تفتخر "فاسٌ" ولا "مراكشٌ" ... بولائه كلُّ الأنامِ موال أوليسَ في كل البقاع ثناؤه ... ورد البكور وصحة الآصال؟ أولمْ يشد للدين والعلماء والأ ... شراف والصلحاء صرحَ معالِ؟ أوليس أحيا سنة العمرين في ... زمن إلى بدع الهوى ميَّال؟ أولم يعمَّ بجوده أقطارها ... لا فرق بين جنوبها وشمال؟ أولم تسرْ ركبانها بمحاسنٍ ... ضاءت لهم سرجاً بجنح ليال؟ شيمٌ يهزُّ الراسياتِ سماعها ... ويفحنَ في أنفِ الزمان غوال أوصافُ والدك الإمامِ المرتضى ... للدين والدنيا بحسن خلال ذاك الرفيع أبو الربيع ومن به ... حييَ الهدى وشرائعُ الإفضال فبه لك الفخر الكبير، وإنْ يكنْ ... لك في العلا نسجٌ على منوال كلُّ الكمالِ لهُ وأنتُ مقرُّه ... والفرع عين الأصل عند مآل يا بن المليك ابن المليك ابن الملي ... ك ابن المليك سلالة الأقيال أنستمُ ذكر العبابسة الآلى ... زالوا، وما زالوا بعين جلال لكمُ الفخارُ بأن نسجتُ مديحكم ... حللاً تجدَّدُ كلَّ شيء بال ولوَ أنني حاولت مدح سواكمُ ... عقل القريحة عنه أيُّ عقال فكأنما طبعي شريفٌ حيثما ... لا يهتدي لسوى مديح الآل أو أنَّهُ ورع النظام يكن ... بذلُ المديحِ لغيركم بحلالِ أو قدْ درى أنَّ المديحَ تعرُّضٌ ... وسواكم لا يرضتى لسؤال أبقاكمُ كهفاً يلاذ بمجده ... مختاركم لإنالة الآمال وأدامكم رحمى فإنَّ بقاءكم ... من فيض رحمة سيد الإرسال وأدام للإسلام والدك الذي ... هو رحمة وسعت بغير جدال وعليكمُ وعلى الذين يهوالكمُ ... أزكى الرضا من حضرة المتعالي ما دام ذكركمُ بكل صحيفةٍ ... تبعاً لأحمدَ سيد الإرسال صلى عليه مسلماً ربُّ الورى ... وعلى مقدّم حزبه والتالي قال الناظم: فأرسل إليّ السلطان مونا سليمان خلد الله بقاءه، وأدام في أوج سعادة الدارين ارتقاءه، جائرة يا لها من جائزة سنية، مع قصيدة أحلتني والله يعلم أني لست بأهل مرتبة علية، وكتاب أطراني فيه بأسحار من البلاغة بابلية، أما القصيدة فهي: [الكامل] حَّيتْ فأحيتْ قلب صبّ صال ... كيما تبشره بقرب وصالِ واستفتحت بعد التحية سورة ال ... فتح المبين بقصد أخذ الفال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 هيفاء ترفل في مطارف سندسٍ ... من نسج تونسَ لا تسامُ بمال مخضوبة الكفين والقدمين في ... طول القنا ملموزة بدلال بينا نسائل بعض أتراب لها ... إذ أسفرت عن وجهها المتلالي فتضاءلت لسناه أقمار الدجى ... والصبح أصبحَ كالقميص البالي فحسبتها الدرَّ الثمين ملاحةً ... أو بنت فكر السيد المفضال العالم العلم الذي أهدى لنا ... درر المعاني بل عقود لآل أدت قريحته وثاقب ذهنه ... ما أعجزَ البلغا لبعد منال يا أهل تونسَ حزتمُ شرفاً بما ... أبديتمُ من صالح الأعمال يكفيكمُ أنَّ فيكم هذا الذي ... حلَّتْ بلاغته محلَّ كمال حتى غدت أمداحه ما بيننا ... تقرا لدى الغدوات والآصال فلربما أدى البعيد بأرضه ... حقاً ولم يحتج إلى ترحال فله علينا أيُّ فضل أيها الشع ... راء إنْ أنصفتم في الحال حيث اهتدى لمقاصد فافتض من ... أبكارها عذراء ذات جمال يا حسنها من كامل في كامل ... أزرت بذات القرط والخلخالِ يا ما أميلحها تردد قولها ... هذا المنى فانعم بطيب وصال فلذا غدت أرواحنا تهتز من ... طرب استماع نسيبها المتوالي فكأنما النشواتُ في أشباحنا ... نشوات سكرٍ لا بخمر دوال لله در قصيدة حلَّى بها ... جيدَ البلاغة للمقام العالي جاءت كأحسن ما رأيت بلاغةً ... وفصاحةً جمعت ثلاث خصال حسنَ الصنيع وجودة اللفظ البدي ... يع ودقَّةَ التفصيل والإجمال أنستْ بلاغتها قصائد من مضى ... وبدت بأفق المجد بدر كمال فاللَّهُ يجزيه جزاء عباده ال ... أبرار فوق السؤل والآمال حتى يرى في جنة الفردوس من ... حزب النبي وصحبه والآل وأما الكتاب فهذا نصه.. "هذا بحول الله كتاب كريم، يغني روض خطابه عن أزهار الجزاء العميم، من العبد المتوكل على ربه في السر والإعلان، أمير المؤمنين سليمان، عمه الله بالعفو والغفران، إلى الشيخ المجلي في حلبات الأدب، على كل من لأسرار البلاغة انتسب، الشاعر المطبوع، الرابط بحيل أسلوبه البديع بين كل محمول وموضوع، العالم النقاد، السالك على سنن النسام والزهاد، تاج المفرق بالإقليم الإفريقي، أبي سالم السيد إبراهيم الرياحي، لا زالت نافحة محاسنه يضوع عبيرها بأقصى النواحي، ثم عليه من السلام، ما يسمو به في سماء العز سمو بدر التمام. أما بعد، فقد وصلتنا قصيدتك الرافلة في أذيال البيان، المحتج بدلائل إعجازها على أدباء الزمان، فرقعت منا ومن أدبائنا موقع الاستحسان، حتى خلناها نسجت على طراز حسن، مع إعرابها عن الود الصميم، في جنب أهل البيت الكريم، وبناء مطلعها على الأصل العجيب، لا على ما عسى أن يستحسن من الغزل والنسيب، فلله أنت من عبد شاكر، وحر لما سبق من الوصل ذاكر، إلخ ما تضمنه المكتوب من ذكر العطاء الجزيل، والثناء الجميل، فجزاه الله التمتع بوجهه الكريم، في دار النعيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم". أ. هـ?. ومما اتفق له مدة إقامته بالديار المغربية في تلك السفارة التي أسفرت له عن كل كمال، وأحلته من كل مجلس محل الإقبال والإجلال، أن تحفة أدباء بلد سلا الشيخ محمد القرشي السلاوي، وصف مجلس مولاي عبد السلام أخي السلطان بم طاب وراق، ثم استجاز الشيخ فساجله في ذلك فكانت أبيات الشيخ محمد القرشي، هي قوله: ومجلسٍ رائقٍ من فضله سقيت ... أرواحنا برحيق العلمِ والأدب من فيضِ صنو أمير المؤمنين ومنْ ... يسمو السُّها منصباً في أرفع الرتب حتى رأينا غصون الروض مائلة ... وتلثمُ الأرض أحياناً من الطرب وكانت إجازة الشيخ إبراهيم الرياحي هي قوله: والورقُ مقتنَّةُ الألحانِ راقصة ... والزهرُ مبتسم عن ثغره الشنب لا غرو أن رقصت أرواحنا طرباً ... وجر أذيالنا فخراً على الشهب فإنما نحن عند الطاهر النسب ابن الطاهر النسب ابن الطاهر النسب وقد زاره الشيخ محمد القرشي في منزله فتلقاه بقوله: [البسيط] قد أنعم السيد القرشي بزورته ... فيا فؤادي بذاك المنظر ابتهجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أما رأيت بدور العلم طالعةً ... في أفقه بيننا تغني عن السُّرج فارتجل الشيخ محمد القرشي إجابته بقوله: قد بشر القلب بالأفراح والفرج ... والأمن من سطوة الأتراح والحرج مهما نظرت محيا اللمعيَّ أبي ... إسحق أغنى عن الأصباح والسَّرج واتفق أيضاً أن العالم الشيخ محمد بن الفقيه كان إذ ذاك مقيماً ببلاد سلا بمرض الحمى ولم تمكنه زيارة إبراهيم برباط الفتح فكتب من سلا يعتذر إليه بقوله: [الكامل] اسمع أبا إسحق قولي واعذرِ ... فلعلَّةٍ قد كان عنك تأخُّري ألمُ وعافاك الإله يلمُّ بي ... في كل أسبوع مراراً يعتري ما دأب مثلي أن يغضّ جفونه ... عن مثل سؤددك المنيف الأشهر عندي إلى لقيا الأحبة مثلكم ... شوقُ الجديب إلى السحاب الممطرِ لا سيَّما من في العلوم مكانكم ... يهوى السماك بلوغه والمشتري وإليهمُ علمُ القريضِ قد انتهى ... وأناخ فيهم بالرحيب الأبهر أخلاقكم تحكي النسيم لطافة ... ووجودكم مثل السحاب المسفر شوقي إليك وإن نأيت مضاعفٌ ... لم يحكَ فيه تجلدي وتصبري مذ راقني درٌ نظمتَ فريده ... لأجلَّ جيد في الزمان وأفخر الدر في خدر البيان خردية ... تختال في حلل البديع الأنور يربي على حسن الخرائد حسنها ... وبهن في كل المحافل تزدري أخريدةٌ لاحت لنا من خدرها ... في بهجة وتبرَّجٍ وتبخترِ؟ أم روضةٌ مطلولة قد رصَّعت ... بزبرجدٍ من نورها وبجوهر من أحمرٍ قان وأبيضناصعِ ... يققٍ وأصفر فاقعٍ ومعصفر أرواحها تهدي لناشقها شذا ... نسرينها وبهارها المتعطر بل حلة حيكت بأطرزة النهى ... عن فكرة جادت وحسن تدبر ما خسرواني الدمقس وعصبه ... ما حوك صنعاء الأنيق وعبقر جمعت يواقيت الثناء فأشرقت ... أنوارها تغشي نواظرَ مبصر أوصاف ميمونِ النقيبة سيدٍ ... ورث الخلافة أكبراً عن أكبر قطب المفاخر والمآثر والنَّدى ... ومكارم الأخلاق سامي العنصر سبط الرسول إمامنا العدل الرضا ... عون الضعيف ونصرة المستنصر أودعتها سحرَ البلاغةِ كلَّه ... وقلائدَ العقيان غير مقصر اابن الحسين بمحسن مهما تلح ... كلا ولا ابن نباتةٍ والبحتري لله درك من أمير براعةٍ ... لسنٍ لدى أهل القريض مصدّر ليث القريض رئيس زمرة أهله ... وزعيمهم مهما القرائح تنبري وإذا بناديهم حللت فإنهم ... خرسٌ شقاقهم وإن لم تزأرِ لله تونسك التي بوأتها ... كم أحرزت بعلاكمُ من مفخر مني عليك تحيةٌ نفاحاتها ... تربي على مسكٍ يفوح وعنبر ما غرَّدتْ قمريةٌ في دوحةٍ ... وبدا سنا ذاك الجبينِ الأزهر وتلا محبُّكمُ المخلُ بحقكمْ ... اسمكعْ أبا اسحق قولي واعذرِ فأجابه الشيخ ابراهيم الرياحي عن ذلك بقوله: [الكامل] روحي فداك من الملمِّ المعتري ... ولوَ أنه يبتاع كنتُ المشتري وأنا الذي بتخلُّفي أصبحتُ في ... ندم فيا ويلاه إن لم تغفر يا خير من حسد العقودُ قريضه ... فتناثرت منها "صحاح الجوهر" وأجلّ من ذان القريضُ لطبعه ... وبنثره سحرَ النهي إن ينثر وأرق من ساري النسيم إذا انبرى ... لطفاً وأسوغ من زلال الكوثر أعني الهمام ابنَ الفقيه محمَّداً ... شيخَ الهداة وقدوةَ المستبصر ومن العلومُ بنقده وذكائه ... تزهو على الحور الحسان وتزدري الدرسُ لا يهوى سوى تقريره ... وسواه لا تهوى مراقي المنبر وإذا لثام الجهل غطَّى مشكلاً ... كشف اللثامَ عن الجبينِ المسفر ببراعةٍ من دون نيل أقلّها ... حربُ البسوس وهولُ يوم المحشر يا عاذلي في حبه أقصرْ فما ... أنا عن هواه المستلذِّ بمقصر ما كنت فيه مقلداً غير الهوى ... فأطلْ ملامك بعد ذا أوْ قصرِّ إن كنتَ تسمع ما سمعت فإنَّني ... من حسنه أبصرتُ ما لم تبصر تسليك منه فكاهة فكأنَّها ... راحٌ براحةِ أغيدٍ متبخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ليس الغريب بأنسه في غربة ... بل منْ برؤية وجهه لم يظفر حيا معاهدَ أنسه برقُ الحيا ... وسقى "سلا" صوبُ الأغرِّ الممطر بلدٌ به سطعت لوامعُ نوره ... فغذا بوجهٍ ضاحكٍ مستبشر لازال منه الغربُ مشرق شمسه ... و"سلا" به أبهى وأبهج منظر وعليه من محض الوداد تحية ... أذكى من المسكِ الفتيقِ وعنبر ما قال ذو وجدٍ بحبك داعياً ... روحي فداك من الملمِّ المعتري ومن متعلقات تعلق أعيان المغرب به وحسن العلاقة التي ثبتت له معهم بسبب تلك السفارة المسفرة عن غرر آدابه أنه في أوائل سنة إحدى وأربعين قدم الشيخ محمد العربي الدمناتي أحد كتبة الإنشاء بحاضرة فاس إلى حاضرة تونس مجتازاً لحج بيت الله الحرام غير أنه لم يلاق مراده من الشيخ ابراهيم الرياحي بتونس، ولذلك كتب إليه مكتوب عتاب بناه على سبعة أسباب وهذا نصه: [الطويل] ولما أبيتمْ أن تزوروا وقلتمُ ... ضعفاً فلم نقدرْ على الوخدان أتيناكمُ من بعد أرض نزوركم ... وكمْ منزلٍ بكر لنا وعوان نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان؟ السيد الذي لساني مرتهن حمده، وجفاني مستودع وده، سيدي ابراهيم الرياحي. بعد إهداء السلام، وأداء ما يجب لكم من الإعظام، فأقسم بمن فضلك على أبناء جنسك، وجعل يومك في الفضل مربئاً على أمسك؛ ما من يوم إلا ولي فيه لعلاك ذكر، وحمد وشكر، وهم بلقائك وفكر، لما شرفت به من خلالكم، وبديع كمالكم، وكنت أبقاك الله لاغتباطي بولائك، وسروري بلقائك، أود أن أطوي لك المرحلة، وأجدد العهد بملاقاتك المؤلمة. ولم يكن همي مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام والليال، إذا الشمل جميع، والزمن كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلا زيارتكم وأن ارى الأفق الذي طلعت فيه أنجم الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية. فلما حم الواقع وحسنت منه المواقع، حجبتم بروقكم، ومنعتم عنه صبوح0كم وغبوقكم. [الوافر] يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء وقد كنت على البعد ظمآناً لهذه الموارد، فها أنا الآن في جواركم رائد. فكيف انصرف انصراف الظمآن شارف العذب الزلال فلم يشرب، أو المحب نوى ساعة اللقاء فما أبان ولا أعرب. وقد كنت زمن تجميعي وإياكم الحضرة السلطانية على معرفتك متهالكاً، ونهج الإخاء سالكاً، لما يلوح على محياك من سيماء المجد والحيا، والشيم الدالة على العليا، والمحبة رعاكم الله لاتتوقف على طول مشاهدة طرف، ولا مباشرة حسن ولا ظرف. وفضلكم يأبى أن يقابل هذه الحجة بصرف، أو يعبد من إنكارها على حرف، وهي وإن كانت دعوى فلها إسناد، إلى قوله "الأرواح أجناد". وطالما قبض محبكم العنان، وزجر البنان، وأمل اللقاء وحوم، وعرج على طالب الصبر ويمم، ولم يجد إلا الصعيد فتيمم، فأصدرت هذه نمتوسلة بوسيلة الحب الصحيح، والتعريض إلى التصريح، قائلة: زيارة سيدي الشيخ ابقاه الله محط الآمال وقبلة الوجوه. وبلغه ما يؤمله من فضله ويرجوه تجب من وجوه. أولهما: أنك شيخ البلد، ومفتي الفئة التي أنست ببرورها الأهل والولد. [الطويل] ولا عيبَ فيهم غيرَ أن ضيوفهم ... تلام بنسيان الأحبة والوطن ثانيهما: كوني ضيفاً، وممن لا يعد عند الاختيار زيفاً، ولا تجر مؤانسته حيفاً، فضلاً عن أن تشرع رمحاً أو تسل سيفاً. ثالثهما: رعاية الرحم بالصلة، التي هي لكل خير موصلة، وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها، والرحم كما علمتم تدعو لمن واصلها. رابعها: أن الاهتزاز للضيف يقتضيه القدر السمي، والخلق العلمي. وفضل متواتر نقله، عمن رضي دينه وعقله. خامسها: أن اسمك الأسمى يقتضي الإكرام، ووصفك كفيل بنيل المرام. سادسها: البدء في هذا الغرض، وإن كانت الواو لا ترتب إلا بالعرض، هو المشاركة في محبة المولى المرحوم، فلقد كنت منه كالولد البار، كما كان له بكم غاية الاحتفال والاعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 سابعها: أن شأني ظريف، ومزاري خفيف، لا خبر ولا سديف، ولا عسل ولا رغيف، ولا قهر ولا صليف، إنما هو أنس يبذل، ونفسي في التقابض تعدل، ومذاكرة تهز دوحها، وتنشق روحها، أما القرى فقد كفى سيدنا الشيخ مؤونته الثقيلة، ولم يحوج لتشويش العقل واستخدام الفعيلة، فليت شعري ما الذي عارض هذه الأصول، ومنع السيد من الوصول، وما دليله في المحصول، اللهم إلا أن يقول عمل أهل المدينة ينافيها، فهذا ربما يقنع النفس ولا يكفيها، على أن جل البلد منحسم الأمل، لا يرى مذهب العمل، أو يقول إني مشغول، وفي حبالة المطالعة موغول، قلنا فهلا جعلنا مولانا من جملة أشغاله، ومنح العبيد بنزر من نواله، وهلا إذ لم يتفضل سيدنا بالقدوم، أذن لنا في زيارة مقامه المخدوم، ولم يعتمد عذراً يقتضيه الكرم، والمنصب المحترم، فلن تزل رعاك الله الأفاضل إلى التماس البر ذات اشتياق، والعرف بين الله والناس باق، والغيرة على المنصب مفروضة، والأعمال معروضة، والله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة. وكثيراً ما كنت أسأل عن زيارتكم لظنا فأجمل المفسر، وألم وغذا بناديهم حللت فإنهم=خرسٌ شقاقهم وإن لم تزأرِ لله تونسك التي بوأتها ... كم أحرزت بعلاكمُ من مفخر مني عليك تحيةٌ نفاحاتها ... تربي على مسكٍ يفوح وعنبر ما غرَّدتْ قمريةٌ في دوحةٍ ... وبدا سنا ذاك الجبينِ الأزهر وتلا محبُّكمُ المخلُ بحقكمْ ... اسمكعْ أبا اسحق قولي واعذرِ فأجابه الشيخ ابراهيم الرياحي عن ذلك بقوله: [الكامل] روحي فداك من الملمِّ المعتري ... ولوَ أنه يبتاع كنتُ المشتري وأنا الذي بتخلُّفي أصبحتُ في ... ندم فيا ويلاه إن لم تغفر يا خير من حسد العقودُ قريضه ... فتناثرت منها "صحاح الجوهر" وأجلّ من ذان القريضُ لطبعه ... وبنثره سحرَ النهي إن ينثر وأرق من ساري النسيم إذا انبرى ... لطفاً وأسوغ من زلال الكوثر أعني الهمام ابنَ الفقيه محمَّداً ... شيخَ الهداة وقدوةَ المستبصر ومن العلومُ بنقده وذكائه ... تزهو على الحور الحسان وتزدري الدرسُ لا يهوى سوى تقريره ... وسواه لا تهوى مراقي المنبر وإذا لثام الجهل غطَّى مشكلاً ... كشف اللثامَ عن الجبينِ المسفر ببراعةٍ من دون نيل أقلّها ... حرب البسوس وهول يوم المحشر يا عاذلي في حبه أقصر فما ... أنا عن هواه المستلذ بمقصر ما كنت فيه مقلداً غير الهوى ... فأطل ملامك بعد ذا أو قصر إن كنت تسمع ما سمعت فإنني ... من حسنه أبصرت ما لم تبصر تسليك منه فكاهة فكأنها ... راح براحة أغيد متبختر ليس الغريب بأنسه في غربة ... بل من برؤية وجهه لم يظفر حيا معاهد أنسه برق الحيا ... وسقى "سلا"سوب الأغر الممطر بلد به سطعت لوامع نوره ... فغدا بوجه ضاحك مستبشر لا زال منه الغرب مشرق شمسه ... و"سلا" به أبهى وأبهج منظر وعليه من محض الوداد تحية ... أذكى من المسك الفتيق وعنبر ما قال ذو وجد بحبك داعياً ... روحي فداك من الملم المعتري ومن متعلقات تعلق أعيان المغرب به وحسن العلاقة التي ثبتت له معهم بسبب تلك السفارة المسفرة عن غرر آدابه أنه في أول سنة إحدى وأربعين قدم الشيخ محمد عربي الدمناتيأحد كتبة الإنشاء بحاضرة فاس إلى حاضرة تونس مجتازاً لحج بيت الله الحرام غير أنه لم يلاق مراده من الشيخ إبراهيم الرياحي بتونس ولذلك كتب إليه مكتوب عتاب بناه على سبعة أسباب وهذا نصه: [الطويل] ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فلم نقدر على الوخدان أتيناكم من بُعد أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان نسألكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 السيد الذي لساني مرتهن حمده وجفاني مستودع سره سيدي إبراهيم الراحي بعد إهداء السلام وأداء ما يجب لكم من الإعظام فأقسم بمن فضلك على أبناء جنسك وجعل يومك في الفضل مربئاً عن أمسك ما من يوم إلا ولي فيه لعلاك ذكر وحمد وشكر وهم بلقائك وفكر لما شرفت به من خلالكم وبديع كمالكم وكنت أبقاك الله لاغتباطي بولائك وسروري بلقائك أود أن أطوي لك المرحلة وأجدد العهد بملقاتك المؤلمة ولم يكن همي مع فراغ البال وإسعاف الآمال ومساعدة الأيام والليال إذا الشمل جميع والزمن كله ربيع والدهر مطيع وسميع إلا زيارتكم وأن أرى الأفق الذي طلعت فيهأنجم الهداية وكانت إليه العودجة ومنه البداية فلما حم الواقع وحسنت منه المواقع حجبتم بروقكم ومنعتم عنه صبوحكم وغبوقكم [الوافر] يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء وقد كنت على البعد ظمآناً لهذه الموارد فها أنا الآن في جواركم رائدفكيف أنصرف انصراف الظمآن شارف العذب الزلال فلم يشرب أو المحب نوى ساعة اللقاء فما أبان ولا أعرب وقد كنت زمن تجمعني وإياكم الحضرة السلطانية على معرفتك متهالكاً ونهج الإخاء سالكاً لما يلوح على محياك من سيماء المجد والحيا والشيم الدالة على العليا والمحبة رعاكم الله لا يتوقف على طول مشاهدة طرف ولا مباشرة حسن ولا ظرف وفضلكم يأبى أن يقابل هذه الحجة بصرف أو يبعد من إنكاره على حرف وهي وإن كانت دعوى فلها إسناد إلى قوله "الأرواح أجناد" وطالما قبض محبكم العنان وزجر البنان وأمل اللقاء وحوم وعرج على طالب الصبر ويمم ولم يجد إلا الصعيد فتيمم فأصدرت هذه متوسلة بوسيلة الحب الصحيح والتعريض إلى التصريح قائلة: زيارة سيدي الشيخ أبقاه الله محط الآمال وقبلة الوجوه وبلغه ما يؤمله من فضله ويرجوه تجب من وجوه. أولها: أنك شيخ البلد ومفتي الفئة التي أنست برورها الأهل والولد. [الطويل] ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ... تلام بنسيان الأحبة والوطن ثانيها: كوني ضيفاً وممن لا يعد عند الاختبار زيفاً ولا تجر مؤانسته حيفاً فضلاً عن أن تشرع رمحاً أو تسل سيفاً. ثالثها: رعاية الرحم بالصلة والتي هي لكل خير موصلة وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها والرحم كما علمتم تدعو لمن وصلها. رابعها: أن الاهتزاز للضيف يقتضيه القدر السمي والخلق العلمي وفضل متواتر نقله عمن رضي دينه وعقله. خامسها: أن اسمك الأسمى يقتضي الإكرام ووصفك كفيل بنيل المرام. سادسها: البدء في هذا الغرض وإن كانت الواو لا ترتب إلا بالعرض هو المشاركة في محبة المولى المرحوم فلقد كنت منه كالولد البار كما كان له بكم غاية الاحتفال والاعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 سابعها: أن شأني ظريف ومزاري خفيف لا خبز ولا سديف ولا عسل ولا رغيف ولا قهر ولا صليف إنما هو أنس يبذل ونفس في التقابض تعدل ومذاكرة تهز دوحها وتنشق روحها أما القرى فقد كفى سيدنا الشيخ مؤونته الثقيلة ولم يحوج لتشويش العقل واستخدام الفعيلة فليت شعري ما الذي عارض هذا الأصول ومنع السيد من الوصول وما دليله في المحصول اللهم إلا أن يقول عمل أهل المدينة ينافيها فهذا ربما يقنع النفس ولا يكفيها على أن جل البلد منحسم الأمل لا يرى مذهب العمل أو يقول إني مشغول وفي حبال المطالعة موغول قلنا فهلا جعلنا مولانا من جملة أشغاله ومنح العبيد بنزر من نواله وهلا إذا لم يتفضل سيدنا بالقدوم أذن لنا في زيارة مقامه المخدوم ولم يعتمد عذراً يقتضيه الكرم والمنصب المحترم فلم تزل -رعاك الله- الأفضل إلى التماس البر ذات اشتياق والعرف بين الله والناس باق والغيرة على المنصب مفروضة والأعمال معروضة والله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة وكثير ما كنت أسأل عن زيارتكم لنا فأجمل المفسر وألم بالكذب بما تيسر، وربما طرق من الاستحيا، واعتذر على ما بي من الإعيا، ولما ضاق مني العطن، وحان أوان الرجوع إلى الوطن، بثثت اعتقادي، ونفثت في عقد ودادي، فإن قضي اللقاء حصل الكمال، واستوفيت الآمال، وتظافرت النيات والأعمال، وارتفع من سوء القصد الإهمال، وحاجة نفس قضيت، وأحكام آمال ارتضيت، وإن اتصل الفراق فعين على القذاء أغضيت، ومناصل ما وصل انتصيت، وبكل حال فالثناء جميل، وإن لم يقض من برك تأميل، وشكري لشكر الخلق فيك تبع، وإن لم يقع في جوارك ري ولا شبع، ولا تؤاخذ فالقصور باد إذا تؤمل، والإغضاء أول ما أمل، فإنما هي فكرة أخمدت نارها الأيام، وغيرت آثارها من البنين سهام، وما ألممت به إنما هو دعابة تخف على أهل النبل، ومن يسلك من السفر أوضح سبل، والله يمتع بعد لقائك أمين، والسلام. متمم صفر عام 1241. [الكامل] إن العتاب صقالُ كل مودَّةٍ ... صديت ومغمدُ كل حقدٍ مصلت وهو المسيحُ يميتُ كل مخيلةٍ ... حييتْ ويحيى كل ودٍّ ميّتِ وقد أجابه الشيخ ابراهيم الرياحي عن ذلك بما نصه: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو الله في السماء وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيئين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين، إلى يوم الدين". [الطويل] عجبت وهل ذا الدهر إلاّ عجائبٌ ... لمن قال ذا عتبٌ بحسن بيانِ أتيناكمُ من بعد أرض نزوركم ... وكم منزلٍ بكر لنا وعوان نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفونٍ لا بملء جفان أتاتوننا قصد الزيارة ثمَّ لا ... توافوننا من بعد نيل تلدان وتغنون بالإرسالِ عن وصل حبَّكم ... وقد صار منك الوصلُ طوعَ بنان لقد جلّ هذا الحب حتى كأنَّه ... سرابٌ تراءى لامعاً لعيان وساءلتمُ ملءَ الجفونِ قراكمُ ... أشرتم إلى بخلٍ بملء أوان بعيشك ما صد الجفونَ عن القرى ... وما احتجبت في لقياه للوخدان وقد لاح لي في شرح ذاك ضمائر ... أنزِّهُ عن إعرابهن لساني كتابك أيها السيد الذي بذَّ الأقران، وأذكر بإحسان بيانه بيان حسان، لعله مجرد إبراز لإبريز البلاغة، ومحض حسن تخيل ببنان البيان صاغه، وإهمال المراقبة لأمر العاقبة أساغه، تبغي بنفثاته البابلية قلب الحقائق العقلية والنقلية، وإلا فكيف يسوغ في معقول أو منقول، قرب الحبيب وما إليه وصول، والقناعة عن ملء الجفون برسول بعدما ادعيتم من معاناة البعد والبعد، ومكابدة الشوق الطويل المديد، وقد قال القرب "هذا ما لدي عتيد"، أو أن حبكم ملبني على غير أساس، أو لم يعذ من شر الجنة والناس، فابتلي عقده بالفسخ، وقبل التبليغ وقع النسخ، ثم إنك لم تأل جهداً في السباب، وأتيت من فنونه بالعجب العجاب، ورمت ترويجه على أولي الألباب، باسم الدعابة والعتاب، وهل تخفى الشمس ليس دونها حجاب. فكنتم كهادم محل سكناه، أو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ولو كان القلب مازال تستفزه البروق، وصهباء الشباب بمزاج السرور تروق، لجريت معك في هذا الميدان، خليع العذار طلق العنان، وأثبت متشابه كتابك بأتم بيان، ولكن. [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله "والله سبحانه يقابل جميعاً بالعفو، ويسامحنا فيما ارتكبناه من اللغو. والسلام" أ. هـ? أما رجوع الشيخ ابراهيم الرياحي من سفارته، فقد شاد له أعلى المفاخر في ذاته وإدارته. إذ حسن موقع حسن مساعيه لدى الأمير والمأمور، وعد ذلك من السعي المشكور، وأضاف الشيخ بذلك لنفسه مفاخر، عاد بها بحر حسن ذكره في أهل العلم زاخراً. ولما عزل أستاذه الشيخ عمر المحجوب من خططه استدعاه الأمير حمودة باشا لخطة قضاء الحضرة وأكرهه عليها بعد شدة امتناعه، فقبل الخطة ووليها صبيحة يوم السبت منسلخ صفر الخير سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف وقبل التهنئة من الخاصة والعامة وقد سأله الشيخ حمد بن الخوجة القاضي الحنفي يومئذ عما أعده من الكتب للخطة فقال له: أعددت كتاب ابن رحال فعجب منه حيث أن ابن رحال له شرح على المختصر الخليلي، وهو يسأله عن كتب النوازل التي جرى العمل بما فيها بين القضاة بحاضرة تونس. لكن من الغد كشف الغيب على أن الشيخ خرج إلى زاوية تلميذه الشيخ محمد بن ملوكة خارج باب القرجاني فبات بها وأصبح مرتحلاً إلى زغوان ونزل بزاوية الشيخ سيدي علي عزوز رضي الله عنه فراراً من الخطة. فلم يكن اعتماده إلا على ابن رحال وأقام بزغوان إلى ان أولى الأمير الشيخ اسماعيل التميمي قاضياً بالحضرة فعاد عند ذلك إلى الحاضرة وثبت على طريقته في بث العلم، وانتفع خلق كثير بما أقرأه من الكتب. وعند وفاة أستاذه الشيخ محمد الفاسي تقدم عوضه للتدريس بجامع يوسف صاحب الطابع مع مشيخة مدرسته، وأقام درسي تفسير القاضي البيضاوي وصححي البخاري، وحضرهما كثير من علماء تلامذته. ولما قدم إلى حاضرة تونس الشيخ الطاهر بن عبد الصادق أحد تلامذة الشيخ أحمد التجاني سنة ثمان وثلاثين استصحب معه الشيخ ابراهيم الرياحي في رجوعه، فسافر صحبته إلى تماسين للاجتماع بالخليفة في الطريقة التجانية، الشيخ الحاج علي التماسيني رضي الله عنهم أجمعين.فزار في طريقه مدينة القيروان وقطع الصحراء، ووصل إلى تماسين، واجتمع بالخليفة وطلب منه مداواة أمراض النفس الباطنية فنال منه الدواء الناجع، والسر النافع، ورجع محصلاً على المراد، من حسن الإمداد، وخرج لحج بيت الله الحرام يوم السبت الثاني عشر من جمادى الثانية سنة إحدى وأربعين وامتحن في طريقه بفرقة من الإغريق اعترضوا المركب الذي ركبه الشيخ واستأسروا المركب وقادوه معهم فأخذ الشيخ يذكر "سيجعل الله بعد عسر يسرا"، "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا" فتداركهم الله برحمة من عنده، ونجاهم بسبب ريح عاصف فرق ما بين المركبين، وحال بينهما الموج. وفي عشية الواقعة على الشيخ ظهر على أستاذه الشيخ البشير حال عظيم منع به الداخلين عليه وصرح في آخر أمره بالتأسف على ابن تربيته، حتى ظن الحاضرون وفاته وكادوا أن يياسوا من قدومه وانجلى الغيب عن الواقعة المذكورة ولما قضى نسكه رجع إلى حاضرة تونس ثاني عيد الفطر سنة اثنين وأربعين ومائتين وألف واتخذ العلماء مقدمه عيداً وهنأه تلميذه الوزير المؤرخ الشيخ أحمد بن أبي الضياف بقصيدة من مبادي شعره، وهي قوله: [الطويل] قدمتَ وتفدى بالنفوس مع الأهلِ ... كما جاء درُّ الغيث في الزمنِ المحل وإلا كما جاء المراد لطالب ... وإلاَّ كسيف الجدِّ في منهج الهزل وإلاّ كما بانت وجوهُ بشائرٍ ... تخلِّصُ غرقي في بحارٍ من الوحلِ وإلا كصبح الوصل أشرق نوره ... فأذهبَ ليلاً قد تبدي من العزل بعدنا عن التشبيه جهلاً وإنما ... لرؤية ابراهيمَ فضلٌ على الكل فكيف ودر العلم قد جاءَ بحرهُ ... وهل لمجيء البحر تبصرُ من مثل؟ ففي حادث اليام بعد أوانه ... فكيف أرى الأيام في غاية البخل سرى ذكره كالنيِّرين معطراً ... وعمّ جميع النا طراً بلا مهل وسار لبيت الله والعزُّ متبعٌ ... وشدد بالتقوى شديدَ ذرى النزل فحصَّل من تلك البقاع مغانماً ... مفاتيح فتح لا ترام ولا تملي وجاد على الأقطار من وبل علمه ... فأينع غصن العلم من ذلك الوبل وقد شرف الأمحار أخمص رجله ... ولله من عز حوته من الرِّجلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وخلَّف من زهر الثناء مناسماً ... يفوح شذاها في رياضٍ من القول وآب كما آب الزمان لأهله ... وقد زادَ بالأضعاف فضلاً على مفضل فكان لنا عيدانِ عيدُ قدومه ... وعيدٌ لختم الصوم فأعجب لذا الشمل فهذا إمام الدين أقبل غانماً ... ليهتز بالأفراح منْ كان ذا عقل ولو نظرتْ عيناك يوم قدومه ... رأيتَ ثغورَ الأرض تبسمُ بالفعل ألا أيها المولى الذي حسناته ... تزيد على الأمواج والقطر والرمل هنيئاً لجند العلم أقبل نصرهُ ... وبشِّرْ جنودَ الجهل بالطعن والقتل بقيت على رغمِ الحسودِ معظَّماً ... وطيبُ شذا علياك أحلى من الوصلِ ولاقاك كل اليمن والخير حيثما ... قدمت وتفدى بالنفوس مع الأهل ولما توفي أستاذه رئيس أهل الشورى من المفاتي المالكية الشيخ اسماعيل التميمي طلبه الأمير حسين باشا باي قدس الله روحه، فأحضره بباردو، وأراد أن يقلده الرئاسة المذكورة ابتداءً ليزين الخطة الشرعية بعلمه وعمله، فامتنع من ذلك كل الامتناع، إلى أن قامت عليه شهادة في تعين الخطة عليه، وذلك أن الأمير لما أعياه أمره، وجه لمراودته لسان دولته وكاتب سره، فخاطبه لسان الدولة الشيخ محمد الأصرم بقوله: إن الخطة متعينة عليك، فكيف يسوغ لك عدم قبولها، فقال له الشيخ: ومن يشهد معك بتعين الخطة علي؟ فشهد بذلك كاتب السر الشيخ أحمد بن أبي الضياف فقال الأمير: هل قبلت شهادتهما؟ فقال له: نعم، وعند ذلك قبل الخطة المذكورة، ولبس رادءها. وعند خروجه من مجلس الأمير ألقى على الأرض الكابة السوداء من أعلى كتفيه، لما فيها من الحرير. وكان ذلك أواخر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف. وتقدم بذلك على المفتي الثاني الشيخ محمد المحجوب، والمفتي الثالث الشيخ الشاذلي بن المؤدب، وقاضي الحضرة الشيخ محمد البحري، وقاضي باردو المولى الجد الشيخ محمد السنوسي. ولم يتغير واحد منهم لتقدمه رضي الله عنهم أجمعين. وقد هنأه بالخطة المذكورة تلميذه الشيخ محمد بن سلامة بقوله: [الكامل] يا سعد لمْ قد طال فيك الموعد ... ووثيق عهدك دائماً يتجددُ كم علَّلتني منْ عهودك نسمةٌ ... إن صادفت مني الرجا يتوقَّد عهدي بأن الدهر قد باع الكرى ... وله غداً ثمن المبيع الإثمد كيف التخلص من خوادع مكره ... وبلوغك الآمال فيمن تسعد بشرى بني هذا الزمان بمنةٍ ... شأن الزمان بمثلها لا ينجد شتان بين صنيعه فيما نرى ... ووقوع أمرٍ مثلهُ مستبعد ما كنت أحسب قبله حتى بدا ... أنَّ الجفون من الليالي ترقد فكأنه غض الجفون بمهجة ... من بعد ما قال طال منه تسهُّد فزهت من الإنصاف ورق ذوي العلا ... وصفا من الأكدار شربٌ يوردُ ولقي البرية ما لقت من غرة ... من ذي الولاية أنعم لا تجحدُ مذ قيل قد لبس الرئاسةَ فاضلٌ ... جيد العلوم بفضله متقلد وازداد في معنى الفتاوى مذ غدت ... تاجاً على هام الجلالة يعقد يكفي المناصبَ عزةً في نيلها ... أنْ كفؤها دنيا وديناً أوحدُ أعني أبا اسحاق منْ بذلت له ... مهر المعارف عكس ما قد يعهد فسواه يلفي في الولاية رفعة ... وبه الولاية عزها يتأكَّد خطبته عذرا خطبة من نفسها ... علمت بأنه كفؤها المتفرد فلها الهناء وقد غدا في افقها ... شمساً لها غضَّ الجفونَ الأرمدُ وهبتْ إليه المكرماتُ طريفها ... وتليدها وقفاً عليه يؤبَّد دنيا العلوم وعالم الدنيا ومن ... سندُ العلوم إليه وهو المسند أضحى بسلك العلم وسطي عقده ... وبه بدا علمُ السلوك ينضَّدُ معنى البيان معنى فقهه ... وأصوله ركن إليه مشيَّد شيخ الطريقة والحقيقة والهدى ... بحرُ المعارف والمعالي المزبدُ ما جال في حرب العويصة فكرهُ ... إلاّ به جيش العويص يبدد أوِ ما تشرَّد نافرٌ إلا غدا ... وجميعهُ رهنٌ لديه مقيَّد الفاضلُ النحرير من داعي الهدى ... برشاده إن جاز عني مرشد فاسعدْ به يا دهر إنّك عبده ... وأشرف به يا سعدُ إنَّك سيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 واعلم بأنك يا كمال هلاله ... بدر اهتداء نزله لا يقعد ما الفخر إلا ما اكتسبت وإنما ... درجُ المعالي بعدكم لا تصعد خذوها كوجه الأفق وشّاه الدجى ... وبهامهِ عقدُ النجوم منضَّد فإنما تلك السطور مجرَّةٌ ... وكأن ذاك النقطَ منها الفرقد وإذا رفيعُ الشَّعرِ باهي شعرها ... فلها بمدحك مدحة لا توجد فسواك يعلو بالقريض ثناؤهُ ... وبك القريض ثناؤه يتأيَّد وإذا مددتَ لها اليمين تحيةً ... ورضيتها فهو المنى والمقصد فابذل لها مهرَ القبول ودم لها ... فبقاك للموجود عيشٌ أرغد وانحل أباها دعوة من نحوكم ... فبها على رغم الليالي يسعد وقد قام بخطة رئاسة الفتوى، وزانها بالعلم والتقوى، وكتب في الفتاوى كتائب محفوظة بين اهل العلم، منها رسالة ألفها أواخر سنة خمس وستين في الإعذار، رفع فيها الستار، وكشف النقاب عن دقائق الأنظار. ولذلك قرظها شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الثالث بقوله: [الكامل] نسختْ بحكمة حكمها الأنظارُ ... رفعَ النزاع وحققَّ الإمعذار وخزائن التحقيق مهما فتَّحتْ ... برزت لها من طيها الأنوار ما كنت أحسب قبل ذوق زلالها ... أنّ النهي تبدو بها أقمار حكم الضمير بأنَّ ناظم درِّها ... عدمتْ له الأشباه والأنظار لو ساغ إخراج الضمير لنسخة ... من حكمه ظهرت بها الآثار لكننا في غنية عن ذاك إذ ... مطلوبنا فازت به الأنصار فهو الإمام وكل فحل دونه ... علم الهدى للناس منه فخار وهو الكبير يود كل موفق ... ختمت بنور علومه الأعصار وقرظها تلميذه المفتي الثالث يومئذ الشيخ محمد بيرم الرابع بقوله: [الكامل] خضعت لعزَّةِ قدرها الأقدارُ ... وتضاءلت لسموها الأقمار وبدت على هام العلا تاجاً له ... درر أجادت نظمها الأفكار حسناء حسب ذوي النهي أن ينصتوا ... لحديثها الإذعان والإقرار لكن وإن وصفت بكل فضيلة ... فوليها عدمتْ له الأنظار هو ذلك العلمُ الذي ركب العلا ... وله على صهواتها استقرار جبل العلوم وبحرها ومنارها ... وزعيمها وسحابها المدرار يا من يجل عن المدائح قدره ... ولوَ أنَّها درر غلت ونضار أبتِ العالي أن ترى ثانياً ... وتكفلت بمرادها الأقدار فلذاك لحتَ وأنت مفرد أفقها ... ومنيرها الأعلى ولا إنكار زال فكرك مبدياً لجواهرٍ ... في نيلها تتنافس الأحرار ومن رسائله تحريره لمسألة إراقة خمر المسلم وتعقب الخلاف الذي وقع في تفضيل الحكم بالنظر لتطهيرها بالتخليل ونحوه مما استدركه الشيخ أبو مهدي عيسى الغبريني على الشيخ الشبيبي رضي الله عنهم. وله رسالة في تمكين من امتثل دفع بعض دين عليه وادعى في باقية لدى قاض مالكي من المطلوبية والتنقل بالنزلة إلى قاض حنفي. ورسالة في إثبات حق الحضانة للحاضنة ولو التزم الولي بالنفقة من مال نفسه. ورسالة أجاب بها الشيخ محمد المسعودي قاضي رأس الجبل عن مسألة من استدعي للحلف على المصحف فقال: ائتوني به وأنا أعفس عليه بساقي وأنه لا تلزمه الردة، حيث أن مراده أنه حالف على الحق. ومسألة مجاعلة وكيل الخصام بأجر معين على إتمام النازلة، وبسط في المسألتين بسطاً شافياً. ورسالة في المأجل المشترك. وله أجوبة أسئلة كثيرة. منها: جواب في شفعة شريك ادعى شريكه وقوع القسمة. وجواب في الفرق بين الحمار الأهلي والحمار الوحشي. وجواب في سطح الجامع وبيان ما يخالف فيه الجامع وما له حكمه. وجواب فيمن نسي تكبيرات العيد ولم يأت إلا بتكبيرة الإحرام. وجواب أجاب به الأمير حسين باي في جواز معاوضة العقار بالدرهم وجواز تحويل أبواب المساجد لمراعاة مصلحة. وله اجوبة مسائل وردت إليه من غدامس، ومسائل وردت إليه من نواحي سوف، ومسائل أجاب بها قاضي الحضرة الشيخ محمد بن سلامة، ومسائل أجاب بها كثيراً من قضاة المملكة وغيرها من أفراد السائلين بحيث أن مجموعها يعد من عزيز الفتاوي وهو رضي الله عنه يميل في كتائبه للاختصار وتحرير ما به الحاجة في المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولما شاعت فتنة الوهابي، ووردت رسالته إلى الحاضرة، كتب هو رسالة في الرد عليه حيث يقول بمنع زيارة الأولياء، وهدم المشاهد والزوايا، ة وتحريم ذبائحها إلى غير ذلك مما فتن به العباد. ولحسن هذه الرسالة في الرد عليه قرظها شيخ الإسلام البيرمي الثالث بقوله: [الكامل] روض العلوم تدفقت أنهارهُ ... وتفتقت بعبيرها أزهارهُ لرسالة فاقت على نظرائها ... ما فاق عن زهر السما أقماره وانجاب عن وجه الصواب بما حوت ... من حسن تحقيقاتها أستاره لم لا ومنشئها أبو اسحاق منْ ... بين الأفاضل لا يشق غباره ذاك الذي قد جد في طلب العلا ... حتى علا بين الملا مقداره فغذا وتحقيق العلوم شعاره ... وبدا وحل المشكلات دثاره وبذاك تحريراته قد أنبأت ... والحبر من شهدت له آثاره لازال في أوج المعالي راقياً ... ما انجاب عن ليل الشكوك نهاره ولما وردت رسالة عالم مصر وصالحها الشيخ محمد النميلي التونسي الأصل التي سماها "الصوارم والأسنة" رد بها على الشيخ أحمد التجاني في بعض كتائبه في صفة الكلام من علم التوحيد انتصر الشيخ ابراهيم إلى أستاذه، وكتب رسالة في ذلك سماها "المبرد". لكن لما بلغت رسالة "المبرد" إلى الشيخ النميلي كتب في الرد عليها نحو خمسة وأربعين كراساً في علم الكلام. فير أنير لم أقف على كتابة واحد من الشيوخ الثلاثة في المسالة. وعهدي بأحد محققي شيوخنا رضي الله عنهم قرر لنا طرفاً من كلامهم في مدلول القرآن ومدلول صفة الكلام في درس العقائد النسفية. وغاية ما يمكن لي أن أقوله الآن في أمثالهم رضي الله عنهم أجمعين: إن كل واحد منهم إنما يتبع الحق، ويقصد تأييد مذهب أهل السنة على حسب ما يراه مما قامت عليه الأدلة عنده، سيما ومشرب الشيخ التجاني رضي الله عنه باطني، على أن كل العلماء راد ومردود عليه إلا صاحب القبر الشريف عليه الصلاة والسلام. وقد بلغني أن الشيخ ابراهيم لما خرج إلى حجته الأخيرة، واجتاز على مصر، أقام بها نحو خمسة عشر يوماً يطلب الاجتماع بالشيخ النميلي، كما هو شان أمثالهما رضي الله عنهما ولما اطلع شيخ الإسلام البيرمي الثالث على رسالة "المبرد" كتب عليها مقرظاً بقوله: [الطويل] أزهر تبدي نافحاً من كمائمِ ... أمِ الدُّرُّ منظوماً بنحر النواعمِ تيقنت لا هذا ولا ذا وإنما ... جواهرُ علم صاغها فكرُ عالم وذاك أبو اسحاق من عز أن يرى ... ضريبٌ له في العرب أو في الأعاجم إمام غدا التحقيقُ طوع ذكائه ... يعدُّ إلى ذاك الذكا من لوازم وناهيك ما أبداه في هذه التي ... غدت في يمين للعلا فصَّ خاتم أتت بالتي لا مثلها من عجيبة ... تقاصر عن إدراكها كل فاهم وأبدت من التحقيق ما جاء ناسخاً ... لليلٍ عريقٍ في الجهالة فاحم فلا زال يأتي من جواهرِ لفظه ... ببرهان قطع للتشكك حاسم ينظِّم منه الدر تاجاً ويزدهي ... ويغشى محياه طلاقة باسم وله رسالة "دفع اللجاج في نازلة ابن الحاج" ألفمها حين خالفه قاضي الحضرة الشيخ محمد البحري في الناوزلة، ومع ذلك فإن الأمير مصطفى باشا رفع الخلاف بين الشيخين وأذن بالعمل بما رأه الشيخ القاضي، وقرظ الرسالة المذكورة ولده الشيخ علي الرياحي بقوله: [الطويل] قطعت لجاج الحيف ميلاً إلى الحقِّ ... فأصبح نور الشرع نتضح الطُّرقِ وقمتَ فبيَّنتَ الصواب فأنكروا ... ومالوا إلى الأهواء في واضح الحق أينكرُ ضوء البدر عند كماله ... ويجحدُ نور الشمس لو لاح بالأفق؟ فلا زلت في الدنيا مؤيَّد شرعنا ... وجوزيت يوم الفصل بالمقعد الصدق بجاه رسول الله خيرةِ رسله ... عليه صلاة الله ما دمت في الخلق وقد تفاقم الخلاف في النازلة بين الشيخين وكثر فيها القيل والقال واختلف فيها ميل الناس حتى أنشد فيها المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي باردو يومئذ من شعره قوله: [الوافر] إذا اختلفتْ على البحر الرياحُ ... فلا يرجى لراكبه نجاحُ وساء لمت توسط بين هذا ... وهذا من مهالكه صباحُ فللغرق المآل إذا تدانى ... وفي استعلائه كسر يتاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكان الخيرُ في وسط يرجَّى ... وهذا في توسطه نياح وقد حجبَ الخصومُ عن التلاقي ... فلا فصل يكون ولا اصطلاح ولا المحجوب يسلمُ عند هذا ... فكان له من الفرقِ الفلاح ولا جريُ الرياح لها سكون ... نرجَّاه فيرتفع الجناح ولا هول البحور له خمود ... به يؤرجى لعابره رواح وحيث إن الشيخ محمد البحري من تلامذة الشيخ ابراهيم لم يرض منه تلك المخالفة التي أفضت إلى هدم سياج الاحترام، سيما وقد انتصر عليه بالأمير حتى أفضى الحال بالشيخ إلى الاستعفاء من خطته غير أن الأمير لم يقبل استعفاءه، ومتكوبه الذي عرض به استعفاءه هذا نصه: "المنة لله الذي اصطفى، لنصر الدين وإعزاز الملك سيدنا مصطفى، ووصل به رحم الشريعة بعد القطيعة والجفا، فها هو في رفع قواعدها كالساعي بين المروة والصفا، لازالت موارد أعدائه في كدر وموارده في صفا. أما بعد تقبيل يد القدر العلي، بشفاه الإجلال الصفي، والحب الوفي، فإن معظم قدركم لم يطلب الإقالة إلا لما عيل صبري، وضاق ذرعاً أمري، فإني منذ توليتها وأنا حزين الفؤاد حتى وهن العظم مني، واشتد ضعف الكبر في سني، وهذا القدر كاف، في تفضلكم علي بالإسعاف، كيف وقد انضم إلى ذلك ما لا صبر لأحد عليه وهو مواجهتنا على رؤوس الأشهاد، بإساءة الأدب في ذلك الناد، ممن كنا نلقَّمه ثدي التعليم، ويرعانا بعين الإجلال والتعظيم، ثم إنه لم يقنع بسنان لسانه، حتى شرع إلينا رمح بنانه، فهل بعد هذا التعدي من إذلال، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فإذا تفضل علينا سيدنا دامت معاليه، وسعدت أيامه ولياليه، برفع اليد عن رضا منه، فقد اطلع في شأننا على الكنه، ومن علينا بالعتاق، وإن رضي بالأخرى وأنا كاره، فرضاه جنة الدنيا وحفت الجنة بالمكاره، والدعاء ببلوغ المرام، ختام الكلام والسلام". وبعد أن انتهت النازلة على وفق مراد قاضي الحضرة الشيخ البحري طلب منه المسامحة حفظاً لحق المشيخة غير أن الشيخ ابراهيم لم يسمح له بالعفو، حتى أنه لما خرج للحج بالنيابة عن الأمير مصطفى باشا عرض شكايته به على الحضرة النبوية عليها من الله أفضل الصلاة وأزكى التحية، وقد ضمن تشكيه في القصيدة التي أنشدها في الروضة الشريفة وهي قوله: [الطويل] إليك رسولَ الله جئت من البعدِ ... أبثك ما بالقلب من ألم الوقد بغى وطغى مستكبراً متشبثاً ... بوهم يقود النفس للخطا المردي وصار رقيباً مبغضاً متجسساً ... يقصر طولَ الليل في الرد والنقد وعبدك يا خيرَ البرية غافل ... ظننت به خيراً لما مرَّ رمن ودِّ ترفّع للدنيا بخفضيَ جاهداً ... معاناً بأنذال عرِّيين عن رشدِ وبالغ في خفضي إلى أن غدا على ... لسان الورى يتلى جهاراً بلا جحد ولم يرع أيّاماً يرانيَ شيخه ... ومرشده الهادي ومنعمه المهدي ولا خاف لوماً في القطيعة لا ولا ... عقاباً من المولى على ناكث العهد فهذا رسول الله إجمالُ مكرهٍ ... وتفصيلهُ يا سيِّدي ليس في جهدي ألا يا رسولَ الله ضيفك سائلٌ ... وهل ضيفُ أصلِ الجودِ يكرمُ بالطرد؟ ألا يا رسول الله برِّدْ جوانحي ... بدائرة تسعى إليه بلا بعد عليك صلاة الله ما لاح بارق ... وأزكى سلام دونه فوحة الند وعلى كل حال فإن بلوغ النازلة بين الأساتذة وتلميذه إلى هذا الحد إنما كان بسعايه السعاة من الواشين، نسأل الله أن يرضيهما بأعلى عليين، بجاه خير المرسلين. وقد كان خروج الشيخ ابراهيم للحجة المذكورة على نفقة الباشا السابق الذكر، ليودي عنه الفريضة صبيحة يوم السبت الثاني من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، ورجع يوم الأحد الثامن من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وأسرع الأمير لرحمة ربه بعد يومين من قدومه، فكانت وفاته إثر مغفرة الذنب والبرء من كلومه. وبوفاة الأمير استحالت الحال على الشيخ القاضي المذكور، وأتاه محتوم الأجل بعد تسعة من الشهور، عامل الله جميعهم بالغفران، وأرضاهم في نعيم الجنان، بجاه سيد ولد عدنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يقال: إن المشير الأول أحمد باشا كان يقول: إنه لم يقتل والدي غير دعاء الشيخ ابراهيم، ولذلك كان يتحامى جانبه، ويجل مكانته، حتى إنه لما أراد أن يقدم خليطه العالم الشيخ محمد بن سلامة إلى خطة الفتيا لم يتجاسر على خطة الشيخ ابراهيم وأولاه مفتياً ثانياً فوق من عداه، وقد أحس الشيخ ابراهيم من ذلك حتى قال: شيئان لا يقعان في الدنيا؛ حفيدتي لا يتزوج بها ولد حفيز خوجة، وابن سلامة لا يقعد مقعدي. وكانت حفيدته ابنه الشيخ الطيب أعطاها أبوها لأحد أبناء حفيز خوجة عن كره منه، فلم تمض مدة بعد مقاله ذلك، وإذا بالبنت توفيت قبل الزفاف. وتقدم الشيخ محمد بن سلامة فتوفي قبله بسبعة وأربعين يوماً، قيل: إنه لما بلغه خبر وفاته قال: الآن طابت نفسي يعني للموت رحمة الله. وقد تحيزه المشير المذكور سفيراً لدار الخلافة العثمانية على عهد المقدس السلطان محمود خان في طلب إعفاء الإمارة التونسية مما عينه عليها من الخراج السنوي الذي أرسل بطلبه، فسافر إلى الآستانة العلية صبيحة يوم السبت الثامن من ربيع الثاني سنة أربع وخمسين ومائتين ألف. واستصحب معه مكتوب المشير إلى الحضرة السلطانية، وهو من إنشاء كاتب سره الوزير المؤرخ الشيخ أحمد بن أبي الضياف. وهذا نصه: "اللهم بالثناء عليك، نتقرب إليك، يا فاتح أبواب القبول واقبال، ومانح المنح التي لا تمر شواردها على البال، لايقصد إلا وجهك بالنقاصد الزكية والأعمال، تنزهت في العظمة والجلال، ولم تول عبادك الإهمال، بمحض الرحمة والإفضال، فأقمت لهم خليفة تعرض عليه الأحوال، ويدفع عنهم بإعانتك الأرسال، ويسوسهم لصالحهم في الحال والمآل، صلى الله على سيدنا محمد خاتم الإرسال، والملجأ المنيع عند اشتداد الأزمة والأهوال، وعلى صحبه والآل، الذين ورثوه في الأقوال والأعمال، وسرت مكارمهم بهديه سري الأمثال. ونستوهب منك عزاً لا يبلغ حده، ونصراً يمضي في الأعداء حده، لهذه الدولة العلية، والسلطنة العثمانية، والمملكة الخاقانية، التي ترفعت من الملة الحنيفية، وشيدت من معالمها بنياناً، وأقامت للحق قسطاساً وميزاناً، وورث ملوكها الأرض وهم الصالحون سلطاناً يتبع سلطاناً، حتى استنار الوجود بخليفة الوقت الموجود، وهو مولانا السلطان الأعظم محمود. اللهم أعنا على ما أوجبت له من فروض الطاعة، وتأدية الحق بجهد الاستطاعة، واحفظنا بعدله ورفقه من الإضاعة، واجعل الملك فيه وفي عقبه إلى قيام الساعة، وعطف قلبه لسماع هذه الضراعة، من إيالة تونس ومن بها من الجماعة، على لسان (أحمد) عبد خدمته، ورق نعمته، المقيم على طاعته فيها، والمجتني من ثمرتها ما يلزمها ويكفيها، وطاعة سلطانك فرض على أهل الأرض، وهي عند الله أنمى قرض، فإذا لم يعرض الحال لديك فعلى من العرض؟ وهذه عمالة تونس دار الجهاد، ومقر رعيتك والأجناد، ومرسى جواريك الأعلام، وموضع شعائر الإسلام، غريبة ببعدها عن استمطار أياديك الجسام، ومساحة أرضها مسير نحو الخمسة أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 شأن أهلها التمعش من الزيت والبر، والصوف والوبر، يعانون في تحصيلها ألم الحر والقر، هذا غالب ما يسد لهم الخلة، ويوجد غيره لكن على قلة، ومقدار زكاة ذلك لا محالة، بحسب اتساع العمالة، فما يفضل من خصبها فهو للقحط عدة، وبذلك دام عمرانها لهذه المدة، لا فضل من ذلك للترف، ولو في سبيل شرف، هذا معظم دخل القطر، إذا جادت السحب بالقطر. إذا جادت السحب بالقطر. ويلزمه ضرورة لإقامة عمرانه، وحماية أوطانه، وتأمين سكانه، وإصلاح مراسيه وبلدانه، حمادة وأجناد، في كل وجهة وبلاد. لتأمين الجبال والوهاد، وردع أهل الفساد، من العربان البواد، ويلزم العساكر الكسوة والإطعام، والمرتب على الدوام، ولابد لهذا العدد، من آلات وعدد، وقوام هذا المال، وهو السبب في عرض الحال، فإن الدخل على قدر الإنفاق، وذلك بشهادة الله غاية ما يطاق، ولو كلفنا الرعية بالمشاق، ونزعنا الرفق والإشفاق، يكون لهم ذريعة للنفاق، وسلماً للشقاق، وربما هرعوا للدولة العلية شيوخاً وولداناً، وكهولاً وشباناً، يسوقهم العجز ويقودهم الأمل، إلى من في طاعته النيات منا والعمل، فالسلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم، وهذا من الواضح المعلوم، وعبدك حسبه تأمين البلاد، وحفظها من طوارق الفساد، بما معه من الحماة والأجناد، سهرنا لإنامة أجفانها، وتعبنا لإراحة شيوخها وولدانها، واقتحمنا المخاوف لأمانها، وما تنتجه غلاتها تسد به خلاتها، وعلى هذه السيرة ولاتها، لايقتنون لأنفسهم مالاً، ولو بسطوا لذلك آمالاً، إلا ما يقتضيه الحال من العادات المألوفة، والمراسم المعروفة، يصدهم عن ذلك عدم اليسار، لا زهد الأبرار، والله المطلع على الأسرار. وبما بلغنا من الإعلام، وبسط الكلام في هؤلاء الإسلام، يظهر للقائم بمصالح الأنام، أن لا قدرة لهذه الإيالة على أداء المال في كل عام، إذ المصروف في طاعة الله وطاعته، والله حسبنا في إهماله وإضاعته. هذه ضراعة رعيتك، المستمسكين بطاعتك، المستجيرين بحمايتك، المستنظرين لرحمتك وحنانتك، المرتجين لعنايتك وإعانتك، قمت بتبليغها بين يدي سلطنتك الخاقانية، وهمتك العثمانية، فتبليغها من الواجب في حقي، وهو ثمرة طاعتي وصدقي، والمأمول من تلك الهمة، النظر إلى بلادك بعين الرحمة، فإن هذا المال في خزائن الدولاة العلية عمرها الله لايزيد، وثقله على هذا القطر شديد، فارحم يا مولانا ضراعتنا، ولا تفرق بما لا نطيق جماعتنا، فإن الأمر جلل، وما قررناه من بعض الأسباب والعلل، وقد أعيتنا الحيل، فلم نجد إتمام الطلب إلا بتنقيص عمل، يفضي إلى نقص وخلل، أو تثقيل على الرعية يقطع الأمل، ويضعف بسبب ذلك هذا العمران، وتشتد الحاجة للاستمداد من مولانا السلطان، والله يجيرنا من حوادث الأزمان. وهذه العمالة وديعة تحت أقفاك، تلتجئ إلى همتك من إهمالك، وتنتشق من ريح عنايتك نفحة، وتترقب من محيا رضاك لمحة، هذه وسيلة من بعدت داره، ولم يجعل بيده اختياره، على لسان حاضرتك تونس، مع عمالها المونس، وصالح مصرها، وإمام عصرها، شيخ الجماعة ومفتيها، ومنفذ الشريعة وممضيها، الذي دانت له البلاد ببنيها، ونالت به الملة أقصى أمانيها، الساري ذكر تآليفه في جميع الأقطار والنواحي، الشيخ سيدي ابراهيم الرياحي، وجهته حالتنا وانتظرت، ومن سحائب رحمتك استمطرت، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وأعلام الدنيا، وهداة الأمة، فعلى أيديهم تطلب الرحمة، وتدفع الخطوب المدلهمة، والدولة تأمرنا بإعزاز الدين وأهله، وتعظيم العلم ومحله. اللهم أنت اعلم بنا منا، فلا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا، وارزقنا الرحمة من سلطاننا، وألهمه لإعانة أوطاننا، وأعنا على حوادث زماننا، إنك سميع قدير، وبالإجابة جدير، وكتب في أشرف الربيعين سنة 1254 أربع وخمسين وألف ومائتين. أ. هـ?. ولما بلغ الشيخ إلى دار الخلافة حصل له الاحتفال، ووقع تلقيه بالإجلال، وعظم لديه إكرام العلماء والأنجاد، وسره منظر البلاد، ولذلك أشد فيها قوله: [الكامل] بلد الخلافة في الجمال فريدُ ... ولشأنه غرضٌ مداه بعيد من ظن يحسنُ وصفه فكأمكما ... نحو الصعود إلى السماء يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقد تلقته الحضرة السلطانية بالقبول، وأحظي منها باللقاء المأمول، ولما دخل الموكب السلطاني، افتتح حال دخوله يتلو قوله تعالى: (يوجد آية) الآية بحسن صوته الجهوري الذي يلين له الحجر الصلد. قيل إن جميع من حضر في ذلك الموكب انسكبت دموعهم، ولاقى من الحضرة السلطانية غاية التكريم، وأنشد بين يدي السلطان قصيدته المديحية التي أبدع إيجادها وهي قوله: [البسيط] العزُّ بالله للسلطان "محمود" ... ابن السلطان محمود فمحمود خليفة الله ما أعلاه من شبه ... بآدٍ ونبيّ الله داود من آل عثمان سادات الملوك ومن ... جاؤوا كعقد من الياقوت منضود سادوا الأنام وشادوا الدين وافتتحوا ... من كل ما فيه خير كلَّ مسدود هم السلاطين ما ذرَّت وما غربتْ ... شمسٌ على مثلهم في نصر توحيد وجاء سلطاننا المحمود بعدهمُ ... بكل رأي من الآراء مسعودِ وربما جهل الإنسان مقصده ... فجاء فيه بقول غيرِ مقصود لم يعطهِ اللهُ ملكاً في خليقته ... إلا لمعنى من الأغيار مفقود دانت لدولته الأعناق خاضعة ... من كل ذي ولد منهم ومولود تخشى السلاطين من بعدٍ موارده ... لما له من جلال غيرِ مجحود وكل باشا وإن جلت مكانتهُ ... فليس غيرَ فتى في الرقِّ مصفود أعزَّ دينَ الهدى إنْ يخشَ منقصة ... بكل قرم من الإسلام صنديد وقوة من لدن رب العلا بهرت ... برّاً وبحراً بنظم غير معهود العجمُ تشهدها والعربُ تعلمها ... شرقاً وغرباً من البيضان والسود أنت المذلُّ لعبَّاد الصليب وإن ... لوى الزمان بإنجاز لموعود لا يخلف اللهُ في نصرٍ مواعده ... لكنْ إلى اجل في العلم معدود أنت المؤمَّل في كل المهمَّ فمنْ ... أتى لبابك قصداً غيرُ مطرود وقد أتيتك من أقصى البلاد وفي ... ظني الجميلِ بلوغي منك مقصودي دامت معاليك للإسلام مرحمة ... وللطغاة عذاباً غيرَ مردود بحرمة المصطفى المهدي الإله له ... أزكى تحيته من غير تحديد تعم أتباعه في الدين قاطبةً ... والخلفاءَ إلى السلطان محمود وبعد ذلك عرض طلبته على الحضرة السلطانية بقصيدته الثانية التي صرح فيها بالغرض وهي قوله: [الطويل] ركبتُ متونَ اللجّ وهي لها رجف ... وأوراحها بالسابحات لها عصفُ ولي منه أهوالٌ يود رهينها ... وقد خشي الإغلاق لو جاءه الحتف ولكنَّني ما زلت أمزج مرَّها ... بحلو رجاءٍ طاب منه ليَ الرشف عسى مقلتي تحظى بأنور غرّة ... على غرة الرائي سناها له عطف خليفةِ رب العالمين وظلَّه ... إذا اشتد بأسُ الدهر فهو له كهفُ فإني صرفت الوجه نحو فنائه ... وأنزلت رحلي حيث يمتنع الصَّرفُ إلى حضرة السلطان محمودٍ الذي ... ملوك الورى رقٌ لدولته صرف أيا عزَّةَ الإسلام إن خاف ذلة ... ويا مفرغ الأملاك إن مسهم وجف لك الأرض ملك والسماء مؤازر ... وعون إله العرش رمحك والسيف فما ثم فوقَ الأرض من لم يكن له ... رجاءُ أياديك الجليلة والخوفُ يرجيك مسكينٌ ويخشاك قاهر ... فللأول الجدوى وللآخر القصف لك الحمد في كل البسيطة عابقٌ ... له مشرقُ الدنيا ومغربها أنف بذكرك تهتزُّ المنابر بهجةً ... وباسمك أفواه الدعاء لها هتف إذا ما دعوا بالنصر مدّت ضراعةً ... أكفُّ ونحو العرش مدَّ لها طرف خصوصاً لدى البيت العتيق وروضةٍ ... لكون سحاب الجود منك لها وكف فأخصب بعد الجهد والجد عيشهم ... ومن بحرك الطامي تأتي لها غرف وكم لك يا مولاي من حسن خلّة ... توحَّدُ إن عدت وفي ضمنها ألفُ تذكر أسلافنا كراماً تقدموا ... سلاطينَ جائتنا بأنبائها الصحف بدولتهم جاء الكتاب منبهاً ... وفي الأنبيا عند الختام أتى الوصفُ وإن فاتح الأرض سليمان جنده ... لهم أجناد الورى إرثها وقف وفاتح إسلامبولَ جاء مديحه ... عن المصطفى رفعاً وليس به وقف مضوا ومزيد اللّطف لم يمضِ حيثما ... سليلهم المحمود آثارهم يقفو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 نعم يا أميرَ المسلمينَ وكهفهمْ ... إذا مسَّهمْ ضر فمنك له كشف أتيتك ضيفاً مشتغيثاً وشأنكم ... إغاثة لهفان وأن يكرم الضيف توالى علينا الضّعف من كل جانب ... وما زال ذاك الضعف يتبعه ضعف فجئناك نبغي العفوَ واللّطفَ والرضا ... وهل من سواك العفو يطلب واللطف؟ فعشيةُ منْ ترضى عليه هنيئةٌ ... وكيف لعيشٍ دون عفوك أن يصفو؟ رضاك رضا المولى لأنك ظله ... وللظل من أوصاف صاحبه وصف أدام لنا المولى إضاءة شمسه ... وليس لها يوماً غروب ولا كسف بجاه نبي الله سيدنا الذي ... له خلقٌ يقضي عليه بأن يعفو عليه صلاةُ الله ما ذر شارق ... وما حطّ بالأقلام في طرسها حرف وللآل والأصحاب طيب تحية ... يفوح على الأتباع من نشرها عرف وخاطب الصدر الأعظم بالدولة العلية يومئذ في طلبته بقوله: [الكامل] الصدر الأعظم مقصد المتوسل ... وهو المؤمل في القضاء المنزلِ ولذاك من أقصى البلاد أتيته ... للفوز منه ببرء داء معضل يا ملجأ الصلحاء والعلماء ال? ... ?وزرا ومن في الناس ذو قدر كعلي كالنَّد أو كالعطر أو المسك ما ... يحويه عرضك من ثناء أجمل فبما حباك الله من خلق سرى ... كالراح في الأرواح لا في المفصل وحباك من خلق كأن الشمس في ... شرفٍ ترى في وجهك المتهلِّل اشفع لنا فيما دهى "ترشيش" من ... إلزامها غرم الخراج المثقل الفقر يمنعها وما تخشاه من ... شر الحوادث في الزمان المقبل أرجو لك البشرى بنيل شفاعةٍ ... تأتيك من عندِ الرسول الأفضل دامت علاك لمن أحبك جنةً ... بنعيمها قلب الحواسد مصطلي وقد حصل من الحضرة السلطانية على إسعافه بترك طلب الخراج، ومنحت شخصه عطية فاخرة وهي حقة مرصعة برفيع الألماس. واجتمع هنالك بعالم الملة، وشيخ الإسلام الشيخ أحمد عارف وتأكدت بينهمات المخالطة وتراسلا بمراسلات شعرية منها أن الشيخ ابراهيم كتب إليه مستعيراً كتاب "الجواهر" بقوله: [البسيط المخلع] يا عارفٌ منه فاح عرفٌ ... في أنف أهل الوجود عاطرْ لو لم تكن في العلوم بحراً ... لم نؤت من عندك الجواهر فوف بالوعد مع رسولٍ ... أتاك أني بذاك شاكر فكتب إليه الشيخ أحمد عارف يستدعيه إلى محله ليعطيه الكتاب المذكور بقوله: يا من غدا نظمه الجواهرْ ... ونثرهُ للآلي ناثرْ والعلم روض ذكا شذاه ... بنشر أنفاسك العواطر لو لم أكن في قيود رسم ... لزرتكم روا الزواخر فاسمح ولح يا سميرَ بدرٍ ... عليّ إني لذاك شاكر لا تأبه يا محيط فضلٍ ... فالبحر يجري على الجواهر وقد استجازه شيخ الإسلام المذكور فأجاز له إجازة شعرية وهي قوله: [الكامل] حمداً لمكرمنا بأيّ عوارف ... شمخت عن الإحصا بأنف آنفِ وصلاته وسلامه أبداً على ... مجلي الرجا بصوارم وعوارف ولكل من والاه أغدقُ رحمةٍ ... ينهلُّ دائمها انهلال الواكف هذا ولما ساقني القدر الذي ... ما في وقوع صروفه من صارف نحو "القسطنطينيّة" البلد الذي ... لايستطاع جماله للواصف نفحت لروحي نفحةٌ مسكيةٌ ... كانت مسكِّنةً لقلبي الواجف وأنار لي منها ضياءٌ خاطفٌ ... خلتُ البيوتَ سماءَ ذاك الخاطف فسألت ما هذا النسيمُ وذا الضيا ... قالوا ألمْ تسمع بأحمد عارف ذاك الذي أخلاقه كالراح في ... لطف يلذُّ مذاقه للراشف أوْ أنها "هارت" في سحر النهى ... إن لم نقل سر سرى من "آصف" وإذا رأيتَ جبينه متهللاً ... فعلى بدور التّم لستَ بآسلف وغذا سمعتَ علومه فاسمع إلى ... تلك البحور طمتْ فهل من غارف قسماً بما يحويه من حسب ومن ... نسب وفضل لاحق أو سالف لو أبصر النعمانُ بهجةَ حسنه ... لاهتز عطفاً كاهتزاز العاطف هذا ومن عجبٍ رأيت سؤاله ... مني إجازته كشيخ عارف كلا وإنّي والذي رفع العلا ... أحرى بأن أروي عليه صحائفي لكنني لا أستطيع خلافه ... وعليه فيما شاء لست بخالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فأقول إني قد أجزت له الذي ... قد صحّ لي من تالد أو طارف موصى لإبراهيمَ منه بدعوة ... يرجو الرياح بها أمان الخائف وكتب إليه شيخ الإسلام المذكور بقوله: [الطويل] جزى الله أستاذي جزاءً مضاعفاً ... ومتعه في جنّة الخلد بالنَّظرْ وبلغه من فضله ما يرومه ... بحرمة طه الهاشمي سيد البشر أيا سيدي إن المحب مقتصر ... بما مسّه في الجسم من شدة الضرر ويرجو بظهر الغيب صالح دعوة ... لعلّ بها مولاه يكشف ذا الكدر وذكراك لي فضلاً على حسب وعدكم ... ولا سيما والوعد دينٌ كما اشتهر وكان قدومه إلى حاضرة تونس من دار الخلافة العثمانية يوم السادس عشر من شهر رجب الأصب سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وقد خلف في تلك الديار، صيتاً ملأ الأقطار، وغطى على الشمس في رابعة النهار، فتليت آيات فضله بين المغرب والمشرق، وأضحى كوكب مجده بكل فخر يلمع ويشرق، وقد كتب إليه في هذا المقدم الميمون تلميذه الشيخ محمد بن سلامة بقصيدة أرسلها إليه ايام إقامته بحلق الوادي في الكرنتينة قبل نزوله إلى الحاضرة. وهي قوله: [الوافر] كتابي ناب عن تقبيل كفٍ ... براحةِ رحبها نلتُ ارتياحي إذا قبلتْ ومدَّتْ عن قبول ... وحيتني بأنفاسِ "الرياحي" وأزهر كاشري منها شميم ... نوافحُ نشره طيبُ النفاح فأنعش عرفه روض الأماني ... وأخصب مزنه مرعى بطاحي وساق صباها لي نصراً لبيرا ... فأبرا للضنا مبرا الرماح لبست به المآمن خير درع ... غداةَ السُّقمِ جاهر بالكفاح باراهيمَ أبراني اعتلال ... وسالمني على خفض الجناح إمامَ العالمين إليك عذري ... بدا برهانه مثلَ الصباح إذا ما الوصل بالأحشاء فرض ... ووصل الصوم من صور المباح فما يجزي التخلف من مراضٍ ... ملاقاة الكثير من الصحاح ولولا السقم سرت إليك حبواً ... ولكن شرعنا رفع الجناح فيهنيك القدوم بخير أمن ... ويمنٍ تم في عقد الصلاح أتيتَ بما فيه فرح البرايا ... وصير جاشها رحب المراح وساعد حزمك المقدورُ لمّا ... صفا منك الضمير صفا القراح مسايرة التوكل أي عون ... بها ذو العزم يهي للنجاح ومن عرف الإله فلا يبالي ... لدى العزم الصحيح بقول لاح عرفتَ الله أكبرَ كلِّ شيء ... فأكبرك الملوك على سماح علمتَ بما علمت فكان معنى ... أمورك كلها نيل الرَّباح فروضُ العلم يثمر كل خير ... وتقوى الله عنوان الفلاح بما قد نلتُ من عمل وعلمٍ ... أعنّي بالدعاء على الصلاح وأمطرْ من رضاك مجاح جسمي ... ليزهو جدبة بعد الكلاح إلى مولى جليل، من ذهن فاتر كليل، رهين أسقامه، في لياليه وأيامه، لكنه مغفور الزلل إن كان مقبول العذر في كل مكان يقبل الكفين، ويستنشق شذا تينك الراحتين، بعد السلام الذي هو تحية الإسلام، ممن في اسمك له خير فال، كما في لقبه لمقامك دوام حال، هذا المأمول، وعلى الله تعالى القبول، والسلام. ولما توفي الإمام الشريف الثاني تحرى المشير أحمد باشا باي فيمن يقدمه للخطة المذكورة، فقدم ابراهيم اتلرياحي غمام أكبر بجامع الزيتونة أواخر جمادى الثانية سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، وتقدم بذلك على خليفة الجامع الشريف محمود محسن ونائبه الإمام الثالث الشيخ الشاذلي بن المؤدب، ولم يتغير واحد لتقدمه عليهما، وبذلك جمع بين الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة ورئاسة الفتوى، ولم تجتمعا لأحد قبله، وقد هنأه تلميذه الموثق الفرضي الأديب الشيخ الحاج محمد بن يونس فقال: [الطويل] أدرْ ذكرَ نعمانٍ وذكرَ غرامه ... فعرف الصَّبا أهدى إلينا خزامهُ وأرَّجَ أرجاء البطاح بنشره ... وسجّع في رند العقيق حمامهُ وهز غصون البان في دوحة النقا ... وأثر في الزهر الوسيم ابتسامهُ ولاح المنى والوصل والدهر مسعد ... يرنِّح للغصن القويم قوامهُ تمتع بذا واشرب مياه كجنَّة ... تنزَّهْ فوجه البشر حطَّ لثامهُ وسرب العلا والفضل آنس أهله ... على باب ابراهيم ألقى خيامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 حوى السبقَ ابراهيمُ في خطط العلا ... وأصبح للبيت العتيق إمامه فوافاه في نور يزاد لنوره ... وشيد بالمعنى الزكي علامهُ فما حقَّ ثوبُ الفضل إلا لأهله ... فإن مقام المرء حيث أقامهُ وأنت أبا اسحق قطب رحائها ... علوت من الفضل العظيم سنامهُ وأنت له أهل إذا جد جدُّها ... وطيب الثنا أهدى إليك زمامه فضلت الألى سادوا بعلم ورفعة ... أرى كل ذي فضل سبقت إمامه إذا جرّ فن النحو فقت "خليله" ... تنير له المعنى الذي قد أقامه إذاى جرّ فن الفقه فقت "خليله" ... تبين فتواه وتجلى انبهامه غمام علوم الدين طراً بأسرها ... همام بذكر الله حلَّى كلامه إمان الهدى والعلم والفضل والتقى ... وللفضل والتوفيق شدّ حزامه يفيد الورى علماً وهدياً بحكمه ... ويهدي الحجا نفعاً نفى ما أضامه على منبر حياً وأحيا بوعظه ... فؤاداً به خطب وأحيا منامه هناءً له أبقى الإله ثناءه ... وفي الجامع المعمور نال مرامه وأضحى له التاريخ: يسطع نوره ... فيا فوز ابراهيم حاز مقامه [ ... 1255 ... ] وقد زان بعلمه وعلمه المحراب والمنبر، وأطلق من عبير مواعظه المسك الأذفر، فخطب من إنشائه خطباً بليغه يلين لها االصلد، وتنسكب الدموع لها عند السرد، غذ تنثر بحسن نظامها لآلئ الدموع، وتسخر الشرس بلطفها إلى أحسن الذكر المسموع، مع صدأة صوته الجهوري، وتأثير عمله في نفس كل سميدع سري، وتلاوة تقشعر لها الجلود خشية وليناً، وتنذهل الألباب وتحن لها الأرواح حنيناً، وقد أنشأ خطباً لعموم أسابيع الحول، وزاد عليها خطباً أخرى في أغراض كثيرة عرضت فأطنب فيها القول، وجميع ما له من الخطب، معدود عند البلغاء من نفائس النخب، بل إن خطبة قد اتخذها خواص خطباء البلاد التونسية للاستعمال، وقل من بلغ في الاستحصال على نفائسها إلى غاية الآمال، وقد كان العالم النبيه، علي بنيه، جمع منها ديواناً، حلاه بديباجة وأودعه نيفاً وعشرين خطبة برعت أفناناً، فكان من أنفس دواوين الخطب، التي يرغب فيها كل عارف بخبايا المواعظ ولطائف الأدب. وهو أول إمام قرأ المولد الشريف بجامع الزيتونة يوم الثاني عشر من ربيع الأول باحتفال يحضره الأمير والعلماء ورجال الدولة بملابسهم الرسمية أمام المحراب، وألف لذلك مولداً لطيفاً، مازال محفوظاً عند علماء المملكة التونسية يتلى يوم المولد الشريف في جوامع حواضر المملكة لحسن إيجازه مع استيعابه لمهمات أخبار المولد الشريف وناهيك بما خلده بهذا الصنيع الجميل. وقد كان قائماً على حدود الله مع نفوذ وتأييد إلهي لا تأخذه في الله لومة لائم حتى أنه يؤد شيئاً من المكوس التي وظفتها الدولة إذ ذاك على الراعي والرعية، يقوم الله في حقوقه ولا يخشى في ذلك أحداً. خرج يوم المولد النبوي لقصد التوجه إلى جامع الزيتونة، فوجد عند بابه أرملة وأولادها عيلة رجل يسمى السعدي قد أقام في السجن في الكراكة مدة فضجوا بين يديه ضجة واحدة وتراموا عليه يسألونه بجاه الله ورسوله أن يشفع لهم في السجين المذكور عند المشير، فأجابهم لذلك، ولما أتم قراءة المولد، وأخذ المشير يحادثه عرض عليه شفاعته في السعدي، فقال له المشير: إنه مؤبد، ولم يستكمل كلمته حتى استعاذ الشيخ بالله، وقال التأبيد الله ونهض يكررها قبل إتمام الموكب، وقد بهت المشير من ذلك بمرأى ومسمع من جميع الحاضرين، وعند ذلك قام على إثره الوزير ولسان الدولة يعتذران عن صدور تلك المقالة من الوالي وأعلماه بأنه أصدر إذنه بتخلية سبيل السعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 أما اعتكافه على بث العلم في صدور الرجال، فقد بلغ منه إلى غاية الآمال، وانتفع يعلمه جميع علماء البلاد، حتى كان شيخ شيوخها في ذلك العصر، وأتى على أعالي الكتب ختماً بجامع الزيتونة وجامع صاحب الطابع وداره، إلى غير ذلك من الجهات التي كان يلازم التدريس فيها. وقد ختم صحيح البخاري بشرح القسطلاني بجامع يوسف صاحب الطابع، وكانت بداءته له عند تمام بناء الجامع سنة تسع وعشرين ومائتين وألف عند تقدمه لمشيخة مدرسته، وأقام على تدريسه أكثر من ثلاثين سنة إلى أن أتم ختمه بحضور ابنيته العالمين، ومن انضم إليهما من علماء تلامذته، وتبارى شعراء الدرس في مديحه في موكب الختام، وتناشدوا بدائع النظام، وقد وقفت على ديباجه من إنشاء طيب بنيه في هذا الختم الميمون، ولذلك رأيت أن أثبتها مع تلك القصائد التي ترزي بالدر المصون. ونصها: "حمداً لمن رفع مقام العلم وأهله، ووصل سبب انقطاعهم إليه بحبله، وأتم عليهم سابع النعمة بفضله، وصلاة وسلاماً دائمين متلازمين على فاتحة كتاب الوجود وأصله، وخاتمة أنبيائه ورسله، الجامع لخلال الكمال والمستولي على أمد خصله، وعلى آله وأصحابه الذين أكمل الله بهم دينه وجمع مفترق شمله. وبعد، فلما كان ضحى يوم السبت العاشر من جمادى الثانية من عام واحد وستين ومائتين وألف، من الله بحضور مجلس ختم الجامع الصحيح للإمام البخاري بشرح الشيخ شهاب الدين القسطلاني، على أستاذنا علامة الزمان، ومنار الإيمان، شيخ الشيوخ، وبقية أهل الاجتهاد والرسوخ، الجامع بين الطريقة والحقيقة جمع أولي الصدق واليقين، ناصر الملة والدين، أبو اسحاق والدنا طيناً وديناً سيدنا ابراهيم الرياحي متع الله ببقائه، وأدام في أوج السعادة كمال ارتقائه. أ. هـ?. وأما القصائد التي أنشدت في ذلك الموكب فأولاها من إنشاء ولده العالم الخطيب الشيخ الطيب الرياحي. وهي قوله: [الخفيف] غرَّةُ السعد أسفرتْ بابتسام ... وتجلَّى نجمُ الهدى في تسام والزمانُ المسيءُ تاب وأبدى ... لبنيه طرائفَ الإكرام نسخ اليسرُ عسره مثل ما قد ... نسخ الصبيحُ آية الإظلام وانبرت للمدى أماني نفوس ... كن أسرى حوادث الأيام منن لم يجلن في الفكر لولا ... بركات المولى الجليل الهمام ذلك السيد الإمام المرجَّى ... بسنا وجهه انسجام الغمام صدر أعيان زمرة المجد حقاً ... وإمام الأيمة الأعلام مالك العصر عالم المصر بالقص ... ر وشيخ الشيوخ بين الأنام حائز السبق في مدى الفضل حاو ... في اقتسام العلى معلَّى السهام عضد الدين (سعده) (ناصر الم ... لة) بالحق (حجة الإسلام) نور عين الزمان علماً وحلماً ... وتقى في جلالة واحترام حافظ السنة الزكية مبدٍ ... نورَ أسرارها بغير اكتتام عمدة الفقه غاية السؤل فيه ... وشفاء الصدور في الأحكام وتقاريره الرياض ولكن ... تثمر الدُّرَّ في يد الأفهام تتسامى درى المنابر منه ... ومحاريبها بخير إمام ليس إلا بذهنه تسمع الص ... م وتحيا بصائرُ الأغتام ليس إلاّ بذهنه تتجلَّى ... نكتُ العلم في دجى الأوهام ليس إلا بلفظه العذب تتلى ... سورُ الذكر في دياجي الظلام ليس إلا به اقتناء المزايا ... واقتباس الهدى وبرءُ السقام عالةً أصبح الأنام عليه ... طاعة النقض منه والإبرام خضعت عنده الرقاب بما قد ... طوقتها يداه بالإنعام منةٌ لا تزال تدري وتروى ... لولاة الطروس والأقلام لا ترى غير مهتدٍ بهداه ... أو محبَّ أو لائذ بذمام يا إماماً حواه بردُ المعالي ... وردا الفضل قبل عهد الفطام يا سميَّ الخليل يا وارث الرأفة ... والحلم من حلاه العظام قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والفضل والندى من مسام ففداء لشسع نعلبيك قوم ... ولدوا في العلى لغير تمام وهنيئاً لك المفاز يختم ... للبخاري حديث طه التهامي جاء بشرى لكم بإقبال فتح ... ووصول إلى قصيّ المرام ولنا منه والبرية طراً ... أي رحمى ونعمة واغتنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ولعمري ليست بأول نعمى ... كنت مولي ظهورها للأنام فجزاك الإله خير جزاء ... مشرق بدؤه بحسن الختام وابق يا بدر في سماء المعالي ... مستدام السنا مصون التمام والقصيدة الثانية من إنشاء الشاعر الماجد الفصيح الأكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي، وهي قوله: [الكامل] وجه التهاني اليومَ أصبحَ مسفراً ... والكونُ أشرقَ والفضاءُ تعطرا والسعدُ حيا والمسَّرة أقبلت ... والأفق كلَّله السرورُ كما ترى وبتونسَ الإيناسُ أسفرَ صبحه ... واهتزَّ روض الصالحات ونوَّرا وبدا بإبراهيمَ برءُ همومنا ... شيخِ الشيوخ القطب مصباحِ الورى ركن الشريعة فخر ملة أحمدٍ ... صدر الثقاب الكمَّل الشمَّ الذُّرى علم الألى بثُّوا العلوم وخير من ... قدْ أمَّ محراباً ونوَّرَ منبرا يجلو دجى الإشكال ثاقب فهمه ... فتراه بعد اليأس أصبح نيرا ويجيلُ في النكت العويصة ذهنه ... فيشقُّ كوكبه العجاجَ الأكدرا ويبينُ أسراراً تكاد لحسنها ... حقاً تباع بها النفوس وتشترى أشهى على الأسماع من نيل المنى ... وألذُّ في الأجفان من سنة الكرى كم قد لبسنا من مصوغ عقودها ... درَّا نفيساً في الرقاب وجوهرا وكم اقتطفنا من أزاهرِ روضها ... حتى لبسنا العيش ثوباً أخضرا وبدرستك (الجعفيَّ) كم أوضحت من ... نكتٍ تدقُّ عن العيان فما ترى وسلكت منه مهامهاً وتنائفاً ... يضحى الخبيرُ لبعضها متحَّيرا وسريت ذا جدَّ لحل رموزه ... والآن حان بختمه حمدُ السُّرى فلك الهناءُ مقدماً ولنا بكم ... ولمن يخصُّك بالوداد وللورى وجزاك ربك خير ما جازى به ... وأطال عمرك كيف شئت وأكثرا وإليك من جهد المقلَّ محوكة ... من خاطر منع العنا أن يخطرا وقريحة خمدت ودهر غالني ... من غوله ما صد عن أن نبصرا بلغ الزّبى تياره فاسمح بما ... ينجي الغريق وكن أجلَّ من اشترى فإذا مددت ودودكم بادعائكم ... أعددت منه إلى المعاند عسكرا وبلغت آمالي لصدقِ طويتي ... فيكم، وعشتُ مملئاً لن أحذرا لا زلت في أفق السعادة نيراً ... تجلو بهمتك المهم الأكبرا والقصيدة الثالثة من إنشاء ولده العالم الأديب المدرس الشيخ علي الرياحي وهي قوله: [الطويل] تبلَّج في أفق الهدى طالع السعد ... كسي حللُ الإسعاد واليمن والرشدِ وفاح شذا مسك يفوق ختامه ... نسيم الصبا بالعطرِ أو فوحة الندَّ أو الروض إذ يزهو بحسن ابتسامة ... فيحيا بريحان الأزاهر والرند وأسفرتِ الأيام عن وجه بشرها ... كما أسفر المحبوبُ عن وردة الخد ذكرتُ بذا عهد الصَّبا وغرامه ... وما قد رشفنا في الثغور من الشهَّد رعى الله تلك الغانيات ولا أرى ... سوى أنهنَّ الحورُ من جنةِ الخلد لهن جبينٌ كالصباح بياضه ... يلوح سناه تحت فاحمِ مسودَّ وحاجبهن السيفُ لكن إذا جنى ... فليس قصاص يلزمُ الحرَّ في العبد وقد نثر الخيلان من حبر عنبرٍ ... بديع جمال لك يكنْ خطّ بالأيدي لك الله ما أحلى التغزل في الهوى ... وأحسن منه مدحة العلمِ الفرد إمام أغر الوجه كالشمس في الضحى ... وكالزهرة الحسناء في دوحة المجد إمام إذا ما كنت في روض درسه ... رأيت نفيس الدرَّ ينظم في العقد إمام لوَ أن الله يهدي بنوره ... لكن جميعُ الناس من نوره مهدي ترى رأيه كالسيف في كل حادثٍ ... ورأى سواه لا يعيد ولا يبدي له رتبة لو حاول البدر نيلها ... لكانت عن الإدراك في حيَّز البعد غدا مثلاً بالحلم والعلم والتُّقى ... كمالك والبصريَّ كالأحنف السعدي ألا يا أبا إسحاق والفاضل الذي ... مزاياه قد جلَّت عن الحصر والعدَّ إليك من السحر الحلال قصيدةً ... تأنق في إتقان صنعتها جهدي خدمت بها يوم الختام لعلني ... أقابلُ بالرضوان منك وبالودَّ ودمت مناراً في الشريعة هادياً ... تبلَّغُ من كل المنى منتهى القصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقرظ هاته القصيدة الداركة النحرير، وعلم الفتيا الشهير، المؤلف المشكور، الشريف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، بقوله: [الطويل] أحنُّ وأصبو كلما هبَّ من نجد ... نسيم برياه يفوق شذا النَّدِ يمثل لي تلك الأباطح والربى ... وعهداً مضى يا حبذا ذاك من عهد فهاج لي الشوق الأثيل ولم اكن ... سلوت ولكن زاد وجداً على وجد سقى الغيث هاتيك الخيام وأهلها ... وإن أضمروا هجري ومرُّوا على الصَّدَّ لهمْ مني الحب الصدوق ومنهمُ ... على مرّ أيام النوى كاذبُ الوعد أيا حادياً يحدو المطيَّ مرنما ... ترفق إذا ما جئت حيَّ بني سعد بلغت المنى بلَّغ إلى غاية المنى ... تحية صبَّ في لهيب من الصد وناد إلى ليلى وقل صادق الهوى ... مقيم على ما تعهدين من الود زريه ولو بالطيف في سنة الكرى ... نعم ما الكرى يستام مقلة ذي سهد بكمتُ لساني يوم حمّ فراقها ... فلم يجر في مضمار مهل ولا عقد وأصممتُ سمعي بعد طيب حديثها ... وليس استماعي فير ذاك من الرشد فاسمعني بالقهر قول مبشَّرٍ ... تبلَّج في أفق العلا طالع السَّعد تطلَّبتُ ما تحت البشارة فانجلت ... لوامعُ درَّ في بهيَّ من العقد كؤوسٌ من الراح الحلال ياديرها ... على حانة الأسماع "نابغة الجعدي" تضوَّع منها المسك لمّا تضمنت ... أحاديث فخرٍ عمّ من غير ما حدَّ ختامٌ به الخضراء فازت وهكذا ... بفضل أبي إسحاق تسمو إلى الخلد فخار بني الدنيا وذخر ذوي التقى ... وأعلمِ من تحت السماء بلا جحد مآثره سارت سرى الشمس في الملا ... مفاخره من دونها منتهى العدّ له الله من ختم وددت لو أنني ... بذلت له ما كان عندي من جهد وإن فاتني ذاك الفخار فإنني ... علقت من العلياء بالجوهر الفرد أبا الحسن الأسنى إليك خريدةً ... من السحر إلا أنها خالص النقد خدمت بها علياك دامت بجودها ... وذلك عند الألمعي غايةُ القصد ولما ختم شرح السعد التفتازاني على تلخيص القزويني، هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع، بقوله: [الكامل] جسمي بأشواق المحبة صالِ ... متفرَّق الأعضاء والأوصالِ والنفسُ مني قد غدت مشتاقةً ... ترجو لذيذَ مودةٍ ووصال والوجد زاد لبارق قد بان من حي الحبة منتهى الآمال والدمع جاد بوابلٍ من مقلة ... ليست تحل بكثرة الإرسال يا عاذلي هوَّنْ عليَّ فإنني ... لا عذل ينفعني بكل مقال إني شغفتُ بحب ذات فواترٍ ... تعني بما تبدي عن الجريال فالقد غصنُ البان غار لحسنه ... والوجه فيه بديع كل جمال رامت تضاهي حسنها شمسُ الضحى ... فتداركت ما قدج جرى في الحال تلك التي قد أشعلت نار الهوى ... بفؤاد صب للقا محتال وهي التي تركت ميتم حسنها ... في حبها متراكم الأهوال وسبتهُ نفساً ما لها ذنب سوى ... تأميلها لتآلف ووصال عجباً لها أتسوءه ولقد غدا ... متشبثاً بحواشي الأذيال أذيال إبراهيم من قد أعلنت ... بمديحه كل الورى بكمال ذاك الإمام العالم العلمُ الذي ... لم يأتنا دهر له بمثال فبه لتونس مفخرٌ ولنا به ... فخرٌ عظيم لا يقاس بحال وبمثله الأقطار تفخر إذ غدا ... يجبني لعزٍ صالحَ الأمال وله محال ترتجي مثلاً له ... قمر السما في العز والإجلال كشَّاف ما خفيتْ مسالك نيله ... مغني الأنام ومعدنُ الإفضال يلقى بثغر باسم كلَّ الورى ... وتحية تأتي بكلِ مقال إن رمت وصف مجالس لإمامنا ... غيث العلوم ومبلغ الآمال فأقول فيه وإنني لمقصر ... كالليث حف بمعظم الأشبال يا سيداً قد حلّ كل عويصة ... بذكائه وبذهنه السيال هذا الختام لقد أتاك مبشَّراً ... بدوام سعدٍ مشرقٍ متلالِ فلقد سررت بمجلس لقدومه ... ولقد شرفت به على الأمثال وأروم يا مولاي تجديد المنى ... تكسوه لي من حلةٍ الإفصال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وإذا القضيةُ بّينُ إنتاجها ... فلتطوها في منتج الأشكال وإليك بكراً قد أتت لا تبتغي ... إلا الدعاءَ لنا بحسن الحال وبقيت ترقى أوجَ آفاق العلى ... متلبَّساً بالعز والإقبال وهناه ولده الخطيب المدرَّس الشيخ محمد الطيب الرياحي، بقوله: [الطويل] ألا حدَّثنْ عمن به القلب مولع ... كفى طرباً ذاك الحديثُ المسجَّعُ على ذاك حبَّست المسامع صبوة ... ولا لسواهم في فؤادي موضع لقد ظعنوا والقلبُ يزعم كتمهم ... ولي أدمعٌ كالنهر تجري وتدفع فلله يومٌ بان إشراق نوره ... ولله يومٌ فاض بالدمعِ مدمعُ وأمسى كئيبَ الصدر بالبعد موحشاً ... وبات على جمر الهوى يتضجَّع ويا نسمة سارت إلينا عشية ... مقلَّة عرف منهمُ يتضوعُ فبالله إلا ما حملت إليهمُ ... تحية مشتاق يذلُّ ويخضع لقد خلفوني في الوداد متيماً ... كئيباً سقيماً باكياً أتضرع أبيتُ وأفكاري تؤمّل شخصهم ... فأصبح لهافناً وما لي مرجع ومهما بدا ركب أبادرُ قائلاً: ... أحن إليهم بالفؤاد وأخضع فيا عاذلي دعني فإنّ مرمكم ... هراءٌ يبق للعذَّالِ عنديَ مطمع ففي مذهبي السلوان جاء محرماً ... فلم يبق للعذَّالِ عنديَ مطمع وهل تختفي شمسٌ وفي الكون نورها ... وهل يختفي برق وفي الجوّ يلمع وهل يختفي علم الهمام الذي غدا ... له موضع فوق الكواكب أرفعُ هو الأبُ عز الله أصلي أنا به ... فطوبى لأجدادٍ أقرُّا وفرَّعوا إمامٌ همامٌ فاضل متعفف ... شريف جليل للفواضلِ أجمع تقيٌّ نقيُّ زاهد ذو سياسة ... حليمٌ كريمٌ للمكارم منبع هو البحر في أيَّ العلوم أردتها ... حجاه إلى نيل الدقائق مسرع مشارق أنوار بطلعته انجلت ... وصار لها نور يضيء ويسطع وفي أبحر التدقيق حاز دقائقاً ... يضلُّ بها عقل سديد وألمع فيا خير ممدوحٍ، ولست مبالغاً ... بل المرءُ باللذ قد تقفاه أجمع رعى الله طوداً جئته بمقالة ... وليس لها رد ولا فيك تمنع ألا كل سمع غيرك باطلٌ ... وكل مديح في سواك مضيع وهذا دليل بالسعادة ناطق ... وأنك تحت العرش تحظى وترفع وأفضل خير قد يكون غدا به ... كتابك مختوماً وأنت مشفع ولما ختم تدريس شرح المحلي على جمع الجوامع الأصولي هنأه بالختم المذكور أيضاً تلميذه شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع، بقوله: [الوافر] مديحك لا يحيط به النظامُ ... وجودك لا يقاومه الغمامُ وعلمك منهل للناس طرًّا ... ومجلسك الأعزُّ له احترام بك الآفاق قد زادت سروراً ... كأنك في فم الدنيا ابتسام فأنت لأوج أفق الدهر بدر ... منير لا يفارقه التمام وأنت لعز هذا الدين تاج ... وأنتَ لنصره أبداً حسام وأنت لكل معضلةٍ ترجَّى ... وأنت لكل مشكلة غمام جمعت من المحاسن كلَّ وصف ... وكل الناس عن هذا نيام وآيات الفصاحة عنك تروى ... وفي كفَّ لكم منها زمام فلو قسٌّ وسبحانٌ جميعاً ... كذا أيضاً أو الفتح الإمام صغوا يوماً لمنطقكم لقالوا: ... يفوق الدرَّ حقاً ذا الكلام أبا إسحاق أنت فريدُ دهر ... وأنت لقطرك العلمُ الهمام هنيئاً يا إمام العصر يا من ... له فوق السما الأعلى مقام بختم قد شرحتَ به علوماً ... وسرَّتْ من ضخامته الأنام ختام قد جلا عنا ظلاماً ... وما أدراك ما هذا الختام وهاك خريدةَ الأفكار جاءت ... يصاحبها سرورٌ وابتسام تؤملَ حسن صفحٍ منك عما ... يقصر في مديحكمُ النظام ويطلب ربُّها منكم دعاء ... يقيه من الحوادث إذ الحمام ولا زالت لك العلياء داراً ... اردّد مدحكم فيها الحمام وهنأه بالختم المذكور ابنه الشيخ محمد الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر] فؤاد لا يفيق من الغرامِ ... وجسم لا يبين من السقامِ وشوق ألَّف الأشجان حولي ... وفرَّقَ بين جفني والمنامِ ودمعٌ لا نفاد له، كأني ... أروم به مساجلة الغمامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وصبرٌ حاول الأسواء حتى ... علاها، فاستعاذت، بانهزام ألا لله نفس جشمتها ... مخامرةُ العلى همم سوامِ وفي كف الحضائر أسلمتها ... عزائم تنبري مثل السهام تقول أفيك للتقصير عذر ... وأنت ابن المفدَّى بالأنام أبي إسحاق فائدة الليالي ... وبهجتها وواسطة النظام همام أغربت فيه المعالي ... تقدّمه المعارفُ كالإمام أغر الوجه وضاح السجايا ... بريء العرض من عيب ودام ولو قسمت مكارمه البرايا ... فقدنا في الورى صنف اللئام إذا استبق الكرام مدى رهان ... بدا وهو المجلّى في الكرام أو اقتسموا على خطط المزايا ... يكون له المعلّى في السهام غدا المثلَ الشرود تقى وعلماً ... وحلماً في وقار واحترام تناسينا به ذكر ابن قيس ... ومعروفٍ ومالك الإمام تسامى للعلا طفلاً معنّى ... بكسب العلم لا كسب الحطام فأحرز في الكمالِ مقامَ صدق ... تضاءلَ دونه بدرُ التمام وأصبحَ منه هذا الدين يسمُو ... بعزَّ حمى تاجٍ فوقَ هام وسيفٍ بالهدى أمسى محلَّى ... وبالعرفان أضحى ذا اتسام بهمته تزول ذرى الرواسي ... وتنهلُّ الغمائمُ في انسجام عذيري من أعاديه إذا لم ... يهابوا سطوة اللَّيث المحامي ألمَّا يذعنوا لما تحدَّى ... يوازون الشوامخ بالإكام وراموا أن يدانوه فكانوا ... مكان المنسمين من السَّنام أمولى نعمتي وعماد مجدي ... ويا سندي ويا كلَّ المرام إليك عقود أمداح جلاها ... صناع الفكر في حسن انتظام خدمت بها مقامك يوم ختم ... يفوقُ عبيرهُ مسكَ الختام أدرتَ به علينا كأسَ علم ... دهاقاً جزجه سحرُ الكلام وحلَّيت النفوس بحلي فضلٍ ... به تزدان ما بين الأنام ألا إنّ "المحلَّي" لو رآه ... لأعجب من فوائدك الجسام ونال كتابه عنكم وأمسى ... يفاخر منك بالشيخ الهمام فملَّئت الهنا فيه وفيما ... يليه، وما يليه إلى القيام تسر بما تروح به الأعادي ... وتغدو في مساورة الحمام ودمت وأنمت في شرفٍ وأمن ... دوام الركن فينا والمقام وقرظ هاته القصيدة أخوه الشيخ علي الرياحي، بقوله: [الوافر] أهذا الفجرُ أم بدرُ التمام ... أم المشمسُ العديمة للغمامِ؟ أم الوجه المهلل من فتاة ... تراءت في محاسنها العظامِ؟ إذا ما أعرضت يوماً بصدَّ ... تجر العالمين إلى الحمام إذا ما أتحفتك بريق ثغر ... يخال الريق من رشف المدام تحاكي البان قدَّا إذ تبدت ... وتحكي السحرَ في لطف الكلام لعمرك ما وجدت لها سلوَّا ... سوى جمع الجواهر من إمام سراج العلم والتقوى تناهت ... إليه المكرمات بلا اكتتام إذا ما فكرهُ أبدى مقالاً ... فإن القول ما قالت حذام إليك الفكر قد اهدى مديحاً ... يقابل بالقبول لدى الكرام ويرعى الله مجدك كل حين ... دوامَ الدّهرِ من غير انفصام وأجابه عن هذا التقريظ أخوه الممدوح الشيخ الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر] أناطتْ إذ أماطت باللثامِ ... بأقمار الدُّجى سمةَ احتشام عقيلةُ فتنةِ الألباب أزرت ... بدائعها بأزهار الكمام أعيذ جمالها من كل شوب ... معاذ كمالها من كل ذام شهدت بأنّ منجبها عليٌّ ... عزيزُ المثل ما بين الأنام وكيف يكون مذموم المساعي ... فتى ينميه قطبُ رحى الكرام أدام الله طود علاه فينا ... وصانك يا هلالُ إلى التمام وقد كتب رضي الله عنه في علم النحو حاشية على شرح الفاكهي لقطر ابن هشام، ترزي مباحثها بحسن الابتسام، في ثغور الأيام، وقد سلك فيها أغواراً دقيقة، وأبدع فيها تحقيقه، مع سهولة مأخذها الذي سهل به صعاب المسائل أي تسهيل، وأغنى بالتصريح فيها عن ارتكاب التأويل، فكان بها كشاف أسرار العربية، ورافع أستار المشكلات النحوية، تدل بما أودع فيها على ماله في العلوم من اليد الطولى، والغايات التي نال إليها وصولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وشرح أيضاً الخزرجية في علم العروض، شرحاً قام لذلك بالقدر المفروض، فكان شرحاً وجيزاً بسيطاً، بجميع شروح الفن محيطاً، مع سهولة تقرير، ولطافة تحرير. وأما نظمه لمتن ابن آجروم النحوي فهو وغن جمع جميع ما احتوى عليه الأصل من المسائل، وسهل حفظها لكل طالب وسائل، غير أنه فيما أظن من مبادئ نظامه، كما لا يخفى على مطالع كلامه، وإلا فإنه كان آية الله في حسن الإنشاء، يتصرف في النظم والنثر كيف يشا، قد أبدع الآداب، وسبق في حلبتها على الشعراء والكتاب، وشعره أدل دليل على قوة عارضته، التي توقف فرسان اليراعة دون الوصول إلى معارضته. وقد تحلت ترجمته هنا بعض ببعض ما له من البدائع، المزرية بالكواعب الروائع، التي أخصب بها ربع الأدب، وتجملت بخيرنها صفحات حدود الكتب، وحسبه ما خلده بجمع ولده في ديوان الخطب، الذي يبلغ البليغ به إلى غاية الأرب. وأما شعره الرائق، ونظامه الفائق، فأحسب أني أول من تصدى لجمعه في كتابي مجمع الدواوين التونسية، فأحصيت منه نحو خمسة كراريس تزري بالحلل السندسية، حوت نحو الألفين من أبياته الفاخرة، التي طمت بها تلك البحور الزاخرة، وهو مبلغ يصلح لأن ينفرد به ديوان شعره، الفائق في سعره، وفي ضمنه من محاضراته ما ترتاح له النفوس، ويقول مطالعه لا عطر بعد عروس. فمن محاضراته أنه اجتمع في بعض الليالي بشاعر بلد سليمان العالم الشيخ محمد ماضور الأندلسي في بيت صديقه الكاتب محمد المسعودي واتفق في مسامرة تلك الليلية أن أدار القهوة على ذلك الجمع، وسيم لطيف الصنع، وحين دخوله يحمل فناجينها بأنامله، وطلوعه عليهم ببدر أشرق فيه بكامله، أصاب شمعة المجلس الموقودة، فانحنت انحناء من يروم سجوده، إذ رأت منه شمعة الجيد التي لا تقط، ولا تطفأ قط، وأنشد الشيخ محمد ماضور في وصف الحال من لطائف المسامرات فقال: [الرمل] ليلةٌ قد عظمت بين الليالْ ... فهي في جيد المنى عقد الآلْ وأرتنا عجباً إذ جمعت ... بين شمس ثم بدر وهلالْ سعدت إذ أنزلتنا منزل المس ... عودي الشهم المفدى ذي الكمال وبإبرهيم أبدت منظراً ... هام فيه القلب إذ عز المثال فارتياحي بالرياحيَّ غدا ... وكذاك السعد بالمسعود (ي) طالْ ليلة جد بنا الأنسُ بها ... طرباً بين يمين وشمالْ وأديرت قهوة البنَّ على ... جمعنا يسعى بها بدرُ الكمال فانحنى الشمع منيباً ساجداً ... سجدة الشكر لهاتيك الخلال فهو والقهوة والفنجانُ في ... كفه يبدي غريباً في المثال قمراً قد عصرَ اللّيل على ... صفحةِ الفجرِ ف مَّتْ باحتفال مزج الحلوَ بمرَّ فكأنْ ... قد أرانا القرب والبعد المطال يا لها من ليلة قد جمعتْ ... كل أنسٍ وبهاءٍ وكمال وأنشد الشيخ إبراهيم الرياحي في ذلك من شعره قوله: [الطويل] تلقيت من أخباركم كلَّ طرفة ... أنظَّمها في جيد أسمارنا عقدا وكنتُ بتشنيف المسامع أكتفي ... واكبر بشاراً بما قاله جهدا ولما نما شوقي وزاد تولهي ... سريت لكم ليلاً أبثكمُ وجدا وما كان لي هاد سوى نور حسنكم ... إليكم، فلم أعدم بقولكمُ رشدا وحيث إلى المسعود (ي) كان انتهاؤنا ... زجرت فكان الزجر يستنتج السعدا فبت وما ليلي سوى لمح بارق ... وإن طال من دهري تنفسه الصعدا ومن لطائفه أنه استجار به العدل الشيخ منصور الورغمي في لبس الملوسة حين ألزمها الأمير حسين باشا باي لكافة العدول على نظر الشيخ محمد بيرم الثالث وكان دميماً، فاستهجن لبسها وخاف أن يتعاطاه الناس بسببها، فكتب الشيخ في ذلك إلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث مستشفعاً بقوله: [الكامل] كبرت عليهم إنها لكبيرة ... منصوبة علما على التمييزِ فتفرقوا أيدي سبا في فضلها ... والخلف بين الناس غير عزيز فعلى فريق منهم هي مثلةٌ ... ولبعضهم زلفى إلى التبريز أما "بنو ورغمة" ففقيههم ... لهم يجر مذهبه على التجويز فلذاك رام حماك علماً أن من ... يأتيه في حرز هناك حريز فأجره من همزٍ ومن لمزٍ بها ... ما حالة المهموز والملموز لا زلتم كهفاً يلاذ بعزَّه ... فينال فوق القصد كل عزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقد أجابه عن ذلك شيخ الإسلام المذكور بقوله: يا أيها العلمُ الذي حسناته ... شرفتْ بطلعتها على الإبريز وجَّهت لي درراً يقرُّ بحسنها ... أهلُ الصياغة من أولي التبريز فعرفت مطلبها، ونيل مرامها ... سهل يمين الله غير عزيز فعليه تأخير العمامة برهةً ... حتى يكون القولُ في التمييز ثم إن شيخ الإسلام المذكور اطلع المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي باردو يومئذ على الطلب والجواب، واستجلى منه في النازلة عين الصواب، فكتب إليه بقوله: [الكامل] قل للفقيه المستجاه بجاههِ ... في رفعِ نصب حقَّ للتمييز إنّ النحاة الَّنصب أوجبوا ... في بابه وأبوا من التجويز واستهجن الدؤلي لحناً ساقه ... نقلاً من الأمثال للتبريز وكذا، العموم إذا تخصص بعضه ... ضعت دلالته بنصَّ الجيز والظن فيمن يستجرك أنه ... منصور دمت تفوق كالإبريز واتفق أن شاع خبر فناء الخلق في هذا القرن ونسبه أهل الأهواء إلى العالم الرباني، الأستاذ المربي الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه مع أن ذلك مما ينبو عنه مقام أدبه وسلوكه في الشريعة التي صينت من كل نقص، وكملها الله على يد خير خلقه بمحكم النص، وقد جاء في الآيات المتلوة في القرآن الذي أتم الله إبداعه، "وعنده علم الساعة" وهكذا الاعتقاد فيه وفي كل من ماثله لا يجري واحد منهم في جميع الأقوال والعمال، إلا على ما وردت به شريعة خاتم الإرسال، ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ مما ينقل عنهم غير ما جرى على سنن الشرع القويم، إذ ذلك دليل صحة نسبته إليهم في حالة الصحو بالنظر لمقامهم العظيم، فهم أحفظ الناس لسياج الشريعة التي جمعت ما كان ويكون، ولا يتمسك بسواها إلا الجاهلون، وعند شيوغ ذلك الخبر سنة 1241 كتب الشيخ محمد بيرم الرابع يسأله عن صحة ذلك بقوله: [الطويل] أيا من رقى أوج المعالي وقد غدت ... إليه مقاليدُ العلوم تسلَّمُ لقد ظهرت رؤيا لها نسبةٌ إلى ... إمام له بين الأنام تقدُّمُ همام على دست المعالي وقد علا ... مراتبهُ من موقع النجم أعظم ملخَّصها أن الأنام جميعهم ... لذا القرن تفنى دون ريبٍ وتعدم أهل هو مما صحّ عندك نقله ... عن الشيخ أم للمين فيه توسم؟ أجبنا رعاك الله عن كنه أمرها ... فأنت لها من غيرك اليوم أعلمُ لأنك ممن خاض لجَّةَ بحرها ... وأضحى بتحقيق لها يترنَّم بقيت لنا كهفاً وللحق ناصراً ... وللصعب من دأب البغاية تحسمُ ويطلب رب النظم حسن دعائكم ... ألا وهو الداعي "محمد بيرم" فأجابه الشيخ إبراهيم الرياحي مكذباً ذلك بقوله: أيا من سبى الألباب لطف كلامه ... كما أنه في الأذكياء المقدَّم أتتني منْ سحر البيان قصيدةٌ ... وما هي عقدُ درذًَ منظمُ تسائل عما شاع في الناس ذكرهُ ... أهل لهُ أصلٌ في الثبوت مسلم؟ نعم هو ريبٌ دون مكين وما له ... ثبوتُ وأمرُ الشيخ أعلى وأعظم جزى الله خزياً مفتريه وذلةً ... ومأواه إن لم يعف عنه جهنم فهذا جواب للذي هو طالبٌ ... حقيقة هذا الأمر والله أعلم ويسأل إبراهيم من فضل ربه ... لك الأمن في الدارين وهم يسَّلم وكانت له معرفة بأسرار تليق بمثله من العلماء الأخيار، قدم غليه أحد الأفاضل وقد أضغطه غريمه، واشتكى إليه ما يلاقي من شر الأفتضاح، فأذن له بذكر اسم من أسماء الله تعالى في خلوة، وانه عند نهاية الذكر يجد مقدار دينه تحت بساطه، فوجده قطعاً غير مسكوكة، ولما أعلم الشيخ سأله عن كيفية ذكره، فوجد فيه خللاً وأذن له في تداركه، فتم له المراد، ونهاه عن العود لمثل ذلك. وأتته امرأة تشكو إصابة ولدها بالجنون، وتلظت لديه، فأسعفها ببطاقة تبلغها إلى ضريح الشيخ فتح الله العجمي، ولعلها تتضمن توسلات له، فعوفي ولدها بعد حين، وذلك من أدلة حسن اتصال علاقته بأولياء الله رضي الله عنهم أجمعين. وكانت له سانية في سفح جبل المنار تحت زاوية الشيخ الظريف رضي الله عنه يسكنها مدة المصيف، فاتخذ منها مسكاً للزيارة ليلاً، وقد نقل لي عن صهره أنه سمع له حديثاً عند الضريح، يدل على ما له من الود الصريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أما وصلته مع العارف بالله العالم المربي الشيخ مصطفى بن عزوز النفطي أستاذ الطريقة الرحمانية، رضى الله عنه فكان يتجاذب معه أطراف الأسرار الربانية، وله فيه مدائح شعرية، ومكاتيب نثرية، وقفت على بعضها، وهي تدل على كمال تعلقه بأهل الله في كل ما يرجوه، وغنما يعرف الفضل من الناس ذووه، ومن لطائفها أبيات جعلها في طالعة جواب له مؤرخ بسنة خمس وستين ومائتين وألف وهي قوله: [الكامل] جاء الكتاب من الحبيب مبشرَّاً ... بقدومه يا مرحباً يا مرحيا قد رد لي عهدَ المسرة مثل ما ... بقميص يوسفَ ردَّ ما قد أذهبا أهدي إليك تحيةً مسكيةً ... يا مصطفى يا منتقى يا مجتبى مستودعاً منك الدعاء وأنت في ... حالٍ تراها للإجابة أقربا ورأيت من مكاتبتهما كتاباً سرباً بخط الشيخ إبراهيم الرياحي يخاطب به الشيخ المذكور آثرت إثباته لما فيه من الإلماع بحال كل منهما وهذا نصه: الحمد لله والصلاة على من صلى عليه الرحمن. يا ليت سيدنا وحبيب الله ورسوله صرح لنا بما أشار به إلينا مرتين من قرب الأجل، المرة الأولى ونحن معك على البنك في محل الحكم والصلاة في دريبتنا من قولك لي: رأيتك كأنك مت ولم توجد وأن روحك كالذبابة، والمرة الثانية ما ذكرت لنا في جوابك المبرور من قولك: إن الجنة مشتاقة إليك، ولولا ما خفت أن يعثر على جوابي غيرك لكتبت لك كلاماً آخر فيا ليت سيدنا رضى اله عنك رحمتني بالتصريح بما تريد أن تصرح لي به، فلعل في ذلك تحريضاً على ترك المهلة، وبعثاً على التشمير لدار النقلة، أو غير ذلك مما يوجب الإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فإن المواعظ والنصائح إذا خرجت من أهلها كانت كالسهام لا تخطئ، هذا وما بشرتنا به من الحشر مع أولئك السادات أسأل الله أن لا يخيبنا ولا يدر كرمك فينا وإلا فالعبد الذليل لا تحدثه نفسه بما هو أدنى من ذلك، فضلاً عن الكون مع أولئك، بل الإنسان على نفسه بصيرة، وليست لنا طماعية في ذلك الشأن، إنما لنا طماعية في الغفران. وإذا كان خليل الرحمن يقول: "والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين" فأين جاء طمع مثلي، فإنا لله وغنما غليه راجعون، نعم سيدي وقد غمني غماً عظيماً إرسالك لي السبولة العطرية. وقد كنت أخبرتك بأن التعويض عما أرسلت إليك من الأمور المكروهة غاية عندي حتى أستعزت من ذلك، وقصدت بذلك أن لا تهتم معي في مثل ذلك، فخالفتني في التعويض وإن وافقتني في تفضلك علي بالدعاء جزاك الله جزاء المحسنين، هذا ومما يغمني أيضاً ويثقل علي وصفك لي بأوصاف حميدة أكثرها ما في عبدك إلا ضدها، فلو إنك إذا خاطبتني خاطبتني بما يناسب حالي لسررت بذلك، ولكنك رأيت كمالك في عبدك فنسبت ذلك إليه، كما إذا ارتسمت صورة جميلة في صفحة مرآة فلما رأى المرآة إنسان طهر له جمال المرآة وإنما الجمال للصورة التي انتقشت في المرآة، نعم سيدي ولا تنسني من دعائك، في وقت هجوم حالك، وطيب أجتناء الشهد من خمر وصالك، وسلم لنا على أولادك وتلامذتك وعامة المنتمين إلى شريف خدمتك وطريقك. من الودود ومن أولادنا الطيب وعلي وسائر من هو منا وإلينا، والحمد لله رب العالمين، من الفقير إلى ربه، المشفق من سوء كسبه، إبراهيم بن عبد القادر الرياحي". [ترجمة محمد الطيب الرياحي] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وقد امتحن في آخر أمره بفقد ولده الأكبر الشيخ محمد الطيب، وكانت ولادته سنة ست وعشرين ومائتين وألف، فنشأ بين يدي والده وقرأ معقول العلوم ومنقولها عليه، وعلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث وغيرهما، وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، وقد كتب في أثناء إقرائه حواشي على شرح المحلي لجمع الجوامع الأصولي، وحواشي على شرح الأشموني لأفية ابن مالك، تدل على رسوخ قدمه، واتقاد ذكائه، وتقدم غماماً وخطيباً بجامع أبي محمد الحفصي وخطب فيه بعض من إنشائه، وهو محقق، أديب، شاعر، ناثر، يقذف الشعر من أبحر اللطافة، وينتجب النثر من أزاهر الظرافة، كأنما أودع في إنشاءاته، محاسن أخلاقه وبدائع توشياته، وقد جمعت منه شذوراً في كتابي مجمع الدواوين، تدل على تقدمه في الآداب على الأندلسيين، وكان عالماً حيياً جميل السمت عالي الهمة ظريف المحيا لطيف المحاضرة، وقد عذبت منه في العلم جميع موارده، وعاد عليه فخر نشأته في رياض فضل والده، إلى أن أدركته المنية بين يدي والده في غرة ربيع الثاني سنة ست وستين ومائتين وألف بمرض الكوليرة العام، ودفنه والده بالبيت الذي على يسار الداخل لبيت الذكر من زاويته التي أسهها قرب حوانيت عاشور، وتلقى مصيبة فقده بغاية الصبر. أخبرني العالم المفتي الشيخ أحمد كريم أنه كان يحضر درس الموطأ على الشيخ بداره، فكان آخر عهده به في الدرس أنه لما أنهى القراءة وأراد التلامذة أن يقوموا أجلسهم وقال لولده المذكور وكان مدون الدرس هل رأيت شيئاً فيما يتعلق بالموت الفجائي؟ فقال له: رأيت أن رسول الله اصلى الله عليه وسلم استعاذ منه، فقال له الشيخ: قد اطلعت ولا أدري في أي كتاب على أنها ميتة حسنة وكررها وسكت، ثم نهض الجميع فلم تمض غير أيام قليلة وأصيب ولده المذكور بالمرض العام ومات، عليه رحمة الله. وقد كاتبه المشير أحمد باشا باي في التعزية به فأجابه بأوجز مكتوب قال فيه بعد المفاتحة. "أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم، المسلي عن النبأ العظيم، وقد أسلمنا طيب الولد إلى اله بقلب سليم، وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، والسلام. ولم يستكمل الشيخ بعد ولده الستة الأشهر حتى طوته الليالي طي السجل وأتاه محتوم الجل، بعد أن تجاوز في العمر الثمانين سنة. وكان آدم بسمرة يعلوه أصفرار، رقيق البشرة، أحجب بقصر أبلج أشهل بضيق غاير، شم بانفراج، أسيلاً ما، قصير اللحية، يتخلل شبيه خيال من بقايا الشباب، ربعة لقصر، تلوح على وجههه سيماء الصالحين، قضى عمره في العلم والعمل لله رب العالمين. [وفاة الشيخ إبراهيم الرياحي] وتوفي بمرض الكوليرة العام يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف، من الغد حضر مشهد جنازته الأمير والمأمور، وتبرك بتشييعه الجمهور، ودفن إلى جنب ولده السابق الذكر بالمقام المذكور، ضاعف الله لهما الأجور، وحباهما الفوز الكبر يوم البعث النشور. وكانت وفاته رضي الله عنه من آخر العهد بالمرض العام وإلى ذلك أشار تلميذه ومجاوره في المدفن الشاعر الكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي في رثائه بقوله: [الوافر] أرى بحر الخطوب طما وأصمى ... وأصلى غالب الأكباد جمرا فلما استعظموه اغتال فرداً ... يقوم برزء كلَّهم ومرَّا أما في فقد إبراهيم خطب ... يعمَّ جميع أهل الأرض طرا [الشيخ علي الرياحي] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقد عظمت مصيبة فقده على سائر أهل الدين، وتلقاها ولده الثاني الشيخ أبو الحسن علي بالرجوع لله رب العالمين، وكان الولد المذكور أيضاً عالماً زكياً، أديباً بديع المحاضرة، محباً لأعالي الأمور، ينظم الشعر الرقيق، ويطلق من رياض إنشائه أطيب عبيق، ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ في خدمة العلم بين يدي والده، وتقدم مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى بعد وفاة العالم الشريف الشيخ محمد بن عاشور في صفر الخير سنة خمس وستين، وتقدم خطيباً بجامع سيدي يحيى قرب دار ابن عسال، وتوفي قبل عصر يوم الجمعة الثالث عشر من المحرم الحرام سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن بالركن الثاني من بيت مدفن والده فاجتمع بالبيت المذكور ثلاثتهم، رضي الله عنهم أجمعين. وقد أقيمت تلك الزاوية بالأحزاب والأوراد اليومية وشيد بناءها المشير الثاني محمد باشا باي لإقامة الأوراد التجانية، بذكر الله تعالى، ثم إن الوزير الأكبر خير الدين ثاني وزراء دولة المشير الثالث محمد الصادق باشا باي أراد إحياء صناعة النقش حديدة فآثر لذلك قبة الزاوية المذكورة، سيما وقد كانت إذ ذاك محتاجة إلى بعض تدارك فأتقن تشييدها بحضور بعض عملة نقش حديدة من المغرب، ونقشت قبة الزاوية نقشاً بلغ من الجودة والإتقان ما يحار فيه الناظر على مصروف الدولة، وعند إتمامها على الوجه الأبدع طلب مني ثالث أبناء الشيخ مقدم الطريقة التجانية بها يومئذ أن تؤرخ هذا الصنع فأجبته لذلك، وأرختها بقولي: [الكامل] لمقام إبراهيم فادخلْ آمنا ... تجلو به فضلاً عظيماً كامنا واخلع حجابك بالتجرّد للذي ... سوَّاك من طين وردَّك كائنا واخلص إليه من المناجاة الرجا ... وأركب بعزمك وابتهالك صافنا ومتى وصلت حمى الرياحي فخرتو ... نس فأنزلنه فلست تخشى الآحنا والبس به من تاج تجّضان حلى ... واحمد بأحمدها السري مواطنا وانهج له في الأرض خير طريقةً ... لله تلفه في القيامة ضامنا ورد الزلال بورده العذب الذي ... أروى وأجرى خالصاً لا آسنا واقنت لربك عاكفاً متبتلاً ... في خير زاوية لحفظ دعائنا واشكر مشيدَ بنائها ومعيدها ... فيها من النقش المجيد محاسنا ذاك المشير الصادق الباشا الذي ... لله دان فنال منهُ مآمنا وأقامَ خيرَ مآثرٍ له فضلها ... بين البرية قاطناً أو ظاعنا وأجلها هذا المحل وإنه ... لأعز كنز قد أعاد معادنا فبه انجلى أمنٌ ويمنٌ ظاهرٌ ... فاسأل إلهك في تلف ميامنا فهو الذي لمؤرخيه جوابه: ... لمقام إبراهيم فادخل آمنا الشيخ محمود محسن هو الشيخ أبو الثنا محمود بن علي بن احمد بن محسن بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا، شيخ العلم والعمل رضي الله عنهم أجمعين، وهلم جرا، إلى استيفاء سلسة هؤلاء الأشراف بالوصول إلى جدهم سيد الأولين والآخرين، عليه وعلى آله أفضل صلاة المصلين، وأزكى سلام المسلمين، فيا لها من سلسة فاخرة، كانت مجمع بحور الفضائل الزاخرة، وقد توسل بجواهرها الثمينة كثير من أهل الشأن، ونظموها في عقود الجمان، وقد اختص منها آباء هذا الإمام إلى الوصول إلى سيد الأنام، الشاعر الأكتب الشيخ محمد التطاوني فقال: [الطويل] أما آن أن تستبدل الغيَّ بالرُّشد ... وتثني عنان الهزل منك إلى الجدَّ إلى م التواني والأماني شرابها ... سراب تبدّى فوق رابيةٍ صلد فبادر ولا ترج الأمور إلى غد ... فربَّ غدٍ يأتي بما ليس في العدَّ وسابق إلى سبل السعادة والهدى ... وشمَّرْ لإجراز العلى ذيلَ مشتدّض وكن واثقاً بالنجح في كل مبتغى ... مؤملهُ في فضل من جلَّ عن ندَّ ولا سيما إن رمته بشفاعة ... من آل نبي خصّ في الذكر بالحمدِ خصوصاً ذوي الإحسان من آل محسن ... كرام السجايا كم يد لهم عندي إليك بهم يا ربّض قد جئت ضارعاً ... بحقّضهمُ لا تخجلنَّي من الطرد فمحمود الأرضى ووالده الرضا ... عليٌّ أبوه أحمدٌ نَّيرُ المجدِ ووالده المحمود وهو محمد ... سليلٌ لمحسن بن أحمد ذي الرفد وذا حسنٌ يدعى أبوه، وجدّه ... عليٌّ وفوز الابن بالأب والجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وب "الحسن" الأسمى أبيه ابن احمد ... سليل الذي لازلت فضله أستجدي أبي القاسم الميمون نجلِ محمدِ ... هو ابن قريش نجل عيس أخي الزهد وهو ابن عبد بالعبادة قد غدا ... مضافاً إلى الرحمن أكرم بذا العبد ومن خلف المدعو بابن علي الشَّ ... هير اقتبس نور الهداية والرشد ومن فرج المدعو بابن علي ال ... جليل التمسْ تفريج كربك عن حد وسل بأبيه القرم وهو محمد ... مرداك كي تحظى به دون ما ردَّ ولا تعدُ إسماعيل والده الذي ... أبوه يسمى جعفر الصادق الوعد وبالباقر الأتقى أبيه محمد ال ... همام الذي حاز السيادة في المهد وهو ابن زين العابدين علي ال ... إمام الزكي الأصل ذي السؤدد العدَّ سليل حسينٍ نجل فاطمة التي ... هي الزهرة الزهراءُ أمّ ذوي ودَّ أبوه علي وهو صنو نبيَّنا ... عليه صلاة الله تترى بلا حد بجدَّهمُ اللهم يا خالق الورى ... ويا ملجأ المضطر يا وجهةَ القصد أنلني رضاكم يوم لا شيء غيره ... يقربني زلفى إلى جنة الخلد ويا رب فاشهد أنني قد أحبُّهم ... لحبك إياهم وذا ما لهم عندي وأستنزلُ الرضوان منك عليهم ... لترضيهم عني وذا منتهى جهدي وصلَّ وسلَّمْ ثم بارك على الذي ... أتى رحمةً للعالمين بلا جحد فقد توارث صاحب الترجمة مفاخر عن أبيه وجده، فبلغ بها من الفضل غاية حده، وله في غمامة الجامع من سلسة سلف، أخرجه إليها إخراج الدر من الصدف. [الشيخ علي محسن] فقد كان المنعم والده الشيخ أبو الحسن (علي محسن) إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة على عهد البكريين بفضله وحسن تلاوته، وكان معظماً عند الخاصة والعامة علماً وديانة، إلى أن توفي في السادس والعشرين من ذي العقدة الحرام سنة 1209 تسع ومائتين وألف. وكانت ولادة صاحب الترجمة سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف، فتربى في حجر عناية والده، وقرأ القرآن العظيم على الفاضل الشيخ حسن بن عمر، يروى أن مؤدبه المذكور انتهره في بعض الأيام لأجل القراءة، فلم يتحمل ذلك لعزة نفسه، وأخذته الغصة ولازمة البكاء من ذلك الوقت إلى أن رجع إلى داره عند الزوال، واستمر عليه ذلك في قيلولة ذلك اليوم، ولما نام مؤدبه في داره رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه واضعاً ولده المذكور في حجرة وهو يأمر مؤدبه باسترضائه، فقام من نومه فزعاً وخرج من حينه، واشترى فواكه مما يرضي الصبيان، وجاءه إلى داره فوجده باكياً، فانكب عليه واخذ يقبل يده ويعطيه الفواكه، ويسترضيه إلى أن سكن جزعه، وقص رؤياه على والده، رضي الله عنهم أجمعين. ثم بعد قراءته القرآن العظيم توجه إلى قراءة العلم الشريف فقرأ على ابني عمه الإمامين الشيخ حسن الشريف، وأخيه الشيخ محمد الشريف، والشيخ الطاهر ابن مسعود، وقرأ على غير هؤلاء، وتصدى للإشهاد فعد من ثقات العدول. ولما توفي شيخه الشيخ الطاهر بن مسعود خليفة الجامع وقدم الأمير محمود باي الشيخ "عمر بن المؤدب" للخلافة تقدم صاحب الترجمة للنيابة إماماً ثالثاً في ربيع الثاني سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وكان الإمام الأكبر يومئذ ابن عمه الشيخ حسن الشريف، فاستمر إماماً ثالثاً زينة لجامع الزيتونة، وأولاده شهادة الحرمين، وهي يومئذ من الخطط النبيهة الشأن، فقام بحقوقها، ولازم المعاينة بنفسه، ولما علم الأمير بذلك أهدى إليه فرساً اعتناءً بشأنه، واستمر مباشراً للإشهاد والإمامة إلى أن توفي الخليفة المذكور، فقدم الأمير ولده "الشيخ الشاذلي" نائباً، وقدم صاحب الترجمة إلى الخلافة، كما هو مقتضى الاستحقاق، فتقدم خليفة لابن عمه الشيخ محمد الشريف سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف، فعمر الجامع بمواظبته وإقامة الصلوات في أول أوقاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولما تنقل الشيخ الشاذلي المذكور إلى خطة الفتيا أبي المشي خلفه اعتماداً على خطة الإفتاء، وعظم الخلاف بين الخليفة ونائبه بسبب ذلك، فبلغ أمرهما إلى الأمير مصطفى باشا، فأرسل قاضيه وكاتب سره للمصالحة بينهما مع المحافظة على ترتيب الجامع في تقديم الخليفة على الإمام الثالث وحسنت العلاقة بينهما، واستمرا على ذلك إلى أن توفي الإمام الأكبر الشريف فرأى المشير الأول احمد باشا تعين تقديم عالم العصر الشيخ إبراهيم الرياحي إلى إمامة الجامع، ولم يأنف من ذلك صاحب الترجمة لحسن إنصافه وعلمه بكمال رتبة الشيخ إبراهيم، بل إن ذلك لم يزدهما إلا تآلفاً، وكثيراً ما يقدمه الشيخ إبراهيم على نفسه ويرغب مع ذلك نائبه الشيخ الشاذلي في صفر الخير سنة 1263 ثلاث وستين تقدم الشيخ "محمد البنا" نائباً عن الخليفة المذكور، ثم لما توفي الشيخ إبراهيم الرياحي قدمه المشير الأول أحمد باشا إلى الإمامة الكبرى في التاسع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف وأولى خليفته الشيخ أبا عبد الله محمد البنا، وقدم للنيابة شيخ الختمة العالم المجود "الشيخ احمد القروي" بعد أن كان كثير النيابة عمن قبله عند عروض الأعذار، وكان في الثلاثة الأشهر المعظمة يجلس على الختمة لتجويد القرآن بعد صلاة الظهر، وبعد الفراغ يحضر مجلس الأيمة لرواية الشفا، وأقام الصبح والعشاءين مدة مديدة من قبل ولايته النيابة بإذن من الأمير. وقام هذا الإمام الشريف بخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة احسن قيام، وكان معتقداً للخاص والعام، فاضلاً كريماً، عزيز النفس، عالي الهمة، مهاباً معظماً، غيوراً، أولاه المشير الثاني محمد باشا وكالة زاوية السيد أبي زمعة الصحابي بالقيروان، فحاسب من كان قبله وأنتخت المحاسبة نيفاً وسبعين ألفاً، أستأذن فيها الأمير، فامتنع الأمير من التداخل فيها وفوض أمرها إليه يفعل بها ما شاء من أكلها، والتصدق بها، أو ما يظهر له، فبادر واشترى بجميعها زياتين بمرناق ودياراً بتونس، وأوقفها على الزاوية، ولما جمع المشير الثالث الزاوية على لسان الأمير، فأنكر ذلك وتغير له، وقال له: إنه إذا عزلني عن الزاوية المذكورة فإني (نخرج من البلد) وبمجرد بلوغ خبر ذلك للأمير أرسل إليه مع لسان الدولة يعلمه بان المحتسب المذكور أتاه من قبل نفسه لا بإذن، وأنه كيف يعزل شيخه الذي أخذ عنه الطريقة التجانية، وغنما يرجو رضاه، وعند ذلك سكن غضب الشيخ ودعا للأمير بخير، ومن الغد قدم إليه لسان الدولة المذكور بسبحة من عنبر وثلاثة آلاف ريال، وأمر في تمليكه هنشير الديوان قرب مرناق جلباً لخاطره، نال منه بذلك الدعاء الجميل، أدركته رضى الله عنه على هرمه لا يتخلف عن الرواية في الشهر الثلاثة مع ضعف بصره، وكان مع ذلك ينسخ صحيح البخاري بخط يده بأحرف كبيرة تساعده على القراءة، ويصلي الظهر والعصر، ويخطب في الجمعة والعيدين والناس يتبركون بأذياله إلى أن عجز، فصار إنما يحضر الجامع بحسب مقدرته، وهو الذي جعل لسائر أبواب بيت الصلاة مراتج من بلور وقاية من الريح والبرد فأحسن بذلك للمصلين والمدرسين. ومن ورعه نعمه الله انه لما ورد ماء زغوان إلى الحاضرة ومروا به على ميضاة الجامع بعد أن ادخل إلى بعض ميضاوات غيره من الجوامع امتنع الشيخ من إدخاله إلى ميضاة الجامع كما يذكر فيه من الشبهة نظراً لاستحقاق أهل البلد الذي فيه منبع الماء. وقد كان له ثلاثة أبناء وهم الشيخ (الطاهر) والشيخ (مصطفى) والشيخ (عبد الرحمن) توفي أولهم أولاً وتلقى الشيخ مصيبته بالصبر وتوفي ثانيهم ليلة الثلاثاء الثالث من ذي العقدة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وصبر لذلك أيضاً غير أنهما خلفا له محمدين حفيدين له، رضي الله عنهم أجمعين. ثم توالى عليه الهرم والمرض واشتاق إلى لقاء الرحمن، فأدركته المنية وله من العمر سبع وثمانون سنة وتوفي عشية الجمعة السادس عشر من رمضان المعظم سنة أربع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الأمير والمأمور بحضور جنازته وصلى عليه الشيخ (علي العفيف) أمام باب البهور بجامع الزيتونة بوصايته عليه رحمة الله وقد رثاه الأكتب الشيخ المختار شويخة بقوله: [البسيط] ورد المنايا على الأيام مورودُ ... وشربها المضّ بين الخلق مقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 سّيان منْ عزَّ أو هانت معاقله ... لا يفتدى والدٌ منها ومولود تلك الليالي وغن جادت بما وعدت ... غطاؤها منك مسلوبٌ ومردود ألا لعاً للأماني فهي مرحبة ... ولا لعاً لليالي فهي تنكيد لا يفتدي امرأً ذا عزة أسفٌ ... إنّ المجد بريب الدهر مجدود لا تنقع الظامئ المصدور موجعة ... أو ينجع الفاقد المحزون مفقود أظلَّ ذا الوجد من ذا الخطب مغتبطاً ... في الحي يرتاد طلقاً وهو مردود سلِ المنايا لمن ولت عزائمها ... وسددت سهمها؟ لا كان تسديد بالفاضل المحسن الحمود قد نشبت ... أظفارها فتولت وهو منجود من الألى فرض الرحمن حبَّهمُ ... فودهم لأمان الأرض إقليد شمٌّ معاطسهم زهرٌ مكارمهم ... والكل يصحبهم عزٌّ وتمجيد فطب حديثاً وقل ما شئت من كرم ... فكل فضلٍ لأهل البيت مشهود قد كان غيثاً هطولاً في فضائله ... ترى مزاياه عقداً وهو منضود ثنيتين من بعد خمسين سمت حججاً ... يؤمُّ وهو على الإجلال موطود يسدد القول عن أغراض موعظة ... لانت لموقعها الصمُّ الجلاميدُ ففي المنابر نحبُ الآسفين وفي ... صدر المجالس تأويهٌ وتصعيدُ فلتغمضنَّ جفون المجد عن أسف ... فإنه في جفون الأرض مغمود سقى لمضجعه الأسنى وعادوه ... مأواك محسنُ في الفردوس محمود الشيخ محمد محسن هو الشيخ أبو عبد اله محمد بن عل يبن احمد بن محمد بن محسن بن احمد الشريف، إمام مسجد دار الباشا، وهم جرا إلى الوصول إلى أصل الوجود صلى الله عليه وسلم ناهيك به من صفوة مشاربه، وعزت مآربه، حفيد غمام جامع الزيتونة، وقد كان والده سميه عظيم القدر جليلاً فاضلاً، يغلب عليه الصلاح، تجاوز الثمانين سنة، ولاستدعاه المشير الثاني محمد باشا في مبدأ دولته وتبرك به واخذ بيده حين وصوله إليه وشيعه حين خروجه من عنده، ونال منه الدعاء الصالح وأكرمه بمال عظيم، ثم اشترى له داراً كانت جوار داره بما أرضى صاحبها، وتوفي بعد دولة المشير المذكور، وأعقب فحلين من أولياء الله وهما: الشيخ أبو الحسن علي وأخوه صاحب الترجمة. الشيخ علي محسن أما الأول فقد ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف في فضل بيته وقرأ القرآن إلى أن وعاه حفظاً، وقرأ العلم الشريف بجامع الزيتونة على الشيخ علي العفيف، والشيخ محمد النيفر الأكبر، ثم سلك طريق أهل الله، وأخذه الجذب وكان في حدود الخمس والخمسين بعد المائتين والألف يحضر جامع الزيتونة، وينكر على المصلين السعال، وربما ضرب من أخذه السعال، فأمسكه عمه إمام جامع الزيتونة الأكبر في الدار، وقيده يوم السبت وكانت والدته تخرج في الليل فتجده يدور في وسط الدار، أو انه يتوضأ حتى إذا جاء النهار أصبح في قيده. وفي ليلة الثلاثاء حضر لدار عمه ثلاثة أشخاص وقرعوا عليه الباب وطلبوا مقابلته في ذلك الوقت، فخرج إليهم فطلبوا من فك قيد ابن أخيه وأعلموه انه سيلازم الدار من يوم الجمعة القابل إلى أن يستكمل أربعاً وثلاثين سنة يكون فيها قطباً بأراضي السودان، ثم يخرج ويحسن سلوكه ويلازم جامع الزيتونة، وعند ذلك أرسل عمه في الحين بفك قيده، وكان الأمر كما ذكروا، فإنه لازم داره، التي قرب الجامع الحسيني، وتعاطى هدمها إلى أن خرج منها أهله، واستمر في هدم الديار المجاورة لها، وكان كلما وصل إلى دار أرسل الأمير إلى صاحبها ودفع له ثمنها وتركها له، إلى أن عظم البراح الذي أقام فيه، وقد أدركته وهو غنما يظهر من السطوح أحياناً أو انه يخرج التراب من كوة فتحها إلى أن استكمل أمده، فخرج في أواخر عام تسعة وثمانين ولازم التردد بين داره والجامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ولما توفي ولي الله الشريف الشيخ سيدي محمد الصوردي يوم عاشوراء من المحرم الحرام عام تسعين ومائتين وألف، انتشر الشيخ بعد ذلك في الترداد على كثير من جهات البلاد، ثم لازم جامع الزيتونة مدة، واكثر جلوسه ومبيته فوق دانة سيدي منصور، وتارة يبيت بمقصورة سوق القماش، وهو على أكمل حالة الزهد في الدنيا، يلبس جبة من صوف ويتردى برداء، وعلى رأسه خرقة من الصوف وفي رجله بشمق، وتارة لا نعل في رجله، وهو مع ذلك من اعظم خلق الله هيبة وكمالاً، مع غاية الأدب والتفاني في الله، وقد نقل عن بعض أهل الله انه ولي غوثاً بعد القطبانية، وكراماته رضى الله عنه كفلق الصبح، ولم يزل أمر سلوكه وصحوه في تقدم وازدياد إلى أن أدركته المنية عن حال صحة آخر ليلة الثلاثاء العاشر من ربيع الأول سنة 1298 ثمان وتسعين ومائتين وألف، وتوفي على جرد حصير متوسداً حجارة، وحسبه بذلك فخراً لزهده رضي الله عنه وأخرجت جنازته من دار حفيد عمه، وصلى عليه بجامع الزيتونة عند باب البهور، وحضر مشهد جنازته الأمير وآل بيته والوزراء وجميع العلماء وكافة الأهالي حتى أن جامع الزيتونة وجميع رحابه غصت بمن لم يعهد اجتماعهم لمن سواه، ودفن بزاويته قرب الجامع الحسيني، وقد رثيته فقلت: [الكامل] ما للمشارب صفوها لا يحسنُ ... هل فارق الدنيا عليَّ محسنُ إيهٍ لقد تاقت له الأخرى، لذا ... أخذته كي بكماله تتيمن علمت بأنه بضعة المختار ذو الأ ... سرار من قد طاب منه المعدنُ فهو الذي نادته حضرةُ قدس خا ... لقه إلى إدارك ما هو ممكن وسقاه من كأس التفاني فاحتسى ... صفو الشراب لأنَّ سكره يزمن فغدا نديماً في خدور صيانة ... ولغير من يهواه ما أن يسكن ورأى الجمال وشاهد الإجلال والإ ... قبال في قرب له مستوطن وحوى جلالاً من أجلَّ تعرّفٍ ... أبدا به فضلُ المعارف احسن لا يستفيق من الغرام ملازماً ... لتأدبٍ فيه يحار الأفطنُ يحيى الدياجي بالمناجاة التي ... أمسى بها في سره يتفنَّنُ ولذا تبدَّى معرضاً عن كل ما ... في هاته الدنيا وغن هو يحسن فالزهد فيها وصفه بين الورى ... ومتاعها أبدا عليه لهيَّنُ مع أنه ملك التصرف في القطا ... بة واغتدى بكمالها يتزين ورقى إلى غوثيةٍ يسمو بها ... في مجمعِ التصريف وهو الأمكن يجري الإله على يديه جميع ما ... في عالم الدنيا غدا يتكون والأولياء جميعهم من دونه ... وبذاك أنبا منهمُ منْ يعلن وله بذا شهدت كرامات بدت ... متكاثرات حصرها لا يمكن فخرٌ سما به من وراثة جده ... خير البرية شامه المستيقنُ فيه اقتدى بعلي أبيه وجده ... لكنه اعلاه سبقٌ أيمنُ ولكم لهم في بيتهم من سيد ... في الأولياء تراه وهو يلقَّن ولكمْ بفضلهمُ استجار ذوو الرجا ... لله في خطب فصار يهوَّن ولكم بهم في تونس الخضراء يس ... تقى الغمامُ وما تريَّثَ يدمن لله ما شرفٌ على شرفٍ سما ... شرفاً، به الأشراف طرَّا تعلنُ فليتَّعظ بمماته من قد درى ... بمقامه العالي، ففقدهُ محزنُ وليعتبرْ أهل النهى بكمال من ... قد شيَّعوه متى دعاه الموطنُ ولئن يكن دفنوه في قبر سما ... بالفخر منه ففضله لا يدفن فليعقده المستمير منادياً ... له باسمه فله الإجابة ديدن وليستغث به من يناجي ربَّه ... وليستجر به من تصبهُ الأعينُ وليتخذه وسيلة لله في ... ما قد عرا فبه التوسل أعون وليتخذ ذو النسك عنده خلوة ... فيها يرى متبتلاً لا يفتن فهو الذي خلع الإله عليه من حلل الرضا خلعاً بها يتزين وهو الذي قد نال سابغ رحمة ... عند الإله بها غدا يتمكن والله مجَّدهُ فقلت مؤرخاً: ... في مجد رحمته عليَّ محسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وأما أخوه صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1226 ست وعشرين ومائتين وألف، وحفظ القرآن العظيم حفظ تثبيت وجوده، وقرأ العلم الشريف على شيوخ كثيرين، منهم الشيخ أبو عبد الله محمد البنا، والشيخ محمد النيفر، ثم اشتغل بأحواله وتعاطى التجارة بسوق القماش وسوق العطارين الكبار مع ملازمته تلاوة القرآن ثم أنه تقدم لمشيخه أحزاب الأسبوع لجامع الزيتونة عند وفاة الشيخ الذي قبله وما توفي نائب الخليفة الإمام الثالث الشيخ أحمد القروي قدم المشير محمد الباشا صاحب الترجمة للنيابة غمامً ثالثاً، وقدم الشيخ محمد بن سليمان إماماً للتراويح وشيخاً على الختمة، وكان خليفة الجامع يومئذ هو الشيخ محمد البنا والإمام الأكبر هو عم صاحب الترجمة الشيخ محمود محسن، فقام بالنيابة احسن قيام، في كثير من العوام، ثم عند وفاة خليفة عمه قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي خليفة لعمه في أواسط المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف، وصادف ذلك هرم عمه وعجزه فقام متحملاً أعباء الخطة ولازم المحراب والمنير وقام بالخمس والجمعة إلى أن توفي عمه فقدمه المشير المذكور لخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولما توفي إمام التراويح وشيخ الختمة الشيخ محمد بن سليمان تقدم عوضه ولده الشاب الشيخ حمودة محسن، فرآه أبوه متقدماً بمحراب جامع الزيتونة، ونال مسرة ذلك، وكان عليه رحمة الله مصاباً بذات الرئة، اشتد به المرض بعد حين، ولازم الفراش في مبادئ عام تسع وثمانين حتى منعه من الحضور لعمل المولد الشريف. وكان حسن الأخلاق حسن المحاضرة، تقياً بالله، لا تأخذه في الله لومة لائم، دخل في أعضاء المجلس الكبر مدة القوانين، فظهر منه النصح للأمة والدين، وهو معقد عند العموم تجله الخاصة والعامة، اخبرني خليطه أبو عبد الله محمد بروطه أنه في صفر الخير من عام وفاته مر على دار الشيخ علي محسن فرآه فقال له: هل تأتيني بأخي؟ فأجابه لذلك، وطلب من صاحب الترجمة الذهاب إلى أخيه، وكان يومئذ يجد ألم صدره، فأحضر له كروسة، وذهباً معاً إلى الشيخ، فلما رآه الشيخ قال له: أأنت أخي؟ فقال له: نعم، فقال له: وهل بقيت دارنا التي بها شجرة الحناء؟ فقال له: نعم، فقال له: أو إن الحناء الآن موجودة؟ فقال له: غن الشجرة قد ماتت، ثم سأله عن عمه فأخبره بوفاته، فسأل عمن تركه، فأخبره بأبنائه، فطلب إحضارهم فأحضروهم له في الحين، وبارك عليهم، وأمرهم بالرجوع من حيث أتوا ثم طلب من أخيه الإمام الكبر صاحب الترجمة أن يدخل معه إلى داخل رحابه، فدخل وأقام معه منفرداً هـ نحو الساعة، ثم خرج وصحبته قفتان مخاطتان إحداهما بالجوز والأخرى باللوز، ورجع إلى داره، وف يتلك الليلية ظهر عليه حال واختلاج واكثر التوسل لله مما لا طاقة له به، ولازم بيته على كماله وإجلاله والناس يتبركون بزيارته إلى أن توفي ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الناس بحضور جنازته، وأعقب في الجامع ولده، وكان مدفنه في تربة آبائه بالزلاج عليه رحمة الله آمين. الشيخ صالح النفير هو شيخنا أبو الفلاح صالح بن احمد بن قاسم بن محمد بن محمد بن أبي النور النيفر، قدم جده أبو النور إلى حاضرة تونس من بلد صفاقس، وكان مقدم آبائه إليها من مصر القاهرة في تجارة، وهم يلبسون العمامة الخضراء علامة على شرفهم، واخبرني بعض الشيوخ منهم انهم من ذرية الشيخ الرفاعي رضي الله عنه وهو مولاي أحمد بن سليمان بن احمد بن سيلمان بن احمد بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطايحي الرفاعي شيخ الفقراء الأحمدية إليه كثير من الفقراء الحمدية، وروى الحديث عن سبط السلفي، وحدث وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين وستمائة، ودفن برواقه المعروف به بحارة الهلالية خارج باب زويلة من مصر. وأما آباء صاحب الترجمة الأربعة المذكورون فقد ولدوا بتونس، وتعاطوا صناعة الحرير والتجارة بسوق القوافي والعطارين، وساعدهم البخت فربحوا وأثروا مع ما فيهم من البذل والتصدق، وكلهم حج بيت اله الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وولد شيخنا المذكور سنة 1236 ست وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ نشأة صالحة وشد إلى التعلم عزائمه، ونتوجه لقراءة العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على أخيه الأكبر الشيخ محمد النيفر المفتي المالكي كتب النحو من مباديها إلى أن أتى على ألفيبة ابن مالك، وقرأ عليه مصطلح الحديث ومختصر السعد، ونبذة من المطول، وتفسير القاضي البيضاوي، وقرا على الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة المفتي المالكي شرح التاودي على نظم ابن عاصم بحواشيه، وشرح الشفا للقاضي عياض، وقرأ على المولى الجد الشيخ أبي عبد الله محمد السنوسي المختصر الخليلي، وقرأ على شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد معاوية المطول، وقرأ على الشيخ أبي عبد الله محمد بن ملوكة رسالته المنطقية وغيرها، وقرأ على غير هؤلاء من أعلام الشيوخ كالشيخ أبي أسحق إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ أبي عبد الله محمد الخضار المفتي المالكي، والشيخ أبي عبد الله محمد البنا، وقد برع في المعقول والمنقول مع حسن العارضة وجلس للتدريس بجامع الزيتونة، وتقلب في خطط علمية رفيعة الشأن، فتقلد خطة التدريس من الرتبة الثانية في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1265 خمس وستين، ثم في سابع جمادى الثانية من السنة الموالية لها ترقى إلى الرتبة الأولى، وأفاد الطالبين وختم كتباً مهمة ولما ختم مختصر السعد هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو الموثق الفرضي المجود، المدرس الشيخ محمد البشير التواتي بقوله: [الطويل] أبدر تمامٍ حلّ في طالعه السعد ... أمِ البرقُ يبدو من نواحي بني سعدِ أم ارتفع الجلباب عن وجه بثنة ... فبانت ثنايا الدر في مجمع الشَّهد فآنستُ وجهاً أنه الشمس في الضحى ... وأن الحيا قد حاك ورداً على نجدِ وقد سدَّدتْ نحوي سهامَ لواحظٍ ... ليفعلنَ بي فعل المواضي من الهند فبتُّ ونار الشوق وسط حشاشتي ... ولم تذق العينان طمعاً من البرد زكم وعدت مقتولها بحياته ... فشاب ولم يظفر بمائسة القدَّ وإني قنوع في الوصال بنظرة ... إلى الغادة الحسنا مبرَّرة النَّهد فإن لامني العذال فالقصد صالحٌ ... لدى الناس مثل النار ليلاً على بند تقيٌّ نقيٌّ ناسكٌ متورع ... هو الفاضل المحمود في القرب والبعد إمام همام لوذعي وسيد ... من الشرفاء الطاهرين أولي النجد خلاصة أخيارٍ ومفتاحُ كنزهم ... وبحر محيط لا يغيض من الورد كمال لنا كشفٌ لكل ملمة ... خليل لطلاب العلوم أولي الرشد رياضُ علومٍ كأس عذبٍ رحيقها ... أساس مبانيها يصول كما الرعد كأنّه ليس في جيوش دروسه ... وفي معرك الألباب سيف بلا غمد إذا ما تصدّى للبيان رأيته ... يصوغُ المعاني في البديع بلا جحد وكم لهجت أنفاسه بجواهرٍ ... منظمةٍ كاللؤلؤ الدر في العقد يفوق الورى في كل أمر يسودهم ... وغن ذكروا مجداً تقدم في العد أيا ماجداً قد حاز كل فضيلةٍ ... ويا سيداً دامت له سبلُ الودَّ فدونك بنت الفكرِ قد تمّ حسنها ... أتتك تهنّي في ختامك للسعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقد ولي مشيخة المدرسة المرادية في السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1271 إحدى وسبعين، وتقدم للإمامة والخطبة بجامع درب العسال في السابع من ربيع النور من السنة الموالية لها، وتعاطى في مبدإ أمره المتجر، وكان حانوته بالعطارين الكبار يومئذ وجلس للإشهاد، وكان الولي الصالح الشيخ صالح المثلوثي كثير التردد عليه، فاتاه مرة إلى حانوته، وقال له: يا شيخ صالح هات دفترك واكتب إنك ستولى خطة كذا وخطو كذا، وذكر له عدة وظائف رفيعة يعز اجتماعها، وكان المر كما ذكر الشيخ رضي الله عنه فقد قدمه المشير الثالث لخطة القضاء بالحاضرة منتصف ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، وتقدم في مجالس الجنايات عند وضعها، ثم في غرة صفر الخير سنة ثمانين ترقى إلى خطة الفتيا ثم في شهر شوال استعفى من خطته في مجالس الجنايات، وخرج لحج بيت الله الحرام ثانياً غرة ذي القعدة الحرام سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف، فحج وزار ورجع إلى الحاضرة على خطة الإفتاء، وكان مفتياً سادساً، ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً خامساً، ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ احمد بن حسين ترقى إلى رئاسة المجلس الشرعي، فولي خطة باش مفتي بتقدمه على المفتي الثاني يومئذ الشيخ الشاذلي بن صالح، والمفتي الثالث الشيخ علي العفيف، وكانت ولايته الخطة المذكورة تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف بعد أن تقلد وظيفة الحسبة والنظر على بيت المال أواخر ذي الحجة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف. وقد كان فقيهاً عالماً، له حسن دراية، يضرب بها المثل، مع مزيد التحصيل في الفروع والأصول، وحسن الجاه الذي لم يشاركه فيه أحد يومئذ، وله ولع بالتصوف والأذكار، وحب الصالحين والزيادة لهم، ومواسة الغرباء أينما كانوا، وله حسن محاضرة لا تمل مع اقتدار كلي على إبراز الكلام في قوالب شتى. وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ "ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه، المجيد بذاته" وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسها، فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بجيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانياً، لا بالجر على انه نعت للعرش، قال: وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى: (يوجد آية) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظراً، وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء، وقد كتب أختاماً كثيرة على أبواب مهمة من صحيح البخاري، وتصدى لشرح الموطأ فكتب عليها كتابة جليلة حين لازم إقراءها بجامع الزيتونة بلغ في الشرح المذكور إلى حيث بلغ في التدريس وتركه مسودة. وأما تدرجه في مراقي إمامة جامع الزيتونة فقد تقدم للنيابة إماماً ثالثاً في الرابع عشر من صفر الخير سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف عند وفاة الخليفة الشيخ محمد البنا، وأقام المغرب والعشاء والصبح مدة، وكان كثيراً ما يعتكف الليالي العديدة بجامع الزيتونة لأداء صلاة العشاء والصبح، وقد استصحب في ليلة النصف من شعبان تلك السنة للمبيت معه الشيخ محمود قبادو، فارتجل قصيدته، هنالك التي يقول في مطلعها: [الطويل] إلى بيتك اللَّهمَ بالعزم أقبلنا ... حططنا به رحل الضيافة فاقبلنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ولما توفي المحسني المحمودي قدمه المشير الثالث خليفة أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وخطب بالخطب البليغة، وواظب على إقامة الصلوات في أوقاتها، وقرأ المولد النبوي بالنيابة عن الإمام الأكبر قبيل وفاته إلى أن توفي إمام الجامع الشيخ محمد محسن فقدمه المشير الثالث إماماً أكبر بجامع الزيتونة في السادس عشر من ربيع الأول سنة 1289 تسع وثمانين ومائتين وألف، فحظي من دهره بغاية المراد، غير أن الخطة أتته على حين بلغ به ضعف البدن إلى حده، فخطب أخرى ثم أقعده الضعف، ولما حضر المولد النبوي بعد ذلك طلب الأمير أن يقتنع منه بسرد أدعية لضعفه، فأرسل له الأمير يأذنه بأن يريح نفسه وأن خليفة الجامع الشيخ محمد الشريف يقوم مقامه، فأعاد على الأمير الطلب بأنه يحضر الموكب بنفسه ويسرد المولد عوضه أخوه الأصغر المفتي الشيخ محمد النيفر، فأعفاه الأمير من ذلك وأرسل إلى خليفته الشريف بإحضار المولد النبوي، ولم يحضر الإمام الأكبر صاحب الترجمة ذلك الموكب. وكان مع ذلك آية الله في الذكاء والتقلب في الأمور ومعرفة وضع الأشياء في مواضعها، عالماً، لطيف الأخلاق، جميل المحاضرة، محصلاً أختامه يرغب الناس في حضورها، لحسن ما ينتقيه ويحرره فيها من المسائل المهمة. وقد قربه الأمير، لعلمه وحسن أخلاقه، حتى كان ذا جاه رفيع غير أن الأجل عاجله وكدر الدنيا لم يترك مشاربه صافية، فتوالى عليه المرض واشتد به الضعف حتى لازم المنساة بعد الخمسين، ولم يزل المرض مصاحباً له، يضاجعه تارة وتارة يريحه، إلى أن لازمه أخيراً وأدركته المنية وعمره نحو خمس وخمسين سنة، فتوفى أواخر ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وقد بر به ولده فبادر لدفنه يوم وفاته عشية لك اليوم وشهد العموم جنازته، عليه رحمة الله. وقد كتب في ترجمته حين وفاته كتابة نثرية في الرائد التونسي هذا نصها: في ضحوة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام افتقد هذا القطر التونسي شيخ الإسلام المالكي والإمام الأعظم بجامع الزيتونة صاحب النسب الذي هو في بيت النبوءة عريق، والعرفان الوثيق، وهو الهمام الذي عبقت الأرجاء من الثناء عليه بمسك أذفر، أستاذنا أبو الفلاح الشيخ صالح النيفر، فهال خطب فقده على سائر الأمة وما هان، وأودع في أكباد الذين آمنوا أعظم الآلام والأحزان، إذ كان لمحاجر الشريعة نور، وملبسها من الفخر العز الموفور، فيا له من همام هم بإدراك المعالي فنالها، وسبق في تلك الحلبة رجالها، حتى عقدت عليه كل مكرمة سائر الخناصر، وباهت به مملكتنا سائر ممالك القياصر، فكسا أندية العلوم حلل المحاسن، وأجرى من انهار معارفه ماء غير آسن، درسه يسحر الألباب، وتقريره يزري بحسان فرائد الآداب، له في الأسلوب الحكيم الاقتدار على تقليد اللبات بالدر النظيم. أما حقائق الدقائق، وفائق الرقائق، فلا مطلع لشموسها، غير رياض دروسه، ولا مورد لرحيقها، غير شفاف كؤوسه، فكم أدار على أرواحنا مكن أعجب الأساليب راحا، فأودعها من ذلك نشوة وانشراحا، فهو كشاف المعاني، والمصباح الذي يستضيء بشهابه كل معاني، له اليد الطولى في المعقول والمنقول، وأحرز السبق في ميادين الفروع والأصول، قدمه في سائر العلوم راسخة، ومعرفته الوثيقة لسائر الزيوف ناسخة، إن تكلم في المجالس أبهت الناطق والصامت، وأضحى بلواتر الفصل الصالت، إذ حنكته الفصاحة، ودرى كيف يأسو للدهر جراحة، وسبر بمسبار الألمعية أغوار الحدثان وجابه يدها تجريبه جباه الزمان، فعلم بمواقع الأمور، وجرى فيها بالسعي المشكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أما معرفته بمدراك مذهب مالك بن أنس، فهي التي نصبت له المنصات فارتقاها وجلس، فقضى سنين قد انقضت كأنها سنات، وأتى فيها بالآيات البينات، أقام فيها قسطاساً لمنع الاعتساف، حيث تحلى ببدائع الأوصاف، وقام بأعباء الفتيا قياماً لم يعهد له مثيل، ورصع تاجها بمجده الأثيل، وأنار منبر تجرح الأفئدة والقلوب، ولا سيما حيث كانت من خطبه التي أبدع في تنظيمها على أفخر أسلوب، فإذا قام في منبره أو محرابه فيا فوز من وعى، فإنه يسمع الصم الدعا، فما ترى الحاضرين إلا وعيونهم تنهمر دمعاً، إذ انصدعت قلوبهم من ذلك صدعا، وإذا روى عن جده خير البرية المصطفى، يلين له القلب الذي كالصفا، فكم هدى وأهدى، وأعاد من المزايا وأدى، إلى أن ألفت رئاسة الفتيا والإمامة أمرها لديه، وتوشيح كلتاهما بالانتماء إليه، بعد أن ولي الحسبة ووظائف وتنتهج بها تلك المناصب السنية. وزيادة على ذلك فقد تحلى بكمالات لا تحصى، ومزايا لا تستقصى، فهمته قد ضربت على السماك أطنابها، ونصبت على الجوزاء قبابها، حتى انتعل السها، وغدا إليه في كل مكرمة المنتهى، مع ما هو عليه من شرف الأعراق، ودماثة الأخلاق، بشاشته تملأ قلب ملاقيه حباً، وتوليه من التردد ما يختاره بعدا وقربا. وكان كثير الميل إلى علم القوم، لا يختشى في ذلك من لوم، وله مزيد ولعٍ بمن بنتسب للشرف النبوي والصلاح، من أهل الخير والفلاح، فسلك في ذلك مسلك أستاذه شيخ الإسلام المالكي أبي إسحاق، وكرع من مناهل الطريقة التجانية أعذب الأذواق، حتى كان في خيسها ليثاً، وانسجم بمعارفها غيثاً. ولذلك نبؤه راع القلوب وفتت الكباد، وعم بالإصابة سائر العباد، فيا له من خطب أصاب أفئدة كانت لمودة هذا الهمام منسوبة، ورماها من نباله بأسهم مقشوبة، حتى عم الأسف سائر الأهالي، ونثرها عليه من الدموع وطيب الثناء أحسن اللآلي، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعامله بالرضوان، ويجعله في جوار سيد ولد عدنان، فإنا لا نقدر على إيفاء حقه فيما ننثر وإن نظمناه، ولا يطيق أحد أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات قريحة تقرحت برزئة الجليل، وصارت تنثر مع أدمعنا أمثال هذه الأقاويل، وقد انتهز الفرصة في ذلك العالم الماجد، المبرز ببراعته على سائر الأماجد، النحرير اليلمعي، والفهامة اللوذعي، فرع مشايخ الإسلام، الثلاثة الأعلام، المتطلعين غرراً في جباه الأيام، صديقنا الذي لم تزل طريقة والده وجده له منهوجه، الشيخ أبو عبد الله محمد بن الخوجة، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم لا زالت دوحة والده به في ابتهاج ونما كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهذا نصها: [الطويل] إلى الله من خطبٍ تداعت له رجفا ... رواسخ أحلامٍ وقد أحكمت رصفا تمطَّى به ليلٌ من الوجد حالكٌ ... يضل الكرى فيه فلا يعرف الطَّرفا صلى كلَّ قلب من لظاه بمضرم ... يزيد إذا ما الدمع برَّده ضعفا يحق له شقُّ القلوب إذا اغتدى ... يشقُ أخو الأحزان أثوابه لهفا إلى الله نشكوه عظيم ملمةٍ ... عسى فرجٌ يولي دجنتهُ كشفا ومنْ مارس الأيام هان به الأسى ... فكم روعت سرباً وكم رنقت صرفا وهل سالمت من عهد آدم واحداً ... فيأمن مرتاحٌ إلى ظلها الحتفا؟ ويا ليتها ترعى ذمام ذوي العلا ... فتبقيهم لكن أبي طبعها اللطفا وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... أعد به دين الهدى للورى كهفا وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يمرُّ ولا يبدي الزمان له خلفا وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يبيدُ به جيش الضلال إذا اصطفَّا قضى الله في قطب الرئاسة إن قضى ... فها أدمع الإسلام وأكفة وكفا فمن لنوادي الفضل بهجةُ صدرها ... وملبسها من فضل أقواله شنفا فمن للقضايا المعضلات يحلُّها ... بصارم فكر لا يفل ولا يحفى ليبكه ملهوفُ الجوانح غلَّةَّ ... إلى عذب فتيا كان منهلها الأصفى إذا أمَّةُ المرتادُ أبصرَ جنة ... بدائعها تدني لمن رامها قطفا ترحَّل فاقتاد القلوب وراءه ... ولا غرو إذ تقفو المعارف والظرفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بني نبفرٍ صبراً فهذا سبيل من ... يعيش ولو قد عاش في دهره ألفا وما بيتكم في المجد إلا كعهده ... سنى عزّه إن شاء ربي لا يطفا على أنه قد فاز بالفضل والرضا ... وخلف ذكراً طاب ترديده عرفا وبلَّغ في الدنيا الذي شاء من علا ... ولم يرغم العداء من عزه أنفا فألبسها من عدله وعلومه ... ملابسَ قد زانت لها الصدر والعطفا عليه من الرحمن أزكى تحية ... تقر بها عيناه في جنة الزلفى وحقق فيه الله قول مؤرخ: ... إلى خير مأوى على صالح قد زفا وعندما أدرجت المرثية المذكورة في هذه الترجمة كتب إلي جناب منشئها الأخ العالم بقوله: [البسيط] بوَّأتني محض فضل نزل علياء ... والحبُّ يفضي لإسهاب وإطراء طما وادي لديكم فارتمت دررٌ ... من عذبه صعدت أنفاس أعداء أهديت أيَّ صنيعٍ لن يوفيهُ ... شكري ولو نشرته كلُّ أعضاء أودعته عند من يدري بقيمته ... برّ شكور فقل يا نجح أسداء أعرتني بعض أوصاف خصصت بها ... تفضلاً وغضضتم أي إعضاء شكراً لكم من أخ بر حبيت به ... أنزلته من فؤادي في السويداء إبريز من أمسوا أخواني وعمدتهم ... وسيد كم رقى أوجاً لعلياء فيا له من صديق قد ظفرت به=صينت صداقتنا عن كلّ أقذاء الشيخ محمد الشريف هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الكبير بن احمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا، وهكذا سلسلته المنتهية إلى شجرة المنتهى محمد خير خلق الله صلى عليه وعلى آله، فهو الإمام حفيد الإمام، مفخر آل البيت السادات الكرام. [ترجمة والده] أما والده فقد قرأ على عمه الشيخ حسن الشريف وعلى والده، وناب عنه في الإقراء بمدرسة حوانيت عاشور، وله مشاركة في الإقراء بمدرسة حوانيت عاشور، وله مشارمة في كثير من الفنون، وكان ذاكراً شاكراً محباً في الصلاة على رسول الله، له شغف بدلائل الخيرات، يحيى الليالي بالذكر والصلاة، كثير الرؤيا لجده هـ صلى الله عليه وسلم منها مرة رأى نفسه في حجره صلى الله عليه وسلم وهو يلثم يده الشريفة ويجد من لينها وريحها ما لم يعهد، وبقي أياماً وهو يقول: إنني الآن أجد طيب ريحها، وكان مهاباً محترماً، جميع الناس يطلبون منه الدعاء وقد اتفق لبعض الناس أن افترى عليه في نازلة فدعا عليه فمات بقرب من ذلك، ولم يزل ملحوظاً بعين الإجلال، معدوداً في الصالحين من الرجال، إلى أن بلغ من العمر ستاً وأربعين سنة، وتوفي سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف. وخلف والده صاحب الترجمة وكانت ولادته في العشرين من المحرم الحرام سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وتربى في حجر عناية أبيه، فقرأ القرآن العظيم، وتصدى لتعلم العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على مشايخ الإسلام البيرمي والخوجي ومعاوية، وقرأ على الشيخ محمد النيفر الأكبر، والشيخ الشاذلي بن صالح، وغيرهم من علماء الجامع، وولي في درسي جامع الزيتونة بعد وفاة عمه. وحصل على إجازات كثيرة في الحديث، وقفت منها على سنده في صحيح البخاري: عن شيخ الإسلام محمد بن الخوجة عن المفتي المؤلف الشيخ حسن الشريف عن والده الشيخ عبد الكبير الشريف عن والده الشيخ أحمد الشريف عن الشيخ عبد الرحمن الكفيف عن الشيخ سعيد الشريف الطرابلسي عن القطب الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا عن الشيخ السراوي المصري عن الشيخ سالم السنهوري عن الشيخ نجم الدين الغيطي عن الشيخ زكرياء الأنصاري عن الشيخ أحمد بن حجر شارح الصحيح عن الشيخ التنوخي عن الشيخ أحمد الحجار عن الشيخ حسين بن المبارك عن الشيخ أبي الوقت الهروي عن الشيخ الدراوردي عن السرخسي عن الشيخ محمد بن موسى الفربري عن الحافظ الشيخ محمد بن إسماعيل البخاري ثن الجعفي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه. ووقفت أيضاً على سنده المحمدي، وأجاز لي رواية المذكور بما له فيه من الأسانيد بعد أن رويت بين يديه نبذة منه رضي الله عنه غير أنه لم يجلس للإقراء إلا قليلاً، ولازم رواية الشفا والبخاري بمسجد سيدي أبي حديد واجتمعت الجموع لأختمه، وهو ممن يظهر نعمة الله عليه، في نفسه ومن ينتمي إليه وله مع ذلك دعاء مستجاب، وخاطر ليس بينه وبين الله حجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 جلس مرة في جبل المنار قرب الناظور من الجانب الشرقي، ومعه جملة من الأعيان، فمرت بهم في البحر فلوكة بها جمع من كفرة الصيادين للسمك فقال له أحد الحاضرين: إن كنت شريفاً فادع على هؤلاء ليغرقهم الله، فظهرت غيرته، ودعا عليهم بجاه جده، فلم تلبث الفلوكة أن انقلبنت بمن فيها في البحر، ومات جميعهم، وله من هذا الباب وقائع شتى. وكان المشير الأول يتمين برقيته ودعائه، وللمشير الثاني معه مودة واعتقاد، يتقرب به إلى رب العباد، عليه جرى المشير الثالث مع ما هو عليه من التعظيم عند الخاصة والعامة. وعند وفاة الشريف محمد ابن الوزير العربي زروق عن وكالة زاوية الشيخ سيدي أبي سعيد الباجي رضي الله عنه قدمه المشير الثالث لها مع النظر على جبل المنار في ربيع الأول سنة أربع وثمانين. ثم لما توفي ابن عمه المحسني المحمودي قدمه المشير المذكور للنيابة إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة في الثامن عشر من شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولازم الجامع للإمامة وواظب على رواية صحيح البخاري كل يوم ثم لما توفي ابن عمه المحسني المحمدي قدمه المشير الثالث خليفة في السادس عشر من ربيع الأول سنة 1289 تسع وثمانين، واستولى عند ذلك الشيخ أبو الحسن على العفيف نائباً عنه. واستمر الخليفة المذكور قائماً بصلوات الجامع في أول الوقت، حاملاً أعباء الخطبة والإمامة مدة مرض الإمام الأكبر إلى أن توفي الإمام النيفري فقدمه المشير إماماً أكبر بجامع الزيتونة في التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وجعل خليفته الشيخ أبا الحسن علي العفيف، وقدم ابن عمه الشيخ أحمد بن حمدة الشريف إماماً ثالثاً، فنهض الإمام الأكبر الشريف صاحب الترجمة للجامع، وشمر على ساعد الجد في تنظيمه والبحث عن أوقافه، وأجرى الأمور على أحسن وجه، وقام بالخطبة قياماً كلياً بحيث أنه يحضر رواية البخاري كل يوم الثلاثة الأشهر، وهو مقيم في جبل المنار في حر الصيف حتى تيسر له ختم رواية صحيح البخاري في 26 شهر رمضان سنة 1296 ست وتسعين، ومهما اتفق احتباس المطر وخرج للاستسقاء إلا ورجع باليل، وإن لم يصبها وابل فطل. [قراءة البخاري عند الأزمة] وهو أول من جمع الناس لختم البخاري في مجلس واحد للاستغاثة ودفع الكروب وذلك أواسط جمادى الولى سنة 1298 ثمان وتسعين، فحضر بجامع الزيتونة عند باب الشفاء، واحضر نسخة من صحيح البخاري مجزأة عشرين جزءاً في غاية الضبط والصحة، وجمع معه تسعة عشر مدرساً من علماء جامع الزيتونة ليروي كل واحد جزءاً كاملاً في ذلك المجلس، فحضرنا هنالك قبل الزوال بأربع ساعات، واستمر بنا على رواية الصحيح المذكور إلى مضي ساعة من الزوال فتمت روايته في خمس ساعات من يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1298 ثمان وتسعين، وقد واظب الشيخ مدة على ذلك مع ذكر الاسم اللطيف وأدعية مدة استمرت إلى منتصف جمادى الثانية يحضر معه في كل يوم بعض المدرسين ويتلو بينهم في آخر المجلس استغاثات مناسبة للحال. وقد تقدم في أثناء تدرجه في مراقي الإمامة إلى خطة الإفتاء بمذهب مالك، فتقدم مفتياً سادساً، تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف ونقش على ختمه بيتين من نظمه وهما قوله: [الرجز] أدعوك ربي باسمك اللطيف ... ومن أتى بالشرع والتكليف امننْ برشدِ عبدك الضعيف ... محمدِ بن أحمد الشريف ولما توفي الشيخ محمود قابادو صار مفتياً خامساً، ولما توفي الشيخ صالح النبفر صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً ثالثاً، فهو اليوم إمام جامع الزيتونة والمفتي الثالث بالمجلس الشرعي، معتكف على القيام بوظيفته، ملازم لرواية صحيح البخاري في بيته، مع الاعتناء بتصحيحه وضبطه بشروحه، حتى ختمه مراراً كثيرة، كما ختم الشفاء كثيراً، وله مزيد تحر واعتناء بانتقاء بدائع الخطب وضبطها على الوجه الأتقن، وقد تقدم في الطريقة التجانية، ولقنها لكثير من المريدين، وقام بأورادها مع ما له من الأذكار، التي يلازمها بالليل والنهار، والتبتل للعزيز الجبار، على طريق الأخيار، من أصحاب الأسرار، رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وخليفته اليوم في إمامة الجامع هو ابن عمه الشيخ أبو العباس احمد بن حمدة بن محمد الشريف إمام الجامع، ونائبه الإمام الثالث هو الشيخ أبو محمد حمودة بن محمد محسن إمام الجامع، وعلى عهده زيد في أيمة الجامع نائب ثان وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطاهر بن محمود محسن إمام الجامع، وإمام التراويح هو الشاب أبو عبد الله الشيخ محمد بن مصطفى بن محمود الشيخ عبد الرحمن بن محمود محسن، فخطط الجامع ولله الحمد اليوم بين آل الشريف رضي الله عنهم أجمعين، ولولا أشتراطي ذكر الأيمة لذكرت تفصيل حال هؤلاء السادات أبقى الله بركتهم أماناً لأهل الأرض، فبدر الإمام الأكبر اليوم محيطة به هالة من آل بيته، وقد تجمل به، والحالة هاته، صدر الجامع وابتهج، وافتخر المنبر بحسن خطبه التي ينتقيها، وبجمهورية صوته وتأثيره يلقيها، بحيث أنه اليوم أخطب الخطباء بالحاضرة فصاحة وجمهورية صوت وأداء وضبطاً، وهو إمام فاضل، متفنن، نحرير دراكة، سخي النفس، غزير الدموع، سهل الجانب، رضي العيش، قدوة، محبب إلى الناس، كريم الأخلاق مهاباً معظماً، عالي الهمة، مقبول الجاه، محترم، يكرمه الأمير والمأمور، ويعتقده الخاصة والجمهور، يحضر الجامع في كروسة من كراريس الأمير، أهداها له الوزير. وقد نفع بجاهة كثيراً من المستجيرين به رضي الله عنه، وفي هذا العهد أتاه الثقة المسن علي عباس يطلب منه الدعاء، وقراءة الفاتحة، وأخبره أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ببيت به جمع عظيم، ولما دخل بيتهم رأى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفعاً وإلى جانبه الشيخ متكئاً ثم إن المصطفى مسح على جنبه ووعده بالشفاء فكان صدق الرؤيا حيث غن الشيخ يشكو في هاته المدة ذلك لجنب نفسه، وقد أمل الشفاء ببركتها ولا تخفى دلالة الرؤيا على قرب اتصاله بجده عليه الصلاة والسلام. وحيث إن مفاخره عظمت بالاشتهار، وغطت على الشمس في رابعة النهار، وكان وجوده بين أظهرنا من بركات هاته الأعصار، التي نتمتع بها آناء الليل وأطراف النهار، تقربت لجده المصطفى عليه الصلاة والسلام بقصيدة جليلة، اتخذها تاج المفاخر إكليله، صدرتها بذكر فضائل آل البيت، ووشحتها بذكر بعض مفاخره ومفاخر آبائه الكرام، إلى الوصول إلى خير الأنام وآبائه العظام، وسميتها "الجنة الدانية الاقتطاف، بمفاخر سلسلة السادة الأشراف". وها أنا اجعلها خاتمة لهذا القسم تيمناً بفضل من ذكرتهم فيها، وهذا نصها: [البسيط] إنَّ المودةَ في القربي هي الأملُ ... يجري بها ويفوق الأجرُ والعملُ قرابةِ المصطفى آل بهم شرفتْ ... مفاخر بعلاها تضرب المثل آل الرسولِ كفاهم وصلتهم ... به وقوله: آلي إذ هو الأمل أوصى بهم حيث قال الله أشدكم ... في أهل بيتي ثلاثاً إذ به اتصلوا دعا بسترهمُ إذ كان جلَّلهم ... وفي ملاءته دون الورى اشتملوا وحائط البيت والأسكفَّة ابتدار ... مؤمنين كتأمين الألى عقلوا فمن دروا حقهم في الفضل كان لهم ... به البراءة من نار بما عملوا ومن أحبَّهم جاز الصراط به ... كالبرق لا يعتريه البطء والثَّقلُ ومن يواليهمُ نالَ الأمان منَ ال ... عذاب يومَ ذوات الطفل تنذهل هم الأمان وما داموا على قنن ال ... تبجيل لم يكتنفنا في الورى ضللُ همْ عترةٌ طهَّر المولى منازلهم ... مذ أذهب الرجس عنهم عندما كملوا همُ الهداة وبيت الوحي بيتهم ... لا يعتريه بحول الخالق الخللُ بيتٌ على الدين قد قامت دعائمه ... ومن مناهله كل الورى نهلوا بيتٌ قد انتاب جبريلُ منازله ... عن إذن ربّه والأملاك كم نزلوا بيتٌ تخيَّره الرب الجليل إلى ال ... تنزيل والوحي منه ليس ينتقلُ ما بعد جدهم المختار من رجلٍ ... يأتي فتتبعه الأملاك والرّسلُ لهم سمات وآيات لهم تليت ... في الذَّكر لا يعتريها النسخُ والبدلُ فمصدر الدين هم والدين حبُّهمُ ... وهمْ سراة الورى ما مثلهم رجلُ لا يدخل القلب إيمانٌ وحبهم ... لله لم يك حتى يولج الجمل قوم حياتهم في الأرض مرحمةٌ ... بجاههم لم يخب في الخلق مبتهلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بيضُ الوجوه لها بشرٌ تهلله ... يرى الغزالة ما إن مسها طفلُ كريمةُ الحسن يستسقى الغمام بها ... وتشتفي من مرائيها لنا العلل شم الأنوف ومأوى للضيوف، ومن ... يوفي بإجلالهم قد جاءه النَّفلُ كواكبُ السَّعد لاحت في منازلهم ... إذ أقمروا في العلى والكل مكتمل الله أكبرُ ما أسنى مقامهمُ ... فكم بهم فاز عند الله مضطئل من ذا تمسك من أسبابهم فغدا ... بين الورى جيده من حليهم عطل سلاسلٌ وفروع في البسيطة قد ... مدت فكانت بأصل الفضل تتصل بيوتهم قد أبت إلاّ مفاخرهم ... حتى استطالت فلم يبلغ لها جبل تسمو بفضل اقترابٍ من أعزَّ أبٍ ... لخير جدَّ وكلٌّ في العلى بزل لكن أقربهم من جدهم نسباً ... لهم مزيةُ قربٍ ليس تنفصل فالقربُ من سواهم محجوبٌ بقربهمُ ... والكل نجمهمُ في الفضل منصقل فكلهمْ برسولُ الله متصلٌ ... يرتاب في فضلهم من قاده الزلل وكل بيتٍ لهم يسمو بكل علا ... على سواه ولا تدنو له طول تلك البيوت التي قد زاحمت شرفاً ... كواكب الأفق لما أهلها فضلوا أشمُّها ما دنا من أفق جده إذ ... كان السَّوى لم يصل ما ملهم وصلوا لذا بيوت بني الأشراف قد ظهرت ... شمَّاءَ من دونها قد كلَّت المقل ما بين قرمٍ شريف قد سما شرفا ... يزاحم الشمس حيث الفضل يشتعل ومن غدا علما لفظ الشريف له ... حقا له هامة النسرين ينتعل آل الشريف ومن مثل الألى شرفوا ... بجدهم وبفضل ليس ينفصل أل الشريف أسودٌ خيسِ تونسَ قد ... أمسى بهم في أمان ليس ينقهلُ آل الشريف عقود قد سمت نسقاً ... وسطاهمُ الجوهرُ المكنون مكتمل لهم كراماتُ أهل الفضل قد رويت ... وفي البسيطة قد سارت بها المثل واليوم تاجهم القرم الهمامُ (أبو ... عبدِ الإله) الذي طابت به الحللُ إمام جامعها المفتي بها وأخو ال ... ذكر الذي ليس عنه اليوم ينعزل فكم له من مزايا غير قاصرة ... على الورى قد غدت في القطر تنهمل وكم له دعوات قد أجيبَ لها ... من المهميمن إن ما قام يبتهل يجاب مهما ابتغى من جده أملا ... جدَّا وهزلا كأن من لفظه الجزل وهو الذي اليوم يستسقى الغمامُ به ... فيغتدي بعد طول الجدب يقتبل نشاهد السَّحب من دعواه مرسلةٌ ... إنْ لم يكن وابل تأتي له الطللُ أما كرامة برد النار من يده ... فالورد يشهد إن لم تشهد المقل إذ مسّ ما عدَّ للتقطير منه على ... نارٍ فكانت كأن قد مسّها بللُ وحين طال انتظار الطبخ اعلمهم ... فاستبدلوه فلم يعرض لهم مهلُ وهكذا الفضل معهودٌ لوالده ... الصفوة المرتضى من بره العمل أعني بذاك (أبا العباس أحمد) من ... له بكل جميل كاهلٌ عبل أحيا الليالي بالذكر الحميد وبال ... شكر السديد وما غن رابه عذل تبتُّلٌ وصلاةٌ عمَّرت بهما ... أكناف خلوته إذ كان ينعزل وبالصلاة على الهادي له شغفٌ ... لا يعتريه على تكرارها مللُ له "الدلائل" وردٌ كل باكرة ... خمس المرار وما عن ذاك ينفصل وقد راى يلثمها وعندها يجد ال ... عبيق واللين لينا ما له مثل ومرة يتوضا قد رآه فكا ... ن ذاك في يده المنديل يحتمل حتى أتمّ منكراً عنه عوائده ... في نفسه وهو لا يدري بما يصل وافاه في النوم خير الخلق يأمره ... بأنْ يرضيه كيما يمحق الزلل وعندما جاءه أعفاه مشترطا ... كتما إذا لم يواري حين ينتقل وفي استجابة ما يدعو به علمٌ ... علة القبول الذي أولى له الأزل فإنه قد دعا يوماً على رجل ... عنه افترى فاغتدى بالموت ينتبل وقد تبدت له في الكشف لائحة ... درى بها الناس ما قد حازه الرجل فقبلَ موته من يومين أعلمهم ... فكان ما قال إذ قد جاءه الأجل هذا ووالده الشيخ الهمام (أب ... عبد الإله) غدا بالفضل يكتمل قد كان شهماً هماماً عالماً وله ... فخر النقابة سيفٌ دام ينصقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بالجامعِ الأعظمِ المعمور كان يرى ... هو الخطيب الذي تعنو له القللُ يرتل الذكر في محرابه، وإذا ... يعلو بمنبره الألبابُ تنذهل كان المجابَ الدعا في غير حادثةٍ ... وأهل عصره من ذا الباب كم نقلوا لذاك وافاه شيخٌ طالبٌ أملاً ... بدعوة منه عنها ليس ينعزل وقال إن رسول الله أرشده ... لنجله ذاك وهو السيد الجلل والمصطفى أمر القاضي ببرَّه في ... فصلِ القضا حيث ما في حكمه جدل فجاءه يترضَّى وهو سامحه ... مبادراً لأداء الحق يمتثل وذا أخو حسن المفتي الإمام ومن ... على تآليفه قد أجريَ العمل أما أبوه وذا (عبد الكبير) فقد ... كانت له همة ما نالها الأول نقابة السادة الأشراف قد بلغت ... به إلى حيث لا يدني له الرمل قد كان في العلم بحراً زاخراً وبه ... توارث الناسُ علماً دام ينهمل في مجلس العلم من بيت الأمير له ... مظاهرٌ فصلت من كشفها جملُ له المعارف والآداب قد برعت ... ففاق منه وراق الغزلُ والغزلُ وفضل والده المفضال (احمد) قد ... أضحى على علم كالنار تشتعل وهو الذي شاقه إصلاح سكة مح ... راث بمطل الذي في صنعه مهل فأفتكها وهي محماة وسار بها ... حتى جميع الورى من خلفه قفلوا لكنها حين عادت للهيب فلم ... تمس بالنار إكراماً له يصل فضل تملأه من آثار والده ... (محمد) الأوحد المرضي له العمل وذا أبوه (أبو العباس أحمد) من ... له مناقب ما إن فوقها ظللُ الحجة الحافظ المحيي لسنة خي ... ر الخلق لما جميع الناس قد ذهلوا يروي الصَّحاحَ جميعاً عن دراية ذي ... علم وفهم ولم يعرف له كسلُ وذا الولي "ابن خود" قال أنه قد ... نال القطابة وهو الآن مكتمل ومن كراماته فتحٌ لباب سوي ... قةٍ بليلٍ وهذا الباب منقفل إذ حال قفله بين ابنٍ ووالدةٍ ... كادت بفرقته في الليل تنخزل وكان حج أمير الركب فاعترضت ... له اللصوص فحالت دونهم حول رأوا على قومه سوراً فجاء له ... كبيرهم خاضعاً مذ حزبه جهلوا وهو الذي امتحن الباشا كرامته ... حتى رآها كصبح ليس ينفصل إذ رام أن يمنع الأشراف راتبهم ... أو يأخذوه من النيران إن وصلوا لذاك ألقاه في قدر النحاس به ... محميُّ زيت على نار لها شعل فجاء هذا النقيب المرتضى وغدا ... يعطي رواتب أشراف به دخلوا يفضي بكفه للزيت الوقود فما ... يرى له أثر إلا بها بلل وعندها أيقن الباشا بمفخرة ... وأنَّه عين أشرافٍ به فضلوا فأوقف الوقف مختصاً بينهم ... ودام يكرمهم ما سارت الإبل فذا النقيب الذي طابت مفاخره ... وسيب علمه بين الناس ينهمل هذا الذي منه هذا الفرع طاب وكم ... طابت به من فروع ما له مثلُ وهو الذي من بينه محسن فغدا ... جدَّا إلى المحسنين الشمّ إذ فضلوا هذا أبو محسن هذا أبو حسن ... وذا به نسب الأشراف يتصل لله در كرام كان أصلهمُ ... هذا الذي به فاق الحليُ والحللُ هذا التقي ابن ذاك المرتضى (حسن) ... نجل الذكي (علي) الفاضل الجلل نجل الرضا (حسن) ابن الفذ (احمد) ... نجل (القاسم) اللذ على مولاه يتكل وهو الحكيمُ الذي شاعت فضائله ... وطَّبه منه كم قد زالت العللُ نجل الإمام (أبي عبد الإله) وذا ... نجل (قريش) بن (عيس) ما لهم مثل بهم سما (عابد الرحمن) والدهم ... نجل الرضا (خلف) السامي به الأمل نجل (علي) وذا نجل الرضا (فرجس) ... وذلك ابن (علي) من به جملوا نجل (محمد المكتوم) من ظهرت ... به مفاخر أبناء به اتصلوا وذاك جد العبيديين مفخر من ... تملكوا وهو في المجد قد رفلوا قد كان شيعته فازوا بكتمه مذ ... كانت ترى وبنو العباس تقتتل فهو غمام جليل حيث قد مكرمت ... له أبوة (إسماعيل) مذ كملوا أيمة كلهم طابت مناقبهم ... ما فيهم من يرى في بيتهم وغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 عنهم فسل كل تاريخ وسل كتباً ... تلق العلا عن ذراعهم ليس ينعزل فانظر أخيرهم طابت اخوته ... للكاظم المرتضى من فخره مثل (وجعفر الصادق) المشهور كان له ... أبٌ وقد طاب فيه العلم والعمل ففي الحديث روى عنه الثقاب وقد ... كانت له منقباتٌ ليس تنفصل فخرٌ حواه من المفضال والده ... (محمد الباقر) اللذ أمرهُ جلل ذا باقر العلم من كانت له رتب ... في الدين منها جميع الأتقيا انتحلوا ففي الحديث وفي القرآن كان له ... فضل تدك به الأهضابُوالقللُ وهو الذي كان أوصى بالسلام له ... خير البرية والإسناد متصل رسالة جابر قد كان حاملها ... له بخير حياة طولها عثلُ أما أبوه علي فهو أصبح (زي ... ن العابدين) بفضل دام يكتمل له عبادة إخلاص إذا حضرت ... صلاته عن جميع الكون ينذهل فمرة كان لم يشعر بفلذته ... إذ خرّ في البئر لما كان يبتهل وقال كنت أناجي من له عظمٌ ... ينسى البنين وغن في البئر قد نزلوا وهو الذي قد تنحَّى الطائفون ... في موقف الحج وهو الموقف الجلل حتى تجاهل من قد كان يعرفه ... وهو الذي له فخر ليس ينجهل وهو الذي تعرف البطحاءُ وطأته ... والبيت يعرفه إذ تترع السبل أليس ذلك نجل الأوحد العلم ال ... سبط (الحسين) الذي ما مثله رجل؟ أعزَّ درة أهلِ الأرض قاطبةً ... وغن يكن قاتلوه عنه قد جهلوا سماه خير الورى عن إذن خالقه=وقال "إنه مني" أين من عقلوا؟ والله جل يحبُّ المخلصين له ... حبَّا كما قد أتى عمن له نقلوا وهو الشهيد الذي في كربلاء له ... بانت مفاخرُ صبرٍ ليس يحتمل نجل الإمام علي وابن (فاطمة) ال ... زهرا البتول التي آياتها مثل تلك المطهرةُ الغرا التي كرمت ... أرومة واغتدت بالفخر تكتمل تلك التي قرن الله رضاه بما ... ترضاه حيث سما منها له العمل أحبَّها خيرُ خلقِ الله والدها ... لزهدها ولفضلِ ليس ينفصل لها شمائل كمشيته الغرا ونور مح ... يَّاها وتلك من المختار تنتحل هاتي التي أخذت مهراً شفاعتها ... في المذنبين إذا أرداهمُ الوحل هاتي التي يوم تأتي الحورُ تكنفها ... سبعون ألفاً يروا من حولها ظلل ويأمر الله من في الحشر أجمعهم ... بخفضِ أرؤسهم أو تغضض المقل كيما تمر على ذاك الصراط ولا ... تراه إلا كبرق خطفه عجل مفاخرٌ ما حواها غيرها فلها ... أقيم قسطاس فخر دام يعتدل وهي التي حفظ الله بها عقب ال ... مختار في الأرض حتى دام ينتسل بها بدا الحسنان في سماء على ... كلَّ كواكبه بالفضل تكتمل بها قد امتد نسل الأشرفين إلى ... أقصى المشارق حيث الفضل يتصل بها يباهي رسول الله حيث غدت ... بنوه منها بهم يبقى له عمل ومن يكن خيرُ خلق الله والده ... له مراقي فلاح دونها القللُ وهاته بنته أكرمْ بها وبمن ... اضحوا لها خير أبناء با فضلوا شمس الكمال التي بانت مفاخرها ... غداة لاحت بنورٍ دام يشتعل لاحت من المطلعِ الميمون والدها ... أفق العلا من به قد تمّت الرسل (محمد) المصطفى المختار من نسب ... يسمو على الدر فخراً وهو منصقل السيد العروة الوثقى الذي كرمت ... له السجايا بفضل ما له مثل خيار من خير الله لهم كرماً ... بين البرية عنهم ليس ينتقل الطاهر النسب المرضُّي منذ بدا ... في الرض آدم وهو الآن متصل هذا الرسول الذي من نوره خلق الل ... هـ العوالم، يا فوز الألى عقلوا هذا الرسول الذي من قبل آدم قد ... حاز الرسالة حيث الفضل مقتبل هذا الرسول جميع المرسلين به ... قد بشَّروا مذ بدت من فوقهم حلل هذا الرسول الذي بشرت كتب ... به من الله لما جاءت المللُ هذا الرسول الذي قد أنذرت أممٌ ... به وقد أسلفتها الأعصر الأول هذا الرسول الذي في الجاهلية والإ ... سلام بانت له الآيات تتَّصلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 هذا الرسول الذي الإرهاص آذن من ... قدهاً تقدَّمه أن سوف يحتفل هذا الرسول الذي أهل الكهانة قد ... تحققوه وما عن نجمه غفلوا هذا الرسول الذي من معجزاته ما ... يتلى فلا يعتري قراءه المللُ هذا الرسول الذي قد تابعته وحو ... ش والحجارة والأشجار والظُّللُ قد عمَّم الله في الأكوان بعثته ... في الأرض أو في السما والكل ممتثل فكان رحمةَ كل العالمين سوى ... قومٍ طغوا فغدا طغيانهم ضللُ وكان اكرمَ خلق الله قاطبةً ... والكل من شرعه الجاري لنا نهلوا وكان فخر بنيه الأشرفين وهم ... أمان كلَّ الورى في الأرض مذ نزلوا يا فوز عقدٍ غدت تسمو جواهره ... بكل قرم شريف ساد من فضلوا إذ أنَّ سلسة الأشراف فيه غدت ... لها انتساق بنظمٍ دام يكتمل أسماؤهم نظمت فيه فكان له ... بهم أعز فخار ما له مثل إن كان عدَّهمُ يحيى فإني قد ... أحييت من ذكرهم نظماً به اشتملوا حرَّرتهم أيَّ تحرير سلكت به ... مشارعا طاب منها الشَّرب والعلل أحصيتهم من تواريخٍ ومن كتبٍ ... وعن بني بيتهم لازال يحتفل أتممت عدّهمُ بالمصطفى وبهِ ... سادت بنوه وآباء له أول فإنَّ نوره معروف بأوجههم ... إذ كان في طاهر الأصلاب ينتقل نورٌ بدا في محيّاهم، وكلُّهمُ ... في الجاهلية والإسلام معتدل حتى أفاده (عبدُ الله) (آمنة) ... وقد رأته لدى الميلاد يشتعل فقد رأت به ما قد ناء وانخفضت ... له النجومُ وعنه ارتدها الكلل وقد تداعى له الإيوان وانخمدت ... نارٌ وغاضت جفافا دونه المسلُ وقد أحاطت به الملاك تبصرهم ... مشمَّتين الذي في فضله رفلوا واستبشر الكلُّ من ميلاد احمد إذ ... فازت به أمه فوز الألى كملوا فليهنها ما رأت من يمن مولده ... وليهننا منه فضل دام ينسدل أكرم بها وبعبد الله والده ... وما غدا لهما من فضله يصل فخر لوالده أمسى وذاك نج ... ل (شيبة الحمد) من لله يبتهل أجرى بزمزم نفعاً لا نظير له ... أجراه ماءً به يجري له العمل لم لا وذاك (ابن عمر وهاشم) العلم ال ... رضى الذي عم نفعاً ربعه الخضل نجل (المغيرة) ذا نجل (قصي) وذا ... نجل حكيم كلاب) من به اعتدلوا ذاك ابن (مرة) نجل الشيخ وأعظهم ... (كعب) ابن فخر (لؤي) الأكرم الجلل نجل الرضا غالب ذا نجل جدهم ... قريش فهو الذي سادت به الأول ذا نجل (مالك) بن (النضر) نجل (كن ... نة) الذي لقراه الأمة ارتحلوا وأنه ابن (خزيمة) بن (مدركة) ... نجل الرضا (الياس) من قد ساد من فضلوا من صلبه سمعوا صوت النبي وقد ... صارت إلى حرم تهدى به البزل نجل الرضا (مضر) نجل (نزار) وذا ... نجل (معد) بن (عدنان) به كملوا هم الألى قد غدوا آباء سيَّد منْ ... في الكون يجري لنا من فضله العسل قد فاح من عدهم طيب يروق شذا ... ما فاز من نفحه بالجد منتضل هم الأسود و (إسماعيل) جدهم ... ذاك الرسول الذي طابت به الملل هذا الذبيح ابن (إبراهيم) رافع ما ... قد شاد بالحرم المحمي به الأمل شاد القواعد للبيت العتيق وقد ... كان الخليل الذي ما شابه خلل نجل النبيئين (شيب) نجل (آدم) من ... في الأرض قد بدئت من بعثه الرسل صلّى عليهم جميعاً رّبنا وعلى ... آل وصحب بحفظ الدين قد وكلوا فإنهم أصل خير الخلقِ أكرم من ... أبدى الصلاة عليه الكون والأزل وذا أعزُّ عقود نظَّمتْ فغدت ... بأهل بيت رسول الله تكتمل وسطاه خيرُ الورى المختار تكنفه ... أصوله وفروعٌ ما لهم مثل نظمتهمْ مخلصاً لله نظمهمُ ... كي يغتدي منه شملي الدهر يشتمل نظمتهم خدمةً للآل محتسباً ... فيها فحسبي منها ما اغتدى يصل نظمتهم أرتجي من حزم غيرتهم ... ما منه ينشط من قد ريء يعتقل عناية منهم ان يشملوا عملي ... بها، فمني يفوز القول والعمل وإن تكن لي فيهم ذمة فأنا ... أرجو بها الفوز مهما طاب لي أمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أرجو بها مخلصي يوم العماد إذا ... ضاق العباد وقد أضناهم الوجل وإنما ليَ في الدنيا بذكرهمُ ... تبتُّلُ حيثما تستعظم العلل نرجو بسردهم ثم الدعاءِ بما ... أملتهُ أن نرى بالفوز نغتلل إذ أن إكرامهم منه القبول لما ... ندعو به عندما لله نبتهل فجاههم خيرُ جاهٍ يستجار به ... عند المهيمن لا يرضى له المهل رب بجاههمُ كن لي وعذني من ... شر الشرور إذا ما أنفق الدغل ربّ بجاههمُ خذ بيدي فأنا ... مستضعف وعليك اليوم نتَّكلُ بجاههم وبجاه المصطفى وبجا ... هـ الأولياء نرتجي ما منه نكتمل نؤمل الدين والدنيا وآخرة ... بها ننال مفازاً حين ننتقل نرى السعادة في الدارين لي ولمن ... نرى مودَّته ما شابها خلل لا سيما منهمُ من كان لي عضدا ... في النائبات بنصري الدهر محتفل فأسبل إلهي عليه الحفظ ما طلعت ... شمس النهار التي نارت بها السبل وأنعم علي بما أنت الجواد به ... نعمى بها الآن يأوي شمسيَ الحمل وكنْ وليَّي وحسبي في الحوادث لا ... أخشى لها طارقاً يعرو به كسل واضرب علي من اللطف الخفي فسا ... طيط المعاناة حتى يذهب الوجل لطفاً وحفظاً يعم الأقرباء وأب ... نائي وأهلَ ودادي حيثما وصلوا وجاز عنَّي آبائي وشيعتهم ... وكلَّ أشياخنا خيراً بما عملوا وجد لنا بمنى التوفيق حيث نرى ... مسالك الرشد لا يعرو بها زلل وامنن علي بفتح العارفين فذا ... ورد شهي غدا من دونه العسل وارحم بفضلك ذلي إن ذنبي قد ... أضحى عظيماً وما أن قله جبل فتب علي وجد بالعفو عني إذ ... أصبحت ذا خطأ منه أنا خجلُ واغفر لنا ولكل المؤمنين على ... طول الدوام، فإن الفضل منهمل واجمع قلوب جميع المسلمين على ... مصالح الدين والدنيا إذا اعتدلوا وانصر جيوشهم بالرعب إنهم ... إن لم يكن لهم رعب قد انخذلوا وأرشد لنا أمراء المؤمنين إلى ... خير العباد الذي تبقى به الدول واقرن بكل صلاح ما يدبره ... مشيرُ تونس وهو الأحزم البطل وكن مسدَّد أعمالِ الوزير وشد ... مفاخر القطر كي تسمو به الحلل يا رب أنت رجائي في إجابتها ... بعاجلٍ لم يشبهُ الرد والمهل وبالصلاة على الهادي وعترته ... مع السلام دعائي اليوم يكتمل وقرظ هاته القصيدة العالم الأديب الشيخ محمد علي اليميني الهندي الوافد على تونس في ثاني ربيعي سنة ست وتسعين ومائتين وألف فقال: [البسيط] طلا كلامك من سقيته ثملُ ... فقل أخمرك مما مزجه العسل؟ وأنت للحمد أهل يا محمّده ... فالفضل لولاك جيد شأنه العطلُ لو كان للشعر ميدان، تجول به ... فرسان خيل فأنتَ الفارس البطل فعش محمد واسلم واحي وابق ودم ... وقد أحاطت بك النعماءُ والجذلُ ثم الصلاة على طه وعترته ... فكالسوام الورى لولاهمُ هملُ وقرظها الشاب الوارد من مشرع النجابة أعذب موارده، المتواصل الفضل بجديه ووالده، الذي اشتهر بيته النبيه، وتجملت اليوم خطتا القضاء والفتيا بعمه وعم أبيه الشيخ محمد ابن العالم الشيخ الطيب النيفر بأبيات هي أول ما رأيت من شعره وعمره نحو العشرين سنة نرجو من الله أن يرينا هلاله مقمراً، وهي: [البسيط] بمثل نظمك هذا يضرب المثل ... ويركب الصعب كي يرواه والذُّللُ ويرتجى كل مرمى شطَّ مطلبه ... حتى لقد تركت من عزه الحيلُ لئن غدا الشعر قد حالت مذاهبه ... بقصدكم قد تحلى جيده العطلُ علمت أن امتداحَ الآل غاية أد ... نى ما يجازى به في طيه الأمل وبئسما استبدل النحريرُ عارفة ... تدوم منها بنزر دونه الأجل فما تريثتَ أن أبرزتَ غانيةً ... في مدحهم ولها الإبداع مشتمل يمل كل قريض ما عداها فما ... يعرو مسامعنا إن أنشدت مللُ كأنما في قبول نسقت فبها ... عن كل مثلٍ لها أهل النهى شغلوا لازلت في همة فوقٍ السَّماك لها ... من فخركم ومعلى قدركم ظلل ولا تزال ترينا خردا غليت ... لمثلها ما اهتدت من قبلكم أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 من كل عذراء لم تطمثْ يحللها ... بيان سحرك لحفا قدره جلل تدير كأساً على أسماعنا فنرى ... كأننا من سلاف كلُّنا ثمل وقرظها الأكتب النحرير الشاعر المؤرخ الشيخ محمد الباجي المسعودي رئيس كتبة القسم الثاني من الوزارة الكبرى المتوفى مساء الثاني عشر من شوال سنة سبع وتسعين ومائتين وألف عليه رحمة الله بما نصه: [الوافر] نظامك أيها العلم السَّنوسي ... بفضلِ الآلِ تاجٌ للرؤوسِ يفوقُ وحقكم عقد اللآلي ... ويعلقُ حين ينشد بالنفوس فقد أبدعتَ إذ أودعت فيه ... مفاخر للفروع وللأسوس وصرت وقيت حسانا وكعباً ... وهمَّامّا بذا العلق النفيس جزاك الله احسن ما يجازى ... به من أذكر اللّذ قدْ تنوسي سيدي الآوي من ظل البلاغة إلى وارفه، الملتحف بتلاد المجد وطارفه، الساحب على أقرانه ذيل مطارفه، سليل العلماء الأعلام، ومشايخ الإيمان والإسلام، نابغة الزمان، لا بني ذبيان، وحسان أهل البيت المشهود له بالإحسان، منشي الرائد التونسي، الشيخ سيدي محمد السنوسي، أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، وبعد سلام يناجيكم لفه وإحسانه، ويناجيكم بالمبرة والمسرة لسانه، فقد وصلني من بركم المترادف الألطاف، "الأجنة الدانية الاقتطاف، بمفاخر سلسلة السادة الأشراف"، فسرحت الطرف في رياضها فسعى وطاف، واقتطف من ثمراتها الدانية القطاف، فقال وأقسم بالآل، إنها احسن من عقد اللآل، لما حوته من مناقب السادة الذين هم أمان لأهل الأرض، كما قاله سيدنا محمد المشفع يوم العرض، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أقيم من واجب حقهم الفرض، وهنيئاً لكم بما خطر من هذا المهيع الوحيد بالبال، ونظمه دراً نفيساً في جيد الأيام والليالي، وبقاء ذكركم به إلى بقية الأجيال، ومن علامات القبول والإقبال، ظهوره في أيام مولد سيدنا محمد سيد الإرسال، صلى الله عليه وعلى آله الذين اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما قال، ولو لك يكن شكر المنعم من الواجب ما أعلمت في تقريظه الرواجب، إذ حسنه واضح جلل، والشمس تكبر عن حلي وحلل، تقبل الله تعالى سعيكم، ووالي حفظكم ورعيكم، وآنس هذا القطر التونسي بكم وبمثلكم، وأحسن للجميع العقبي، وجعلنا منت أهل المودة في القربى، بمنه وفضله، حرره ودودكم محمد الباجي المسعودي في 10 ربيع الأنور سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف. الملاحق ملحق (1) مشيخة المدينة بتونس . ملحق (2) عهد الأمان. ملحق (3) ثورة علي بن غذاهم. ملحق (4) الكومسيون المالي. ملحق (5) المجلس الشوري. ملحق (6) تتمة للمقدمة تتضمن تاريخ تونس من 1297 إلى 1376 هـ?، ومن 1879 إلى 1957 م. ملحق (7) تاريخ تأسيس جامع الزيتونة. ملحق (1) مشيخة المدينة بتونس المجلس البلدي لما تأسس في سنة 1275 كان نظره مقتصراً على ما ضمه سور الحاضرة من المساكن والطرقات. ثم نظمت الإدارة البلدية سنة (1302) فاتسع نظرها وشمل العقارات البلدية، ولوائح إصلاح البناء، وإحداث الشوارع العامة والخاصة ومعاليم الطرقات، والأسواق، ومحلات التفسح، والدفن، والمواليد، ومصلحة الإطفاء، إلى غير ذلك مما هو من مهمات البلد. وكانت البلدية خاضعة للوزير الأول، وهي الآن خاضعة لوزير الداخلية. وهذه أسماء مشايخ المدينة في العهد الحسيني وعهدنا الحاضر عهد الاستقلال. اسم الشيخ تاريخ ولايته الشيخ حميدة الغماد 1207 الشيخ حمودة العصفوري 1239 الشيخ محمد العصفوري 1265 الشيخ الحاج عميرة ثابت 1271 الشيخ محمد الزهار 1279 الشيخ إسماعيل معاوية 1281 الشيخ الحاج حميدة سيالة 1284 الشيخ الشاذلي الدلاجي 1285 أمير اللواء محمد الدلاجي 1288 أمير اللواء محمد العصفوري 1302 أمير الأمراء محمد الصادق غيلب 1320 أمير اللواء مصطفى دنقزلي 1330 أمير الأمراء خليل بوحاجب 13331915 أمير الأمراء الشاذلي العقبي 13451926 أمير الأمراء علي السقاط 13511932 أمير الأمراء عبد الجليل الزاوش 13531934 مصطفى صفر 13541945 محمد سعد الله 13601941 العزيز الجلولي 13611942 الشاذلي حيدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 13621943 أحمد الزاوش 13761956 علي البلهوان 13771967 أحمد الزواش ثانياً 13781958 حسيب بن عمار 13831963 فؤاد المبزغ 1389،1969 عز الدين العباسي 13931973 حسن الممي 13951975 صالح عويج 1978 زكرياء بن مصطفى 1980 وكانت رئاسة البلدية منفصلة عن مشيخة مدينة تونس حين تاسس المجلس البلدي. وأول من تولى رئاسة المجلس البلدي الجنرال حسين 1275 1858. محمد قارة 12821865 محمد العربي زروق 12861869 حسونة المتالي 12981880 حسونة الوزير 13001882 محمد المبزع 13011883 وبقت كذلك منفصلة إلى أن تولى محمد العصفوري مشيخة المدينة فإنها جمعت له مع رئاسة بلدية تونس. ثم استمر الحال على أن شيخ مدينة تونس هو رئيس بلديتها. واللواء محمد العصفوري الذي جمع بين الأمرين تولى إثر الحوادث التي آلت إلى عزل الشاذلي الدلاجي. ملحق (2) عهد الأمان (1274 1277 1280) عهد الأمان اجمل القول فيه المؤلف عكس الشيخ الوزير ابن أبي الضياف فإنه تحدث عن عهد الأمان وعن سببه الذي دعا الأمير إلى إعلانه، وقد بسط فيه القول اعتناء به، ومن عنايته بعهد الأمان انه سمى كتابه: (بإتحاف أهل الزمان، بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) . فهذه التسمية المعنون بها الكتاب تدل دلالة واضحة على ما للشيخ الوزير ابن أبي الضياف من عناية بعهد الأمان. ومن المتأكد أن نذكر باختصار أسباب إصدار قانون عهد الأمان لن المؤلف هنا يذكر أنه أصدره تلقائياً حيث يقول: ولما مهد السبل أصدار عهد الأمان. وجلية الأمر في إصداره هي قضية مقتل اليهودي المسمى باطو الذي كان يخدم على كرطون ينطقها أهل تونس بفتح الكاف والراء وضم الطاء الممدودة وهي الكريطة والمتعارف الآن كريطة للقائد نسيم رئيس اليهود بسبب شتمه لمسلم وسب دينه وكان اليهودي بحال سكر، وقد اعتاد ذلك. وكان قتله من الباي تنفيذاً لحكم المجلس الشرعي الذي حكم بقتله بدون استتابة على مقتضى المذهب المالكي وحكم عليه بالإعدام رغم تدخل القنصلية الفرنسية في القضية. وبعد مقتل اليهودي أتاه القنصل ليون روش وحذره من مغبة استبداده بالحكم فجعل مجلساً للجنايات بدون إحداث قانون لذلك. فلم يرض عمله هذا اليهود بباريس فهاجوا وماجوا ورفعوا أصواتهم بالشكاية. فأنتجت دعايتهم ضد الحكومة التونسية قدوم قطع من الأسطول الفرنسي والتهديد بقدوم قطع من الأسطول الإنكليزي الذي بمالطة، وهدد القنصل الإنكليزي بقدوم الأسطول العثماني. فاضطر الباي تحت هذا التهديد إلى إعلان قواعد عهد الأمان وهي إحدى عشرة قاعدة وتلي هذا العهد بالسراية الكبرى بباردو. وكان ذلك في 20 من المحرم سنة (1274) الموافق للتاسع من سبتمبر سنة (1857) فهذا هو سبب إصدار عهد الأمان. وذكر الوزير ابن أبي الضياف ما دار حول قانون عهد الأمان من (ص231 إلى ص249 من ج?4 من الإتحاف) . المشير محمد الصادق باشا باي وعهد الأمان: أجمل المؤلف إتمام عهد الأمان في مدة المشير الثالث في فقرة من أقصر الفقر فيقول: (وأعمل الحزم في إنجاز مشروع أخيه بإتمام القوانين المبينة على عهد الأمان وجمع لها خاصة العلماء والأعيان فاستكملوا وضعها واجملوا صنعها) . والموضوع طويل الذيل من أهم الأحداث بتونس كما ذكرنا سابقاً وقد تحدث عنه الشيخ الوزير ابن أبي الضياف. بأن المشير الثالث محمد الصادق باي افتتح البيعة له بالإمارة بالتعهد بالتزام عهد الأمان ونصحه الوزير النصوح بأنه إذا لم يتعهد بذلك جر إليه غضب الدولة العلية وسائر الدول التي دعت إلى العمل بعهد الأمان. وذكر نصه كما ذكره الشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم: تبارك من جعل الأمان أقوى أسباب العمران، والصلاة على سيدنا محمد وأله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أما بعد فيقول العبد الفقير لربه المشير محمد الصادق باشا باي وفقه الله لما يرضاه، وأعانه على ما أولاه: أني أقبل البيعة من الأعيان الحاضرين على مقتضى ما وقع الالتزام به في العشرين من محرم سنة 1274 أربع وسبعين ومائتين وألف من المرحوم المقدس أخينا المشير سيدي محمد بالفتح باشا باي، وهو عهد الأمان لسائر السكان على الأعراض والأموال والأبدان، وما حواه من القواعد اللوازم وأركان وحلفت وأحلف بالله وعهده وميثاقه على مقتضاه، وأن لا أخالفه ولا أتعداه. وهذا الكلام صدر مني ونقله الناطق به عني وختمي وخطي فيه أقوى شاهد وأوضح إعلان، لكلمن حواه الديوان، ولسائر الرعية والسكان. وعلى مقتضاه عليكم السمع والطاعة، ويد الله مع الجماعة. حرر يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة (1276) . افتتح بيعته بهذا العهد يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة (1276) حين اجتمع بالمجلس الشرعي ووجوه الحاضرة ورجال الدولة واعيان العسكر وخرج للبيعة في آل بيته وألقى عليهم نص العهد المذكور وبعد تلاوته بدأت البيعة، فبايعه أهل المجلس الشرعي، وهو قائم، ثم جلس وبايعه كل الحاضرين وهو جالس على كرسيه على اختلاف طبقاتهم. الحرص على إتمام قانون عهد الأمان: تصفح المشير الثالث أعمال المجتمعين لتحرير فصول قانون عهد الأمان وترتيبه، وحرضهم على الإطلاع على قوانين الدول مع الحرص على عدم مخالفة الشريعة. وقد انفصل العلماء عن المشاركة في التحرير المذكور، ولامهم في تاريخه الشيخ الوزير ابن أبي الضياف ملقياً عليهم تبعة عدم مشاركتهم في هذه المصلحة فقال: وليت شعري ما أعد العلماء من الجواب بين يدي الحكم العدل، العالم بخائنة العين وما تخفي الصدور عن تجنفهم وتباعدهم عن هذه المصلحة الضرورية متعللين بأنها لا تناسب خططهم الشرعية في العرف، والحال أن الشريعة جاءت لمصالح الدنيا والدين وأوقعوا بهذا التجنف وصمة في وجه البلاد ونفرة بينهم وبين أهلها (الإتحاف ج?5 ص38) . إن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف حملة سببها بعض العلماء المتصدرين من بعض أهل المجلس الشرعي دون غيرهم، فهناك كثرة من العلماء شاركوا، ففي مجلس التحقيق شارك: الشيخ محمد الشاهد شيخ الجماعة فإنه كان من أكابر أئمة الدين. والشيخ حميدة بن الخوجة الذي تولى مشيخة الإسلام وكان من نبغاء العلماء. والشيخ محمد الستاري. والشيخ محمد النيفر المفتي المالكي العلامة النحرير. والشيخ حسونة عباس المفتي الحنفي. وتركيب مجلس التحقيق كله من العلماء المذكورين، وغنما كان رئيسه من غيرهم وهو إسماعيل صاحب الطابع. والسبب في ذلك أن رؤساء المجالس كان اختيارهم على قاعدة أن لا يكون من أهل البلاد لارتكاز الحكومة على غيرهم نظراً إلى أن الدولة ترتكز على صنائعها من المماليك والأصهار أما بقية الشعب وإن تقدموا علماً وتفكيراً فهم لا حظ لهم إلا إذا اضطر إليهم. وكذلك الحال في مجلس الجنايات فإن تركيبه من العلماء ومنهم الشيخ صالح النيفر أحد أفذاذ العلماء كما يقوله الشيخ السنوسي في ترجمته. والشيخ احمد كريم الذي تولى مشيخة الإسلام. والشيخ محمد المازري ابن الشيخ محمد الطاهر بن مسعود. والشيخ الجد محمد الطاهر ابن الشيخ العالم محمد النيفر القاضي العلامة النحرير أحد قضاة العدل الأفذاذ. والشيخ محمد ابن الشيخ المفتي حسين البارودي. والشيخ محمد الشريف أحد العلماء الوجهاء. وكذلك انضم إلى المجلس الكبير من العلماء: الشيخ عمر بن الشيخ الذي تولى الإفتاء. والشيخ سالم بوحاجب أحد نبغاء العلماء، وقد تولى رئاسة الإفتاء. والشيخ الطاهر بن عاشور العلامة المؤلف والذي تولى القضاء والإفتاء. والذي دعا الشيخ الوزير ابن أبي الضياف أن يحمل على العلماء ويقول: (ما اعد العلماء من الجواب بين يدي الحكم العدل العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عن تجنفهم وتباعدهم عن هذه المصلحة الضرورية متعللين بأنها لا تناسب خططهم الشرعية في العرف، والحال أن الشريعة جاءت لمصالح الدنيا والدين وأوقعوا وصمة في وجه البلاد ونفرة بينهم وبين أهلها) هو امتناع الشيخ محمد بيرم الرابع شيخ الإسلام فإنه يحمله تبعة الامتناع وكذلك المشايخ: أحمد بن حسين باش مفتي المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومحمد بن الخوجة المفتي الحنفي. ومحمد البنا المفتي المالكي. إن صاحب الإتحاف انتقد على شيخ الإسلام المذكور بأنه كان أسرع الحاضرين للإجابة مستنداً إلى الغضب الذي لا قدرة لنا على دفعه. ثم قال: وهو المشار إليه في تعاريب مكاتيب الوزير وهو وزير الأمور الخارجية بفرنسا من الذين بمشورتهم لأمور غير صالحة، وأوقعوا له الاختبال في عقله كم مرة، (الإتحاف ج?4 ص239) . وقد ذكر صاحب الإتحاف محاورة دارت بينه وبين شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع: فقلت له ان القوم لم يصرحوا بالغضب، ولا آذنوا بحرب وإنما نصحوا. فقال (أي شيخ الإسلام المذكور) : نخشى الغضب من الدولة العلية وأصول التنظيمات لا تخالف ديننا (الإتحاف ج?4 ص239) . ثم إنه بعد ذلك يشير إلى امتناع الإسلام: (تلكأ الشيخ محمد بيرم شيخ الإسلام عن الحضور لأمر يعلمه الله فقال له الباي: قد أفتيتنا بالقبول من أول الأمر وأن التنظيمات الخيرية لا تعارض ديننا فما بالك تمتنع من الحضور الآن وألزمه الحضور. وتحدث صاحب الإتحاف عن شيخ الإسلام كيف قبل ما جاء من تفسير القاعدة الأولى من عهد الأمان وهي: تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على الأديان والأسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأعراضهم المحترمة إلا بحق يوجبه نظر المجلس المجلس بالشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن، أو الإذن بإعادة النظر. فنقل عن شيخ الإسلام أنه قال: يمكن لي أن أخطب يوم الجمعة بشرح هذه القاعدة الأولى المذكورة. وفي هذا الجو الذي أقبل فيه أهل المجلس الشرعي على تفسير القواعد الأصولية بعهد الأمان أمر الوزير المصلح خير الدين الفقهاء الحاضرين أن يكتب كل واحد منهم على قواعد عهد الأمان ما يراه ويدين الله به، فأجابوه لمطلبه لما رأوا من توقد فكرته، وكمال فطنته، فكتبوا وتقاربوا في المرمى على قوس واحدة. وجلى شيخ الإسلام فيما كتبه بشهادتهم ولولا الإطالة لنقلنا ذلك. ? استقالة الفقهاء من مجلس شرح قواعد عهد الأمان بعد مشاركة أولئك الفقهاء الأربعة طلبوا الاستعفاء متعللين بأن مناصبهم الشرعية وما عليهم من مهمات يجب القيام بها لا يمكن الجمع بينها وبين علمهم في المجلس المذكور. وآخذهم صاحب الإتحاف في قصرهم أنفسهم على وظائفهم الشرعية. وكان الظن بهم تقديم هذه الطاعة المتعدية على غيرها من الطاعات القاصرة. وتعللوا بأن منصبهم الشرعي لا يناسبه مباشرة الأمور السياسية إلى غير ذلك من المعاذير التي لو لم نرها ما نقلناها. وقبل الباي عذرهم، وأرواحهم من تعب الحضور، ولسان حال المسلمين بهذه الإيالة المسكينة يقول: وما يجب اعتقاده أن الله الذي دينه النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن أوامره الواجبة على عباده تغيير المنكر ولو بالقلب، ومن شريعته المسحة ارتكاب أخف الضررين عند العجز عن السلامة منهما إلى غير ذلك من تيسير هذه الشريعة الصالحة لكل زمان، يسألهم عن ذلك يوم تبلى السرائر، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم) . لعل له عذراً وأنت تلوم حمل الشيخ الوزير احمد بن أبي الضياف العلماء كلهم مغبة عدم المشاركة في تحرير شرح قواعد عهد الأمان مع أن الممتنعين قلة وهم الأربعة: الشيخ محمد بيرم الرابع. والشيخ احمد بن حسين. والشيخ محمد بن الخوجة. والشيخ محمد البنا. أما الكثرة من العلماء فقد شاركت لما قامت المجالس المنبثقة عن تطبيق عهد الأمان بالأخص الشيخين وهما: محمد الشاهد. وصالح النيفر. كما أن شيخ الإسلام الرابع كان من أعضاء مجلس الباي الذي جعله لخاصة نفسه للنظر فيما يحرره مجلس شرح قواعد عهد الأمان. فالعلماء لم ينفضوا أيديهم من هذا المجلس، وإنما امتنع بعضهم من مجلس خاص وهو المجلس الذي يرأسه الوزير مصطفى خزنه دار. ومن القريب جداً أن امتناع الإسلام محمد بيرم الرابع كان من أجل انه لم يوافق على أن يكون مرؤوساً للوزير مصطفى خزنة دار لأن الوضع كان في تونس أن شيخ الإسلام يقدم على الوزراء، وكذلك بقية أهل المجلس الشرعي. ويدل على تقديم أهل المجلس على سائر رجال الدولة أن المكتوب الذي عين فيه الباي رجال المجلس المذكور قدم أعضاء المجلس الشرعي. وهذا نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أمرنا هذا للعلماء الأعلام الفقهاء الأعيان، الجلة الفضلاء من أهل مجلسنا العلي: شيخ الإسلام سي محمد بيرم. والشيخ سي احمد بن حسين باش مفتي المالكية. والشيخ سي محمد بن الخوجة المفتي الحنفي. والشيخ سي محمد البنا المفتي المالكي. والوزراء الأعيان النصحاء الأركان أولي الرفعة والشان. أبننا الأعز ووزير العمالة مصطفى خزنه دار. ووزير الحرب أمير الأمراء ابننا مصطفى باش آغة. ووزير البحر ابننا خير الدين. والوزير الأحظى أمير الأمراء ابننا إسماعيل صاحب الطابع. والأحظى أمير الأمراء ابننا محمد بالفتح أمير الأعراض. وكاتب سرنا أمير اللواء محبنا الشيخ سي محمد بن أبي الضياف، حرس الله جميعهم واحسن صنيعهم. وإننا أمرناهم بالاجتماع في دارنا بالقصبة يومين في كل أسبوع، وهما الأربعاء والخميس للتفاوض في شرح الفصول المسطرة في عهد الأمان. وكل واحد يتكلم بما يدين الله به على مقتضى آداب البحث في الأدلة وإيضاحها، ولا يخجل من لا تنهض حجته فالحق أحق بالاتباع. وأمرناهم قبل ذلك بقراءة ما رتبه الدولة العلية العثمانية وغيرها من الدول ليجروا التراتيب على ما يصلح بلادنا بعد استفتاء من ذكر من العلماء فيما تتوقفون فيه من الأمور وترفعوا إلينا عمل كل اجتماع لننظره ونمضي ما عليه أكثر رأي الجماعة. ولا يلزم الفقهاء المذكورين الحضور إلا يوم الأربعاء لاشتغالهم يوم الخميس بالمجلس الشرعي بدار الشريعة والله تعالى ولي إعانتهم وتوفيقهم على هذه المصلحة التي يعم نفعها بحول الله، والسلام. وكتب في 16 أشرف الربيعين. فلما رأى أهل المجلس الشرعي تقدم الوزراء عليهم أنفوا من الجلوس في مجلس يترأسه الوزراء المماليك. وزاد الطين بلة أن هناك عداوة بين وزير العمالة صاحب النفوذ الوزير خزنه دار وبين شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع وعداوته شبيهة بعداوة الوزير المذكور مع إسماعيل السني صاحب الطابع فوجود شيخ الإسلام في مجلس يترأسه من يتربص به الدوائر دعاه إلى أن يستعفي هو وبقية أهل المجلس الشرعي المالكية والحنفية. وحسناً صنع شيخ الإسلام فإنه لو بقي معه في ذلك المجلس لاشتدت العداوة بينهما ولأفضت إلى ما أفضت إليه عاقبة الوزير إسماعيل السني الذي سعى أولاً إلى إصدار أمر الباي بإقامته الإقامة الجبرية، ثم سعى في قتله في بضع دقائق مع أمير المراء رشيد وزير الحرب. فشيخ الإسلام يخشى عاقبة كعاقبة هذين الرجلين السني والرشيد. فالعلماء المستعفون من المجلس المكلف بإرساء قواعد عهد الأمان على علم لبعد أنظارهم بأن العهد الممنوح غنما هو منح اضطراري أدت إليه حادثة قتل اليهودي المتجرئ على الإسلام بشتم دين أحد المسلمين. فالباي الأمير والكثير من حاشيته هو أهم في عدم وجود عهد الأمان، ولذلك لما وقعت ثورة علي بن غذاهم ارتكز عليها وزير العمالة وأبطل العمل بعهد الأمان، فهم على بينة من الأمر بأن العمل به كان تحت ضغط الدول الأجنبية. ومن أعذار الاستعفاء: أن تشكيل المجلس للنظر في إرساء قواعد عهد الأمان كان تشكيلاً غير متناسق فيما بين أعضائه إذ منهم الفقهاء الذين لهم مرانة سياسية مثل شيخ الإسلام بيرم الرابع الذي له اتصال بالأمراء واطلاع على خبايا نفوسهم فقد كانت له مصاهرة مع الباي المشير الثاني. ومنهم فقهاء تطبعوا بطبيعة الفقهاء في التزام النصوص الفقهية مثل شيخ الإسلام المالكي أحمد بن حسين الذي هو من العلماء الفقهاء الممتلئين فقهاً ولهم محافظة شديدة على النصوص الفقهية. وعى هذا الغرار المفتي الحنفي الشيخ محمد بن الخوجة فإنه من فقهاء الحنفية. وأما المفتي المالكي فهو من أهل الورع الشديد والبعد عن رجال السياسة حتى أن الأمير المشير الثالث لما أراد إعانته على بناء داره امتنع من اخذ أي شيء مع الفقه البارع وهو الشيخ محمد البنا. فهؤلاء الفقهاء كان انسحابهم من مجلس الإرساء عن روية وعن معنى خاص أدركوا به أن عملهم سوف لا يثمر لأن الاتجاه الحكومي من قبل الوزارة مراميه بدأت تظهر حين تلك الاجتماعات وهو ما جعلهم بعد أن انظموا إليه استعفوا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ثم إن الأفكار كانت غير متقاربة بل متباعدة غاية البعد لأن التشكيلة من حيث الفقهاء كما ذكرنا قابلتها تشكيلة أخرى بعيدة عنها كل البعد، وهي تشكيلة سياسية متبصرة في بعض رجالها وهو الوزير خير الدين وتشكيلة أخرى نظرها في السياسة نظر مبني على معرفة قاصرة غير متمكنة من الدين كما أنها غير متمكنة من السياسة التي ظهرت في العالم الحديث. فالفقهاء موقفهم حرج لأنهم أمام نظريات ليست من صميم الإسلام فلهذا نزعوا أيديهم من المجلس المذكور، فلو أنهم لا يريدون خدمة المصلحة العامة لما دخلوا أول مرة وغنما بدا لهم ما كانوا متخوفين منه. بدت لي هذه النظرية بأنها هي الداعي الأصلي للانسحاب ثم وجدت ما يؤيدها من قبل الشيخ بيرم الخامس في كتابه صفوة الاعتبار حيث ذكر: ثم عقد الوالي مجلساً رئيسه الوزير مصطفى وزير العمالة وأعضاؤه: مصطفى آغة وزير الحرب. وخير الدين وزير البحر. والوزير إسماعيل السني. والوزير محمد. وكاتب أسرار الوالي أمد بن أبي الضياف. وأذنهم باستخراج أحكام سياسة تدور عليها أعمال الحكومة واستخراج أحكام فرعية في الحقوق الشخصية يجري بها الحكم في القطر. وأذن أن يكون شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع أحد أعضائه فامتنع من الحضور دون مشاركة من العلماء الحنفية والمالكية. واستقر الرأي على إضافة: الشيخ محمد بن الخوجة المفتي الحنفي. والشيخ احمد بن حسين رئيس الفتوى في المذهب المالكي. والشيخ محمد البنا المفتي المالكي. وهؤلاء الأعلام الأربعة هم أكبر علماء العصر إذ ذاك. فحضروا أولاً ثم امتنعوا بأن كتب كل واحد منهم شرحاً منفرداً على الإحدى عشرة قاعدة المار ذكرها أبدوا فيها الأحكام الشرعية المطابقة لتلك القواعد، واقتصروا على ذلك متعللين بأن الذي بدا لهم من مغزى الجماعة هو الميل البحت للسياسة الساذجة من غير التفات إلى محاذاة الشرع بل ربما عرض ما يصادم القواطع. وحيث كان عمل المجلس على ما يستقر عليه الرأي الغالب لم يأمنوا أن يسند إلى المجلس ما يخالف الشرع، ويحمل على عاتقهم، وهو الذي تبين لكل من الفريقين فيما بعد ولدت الليالي من أن الصواب في غير مسلكه على ما يتحرر إن شاء الله تعالى في الخاتمة. حملة في غير موضعها: تبين بما ذكرنا وما نقلنا أن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في غير موضعها. أما أولاً فلما ذكرنا من أنها مقصورة على بعض أهل العلم وهم قدماء أعضاء المجلس الشرعي وأما غيرهم فانضموا إلى هذا المجلس، بل كان بعض المجلس متركباً منهم دون غيرهم غلا في رئيسه كما أسلفنا. وأما ثانياً فإن انسحابهم من المجلس الشارح لقواعد عهد الأمان يرجع إلى انهم بدا لهم أن الأغلبية ترمي إلى جعل فصول للحكم في بعضها ما لا يمت إلى الشريعة السمحة. فاستغلال سماحة الشرع المنيف لا تؤدي إلى تحلل من نصوصه القطعية حتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله. فهم لا يريدون أن يتحملوا تبعة ذلك فلذلك اكتفى رئيسهم شيخ الإسلام بأن يكون في مجلس الأمير هو الغربال لما يقنن من فصول. عالم الأدباء وقانون عهد الأمان لو كان العلماء متبرئين من عهد الأمان مغلبين للمصلحة القاصرة على المصلحة العامة أما أنشد العلامة الشريف محمود قابادو قصيدته الشهيرة في عهد الأمان منوهاً به، ومعرفاً بأنه من صميم الدين التي يقول في طالعها: العدل عهدُ خلافة الإنسانِ ... ومداد ظل الأمن والعمران وتمدُّنُ البشر اقتضى إيلافهم ... فتعاضدوا من دائن ومدان وتطامحُ الخلطاء لاستبدادهم ... بالقتل داعيهم إلى العدوان فتقرُّر السلطان ضربةُ لازب ... لنظامهم بالعدل والإحسان افتتح عالم الأدباء الشيخ قابادو قصيدته هذه بهذه الأبيات الأربعة منبهاً على ما ذكر ابن خلدون في مقدمته من أن الإنسان مدني بالطبع، واشتباك المصالح مؤد إلى اعتداء البعض على البعض فلا بد من سلطة تمنع المعتدين وتكف ضراوة الضارين فهي مقدمة لرأيه في عهد الأمان. وأشار فيها إلى أن السلطان ليس قوة قاهرة بل هو سلطة رحمة وإحسان. فما أتى به ابن خلدون في مقدمته في الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري أتى به أديب العلماء بلا منازع العلامة الشريف محمود قابادو في تلك الأبيات النزرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وهذا ما يدل على أن الفقهاء من التونسين كانوا على جانب عظيم من علم الاجتماع متأثرين بسلفهم العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون (-808) فكلهم من فبضه يغترف، ومن مناهله يرتشف، فعلماء تونس الفقهاء كانت معرفتهم الاجتماعية تؤهلهم للنظر البعيد وللتفقه في الدين التفقه الصحيح، فما يرميهم به الرامون غنما هو لمرض في النفوس وحسد كامن في القلوب. وقصيدته هذه أتى بها المعروف في ديوان محمود قابادو الذي اعتنى بجمعه وطبعه سنتي (1294 و1295 هـ? (. وقد ضمنها الكثير من إنشاء المجالس لعهد الأمان ومن أبدعها قوله: قانون عدل صادق عال سمت ... أساسه رجبا على آسان 1277 ونقل عيونها الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان في الجزء الخامس صفحة 46. ومن نصيحته الشيخ قابادو لأهل المجلس قوله مخاطباً أعضاء المجالس: هذي رئاستكم وعزة مجدكم ... نيطت بكمْ يا معشر الأعيانِ وإلى أمانتكم وحسن وفائكم ... وكلتْ وغيرتكم على الأوطان ولتعلموا أن الوفي لنفسه ... يوفي ومن ينكث عليها جاني والله ليس مغيراً إنعامه ... حتى يغيره ذوو الكفران وتيقنوا أن الذي غلب الهوى ... والنفس يغلب كل ذي سلطان هذا وإن الصادقية دولة ... خصت بتأييد من الرحمان لما رأت مصباحَ شرعِ محمد ... بترعب الهواء ذا خفقان جعلت له القانون يشبه زجاجة ... لتقيه هب عواصف الطغيان فتدارسوه لما علمتم بينكم ... عودا على بدء بغير توان والله يشملنا ويشمل جمعكم ... بالعون والتوفيق والغفران وبعد أن ذكر الشيخ الوزير صاحب الإتحاف أبياتاً من هذه القصيدة عليها بقوله: وهذه الغانية على طولها أقصر من ليالي الوصال، وأعذب ما سمع من المقال، لو لم يأت بعدها ما ينافيها، والحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع، ومن اعظم الذنوب تحسين العيوب، "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" الشعراء 124 125. يقصد الشيخ الوزير الذي أتى بعد قصيدة الشيخ قابادو في مدح عهد الأمان قصيدته التي هنأ فيها المشير الثالث حين اخمد ثورة علي بن غذاهم. وهي التي يقول في مطلعها: سما للعلا يقظانُ عين حديدها ... فهيهات بعد اليوم تعدى حدودها أضلّ عقاب الحزم أرجاءها كما ... أضل عقاب البأس فيمن يكيدها ويقول فيها: فيا ويحها من عصبةٍ قد تهافتت ... على نار بغي ما سواها وقودها ولا شك انه يقصد قوله فيها: وإن فداء الكل بالبعض سنةٌ ... تواتر من شرعٍ وطبعٍ شهودها وقد كان جلد البعض زجراً وأهدرت ... نفوس بجلد الزجر فاد جليدها أليس من التعزيز وهو مناهجٌ ... تناط إلى رأي الإمام حدودها وقدماً قضى سحنون في الدين ضارباً ... مراراً قضى نحبَ المدين عديدها وأما عقاب المال فهو موسعٌ ... إذا عودت منه بشيء يعيدها بحيث إذا لم تمتهن باستلابه ... رأت شوكة السلطان فلَّت حدودها على انه قد كان حط من الجبا ... وإعوازُ بيت المالِ ممَّا يعيدها فهذه الأبيات فيها تبرير من الشيخ قابادو لأفعال الأمير في التعذيب والمطالب المالية المجحفة التي وضعت على رجال الثورة. والشيخ قابادو لا أظن أن الحامل له الطمع كما يقال الشيخ الوزير وإنما حمله على ذلك أن هذه الثورة لو تمت لأتت على الأخضر واليابس والبلاد في حال ضنك تشتكي العجز. فنظرته البسيطة هي التي أدته إلى أن يبرر تلك الفعال، ولو نظر نظرة عميقة مثل نظرة الشيخ الوزير لما برر تلك العمال. ثم إن تلك الثورة تسبب فيها سوء الإدارة والإسراف المالي المجحف المؤدي إلى نضوب الخزانة المالية مع التصرف الذي لم يكن على قاعدة ومع جولان الأيدي في أموال الحكومة. وعلى كل فالشيخ قابادو يشيد بعهد الأمان، وإنما يرى أن الفوضى مؤدية إلى الانهيار فموقفه ليس موقف طمع لأنه كان الناس بالزهاد فحياته حياة الذين لا يعتنون بالمال. وشاركه في الإشادة بعهد الأمان علامة أديب شاعر وهو الشيخ أحمد كريم الذي تولى الإفتاء وكان من مشايخ الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأشار الشيخ احمد كريم إلى أن الشرع نادى بما جاء به عهد الأمان في قوله: تيقَّن أن العدلَ أبقى لملكه ... فأضحى لطرق الجور ينسفها نسفاً أمولاي قد عاهدت عهداً مؤمناً ... فأوفيت في عهد الأمان ومن أوفى؟ وأمّنت أهلَ القطر من كل ضائر ... ولولا وجوب الحتف أمتنا الحتفا جعلت أساس العدل فيهم أمانهم ... على العرض والأبدان والمال مستوفى وسويت في الحكام بين جليلهم ... وبين ذليل كان في الحق يستخفى وألزمت أحكاماً هي الفيصل التي ... توافقنا شرعاً ونعتادها عرفا وتبارى الأدباء في اليوم الذي اجتمعت الهيآت لقراءته بدار المملكة حين طلبوا من الباي أن يحضر لديهم وذلك أواخر جمادى الثانية سنة 1277. وفي ذلك اليوم انشد القصيدان المتقدم ذكر البعض منهما وهو دليل واضح على أن الهيئة العلمية عبرت عن سرورها وإكبارها لتطبيق عهد الأمان، فتونس رجالها المثقفون بالثقافة الإسلامية لم يحجموا عن مساندة القانون، فما يرميهم به الرامون هو من قبيل إلصاق تهم هم براء منها. ومع انهم نصروه هم مقصرون في الاستفادة من هذا القانون، وتقصيرهم يبدو في كونهم لم يقوموا بواجبهم نحو بقية الأمة في تفهيمهم محاسن القانون، وأن الدين يدعوهم لإرساء قواعد العدل في غير مبالين بما ينالهم. لكنهم لم تبرح في نفوسهم هيبة المراء أصحاب النفوذ المطلق فلذلك قصروا وأحجموا. ملحق (3) ثورة علي بن غذاهم حط الشيخ السنوسي من ثورة علي بن غذاهم، ونعته بنعوت تدلي إلى الحضيض وتحشره في جملة الأدنياء الحثالة، ووصفه بأنه دعي والدعي المتهم في نسبه أو الذي يدعي إلى غير أبيه. ووصفه بأنه جلف، والجلف الرجل الجافي والظالم، ففي نظره أن ثورة ابن غذاهم ظلم صراح، ووصفه بأنه رئيس البغاة. ويختم تسجيله لحادثة الثورة التونسية برضاه عما وقع لأهلها فيقول: ولما تم القبض على زعماء البغاة الأشقياء جالت يد أنصار الدولة على أعضاء الثورة، ومن تشيع إليهم وهز عصا الشقاق، ونال كل واحد منهم ما ناله من القتل، وضربت تلك المغارم على الأعراض وجربة، وصفاقس وعموم بلدان الساحل عدا أهل سوسة والقلعة الكبرى لتقدم طاعتهم. فعنده هذه المظالم المتنوعة من القتل والضرب والسجن في أشد السجون وضرب المغارم على أكثرية أهل البلاد ومعنى ضرب المغارم افتكاك أموال الناس بالقهر هي الجزاء الوفاق. فالأمة أصبحت بسبب هذه المظالم المتراكمة لكل ما يملكه الإنسان من روحه وعرضه وماله أمة ميتة، وكل ما أصابها لم يثر في نفسه شعور الإنسانية حتى يرثي لهذا الشعب الرازح تحت السيف والسياط والسجن والتفقير ولنتبين الحق من غيره تأتي بما كتبه الشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار. وإنما أتينا بما كتبه لنزيل من الأذهان من أن للشيخ السنوسي له اتصال بالحقيقة بل هو بعيد عن الحقيقة، فالشيخ بيرم الخامس عاش تلك الأحداث فكتابته كتابة مطلع خبير. جاء في صفوة الاعتبار. (وخلا الجو لخزاندار أي لما استعفى الوزير خير الدين ومن معه وأخذت السيرة في طور آخر جديد ورام يضاعف أداء الجباية على الأهالي ويصيرها اثنين وسبعين ريالاً على الرأس عوضاً عن الستة والثلاثين ريالاً التي أسسها محمد باشا، وطلب المجلس الكبر أي طلب خزاندار بواسطة الأمير من المجلس الأكبر ذلك فامتنع أعضاؤه واستبد هو أي خزندار، بإمضائها مع تحديز العقلاء له فلم يلتفت إليهم مع أن الأهالي في ثورة من أثر سيرة محمد باشا تقويهم على الدفاع عن أنفسهم مع ما أستأنسوا به من تلك السيرة وسماعهم بان العدل والإنصاف قد شملهم بالقانون وأن لهم الكلام على حقوقهم فامتنعوا قاطبة وأرادوا غصبهم على ذلك، فثار القطر كله ثورة واحدة لم تعهد من قبل على غاية من الرياضة والأمن بحيث لم يتعرضوا بالأذية لأحد مع أمن السبل، وكثرة الفادي والرائح، وضبط كل جهة ببعض أهلها لردع السفهاء وحفظ الراحة والمن وكان متولي أكبر الجهة الغربية والملتف عليه أكبر قبائل الأعراب رجلاً يسمى علي بن غذاهم وذلك سنة (1280) . وما زالت هذه الثورة تسمى ثورة غذاهم، وكاتب الجهات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بأنا إخوان ومطلبنا واحد، وليس المراد منه الإفساد، فالواجب حفظ الأمن والراحة، وتأمين السبيل، ولا نتعرض لأحد بشيء سوى أتباع الحكومة فإذا أرادوا غصبنا على الظلم ندافع عن أنفسنا وأنذرت القبائل عمالهم الذين كانوا بين أظهرهم فمن أراد منهم التوجه إلى الحاضرة أوصلوه بأمان ومن أراد الإقامة منكفئاً عن التداخل في أمرهم أبقوه بأمان. ولما توجه أمير الأمراء فرحات إلى الكاف لإجبار قبائل ماجر على ذلك الأداء تعرضوا له وقتلوه فشدد النكير علي بن غذاهم وقال لهم: أصل اتفاقنا تعرضوا وقتلوه فشدد النكير عليهم علي بن غذاهم وقال لهم: أصل اتفاقنا هو الدفاع عن أنفسنا وما ضركم الرجل إلا إذا حاربكم فدافعوا عن أنفسكم. وكاتب المذكور رئيس الفتيا الشيخ أحمد بن حسين وطلب منه التوسط في الصلح مع الحكومة. وحاصل مطالب الجميع إبطال الأداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزندار ومحاسبته. فامتنع الوالي يعبر صاحب صفوة الاعتبار عن الأمير بالوالي لنه يرى أن تونس ولاية عثمانية فلا يحق له أن يلقب بالأمير بل بالوالي، أولاً من جميع مطالبهم واشتد الكرب على الحكومة حتى لم يبق أمر الوالي نافذاً إلا في الحاضرة ونحو اثني عشر ميلاً حولها، واشتد الخوف في الحاضرة) . وقد فصل الشيخ الوزير ابن أبي الضياف هذه الثورة تفصيلاً مدققاً واتى بأسبابها وكيف ابتدأت وهو ما أحمله غاية الإجمال صاحب صفوة الاعتبار. وافتتح الشيخ وزير كلامه على هذه الثورة بمقدمة دقق فيها الأسباب من فداحة الافتراض الذي تسبب فيه جلب ماء زغوان إلى الحاضرة تونس مما أدى إلى أن تكون فائدة الدين أكثر من ثلث دخل المملكة التونسية حينذاك وهو اكثر من أربعة ملايين من الفرنكات لأن دخل المملكة وقتها لا يصل إلى خمسة عشر مليوناً من الريالات. وإثقال كاهل الميزان بمصاريف الدولة فإن مرتب الملك وحده مليون ومائتا ألف إلى غير ذلك من المصاريف الباهظة. فلما عجز الميزان عن تحمل تلك المصاريف الباهظة كاتب الأمير أعضاء المجلس الأكبر فامتنعوا بلطف كما قال الوزير الشيخ ابن أبي الضياف ودارت مباحثات مجلس الأمير الخاص، وكان رجاله على رأيين. منهم من يميل إلى الرفق بالرعية ومنهم من زين للأمير الزيادة في الضريبة الموضوعة على الدافعين إلى أن أفضت النوبة إلى أحدهم وهم ممن يشار إليه في مجلس الأمير الخاص فأشار برأي كان سبب اندلاع الثورة. وهو أنا مال الإعانة يزداد عليه مثله ويكون عاماً في سائر بلدان المملكة من غير استثناء. فقبل الأمير أن هذا الرأي وكتب إلى أعضاء المجلس الأكبر للموافقة فاعتذروا بأنهم لا رأي لهم في النازلة. وبعد امتناع أعضاء المجلس استبد الأمير برأيه وصدرت به المناشير إلى عمال العمال. وهي مناشير كانت لقطع الطاعة والعافية والعمران كالمناشير كما قال الشيخ الوزير. ورغم النصائح حتى من الأجانب تمادى الأمير في فرض الزيادة في الضريبة. اندلعت الثورة بتقرر الزيادة في الداء. ويؤكد كلام صاحب صفوة الاعتبار الشيخ محمد بيرم الخامس المتقدم ذكره الشيخ الوزير ابن أبي الضياف. "ولما التف عليه إغمار العامة في الجهة الغربية، أي على علي بن غذاهم، أبرم العقد معهم. على أن القصد بهذا الاجتماع هو الاستعفاء من هذا الأداء الثقيل الذي لا قدرة عليه. وإذا عصبنا عليه بالقتال تكون يدنا في المدافعة عن النفس والمال والحريم يداً واحدة. ولا يتعرض منا أحد لنهب أموال الناس بالحرابة ومن تعرض تكون يدنا عليه أحدة لن كلامنا مع الدولة، وإخواننا المسلمين يعذروننا. فإذا تعرضنا لأخذ أموال الناس صرنا حرباً على الله تعالى وعلى السلطان ولا يعذرنا أحد بل تتوفر الدواعي على قتالنا والله معهم". أجمل صاحب الإتحاف مبادئ ثورة ابن غذاهم في أنها محصورة في الامتناع من دفع الضريبة المضاعفة. تحقيق حول ثورة ابن غذاهم وما دار حولها إن هذه الثورة مقصورة على غرب البلاد بقيادة علي بن محمد بن غذاهم وإنما هي عامة شملت البلاد كلها فعلاوة على غربها هناك عمل سوسة، وعمل القيروان، وعمل صفاقس، وعمل الأعراض. لكنها كانت في هذه العمال غير مسيرة مثل ما هي في ناحية ابن غذاهم بل هي مقودة بقيادة فوضوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ولولا تداخل بعض أهل العلم والصلاح لانتهى أمر الدولة الحسينية لا أمر الدولة الصادقية مع ما انضم إلى ذلك من دهاء بعض الوزراء وبعض رجال الحكومة حينذاك فإنهم أنقذوا الدولة من الانهيار. وتحقيق النظر في هذه الثورة العارمة يحتاج إلى كتاب خاص، وإنما نقتصر في هذا الملحق على بيان مواقف ثلاثة من المؤرخين التونسيين وهم: الشيخ السنوسي في مسامرات الظريف. والشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار. والشيخ الوزير ابن أبي الضياف. إن موقف الأول من هذه الثورة موقف تزلف وتدل على الحط من أحد رجالها وهو علي بن محمد بن غذاهم حيث وصفه بما انتقدناه عليه. فهو لم ينظر لها نظرة تاريخية، بل نظر إليها بغير منظار المؤرخ النزيه ولولا أن الواقف على كتابه الذي أخرجته للطبع يغتر بكرمه ما كنت أتوسع في الكلام على هذه الثورة. وثاني المؤرخين الثلاثة هو الشيخ محمد بيرم الخامس قد كانت له إحن في نفسه على الوزير مصطفى خزنه دار حيث أدمج في أسباب الثورة أنها ترمي إلى المطالبة بعزل خزنه دار. (وحاصل مطالب الجميع إبطال الداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزنه دار ومحاسبته، فامتنع الوالي أولاً من جميع مطالبهم فاشتد الكرب على الحكومة) . وأكد هذا بما نسبه إلى الوزير خزنه دار. ومن وقتئذ أيدي العدوان على الأهالي بسلب الأموال، والقتل والضرب بالسياط المؤدي إلى القتل لأن الوزير اشتد حنقه عليهم حتى انه دخل عليه أحد الأعيان يوماً وهو يقول: طلبوا دمي أرضى إلا بدمائهم، طلبوا مالي فلا أرضى إلا بأموالهم. لعل مراده بطلب دمه هو طلب عزله، وقد اعتادوا في بعض الوزراء السابقين قتلهم فظن أن العزل يؤدي للقتل وإلا فنفس قتله لم يطلبه أحد. أما المال فنعم فقد طلبوا حسابه. أدمج صاحبة صفوة الاعتبار عزل الوزير مصطفى خزنه دار في مطالب الثورة مع أنه لم يأت بدليل يدل على ذلك إلا ما أخبره به أحد الأعيان الذي قال له إنهم طلبوا دمي أرضى إلا بدمائهم. وثالث المؤرخين وهو أولهم في كتابة التاريخ التونسي وأقعدهم في كتبته الشيخ الوزير ابن أبي الضياف وهو أشد المؤرخين تحرياً في كتابة التاريخ فتاريخه مدعم بالوثائق التاريخية التي توقفك على عين الحقيقة. وعين الحقيقة في هذه الثورة العارمة أنها مقصورة على طلب إلغاء الأداء الجديد دون التعرض لعزل مصطفى خزنه دار. وقد وضح هذا صاحب الإتحاف أتم توضيح فيما كتبه قبل صاحب صفوة الاعتبار. فبين أن قنصل فرنسا شارل دوبوفال (Charles de Beauval) اغتنم هذه الفرصة للتداخل في أمر الولاية وأحكامها فأتى إلى البي يوم الجمعة 23 من ذي القعدة (29 أفريل 1864) ومع أمير الأسطول الفرنسي والقائم مقام (كنبنو) الذي كان من معلمي الجند التونسي وتخلى عن ذلك. وحين دخولهم على الأمير وجدوا معه مصطفى خزنه دار فطلبوا منه إخراجه فتشدد الباي في ذلك. وابتدأت المحاورة بين الأمير والوفد الفرنسي الذي طلب إبطال عهد الأمان فبين له الأمير انه أعطى عهده على إتمام عهد الأمان وأن أخاه هو الذي أعطى ذلك. ثم طلب الوفد تبديل المأمورين في الخدم السياسية فأجاب الباي بأن ذلك غير ممكن في وقت هذه الثورة لأن ذلك يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وطال الجدال بين الأمير ومحدثيه من الفرنسيين في شأن تبديل الوزراء وفي طالعتهم مصطفى خزنه دار. وفي هذا المجلس أساء القائم مقام (كنبنو) إساءة لا تحتمل حتى أن القنصل الفرنسي أسكته ولما بلغ الأمر مبلغه من الإهانة مرض الأمير. ثم إن الأمير جمع رجال الدولة من وزراء وغيرهم وأخبرهم انه لا يتنازل في شان تبديل الوزراء فقال وزير مصطفى خزنه دار أنا أسلم وأصر على تسليمه الوزير خير الدين وهو مصطفى خزنه دار نفسه. لكن تغلب الرأي الذاهب إلى عدم الرضوخ إلى مطلب القنصل الفرنسي لأن فيه تدخلاً في الشؤون التونسية وذلك مفض إلى أن تصبح تونس محكومة من طرف القنصل الفرنسي. ولم يكتف التدخل الفرنسي بعزل الوزراء بما أرادوه من إرغام الأمير عليه فأضيف إلى ذلك مكاتيب مرسلة إلى العروش التونسية ومن نماذجها ما نقتطفه من بعضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 (يا أيها العروش أعلموا أن الدولة أرسلت لكم مشايخ الطريقة وذكروا لكم أن الفرنسيس غادرون بكم ومرادنا اخذ بلادكم ونحن بالعكس من ذلك وإنما مرادنا إصلاح أحوالكم ورفع المظالم عنكم وإجراء الحق على كل أحد ولكن سوف ترون ما يحل لكم من أولئك الناس وتقفون على كلامنا لأن المشايخ توسطوا بينكم وبين الدولة وباعوا ضمائرهم بثمن قليل. وما دام الوزراء الموجودون في باردو فإنكم لا تتخلصون من الضرائب أي التي أثقلت كاهلكم والتي ثرتم من أجلها. وما داموا لا أمان ينالكم لا في أبدانكم وزلا في أرزاقكم. وستقفون على أحقية كلامنا، وعما قريب يظهر لكم من هو على الصواب) . وهذا المكتوب نقلناه مع تحرير جزئي لإرجاعه عربياً سليماً نوعاً ما. ويقول صاحب الإتحاف: وهذا المكتوب لا تاريخ فيه، ولا إمضاء، ولا طبع خاتم. ومنه نسخ عديدة بيد بعض العربان، وخطه مغربي جميل يشبه خط بعض الأعيان من تجار الفرنسيس تعلم الخط العربي بتونس وبرع فيه، وكان هذا المكتوب إنذاراً بما وقع بعد ذلك من الشدائد والأهوال. يتهم الشيخ الوزير ابن أبي الضياف القنصلية الفرنسية بذلك مستنداً على أن الخط فرنسي فلا بد أن مصدره منها. ويؤيد هذا الرأي أن إنشاءه إنشاء قريب من العامية فهو محرر من بعض الفرنسيين الذين درسوا اللغة العربية ولم يتمكنوا منها فتغلب عليهم العامية إذ لا بفرقون بين الفصيح والعامي. وكما كاتب الفرنسيون العروش كتبوا إلى زعيم الثورة في المنطقة الغربية علي بن غذاهم. ونقتطف منه نقطاً على أن الفرنسيين بتونس مرماهم استغلال ثورة علي بن غذاهم. جاء في طالعة الكتاب. إلى الأعز الأكمل العالم الأمثل علي بن محمد بن غذاهم أكرمه الله آمين. ثم فيه تذكير بثلاث رسائل أرسلوها إليه فلن تقع الإجابة من ابن غذاهم. وفي الرسالة اتهام تركيا بأنها أرسلت بجيش لقتال العروش فوقع رده من قبل الفرنسيين دفاعاً عن المظلومين. وختمت هذه الرسالة بهذه الفقرة: (ورأس سلطان فرنسا إذا بقي الخزنه دار في بلادكم يهلككم على بكرة أبيكم) . وهذه مرسلة على حسب ما جاء فيها من القنصل العام لفرنسا، ومن الأميرال والكرونيل الفرنسي أي الذي كان بتونس معلماً للجيش التونسي. إن الدلائل القاطعة تشهد إلى أن المطالبة بعزل الوزير إنما هي مطالبة فرنسية ترمي إلى التدخل السافر في سياسة تونس. واستدل صاحب الإتحاف بأن الثورة لم تقم من أجل عزل الوزير بما جاء من المكاتيب من رئيس المتحزبين علي بن غذاهم إلى الشيخ أحمد بن حسين رئيس المفتين في استشارته في القدوم إلى تونس للمفاهمة مع الأمير من أجل دفع الشدة وما دار في شان ذلك القدوم. يستنتج صاحب الإتحاف ما يلي: (فانظر إلى هذه المكاتيب من رئيس المتحزبين إلى الشيخ الذي اعتمده واسطة، والحادثة في عنفوان شبابها والسيوف مصلتة، وقدور الحرب في سائر الجهات تغلي، هل عرج فيها على عزل وزير، أو كره قانون، أو مجالس، أو ما يومئ إلى البغي، أو غير ذلك مما دار في برزخ هذه الإيالة دوران الرياح. ولم ينط مطلبه إلا بالتخفيف، وهو من قواعد عهد الأمان التي عليها مدار القانون) . كيف خمدت الثورة لم تكن الثورة ثورة قاصرة على جهة من الجهات، وإنما هي عامة إلا في العاصمة فقط، مع أن الجند لم يقم فيها بل امتنع من إخمادها مع أنها لم تصنع شيئاً، وآلت في آخر أمرها إلى الفشل وتتبع بعض المثيرين أمرها حتى نالهم الانتقام من احمد زروق. ويتضح من أمرها أن إخمادها يعود إلى سبب قوي غير الجند. والسبب القوي في إخمادها هو أن الشيوخ لم يكونوا راضين عن الثورة بل كانوا مهدئين للعامة من الانسياق في الفتنة وإضرام نارها. وأبلى البلاء الحسن في إخماد هذه الفتنة التي أرادت فرنسا استغلالها لوضع يدها على تونس الشيخ الصالح مصطفى بن عزوز (1282) وهو الذي بث الطريقة الرحمانية في العروش الغربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وإلى موقفه الذي حسم به الفتنة أشار صاحب الإتحاف ونحن ننقله ليتضح للعيان أن العلماء الصلحاء كانت لهم يد لا تنسى في الإبقاء على رمق الدولة فلولاهم لذهب العلم الإسلامي بتشتت عقد الأمة لأن الفتنة لا تأتي إلا بشر وبيل، وعسى أن يعرف المتحاملون على أهل العلم الإسلامي والصلاح انهم مخطئون في إساءة ظنهم بالعلماء وتحميلهم وزراً هم برآء منه. وإلى هذا الموقف المشرف أشار المذمور: (ولم يزل الحال في اضطراب وشدة إلى أن قدم من الجريد بركة القطر المشار إليه بالبنان، المتدرج في مقامات العرفان، الولي السالك المحب لعباد الله، شيخ الطريقة الرحمانية أو النخبة مصطفى بن عزوز واجتمع بعلي بن غذاهم ووجوه جموعه وقد مسهم الملل بعد أن اخذ لهم الأمان من الباي واستوثق منه بالعهود والإيمان وقرأ للباي قوله تعالى: (يوجد آية) (91) النحل. ثم قال الشيخ مصفى بن عزوز لجماعة علي بن غذاهم، لا جواب لكم عند الله على إراقة دماء المسلمين وقد أعطاكم الباي الأمان على يد أمير المحلة وخفف عنكم اكثر مما يظن، إلى غير ذلك مما تفضل به عليكم خشية إراقة الدماء,. وقال لعلي بن غذاهم: (أنت لست بقائم تطلب ملكاً، وزعمت انك جامع عصابة شاكية لكف عادية جهالها، وقد زال السبب فلا بد يزول المسبب وقد عطلتم الناس على السعي في ابتغاء رزقهم) . فانتدب ابن غذاهم وتأخر. فأتاه فرج بن دحر وقال له أي لعلي بن غذاهم: نحن في ربط واحد ما كان ينبغي لك أن تحله وحدك ولنا مع سيدي مصطفى بن عزوز موقف بين يدي الله. وعلى كل حال فقد حاق بنا الغدر، وسترى أنت من معك عاقبة ما فرحتم به من الأمان إلى غير ذلك وفي بعض القلوب عيون. وحضر مع الشيخ مصطفى بن عزوز أعيان من تلاميذه وغيرهم كأبي العباس أحمد ابن الشيخ الولي عبد الملك الحمادي وأبي عبد الله محمد الصالح، والشيخ المسن الحاج مبارك صاحب الزاوية بتالة، وسيأتي له خبر، وحضر لذلك الشيخ البركة أبو العباس أحمد بن عبد الوارث وكفى الله المؤمنين القتال على يد هذا الشيخ ومن معه من هؤلاء الفضلاء جزاهم الله جزاء من أتعب نفسه في إصلاح ذات البين وحقن دماء المسلمين فالأعمال منوطة بالظاهر، والله يتولى السرائر، والمرء مجزي بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وأسقط الباي ما أجحف من الإعانة بل صيرها عشر ريالات فقط وأسقط من العشر، وترك الأداء على ما يباع في غير الأسواق وأجابهم إلى مطالب أخرى الله أعلم هل طلبوها، أو قيلت أو تقولت عليهم فسمعوها، أضربنا عن ذكرها لمنافاتها قضايا العقول، وكل ما نافاها يعد نقله مجازفة وقد تقدم ذلك وإلى الله تصير الأمور) . (الإتحاف ج?5 ص168 وص169) . وكما للشيخ مصطفى بن عزوز موقف كذلك كان للشيخ العلامة رئيس الإفتاء أحمد بن حسين في العمل بالمكاتبة على أثناء رأي ابن غذاهم عن القدوم إلى تونس لنه لو قدم لاشتعلت الفتنة في العاصمة فإنه ثنى عزمه عن ذلك، وبه بقيت العاصمة بعيدة عن الفتنة. ويظهر أن موقف أهل العلم في تونس كان في صالح هذه البلاد، وإبقائها محافظة على كيانها دون إدخال ما يؤول بها إلى فتن تموج موج البحر. والمواقف الرصينة هي التي حافظت على هذا الجامع جامع الزيتونة نبراساً يشع بالعلوم الدينية وهادياً للتي هي أقوم. ? الاتزان التاريخي يعبر كلام صاحب الإتحاف في هذه الثورة التونسية العارمة بأن الشيخ الوزير ابن أبي الضياف يحمل على السياسة التونسية في مواقف كثيرة ويحملها وزراً ثقيلاً، ويظهر المصلح من غيره في مواقف عديدة. ومع مواقفه لا يرى أن في ثورة علي بن غذاهم إنقاذاً للموقف لذلك شكر وأطنب في مدح الشيخ البركة الصالح المصطفى بن عزوز حيث حقن دماء المسلمين وكفى الله بتداخله المؤمنين القتال. وحقاً رأى لأن رأس الثورة لم تكن له المؤهلات التي تؤهله لتسلم دولة لأنه كما عرفه صاحب الإتحاف ذو معرفة جزئية. ومع انه حمد فعل العاملين لحقن دماء المسلمين انتقد الشدة التي عومل بها الكثير بعد إخماد اللهيب. ودعا غلى الرفق الذي لا يقتضي الحال غيره حتى لا يلتجئ المظلومون إلى الاحتماء برعايا الدولة الوافدين على المملكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فالواقع يدعو إلى الرفق لا إلى ضده كما وقع لأكثر أهل المملكة بعد خمود لهيب الفتنة من الشدة والعسف والانتقام، وسلب النعمة غلى غير ذلك مما نفر القلوب المرضى. ولله در القائل: [الكامل] أحذر منافرة القلوب فإنها ... ورجوعها للود أمر يعسر إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر وقد تنبأ لدولة الأمير الصادق بالاضمحلال واستكانت الإيالة المسكينة ولسان حالها يقول: (للباطل جولة ثم يضمحل) . ملحق (4) الكومسيون المالي الكومسيون المالي اجمل الحديث عنه صاحب المسامرات مع انه أحدث لإنقاذ البلاد من الإفلاس لأن الحال بلغت أقصى التدلي مما يعقبه الإفلاس للدولة. وقد تحدث عنه حديث عارف به الشيخ بيرم الخامس مبيناً أن الوزير خير الدين حين رئاسته للكومسيون بدأت تظهر إصلاحاته وتمكن من الإصلاح بسبب أنه لم يقبل رئاسة الكومسيون إلا بعد أن اشترط شروطاً. فإنه لما شددت الجانب في طلب أموالهم وأنشئ الكومسيون المالي باتفاق الدول دعاه الوالي إلى رئاسته فامتنع وبعد إلحاح ورد وبعد توثقة من الوزير مصطفى خزندار قبل رئاسة الكومسيون المالي. ويثبت الشيخ بيرم الخامس أنه منذ سنة 1286 كل ما هو من التصرفات هو للوزير خير الدين وشرح كيف أن الوزير خير الدين أدار كفة الكومسيون المالي. (وذلك أن الوزير مصطفى خزندار عطل أموره مما أدي إلى تشكي قناصل الدول الممثلة في الكومسيون المالي وهي فرنسا وإيطاليا وإنكلترا فراجع الوزير خير الدين الوالي وطلب منه الإعانة على المهمة الشاقة التي أنيطت به فأمضى الوالي مطلب الكومسيون ولأجل إعطاء الكومسيون المالي نفوذاً يحفظ حقوق الحكومة مع أن الكومسيون المالي يتصل برغبته، وذلك في توظيف رئيس الكومسيون بوظيفة وزير للوالي في رتبة الوزير، الكبر، وتنقل خدمة الكومسيون إلى الوزارة ويكون مصدر جميع الأعمال واحداً) . وقد بسط القول في ذلك في (ج?2 ص53 من صفوة الاعتبار) . وكذلك تعرض له صاحب الإتحاف في (ج?6 من ص119 وما بعدها من إتحاف أهل الزمان) فذكر نص قانون الكومسيون المالي، وهو في أثني عشر فصلاً. وكان ختمه بسراية الوادي في 26 من ربيع الأول سنة 1286 (6 جويلية سنة 1869) . وأتبع ذكر القانون بالأوامر الصادرة في تعيين رئيسه وتعيين أعضائه. وحديث ابن أبي الضايف عن الكومسيون كان مقتضياً لنه كما ذكر بقلمه أدركه الضعف. ? إبطال الكومسيون تناولت الإدارة الفرنسية بعد الحماية أشياء متعددة بالنسخ، منها إبطال الكومسيون المالي. وجاء إبطاله في العدد 49 من جريدة الرائد الرسمي المؤرخ في 13 ذي الحجة سنة 1301. افتتح هذا الأمر بمخاطبة الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور بأن الأمير أمر بما يأتي: الفصل الأول: أبطلنا بعد اليوم 12 من أكتوبر الإفرنجي سنة 1884 مسيحية الكومسيون المالي الذي أحدث بالأمر العلي المؤرخ في 26 ربيع الأنور سنة 1286 الموافق ليوم 5 جويلية من يولية الإفرنجي سنة 1869. وكذلك مجلس المداخيل المعطاة للدين الواقع ترتيبه عملاً بالتأويل المنعقد في 23 مارس سنة 1870 ما عدا ما يتضمنه الفصل الرابع الآتي: وبموجب ذلك على مجلس الإدارة المذكورة أن يسلم خدمته يوم 12 من أكتوبر المذكور مساء لإدارة القمارق ولإدارة الإداءات المختلفة ولقابض الدولة العام بالحاضرة وبالجهات الأخرى التي له فيها نواب. وبناءً على ذلك فإن الموجود تحت يد المجلس المذكور من المبالغ دون كاغد التانبر، ومن الرهونات التي دفعها نوابه، واللزامة تدفع لقابض الدولة العام محلات بلدان العمالة الأخرى إن كانت المبالغ والرهونات المذكورة من علائق البلدان الأخرى. وأما الكاغد التانبر الموجود بالحاضرة فإنه يدفع لقابض عموم الأداءات المختلفة وأن كان بغير الحاضرة فإنه يدفع لنواب الكمرك عند تسليم المبالغ والرهونات المتقدم ذكرها لهم. ويشتمل هذا الإبطال على ثلاثة عشر فصلاً من أهمها الفصل الخامس: إدارة المال تتولى استخلاص جميع مداخيل المملكة كما أن جميع المشارعات التي يقتضيها الحال يباشرها مدير المال بدولتنا أو من ينوبه فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وإنما وقع في هذا الفصل أن إدارة المال تتولى استخلاص جميع مداخيل المملكة لأن الميزانية التونسية كانت منقسمة بين الدولة وبين الكومسيون المالي. ومن أهم فصوله الفصل الثامن: ولاية مدير المال تصدر منا مباشرة بمقتضى طلب سفير دولة فرنسا المقيم بحاضرتنا. وتصدر أوامر أيضاً بطلب من مدير المال لدولتنا في ولاية كل من كاهية مدير المال ومدير الداءات المختلفة، والكمارك ورؤساء الأقسام والكتابة بإدارة المال، وكذلك منفقدو الإدارة المذكورة والخدمات المالية وقابض الدولة العام، والمترجم الأول بإدارة المال، وقابض عموم الأداءات المختلفة وقابض عموم الكمارك ووكيل أملاك الدولة والمكلف بالغابة وناظر دار السكة ووكيل الرابطة. والفصل التاسع: أعطى هذا الفصل الصلاحية لمدير المال في بقية المستخدمين. والأمر الصادر بإبطال الكومسيون المالي انتزع كل الاختصاصات المالية من أيدي التونسيين وجعلها في يد مدير المال الفرنسي. وقد أصبحت هذه الإدارة بعد برهة غدارة فرنسية تتصرف في حظوظ البلاد المالية. ملحق (5) المجلس الشوري المجلس الشوري المتحدث عنه بالمدح وإطناب الشكر من المؤلف حتى عده من اعظم مآثر هذا الأمير الفائز بالسبق على سائر الأمجاد قلب فيه المؤلف الحقيقة رأساً على عقب. وكان من حقه أن يأتي بالقبضة على وجهها الصحيح، فإن لهذا المجلس قضية تعد من أهم القضايا التونسية أبلى فيها أهل المجلس الشرعي وبالأخص القاضي المالكي البلاء السن. وتفصيل هذه القضية حسبما ذكره المطلع عليها الشيخ محمد بيرم الخامس ونصه: "ومنها أن أحد الأغنياء من الأهالي توظف في الحكومة المسمى بمحمد عريف توفي رحمه الله عن غير ولد وكانت له بنات من ابنه فأوقف كسبه عليهن وعلى من يتزايد له، وبعد وفاته وضعت زوجه حملها فكان ولداً ذكراً ثم توفي في إثر ذلك. وقد كان القاضي، وهو القاضي الجد محمد الطاهر النيفر الذي تولى القضاء من سنة 1290 إلى سنة 1311 جعل وصياً على البنات وحفظ الوقف والمنقول، فطلب التابع أن ينقل حكم النازلة من الشريعة إلى الوزارة على خلاف الديانة والعادة من تحكيم الشرع في المواريث والأوقاف. وأرسل الوزير وهو مصطفى بن إسماعيل مكتوباً بأن يسلم رسوم الوقف إلى كاتبين أحدهما من خواص الوزير والثاني من الوزارة مع الوعد في المكتوب بأن الوزارة بعد الإطلاع على الحجج ترجعها وكان المتسلم لها أبا الزوجة وهو وكيلها مع أحد الكاتبين. فطال الزمن أي زمن تسلم الرسوم من الوزارة فلم ترجعها حسب الوعد، وأبلغ الوصي إلى القاضي التخوف على الرسوم إذ شاع أنها سيقع فيها تغيير فأرسل إلى أبي الزوجة وإلى الكاتب اللذين اسلما الرسوم بطلب إرجاع الرسوم فأبيا فأحضرهما فامتنعا، فسجن أبا الزوجة حيث إنه المتسلم وأخبر بأن الرسوم بعلو في داخل المحكمة الشرعية هو محل اشتغال الكاتب المذكور حيث كان من شهود الأوقاف وذلك العلو هو مكان اجتماعهم فبعد أن ألح القاضي على الكاتب وامتناعه أمر بأن يمنع من دخول العلو خشية إخراج الرسوم منه وبقي القاضي بمحل حكمه على الهيبة الشرعية حسبما سبق التعريف بذلك من كون أهل الشرع بتونس لهم من التعظيم والتوقير قريباً مما كان عليه الحال في الأعصر المعظمة للديانة وشعائرها. فما كان غير بعيد إلا وعلي بالزي المذكور قام فضرب باب العلو برجله وكسر قفله وأمر الكاتب بالصعود وإخراج الرسوم، وأخرج المسجون وأمره بالذهاب حيث شاء، وقدم على القاضي وباشره بما لا يناسب ذكره، وفشا الخبر وعظم الأمر عند العلماء والعامة إلى درجة لم تعهد، فأبطلت الدروس من الجامع الأعظم، وأغلقت دار الشريعة وكثر اللغط وسرى إلى خارج الحاضرة. وأبلغ أمر النازلة إلى الوزير ابن إسماعيل فأراد أن يهون النازلة بمنع تابعه من القدوم إلى تونس وأرسل معلماً إلى القاضي بأنه سجنه فلم يلتفت لذلك العلماء وتقدم الشيخ احمد بن الخوجة شيخ الإسلام وجمع العلماء مراراً واظهر أشد الانتصار للشرع وكتب جميع المجلس الشرعي مكتوباً وأرسلوه إلى الوالي قصداً بلا واسطة الوزير على خلاف المعتاد وقدم به رسولهم على الوالي في مجلس الشريعة لأن رئيسهم تقرب إليه الوزير سراً فانحط حرصه وتوجهت أطماع البعض إلى المسابقة لإرضاء الوزير فأجابوه بنعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ثم جمع الوالي وزراءه وأعلمهم متأسفاً من مطلب أهل الشريعة بأنه يريد أن يجعل مجلساً مركباً منهم أي من الوزراء ورؤساء الإدارة دون غيرهم من الأهالي للنظر في المصالح وجريان السياسة، فأجابوه بأن ما يظهر له حسن فهو حسن. وكان هذا الجمع من الوزراء والمستشارين مشتملاً على جميعهم حتى أن الوزير حسيناً كان إذ ذاك قدم من إيطاليا لمصالح في مأموريته فصادف الواقعة، وكان ممن وافق الوالي على رأيه في جعل المحتسب والمحتسب عليه واحداً خلافاً للمعقول، ولما يعلم من طبعه من لزوم الاحتساب الحقيقي على تصرف المأمورين بثقاب من الأهالي إلى غير ذلك من أوجه العدل ومع هاته الموافقة فلم يسلم من القدح. ثم إن الوالي أرسل لأهل الشريعة يعلمهم بأنه أشأ مجلساً مؤلفاً من عشرة أعضاء تحت رئاسة الوزير ابن إسماعيل، وأعضاؤه: الوزراء والمستشارون وبعض رؤساء الإدارة ولما بلغ لأهل الشريعة ذلك قالوا ليس قصدنا المتوظفين لنهم دائماً تحت الأمر، ولا خبرة لهم بما في أطراف القطر، وإنما المراد أن يكون المجلس من الموظفين والعلماء وأعيان من البلاد والعربان، ولا أقل أن يكون عددهم ثلاثين عضواً وأنهم لا يقصدون إلا مصلحة البلاد لأنهم ليس لهم غرض إلا هناء القطر وهناء الوالي، وقيل غن قنصل فرنسا صرح بأنه لا يعترف بالمجلس وانه أراد الوالي الاستعانة بعساكره لردع الطالبين فهو حاضر له حيث إن طريقة الوزير هي التي تبلغه إلى قصده كما ذكرناه في محله، ثم لما بلغ الوالي جواب العلماء أرسل إليهم بأنه يزيد اثنين من رؤساء الموظفين وان هذا المجلس ينظر فيما يقتضيه الحال من الكيفية ويجري العمل به، وكان في أثناء بلا مستند، فرضي عمدتهم بذلك، وكان سبباً في تمكن الفيض على الأجنبي بلا مستند، فرضي عمدتهم بذلك، وكان سبباً في تمكن الفيض على من زيد حيث انتهى رضا المقترحين عند ذلك وصرح الوالي بما يشف عن ذلك والله المطلع على السرائر، ثم جعل هذا المجلس في نفس الأمر إذ اجتمع يعرض عليه ما يريد الوزير والأغلب أن يكون المعروض هو بعض النوازل التي تعرض بقلة ولما كان أغلب الأعضاء يسايرون الوزير لم يظهر لوجوده من أثر غذ لا يتداخل في نصب ولا في عزل ولا سيرة عامل أو رشا، وشاهد ذلك الخارج فإنه لم يمض عليه شهران حتى وردت الرسل على شيخ الإسلام بأن يتشفع في الجاني على الشرع فلم يوافق جهرة بل أظهر زيادة الامتناع ثم سودت سراً بطاقة إلى المنفي ليكتب على نمطها مكتوباً لأهل المجلس الشرعي ولما ورد مكتوبه على نحوها إلى الوالي مستشفعين بعد أن امتنع بعضهم وقيل عندما سمع بذلك ليت شعري ما هو وجه كتبهم مع علمهم بالحقائق". ومنها أنه شرع الوزير إثر ما تقدم في بناء دار شيخ الإسلام المذكور بتونس وكذلك داره بجيل المنار وكثر تردد تابعه الجاني المذكور عليه حتى نشأ عنه قيل وقال (صفوة الاعتبار ج?2 من ص110 إلى ص113) . ومن الذين امتنعوا الشيخ القاضي المالكي حتى هدد بالإعدام كما جاء في بعض المذكرات لأحد أتباع الوزير مصطفى بن إسماعيل. وهذه الحركة التي قام بها المجلس الشرعي هي أول حركة نبعت من الزيتونة لإصلاح الوضع ولإقامة نظام برلماني تتمثل فيه الأمة أتم تمثيل، فهي حركة القصد منها إعادة نظام عهد الأمان الذي ألغي بسبب ثورة علي بن غذاهم، وقوى النفوس أن الوزير خير الدين الوزير المصلح كان صدراً أعظم فوجده في صدارة الدولة العثمانية كان في حسبانهم أنه يؤيد حركتهم النابعة من رجال الشرع. والباعث ليس اعتداء على القاضي المالكي الشيخ محمد الطاهر النيفر لما أراد إجراء الحق وإنما كانت النفوس ملأى بالحنق من أجل تصرفات الوزير مصطفى بن إسماعيل تلك التصرفات الشاذة التي ذكر الكثير منها صاحب صفوة الاعتبار، فرجال المجلس الشرعي أرادوا أن يعبروا عن رغبة الأمة في إنهاء الأعمال التعسفية التي قام بها الوزير مصطفى بن إسماعيل وأتباعه. ولولا ألاعيب هذا الوزير بالاغراءات التي أنساق البعض القليل من رجال المجلس الشرعي إليها لكان لهذه الحركة أثرها في إنقاذ الأمة التونسية. وما المجلس الشوري الذي نوه به صاحب مسامرات الظريف إلا ذر للرماد في العيون. والعجب من الوزير حسين مستشار المعارف كيف وافق على هذا المجلس حتى كان أحد أعضائه فانتقاد صاحب صفوة الاعتبار عليه انتقاد وجيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ملحق (6) تتمة للمقدمة تتضمن تاريخ تونس (من 1297 إلى 1376 هـ?) (من 1879 إلى 1957 م) أنهى المؤلف كتابة القسم السياسي من تاريخه المسامرات بفاتحة سنة 1297 وهي التي قدم فيها وفد من أعيان التونسيين إلى المشير الثالث محمد الصادق ووزيره مصطفة بن إسماعيل مصحفين مرصعين. وهذا الوفد مدسوس إليه في تقديم ذلك لإظهار رضا الأمة بوزارة مصطفى ابن إسماعيل تلك الوزارة التي عاثت في البلاد فساداً، خصوصاً بعد الحادثة الشهيرة وهي التي أثارها القاضي المالكي المرحوم محمد الطاهر بن محمد النيفر بسبب تجزؤ علالة بالزي أحد اتباع الوزير المذكور على المحكمة الشرعية. وهذه القضية طواها المؤلف مع أنها سابقة حدثت في سنة (1296) . وقد بسطنا الكلام على هذا المجلس الذي أطنب المؤلف في مدحه (المتحدث عنه في الملحق الخامس) مع انه لم يرض أهل المجلس الشرعي إذ طالبوا بمجلس يضم نخبة تمثل الأمة. إن وزارة مصطفى بن إسماعيل كانت من الأسباب المعجلة للحماية الفرنسية لأن الوزير المذكور ليست له الكفاءة المؤهلة للوزارة إذ هو خلو من التعليم حتى من التعليم الجزئي مع ما فيه من تكالب على المال ثم إن بطانته كانت بطانة سوء منهومة على المال بالأوجه غير المشروعة. وزاد في تعكير الجو أن هناك دولتين كانتا تسعيان لاحتلال تونس أو تقوية النفوذ فيها لإحداهما دون الأخرى التي تزاحمها. ونتج عن ذلك إعلان الحماية الفرنسية على تونس في (14 جمادى الأولى 1298) وفي (14 ماي 1881) . وقد أرخ هذه الفترة الشيخ محمد بيرم الخامس مذيلاً بها كتابه صفوة الاعتبار وهذا لم يطبع بما ننشره كما جاء منقولاً عنه: الحمد لله تعالى: هذا الذيل الذي نبه عليه الشيخ بيرم في الباب الثاني من كتابه صفوة الاعتبار عند الكلام على سياسة تونس الداخلية والخارجية، قال: ذيل في تسلط فرنسا على تونس قد مر في المطلب الثامن من أحوال الإدارة الداخلية في تونس حالة وزارة وزيرها مصطفى بن إسماعيل وتصرفاته وما وقع في نازلة صانسي الفرنساوي التي كانت سبباً في خوف هذا الوزير من القنصل وروم أن تبدله دولته. وتقدم أيضاً ما هي مقاصد فرنسا في تونس وأنها تروم نيل الدرجة العليا فيها ولما رأت سيرة الوزير المذكور لم تأمن وقوع ارتباكات مغايرة لما كانت راضية بالبقاء عليه وخشيت ضياع الفرصة من سهولة التوصل على يد ذلك الوزير إلى ما لم يمكن التوصل به على يد غيره من ذوي العرض والعقل. فلذلك بينما كانت مساع جارية في إبدال القنصل وإذا بالسعاية إليه قد غيرت مشربه حتى طمع في ولاية العهد بأن يتولى هو الإمارة بعد سيده الوالي الحالي الصداق باشا إذا أتم إدخال تونس طوعاً تحت فرنسا، فراكن حينئذ قنصلها وأحكم معه المودة، وصارت بطانة الوزير تأتي إليه معلمة بجميع أسرار الحكومة وسائر تصرفاتها. وأضمر ابن إسماعيل الشر لمن كان أوعز إليه بأن يتشكى من القنصل إلى دولته ثم تفطن بذلك التواطؤ السري ونصحه بأنه لا ينتج له شيئاً وعلى فرض الوفاء له بالوعد فإنه لا يلبث أن يناله ما نال الوزير العلقمي في انقراض دولة بني العباس من بغداد. واتفق ذلك الوزير مع القنصل على شروط إدخال تونس تحت فرنسا، غير أن الوالي لم يساعف على لائحة تلك الشروط التي قدمت إليه سراً بواسطة الوزير، وخشي من الدول ومن الأهالي في البغي منه على الدولة العثمانية وفي تغيير حالة السياسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وجعل الوالي يسوف العقد من وقت إلى آخر وجعل الوزير يسعى في إحداث وجه لتداخل فرنسا وإنقاذها أمرها، فأكثر من الرسل السرية غلى الآستانة متطلباً أن يدعى هو إليها رسمياً أو يرسل بعض الأسطول العثماني إلى مرسى تونس مع إظهار زيادة التشيع إلى الدولة العثمانية حتى لا يتفطن إلى مساعيه الباطنية، فلم يساعف من السلطان في مطلبه غذ لم يكن له من داع، كما انه لم تفد في الدولة العثمانية الإيقاظات غلى دسائسه وعزمه حتى تسعى في سعة لدفع الغوائل المتوقعة إذ من المعلوم أن التدخل السياسي هو كالمرض المزمن الذي لا ينجح فيه العلاج غلا تدريجياً عند أول حدوثه سيما إذا كانت الدولة المعالجة محتاجة غلى استمالة غيرها من الدول القوية غلى معاضدتها على قرنها القوي، ومع ذلك أيضاً قد عكر الوزير ابن إسماعيل حالة الخلطة مع إيطاليا لعلها تعلن على تونس الحرب ومنح للفرنساويين منحاً لم يطلبوها مما يزيد في نفوذهم والشحناء معهم كما تقدم ذكره في المطلب الثامن من أحوال تونس، ولما لم تنجح جميع تلم المساعي التي كان يمكن لفرنسا الاستناد إليها في وضع حمايتها على تونس أحدثوا أقاويل في إهمال حقوق الفرنساويين، وأظهر الوزير المذكور الاستخفاف بقنصل فرنسا، ومال عنه كل الميل ظاهراً، ورام أن يظهر التعطيل في إجراء المنح التي أنالها إلى الفرنسيين بأوجه من الاعتذارات، حتى أغرت رعايا فرنسا بتونس على أن تكتب تقريراً للتشكي من ضياع حقوقهم وطلب دولتهم للانتصاف لهم، فلم يرع الأمم إلا أن فرنسا جلبت بخيلها ورجلها على حدود تونس معلنة بأن قصدها غنما هو حفظ حقوقها من جهة الحدود وغيرها واستندت في عملها لما تضمنته لائحة وزير خارجيتها إلى سفرائه. وهذا نص تعريبها: "باريس في 9 ماي 1881 أيها السيد أتشرف بأن نرسل لكم جملة رسائل في شأن تونس ونريد أن نحقق لكم المقصود إجمالاً ونخبركم عن سبب إرسال العساكر الآن وعن النتيجة التي نرجو إتمامها فكم من مرة قد عرفت الدولة الجمهورية بدواعيها ومقاصدها وأنتم تتذكرون ذلك خصوصاً ما صرح به السيد رئيس الوزراء في المجلس العام وهو لا يمكن أن يكون فيه أدنى شك من جده وصدقه ومع هذا فإني أريد زيادة إيضاح لكم لينفعكم لدى الدولة التي أنتم عندها فنقول إن سياسة فرنسا في تونس ليس لها إلا مقصد واحد وهو المقصد الذي يكفي لوضوح موضوع سيرتها منذ خمسين سنة نحو المملكة هو الواجب علينا لحفظ راحة مستعمرتنا العظمى الجزائرية فمن سنة 1830 لم تأت دولة من الدول المتابعة وتركت هذه المهمة العظيمة وإنا لنعمل الواجب علينا لحفظ مستعمراتنا الإفريقية التي لا يوجد أحد من أروبا انكر علينا ذلك فيها لحفظها من جار عدو كثير الأراجيف وقد كانت القبائل التونسية مخوفين ومحاربين حتى فيما بينهم، وقد فاق على الجميع قبائل وشتاتة والفراشيش وخمير ولا تعرف كمية المحاربين ولا كمية قوتهم، فلذلك التزمنا الآن أن نرسل من العساكر عشرين ألفاً وهذا مما يدل على قوتهم أي الأعداء المتحصنين في بلاد منيعة تقريباً وكان الداعي الأول لإرسال العساكر هو قهر قبائل حدودنا الشرقية ولكن لا فائدة في تقرير الأمن والراحة وأعداؤنا ما زالوا يهددوننا ونحن لا نخاف من الهجوم الكبير لباي تونس إذ كان منه وحده لكن النظر القليل في العواقب ألزمنا التحري من اتحاد الباي مع غيره، وهذه التشويشات يمكن أن يأتي لها وقت وتقلقنا كثيراً في الجزائر وتصل حتى لفرنسا، فيلزمنا بناء على ما ذكر أن يكون لنا عند الباي محبة كبيرة واتفاق قلبي ويلزمنا جار يعوضنا المحبة التي لنا عليه ولا يسمع التشويشات الخارجية لضررنا وأستحقار قوتنا الراسخة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقد وضحنا من نحو أربعين سنة بأنه يلزمنا لمحافظة فرنسا الجزائرية أن نحصل في المملكة على قاعدة راسخة ونحن نحترم بالتدقيق منافع الأجانب وهم يقدرون أن يتوسعوا بثبات مع فوائدنا، والدول يتحققون أن مقاصدنا من جهتهم لا تتغير وإلى هاته المدة الأخيرة اتحادنا مع دولة الباي المفخم مستمر إلا ما يحدث أحياناً من الاختلاف في دفع تعويضات لقبائلنا المضرورين ثم في الحين يرجع الاتحاد ويزداد ثبوتاً بعد هذه الاختلافات الصغيرة إلا هاته المدة الأخيرة يرجع الاتحاد ويزداد ثبوتاً بعد هذه الاختلافات الصغيرة إلا هاته المدة الخيرة فنه بأسباب يصعب الإطلاع عليها مذ تغير ميل الدولة التونسية علينا دفعة واحدة وكانت غذ ذاك الحرب ساكنة ثم ما زالت تزداد إلى أن وضحت وتقوت ومبناها ضد كل الامتيازات التي حصلت للفرنساويين في تونس مع شدة الإدارة الردية إلى أن وصلت إلى هذه الحال. وهذا هو السبب الثاني لإرسال العساكر الذي كنا نود التجنب منه ولكن بسبب السيرة الردية التي طالما صبرنا عليها التزمنا بما هو واقع ولو أننا بها ضمنا للباي في المطالب الحقانية لأننا نعترف بتونس كمملكة مستقلة. وأما الحالة في الخلطة مع الباب العالي فهي مخالطة محبة وميل طبيعي وبودنا أن لو كنا رأينا منزلة تونس في نظرة أخرى غير التي هي عليها الآن، ولكن قد بان ما يجب علينا مما ذكرناه سابقاً، وإننا نقدر أن نسبتهم من الباب إذا كان باي تونس هو والياً من قبلهم فلماذا لم يمنعوا سيرته التي فعلها نحو فرنسا منذ عامين ولماذا لم يفتشوا ليمنع التحير الذي نحن مجتهدون في حصره أن ينتهي بشروط تؤمن حدودنا من الهرج المستمر والتشويش المغري لبارود إما من غيره أو من نفسه فهذان هما المقصدان لإرسال العساكر. ولا نخفي إذا ما نقول أن لنا في أوربا الرضا العام في جميع الجهات عدا الجهات التي بها النظر الفارغ المطمس للعقول وهذه هي أيها السيد التي خيمت حول الباب وحول تونس ومن كلا الطرفين فنحن مشمولون بالمحبة وجميع ما نرجو من الباي هو أن لا يكون عدواً لنا ولو أن المملكة تنظر لفوائدها تقدر أن تحصل من اتحادها معنا فوائد لا تحصى وأكثر مما نحصله نحن منها ونقدر أن نأتي لها بكل خير من العمكران الحاصلعندنا، ففي سنة 1847 فعلنا فيها البريد وفي سنة 1859 وسنة 1862 فعلنا التلغراف وفي سنة 1878 فعلنا الشمنديفير الذي طوله 50 من حدود الجزائر إلى تونس وفس هذا الزمان نفعل لها شمنديفيرين جديدين أحدهما يربط تونس ببنزرت من جهة الشمال وطوله عشرون فرسخاً والآخر يربط تونس بسوسة من جهة الجنوب وسنبتدئ عن قريب في عمل مرسى في تونس نفسها لتدخل المركب من الشط ومن حلق الوادي إلى ذات القاعدة. ودين تونس وغن كان رأس ماله مشتركاً بين فرنساوي وإنكليزي وطلياني لكنه إذ اعتبرت نفسه النسبة يوجد ثلاثة أخماسه لفرنسا. وإن الحنايا الجميلة (لا دريان) التي تأتي بالمياه العذبة إلى تونس قد أصلحها أحد المهندسين الفرنساويين. ولما ترجع الخلطة الطيبة فإنا لا نزال نفعل أشياء حسنة ومنارات على الشطوط وطرقاً داخلية توصل بين البلدان العامرة الناجحة ونسقي الأرض بالترع الكبيرة في البلاد التي بها انهر كثيرة ولكن هاته البلاد أهلها ليسوا معتنين بتلك الأنهر وكذلك الغابات، وكذلك نعمل على استخراج المقاطع الموجودة بها كل نوع من المعادن، وكذلك ترتيب الفلاحة في الأراضي الحسنة التي للأجانب في المملكة والتي للأهالي أيضاً، وكذلك استعمال المياه المعدنية التي اكتشفها الرومانيون واستعملوها وبالجملة إن مملكة تونس خصبة، وغنى قرطاجنة القديمة يدل على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وتحت الحماية الفرنساوية يمكن أن تزال جميع الحجب عن المنافع الطبيعية في هاته البلاد وتنتشر بقوة، وبشدة الترتيب الجديد نقدر أن نزيد أشياء أخرى وهي أنه إذا كان الباي يعتمد علينا في الترتيب الداخلي في المملكة فإنا نفعل تعديلاً لازماً قاراً، وهذا الخير الذي يسهل علينا عمله منه ترتيب كيفية قبض المدخول وترتيب المخروج وترتيب دفاتر الحساب على مقتضى ما نستعمله نحن في ماليتنا ومنه أيضاً خير عظيم وهو ترتيب العدلية على الأصول التي فعلتها الدول في ترتيب العدلية في مصر، وفائدة هذه التراتيب لا ترجع لفرنسا وحدها بل إن المملكة يرجع لها النفع وكذلك لجميع الدول المتمدنة التي نحن منها ومن غير فتح ولا حرب. بل إن المملكة يرجع لها النفع وكذلك لجميع الدول المتمدنة التي نحن منها ومن غير فتح ولا حرب. فلا شيء يمنعنا من عملنا في تونس مثل الذي فعلناه في جزايرنا والذي فعلته إنكلترا في الهند إذا نحن جعلنا باي تونس متكفلاً بمطالبنا الحقانية فهو دليل على ما نحسبه دائماً من أن تونس مملكة مستقلة من غير أن نراعي بعض آثار للتبعية بالاسم فقط لبعض أسياد قد تركوها منذ عدة قرون وقد تظهر تلك التبعية نادراً، وإن تحسب المدة التي هي فيها مستقلة لكانت اكثر من مدة التبعية ففي سنة 1534 أخذها المشهور بباربورس خير الدين أربع أو خمس مرات بانتصاره على الإسبنيول وفي العام الذي بعده أخذها شارل كان وكذلك في سنة 1553، ثم أخذها داي الجزائر سنة 1570 ثم أخذها دون جوان النمساوي سنة 1573 ثم في طول القرن السابع كانت تحت ظلم الإنكشارية من غير حكم ورؤساؤها الموسومون بالديات كانوا إذ ذاك أربعين فقسموها تقريباً كالمماليك الذين قسموا مصر. ثم في سنة 1705 كان أحدهم المسمى بحسين بن علي الذي أصله كريكي أو كرسكي صار مسلماً وكان هو أحذقهم فعرف كيف يشدهم وقتل جميعهم واشتهر بالباي، وبعصبيات العساكر أقام العائلة الحسينية ومن ذلك الوقت لم تزل الإمارة فيهم على هيئة السيادة الإسلامية والآن 200 سنة تقريباً وهم مستقلون والرابطة الحقيقية بينهم وبين الباب العالي هي رابطة دينية وهم يعترفون بالخليفة إلا انهم ليسوا تحت السلطان. ومما يوضح هذا انهم لا يدفعون له أداء إلا انه عند ولاية كل باي يرسل هدية غنية تعظيماً لرئيس الديانة القاطن بالقسطنطينية وفي باقي مدة الولاية فلا مسألة سياسية يمكن أن تذكر غير هاته التحية الودادية فليس لأمير المؤمنين حق آخر على الباي تونس. والمملكة تعقد شروطاً كمملكة مستقلة مع الدول الأجانب وتعقد معهم اتفاقيات ويكون لها قوة وذلك برضا الباي فقط وعلى هذا النمط وقعت معاهدة مع فرنسا في سنة 1742 وكذلك في العام الثالث والعام العاشر في سنة 1924 وهكذا صارت المعاهدة المهمة في 8 أوت 1830 التي تمنع تملك العبيد والتلصص في البحر، ولا يلزم التكلم على المعاهدات الباقية كالتي في حق صيد المرجان وأن الباب لا يحكم على الولاية إلا حكماً وقتياً وهو راض باستقلالها. ومما يؤيد هذا أنه في القرن الثامن عشر لم يقبل تشكي دول أوربا من التلصص البحري والسعي البربري وليس له حكم عليهم وهو ليس مولاهم وهو لم يضمن السرقات التي جعلوها مخلة بتجارة البحر المتوسط وأن دول أوربا عملوا الحرب عشرين مرة مع المملكة من غير عقد الحرب مع تركيا، وفي سنة 1918 كانت معاهدة إكس لاشبيل قد حكمت على تونس بمنع التلصص البحري من غير أن تطلب من الباب التداخل على أنه متسيد على تونس وفي سنة 1833 فمملكتا سردينيا ونابولي عملا مع تونس من غير عمله مع الباب لأنهم يرون مثل ما نرى أن تونس مستقلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ثم إن علاقة تونس مع فرنسا من وقت اخذ هاته الجزائر على النحو السابق من غير واسطة تركيا ولما قد إلينا احمد باي في سنة 1843 أقتبل بكل ما يلزم من التعظيم للملوك والباب العالي لم يتوجع إذ ذاك من عملنا التعظيم الملوكي المذكور وكذلك جميع أوربا لم تلك على ذلك لأن رأيي موافق لرأي اللورد آبردين الذي يقول في تسجيله ضد أخذنا الجزائر المكتتب بتاريخ 23 مارس 1831 إن الدول الأروباوية من مدة طويلة يفعلون المعاهدات مع الدول البربرية مثل الدول المستقلة وخصوصاً تونس فإنها لا تحسب نفسها غلا حرة، والدليل الواضح الحقي الذي لا ينكره أحد هو عمل القوانين في تونس المسماة (بويود لدي) حلف عليها الباي الموجود بتونس محمد الصادق لما جلس على الكرسي في 23 أيلول سنة 1859 مثل ما حلف أسلافه فإن قانوناً واحداً منها وهو المسمى بالقانون النظامي للملكة تونس قد احتوى على مائة وأربع عشرة مادة وانتشر بالعربي والفرنساوي في تونس وفي بونه ولم يصرح فيه ولو بكلمة واحدة تقول السلطان. ومما لا يقدر أن يشك أحد معه في الاستقلال الباي ما نشر في الصحيفة الرابعة من المقدمة في ذلك القانون ونصه أن المتوظفين الكبار التونسيين اختاروه بكلمة واحدة ليكون رئيس الدولة على مقتضى قانون الوراثة المعروف في المملكة وفي ذلك القانون فصول تامة شرحت الحقوق الواجبات للملك وحالة الأمراء من العائلة الحسينية وحقوق وواجبات الرعايا وكيفية خدمة الوزراء وترتيب خدمتهم والمجلس الكبير بالمملكة والمداخيل والحساب ولا شك أن من يطلع عليها يقدر أن يجد ذلك البيان غريباً إذا أراد أن يقيس على رأينا الأروباوي ومع هذا فهو دليل واضح على استقلال مملكة تونس وأنها ليست تحت دولة أجنبية. وجميع المعاهدات التي بين الدول الأروباوية ومملكة تونس منذ مدة الثلاثة قرون الأخيرة لم تقل أبداً إلا مملكة تونس، ملك تونس، ومنها خمس عشرة أو عشرون معاهدة أمضيت بفرنسا فيها ذلك القول، وفي سنة 1868 المعاهدة التي وقعت مع إيطاليا مذكورة فيها الللكة تونس، وتونس أيضاً لم تسم نفسها في قانونها النظامي إلا اسم الذي أطلقته عليها جميع الدنيا وهي أرادت أن توضح المزية التي لها بالاستقلال والقدرة الموافقة له، فبناء على ما سبق من الأدلة القطعية والمتعددة فالباب العالي لا يقدر أن يتعجب من إنكار فرنسا لسيادته على تونس مهما طلب هو ذلك حتى إلى الآن ونحن نقر بأن الباب شدد في طلبه منذ خمسين سنة، وفي سنة 1835 أدخل تحت سيادته طرابلس بعدها ضبط التحيير الهائل هناك وأراد أن يعمم سيادته على تونس إلا أن قوة فرنسا المضادة له منعه من مقصده وبعد عشر سنين أي في سنة 1845 أتى (مابيخجي) السلطان إلى تونس ومعه فرمان ليقلد الباي منصب الولاية إلا انه لم يقبل منه، ثم مضت عشرون سنة من غير تجربة جديدة، ولكن في أواخر سنة 1864 رجعت التخمينات القديمة وإنما هاته المرة كانت المملكة بنفسها هي التي طلبت التقليد ولكن هذا كان من الغريب إذ وقع من الأمير الذي هو حتى لذلك الوقت بعينه وهو يظهر المدافعة عن استقلاله وهذا إنما كان من الإشارات القوية التي خوفت الباي من حالته أمام الباب فأرسل لذلك أمير الأمراء خير الدين إلى القسطنطينية ليعرض ويأتي بالفرمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وهاته المرة أيضاً فرنسا عارضت في ذلك وعوضاً عن الفرمان السلطاني فالباي ومستشاره التزموا بالرضا بمكتوب وزيري متضمن لما في الفرمان، ثم اغتنموا الفرصة وقت مصيبتنا في سنة 1871 وتمموا ما كانوا ممنوعين منه سواء كان في مدة الوي فليب الذي كان غالباً أسطوله يمنع الأسطول التركي من القدوم إلى تونس أو في مدة الإمبراطور الذي لم يقلل من العزم المشار غليه، وفرمان 15 تشرين أول سنة 1871 الذي اتخذوه تحت ظل مصيبتنا اشتهر في 17 تشرين ثاني في باردو وأعلن به خير الدين باسم السلطان وقبله الباي الذي كان طلبه له مع شيء من الغضب، وفرنسا على حال سجلت بقوة، وحسب الفرمان باطلاً أو كأنه لم يقع ومن مدة عشر سنين لم تبطل شيئاً من عملها عندما يقتضي الحال ومع نجاح الباب هو بنفسه له شك في إجراء حق فرمانه بتاريخ سنة 1871 الذي ضرب استقلال مملكة تونس المتقادم وهذا الفرمان انتشر قليلاً إلا أنه عند الغالب لا يعرف ما عدا بعض الدول التي لها فوائد في ترتيب الفرمان المذكور أن تكون تونس جزءاً تحت الباب مع أن حكم باي تونس باق كما كان يعرف منذ مائتي سنة غير أن باي تونس صار والياً أي والياً عاماً على إيالة تونس وعلى موجب فالوراثة في الحقيقة لم تكن مستمرة في العائلة الحسينية خلافاً لما ذكره الفرمان بل الوالي يعزل بإرادة السلطان ومن الممكن أن يعرف الباي ضرره وضرر ملكه وحريته وحياته التي هي غلطته الكبيرة حسبما أشاروا عليه بها، ومحمد الصادق ليس له خوف من جهة فرنسا ولو مع عمل من الشر معها ومع هذا فهي ليست بضده لا لذريته ولا لذاته ولا لدولته وأما من جهة الباب فهو بالعكس وله الخوف الكبير منه لنه يمكن أن يبدله بحسب الحال". انتهت لائحة وزير فرنسا وإذا تأملها المتبصر وتدبر معانيها يجدها مخالفة للواقع في كثير من الأمور سيما بعض الأحوال التاريخية كما تبين من مقابلة كلامه بما ذكرناه في تاريخ تونس وسياستها وصلتها مع الدولة مع المكتيب الرسمية التي نلقاها حرفياً حتى من متوظفي فرنسا، ويؤكد ذلك ما تراه في لوائح الباب العالي الآتي بيانها فإن الحال لما بلغت إلى درجة هجوم العسكر على الحدود تظاهر والي تونس بأن أرسل إذ ذاك إلى الباب العالي مكاتيب في التشكي من فعل فرنسا وأرسل إلى نواب الدول تسجيلاً على ذلك أيضاً ولما تحقق الباب العالي الأحوال الرسمية أرسل عدة لوائح إلى سفرائه مستنجداً بالدول لمحافظتهم على معاهدة باريس التي أشرنا إليها سابقاً وعلى معاهدة برلين، ومما يفصح عن مقاصد الباب وحقوقه اللائحة التي أرسلها وزير الخارجية بالدولة العثمانية إلى سفراء الدولة ونص تعريبها: اللائحة العثمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 "القسطنطينية في 10 ماي سنة 1881 إن إعلاماتي المختلفة عرفت فطانتكم الوقائع التي صارت في المسألة التونسية وقد نسبت بهجوم بعض القبائل البدويين جهة الجزائر وهذا الهجوم الحكام التونسيون أعلنوا بأنهم حاضرون ليضبطوه من غير تراخ فالدولة الفرنساوية حكمت بأنه يلزمها إرسال عدد وافر من العساكر الذين استولوا على جزء كبير من الولاية ولم يبعدوا عن المركز إلا بعض فراسخ، فمن غير التفات إلى ما كنا أكدنا به على حضرة الباشا ل] اخذ التدابير اللازمة لتمهد الراحة في المواضع الثائرة فدولة الجمهورية لا تريد أن تنظر للمخاطبة الاقترانية بتونس مع السلطنة العثمانية التي هي محسوبة جزءاً مهماً للسلطة المذكورة وأظهرت بأنها لا تقبل قولنا للاتفاق الودادي معها لقطع الاختلاف الذي وقع وترتيب حقوق الباب العالي مع منافع فرنسا في ذلك المحل وترتيب الأشياء الموجودة من زمن قديم ولا نقدر أن نزيد في إيضاحها كما يلزم وهي سيادة السلطان التي ليس فيها اختلاف على هاته الولاية وهي سيادة لا تنكرها ولا ولاية عموماً وهذا الحق بقي إلى الآن صحياً ولم ينقطع من زمن فتحها وهو إذ ذاك سنة 1534 بخير الدين باشا وفي سنة 1574 وتقليج علي باشا وسنان باشا وكانت الدولة العلية أرسلت إلى تلك المواضع قوة عظيمة براً وبحراً ومن زمن ذلك الفتح فالتأسيسات التي فعلها الباب العالي هي أن جميع ولاة تونس يتوارثون الولاية من ذرية الوالي الأول المسمى من السلطان ويتقلدون غلى الآن المنصب منه وفرمانات الولاية تبقى في خزانة الديوان وكذلك جميع المكتيب التي تأتي منهم لبا العالي فإنها تارة تكون في شان مخالطتهم مع الدول الأورباوية وتارة تكون في شأن أحوالهم الداخلية والتي لهاته المدة الأخيرة فإن الباب العالي من استحفاظه على حقوقه زيادة على كونه يسمي الوالي العام فإنه يرسل من القسطنطينية إلى تونس قاضياً وباش كاتب الولاية ولم يمكن إلا من ترحم الدولة العلية أن منحت الوالي أن يسمي هو بنفسه هذين المتوظفين وأيضاً فاتباعاً للمذهب وخصوصية سيادة السلطان فإن الخطب يذكر فيها اسم جلالته ويضرب على السكة أيضاً، وفي وقت الحرب ترسل تونس الإعانة إلى التخت وعلى حسب العادة القديمة يأتي إلى القسطنطينية دائماً أناس رسميون ليقدموا تعظيمات الوالي وخضوعه لأعتاب السلطنة وليقبلوا أيضاً الأذن اللازم من الباب العالي لأمور عظيمة في الولاية ثم إن الباشا الموجود الآن والأهالي التونسيين طلبوا زيادة في التفضل وأعطى ذلك لحضرته السامية بالفرمان المؤرخ في 1871 وتعرف به جميع الدول، والآن قد استغاث الوالي بجهد سيده الحقي ليعينه على الحالة الرديئة التي وقعت فيها تونس الآن، وهاته الأشياء التحقيقية لا ينكرها أحد فل تريدون أن تعرفوا الآن تقريرها بالتاريخ وبالمكاتبات الرسمية هو سهل لكن نقتصر على المهم منها لئلا يطول الكلام في هذا التلغراف ففي المعاهدات القديمة التي بين تركيا وفرنسا تعدد ألقاب الحضرة السلطانية ويكون منها لقب سلطان تونس) فانظر مثلاُ) معاهدة 10 صفر سنة 1084 هـ? سنة 1668 م وفي هذه المعاهدات أيضاً يوجد بأن كل المعاهدات التي بين الدولتين تجري أيضاً في تونس وفي نصف القرن السابع عشر أي في 14 صفر سنة 1166 أرسل السلطان فرماناً للباي والحاكم الكبير بالولاية في رضا الباب العالي بأن قنصل فرنسا يجمع خدمات قناصل الدول الذين لم يكن لهم ذاك نواب القسطنطينية كالبرتغال وكتالوني وإسبانيا وفينسيا وفرنسا وغيرهم، والقنصل وكالته هي حماية السفن تحت الراية الفرنساوية في المراسي المشهورة بالولاية والفرمان يمنع تداخل الإنكليز والهولانديز وغيرهم من التداخل في خدمة نائب فرنسا وذلك سند منع التعدي بين الباب العالي والنمسا المؤرخ في 9 رمضان سنة 1197 هـ? المتقرر بمعاهدة ستوفا في 12 ربيع الآخر سنة 1295 فإنه يأذن حكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب بأن يحملوا باسم السلطان السفن التجارية لسلطنة الرومان الفخيمة وأيضاً فإن الاتفاق الذي تقدم هذا السند وتمم في 15 شوال سنة 1161 هـ? بالإذن من السلطان وكان هذا الاتفاق وقع بين الحكام المذكورين والسلطنة المذكورة فغن الوالي العام بتونس وهو غذ ذاك في رتبة بكلربيك ونال اسم علي باشا يذكر في مقدمة كل مكتوب ممضى عليه منه هاته الكلمات بعينها وهي (مولانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 السلطان الغازي محمود) وعلى ذكر واقعات ذاك الزمان أستطرد لكم الإذن الصادر من الباب الغالي في 15 ربيع الأول سنة 1245 هـ? سنة 1827 م لحكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب فإنه يأمرهم أن لا يتداخلوا في الخلاف الواقع بين سلطنة النمسا ومملكة المغرب، وكذلك الإذن الصادر من القسطنطينية لوالي تونس في 14 صفر سنة 1247 هـ? سنة 1830 م فإنه يأمر بترتيب العسكر النظامي بالولاية على نمط الترتيب العسكري النظامي العثماني، وأيضاً قد أتى مكتوب معين بالطاعة من الباشا التونسي لجلالة السلطان في سنة 1860 وذلك الباشا هو الذي سماه السلطان والياً عاماً، وقد اشتهر هذا المكتوب في جميع صحف أوربا من غير أن يعارض ولا من جهة واحدة ونزيدكم شيئاً آخر وهو انه في سنة 1863 في واقعة القرض التونسي الذي وقع في باريس من غير رضا الباب العالي كان مسيو دواراون دولويس وزير خارجية الإمبراطور نابليون الثالث قد أعلن رأيه بنا، على شكايات الدولة العثمانية وقال إنه يلزم غما الباشا بتونس أو الصراف الذي يريد عقد القرض معه أن يطلب رضا الباب العالي ليصبح هذا القرض للمدافعة عن حقوق الباب العالي فغن الوزير الفرنساوي أرسل يقول هذا الكلام والحق الذي للدول الممضين على معاهدة برلين وإنا لمحققون بأن فكر الدول محيط بدلائل كثيرة في الواجبات العمومية التي يقتضيها المؤتمر المحترم وانهم يريدون أن يفصلوا بالعدل قولنا الذي قدمناه وأنهم يتحفظون على حقوق الباب العالي الأخرى المحفوظة بالمعاهدة المذكورة ويصلحون الحال بين الدولتين المتممة للسلطة العثمانية والمرغوب من جنابكم أن تتكلم مع وزير الخارجية في مضمون هذا التلغراف وتشرح له ما تراه نافعاً ولكم الإذن بأن تعطوا نسخة من هذا لجناب الوزير إذا طلبكم (الإمضاء مصطفى عاصم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ومن تأمل هذه اللائحة مع ما قررناه في سياسة تونس الخارجية ومقاصد فرنسا فيها لا يشك في أن فرنسا لم تكن تنازع قط في أن تونس من ممالك الدولة العثمانية، وإنما غاية دعواها هو أن تلك الإيالة لها امتيازات جارية تحافظ هي عليها لجل منافعها ويصدق ذلك تصريح وزير فرنسا دواروان دولويس في مجمع فيينا إثر حرب القريم لما سأل الوزير الروسي عن تعيين الممالك العثمانية للجهل ببعضها ومثل بتونس وأنه يتراءى فيها نزاع فأجابه الوزير الفرنساوي بأن لاشك ولا نزاع في كون تونس من الممالك الغعثمانية وإن كانت لها امتيازات تخصها وكذلك المعاهدات المعقودة بين فرنسا وتونس حتى التي وقعت بعد الاستيلاء على الجزائر بمدة طويلة يصرح فيها بأن سائر المعاهدات المعقودة مع الدولة العثمانية تكون مرعية الإجراء في تونس ولا يعزب عن عاقل أن ذلك التصريح لاتحاد تونس بالممالك العثمانية، ومع هذا كله لم يفد استصراخ الدول لأن فرنسا لم تعلن بعملها إلا بعد أن لمست أفكار الدول الكبيرة فوجدتهم غير معارضين لها لأن دولة إنكلترا متولي زمامها حزب الإطلاق الذي لا يرى نفع دولته في المحافظة على الدولة العثمانية بعد أن طال تجريبهم لها في الحث على الجريان على مقتضى نصائحهم ولكنهم لم يروا العمل دونك ما نشر في الكتاب الأزرق من المخاطبات التي وقعت من الحضرة السلطانية ورئيس وزرائها ومع سفير إنكلترا في الآستانة حسبما أهبر بها وزيره بعدة تلغرافات تنبئ بما تقدم فمنها تلغراف من مسيو غوشين (سفير إنكلترا) إلى وزير خارجيتها بتاريخ 19 نيسان سنة 1881 هاته ترجمته إني وجدت جلالته (أي السلطان) مشغول الفكر بهذه الأفعال وبناء على ما عندي من الإذن أعلنت له بأن الدولة الإنكليزية تريد بقاء الحالة الموجودة بتونس والنائب الإنكليزي له الإذن ليرشد الباي إذا استشاره بأن يعين فرنسا في تقرير راحة الحدود وغني أرجو أن جلالته يشير على الباي أيضاً بذلك فالسلطان سكت بعض دقائق ثم ظهر على وجهه الغضب وقال إنه فهم من كلامي أن الدولة البريطانية تريد إبقاء الحالة على ما هي عليه في تونس ولها نفع في ذلك وفهم أيضاً أنا أشرنا على محمد الصادق بأن يعين العساكر الفرنساوية فنبهت عظمته بأن قلت إن الدولة الإنكليزية تنتفع بإبقاء الحالة الموجودة ولكنها تظهر تمني ذلك فقط على هذه الكيفية ونحن نتأسف كثيراً من فتح مسألة جديدة في الشرق، وإنا لا نفتكر أنه توجد فوائد خصوصية لإنكلترا مربوطة بأي كيفية كانت في أحوال تونس، فعند هذا أجاب السلطان بأنه لم ير كيف يجمع بين رجائنا في إبقاء حالة تونس على ما هي عليه ومع ذلك نشير على الباي بأن يعين العساكر الفرنساوية فهذان الشيئان لا يتوافقان لنه على رأيه يكون دخول العساكر الفرنساوية إلى تونس ناقضاً للحالة الموجودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وفي تلغراف آخر من مسيو غوشن أيضاً يقول فيه إن المحادثة التي وقعت بيني وبين باش وكيل كان يطلب فيها صحبة إنكلترا وقال إن الدولة الإنكليزية تقدر أن تعمل مع الدولة العثمانية المعروف وأن الباب العثماني يكون ممنوناً إذا كانت إنكلترا تريد أن تفعل معه ذلك، فقلت له إن ما كنت قلته لكم قد وقع، والذي كنت تقوله دائماً هو انه يأتي زمن تكون فيه تركيا متذكرة بأن صحبة إنكلترا لها لازمة وقد تكلم على الحاجة الأكيدة الآن وتلكم أيضاً على مودة إنكلترا فتبعته وقلت له ما هو دليل المودة الذي أظهرته تركيا لإنكلترا منذ بعض سنين وفي أي وقت اتبعتم إشارتنا، وفي أي وقت قبلت استشارتنا النافعة للسلطة التركية نعم إن الترك قد علموا غاية جهدهم ليتركوا المودة التي في رأي العموم في إنكلترا ورجوعها الآن ليس بسهل فحضرته العلية أجابت بان جميع الأشياء واستمر في طلب الإعانة وأنا شرحت له بأن نازلة تونس مثل النوازل الأخرى الشرقية ولا تقدر إنكلترا على إتمامها وحدها ومع هذا فليس لنا فائدة خصوصية وسياستنا متمسكة بالموافقة الأروباوية ولا دولة تريد قيام عسر جديد قبل أن تتم الإعسار القديمة وكل دولة تكون حازمة إذا كانت تفتش كل واسطة لحصر النازلة التونسية في حدود ضيقة لأقل ما يمكن لئلا تقوم نازلة تدخل فيها الدول برأي مختلف فجنابه يقدر أن يفهم من جملة كلامي بأن ليس لي إذن لتقرر الرجاء بأن تكون الدول العظام الأروباوية يظهرون أنفسهم مختلفين على نازلة مخلبطة بين الباب العثماني وتونس والطلب الخصوصي من إنكلترا ليس بموافق لحالة الباب العثماني منذ بعض سنين مع الدولة المشار إليها. فهذا الخطاب كاف في بيان الحال مع إنكلترا وهي وإن أظهر بعض أهل الشورى التنديد على سياستها وطلب المحافظة على تونس وإبقائها للدولة العثمانية وبين ما نشا لإنكلترا من المضرة عند استيلاء فرنسا على مرسى ابن زرت وعلى قربها من خليج السويس ورجحان كفتها في البحر الأبيض لكنه لم ينفذ كلامه حيث كان حزب المحافظين الذي هو مغلوب حينئذ واحتجت عليه الوزارة بأن حزبه الذي فتح الباب لفرنسا فإن اللورد ملسبري الذي كان وزير الخارجية عند عقد مؤتمر برلين كما باحثه وزير فرنسا على استيلاء إنكلترا على قبرص أجابه بأنه لا يعارض فرنسا إذا أرادت الاستيلاء على تونس. فإذا يكون استناد فرنسا على وعد إنكلترا وقد غفل المستند لذلك عن كون الوعد من ملسبري كان في سياق أن ترضى بذلك الدولة العثمانية صاحبة الملك مع الرضا العام لا اغتيالاً ومع ذلك فلإنكلترا مقاصد على تونس مخفية في مصر فرأت أن مساعدة فرنسا على تونس تلائمها في مقصدها هي في مصر عند الحاجة إذا ساعدتها فرنسا ولهذا لم تعترف بالمعاهدة الجددية مع تونس رسمياً حتى أن وزير فرنسا الأول أعلن في مجلس النواب بأن إنكلترا وافقت على معاهدة وزير فرنسا الأول أعلن في مجلس النواب بأن إنكلترا وافقت على معاهدة مايه استناداً منها لما دار بينهم من الكلام فيها فأعلن وزير خارجية إنكلترا حالاً بتكذيب ذلك الإدعاء وما ذاك إلا تحفظاً على ما يريد لدولته حتى إذا لم تساعفه فرنسا في مصر وآل بينهم الأمر إلى المشاحنة الحقيقية كان لإنكلترا وجه في نقض ما حل بتونس. وأما دولة الروسي فلا إشكال أنه يسرها كل ما يضعف الدولة العثمانية ولا فائدة لها في مشاحنة فرنسا وذلك كان جوابها يمثل محصول جواب سابقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأما دولة ألمانيا خصوصاً بأن الأولى للدولة العثمانية الإضراب هن هاته النازلة وأنها هي لا تتعرض لفرنسا بشيء والباعث لها على ذلك وجوه (أولها) إظهار عدم التجافي عن فرنسا التي لها عليها حقد أخذ الثأر (وثانيها) جذب أعداء ومضادين لفرنسا كالدولة العثمانية وإيطاليا حتى إذا أعلنت الحرب يوماً ما بين ألمانيا تجد ألمانيا الظهير على قوتها بما لذلك من الباعث الذاتي (وثالثها) أشغال فرنسا بفتوحات جديدة في أراض فسيحة وخلق كثير في أفريقيا ربما طال اشتغالها بهم حتى يبرد لهيب اخذ الثأر (ورابعها) إضعاف قوة فرنسا وقت الحرب إذ الأمم الذين تريد التسلط عليهم وإن لم يكونوا كفؤا لمحاربة فرنسا لخلوهم عن آلات الحرب والاستعداد لها لكنهم لما كانوا مسلمين واهل نجدة وشجاعة ومثافنة للحرب لا يلبثون دائماً أن يحدثوا عليها ثورات سيما إذا علموا بوقوع حرب بينها وبين أجنبي فتضطر فرنسا في وقت الحرب إلى أن تبقى قسماً عظيماً من جيشها محافظاً على ذلك المستعمر وذلك يفيد ألمانيا بنقصان قوة جيش خصمها في حربها (وخامساً) تمهيد السبيل إليها فيما تريد التعارض به بينها وبين النمسا لأن ألمانيا ليس لها مرسى على البحر الأبيض، وقد بقي من جنس الألمان تحت النمسا عدة ملايين حول الجهات التي قرب مرسى ترست فلو أخذت ألمانيا ذلك الباقي من الألمان مع تلك المرسى يكون ذلك غاية أمانيها ولكن ذلك لا يحصل إلا بحرب مع النمسا وقهرها أو بمعارضة ذلك لها بشيء يرضيها من ممالك الدولة العثمانية مثل أخذها ولايات مقدونيا ومرسى سلانيك الموازي ذلك لمت يؤخذ منها حسبما أشيع مراراً ولذلك كانت ألمانيا أول من بادر لأمر نائبها بتونس باتباع سياسة فرنسا فيها، وتبعتها على ذلك أيضاً النمسا لأنها ليست لها سياسة تخصها في تونس وهي لها مع ألمانيا عقد محالفة اتحاد على الذب والإقدام، ثم إنها لما مطامح في جهة بحر الجزر لتتمكن فيه بمواقع مهمة لكي تسلم في مرسي ترست إلى ألمانيا حليفتها حيث لم يكن لها مرسى في البحر الأبيض كما تقدم ذكره فلا تعارضها فرنسا عند العمل. وأما إيطاليا فإنها تجرعت من لك الغصص وطوت على الضغائن التي لا تزال ولكنها لما كانت غير كفء بانفرادها لمعارضة فرنسا، واتحادها مع الدولة العثمانية أيضاً لا يجدي لاحتياج كل إلى المال مع ما فيه الدولة العثمانية من الحالة الداخلية والخارجية التي أعقبتها الحرب الأخيرة، فلم يسعها إلا السكوت وتحمل عرق القربة مع عظم الضغينة في عموم الأهالي والدولة إذ هي حريصة على إبقاء ما كان في تونس وكانت عند ملاحظتها مبادي الشر عرضت بالسعي السياسي مع الدولة العلية فلم يكن من المقدر قبول الانتباه لما أراده حتى أنكر الوزير العثماني على المأمور الطلياني التكلم معه في تونس وقال له إنها تابعة لنا دخل فيها لحد وعند هجوم فرنسا صار يتملق إلى ذلك المأمور لكي يمد إيطاليا اليد فقالت له مصداق المثل "الصيف ضيعت اللبن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وبما تمهد عبرت عساكر فرنسا حدود تونس معلنة بأنها تريد تأديب قبيلة خمير من أعراب الجبال الشمالية عند حدود الجزائر ولم يتعرض لها أحد بالمصادمة لن حكومة تونس قد تقدمت حالتها الباطنية من التوافق مع فرنسا ومع ذلك فليس عندها تحت السلاح ألفا عسكري ولا اقتدار لها على معارضة فرنسا بالقوة واستندت ظاهراً إلى أمر الدولة العلية بارتكابها سبيل الملاينة واظهر الوزير التونسي إذ ذاك التزام العمل برأي مجلس الشوري حيث فات الإبان مع أن جميع ما يتفاوض فيه يقرره لتابعه علي بالزي ليلاً وهو يقرره إلى نائب فرنسا فكلما غزل المجلس غزلاً نقصه من هو بالمرصاد منهم حتى تعجبوا من اطلاعه على جميع احوالهم، وتمكنت عساكر فرنسا من بلد الكاف وباجة وبنزرت، وفي أثناء تلك المدة كانت الحكومة التونسية لا تزال تسجل وتتشكى وأنها مستعدة لتربية قبائلها الذين هم في نفس الأمر غنما اتخذوا وسيلة فقط، ومع ذلك فقد أوعز الوزير بواسطة تابعه المشار إليه إلى نائب فرنسا بأن لا واسطة مفيدة في الدخول تحت فرنسا إلا قدوم شرذمة من العساكر إلى قصر الوالي والإحاطة به إذ النسوة لما ترى ذلك تصعق بالخوف فيضطر الوالي إلى الإمضاء على الشروط ويجد العذر عند الأهالي، ومع ذلك أرسل خبراً بالسلك الكهربائي إلى الباب العالي يقول أنه قد علم أن فرنسا تطلب عقد شروط ولا يعلم ما هي فماذا يفعل فأجيب من الباب بأن يحيل كلما يطلب منه الباب العالي ولا يمضي شيئاً وقبل ذلك أشاع أصحاب الأخبار أن في عزم الدولة إرسال خير الدين باشا إلى تونس معتمداً في حسم النازلة لمعرفته بأحوالها وسياسة الأهالي والأجانب ولكن يكون عوناً على إبقاء الحالة المعروفة فأرسل الوالي تلغرافاً إلى الباب العالي يطلب أن يكون المرسل غير المشار إليه وتعجب كل غافل عن المقاصد الخفية من ذلك الطلب إذ تلك الحالة لا تدع مجالاً للشخصيات سيما وقد سبقت من خير الدين إلى الوالي المشار إليه المجاملة وعدم الأكتراث بما فعل معه عند حلوله بالأستانة وترقيه فيها، لكن المطلع على الباطن زاده ذلك تيقناً في التواطؤ على تلك الأعمال لأن وجود مثل خير الدين في تونس لا يروج عليه ما يروج على غيره ممن لم يثافن طبائع الشقين، ومع مجاراة الباب العالي وتقليله لمواقع النزاع قدر الإمكان لتأمين الوالي حيث أظهر الميل إلى الدولة فإنه أي الوالي أسرع إلى إمضاء الشروط مع فرنسا والحال أن مداد الحبر من الباب العالي ينهاه عن الإمضاء لم يجف ولم يجبر الباب بعد ذلك بشيء حتى سأله عما شاع من إمضائه فأجابه بأنه مكره عليه وكل ما ورد بعد ذلك من الباب سلمه غلى نائب فرنسا مدعياً أن الشروط قاضية بلك (وهذا نص تعريب المعاهدة) : إن دولة جمهورية فرنسا ودولة باي تونس أرادوا أن يقطعوا بالمرة التحيير المخرب الذي وقع قريباً في حدود الدولتين وفي شطوط تونس، وأرادوا أن يرابطوا مخالطتهم القديمة التي هي مخالطة مودة وجوار حسن، فاعتمدوا على ذلك وعقدوا معاهدة في نفع الجهتين المهمتين فعلى موجب ذلك رئيس الجمهورية الفرنساوية سمى وكيله مسيو الجنرال برياد الذي يتفق مع حضرة الباي السامية على الشروط الآتية: أولاً: المعاهدات الصلحية والودادية والتجارية وغيرها الموجودة الآن بين الجمهورية الفرنساوية وحضرة الباي يتحتم تقريرها واستمرارها. ثانياً: ليسهل لدولة الجمهورية إتمام الطرق للتوصل إلى المقصود الذي يعني الجهتين العظيمتين بحضرة الباي ترضى بأن الحكم العسكري الفرنساوي يضع العساكر في المواضع التي يراها لازمة لتقرر وترجع الراحة والأمان في الحدود والشطوط وخروج العساكر يكون عندما يتوافق الحكم العسكري الفرنساوي والتونسي على أن الدولة التونسية تقدر على إقرار الراحة. ثالثاً: دولة الجمهورية تتعهد لحضرة الباي بان يستند عليها دائماً وهي تدافع عن جميع ما يتخوف منه لضرر ما في نفسه أو في عائلته أو فيما يحير دولته. رابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية في إجراء المعاهدات الموجودة الآن بين دولة تونس والدول المختلفة الأروباوية. خامساً: دولة الجمهورية الفرنساوية تحضر نحو حضرة الباي وزيراً مقيماً لينظر في إجراء هاته وهو يكون واسطة فيما يتعلق بالدولة الفرنساوية وذوي المر والنهي التونسيين وفي كل الأمور المشتركة بين المملكتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 سادساً: أن النواب السياسيين والقناصل الفرنساويين في الممالك الخارجية يتوكلون ليحموا أشغال تونس وأشغال رعيتها في مقابلة هذا فحضرة الباي تتعهد بأن لا تعقد معاهدة عمومية من غير أن تعلم بها دولة الجمهورية ومن غير أن يحصل على موافقتها من قبل. سابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية ودولة حضرة الباي أبقوا لأنفسهم الحق في أن يؤسسوا ترتيباً في المالية التونسية ليمكن لهما دفع ما يلزم الدين التونسي العام وهذا الترتيب يضمن في حقوق أصحاب الدين التونسي. ثامناً: إن غرامة الحرب يغضب عليها القبائل العصاة بالحدود والشطوط وتفعل دولة الجمهورية مع حضرة الباي فيما شروطاً على كميتها وكيفية دفعها ودولة حضرة الباي تضمن في ذلك. تاسعاً: للمدافعة على منع إدخال السلاح والالات الحربية للملكة الجزائرية الفرنساوية فدولة باي تونس تتعهد بأن تمنع دخول الأشياء المشار لها من جزيرة جربة ومرسى قابس وسائر المراسي الجنوبية في المملكة. عاشراً: إن هاته المعاهدة توضع لدى رضا الدولة الجمهورية الفرنساوية وترجع في أقرب وقت ممكن لحضرة الباي السامية. حرر في 12 ماي 1881 بالقصر السعيد الإمضاء محمد الصادق باي والجنرال برياد. والذي يؤكد صدق التواطؤ من قبل أن الوالي طلب ظاهراً من نواب فرنسا وهما أمير العساكر والقنصل أن يمهلاه مدة للتأمل من حالة الشروط فأجابه القنصل بأنه لا داعي إلى ذلك حيث أن الشروط عند وزيرك من مدة وتأملتها أنت وهو لم يبق إلا لإمضاء ويؤيده أيضاً أن رئيس المجلس البلدي السيد محمد العربي زروق أحد أعضاء مجلس الشورى أصر على عدم الموافقة على إمضاء الشروط وألح على الوالي بذلك عند جمعه للمجلس وأمير عسكر فرنسا منتظر لانبرامها ونصحه بأن ما يخشى منه بعدم الإمضاء سيقع لا محالة بعيد الإمضاء فالتمسك بالبراءة الأصلية أسلم وأشرف وعورض بأنه قد علم أن الوالي إذا لم يصحح يولي الفرنسيس عوضه أخاه الثالث (محمد الطيب باي) لأنهم أكدوا أن له اتفاقاً مع الفرنسيس فأجابه بأن جميع الأهالي لا تطيع الوجه المذكور وعلى فرض قهرهم يكون الوالي على شرفه وربما اضطرت الدول إلى التداخل بوجه يحسن الحال، فلم يلتفت لكلامه وعزل إثر ذلك من جميع وظائفه وجعلت عليه مراقبة في داره وحجر عليه مخالطة الناس وتحقق مزيد الإضرار به إلى أن احتمى بقنصلية إنكلترا وسافر عن وطنه وأقام بالأستانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ويشهد صراحة للتواطؤ ما صرح به البارون بيانك الفرنساوي في تشرين الأول سنة 1881 بما وقع في هاته المسألة وأنه كانت أرسلته دولته حيث كان أحد مأموري الوزارة الخارجية لاستقراء أمر تونس وذلك في كانون الثاني سنة 1881 وأن الوالي أجاب إذ ذاك فرنسا بأنه يقبل الشروط إذا كان الواسطة فيها هو فرديناند لسبس لأنه كان يؤمل بواسطة المذكور الحصول على شروط أوفق له وأن الشروط إذ ذاك كانت غير التي قررت الآن ومع ذلك كله لم تعلم الدولة العلية بشيء وبه يعلم صدق الكلام في إضمار الوزير التونسي الشر للبلاد ولي بالخصوص أعمال النائب لفرنسا عند إمضاء المعاهدة أن طلب من الوالي نفي علي بالزي حالاً لكي لا يبيح بما وقع من الأسرار التي أطلع عليها فنفي إلى حصن قابس ثم توجه الوزير ابن إسماعيل إلى باريس في سفينة فرنساوية حربية شاكراً لإنعام فرنسا بتلك المعاهدة ومعلناً لها بأنه يصدق في خدمتها أزيد مما كان يبذله سابقاً كذا في عبارته الرسمية عند ملاقاته رئيس الجمهورية المنشورة في الصحيفة الرسمية فقلدته فرنسا بأكبر نيشان لها مع الشريط الأكبر ورجع إلى تونس ولم يلبث بضع أشهر حتى ورد المر على الوالي من وزير فرنسا بعزل وزيره ابن إسماعيل لأن نائب فرنسا بتونس توجه غلى باريس وتفاوض مع دولته فيما يسلكونه في تونس حيث غن الأعراب والجهات الجنوبية أعلنوا بأن الوالي لما بغى على الدولة العثمانية بدخوله تحت حماية فرنسا فهم لا يطيعونه لنهم بايعوا أمير المؤمنين سلطان الدولة العثمانية قديماً وحديثاً فلا يحل لهم الخروج عليه، وهرب على الوالي جميع عساكره فاضطرت فرنسا لتعبية الجيوش لتطويع الأعراب، وكان من جملة التدبير عزل ذلك الوزير الذي توقعوا منه أن يفعل معهم مثل ما فعل مع البلد الذي وصل فيها إلى تلك الدرجة وتحقق الوزير ما ضرب من المثل بوزارة العلقمي وغن كان هذا أي ابن إسماعيل قد امتاز بجميع خزائن أمراء تونس حتى كان آخر ما بقي للوالي من مفاخر الجواهر عقد لؤلؤ منظم سبحة بها مائة حبة مع حلية زمرد محاط بها الياقوت الأبي، فأعطاهما إليه عند سفره لباريس بعد العزل المذكور ورام بسفره إرضاء فرنسا عليه وإرجاعه إلى الوزارة وبقيت البلاد إلى الآن في حيرة واضطراب ودخلت العساكر الفرنساوية إلى قصبة الحاضرة وإلى منازل العساكر في المدينة وأمام قنصلية فرنسا وسكن رئيس العساكر الفرنساوية بدار المملكة في بطحاء القصبة وصارت الحكومة لا تتصرف في شيء إلا بأمر الوزير الفرنساوي سواء كان في الداخلية أو في الخارجية، وتفاقم الضرر بولايات غير الأهل في الوظائف بوسائل غير مرضية، وعظم الكرب على القبائل والبلدان بما حصل فيها من العساكر الذين أقاموا بالقيروان وسوسة وهدموا صفاقس وخرجوا من قابس بعد دخولها وعادوا غليها، ونسأل الله تعالى أن يتداركنا بألطافه وبحسن العاقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ومما ينبغي التنبه إليه هنا أن الأحوال السياسية التي أشرنا إليها مع الدول سيما مقاصد ألمانيا لا يمكن أن تخفى على أمة عاقلة مثل الفرنساويين فكيف مع ذلك أقدموا على تبوؤ تونس مع كون الفائدة التي تحصل لهم منها لا توازي ما ذكر سيما إذا كان المعاهدة مع تونس التي ذكرناها تجري حقيقة على ظاهرها فالجواب أم كثيراً من عقلاء الفرنسيين قد نددوا على دولتهم وما زالوا في الاعتراض عليها لكنها بعد الوقوع في الأمر المتسبب عن تهور ممن بيدهم مقاليد السياسة حتى اتهمهم مضادوهم من نفس الفرنسيين بان لهم في ذلك أرباحاً ذاتية من التجارة في الرقاع الدولية وموهوا على العامة بالانتصار لحفظ ناموس فرنسا، فبعد ذلك صعب على الدولة إهمال سعيها ما خسرته من الأموال المتجاوزة مائة مليون ومن الرجال الذين ماتوا بالحرب مع الأعراب والأمراض المتجاوزين خمسة وثلاثين ألفاً فرأت فرنسا التحفظ على ما وقع مع السعي في حسن السلوك الذي يخفف أو يدفع عنها الغوائل المنتظرة ثم وراء ذلك أمر مهم جداً لفرنسا وهو طمعها في إحداث مملكة عظيمة في إفريقيا مثل ما للإنكليز في الهند فتريد أن تمتد من الجزائر إلى ما جاورها شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى دواخل إفريقيا والسودان وتصل بين شاطئ إفريقيا الغربي في سانيغال والشرقي في الجزائر وتونس حتى رسمت جمعية فرنساوية رسماً لخط الحديد في ذلك ولو يتم هذا يكون لفرنسا شان عظيم غير أن القياس على الهند الإنكليزي هو قياس مع الفارق لا من جهة سياسة الفرنساويين في مستعمراتهم من حيث قلبها إلى عوائد الفرنسيين وإناطتها الإدارة في الكليات والجزئيات بباريس ولا من حيث أخلاق الأمم المستوطنين بإفريقيا والمتسوطنين بالهند، وغن شئت الوقوف على برهان ذلك فانظر ما حررناه في أحوال الجزائر وفي أحوال الهند وفي سياسة كل من الدولتين تتبين لك حقيقة الحال وبما ذكرناه هنا يندفع الاعتراض على ما ذكرناه في سياسة تونس الخارجية من كون فرنسا لا تريد الاستيلاء عليها مع كون أعمالها ناقضت ذلك وشرح الدفع يؤول إلى أن الحامل لدولة فرنسا على مخالفة ما سبق من مقاصدها في تونس شيئان أحدهما سياسي ظاهري والآخر خصوصي باطني، فالباطني هو المشار إليه بما وقع من التهمة في نفع الأفراد الذي يأتي له مزيد شرح في مبحث الأحكام، والظاهري هو أن الدول قد تغيرت أفكارهم بالنسبة لمحافظة الدولة العثمانية منذ عقد معاهدة برلين فدلت أعمالهم على أن من ناسبه شيء منها وكانت له قدرة على حوزه بادر إليه وغض عنه النظر بقيتهم إذا كان المحوز أكثر مناسبة بالحائز وقد علمت مقاصد فرنسا ف يتونس ورأت أن إيطاليا لها من المقاصد والمناسبات ما يزاحمها ثم رأت سيرة ابن إسماعيل وانه غير أمين فلا يبعد أن يفعل مع إيطاليا أو غيرها من الدول ما فعل معها لخوف أو طمع مع تيسر إجراء الأمور بواسطته فانتهزت الفرصة خوفاً على درجة نفوذها فبادرت قبل أن تبادر إيطاليا، ومن المعلوم أن السياسة تدور مع الأحوال الحاضرة ولله عاقبة الأمور". إلى هنا انتهى الذيل الذي كتبه صاحب الصفوة. ما بعد الحماية لم يحدث في المدة التي أعقبت الحماية حوادث ذات أهمية لقصر المدة التي ما بين الاحتلال وانتقال موقع الحماية إلى الدار الآخرة. ومن المتوقع أن معاهدة المرسى كانت مهيأة لأن يوقعها موقع معاهدة باردو وغنما عاجلته المنية أو هي مخبأة لمن يأتي بعده. عاش المشير الثالث محمد الصادق باي بعد إعلان الحماية إلى سنة 1299. وهذا ما جاء في الرائد الرسمي إخباراً بوفاته في العدد (50) المؤرخ يوم الأربعاء 20 ذي الحجة 1299. قسم غير رسمي في السبت الفارط 16 ذي الحجة (1299) فجع القطر التونسي وتزعزعت أركانه بفقد غرة جبينه، وصادقه وأمينه، المولى الجميل الذكر المشير محمد الصادق باشا باي هطلت عليه سحائب الرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان، وقد أسفت السكان على اختلافهم من فقده وأفول بدره، برد الله ثراه وأولاده من نعيم الجنة ما أولاه. وجاء في نفس العدد المذكور: (هذا ولما بلغ نعيه مسامع ضو الشجرة الحسينية الثابتة الأصل المباركة المولى المعظم الأرفع سيدنا علي باشا باي أقبل للجلوس علة الدست الحسيني وقبول المبايعة الخاصة حيث كان ولي عهد المقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وعندما وصل جنابه إلى سراية المرحوم انعقد موكب خاص حسب العادة المألوفة فيما بين الآل الحسيني مؤلف من جنابه أيده الله والوزير الأكبر، وبقية الوزراء الفخام، والمجلس الشرعي وبايعه الحاضرون. وقد حضره الهمام الأفخم مسيو كامبون وزير الدولة للجمهورية الفرنسية المقيم بحاضرة تونس وتلا خطاباً بالنيابة عن دولته المحترمة وتأتي ترجمته) . ولما لهذا الخطاب من أهمية توضح مرامي فرنسا في ابتلاع النفوذ التونسي بعنوان إجراء الإصلاحات التي خطوتها الأولى معاهدة المرسى ننشره توضيحاً لخطى الحماية الفرنسية التي أرادت ذوبان الذاتية التونسية خطوة خطوة، ولولا لطف الله تعالى بالحصول على الاستقلال لاضمحلت الأمة التونسية. ونصه: قد جئت أنا (أي كامبون) في حق الجمهورية الفرنسوية الحبيبة الحامية للملكة التونسية نشارك حضرتكم في الحزن الذي أصابكم في أعز أوديكم كذا. ونغتنم فرصة ولايتكم لنحقق احترام وصادقتي لحضرتكم. ونعرف حضرتكم باليقين أنها تقدر أن تستند على فرنسا كذلك. والدولة الفرنساوية تعتمد على العلامة المشهورة التي برهنت بها حضرتكم عند الموافقة بجوار عساكرنا. وإحساس هذه الثقة التامة الموجودة ما بين الدولتين في بعضهم بعضاً يعجل، وهذا عندي محقق، إجراء الإصلاحات اللازمة للغاية. وما عطل حضرة محمد الصادق على شروعها إلا حضور أجله. وبحول الله يعود لهذه البلاد غناها وثروتها السابقة. هذا هو الدعاء الذي ينفتح به ملك حضرتكم، وهذا هو المرغوب الذي دائماً نعين حضرتكم لاتصاله فيما يخصني، وأنا جاعل نصب عيني فائدة العامة من دون التفات إلى اختلاف الجناس لهذه الأمة التي منذ اليوم ترأسها حضرتكم والتي فرنسا تحامي عليها. وأجاب الأمير علي باي على هذا الخطاب بما لفظه. نستكثر خير الدولة الفخيمة الجمهورية كثيراً على ما نتحققه من وثيق صداقتها، وخير جنابكم الذي نتحقق جميل وساطته. وبجانب هذا الخطاب نجد فقرة أحدهم بهامش نسخة من النزهة الخيرية توضح كيف أن المتولي الأول في عهد الحماية لم يتقدم للإمارة إلا بعد أن توثق منه المقيم العام بأنه ملزم بتوقيع المعاهدة التي تعتزم عقدها فرنسا. وهذا نص ما كتبه بعضهم في النزهة الخيرية لسنة 1299 تعليقاً على اسم الباي: توفي سيدنا محمد الصادق باشا ليلة السبت السادس عشر من ذي الحجة الموافق للسادس من أكتوبر سنة (1299) على أن عمره تسعون سنة والصواب أن عمره سبعون سنة كاملين كذا) . وفي صبيحة السبت توجه كامبون وزير فرنسا المقيم بالحاضرة، والسيد محمد الوزير الأكبر، والشيخ العزيز بوعتور باش كاتب إلى سانية علي باي بالمرسى وعزوه في أخيه، وطلبوا منه القدوم معهم إلى باردو، فقدم مع كامبون وأولاده عوض أخيه على شرطها عليه، وقبلها منه وتركا في السراية منفردين ما يقرب من أربع ساعات منفردين للمفاوضة لقبول البيعة من الحاضرين. ثم قبل الزوال بنصف خرج مصاحباً لكامبون عن يمينه وأجلسه على الكرسي وقبل البيعة قرأها إلياس بالنيابة عنه قبل جلوسه. هذا التعليق لم يذكر كاتبه اسمه والظاهر انه من المتصلين بالحكومة ومن خواص الصادق باي، وتعليقه هذا يشرح لنا كيف جلس علي باي على دست الإمارة وأنه لم يجلس إلا بعد توثق كامبون من انه لا يمانع فيما يملى عليه في المستقبل. الأمير علي باي 1299 1320 افتتح عهده باستقالة الوزير محمد بفتح الميم خزنة دار واستقالته مبنية على ما رآه من مرامي فرنسا لابتلاع الذاتية التونسية. فبعد أسبوع من جلوس هذا الأمير قدم الوزير المذكور استقالته. جاء في الرائد التونسي عدد 41 سنة 24 بتاريخ يوم الأربعاء 27 من ذي الحجة (1299) ونوفيمبر (1882) تحت عنوان: استعفاء جناب الوزير الأكبر سيدي محمد وبعد الإشادة بأعمال هذا الوزير جاء خبر تولي خلفه: وفي يوم السبت الفارط دعا مولانا جناب أمير الأمراء الشيخ سيدي محمد العزيز بوعتور فقلده الوزارة الكبرى. وكانت فاتحة الأعمال معاهدة المرسى في أواخر جمادى الثانية من سنة 1300 وفي 8 ماي من سنة 1883. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 خولت هذه المعاهدة حق الحماية للدولة الفرنسية بفصلها الأول الناص على أن الغرض هو إتمام الحماية لذلك يتكفل الباي بإدخال الإصلاحات الإدارية والعدلية التي ترى حكومة فرنسا الفائدة في إدخالها. لذلك كانت الحكومة التونسية بالباي والوزير الأكبر آلة تنفيذ لما تراه الحكومة الفرنسية من تقييد للحكومة التونسية بعنوان الإصلاحات. ولم تمض إلا مدة وجيزة على معاهدة باردو حتى استصدرت الحكومة الفرنسية أمراً من الباي في إنشاء الكتابة العامة كما في منتخبات الرائد التونسي المبدوءة من 1299 إلى 1300 ويوافق التاريخ المذكور لإصدار أمر الكتابة العامة 4 فيفيري سنة (1883) ومن ذلك الحين والسلطة التونسية في ذوبان والسلطة الفرنسية في تركيز وتثبيت إلى أن جاءت الخطوة الحاسمة بالاستقلال. وهذا الباي من أطول الملوك الحسينيين عمراً إذ عمره (87) سنة فقد ولد سنة (1233) وتوفي سنة (1320) . ابنه الأمير محمد الهادي باي 1320 1324 كان فيه انكماش عن فرنسا مما أدى إلى نفار بينه وبين بعض رجال دولته. وقد أراد هذا الأمير الأخذ بيد العلوم الإسلامية فحضر بعض أختام الحديث سنة ولايته، واعتنى بطبع بعضها وهي التي ختم بها سنة (1320) . الأمير محمد الناصر باي 1324 1340 عاش هذا فترة من التاريخ التونسي تعد من فتراته الانتقالية سواء بالنسبة لتونس خاصة أو بالنسبة للعالم. أما بالنسبة للعالم فقد نشبت الحرب العالمية الأولى في سنة (1914 1918) التي شاركت فيها أكثرية من دول العالم وانقسم المتحاربون فيها إلى قسمين الحلفاء ودول الوسط تتزعمهم ألمانيا. ونتج عن هذه الحرب وود دول عربية، وبدأ العالم العربي يعتمد على نفسه دون الاتكال على الخلافة التي انتهى أمرها (1224 م) . كما أن مبادئ ولسن الرئيس (27) الربعة عشر التي أعلنها في سنة (1918) م والتي منها تقرير المصير حركت مشاعر الحرية. وأما بالنسبة لتونس فإن هناك نهضة نشأت من عوامل مختلفة منها: التحاك بالغرب. والنهضة العربية التي أيقظتها الأحداث فأرادت مسايرة ركب الحضارة. وسقوط الخلافة الذي بعث هزة في تونس حيث أدرك التونسيون أنه لا اعتماد للشعوب إلا على نفسها. والتأثر بالحركات الوطنية في الخارج. الحركة التونسية في الخارج التي ابتدأها الشيخ إسماعيل الصفائحي (1337) والشيخ صالح الشريف (1338) ، ومحمد باش حانبة (1336) . ومن الأحداث في مدة هذا الأمير بدء الحركة السياسية فقد تأسس الحزب الحر الدستوري اختفاء ثم إعلاناً. ومن بواكير أعماله وفد الأربعين الذي أعلنت فيه المطالب التونسية وأم هذا الوفد الأمير محمد الناصري باي. وتلكم عن وفد الربعين الزعيم التونسي الجزائري احمد توفيق المدني في مذكراته حياة كفاح فقال ما ملخصه: لم يكن من المنطق السليم أن يذهب الوفد التونسي إلى باريس لعرض رغائب تونس دون أن يقع عمل مشابه لذلك لعرض القضية على سمو باي تونس وإشراكه في المسؤولية. وتركب الوفد من مجموعة تمثل كافة طبقات الشعب التونسي. ثم يقول: وأسندت رئاسته لعالم من أكرم العلماء ومدرس من أفضل المدرسين هو الشيخ الإمام محمد الصادق النيفر الذي أشهد أنه أبلى البلاء الحسن وناضل النضال المجيد.. في سبيل القضية التونسية. وأعلن وفد الأربعين المطالب التونسية في 2 شوال سنة 1338 وفي 19 جوان سنة 1929. وسافر في شهر جوان من السنة المذكورة الوفد الأول الدستوري الممثل للجنة التنفيذية. فتشكلت الحركة بشكل حركة منظمة منبعثة للعمل في الداخل والخارج، وقد نبهت المستعمر أن الشعب التونسي ليس بالشعب النائم، إذ أخذ ينقض عنه ما تراكم من تلك القرون المظلمة فأصبح يحسب له حسابه. الأمير محمد الحبيب باي 1340 1347 من أهم الأحداث في مدته أنه بادر إلى التوقيع على الإصلاحات التي قدمها له المقيم فيما يخص تعويض المجلس الشوري بمجلس يسمى المجلس الأكبر. والفرق بين المجلسين غير كبير فمجلس الشورى كان يتركب من قسمين فرنسي وأهلي هكذا كانوا يعبرون عن القسم التونسي. وبتركب القسم الفرنسي للمجلس الشوري من (36) عضواً. والقسم التونسي المعبر عنه بالأهلي من (16) عضواً يعينون كل أربع سنوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وانظر أسماء الأعضاء التونسييين في السنة الحادية عشرة من الرزنامة التونسية ص142. وأما المجلس الأكبر فأعضاؤه الفرنسيون (44) والتونسيون (18) . وجاء تفصيل تركيب المجلس التونسي المسمى بالأهلي في السنة الأولى للتقويم التونسي ص (47) ومكان التوقيع على هذه الإصلاحات في 13 جويلية سنة (1922) . وثارت حول هذه الإصلاحات ضجة كبرى بسبب النظرة إليها، وبسبب دخول بعض الوطينن في انتخابات هذا المجلس. واسم هذا المجلس (مجلس المملكة التونسية الأكبر) . الأمير احمد باي 1347 1361 في طالعة ما حدث في مدته تأسيس الديوان السياسي الذي كان الطريق إلى الاستقلال التام . وابتدأت الحركة التي نتج عنها تأسيس الديوان السياسي وهي ناتجة عن حدثين هامين فيهما طعن للإسلام وطعن للوطن. الحادث الأول المؤتمر الأفخارستي بعاصمة تونس في سنة (1348) (1930) الذي تبرأ من المشاركة فيه شيخ الإسلام الحنفي ورئيس المفتين المالكي. والحادث الثاني هو ذكرى الاحتلال لتونس الذي لم يتم. وفي سنة (1932) أسس الأستاذ الحبيب بورقيبة جريدة (العمل التونسي) . وتبلورت الحركة الوطنية بتأسيس الديوان السياسي (1352) وفي مارس (1934) . الأمير المنصف باي 1361 1362 هو أول أمير خلع حياً من الأمراء الحسينيين خلعته السلطة الفرنسية إثر دخول الحلفاء إلى تونس، ونفي إلى الخارج. ويمتاز هذا الأمير بأنه تزعم الحركة الوطنية في مدة إمارته. وتوفي في منفاه في (بو) سنة (1367) (1948) . الأمير محمد الأمين باي 1362 1376 جرى في عهده كثير من الأحداث حيث إن الشعب التونسي كان شعباً ناضجاً فمن أهم هذه الأحداث. نهضة الزيتونة فقد تقدمت الزيتونة التي أصبحت تتمتع بمثل ما تتمتع بع بقية المؤسسات التعليمية لأنها كان منظوراً إليها بعين غير العين التي ينظر بها إلى المؤسسات المضطلعة بمهمة تعليمة كبرى. الاستقلال الداخلي وقامت في أيامه الثورة التونسية بالمقاومة المسلحة. وبعد جهاد محكم نالت تونس استقلالها الداخلي إذ أعلن منداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية استقلال تونس الداخلي، في 30 ذي القعدة سنة (1373) وفي 31 جويلية (1954) . وأعقب إعلان الاستقلال الداخلي تكوين وزارة تفاوضية لإرساء الاستقلال الداخلي ونجم عن ذلك الحركة اليوسفية لمقاومة الوضع الجديد، ولكنها لم تعمر طويلاً. الاستقلال التام وأعلن الاستقلال التام في 7 شعبان (1375) و20 مارس (1956) . افتتاح المجلس التأسيسي وفي 26 شعبان 1375 وفي 8 أفريل 1956 اجتمع المجلس التأسيسي لسن دستور البلاد التونسية. وهو أول مجلس شعبي في البلاد التونسية، وكان يوم افتتاحه يوماً مشهوداً. وانتخب الرئيس الحبيب بورقيبة رئيساً له. وكان من مبادراته أنه أعلن في أول فصوله الأولى أن تونس دينها الإسلام ولغتها العربية. ولكون المجلس التأسيسي أول مجلس انتخابي في هذه الديار اعتنت بذلك الصحافة اعتناء زائداً. من ذلك أن جريدة الزيتونة استجوبت عدداً من المرشحين لإبداء آرائهم في هذا الحدث العظيم في تاريخ تونس، وفيما سيقدمه هذا المجلس. وكان من المستجوبين المحقق لهذا الكتاب محمد الشاذلي النيفر، وقد ركز في إجابته على أن يكون الدستور التونسي كما يأتي. (لا مناص من أن يكون الدستور التونسي متماشياً مع مقتضيات الزمن كما انه يربط قافلتنا بالعالم الإسلامي والعالم العربي، ورائده الإسلام) . الزيتونة عدد 8 من السلسلة الجديدة. أول وزارة العهد الاستقلالي تشكلت أول وزارة في عهد الاستقلال برئاسة الرئيس الحبيب بورقيبة وهي أول وزارة تضم ستة عشر وزيراً. وكان وكيل رئيس الحكومة الأستاذ الباهي الأدغم. وكان ذلك (في 4 رمضان 1375) و (15 أفريل 1956) . وتم على يدها في أوائل عهدها تركيز الذاتية التونسية في الديبلوماسية، والمن والجيش، والاقتصاد والمالية، مما طوى لها مراحل في أمد قصير، ولولا تلك الخطوات الجزيئة لما تم ذلك فإن الوزارة الاستقلالية استثمرت بعض المواقف فتوسعت في فهم وثيقة الاستقلال، وبذلك انقلب الوضع رأساً على عقب بالنسبة للدولة الحامية فانفلت زمام المر من يدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وأصبت تونس بعد تلك الجرأة السياسية البرعة لا يقيدها قيد في استقلالها على حسب إرادتها لا إرادة الحامية السابقة وهي فرنسا. إعلان الجمهورية أرادت تونس استكمال نظامها السياسي المختار علاوة على حريتها التي نالتها بجهادها المتواصل. ولم يحدث يوم إعلان الجمهورية ما يصاحب عادة الانتقال من نظام إلى نظا م م نم سفك دماء، وهزات شعبية، إذ جرى إعلان الجمهورية في رحاب مجلس منتخب أعلن بالإجماع الجمهورية وإلغاء الملكية. وعبر الكثير من الأعضاء في الجلسة التي أعلنت الجمهورية عن آرائهم في الجمهورية يوم الخميس 26 ذي الحجة 1376 وفي 25 جويلية 1956. وقد ساهم كاتبه في الجلسة التاريخية فعلان الجمهورية بكلمة لخصتها كتابة الأخبار والإرشاد في كتابها الأول: ثقف نفسك في السياسة بما يلي: فحوى كلمة الشيخ محمد الشاذلي النيفر (لقد جعل الإسلام الكلمة للشعب في اختيار من يرتضيه لحراسة مصالحه، والذود عنها، ولهذا جعل الخلافة شورى، فقد كان المسلمون أحراراً في اختيار خليفتهم. وقد ربى الإسلام المسلمين على أن يفهموا أن الشورى جزء لا يتجزأ من الحكومة وجزء لا ينفصم من الأمة، حتى أنه قرر مبدأ الشورى في حق من عصمه الله تعالى، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وإن هذه الأمة حين أخذت طريقها السوي وأنقذت نفسها من استعمار غاشم قد أرادت لنفسها نظاماً يضمن لها أن تكون أمة في مصاف الأمم الناهضة بحق وجدارة. فحين نختار اليوم النظام الجمهوري لا نرمي من وراء ذلك الاختيار إلى أية غاية إلا أن نكيف الدولة ونينيها بناء لا يتسرب إليه الخلل على تعاقب الأيام) . وفي تلك الجلسة التاريخية أصدر المجلس القومي التأسيسي برئاسة جلولي فارس رئيس المجلس القومي التأسيسي القرار التالي المتضمن لإعلان الجمهورية وانتخاب رئيس لها وهو فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة. بسم الله الرحمن الرحيم نحن نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب. وتدعيماً لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب. وسيراً في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجه المجلس في تسيطر الدستور. نتخذ باسم الشعب القرار التالي النافذ المفعول حالاً: أولاً: نلغي النظام الملكي إلغاء تاماً. ثانياً: نعلن أن تونس دولة جمهورية. ثالثاُ: نكلف رئيس الحكومة السيد الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور في حيز التطبيق ونطلق عليه لقب رئيس الجمهورية التونسية. رابعاً: نكلف الحكومة بتنفيذ هذا القرار وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري كما نكلف كلاً من رئيس المجلس والأمين العام لمكتب المجلس والحكومة بإبلاغ هذا القرار إلى الخاص والعام. أصدرناه في قصر المجلس بباردو يوم الخميس في 26 ذي الحجة سنة 1376 وفي 25 جويلية سنة 1957 على الساعة السادسة مساءً. جلولي فارس رئيس المجلس التأسيسي ختمت الملكية بتونس في آخر سنة 1376 وانتقلت البلاد إلى العهد الجمهوري برئاسة فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة رئيسها الحالي أجرى الله على يديه الخير موفقاً لما فيه رضاه بنهضة إسلامية لهذه البلاد مركز الإشعاع الإسلامي. الوزارة التونسية رأت البلاد التونسية تقلبات متعددة في أطوار مختلفة فبعد أن كانت عضواً في الخلافة الإسلامية سواء في الطور الأموي، أو الطور العباسي استقلت استقلالً داخلياً من الخلافة العباسية، إلى أن انفصلت عن الخلافة وأصبحت دولة تناوي الدولة العباسية وفي ذلك الطور كان هيكل الدولة مكتملاً بكل رجال الدولة. وجاءت صنهاجة بنظامها، وكذلك الدولة الحفصية إلى أن رزحت تونس تحت الحماية الإسبانية، ثم جاءت الدولة العثمانية فأصبحت البلاد التونسية ولاية عثمانية ففقدت المقومات التي للدولة، ومنها الوزراء. ثم أخذت تونس تسترجع سيادتها في البوتقة العثمانية إلى أن تكونت الدولة التونسية بالإمارة والوزارة والمعروف أن الوزارة المتصلة بالعهد الحاضر ابتدأت في إمارة الأمير علي بن حسين باي الذي تولى الإمارة من سنة (1172) إلى سنة (1196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ومن المفيد ذكر رؤساء الوزارات بتونس منذ عادت الوزارة في تونس إلى العصر الذي نعيشه اليوم وهو العام الأول من القرن الخامس عشر (1401) . مدة الولاية سنة الوفاة 1 مصطفى خوجة 1172 1196 1215 2 يوسف صاحب الطابع 1196 1230 استشهد في 1230 3 العربي رزوق أول وزير في العهد التركي من أبناء البلاد 1230 1238 قتل سنة 1238 4 حسين باش مملوك 1238 1245 1274 5 شاكير صاحب الطابع 1245 1253 قتل سنة 1253 6 مصطفى صاحب الطابع 1253 1256 1277 7 مصطفى خزاندار 1256 1290 1295 8 خير الدين باشا 1290 1294 1308 9 محمد خزندار (1) 1294 1295 10 مصطفى بن إسماعيل 1295 1298 1327 11 محمد خزندار (الوزارة الثانية) 1298 1300 12 الشيخ محمد العزيز بوعتور 1300 1325 1325 13 محمد بن فرحات الجلولي 1325 1326 1327 14 يوسف جعيط 1326 1333 1333 15 الطيب بن حسين الجلولي 1333 1340 16 مصطفى دنقزلي 1340 1345 1345 17 خليل أبو حاجب 1345 1350 1948م 18 الهادي الأخوة 13501932م 1942 م 19 محمد شنيق (1) 13621943 م 20 صلاح الدين البكوش (1) 1943م 1947م 21 مصطفى الكعاك 1947 1950 22 محمد شنيق (2) 1950م 1952م 23 صلاح الدين البكوش (2) 1952م 1954م 24 محمد الصالح مزالي 1954م 1954م وفي المدة التي استقالت فيها وزارة محمد الصالح مزالي إلى المدة التي تشكلت فيها وزارة التفاوض كان هناك موظفون يباشرون المهمات الوزارية إلى أن تشكلت الوزارة التفاوضية برئاسة: 25 الطاهر بن عمار (1) 8 ذي الحجة 1373 و7 أوت 1954 م. وهي أول وزارة تونسية صرفة تتركب من عشرة وزراء وهي التي تولت المفاوضة مع الحكومة الفرنسية في شان الاستقلال الداخلي. وكان التفاوض المؤدي إلى حل الأزمات مع رئيس الديوان السياسي الحبيب بورقيبة. ورجع الرئيس إلى تونس 10 شوال 1374 وفي غرة جوان 1955 م. وفي 29 المحرم 1375 و17 سبتمبر 1955 م تألفت وزارة التفاوض الثانية من: 26 الطاهر بن عمار (2) . وتركبت من أثني عشر وزيراً. وسعى الديوان السياسي في إتمام خطواته الحاسمة لنيل الاستقلال التام فاستؤنفت المفاوضات إلى أن انتهت بالاستقلال التام فغي التاريخ المتقدم، وبذلك أنفسح الجو أمام العمل، فلهذا تكونت الوزارة الاستقلالية. وقد تشكلت في 4 رمضان 1375 و14 أفريل 1956 م. وهي تتركب على الصفة الآتية: 27 الرئيس الحبيب بورقيبة. وزير أكبر رئيس الحكومة ووزير الدفاع والخارجية. والأستاذ الباهي الأدغم وكيل رئيس الحكومة. الوزارة التونسية في العهد الجمهوري ونظمت الوزارة التونسية في العهد الجمهوري بالقانون الصادر في 30 ذي الحجة سنة 1376 وفي 29 جويلية سنة 1957 م بإثر إعلان الجمهورية. واقتضى هذا التنظيم المعلن بإثر إعلان الجمهورية حذف أسماء الوزارات وعوضت بكتابات للدولة وأصبح المجلس تحت رئاسة فخامة رئيس الجمهورية. وفي 20 جمادى 2 سنة 1378 و31 ديسمبر 1958 م وقع تعديل في كتابات الدولة فأصبحت اثني عشرة كتابة دولة. وفي 7 نوفمير سنة 1969 م أرجع لقب الوزارة وكان على رأس هذه الوزارة. 28 السيد الباهي الأدغم الوزير الأول. ثم في يوم الأحد 16 رمضان 1390 و15 نوفميبر سنة 1970 تشكلت وزارة الاستقرار وكان تأليفها برئاسة: 29 السيد الهادي نويرة الوزير الأول ثم في 8 جمادى الثانية 1400 الموافق ل?23 أفريل 1980 شكل الوزارة: 30 السيد محمد مزالي الوزير الأول. وهذه الوزارة حققت لتونس أمنيتها الغالية في التقدم بالديمقراطية خطوة عملاقة، علاوة على ما تقدمت فيه من إنجازات تسير بالأمة التونسية إلى مصاف الأمم الراقية. وفي 1 ذي القعدة 1406، الموافق له 8 جويلية 1986 أقال رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة السيد محمد مزالي من مهامه كوزير أول وأمين عام للحزب وتم تعيين: 31 السيد رشيد صفر وزيراً أول. وأميناً عاماً للحزب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثم في 9 صفر سنة 1408، الموافق له 2 أكتوبر 1987 قرر رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة إعفاء السيد رشيد صفر من مهامه كوزير أول، وأمين عام للحزب وتعيين: 32 السيد زين العابدين بن علي وزيراً أول. وأميناً عاماً للحزب. ابتدأ عهد التفتح بتخلي الرئيس الحبيب بورقيبة عن مهامه بسبب أن حالته الصحية لم تعد تسمح له بمباشرة الوظائف المنطوقة بعهدته كما أفاد ذلك البلاغ الطبي. وبمقتضى الفصل (57) من دستور الجمهورية التونسية تولى فوراً منصب رئاسة الجمهورية الوزير الأول سيادة العابدين بن علي، وذلك في 15 ربيع الأول سنة 1408، الموافق له 7 نوفمبر 1987. وقد قرر سيادته تشكيل الحكومة الجديدة. 33 السيد الهادي البكوش وزيراً أول وفي 26 صفر 1410، الموفق له 27 سبتمبر 1989 تم تعيين من سيادة رئيس الجمهورية. 34 السيد حامد القروي وزيراً أول. ? الملحق (7) ? تاريخ تأسيس جاع الزيتونة بناء جامع الزيتونة وتسميته نس بالمؤلف في كلته بناء جامع الزيتونة إلى حاسن بن نعمان الذي تولى إمارة إفريقية من سنة (78) إلى سنة (83) ، لما دخل تونس سنة (79) وعقب على تأسيس حسان بأن عبيد الله بن الحباحاب أتم بناء جامع الزيتونى سنة (141) . وأخذ المؤلف أن إتمام البناء (141) مما رسم على أحد أقواس الجامع من لفظ (أعلم) الذي عدده بحساب الجمل (141) . وما أتى به المؤلف هنا من تاريخ الزيتونة اختلط عيه فيه الأمر فغن حسان بن النعمان لم يدخل إفريقيا سنة (79) بل دخل إفريقيا سنة (78) . ثم إن عبيد الله بن الحبحاب لم يبق بإفريقيا إلى سنة (141) وما أتى به لم يذكره أحد من المؤرخين فكلهم يذكر أنه بناه إما سنة (114) أو سنة (116) وهي سنة دخوله إلى إفريقيا ويدعو المقام إلى تحرير تاريخ تأسيس الزيتونة لن هذا الكتاب مبني على تاريخ أئمته وعلمائه فمن جزيل الفائدة أن نحرر متى كان تأسيسه وما يتبع ذلك. يتراءى للمؤرخ الباحث تساؤلات عدة منها: من أسسه أولاً؟ تاريخ ابتداء تأسيسه؟ لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ هل كان يسمى جامع الزيتونة منذ تأسيسه؟ 1 مؤسسه: جزم المؤلف أنه حسان بن النعمان وليس له في ذلك ما يستند إليه من شيء صحيح، فهذه كتب التاريخ التي هي الأمهات لتاريخ المغرب تذكر أن الباني هو عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا. ونجد هذا المستند التاريخي عند البكري في كتابه المسالك والممالك (- 487) ففيه: "ودور مدينة تونس أربعة وعشرون ألف ذراع، وفي سنة أربع عشرة ومائة بني عبيد الله بن الحبحاب الجامع، ودار الصناعة بمدينة تونس". ونحو هذا المستند التاريخي في البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع حين يذكر ولاية عبيد الله بن الحبحاب إفريقيا والمغرب كله: "وهو مولى بني سلول، وكان رئيساً نبيلاً، وأميراً جليلاً بارعاً في الفصاحة والخطابة، حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعها، فقدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (116) وهو الذي بني المسجد الجامع ودار الصناعة بتونس. وكان أول الأمر كاتباً ثم تناهت به الحال إلى ولاية مصر وإفريقيا والأندلس والمغرب كله. فاستخلف على مصر ابنه القاسم، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي، واستعمل على طنجة وما والاها من المغرب الأقصى ابنه إسماعيل، ثم عمر بن الله المرادي". (المغرب ج?1 ص51) . ومثل ما ورد عن ابن عذاري المراكشي، ورد عن ابن خلدون (-808) ونصه: "عبيد الله بن الحبحاب ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن وولي عبيد الله بن الحبحاب مولى بن سلول، وكان والياً على مصر فأمره أن يمضي إلى إفريقيا، واستحلف على مصر ابنه القاسم، وسار إلى إفريقيا فقدمها سنة أربع عشرة ومائة (114) كذا هنا وبنى جامع تونس، واتخذ لها دار صناعة لإنشاء المراكب البحرية". (العبر، وديوان المبتدأ والخبر) (ج?4 ص404) . ونسب ابن الشماع في تاريخه الأدلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية بناء الزيتونة إلى ابن الحبحاب: "وجامعها أي مدينة تونس، مليح الصنعة، حسن الوضع مطل على البحر بناه عبيد اله بن الحبحاب، هو ودار الصناعة (سنة أربع عشر ومائة) وأنفذ إليها البحر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وابن دينار في المؤنس (-1111) اعتمد كلام ابن الشماع وبنى عليه كلامه في الباب الأول الذي عقده في التعريف بتونس، فإنه علق على قول ابن الشماع: "وجامع تونس مليح الصنعة" إلخ.. (قلت) عبيد الله بن الحبحاب كان عاملاً لهشام بن عبد الملك بن مروان على مصر، وأرسله إلى إفريقيا سنة عشر ومائة، فلما وصل إلى القيروان أخرج المستنير من السجن وأرسله إلى تونس والياً عليها، ولعله لم يدخل تونس. وتقدمه البكري حيث قال ومدينة تونس دورها أربعة وعشرون ألف ذراع وذكر بناء عبيد الله بن الحبحاب. لكن صاحب المؤنس بعدما نقل الكثير من كلام المؤرخين المتحدثين عن تونس ذكر رأياً له وهو: وإذا ثبت ما قلته، وتقرر ما نقلته، فالذي صح عندي إنها قديمة من بناء الأوائل، والذي ذكر فتحها هو أقرب من غيره، وأن حسان بن النعمان هو الذي فتحها، وبني بها مسجداً، وعبيد الله بن الحبحاب زاد في ضخامته كما أن زيادة الله بن الأغلب زاد وضخمه وكملت في أيام بني حفص كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ذكر ابن أبي دينار هذه الخلاصة التي ضمنها رأيه في أن تونس قديمة وأن فاتحها هو حسان بن النعمان وأن جامع تونس المعروف بجامع الزيتونة بناه حسان وضخمه عبيد الله بن الحبحاب وهو الرأي الذي اعتمده صاحب مسامرات الظريف لكنه زاد على ما ذكر ابن أبي دينار شيئاً وهو أن عبيد اله بن الحبحاب زاد فيه سنة (141) كما رسم على أحد الأقواس وهو غلط تاريخي لا يغتفر. وذكر الوزير السراج في تاريخه الحلل السندسية في الأخبار التونسية في القسم الثالث من الجزء الأول: "وأن عبيد الله بن الحبحاب هو الذي أسس جامع تونس وبناه سنة (أربع عشرة ومائة) . ومما اتفق فيه أن مفرد (جامع) وتاريخه متفقان". وخلط المؤلف هنا خلطاً ولم يتحر في التاريخ في هذا الموضع الذي هو أساس تاريخه وهو جامع الزيتونة لأنه أراد أن يؤرخ لأمته وعلمائه البارزين من المفاتي والقضاة كما قدمنا. فلا بد أن نذكر ما وقع فيه من الخطأ: أولاً: أنه نسب بناءه لحسان معتمداً ذلك تاريخاً مع انه غير صحيح. وغنما هو رأي لابن أبي دينار صاحب المونس، وإما كافة المؤرخين فإنهم لا يذكرون غلا ما نقلناه عنهم. ثانياً: ذكره لقدوم عبيد الله بن الحبحاب والياً على تونس على عهد هشام بن عبد الملك بن مروان وأنه أتم بناء جامع الزيتونة سنة إحدى وأربعين مع أن هشام بن عبد الملك انتهت خلافته سنة (125) . ثالثاً: أن ابن الحبحاب لم يل إفريقيا سنة (141) بل وليها إما سنة (114) أو سنة (116) . رابعاً: أن التاريخ الذي ذكر وهو (أعلم) حسابه بالجمل (141) وليس هو إشارة إلى التأسيس إذ يبعد أن يكون مراداً به ذلك لن حساب الجمل الآخذ به متأخر. ومن القريب جداً أن يكون المسجد الذي أسسه حسان بن النعمان غير الذي أسسه ابن الحبحاب، ويؤيد هذا أن هناك مسجداً صغيراً بالنهج المعروف بنهج الخمسة الذي بجانب المدرسة السليمانية يتناقل الناس أنه أقدم من جامع الزيتونة وأمام باب صخرة عظيمة يحكي المعرون من المشايخ أن بعض العملة الذين كانوا بصدد بناء جامع الزيتونة يقسمون أجورهم عليها كالمنضدة، والله أعلم. وهذا المسجد به أسطوانة عظيمة عتيقة يقوم سقف المسجد عليها وعلى الجدران الأربعة. وكان لذلك المسجد منارة هدمت قبل الاحتلال بقليل لأنها ساخ بعض جدرانها بالأرض مما أدى إلى ميلانها فأدى ذلك إلى هدمها، وكان بابها يصعد إليه من تلك الصخرة التي أمام باب المسجد. وإنما اتخذ حسان مسجداً صغيراً لأنه لم تكن له رغبة في إقامة مدينة بقرب قرطاجنة لأن هذه الأخيرة كانت حصناً للذين يغيرون على إفريقيا فلم تكن له رغبة في عمارتها. 2 تاريخ ابتداء تأسيسه: المشتهر والمتعارف هو أن ابتداء تأسيسه كان في سنة (114) وهو ما اختاره صاحب الحلل السندسية حتى ذهب إلى أن تاريخه بحساب الجمل (جامع) . إذ الجيم ب?3 والألف ب?1 والميم ب?40 والعين ب?70 114 وهو ما جاء في المسالك والممالك للبكري. والبكري عمدة الكثير من المؤرخين التونسيين وهو ما ذكره ابن خلدون في كتابه العبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والتحقيق أن عبيد الله بن الحبحاب لم يدخل إلى إفريقيا سنة (114) بل دخلها سنة (116) كما جاء في فتوح إفريقيا والأندلس لابن عبد الحكم من أن هشام بن عبد الملك كتب إلى عامله على مصر بأن يسير إلى إفريقيا وكان مسيره في سنة ست عشرة ومائة، وابن عبد الحكم من رجال القرن الثالث الهجري، وهو في تاريخه يعتمد السند الذي يعتمده رجال الحديث، فكان ما يأتي به مدعماً. وسنده هنا عن رجلين هما يحيى بن بكير، والليث بن سعد. أما يحيى بن بكير فالصواب في اسمه أنه يحيى بن أبي بكير، وذكره ابن يونس في تاريخه بأنه: يحيى بن ابي بكير النخعي أبو زكرياء الكوفي، قدم مصر وحدث بها ومات بها في ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائتين (من تهذيب التهذيب ج?11 ص190) . وهو ليس من رجال الصحاح الستة لكن لم يكن في المجرحين فهو ممن يعتمد عليه في الرواية. وأما الليث بن سعد فهو الإمام المصري أبو الحارث. وعرف به ابن حبان في الثقاب بقوله: كان من سادات أهل زمانه فقهاً، وورعاً، وعلماً، وفضلاً، وسخاء وعدداه في الرجال الثقاب العلماء قريب من مالك الإمام الكبير وقد ولد سنة (94) وتوفي سنة (175) . وقد أطال ترجمته في تهذيب التهذيب في الجزء الثامن من (ص459) إلى (ص465) . وإذا نظرنا إلى ترجمته نراه معاصراً لعبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا ومؤسس جامع الزيتونة، فإذا ما حدثنا أنه سار إلى إفريقيا سنة (116) وهو الرجل الثبت علمنا علم اليقين أن سنة مسيره هي (116) وبالطبع أن يكون تأسيس الزيتونة تلك السنة ويؤكد صحة ذلك أن الليث بن سعد كان إمام مصر فهو أعلم بأحوالها من غيره. ولا يمكن أن يغلط في مسير والي مصر إلى إفريقيا إذ كان ذهابه إليها وهو في سن الشباب إذ أنه كان سنة ذهاب ابن الحبحاب ستاً وعشرين سنة مع أنه كان من احفظ أهل زمانه وأثبتهم، فالرواية عنه في هذه القضية تفيد القطع. وما ذكره ابن عبد الحكم اعتمده المؤرخ الثبت ابن عذاري المراكشي صاحب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، وهو أحفل الكتب المؤرخة للمغرب والأندلس من القرن الألو الهجري حين وقع الفتح للمغرب إلى نصف القرن السابع. اعتمده المذكور مبيناً أنه قدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (116) ونسب إليه كما ذكرنا بناء المسجد الجامع بتونس، وكذلك دار الصناعة والمسجد كما ذكره ابن عبد الحكم. وعلى هذا الغرار سار ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل فأتى بخبر مسيره إلى إفريقيا ضمن حوادث سنة (116) : وفيها (أي سنة 116) عزل هشام عبيد الله بن الحبحاب عن ولاية مصر واستعمله على إفريقيا فسار إليها، وقيل بل ولي عبيد الله بن الحبحاب سنة سبع عشرة وسترد أخباره هناك، وهذا أصح. (الكامل ج?4 ص219) . وابن الأثير هو أبو الحسن علي بن ابي المكارم محمد عز الدين الجزري المتوفى سنة (630) ألف كتابه خلاصة لكتب التواريخ التي في مقدمتها تاريخ الطبري، وكتابه الكامل هذا له امتياز خاص، وهو أنه جمع فيه بين تواريخ المشرق والمغرب كما أشار إلى ذلك: (.. والشرقي منهم قد أدخل بذكر أخبار الغرب، والغربي قد أهمل أحوال الشرق فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً احتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة مع ما فيها من الإخلال والإملال. فلما رأيت الأمر كذلك شرعت في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق، والغرب، وما بينهما ليكون تذكرة لي أراجعه خوف النسيان، وآتى فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان، متابعة يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا) . وقد انتهى ابن الأثير في تاريخه إلى حوادث سنة (628) . ووقف تاريخه عند ابتداء دخول سنة (629) . فهؤلاء العمد في التاريخ نواهم مطبقين على أن ابن الحبحاب كان دخوله إلى إفريقيا في سنة (116) وبذلك لا يمكن ابتداء تأسيس مسجد تونس الجامع الذي سمي بالزيتونة إلا في تلك السنة. 3 لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ اعتاد المؤرخون أن يذكروا الحوادث دون أن يتعمقوا في الأسباب إلا في القليل النادر كما هنا يقتصرون على فقرة قصيرة، وهي أن ابن الحبحاب سار إلى تونس بأمر هشام بن عبد الملك في سنة (116) وأسس مسجدها الجامع وبنى دار الصناعة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ولا تنقع النفس بذلك متطلبة لماذا اختار هذه البلدة على غيرها؟ وما الداعي له لتأسيس هذا المسجد الجامع مع أن مقامه بالقيروان؟ والجواب نجده فيما ذكره مؤرخ الفتح الإفريقي عبد الرحمن بن عبد الحكم (- 257) الذي هو أقدم من وصلت إلينا مؤلفاته دون بقية مؤرخي مصر الإسلامية، كذا الفتوح الإفريقية لاتصالها بتاريخ مصر. وننقل ما ذكره ابن عبد الحكم في مسير ابن الحبحاب، ثم نستخرج منه الجواب المطلوب. (كان قدوم عبيدة بن عبد الرحمن من إفريقيا سنة خمس عشرة ومائة. وفيها أمر ابن قطن على الأندلس، وكان ما خرج فيه العبيد والإماء من الجواري المتخيرة سبعمائة جارية، وغير ذلك من الخصيان، والخيل، والدواب، والذهب والفضة، والآنية. واستخلف على إفريقيا حين خرج عقبة بن قدامة التجيبي. فقدم على هشام [بن عبد الملك] بهدياه واستعفاه فأعفاه. وكتب (أي هشام بن عبد الملك) إلى عبد الله (ذكا) بن الحبحاب وهو عامله على مصر يأمره بالمسير إلى إفريقيا وولاه إياها وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة ست عشر ومائة. فقدم عبيد الله بن الحبحاب إفريقيا فأخرج المستنير من السجن وولاه تونس، واستعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السوس، واستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج، وعزل عبد الملك بن قطن، ويقال بل كان الوالي على الأندلس يومئذ عنبسة بن سحيم الكلبي فعزله ابن الحبحاب، وولي عقبة بن الحجاج) . يطالعنا كلام ابن عبد الحكم بأمرين هامين أولهما أن ابن الحبحاب لما حل بإفريقيا وزع وظائفها على ذويه من أبناء وأخوة وكأنه يرمي من وراء ذلك إلى أن تكون له خالصة دون غيره لأنه إذا غرس فيها امتنعت طاعتها على غيره. فقد استعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السوس. وستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر. وستعمل المستنير على تونس بعد أن أخرجه من السجن، والمستنير هذا الظاهر فيه انه أخو عبيد الله بن الحبحاب كما يفيده كلام ابن عبد الحكم حين حديثه على عبيدة بن عبد الرحمن القيسي الذي تولى إفريقيا قبل الحبحاب. وهذا ما ذكره في ذلك: حدثنا بن أبي بكير عن الليث قال: وولي عبيدة بن عبد الرحمن إفريقيا في المحرم سنة عشر ومائة (110) . فلما قدم عبيدة إفريقيا وجه المستنير بن الحبحاب غازياً إلى صقيلة فأصابتهم ريح فأغرقتهم ووقع المركب الذي كان فيه المستنير إلى ساحل أطرابلس. فكتب عبيدة بن عبد الرحمن إلى عامله علىىأطرابلس يزيد بن مسلم الكندي يأمره أن يشده وثاقاً ويبعث معه ثقة فبعث به في وثاق فلما قدم على عبيدة جلده جلداً وجيعاً، وطاف به القيروان على أتان ثم جعل يضربه في كل جمعة مرة حتى أبلغ إليه وذلك أن المستنير أقام بأرض الروم حتى نزل عليه الشتاء واشتدت أمواج البحر وعواصفه فلم يزل محبوساً عنده. (فتوح إفريقا والأندلس ص92) . أفاد ابن عبد الحكم أن المستنير بن الحبحاب، فلعله أخو عبيد الله بن الحبحاب. فالمستنير بن الحبحاب لما ولي ولاية تونس لا نرتاب في أنه اقترح على والي إفريقيا أن يبني بها مسجداً حين رأى مدينة تونس لا تقل عظمة عن القيروان لأنها المدينة الثانية بعد الولاية الإفريقية والمغربية والأندلسية وهي القيروان وكونها المدينة الثانية في العصور الأولى الإسلامية يشير إليه ما ذكره ابن الشماع في الأدلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية. وكان أبو جعفر المنصور العباسي إذا قدم عليه رسول صاحب القيروان يقول له: ما فعلت إحدى القيروان يعني مدينة تونس، تعظيماً لها. وخص أبو جعفر المنصور تونس كونها كانت كثيرة الشغب على الولاة، وهو ما أشار إليه البكري في كتابه المسالك والممالك، فبعد أن مدح أهل تونس قال: ومع هذا الفضل الذي فيها هي مخصوصة بالقيام على الأمراء والخلاف للولاة خالفت نحو عشرين مرة (المسالك والممالك ص40) . فهذه الأهمية لهذه البلاد بعثت عبيد الله بن الحبحاب أن ينشئ مسجداً جامعاً بها، فهو المسجد الثاني بعد مسجد عقبة بالقيروان وهو إن كان من حيث المساحة أقل من مسجد عقبة إلا انه كما قال ابن الشماع: وجامع تونس مليح الصنعة، حسن الوضع، مطل على البحر. (الأدلة البينة النورانية ص17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وثاني الأمرين اتخاذها عاصمة إذ يتجمع من توجيه العناية إلى تونس سواء في اتخاذ مسجدها الجامع أو بناء قصبتها، أو بناء دار الصناعة بها إلى غير سواء من العنايات البالغة بهذه المدينة مع أنها لم تكن عاصمة أن الرغبة كانت أكيدة في اتخاذ تونس عاصمة للبلاد الإفريقية لأنها تجمع بين الحصانة وبين كونها مرسى من اعظم المراسي مع ما اختصت به من كونها كثيرة الخيرات مدرارة البركات التي لا توجد في غيرها كما حدثنا عن ذلك البكري إذ يصفها بأنها أشرف مدائن إفريقيا وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة (المسالك والممالك ص41) . فرغبة ابن الحبحاب في اتخاذها عاصمة يبديها هذا النص عن ابن عبد الحكم. واستمرت هذه الرغبة في رجال الدولة الأغلبية إذ انتقل إلى سكانها واتخاذها عاصمة لبلاد الإفريقية إبراهيم بن الأغلب في سنة (281) . وبقي بها إلى أن انتقل إلى رقادة سنة (283) ثم عاد إلى سكناها وإليها انتقل ابنه عبد الله بن إبراهيم وقتل بها. وبها كانت بيعة ابنه وزيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم ولم يمكث بها. وليست رغبة بني الأغلب مقصورة فيمن ذكر منهم بل كلهم قد اتخذوا بها القصور والبساتين ينتقلون إليها وقد جعلوها منتزهاً لهم كما أفاده البكري حين حديثه على تونس وابن أبي دينار في المونس. وإنما اتخذها الأغالبة عاصمة ثانية أو العاصمة الأولى في فترات اقتداء بابن الحبحاب الذي كانت رغبته كذلك بدليل تأسيس مسجدها الجامع فإنه لا يبنى مثله في بلد صغير وغنما في بلد له اتساع لأن إحداث مثله لا يكون إلا في العواصم الكبرى وإنما اتخذها الأغالبة كذلك لما رأوا فيها من جديرة بأن تكون عاصمة، إنما حببهم في القيروان لم يجرؤوا على مخالفة عقبة بن نافع ولعل ابن الحبحاب كان يرمي إلى اتخاذها عاصمة لأنها تجمع بين الحصانة في البر، والمكانة البحرية بمرساها الفريد في الخليج التونسي. فنظرة الأمراء إلى إفريقية مختلفة فعقبة بن نافع يرى أن الاستقرار بإفريقيا إنما يكون في مجمع الجند في مكان يبعد عن البحر ولهذا اتخذ القيروان عاصمة لهذا الصقع الإفريقي بينما أخذت فمرة المراء تختلف عن ذلك من حسان بن نعمان إلى ابن الحبحاب إلى الأغالبة في ترددهم بين سكانها وسكنى القيروان. وغير الفواطم الاتجاه نحو تونس بإنشاء المهدية التي كانت على البحر فهم قد حققوا أن العاصمة تكون بحرية في عاصمتهم الجديدة. ورجعت الرغبة في تونس عند افتكاك الموحدين لشواطئ إفريقيا من يد النورمان لأسباب بسطناها في بحث لنا في بيان الأسباب الداعية للموحدين لاتخاذ تونس عاصمة معرضين عن المهدية والقيروان. ابن الحبحاب والفكرة الاتساعية حل ابن الحبحاب بإفريقية فانتشرت رجاله من قرابته في كل مكان تحت نظره حتى مصر والأندلس فضلاً عن إفريقيا والمغرب، وأسند هذه الولايات إلى أبنائه وصنائعه وانضاف إلى ذلك انه ركز اهتمامه على تونس في إحداثاته بها. ومن تلك الإحداثات دار الصناعة لإنشاء أسطول تونسي غزا به في البحر بإمرة حبيب بن أبي عبدة. واتجهت سياسته إلى سيادة العنصر العربي سيادة مطلقة حتى اعتبر البربر مسلمهم وكافرهم سواء وأنهم فيء مع أن الولاة قبله كانوا يخمسون من لم يجب إلى الإسلام وأما من أجاب إليه فهو بالإسلام قد أندمج في العائلة الإسلامية. ومسلكه السياسي نحو البربر أوغر الصدور عليه وأدى إلى ثورة كبرى لم تعهد من قبل وكان اتجاهه هذا يقصد من ورائه إيجاد ملك عربي ممتد الأطراف يقوده هو وأهل بيته لكن إهانة البربر أدت إلى عزله حيث لم يقدر على إخماد تلك الثورة. ونتائج تلك السياسة جعلت المسلمين في المغرب منقسمين إلى عنصرين كلما خمدت فتنتهما دهراً لسبب السياسة الحازمة عادت إلى الظهور من جديد مما تسبب في فتن عدة جرت إلى كوارث ومحن قعدت بالإسلام وأوقفت تقدمه، ثم جرت إلى ضياع الأندلس مع أشياء أخرى. 4 هل كان يسمى مسجد تونس بجامع الزيتونة: نجد قصة طريفة في سبب تسمية هذا المسجد بجامع الزيتونة ذكرها الوزير السراج وهي: وأخبرني بعض إخواني عن سيدي سعيد الشريف رحمة الله تعالى (-1113) أنه حدثهم أن نوحاً عليه السلام لما كان في السفينة على الطوفان وقفت به يوماً وسط البحر فأوحى الله إليه أن تلك بقعة يقال لها: جامع الزيتونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فلما دخلها الصحابة وحدوا الرهبان في صومعتها لأن صومعة الجامع قديمة كانت للرهبان.. وكان قبلة الصومعة محل محصن بالحجارة والشوك فسأل الصحابة أولئك الرهبان عن سبب ذلك، فقالوا لهم إنا كل ليلة من ذلك المحل نوراً ساطعاً لعنان السماء فرضعنا ذلك صوناً له من الكلاب أن يقذروا في ذلك المحل واتفق أن كان ذلك المحل هو المحراب، (الحلل ج?1 ص558 ط2) . هذا ما جاء في الحلل السندسية في الأخبار التونسية وهو لا يتصل بشيء من الحقيقة التاريخية حيث جعل تسمية هذا المسجد الجامع منذ الطوفان مع أن تسميته بجامع اليزتونة غير متعارفة في القرون الولى بل المعروف أنه مسجد تونس، ثم إن تلك القصة لا تتصل بالحقيقة بل هي من نسج الخيال. ثم إنها كلها عليها أثواب الوضع ونشك في نقلها عن الشيخ سعيد الشريف فإنه كان محدثاً راوية والرواة من أهل الحديث لا ينقلون شيئاً إلا مسنداً وسعيد الشريف هذا توفي سنة (1113) كما في إتحاف أهل الزمان لا في سنة (1112) كما في شجرة النور الذكية. وإذا تتبعنا كتب التاريخ ثبت لدينا أن هذا المسجد لا يسمى بجامع الزيتونة وإنما يعرف (بمسجد جامع تونس) . ذكر أبو العرب في الجزء السابع الذي خصه بذكر علماء تونس في ترجمة زيد بن بشر فقد روى حين وصفه بأنه أكرم الناس ما يؤيد كرامة نفسه: لقد حدثني سليمان بن سالم وغيره أنه انصرف ليلة من جامع تونس فانقطع شسع نعله فوثب إليه رجل حائك من حانوته أعطاه شسعاً فأصلح نعله وكان رجل معه يحمل قنديلاً فقال لحامل القنديل: قرب القنديل إلي فقربه منه فنظر إلى وجه الحائك ليعرفه فيكافئه، فكان كلما مر إلى المسجد ومعه الجماعة مال إلى الحائك، فيسلم عليه، ويسأله عن حاله شكراً للشسع الذي أعطاه. (طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب التميمي ص256 ط باريس وص226 ط تونس) . وما جاء في طبقات أبي العرب جاء مثله عن محمد بن حارث في ضمن الطبقات التي لأبي العرب عند ترجمة أبي العرب ليحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الذي دخل تونس. قال محمد بن حارث كنت في جامع مدينة تونس مع بعض العلماء من أهلها فقال لي: "هذا الباب وأشار إلى باب مغلق لا يفتح هو باب يحيى بن سعيد وكان يدخل منه إذا كان بها" (طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب ج?1 ص26) . وإذا التفتنا إلى البكري أبي عبيد عبد الله الأندلس لا يذكر إلا أن ابن الحبحاب بنى الجامع بتونس قارناً لبنائه ببناء دار الصناعة. ولما وصف بناءه قال: وجامع تونس رفيع البناء مطل على البحر ينظر الجالس فيه إلى جميع جواريه (المسالك ص37 وص40) . وكذلك لم يسمه ابن عذاري المراكشي في كتابه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب إذ يقول: وهو أي عبيد الله بن الحبحاب الذي بنى المسجد الجامع، ودار الصناعة بتونس (ج?1 ص51) . وابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع (-695) وكان ينقل عن الرقيق الذي كان حياً سنة (388) . والرقيق من أهل إفريقية قيرواني عليم بأماكن تونس وتواريخها فلو كان الجامع يسمى بجامع الزيتونة لذكر أنه جامع الزيتونة. وإذا التفتنا إلى كتب المناقب القديمة التأليف لقدماء الصلحاء بتونس نجد كتاب أبي الطاهر الفارسي حين ذكر مسجد تونس لا يذكره إلا باسم جامع تونس دون جامع الزيتونة، فإنه حين تحدث على ما أحدثه الشيخ أبو محمد محرز بن خلف الصديقي المتوفى سنة (-413) يقول: قال أبو الطاهر: وأعظم شيء أذكره من كراماته الدالة على فضله وولايته أن القرآن كل يوم يقرأ على قبره، ويختم كل جمعة منذ توفي إلى الآن ثماني عشرة سنة، لا ينقطع يوماً لعلة من العلل، لا في صيف ولا في شتاء ولا في شدة ولا في رخاء ولا غير ذلك، وهو دائم إلى الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن استنباطه رضي الله عنه بمقصورة الجامع الأعظم بتونس حزب السبع لا ينقطع في كل يوم إلى آخر الدهر. وكان تأليف أبي الطاهر الفارسي في سنة ثلاثين وأربعمائة بعد وفاة الشيخ محرز بن خلف رحمه الله تعالى بسبعة عشر عاماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وهذه المناقب ليست كالكثير من كتب المناقب التي تكون لغتها سقيمة ثم تكتب في جوانب لا تفيد الكثير من حياة صاحبها بل هي لغة سامية صحيحة التركيب والتعبير مع كونها معرفة بالمترجم له وهو الشيخ محرز بن خلف وذاكرة من مناقبه ما يدل على علمه وأخلاقه وإخلاصه وتأثيره على مخاطبيه، وهي خالية من المبالغات التي يعتني بها أصحاب كتب المناقب فلا تجد فيها شيئاً من ذلك. ? تسمية المساجد لم يسم مسجد تونس باسم جامع الزيتونة لأن المتعارف في تسمية المساجد أن تكون إما باسم البلد كما يقال مسجد الكوفة أو مسجد البصرة أو باسم مؤسسه كمسجد عقبة بالقيروان، وغنما لما تعددت المساجد في البلد الواحد اضطروا إلى تسميتها باسم خاص بسبب اتساع العمران وانتشار السكان لأجل التفرقة بين المساجد. وهو القريب في مسجد تونس فإنه لما كان منفرداً أطلقوا عليه المسجد الجامع بتونس فحين أحدث مسجد القصبة الذي تم بناؤه سنة (633) وكان يعرف بمسجد قصبة تونس أو مسجد الموحدين سمي حينذاك بجامع الزيتونة. التسمية ب?"جامع الزيتونة": ولم يشتهر جامع الزيتونة بهذا الاسم في القرون الولى وقصارى ما وقفنا عليه انه اشتهر بأنه جامع الزيتونة في أوائل العصر الحفصي وهو القرن السابع وفي طالعة ما وقفنا عليه (صلة السمط وصلة المرط) لابن الشباط التوزري فإنه يذكره باسم جامع الزيتونة ويعلل التسمية بما ننقله: وسمعت من يقول: إن المسلمين وجدوا بها أي تونس زيتونة، وأرى أنها التي يضاف إليها الجامع، فيقال: (جامع الزيتونة) . فلما رأوا تلك الزيتونة قالوا: أو قال بعضهم لبعض: إن هذه الزيتونة تونس، فسميت المدينة بذلك (صلة السمط ج?3 الورقة 112 وجهاً) . وجاءت تسمية جامع تونس بجامع الزيتونة في رحلة العبدري وكان ذلك سنة (688) حين تكلم على الحنايا المجلوب عليها الماء إلى تونس. وأما الساقية المجلوبة من ناحية زغوان فقد استأثر بها قصر السلطان وجنانه إلا رشحاً يسيراً سرب إلى ساقية جامع الزيتونة يرتشف منها في أنابيب من رصاص، ويستقي منها الغرباء ومن ليس في داره ماء ويكثر عليها ازدحام (رحلة العبدري ص40) . ومن هذا التاريخ وهو القرن السابع إلى عصرنا الحاضر يذكر المسجد الجامع بتونس باسم جامع الزيتونة فلا تكاد تقف على تاريخ لتونس إلا تجده ذكوراً بذلك. ومن تلك التواريخ تاريخ ابن القنفذ القسنطيني في كتابه الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية المتوفى سنة (809) على التحقيق، في مواضع من كتابه منها ما جاء حين حديثه على السقاية المستنصرية. وفي هذه السنة سنة (648) بنيت السقاية بشرقي جامع الزيتونة (ص117) . وذكره باسم جامع الزيتونة عندما تحدث على وفاة أحد أئمته: وفي شهر ربيع الأول الشريف المبارك من عام أحد وسبعمائة (701) توفي الشيخ الفقيه الخطيب الصالح أبو مروان عبد الملك بن الغرغار خطيب جامع الزيتونة (الفارسية ص153) . واستمر على تسمية المسجد الجامع بتونس بجامع الزيتونة غير واحد منهم ابن الشماع أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الهنتاتي وكان حياً سنة (861) . فقد ذكر السقاية التي أحدثها المستنصر بالله الحفصي وبين أنها بشرقي جامع الزيتونة. واستمرت التسمية على انه جامع الزيتونة فلا يعرف بغير ذلك سواء في التواريخ أو في غيرها. والقريب في وجه هذه التسمية أنه ربما يكون راجعاً إلى أن البلاد التونسية اشتهرت بزياتينها فتبرك الناس بتسمية مسجدهم بمسجد الزيتونة. أو أنه عرف بجامع اليزتونة في القرن السابع بدون أن يعرف وجه للتسمية يستند لشيء ثابت معروف ولذلك التمس ابن الشباط في وجه التسمية ما تقدم. @القسم الثاني في التعريف بالمفاتي الحنفية أعلم أن مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه كان أظهر المذاهب بإفريقية إلى أواسط المائة الخامسة فتناقص واستمر على تناقص رجال الدين الحنفي الزكي إلى دخول الدولة التركية في سنة 981 إحدى وثمانين وتسعمائة وإلى العهد لم يكن بالديار التونسية مفت حنفي. 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 إلى أن قدم من دار الخلافة (رمضان أفندي) بخطة القضاء على عهد يوسف داي في مبادئ العشرة الثالثة بعد الألف ولما استكمل مدة القضاء المعينة ورام الرجوع أمسكه يوسف داي حيث كان له بعض إلمام بفقه أبي حنيفة وأولاه خطة الإفتاء على مذهب أبي حنيفة فهو أول من تقلد هاته في حاضرة تونس. ثم لما بنى يوسف داي المذكور جامعه الذي برأس سوق الترك وأتم بناءه في شهر رمضان المعظم سنة 1021 إحدى وعشرين وألف قدم رمضان أفندي المذكور خطيبا به وقدم أحمد أفندي إماما لإقامة الخميس، ولما أتم يوسف داي بناء المدرسة المجاورة لجامعه قدم رمضان أفندي لمشختها فهو أيضاً أول خطيب بالجامع اليوسفي وأول شيخ بالمدرسة اليوسفية فقرأ عليه الشيخ أحمد الشريف الحنفي أحد أبناء الترك المولودين بتونس نصف الكتاب المذكور، ولما رأى رمضان أفندي حسن ذكاء تلميذه وحسن فهمه ألزمه أن يتممه له وجلس بين يدي تلميذه إلى أن أتمه. وكان في ذلك العهد الشيخ محمد بن سليمان ممن يتعاطى حل المسائل على مذهب أبي حنيفة وعنه أخذ الشيخ أحمد الشريف الحنفي. 2 ولما توفي رمضان أفندي قدم يوسف داي الشيخ أحمد الشريف الحنفي للفتيا والإمامة والمشيخة عوضه بعد الأربعين والألف وأقرأ الدرر بالمدرسة. وقد ذكر شيخ الإسلام البيرمي الثاني في شرح نظمه لأسماء المفتين من الحنيفة ما استدل به على ضعف بضاعة هذا المفتي في فقه مذهبه. ورب البيت أدرى بما فيه. 3 وقد استمر على خططه إلى دولة أحمد خوجة بعد الخمسين والألف فوفد على الحاضرة الشيخ "أحمد الشريف الأندلسي" الحنفي من بلاد الترك شارح منية المصلي. ولسعة فقه قدمه أحمد خوجة لمشيخة المدرسة الشماعية لما أعاد بناءها ليقرئ بها الفقه الحنفي فهو أول من وليها من الحنفية ثم تقدم لخطة الفتيا والإمامة والمشيخة بعد عزل من قبله، وبث الفقه الحنفي في صدور كثير من الرجال غير انه امتحن بحسدة نسبوا إليه الكفر في نازلة أفتى بها بالمعتمد في مذهبه وهو قول محمد، فعارضوه بمقابله وهو قول الإمام وأبي يوسف وزعموا أن ذلك قول الإمام أبي حنيفة وجميع أصحابه فقال الشيخ أما أنه قول أبي حنيفة فصحيح وأما إنه قول جميع أصحابه فباطل فقالوا إنه حكم ببطلان قول الإمام واتفقوا على ردة من تلفظ بذلك جهلاً وحسداً من عند أنفسهم وقد حكى النازلة في تأليف له في صفة الإيمان ذكر في آخره أنه فرغ من تأليفه ضحى يوم الجمعة الثالث والعشرين من شوال سنة 1047 سبع وأربعين وألف. وبسبب الواقعة المذكورة تخلى عن جميع وظائفه ولم يبق بيده غير مشيخة المدرسة اليوسفية إلى أن توفي أوائل ربيع الأول سنة 1061 إحدى وستين وألف. 4 وتقدم عوضه للفتيا الشيخ محمد بن مصطفى الأزهري ابن زروق أحد أبناء الترك الوافد على تونس من طرابلس بعد أن قرأ بالجامع الأزهر على فحول منهم الشيخ إبراهيم اللقاني المالكي وبلغ إلى درجة التحصيل وكان قدومه على عهد حمودة باشا المرادي فأكرم نزله حتى أنه ليقدم له نعله وقدمه لخطة الإفتاء بعد تخلي من قبله وخطبة الجامع اليوسفي وتوفي في التاسع عشر من صفر الخير سنة 1067 سبع وستين وألف ودفن بزاوية سيدي أحمد بن عروس وأحصيت تركته فكانت مائة ألف ريال تونسياً. 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وولي عوضه الفتيا الشيخ "مصطفى بن عبد الكريم" البنزرتي قدم والده الشيخ عبد الكريم من بنزرت وقرأ بتونس وأقرأ وولي خطبة جامع القصبة ودفن بالسلسلة من تونس، وتزايد ابنه مصطفى سنة 1028 ثمان وعشرين وألف وقرأ العلم وتفقه على الشيخ أحمد الشريف وأقرأ كتباً مهمة وتولى عوض شيخه المذكور إمامة الجامع اليوسفي وكان لا يفتي إلا كتابة وربما أخر المسألة سنة لتحريه وتثبته. ثم في سنة 1075خمس وسبعين وألف عزل من جميع ذلك وخرج لحج بيت الله الحرام ولما عاد ولي خطبة جامع القصبة، ثم لما توفي الشيخ محمد بن شعبان خامس ربيع الأول سنة 1097 سبع وتسعين وألف صار إماماً وخطيباً ومدرساً بالجامع الباشي. فأقام على ذلك إلى أن كان من جور طاطار داي وما أضجر المسلمين من تهافته على قتل النفس واتفق أن قدم من دار الخلافة منجي باشا فاجتمع الشيخ به ليلاً وذكر له فظائع طاطار، وبعد سفره لم يكن من طاطار إلا أن خنقه فقتل وألقاه في بئر وبعد أن أخرج منها وجد على حالته ودفن جوار الزلاج وقد قتل قاتله بعده بنحو ثلاثة اشهر والله لا يضيع عمل العاملين، وكان قتله سنة 1106 ست ومائة وألف. 6 وأم الذي تقدم عوضه الفتيا فهو الشيخ (يوسف درغوث) ولازمها إلا أن قتل عليه رحمه الله فخلفه ولده الذي أدرك الدولة الحسينية فكان ترتيب المفتين من ذلك العهد على ما يأتي: 7 الشيخ عبد الكبير درغوث هو الشيخ عبد الكريم بن يوسف بن درغوث شاوش الوافد على الحاضرة من بلد الترك. ونشأ والده الشيخ يوسف في طلب العلم وكان من علماء الميقات وأخذ الفقه عن الشيخ محمد بن شعبان إمام الجامع اليوسفي وتقدم للنيابة عن القاضي الحنفي حيث إن المولى من قبل الدولة العثمانية قارة خوجة انتهت مدته ولم يقدم غيره فيباشر النيابة إلى أن قدم الشيخ يوسف القفال. كما باشر النيابة عن الشيخ أبي المواهب النفاتي في خطة القضاء أيضاً سنة 1071 ثم قدمه الداي قارة كوز إلى خطة الفتوى وقد وقفت على مضمون أمر ولايته من محمد باشا مؤرخ بأواخر المحرم سنة 1076 ست وسبعين وألف. ومثله أمر الآغا وجماعة الديوان. كما وقفت على مضمون أمر ولايته إماماً وخطيباً بجامع يوسف داي مؤرخ بغزة صفر سنة ست وسبعين وألف وفيهما التنصيص على أن ولايته عوض الشيخ مصطفى بن عبد الكريم. وكان بمعيته في فتوى المالكية الشيخ أبو الفضل المسراتي، ولما توفي ولي بعده الشيخ محمد فتاتة ولم يزل الشيخان درغوث وفتاتة على وظيفتهما (وقد وقفت على مضمون أمر من حسن كاهية، وعلى طبقه أمر الآغا وجماعة الديوان مؤرخين بأوائل ربيع الثاني سنة 1088 ثمان وثمانين وألف في تقرير الشيخ يوسف بن درغوث شاوش إماماً وخطيباً بجامع يوسف داي، مذكور فيه "أبطلنا حكم الأمر الذي صدر منا للشيخ مصطفى بن عبد الكريم ورفعنا يده") . ولما ثارت نار الفتنة بين الأخوين محمد وعلي ابني مراد بن حمودة باشا سنة 1088 ثمان وثمانين وألف، في خبر طويل ليس هذا بمحل ذكره وجالت يد محمد في المنتمين إلى أخيه فاعتقل الشيخان المذكورين بمحلته التي بالجبل الأخضر، أما المفتي المالكي فخرج مستتراً بظلام الليل وتيسر له أن وصل إلى دار الشيخ سعيد الشريف فاختفى فيها وبقي المفتي الحنفي إلى الصباح فأمر محمد باي بقتلهما فقتل المفتي الحنفي خنقاً وأمر بإخراجه ورمي جثته بالرصاص وأعاده إلى البئر وأغلق جامعه ومنع الصلاة فيه، وبقي المفتي المالكي مستتراً إلى أن أمنه محمد باي وأعاده إلى خطته وندم على ما فات منه في صاحبه وعند ذلك أمر بإخراجه من البئر فغسل وكفن وصلي عليه ودفن بالزلاج قرب سيدي أبي مقطع وكان ذلك أواخر حجة عام 1088 ثمانية وثمانين وألف، وأخبرني حفيده أنه قد سقط على قبره سقف تربته بالزلاج فلما رفعوا التراب وجدوا قبر الشيخ قد فتح وإذا به كيوم وضع ولم يبل منه غير كفنه وكان ذلك بعد أكثر من مائتي سنة رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وبعد دفن الشيخ بأيام أرسل محمد باي إلى والده صاحب الترجمة بتوليه وظائف والده فولي خطة الفتيا وإمامة الجامع اليوسفي بعد الامتناع الكلي لنفوره بما وقع بوالده وتعلل بصغره وقصوره وكانت ولايته خامس صفر الخير سنة 1089 تسع وثمانين وألف، وعند ذلك صاحب المفتي المالكي الشيخ محمد فتاتة وأعانه على الفتيا فكان يرجع إليه في جميع الفتاوي وبسبب ذلك حصلت له مشاركة في المذهب المالكي مع أنه كان قرأ على والده وعلى غيره وأخذ الفقه عن الشيخ مصطفى بن عبد الكريم والشيخ محمد بن شعبان. وقد ذكر شيخ الإسلام البيرمي في شرح نظم المفتين الاستدلال على قصوره غير ما دلت عليه تحلية معاصره المفسر الشيخ محمد زيتونة في ثنائه على تقريظ لسمط اللآل ولذلك تعين علي أن نذكر ذلك التقريظ والثناء عليه إذ يمكن للمطالع أن يهتدي بذلك لتحلية صاحبه الترجمة وذلك أن كتاب سمط اللآل الذي ألفه مدرس جامع محمد باي المرادي العالم الصالح الشيخ محمد قويسم في التعريف برجال الشفا وهو كتاب غريب في بابه يحتوي على عشرة أجزاء ضخمة فيه من شوارد المسائل والتحريرات واللطائف والتراجم والأخبار ما يسلي الغريب، ويفيد العالم اللبيب، ولذلك قرظه كثير من علماء ذلك العصر ومنهم صاحب الترجمة كتب عليه ما نصه: نحدمك اللهم يا من أنطق الألسن بنفائس السحر الحلال، والأقاويل ببدائع يواقيت المقال، فأصبح روض المحاسن بوابلها الهتان في ميادين البها زاهرا، ودجى المعارف لفتوحات أنوارها ناضرا. ونصلي ونسلم على سيدنا محمد نقطة دائرة الوجود، وشفيع العصاة في اليوم الموعود، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد فقد نزهت طرفي في مساحة من رياض هذا التأليف البديع، وأجريت طرفي في ميدان ما أبداه المؤلف من حين هذا الصنيع، فألفيته فائزاً بالتقدم في حلبة التأليف، حائزاً قصب السبق باشتماله على الترصيع والترصيف، مشحوناً باللطائف تمتد إليها أعناق ذوي الهمم من كل جانب، وترى تواليها أحداق أولي المشارق والمغارب، فالحق أحق أن يتبع أو يقال، لم ينسج في زماننا على هذا المنوال، فلله در مؤلفه حيث جمع فأوعى، وأتى بما تعجز عنه القوى فجاء الغاية القصوى، على جل العلوم قد احتوى، فهو علامة زمانه، ولوذعي أوانه، الجهبذ الفريد، والمحقق المفيد، الشيخ الفاضل والنحرير الكامل أبو عبد الله الشيخ محمد قويسم أدام الله النفع بعلومه، وسقى رياض المعارف من طيب فهومه. إنه على ذلك قدير. وبالإجابة جدير"أ. هـ. ولما اطلع على هذا التقريظ خاتمة المحققين وعمدة الراسخين الشيخ محمد زيتونة كتب في الثناء عليه ما نصه: هذه بنات أفكار، وعرائس أبكار، ونفائس سجع برزت من وراء الستار، جالسة على منابر العز متنافسة، سائرة بين أغصان الرياض متمايسة، مرتضعة من ثدي الأدب رحيق الزلال، منبهة على عظيم مقدار سمط اللآل. سالكة منه مسلك الإجازة، فيما زبره التأليف وأجازه: [الخفيف] نمّقتها يدُ المحاسن فضلاً ... من همام موضّحِ المشكلاتِ صادعٍ بالدليل في كل خطب ... ناصر الحق قدوة الأثباتِ شيخ الإسلام جامعٍ لعلومٍ ... واسع الصدر فاتح المعضلاتِ كاشف الكرب راحمٍ لفقير ... رافع القدر دافع المذهلاتِ من أتاه يروم فك عقال ... من مهم لبّاه بالإثباتِ شكر الله سعيه وحباه ... حين يلقاه روضة الجناتِ عالم أرجاء البسيطة التونسية، ومفتي الديار الإفريقية، المنفرد بين أهل عصره في العلوم العقلية والفقهية، بالرئاستين المالكية والحنفية، سيدنا الهمام، ومولانا العلام، الإمام المتصدي لأجوبة النوازل تصدي الأسد الليوث، أبي عبد الله محمد المشتهر بالكبير، في طاعة مولانا الكبير، ونصرة شرع السراج المنير، ابن العلم الأكبر، ورئيس الفتيا الأشهر، محرر الدلائل، ومقرب المسائل، وموضح المشكلات لكل سائل، المرحوم بكرم الله سيدي يوسف درغوث، رحم الله السلف، وأدام ذكرهم بالخلف"أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ولما ولي مراد باي في شهر رمضان سنة 1110عشر ومائة وألف عزله من الفتيا وخطبة الجامع اليوسفي لسابقية حكمه عليه بالسجن في خبر نقله شيخ الإسلام البيرمي في شرح نظم المفتين وأولى مكانه فيها الشيخ علي الصوفي وبعد مدة اعتذر الشيخ علي الصوفي بالعجز وطلب معونة الشيخ عبد الكبير درغوث فأعيد إلى خطته وتقدم على الشيخ علي الصوفي لسابقيته فصار الشيخ علي الصوفي مفتياً ثانياً وذلك أول عهد تعدد المفتين من الحنفية. ولم يزل الشيخ عبد الكبير، محبباً إلى الصغير والكبير، بما عنده من محاسن الأخلاق وحسن المعاملة ولطف المحاضرة زيادة على علمه إلى أن توفي في المحرم سنة (1133) ثلاث وثلاثين ومائة وألف، عليه رحمة الله ورثاه الشيخ محمد الوزير السراج بقوله: [مجزوء الرمل] ذا ضريح ضم كنزاً ... لعلوم الثقلينِ كان في الدينا كبيراً ... كاسمه في الخافقينِ لقّبوه درّ غوثٍ ... صدقوا من غير مينَ مدّ من نهر الفتاوي ... للورى نضّاختينِ حلّ في جنة عدن ... ونعيم خالدينِ فاسأل المولى لديه ... بخضوع الرّاحتين عللاً من نهر عفوٍ ... في جني من جنتين إنَّ من قد أرَّخوه ... (كان يدري المذهبينِ) 8 الشيخ علي الصوفي هو الشيخ أبو الحسن علي الصوفي ولد سنة 1058 ثمان وخمسين وألف، وتصدى للأسخذ فقرأ على فحول وهم الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا والشيخ مصطفى بن عبد الكريم والشيخ محمد فتاتة والشيخ يوسف درغوث الأكبر والشيخ محمد قويسم والشيخ إبراهيم الأندلسي والشيخ عاشور القسنطيني والشيخ محمد الغماد وقرأ مختصر الشيخ خليل على الشيخ سعيد الشريف وتضلع بالمعقول والمنقول وتقدم على رجال عصره في العلم والعمل والزهد حتى لقب بالصوفي وكانت دروسه مملوءة رجالاً، يواظب عليها ويقرأ عشية الجمعة تنبيه الأنام بزاوية الشيخ سيدي عياد الزيات وتقدم لمشيخة المدرسة الشماعية وخطبة الجامع الباشي وهو أول مدرس حنفي وإمام بجامع محمد باي الذي تم بناؤه عام 1104 أربعة ومائة وألف، ثم قدمه مراد باي الثاني إلى خطه الفتيا وخطبة الجامع اليوسفي سنة 1110 عشر عند عزل الشيخ يوسف درغوث ثم صار مفتياً ثانياً بإرجاعه. ولما توفي الشيخ يوسف تقدم لمشيخة الإسلام سنة 1133 ثلاث وثلاثين ومائة وألف وبلغ من العمر إلى خمسين وثمانين سنة وتوفي سنة 1143 ثلاث وأربعين ومائة وألف، عليه رحمة الله، ودفن بالزلاج بمقربة من قبر الإمام ابن عبد السلام وأرخ وفاته أحد الشعراء بقوله: [الكامل] رمسٌ تخطُّ به يد التصريف ... توقيعَ تحذير بغير حروفِ وضجيعه تبدي مآثره لنا ... دررَ العلا من بحره المكفوف نفدت فتاويه وما نفدت فتوَّ ... ته التي بعلا المعارف توفي إذ حاز في تاريخه كل الكما ... (ل عليٌّ المفتي الإمام الصوفي) 9 الشيخ يوسف درغوث هو الشيخ أبو المحاسن يوسف بن عبد الكبير بن يوسف بن درغوث شاوش ثالث آبائه الكرام في مشيخة الإسلام، ولد سنة تسع وثمانين وألف ونشأ في بذاخة عز آبائه الكرام. وأخذ الفقه عن والده الشيخ عبد الكريم والشيخ علي الصوفي وخطيب جامع القصر وشيخ المدرسة اليوسفية الشيخ محمود مهتار وقرأ مختصر القدوري على الشيخ محمد بن حسين بن بيرام وقرأ أيضاً على الشيخ قاسم الجبالي والشيخ محمود الغماري. ولم يتصد للإقراء غير أنه كان عارفاً بالنوازل ولما توفي والده رفعه الأمير حسين باشا باي من جنازة والده إلى باردو وقدمه إلى خطة الفتيا وخطبة الجامع اليوسفي في أواسط المحرم سنة 1133 ثلاث وثلاثين ومائة وألف فصار مفتياً ثانياً وباشر الإفتاء بطريقة غراء. ولما توفي الشيخ الصوفي تقدم لمشيخة الإسلام فزانها بفضله وعمله وكرم نفسه وهمته ووقاره إلى أن أدركته المنية فتوفي سنة 1156 ست وخمسين ومائة وألف، ورثاه الشيخ أحمد سمية بقوله: [الكامل] لله رمسٌ صم يوسفَ عصره ... فغدا به كالبدر في غسق الظلامْ حاز المحاسن في الحياة وبعدها ... ورقي المنابر في جلال واحتشام ما جاءه لمحله ذو حاجة ... إلا وشوهد في محياه ابتسام أجلى صدر الفتيا بحدة ذهنه ... فتبهرجت بجماله بين الأنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وكسا علاه حلةً من بهجة ... محرابه والمنير العالي المقام فسل المهيمن يكسه حلل الرضى ... ويهب له الخيرات في دار السلام وبحقّه قل إن سئلت مؤرخاً: ... (هذا الهمام ابن الإمام ابن الإمام) 10 الشيخ يوسف برتقيز هو الشيخ أبو المحاسن يوسف بن محمد بن سليمان بن عبد الله برتقيز، جده عبد الله هو الذي هاجر إلى دين الإسلام، وولد صاحب الترجمة بزغوان سنة اثنتين وتسعين ألف. وقرأ بها القرءان وجوده برواية نافع على الشيخ حسين بالزاوية العزوزية، وقرأ هنالك على الشيخ أحمد الهرميلو الأندلسي نبذة من النحو وشرح السعد على العقائد النسفية وارتحل إلى باجة فأخذ عن الشيخ حميدة بها بهجة السيوطي ومختصر السعد والعروض. ثم ارتحل إلى مصر فقرأ على الشيخ أحمد العقدي الفقه والأصول، وقرأ على الشيخ خليل تلميذ الحموي قطعة من الهداية، ثم ارتحل لحج بيت الله الحرام وجاور الحرم الشريف وقرأ على الشيخ عبد الله بن سالم البصري الحديث وقطعة من المبسوط للسرخسي ونبذة من الكنز وشرح ملا مسكين ونصف الملتقى. ثم رجع إلى تونس على عهد المقدس حسين باشا بن علي تركي فأحضره عنده لإقراء أبنائه، ولما توفي الداي قارة مصطفى عوض منه إمامة الحاج علي فاصطفاه لنفسه وأقبل عليه بكليته وأناله من عنايته به الحظ الأوفر لما رأى عليه من النصح في تعليم أبنائه وحسن عنايته بهم حتى بلغوا به إلى مراتب العلماء. وكان الأمير حسين باشا يجل منزلته فولاه من الإقبال ما لا كفاء له حتى أنه كل يوم عند خروجه من محل الحكم يدخل إلى بيت الإمام المذكور ويعلمه بجميع متعلقات الدولة، وعند ذلك يعرض عليه الشيخ شكايات بعض المظلومين من قبل العمال وبعض مطالب لذي حاجة عرضها ويجري فصل جميع ذلك في بيت الإمام حتى كانت تسمى المحكمة الثانية. ولما توفيت زوجة الشيخ وتكدر من وفاتها ورام التسلي جهزه الأمير حسين أكمل جهاز من مال الغنائم الحلال وأرسله ليحج عنه فخرج خروجاً لازال حديثه مطراً في جباه مسطور التواريخ، وأقبل كذلك، وعند وصوله لطرابلس أرسل له الأمير كروسته وعند قربه من الحاضرة أرسل له ابنيه محمد باي وعلي باي فتلقياه في طريقه وعند وصوله تلقاه وعظم قبوله بنفسه غاية التعظيم. ولما توفي الشيخ علي الصوفي قدمه مفتياً ثانياً سنة 1143 ثلاث وأربعين ومائة وألف، وأولاه إماماً ومدرساً بجامع محمد باي ونزل من باردو لسكنى الحاضرة بعد أن اشترى له الأمير داراً ببئر الحجاز من أعظم ديار تونس ثم أضاف إليه خطبة جامع محمد باي وكان ولد الشيخ أحمد قرأ مع أبناء الأمير على والده وعمره يومئذ سبع عشرة سنة فقدمه الأمير لإمامته عوض والده براً به فأقبل الشيخ على بث العلم، وشرح متن القدوري شرحاً سماه المنن. وقد وقفت على رسالة في جمع أسماء رجال الطبقات للشيخ عبد الوهاب الشعراني وتلخيص تراجمهم ذكر في أخرها أنه وافق الفارغ من اختصارها ببلد باجة يوم الخميس الثامن من شوال سنة 1118 ثماني عشرة ومائة وألف ورأيت بخط حفيده إمام جامع القصر الشيخ محمد ابن الشيخ حمودة صاحب الترجمة ما نصه: "إن أول من اتخذ ركاب الحديد المهلب بن أبي صفرة وكانت ركب العرب من خشب قال جدي في رياض الفنون على رسالة ابن زيدون"أ. هـ. غير أني لم أقف على هذا الشرح وله تأليف سماه "المعالم في ألقاب ملوك العالم" لك أقف عليه أيضاً. وقد رأيت في شرحه على المنن في ترجمة الإمام أبي حنيفة أن له كتاباً سماه تيجان العقيان، في تجريد جامع مسانيد النعمان، وأنه شرحه شرحاً سماه اليواقيت الحسان، غير أني لم أقف على واحد منهما، وقد نظم هداية الصبيان في العبادات على مذهب أبي حنيفة وقد قال في مطلعها: [الرجز] الحمد لله الذي كرّمنا ... على جميع الخلق إذ صورنا بصورة شريفة خصصنا ... وببنا فكر الحجا شرفنا أنقذنا من ظلمات الكفر ... عساه أن يحط وقر الوزر منحنا بفضله الإسلاما ... علمنا العلوم والأحكاما شكراً على مزية الإتباع ... لسنة النبي ذي الأتباع صلى عليه الله سيد البشر ... وأفضل المخلوق من نبي أبر والآل والأصحاب أهل الاهتداء ... بهم نجا يوم الجزا من اقتدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 هذا وقال يوسف الزغواني ... المرتجى مغفرة الرحمن وهو نظم لطيف موجز يسهل حفظه للطالب ولم يزل الشيخ وولده بالمكانة العطمى إلى أن دخل الباشا علي وتقيد الشيخ عن الفرار مع أبنائه بكثرة عياله، ورجع إليه ولده إمام المحلة فاراً فقبض عليهما الباشا وسجنهما واستأصل جميع متاعهما، وعندما اشتد الضجر بالشيخ قتلهما الباشا لما يعلم من قربهما من عمه أواسط صفر الخير سنة 1148 ثمان وأربعين مائة وألف عليه رحمة الله. ?11 الشيخ عبد الكبير الصوفي هو الشيخ عبد الكبير بن علي الصوفي ولد سنة 1089 تسع وثمانين وألف، وقرأ على والده الشيخ علي الصوفي وعلى الشيخ عبد الكريم الحنفي وعلى الشيخ محمد الغالبي والشيخ أحمد مجاهد صاحب رواية الحديث بزاوية الشيخ سيدي أحمد بن عروس رضي الله عنه والشيخ محمود مهتار والشيخ حسي والشيخ محمد الكفيف والشيخ هبة الله والشيخ عبد القادر الجبالي والشيخ قاسم الغاري والشيخ محمد الغماد والشيخ سعيد المحجوز. ولما بلغ أشده وتضع في العلوم نزله له والده عن مشيخة المدرسة الشماعية وقدمه إليها سنة سبع عشرة فلازم التدريس بها مع تحقيق وتدقيق وتحرير. ولما توفي الشيخ أحمد برناز صاحب الشهب المحرقة في الرد على أهل الزندقة قدمه الباشا حسين عوضه لإمامة الجامع اليوسفي وروايته وخطبة جامع محمد باي في ذي القعدة سنة 1138 ثمان وثلاثين ومائة وألف فزان الخطتين بحسن ترتيله وبلاغة خطبه. ثم لما دخل الباش عليٌّ قدمه مفتياً ثانياً عوض الشيخ يوسف برتقيز وكان محتملاً أثقالاً من تقدم الشيخ يوسف درغوث عليه ولما أعياه الانتظار لما كان يتوقعه للشيخ المذكور طلب من الباشا أن يسافر صحبة الهدية الموجهة للسلطان وأضمر عدم العود من حيث أن الباشا لم يشعر بما أضمره فأذن له بالسفر ولما رجع السفراء أقام الشيخ في دار الخلافة مدة وجيزة وبلغ خبر وفاته أواسط رجب سنة 1150 خمسين ومائة وألف، وعظموا جنازته وكتبوا على قبره تاريخاً بالذهب، عليه رحمة الله. 12 الشيخ محمد الأرناؤوط هو الشيخ أبو عبد الله محمد الأرناؤوط إمام الأمة في المذهب الحنفي ومعرفة الأصول بحيث إنه وحيد عصره فقهاً وأصولاً بعد أن كان حلاقاً في صباه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. أخذ الفقه عن الشيخ الكبير الصوفي، وأخذ العربية عن الشيخ علي سويسي، وملأ الصدور والمحافل بعلومه وكماله فأقرأ كتباً مهمة مثل الكنز والمجمع وصدر الشريعة والدرر والمنار، ولازم التدريس وأخذ عنه الفحول. ولما توفي الشيخ يوسف برتقيز قدمه الباشا علي بجامع الباي خطيباً وإماماً ومدرساً أواسط صفر الخير سنة 1148 ثمان وأربعين ومائة وألف فزان الجامع المذكور بعلمه وفصاحته. ولما نعي الشيخ عبد الكبير الصوفي قدمه مفتياً ثانياً عوضه فأقام على الفتيا إلى أن توفي الشيخ يوسف درغوث فتقدم لمشيخة الإسلام سنة 1156 ست وخمسين فزانها بعلمه. ثم تقدم لمشيخة المدرسة الشماعية سنة سبع وخمسين ومائة وألف بعد وفاة الشيخ حسن البارودي. ولم يزل على مشيخة الإسلام يبث العلم بين الأعلام حتى امتحنه الله بإيداع علي باشا أمانة عنده تبلغ نحو عشرة آلاف بندقي حين أيس من البقاء على الدولة. ولما خرج وعاثت يد الجزيريين بالنهب في البلاد دخلوا إلى دار الشيخ للانتهاب فوجودا عنده المال المذكور فحملوه لرئيس محلة الجزيريين حسن باي فاتهمه أنه قد استخلص لنفسه أموالاً أخر وتعمد ضربه بالسياط مع علمه وإشرافه على الثمانين ولم يراقب الله فيه، وكان الأمير محمد الرشيد باي في كرب عظيم من ذلك مع عجزه عن دفع ذلك عنه حتى أرسل إليه مع باش كاتب الشيخ محمد الدرناوي في السجن يأمره بالشكاية إلى حاكم الجزائر، وأفضى الأمر إلى إيقاع صلح مع حسن باي باع فيه الشيخ جميع كسبه حتى أمتعة بيته ودفع له الأمير محمد الرشيد لإكمال الصلح ألف محبوب سراً ليعيده من أسر الجزيريين. والله لا يضيع عمل عامل. وقد لازم الشيخ بيته بعد ذلك ولم يكن للأمير أن يرجعه لمشيخة الإسلام نظراً لما وقع به من الامتهان وإنما أجرى عليه فيوض إحسانه إلى أن توفي، رحمة الله عليه. 13 الشيخ محمد درغوث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عبد الكبير بن يوسف درغوث رابع الدرغوثيين في الخطة الشرعية، وذلك أنه لما توفي والده سنة ست وخمسين توقف الباشا في تقديمه لخطة الإفتاء حيث إنه لم تسبق له سابقية العلم، وانتظر قدوم الشيخ حسن البارودي من إسلامبول ليوليه الفتيا وعند ذلك أخذ صاحب الترجمة في القراءة على الشيخ علي بن سلامة وقرأ معين المفتي على الشيخ محمد الأرناؤوط، وما لبث أن جاء خبر نفي الشيخ حسن البارودي فأعمل صاحب الترجمة الوسائل مع صهره سليمان باي ولد الباشا إلى أن قلده الباشا علي باي الإفتاء وإمامة الجامع اليوسفي وراثة عن والده. وأقام مفتياً ثانياً إلى أن تبلج صبح الهدى بولاية الباشا محمد الرشيد باي فأخره عن الخطة لقصوره، وذلك أخر العهد بالدرغوثيين في الخطة الشرعية وإمامة الجامع اليوسفي بعد أربع وتسعين سنة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد توفي سنة تسع وسبعين ومائة وألف، عليه رحمة الله ورثاه أحد الشعراء بقوله: [البسيط] رمسٌ عليه من المولى جلالاتُ ... لا بل من الجنة الفردوس روضاتُ مذْ حلّه من له بين الورى شرفٌ ... ورتبة دونها الشهب العلياتُ محمدٌ شيخُ الإسلام بن يوسف من ... لذكرهم في العلا والمجد آياتُ من آل درغوث من أمست مناقبهم ... لها على هامة الجوزاء دوساتُ توارثتْ منصب النعمان كابرهمْ ... عن كابرٍ إثره يقفوه ساداتُ كانت بهم تونسٌ قطب البلاد وقد ... كانوا إليه بدوراً وهي هالات مولاي قبلهُ بالعفو الجميل فقد ... وافى لبابك تجدوه الخطيئات أجاب داعيكَ لمّا أن دعوتَ وما ... سوى الرجا زاده التقوى وآلاتُ فجازه بالرضا إذْ كان تاج علا ... في حكم شرعك تضنيه الولايات وقد جزمنا بفألٍ من مؤرخه ... (حزاءُ تاجِ العلا والعلم جناتُ) 14 الشيخ حسين البارودي هو الشيخ أبو محمد حسين بن إبراهيم البارودي بن محمد أصلهم من بلد مورة ومنها قدم إبراهيم المذكور وقد حج بيت الله الحرام وكان له أولاد ثلاثة أولهم قاره مصطفى وقد نشأ في العسكرية وبلغ إلى أن ولّي ترجماناً في دريبة الدولاتلي، والثاني وكان عالماً ولي إمامة الجامع اليوسفي ومشيخة المدرسة الشماعية بعد وفاة الشيخ عبد الكبير الصوفي في رجب سنة 1150 خمسين ومائة وألف، وتقدم أيضاً لمشيخة المدرسة العنقية، وكان فصيحاً في اللغة التركية وقد جرى الرسم في الجامع اليوسفي بترجمته الحديث الشريف بها فجرى على ذلك، ومعظم أمره عند الترك مدة الباشا لمكان علمه وفصاحته حتى أحس الباشا من إقبال الترك إليه فأرسله برسم شراء كتب من إسلامبول فأدركته الوفاة قرب ساقس فدفن بها. وأما ثالث أبناء إبراهيم المذكور فهو صاحب الترجمة وقد ولد بتونس سنة 1110 عشر ومائة وألف. ونشأ نشأة صالحة وتصدى لقراءة العلم الشريف فقرأ على أعلام جامع الزيتونة حضر على الشيخ علي سويسي عند إقرائه شرح الباشا على التسهيل، وقرأ على الشيخ محمد الحرقافي شرح القطر لابن هشام وملا جامي في النحو، وقرأ الكتاب المذكور على الشيخ حمودة العامري خليفة جامع الزيتونة وتفقه في مذهب أبي حنيفة على الشيخين أحمد الطرودي وإمام الباشا وخطيبه الشيخ ملا باكير، وقرأ على خاتمة المفسرين الشيخ محمد زيتونة، وظهرت براعته وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة ثم لازم بث العلم لولا ما عاقه من المحن مدة الدولة الباشية فقد انتبهوا داره وأثاثه وسجنه الباشا مدة ثم نفاه لزاغون ولما ورد خبر وفاة أخيه أرسل بإرجاعه إلى الحاضرة وأولاه إمامة الجامع اليوسفي وروايته سنة 1157 سبع وخمسين، ولم تمض عليه سنة حتى أعاده إلى النفي بزغوان، فبقي هنالك إلى أن انقضت فتنة يوسف باي فأرسل إليه وأتى به وأولاه إمامة الجامع الباشي عند عزل الشيخ يوسف القفال وأولاه رواية الجامع المذكور وتدريسه عند عزل الشيخ محمد الأرناؤوط كل ذلك أواسط رجب سنة سبع وسبعين ومائة وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ولما وفد على دست الدولة ركاب الرشيد الحسيني وعزل المفتين أولى الشيخ المذكور مشيخة الإسلام وإمامة الجامع اليوسفي وأولاه خطبة جامع باردو المعمور ونقله من إمامة الجامع الباشي إلى إمامة جامع والده الجامع الحسيني والخطبة به وإن بقي له تدريس الجامع الباشي مع تدريس الجامع الحسيني وأعطاه داراً جليلة للسكنى، فساعده الإقبال ببلوغ الآمال وهنأه الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز في جميع ذلك بقوله: [الوافر] تضوّعَ منبر تعلوه طيباً ... غداة علوتَ ذروته خطيبا وتطربه فيهتزُّ ارتياحاً ... كما قد كان أملوداً رطيبا ليهنك يا إمام العصر يا منْ ... بحكم الله مجتهداً مصيبا فأضحى الدين محميّاً مصوناً ... وقدماً كان قد لاقى شحوبا وأضحى آهلاً بمراح أنسٍ ... وقبلك كان في الدنيا غريبا ودار قد حللت بها فظلّتْ ... لمرتا العلا ربعاً خصيبا تضم البدر لا يخشى محاقاً ... وتحوي الشمس لا تبغي غروبا قد ازدحمت بساحتها وفودٌ ... وما أحد توهّم أن يخيبا فلاقوا منك وجهاً ذا ابتسام ... وصدراً ضمّن التقوى رحيبا سقاها غيرَ مفسدها سحابٌ ... يحاكي جود راحتكم صبيبا ولازالت سعودك في توالٍ ... وقد زالت نحوس لن تؤوبا تبلّغ كل ذي أمل مناه ... بعيداً كان ذلك أو قريبا وحيث أنه قد اجتمعت بيده ثلاث خطب باشر منها خطبة جامع باردو بنفسه وأناب لخطبة الجامع اليوسفي إمام الخمس به ورواية [الجامع الباشي] الشيخ عمر بوشناق، وأناب لوظائف الجامع الحسيني خطيبه الأصلي [خطابة] وإمامة ورواية الشيخ محمد قاره بطاق المنقول منها لإمامة الجامع الباشي. وتصدى الشيخ حسن البارودي للإفتاء وبث العلم وأقرأ بالجامع الباشي الجوهرة على القدوري وعاد للتدريس بالمدرسة الشماعية فأقرأ فيها ملا مسكين على الكنز وتصدى لخدمة العلم الشريف والقيام بخططه أحسن قيام. وقد كتب رسائل كثيرة في كثير من المسائل الفقهية منها رسالته التي في الرد على من قال بإبطال حكم القاضي بعد القضاء وقد تنازع في المسألة مع قاضي بارودو إذ ذاك وبعض الشيوخ المالكية، وله رسالة فيمن قال لامرأته أنت طالق يا زانية، ورسالة في الشكل المثلث والمربع من الأحواض، ورسالة سماها القسطاس السوي في الصاع النبوي، ورسالة في خلع الصبية، وأخرى في أبوة زوج المرضعة، وأخرى في الزايغة وأخرى في حكم الكتابي والصابي والمجوسي، وأخرى في نقل الحاضنة للمحضون، وأخرى في تقدير الشجر المغروس في الأرض المغصوبة، وأخرى في رد الجواري المشتراة بعيب، وقد كتب على قوله تعالى: (يوجد أية) ، وشرح حديث قتل النملة، وشرح خطبة العيني على الكنز، وكتب في بحث الأمير علي باي في النذور. وشرح عبارة القدوري فيمن أفسد الركعتين الأخيرتين وكان الشيخ لطف الله الأعجمي إذ ذاك بتونس سنة ثمان وسبعين فشرحها بغير ما شرحها به الشيخ البارودي، فتعقب شرح الشيخ لطف الله برسالة استدراك من أجلها الشيخ لطف الله على رسالته الأولى بما اعتذر به لصحتها، وعند اطلاعه على ذلك الاستدراك رده برسالته الأخرى وأغلظ فيها ما شاء، والمستفاد من جميع ذلك أن اليد لصاحب الترجمة في أصل المسألة الفقهية وإن ارتكب في أثناء ذلك أشياء لا تنهض في الرد لكن على كل حال هي شاهد عدل على فقهه وقد وقفت على تقريظ لهاته الرسالة البارودية من شعر الشيخ محمد الشحمي وذلك قوله: [الكامل] غاصت سوابحُ فكره في أبحرٍ ... من رائق العلم السني المجدودِ فسعت من الدر الأنيق نفائساً ... ما رامها إلا بكف الجود كم حبّرت أقلامهُ بدفاترٍ ... تهدي إليك من العطا الممدود العالمُ الأسنى حسينٌ من غدا ... في فضله يزهو بغير جحود كم مشكلٍ أعيا جهابذة الورى ... أضحى إليه بذلّةِ المصفودِ حتى أقر الجاحدون بما رأوا ... وانقاد للتسليم كلّ حسودِ لا تعجبوا إن شق مصمت صلدها ... شقّ الجبال بقوة البارودي وكتب عليه أحد الشعراء في ذلك العهد بيتين فيهما تعريض بنسبة الشيخ لطف الله للتشيع وحاشاه من ذلك رضي الله عنه وهما: [الوافر] إذا نقلَ الثقاتُ فروعَ فقهٍ ... مفرّعةٍ على أصل متين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فما ردّ المقلّد ذلك إلا ... كشيعيٍّ يرد على الحسين لوما تكاثرت عليه الخطط أناب في بعضها من شاء وباشر منها ما شاء وصفا له العيش فيما بقي من عمره وباشر بنفسه إمامة باردو فرتل القرآن بصوته وحسن تلاوته وزان المنبر ببهجته وحسن فصاحته، مع تهذيب العلم وحسن المحاضرة ولطف الفهم وجمال السمت وحسن الإقبال عند الأمير وفاء بما أصابه من الدولة الباشية ترمقه العيون بتعظيم العلم ومزيد الإجلال، ويتوجه إليه العموم في معظم الإقبال. وقد نفع بعلمه وجاهه وقد حج بيت الله الحرام ورجع سالماً، ولم يزل على كماله إلى أن أدركه الأجل فتوفي في ذي القعدة الحرام سنة 1186 ست وثمانين ومائة وألف عليه رحمة الله وقد رثاه الشيخ أبو الفلاح صالح الكواش بقوله: [الرمل] ذا ضريحٌ أم رياضٌ لم يزلْ ... من سحاب العفو في وبل وطلّ خلته يحوي الدراري فلكاً ... حلّه شمس الهدى لكن أفل ذو علومٍ وذكاءٍ وتقىً ... وابتهال وسخاء وخجل نسب البارود فيه حيثما ... شق في الفتيا مواضيع الحيل رب لا تقطع شآبيب الرضا ... عن حسين يا كريمٌ لم يزل قد مضى يرجو رضا الرحمن أر ... خت: يا مؤمن بلغه الأمل 15 الشيخ محمد بيرم الأول هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بن بيرام قدم جده بيرام من القسطنطينية إلى تونس في أثناء الجند العثماني الذي قدم صحبة سنان باشا لفتح قلعة حلق الوادي وافتكاكها من يد الإسبانيوليين سنة 981 إحدى وثمانين وتسعمائة، ولما أيدهم الله بالنصر أقام الجد المذكور بتونس وتزوج بها في ثروة واعتبار، ثم إن أبناءه تعاطوا العلم واحداً بعد واحد كل على حسب ما يسر الله له عدا جد صاحب الترجمة فإنه لم يتعاط شيئاً من العلم. أما والده فقد كانت له مشاركة غير أنه دخل في الخدمة العسكرية وكان متقلداً وظيفة أوضه باشي وتولى استخلاص الأعشار على عهد الباشا فصادره في ماله وسجنه إلى أن مات، وكانت زوجته جنات بنت الحاج حسن كحل العيون أمها من آل الشريف الذين مر نشر بعض مناقبهم في آل القسم الأول وهي الشريفة صاحبة الكرامات حسينة بنت أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن محمد بن علي بن الحسن بن أحمد الشريف الهندي المتقدم الذكر ومنهما كان ولده صاحب الترجمة فهو يتصل بآل الشريف من قبل أم أمه. وقد ولد في شوال سنة 1130 ثلاثين ومائة وألف، ونشأ في طلب العلم فقرأ على الشيخ أحمد اللعلاع المقدمة والمغني والماكودي والأشموني على الألفية وشرح الخزرجية والقلصادي في الحساب والشنشوري على الرحبية، وقرأ على الشيخ علي سويسي المغني والتسهيل، وقرأ على الشيخ أحمد المكودي الأشموني على الألفية والتصريح والمحلي ومختصر السعد وعصام على السمرقندية والكبرى وألفية العراقي، وقرأ على الشيخ أحمد الشريف الثاني الفاكهي والعصام على السمرقندية، وقرأ على الشيخ حسين البارودي السابق الذكر الشرنبلالي في العبادات ومختصر القدوري والعيني على الكنز وابن فرشته على المجمع وصدر الشريعة، وروى صحيح البخاري على غالب شيوخه المذكورين، وقد قرأ على غير هؤلاء. وطلع شمساً في أفق العلوم، فوضح طريق المنطوق والمفهوم، غير أنه أصابته محن الدولة الباشية وذلك أن الباشا لم يسمح له بإخراج ولده من السجن وفاته إلا أن يسجن عوضه ولده صاحب الترجمة، فأقام في السجن صابراً يطالع الكتب ويحرر المسائل ثم خرج من السجن وأولاه الباشا تدريس مدرسته الحنفية عند عزل الشيخ محمد المحجوب سنة 67 سبع وستين فختم بها صحيح البخاري وهنأه بذلك الشيخ أبو محمد حمودة بن عبد العزيز بقوله: [الكامل] زمن الوصال وعهدَ أيام الصّبا ... يسقيك عهدُ الغيث ساقته الصبّا من لي بها أيّام عهد قد مضت ... ما شمت فيها برق وصل خلّبا؟ أيّامَ ما ظلّ المنامُ محرماً ... عنّي ولا أمسى الحبيب محجَّبا في حيثُ زهرُ الروض بلّله الندى ... والشمس تلثم منه ثغراً أشنبا والطّلُّ مسكٌ بث في ديباج نب ... ت ظل منشوراً على تلك الربى يشتمّ بالأجفان فأعجب مثل ما ... قد شمّ بالآذان مسكاً طيبا بفناء مدرسة المعظم قدره الباشا ... أمير المؤمنين الأغلبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ملك الملوك وخير من قاد العسا ... كر في الوغى أسداً وزان الموكبا يا حسنها عزّت وعز نظيرها ... لما غدت بالعلم ربعاً مخصبا قد زانها المولى الهمام محمد ... ذاك الأغر الألمعي الأكتبا العالم النحريرُ والحبرُ الذي ... لبديع أبكار المعاني قد سبى العلمُ في مغناه ألقى الرحلَ وال ... المجد المؤثل في ذراه طنّبا كشّافُ (أسرار البلاغة) موضح ... (لدلائل الأعجاز) مجلي الغيهبا يا محرزاً قصب السباق وحائزاً ... فضل الرئاسة حين شاد المذهبا يهنيك يا مولاي ذا الختم الذي ... ليس الزمان به طرازاً مذهبا أوضحت فيه من الحديث غوامضاً ... دقّت فعنها كل عقل قد نبا إن البخاري لو رآك مقرراً ... لصحيحه لغدا بفضلك معجبا ذاك الإمام الحافظ اللذ قد قضى ... من كل علياءٍ وفخر مأربا قد كان رافع راية العلم الجلي ... ل وسنة الهادي النبيّ المجتبى خير الأنام محمد المختار من ... سجد الجماد له وكلمه الظّبا صلى عليه الله والآل الألى ... نصروا الشريعة بالأسنة والظُّبى ما حن صب أو تذكر مغرم ... زمن الوصال وعهد أيام الصبا وقد أقرأ الشيخ بالمدرسة المذكورة شرح العيني على الكنز ولما ختمه هنأه بذلك الشيخ أبو الحسن علي الغراب بقصيدة ضمنها التبري مما رماه به وهذا نصها: [الطويل] كفى الإثمَ بعضُ كيف التوهمُ ... أيرضى لبيبٌ بالمظنَّة يأثمُ؟ ومن يرم ضوء النيّرين فلم يزل ... بمقت الورى يرمى ولم يك يكرم إذا مس عرض الحرّ مر مقالة ... فليس لحرٍ المساس تألم فما شرف الياقوت بالنار مؤلمٌ ... ولا الذهب الإبريز بالسبك يهضم ولا لضياء النيرين إذا بدا ... خسوفهما عيب به الضوء يوسم وما نقص حد السيف [بالسّنِّ] منقص ... ولكن يرى في فعله وهو أصرم ومن شتم الدرِّ النفيس فلا يرى ... له شاتماً بل شاتم الدر يشتم لئن يجل قدحي في لسان فربما ... حلا وهو يحوي ناقع السم مطعم وإن لسعت عرضي عقارب ألسنٍ ... فإن لساني في اللواسع أرقم وما ثوب عرض الحر لطخ بالخنا ... به غير مطليّ به يتحتم لئن قذفوا رجماً فشهب مقاولي ... بهن شياطين القواذف ترجمُ سيعلم من ألقى مواقد ريبةٍ ... عليَّ بمن تلك المواقد تضرم إلى أن يظن المحرقون بنارها ... عليهم كأنّ البردَ منها جهنم هم قصدوني بالإذاية واجتروا ... على حسدٍ منهم وما كنت أعلم كفاني ضرّ الحاسدين عذابهمْ ... بفضلٍ ولم يحظوا يما أن منعم دعاهم نسيب الشعر منّي لريبةٍ ... (أكل فصيحة قال شعراً متيّم) لئن كان لي في الشعر فسق وريبةُ ... فإنّ ضميري بالعفاف مسلّم نعم أنا أهوى كل أحور أغيدٍ ... به ينقض الصبر الجميل ويبرمُ فما الدر إلا من سناه ولم تمل ... غصون الرّبى إلا عليه تسلّمُ يحلُّ عرى صبري وحلمي بوجهه ... ربيع بها، لكنْ عليّ محرّم يظن وفي بعض المظنة مأثمٌ ... تسليت أو بحت الذي كنت أكتم فدع ظن سلواني وأيضن بضدّه ... بلى أنا صبٌّ في الصبابة مغرم إذا صد عني صمت عن مطعم الكرى ... وإن يرض فهو العيد عندي وأعظمُ فيا عجباً مني أرى الصوم هجره ... وعيدي منه الوصل والعيد بيرم عنيت أبا عبد الإله محمداً ... به مذهب النعمان يبدا ويختم به رمزُ عين (الكنز) في الفقه قد غدا ... يصرّح بالمعنى الخفيّ ويعلم تحلّى به (صدر الشريعة) إذ بدا ... به منتقى الدر اليتيم يبسّم تجمع فيه العلم والفضل فاغتدى ... به (مجمع البحرين) في الناس يعلم إذا أظلم المعنى (فمصباح) ذهنه ... (لمنهاجه) يهدى به وهو مظلم سراج بأفق الفهم (نهرُ) فوائدٍ ... (وبحرٌ) بأمواج المعارف خضرمُ له فضُّ أبكار الفتاوي لأنه ... أبو عذرها ما دام فيها تختّم تراه بتحقيق العلوم كأنّما ... أدلّته شمسٌ وبدر متمّمُ فأما أصولُ الدين تدرى فروعها ... به وأصول الفقه من فيه ترسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وللنحو أضحى والبيان تفاخرٌ ... به إن بدو والخصم فيه يخصَّم أمولاي هذا الختمُ مبارك ... عليك به نشر الثنا ليس يكتمُ ختمت به (العيني) على الكنز فاغتدى ... غنياً عن العلم الذي فيه معدم فلا زلت إكليلاً على هامة العلا ... يعز بكم عصر الزمان ويفخم ولازالت العلياء ملكَ يمينكم ... تصرفها فيما تشاء فتخدم وصل على خير الأنام محمدٍّ ... شفيع الورى في الحشر والخطب مظلم ثم أراد الباشا إعادته للسجن فالتجأ إلى زاوية الشيخ سيدي منصور بن جردان رضي الله عنه، وأقام هنالك ملازماً بث العلم ومطالعة الكتب إلى أن انجلى ذلك الغمام. وساعد الإقبال بدخول الأمير محمد الرشيد الحسيني أوائل ذي الحجة الحرام سنة 1169 تسع وستين ومائة وألف فأمر بإخراجه من الزاوية وقدمه مفتياً ثانياً. وأقام على الإفتاء وتحرير المسائل والتأليف إلى أن توفي شيخ الإسلام البارودي فقدمه الأمير علي باشا لمشيخة الإسلام في ذي القعدة الحرام سنة 1186 ست وثمانين ومائة وألف. وكان ملازماً بث العلم فتخرجت عليه فحول كثيرون ولازم المطالعة وشرع في عدة تآليف أتم منها "اختصار أنفع الوسائل" للطرسوسي، ورسالة في السياسة الشرعية، ونظم مسائل كثيرة، وله شعر ونثر جيد. فقضى عمره في تدريس وتأليف وفتوى. وقد كان مرض، وعوفي من مرضه سنة 1184 أربع وثمانين ومائة وألف فهنأه الشيخ أحمد سمية بقوله: [الطويل] علومُ الهدى أضحى كمالُ كمالها ... منيراً وأمسى سيفها غير مغمدِ وقد عادت الفتيا لعادته على ... منصّتها في ثوب حسنٍ مجدّد تبسم من بعد التعبس ثغرها ... فلاح لتاريخي: (شفاءُ محمدِ) وقد امتحن بفقد والده حسين في مبدأ شبابه فأرخه الشيخ محمد الورغي بقوله: [الوافر] ترحّم إن وقفت هنا وسلّم ... وعاين بالتراب فتى مكرّمْ عزيز عاقه ذا الموت قسراً ... ولو سلم ابن أنثى كان أسلم نبيهُ البيت لم يحتج لعذر ... ولا بالهجرِ في الدنيا تكلّم تكهّل في الشباب وحين طابت ... به الأيام طلقها وتممْ وكان أبوه يأملُ أن يراه ... وحيداً في الكمال فكان ما لم ... وليس يموت من هذي حلاه ... ولكن نام عن زمن مجذّم لذلك قال من يدريه أرِّخْ: ... (عزيز الناس مات حسين بيرم) وقد بلغ صاحب الترجمة أربعاً وثمانين سنة قضى منها في الفتوى خمساً وأربعين سنة، وكان ورعاً ثبتً عمدة حاملاً لراية مذهب أبي حنيفة، على طريقة بديعة ومكرمة شريفة، إلى أن توفي يوم الأربعاء آخر شوال سنة أربع عشرة ومائة وألف، ودفن بتربته المجاورة لزاوية الشيخ عبد الرزاق قرب دار الآغة ورثاه العالم الشريف الشيخ عمر المحجوب بقوله: جفن المنية ليس بالوسنان ... يصمي بسيف صارم وسنانِ ومن المقابر لو علمتَ منابرُ ... للدهر يخطبُ فوقها ببيان (يا أيها الإنسان إنك كادح) ... فانظر بعينك غاية الإنسان وتناقص الأرضين من أطرافها ... يدعو الورى للزهد في العمران فانظر جبال العلم وهي شوامخٌ ... قد سيّرت للمحشر المتواني وانظر إلى مفتي الأنام محمدٍ ... أضحى رهين الترب والأكفان لهفي على البحر ابن بيرم غيّضتْ ... منه علوم الدين والأبدان قد كان في الفتيا عمداً عمدة ... (صدر الشريعة) غرّ الأعيان قد كان قطبَ مدارها عجباً له ... وهو (المحيط) (بكنز) هذا الشان يا مسبل العبرات عند مصابه ... بالله لا تغنيك في السلوان ما درّه المختار يسلي فقده ... درر الدموع بمحجر الأجفان فاستنزل الرحمات عند ضريحه ... واقرأ له شيئاً من القرآن يا رب قدّس سرّه ومقاله ... واخلع عليه ملابس الرضوان أحسن عزاء القائلين وأرّخوا: ... (لهفاً لحامل مذهب النعمان) 16 الشيخ محمد المحجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 هو الشيخ أبو عبد الله محمد الملقب بالمحجوب الحنفي. تصدى لقراءة العلم الشريف، فقرأ على الشيخ يوسف برتقيز والشيخ محمد الأرناؤوط، وتفقه عليهما في مذهب أبي حنيفة، وقرأ المعقول على الشيخ حمودة العامري والشيخ قاسم بن عبد الملك وغيرهما من علماء ذلك العصر. وكان مشاركاً خيراً كثير الاعتقاد في أرباب الأحوال. ولما أتم الباشا علي بناء المدرسة الحنفية التي قرب جامع الزيتونة بالقشاشين أولاه مشيختها سنة 1166 ست وستين ومائة وألف، وكان يكشف رأسه كثيراً ويختلط بطلبة المدرسة فيطوف بيوتهم واحداً بعد واحد، وربما ترك عمامته في بيت أحدهم وهو لا يشعر وخرج صاحب البيت بعد أن قفل بيته فيبقي الشيخ كذلك بقية يومه وربما عطش فخرج إلى الاستقاء من السقاء الذي يأتي للحمام أمام المدرسة وهو مكشوف الرأس، وبهاته الأحوال عزله الباشا. ولما عزل شريف المختار من نقابة الأشراف قدم صاحب الترجمة لنقابة الأشراف. ثم لما توفي الشيخ أحمد الطرودي ولي خطيباً بالجامع الباشي في رجب سنة 1167 سبع وستين ومائة وألف. ولما توفي شيخ الإسلام الباردودي وتقدم لمشيخة الإسلام البيرمي السابق قدم الأمير علي باي صاحب الترجمة لخطة الفتوى في ذي القعدة الحرام سنة 1186 ست وثمانين ومائة وألف، واستمر على خطته إلى أن أصابه الطاعون الجارف سنة 1189 ثمان وتسعين ومائة وألف عليه رحمة الله. 17 الشيخ محمد البارودي هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين بن إبراهيم البارودي تربى في حجر أبيه واعتنى بتربيته وجود عليه القرآن العظيم كما جوده أيضاً على الشيخ حمودة إدريس، وقرأ العلوم على والده مدة حياته، وقرأ على أعلام أخر منهم الشيخ صالح الكواش والشيخ محمد الدرناوي والشيخ أحمد السوسي وغيرهم وتفقه وحصل. ودرس بجامع الزيتونة والمدرسة الشماعية فأقرأ الفقه والأصول، ولما توفي والده استقل بمشيخة المدرسة الشماعية وخطبة جامع باردو. ثم قدمه الأمير علي باي مفتياً ثالثاً أواخر سنة 1190 تسعين ومائة وألف فجرى مجرى والده في حسن الصنيع ثم في عام أربعة وتسعين ومائة وألف، ولي إمامة الجامع الباشي وتدريسه، وأولاها لولده أبي عبد الله محمد بالفتح، وقد هنأه بذلك العالم الشيخ محمد بيرم الثاني بقوله: [الطويل] قد نلتَ في ابنك مثل ما قد ناله ... فيك الإمام أبوك أعظم ماجدِ وغدوت تدعى بالخطيب وبابنه ... وأبيه والعليا تنال بواحدِ والعادة اطّردت وذلك منبئٌ ... أنّ الحفيد كذا برغم الحاسد لكن قد أصيب الشيخ في ولده المذكور فتوفي شاباً سنة 1207 سبع ومائتين وألف ورسم على قبره قصيدة لطيفة وهي: [الرمل] قف وزرْ من حلَّ في هذا المكان ... واقرأ القرآن والسبع المثانْ واسأل الرحمن من إفضاله ... رحمة تنمو على مر الزمان ذا ضريح مشرق قد حله ... واعظ حبر خطيب ذو بيان ذو العلا محمد ذاك الرضا ... والسليمُ الصدر والعذب اللسان الذي يدعى ببارودي ومن ... في الورى قد حاز شأناً أي شان الخطيبُ ابن الخطيب ابن الخطيبْ ... الذي ما إن له في العصر ثان خاض في بحر علوم زاخرٍ ... طالما حرر بحثاً وأبان إن رقى على منبر يسبي النهى ... بعقود من لآل وجمان عمّر الوقت ببر وتقى ... ودروس لعلوم ومعان جاءه داعي المنايا سرعةً ... فغدا وهو له ثاني العنان فأتى جنة فردوس وقد ... فاز بالولدان والحور الحسان فإذن قد قلت في تاريخه ... (قمر قد حل فردوس الجنان) ثم في سنة 1198 ثمان وتسعين قدمه الأمير مفتياً ثانياً لوفاة من قبله ولازم الإفتاء والتدريس إلى أن توفي شيخ الإسلام البيرمي فقدمه الأمير حمودة باشا لمشيخة الإسلام صبيحة يوم الجمعة وهو يوم التروية من ذي الحجة الحرام سنة 1214 أربع عشرة ومائتين وألف فنسج على منوال والده بوجاهة ومروءة وتحصيل في العلوم وفصاحة لسان، يستلين الصخر بتلاوة القرآن، وحسن صوت لم يسمع مثله في العصر الغابر، تقعد دونه ألباب الألباب إذ قام على المنابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقد ألف رسالة في رؤية الهلال وأخرى في مسائل الحيطان، وله اختام على أبدع نظام، فقد ابتهجت ببهجته الليالي والأيام، وصاهر بابنته الأمير حمودة باشا فنال غاية الاحترام، وقد رزق منها بولد سماه محمداً وتوفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم سنة 1215 خمس عشرة. وقد نال الشيخ من إقبال دنياه غاية المرام، وتقلب في النعم الجسام، إلى أن أدركه الحمام، يوم الثلاثاء سابع عشر ثاني ربيعي سنة 1216 ست عشرة ومائتين وألف، عليه رحمة الله وأرخ وفاته العالم الشريف الشيخ عمر المحجوب بقصيدة قالها في تاريخها: [الطويل] وقال بشير الحال فيه مؤرخاً ... (أعدّت له دارُ السلام ونزلها) ورثاه أيضاً أخوه العالم الشيخ أحمد البارودي بقوله: [الطويل] قفا بضريح ضم نور محمد ... شقيق لبدرٍ لا أقول لفرقد جميلٌ عفيفٌ ذو وقار مقرر ... عزيز كريم ذو فخارٍ وسؤدد جليلٌ مهاب في القلوب معظّمٌ ... إذا ما بدا فرداً على كل مفردِ فقف خاشعاً واعلم بأن مصير ذا ... إلى مثل هذا المصرع المتوحّدِ وعظْ واتعظْ وانهض إلى الفوز بالتقى ... كما كان ذا بالبر والمجد يرتدي هو العلمُ العلامةُ الفاضلُ لاذي ... علمتُ به علماً به كنتُ أهتدي محمد البارودي يا طيب محتدٍ ... له، ابن حسين سيّدٌ وابن سيّد رئيس لعلم الشرع من بعد والدٍ ... فكان بحمد الله أكرم مقتدِ تصدّر للإفتاء لما بدت لنا ... عوائصه قد كان أرشد مرشدِ لما كان فيه من صلاحٍ وعفةٍ ... وذهنٍ منير ثاقب متوقّدِ فكان بفضل الله فيه مثابراً ... على الحق يرويه برأي مسدّدِ وقد كان في فنّ التلاوة آيةً ... تحرّى بها فضلاً على كل محتدِ بكته المعالي والمنابر مذ بدا لها ... لها نعيه: وافرقتاهُ لمنشدِ كذاك محاريب المساجد هدّمت ... ولم تر فيها بعده من مجدّد فطبت أخي حيّاً وميتً ومبعثاً ... وجوزيت بالقرآن قرباً لأحمدِ كذاك شقيقي قلت فيك مؤرخاً ... (قبلتَ بقرآنٍ جوار محمدِ) 18 الشيخ محمد بيرم الثاني هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بن بيرام تقدمت ترجمة والده شيخ الإسلام الأول. وقد ولد ولدُه هذا في السادس عشر من ذي القعدة الحرام عام 1162 اثنين وستين ومائة وألف، واعتنى والده بتعليمه فقرأ القرآن العظيم وجوّده على أعيان منهم الشيخ محمد قارة باطاق، وقرأ على الشيخ قاسم بن عاشور أيضاً صغار كتب النحو إلى الشذور وشرح الشيخ في الكلام، وقرأ على الشيخ أحمد سويسي الفاكهي والألفية والتصريح، وقرأ على الشيخ الكواش القطر والفاكهي والعصام ومختصر السعد ونبذة من المطول ومختصر ابن الحاجب، وقرأ على الشيخ أحمد الثعالبي مختصر السعد والكبرى، وقرأ على الشيخ محمد الدرناوي التهذيب والوسطى ونبذة من مختصر السعد وقرأ على الشيخ محمد الشحمي دروساً من التهذيب والقطب والمطالع والكبرى. وقد تضلع من معقول العلوم ومعقولها، وحصّل ما بلغ به الغاية في فروعها وأصولها، حتى صار مشاراً إليه في سائر العلوم، عمدة المنطوق والمفهوم. وقد أخذ صحيح البخاري عن والده ونظم سنده فيه بقوله: [الرجز] سندُ هذا العبد في البخاري ... عن والدي صين من الأكدار قراءة بعضه والبعضُ قدْ ... أجازني فيه بوجه معتمدْ وهوَ روى عن شيخه المكودي ... عن الحريشي العلم المقصودِ عن شيخه الفاسيّ عبد القادر ... عن عابد الرحمن ذي المفاخر عمّ أب له عن القصّار ... عن شيخه خروف النظار عن شيخه الفخر سقين العاصمي ... عن زكريا الفذّ ذي المكارم عن حافظ الدنيا الإمام ابن حجر، ... لعسقلان الفخرُ إذ منها ظهر عن التنوخيّ عن الحجّار ... عن الزبيدّي الشائع الأذكار ذا عن أبي الوقت عن الداوودي ... عن السّرخي المنهل المورود عن الفربريّ عن البخاري ... دامت عليه رحمات الباري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وجلس للتدريس وعمره ثماني عشرة سنة، فقلّد الرقاب من در علومه النفيس ما شئت من تدقيق وتحرير، فاق به الجهابذة النحارير، وما شئت من أدب يملأ المحاضر، ومتانة علم تخلدت آثارها في بطون الدفاتر، تحريراته في المذهب النعماني بالديار التونسية هي التي عليها اليوم العمل، وكم له في ذلك مما يبلغ به المتحري في دينه غاية الأمل، وقد كتب على شرح الشيخ قاسم لمختصر المنار الأصولي شرحاً بديعاً، وشرح رسالة الشيخ لطف الله الأرزويلة في الترتيب بين الفوائت، وكتب رسالة في شرح عبارة الدرر في الطير ورسالة نيل المنى في استحقاق المشترى بعد البنا، ورسالة القول الأسد في حكم الميت في الوقف من غير ولد، ورسالة تحقيق المقال في حكم المغارسة والاستنزال، ورسالة تحقيق المناط في عدم إعادة الساباط، ورسالة حسن الحط على توهم جواز الاحتجاج عندنا بالخط، ورسالة فيما يلحق من الطلاق المردف، ورسالة فيما يرجع فيه الدافع عن غيره وما لا يرجع، ورسالة الوفا بأحكام بيع الوفا، ورسالة في السفينة التي استؤجر ملاحها على تبليغ متاع لموضع معين فغرقت هل له أجر أم لا وسماها "طلوع الصباح على المتحير في أجر الملاح". وقد قرظها والده شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الأول بما نصه: حمداً على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي لا يمكن بالعد أن تستقصى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي الشرف والكمال، وعلى جميع أصحابه والآل. وبعد فقد أجلت فكري في مطاوي هذا الورق، الذي هو باسم الورق أحق، فألفيته أنبأ عن فكر ألمعي، وذكاء لوذعي، إذ أخذ بجميع أطراف مسألة السفينة، وتمكن بمتعلقاتها مكنةٍ مكينة، وصدق فيها المثل السائر، "كم ترك الأول للآخر" أشكر الله تعالى على هذه النعمة الحميدة، شكراً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، أن أهّل ولدي ثمرة عمري، وجلاء بصري، لهذا الجمع الغريب، والأسلوب العجيب، في التفرقة بين المخطئ في هذه المسألة والمصيب، فرفعت أكف الابتهال، إلى الكريم المتعال، في أن يمتع المسلمين بطول وجوده، ويفيض عليه سحائب كرمه وجوده، ويوفقه لما فيه رضاه، ويتولى حفظه في دنياه وأخراه، انتهى. وآدابه قد خلدت آثار البلاد، بأبدع طريقة تستجاد، فقد نظم ملوك الدولة التركية بتونس، وشرح نظم المفتين الحنفية خاصة بها وشرحه المذكور هو الذي دعاني إلى تحرير هاته العجالة ولكن أقول: [البسيط] وابنُ اللّبون إذا ما لزّ في قرنٍ ... لم يستطع صولة البزل القناعيس استغفر الله أن أكون محاكيه، وأين الثريا من يد المتناول. وكتب رسالة في التعريف بنسبهم البيرمي أودعها جميع ما مدح به هو وما قاله من الشعر الرقيق مما أغناني عن ذكر ذلك هنا. ونظم سلاطين آل عثمان، وله نثر وشعر رقيق يرزي بكأس الرحيق. وقد قدمه والده لمشيخة المدرسة العنقية وخطبة الجامع اليوسفي وقد أخذ عنه خلق كثير وانتفعوا بعلمه. وفي صبيحة يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة 1192 اثنتين وتسعين ومائة وألف قدمه الأمير علي باي لخطة القضاء فأحسن القيام بها وتحرى لدينه فكان من قضاة العدل إلا أنه لم يرض البقاء على تحمل أخطارها واستقال منها بمكتوب بديع كاتب به الأمير وهذا نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 "أما بعد حمد الله مقيل المستقيل من العثار، وغافر ذنب التائب بعد الإصرار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه المختار، وحبيبه المصطفى على المرسلين الأخيار، المنتقى من أطهر عنصر ونجار، وأظهر بيت سؤدد وفخار، وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار من المهاجرين والأنصار، والدعاء للمقام العليّ، والفخر الجلي، الظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار، ذي الدولة التي هي في جبهة جبين الدهر غرة، وفي قلادة لبّته درّة، وفي معصمه سوار، الطالع بدرها في أفق السيادة وفلك السعادة أمناً من السرار بجعل الملك كلمة باقية في عقبه إلى يوم القرار، فيا مولانا خلد الله تعالى على حضرتكم الشريفة سوابغ الإنعام، وأدام ظلالها الوريفة على الخاص والعام. ولا زلت ملجأ القاصدين، ووجهة الراغبين، إني قصدت مقامك العلي للإقالة طالبا، وفي رفع يدي عن خطة القضاء راغبا، مقدماً شرح حالي لدى السيادة العلية، مؤملاً من فيض فضلها بلوغ الأمنية، فليكن في شريف علم مولانا حرس الله مجده، وصان سعده، ولا أرانا فقده، أني تقلدت هذه الخطة، ودخلت في هذه العهدة البعيدة الشقة، بعد أن سبق بذلك القضاء الغالب، والقدر الذي لا ينجو من طلبه هارب. وذلك أمر سطر في الكتاب، وإنما العبد مجيب للقدر لا مجاب، على علم مني بصعوبة مداركها، وضيق مسالكها، وكثرة عطب سالكها، غير أن الإجمال ليس كالتفصيل، والكثير في نظر البعيد قليل. وما أمكنني إذ ذاك مقابلة أمرك المطاع، بالرد والامتناع، بل إن ذلك عقوق، لما للسيادة علينا من الحقوق، تأنف من أن تتلبس به هنا طباع لها في باب رعاية الحقوق، مع أن طلبتي الآن للإقالة، أولى من الامتناع في تلك الحالة، فإن اللائق أن أكون للمقام العلي طالباً لا مطلوباً، وراغباً في فضله لا مرغوبا. فقبلتها والقلب مني راجف، والدمع على الخدين واكف، فلاقيت من وصبها ليل السليم، واستقبلت من نصبها ما يعلمه السميع العليم. فما صفا لي منذ تقلدتها يوم، ولا ذاق جفني بعدها حلاوة نوم، وكيف لا وهي الفيح التي تتيه فيه القطا ويقصر عن سلوكه مديد الخطى. هذا مع ضعف جسدي، وقلة جلدي، ونهوك جسمي، وشمول النحول لحمي وعظمي، وأنّى لمثلي ممن لم يذق لذة شباب، لتوالي علله وأوصابه، والقيام بهذا الأمر العظيم، ومعاناة الخطب الجسيم، فمكثت فيها هذه المدة قابضاً يدي على الجمر، مستسلماً لمن له الخلق والأمر، ثم إن الضعف بي لشدتها قد زاد، والنحول لهولها أربى على المعتاد، والفساد تدرج في المزاج وقد ألهى عن العلاج وحين رأيت الصحة رجعت مني القهقرى، وجند صبري ولى مدبرا، وسحاب المرض عليّ متراكما، وما كان من عرضه مفارقاً عاد لازما، قلت أفيء لمولاي الذي تفضل بإسداء نعمتها، ليتطول علينا رفع كلفتها، حتى يكون أيده الله تعالى جامعاً فيها بين عطيتين، منعماً عليّ فيها بنعمتين، وفضل هذا عندي أعظم، وشكري عليها أوجب وألزم، فإن خلاص العبد من هذه العهدة، هو لديه حديث الفرج بعد الشدّة والذي لا يحلف به المسلم كاذبا، ولا ينجو من درك الحنث في القسم به ذاهباً أو آيباً. ليس لي فوق هذا المطلب مرام، سوى من الله تعالى علي الموت على الإسلام. على أنه لو لم يكن لي عذر المرض، وما طرأ بالجسم منه وعرض، ففي المنقول عن إمامنا أبي حنيفة، بوأه الله تعالى إلى الرتب المنيفة، أن لا يترك القاضي على القضاء أكثر من سنة كي لا ينسى العلم، هذا والرجال رجال وقته أولو التحقيق والفهم، فكيف بنا والحال ما هو معلوم، وهل تقاس الحصباء بالنجوم، مع أني قد بلغت الحد المعدود، بل تجاوزت الأجل المعهود. فها أنا قد شرحت للمقام العلي باطن أمري، وللحضرة السامية بينت عذري، وتوسلت في تبليغ المرام، وإرواء الأوام، بالسادات الأنجال الكرام، بدور الليالي وشموس الأيام، أبقاهم الله بهجة للزمان، متحلياً بهم سرير الملك والإيوان. والمعهود من تلك الحضرة أسماه الله تعالى وأعلاها، وأدام على الأنام غمام نداها، أن لا تردّ فيها الوسائل، ولا يخيب لديها سائل، فاجبر أيها المولى الكبير وفك المعاني والأسير، وارحم العليل، وبرد له الغليل، وانظر بعين الشفقة لجسم بال ترشقه من كنانة الألم نبال، واغتنم دعاء صاحب هذا الحال لمقامكم العلي في أطراف الليال. [الطويل] أقلني فقد ضاقت عليّ مذاهبي ... وأثقل مني الظهر ما أن حاملُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وجاوز ما قد حل في كلّ غايةٍ ... وعند التناهي يقصر المتطاول ودعني أدعو والأنامُ تجيبني ... بآمين إذ تصغى لما أنا قائل بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبرية شامل اللهم يا مفرج الكروب، وكاشف الخطوب، ومقلّب القلوب، قلّب لنا قلب مولانا لإجابة هذا المطلوب، وإنالة هذا المحبوب المرغوب، إنك أكرم من أجاب الدعا، وحقق ظن من توجه إليه وسعى، وأفضل الصلاة والتسليم (وأكمل التبجيل المحفوف بالعظيم) على سيدنا المخصوص بعموم الشفاعة، تلك الساعة، وعلى آله وصحبه الغيوث النافعة، أن تيسر لنا ما نرومه ونرجوه، فأنت أكرم من توجهت إليه الوجوه. أهـ. وعند ذلك أقاله الأمير من خطة القضاء يوم الأحد الرابع من رجب الأصب عام 93 ثلاثة وتسعين ولازم بث العلوم في صدور الرجال، غير أنه لم تمض عليه العشرة الأشهر حتى استعاده لخطة القضاء فعاد إليها يوم الإثنين السادس والعشرين من ثاني ربيعي سنة 94 أربع وتسعين واستمر على كرهه للخطة قائماً بأعبائها، وفي شهر ربيع الأول سنة 97 سبع وتسعين أعاد الكرة إلى طلب الإقامة وكتب في ذلك مكتوباً بديعاً أجابه عنه الأمير بما اقتضى إبقاءه بعد المراجعة واستمر على خطته حتى كانت مدة مباشرته نحواً من الاثنين والعشرين سنة. وقد امتحن في الطاعون الجارف سنة تسع وتسعين ومائة وألف بفقد خمسة أولاده وزوجته وأخته وقد قال في ذلك: [الوافر] إذا فكّرتُ ما فعل الوباء ... بأولادي وضاقَ بيَ الفضاءُ أقول لئن غدوتُ الآن فرداً ... ففي الله الكفاية والرّجاء وبعد ذلك كاتبه والده في التزوج فأعلمه أنه ترك التزوج حيث أيس من الولد. فكتب إليه والده "لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" (87 يوسف) وزوجه بابنة الفلايح فرزق منها بولده العالم وقد عاش حتى رآه في خطة الفتيا ورأى ولده عالماً. ولما توفي نقيب الأشراف الشيخ عبد الكبير الشريف قدمه الأمير حمودة باشا لنقابة الأشراف سنة ست ومائتين وألف، وقد علمت مما سبق أن له نسبة في الشرف النسبي زيادة على الشرف العلمي. ولما توفي شيخ الإسلام والده قدمه الأمير حمودة باشا (لنقابة الأشراف سنة ست ومائتين وألف وقدمه) لخطة الفتيا يوم السبت سابع المحرم من سنة 1215 خمس عشرة ومائتين وألف فأولاه مفتياً ثانياً وأقام في الفتيا إلى أن توفي شيخ الإسلام البارودي فقدمه الأمير لخطة مشيخة الإسلام ثاني ربيعي سنة عشر ومائتين وألف، فنهض لها نهوض زعيم، وبذل في خدمة العلم الجهد العظيم، ونظم من مسائل الفتاوي كثيراً وحرر كثيراً من الرسائل، في مهمات المسائل، وله رسالة جليلة في صحة الرجوع عن الوصية الملتزم عدم الرجوع عنها نحا فيها منحى الاجتهاد وجمع بين مذهبه ومذهب المالكية ثم عرضها على علماء عصره المالكية فكتب عليها العالم الشريف الشيخ محمد المحجوب مقرظاً بقوله: [الطويل] إليك فخذها درةً في نظامها ... فريدة فذِّ العصر بل وأفخمُ حباك بها فرعُ العلوم محمّدٌ ... كما أصله فرد الكمالات (بيرمُ) هما فاضلا عصريهما وكلاهما ... به مذهب النعمان جذلانُ يبسم ولما تبدت بان للحق وجههُ ... فأصبح منثوراً وقد كاد يهدم ولمْ لا وقد وافت بجند دلائل ... تلاه من التحقيق جيشٌ عرمرم تعاضد فيها المذهبان وحبذا ... وفاق بلا خلفٍ بدا فهو أسلم فجوزي بالحسنى وقوبل بالرضا ... من الله في يوم رضا الله أعظم وقرظها الشيخ أبو محمد حسن الشريف بتقريظ بديع وهذا نصه: حمداً لمن أقام لتبيان أدلة الشريعة أقواما، ونصب لتوضيح مشكلها أعلاما، وصلاة وسلاماً على من قررها أكمل تقرير، ثم على من بلغها لمن جاء في الزمن الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وبعد فقد وقفت على هاته الرسالة التي يرحل إليها، والفوائد التي يعوّل في بيان المعاني الغوامض عليها، الفرائد التي لا يلفت إلى ما خلفها ولا يقبل إلا على ما بين يديها، وتأملتها بعين الإنصاف، ولحظت ما اشتملت عليه من بدائع الأوصاف، فوجدت لسان التحقيق قد نطق بفضلها، وحاكم الانقياد قد قضى برفعة محلها، ورأيت نقودا لا سبيل لصرفها عن الصواب، وأسئلة يعسر عنها فتح باب الجواب، وأبحاثاً قد شهد ميزان الامتحان برجحانها، وصدق الاختبار بفضلها عند امتحانها، ومسائل قضاياها محفوظة من النقض، وأبكار مزاياها محروسة عن الفتك والفض وتصاريف إلا عن الإجادة مصروفة، وبمنع الموانع معروفة وموصوفة، فدلت على جودة جواد منشيها، وىذنت بصولة أنظار مبدعها ومبديها، وأنه مفرد العصر، وعلامة هذا المصر، فلله در ناظم عقودها، وراقم برودها، فقد جلا عليها للأبصار ما شاء من زين، وجلا عن البصائر ما شاء من رين، ما تصدى فيها لبحث إلا بثته بغاية البيان، ولا وجه جياد آرائه إلى غاية إلا كانت مطلقة العنان، فيا لها من غرر مجد في وجه الزمان ساطعة، ودرر فضل في جيد الزمان لامعة. [الطويل] سرتْ غرراً تزري من الحسن أنجما ... وعن درّها ثغر العلوم تبسّما عجبتُ لها في جنح ليل تطلعتْ ... وما استندت إلا إلى الشمس منتمى عقيلة فكر قلد الحسنُ جيدها ... وصاغ لها حليّاً وعقداً منظما أبتْ أن تجوب الترب إلا ترفعا ... فما وطئت إلا بدوراً وأنجما وضاءت بأذن الجهر شنفاً وأشرقت ... محاسنها في الثغر منه تبسما وجرّت ذيول التيه عن حامل الربى ... فأزهرت بأزهار الرياض تنسما بأيّ حجا صيغت فقد أعجز الحجا ... وأفحم معناها الفحولَ تفهما؟ ترنّم إعجابا بها الدهر ناطقا ... وأعرب حتى قيل: ما الدهر أعجما أبان لسانُ الحق فيها رسوخه ... وأفصح فيه العلم عنهُ مترجما يراها فيزري ذو العلوم بنفسه ... ويقسم جهراً أنه ما تعلما فلو كان للسر المكتم سلّمٌ ... لكانت لما استخفى من العلم سلما بني العصرِ إذعانا فمن كان قبلكم ... ومن بعدُ يأتي لو رآها لسلما قد استخلفتها الكتب في العلم كله ... كما استخلف النعمان في الفقه (بيرما) رسالة محمود المقام (محمّدٍ) ... لحق على إعجازها أن تسلما مقدمة إذ قدم الله ربّها ... محكّمة إذ كان هو المحكّما ولا غروَ أن كان الأخير فإنه ... إذا ذكرَ الأعلامُ عدّ المقدما فتىً كرمت آباؤه وجدوده ... فهم مرهم في الفضل منهم لآدما إليهم لوى علم الشريعة لائذاً ... بهم والتقى فيهم أناخَ وخيّما ولا مثلُ مأثور الكمال محمد ... هدى أوْ جداً أو عزة وتكرما إمامٌ به الفتيا أطيلَ عمادها ... وأرسيَ حتى جاوز الأرض والسما حبا الدينَ إفضالاً به الله منعم ... به حرم الإسلام قد عز واحتمى بأسرع من لبّى وأدفع من حمى ... وأنفعِ من أسدى وأرفع من سما وأعظم مقداراً وأقدم مفخراً ... وأفخم آثاراً وأعلى وأعلما تذكرك النعمان غرُّ علومه ... وآدابه تنسي (الوليد ومسلما) تقيّ لو ألقى جملة من عظاته ... على كافر من حينه عاد مسلما ولوْ ميت جهلٍ أمّهُ لأعاده ... حياة وما أمَّ المسيحَ ابن مريما إليك تنهى التحقيق في العلم وانتمى ... إلى كل فضل من إلى علمك انتمى أرى كل ما ألَّفت معتنياً به ... من الناس من عانى العلوم وعلما ولو كان مسبوقاً لما افترقوا له ... وكم زائدٍ علماً على من تقدما فخلّدتَ من غيث من العلم نافع ... متى خص غيث عم أوضن أنعما ولا زلت في كل المعاني نهايةً ... وغايةُ من عاداك حطُّ إذا سما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولا غرو كونه في التحقيق، كعبة يحج إليها، وللتدقيق، عمدة يعول عليها، إذ قد انتهى في المعارف إلى أقصى أمدها، وكرع في بحرها لإثمدها، وملك أعنتها، وقاد أزمتها، فعلا قدرا، ولاح في سنا السّناء بدرا، وصار أولئك الصدور صدرا، وبالجملة فلسان القلم في وصف مدحه قصير، ومن أتى بأبدع مقال فإنما آتٍ بيسير. قال بفمه، وزير بلسان قلمه، العبد المسربل بسرابيل الخطا والأوزار، الراجي للتنصل منه رحمة العزيز الغفار، فقير ربه اللطيف، حسن بن عبد الكبير الشريف، أصلح الله حاله، ونعم بالتقوى باله، آمين. أهـ. وقرظها الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الطويل] كأنّك تهوى أنّ عذلك ينفعُ ... وهلْ كان عند الصب للقول مسمع إذا كان من ذاتي رجوعي إلى الهوى ... فما نفع قولي: إنني لست راجع وهل وقع الملزوم يوماً ولم يكن ... للزمه في ساحة الكون موقع؟ لذاك تراني كلما شمت بارقاً ... يسابقه من برق وجدي أدمع فأمّا إذا تبدو محاسنُ (بيرم) ... فكيف تر الحربا إذا الشمسُ تطلعُ سماءُ علوم كلما لاح لامعٌ ... تقفّاه منها ألمعٌ ثم ألمعُ وبحرٌ فهوم يزدري الدرُّ عندها ... على أنه للنقل والعقل مجمع وفي هذه الحسنا التي برزت هنا ... بألوانِ حسنٍ للمنازع مقنع بدت للمنى روضاً وللعين قرة ... وفيها الذي عن ذا وذلك أنفع فجاءت تهادى لا سوى السحرِ غنجها ... ولا ما سوى ماء الوسامة برقع ترى بين معناها ورقّة لفظها ... عناقاً على نولْ الطبيعة تصنع إذا اختصم النعمان فيها ومالك ... تقول لكل منهما فيّ منزع ومهما ادّعاها العقل ردّ اختصاصه ... بها نصّ قولٍ بالحقيقة يقطعُ وإن تفخرِ الفتيا بها فلكم بها ... لأهل القضا من تاج عز يرصع فسبحان مختار الإمام محمّد ... لها وهو أدرى أيّهم هو موضع وكيف وبيتُ الدين والعلم بيته ... وللمجد والتقوى مصيفٌ ومربع وهيَ القرون المستطابة هديها ... على سنّة فضلى لها الدين مبدع عفافٌ على وجد وعفو بقدرة ... وجاهٌ ولكن لم يدنسه مطمع وخفضٌ على رفعٍ وتليينُ منطقٍ ... على أنه للصّلد في الحق يصدع وفضل ثبات ما الرواسي رواسخاً ... لديه إذا طارتْ نهىً وهي وقّع وقدرٌ تمنّى النجم نيل محله ... فكيف ترى من في الثرى فيه يطمع؟ إلى ما يفوت العد من كل حلية ... بها شمل أشتات الكمال مجمّعُ فدمْ واحداً لا من يضاهيك في الورى ... وعزك موصول وأمرك يسمع ولا تحتقر شعري وإن كان دونكم ... فقدركمُ من أبلغ المدح أرفع ولكننّي حاولت شرح مودةٍ ... وشافع شعري في الوداد مشفع وأزكى سلامٍ من سليم مودةٍ ... عليك بريحان الرضا يتضوّعُ وأجابه الشيخ محمد بيرم الثاني عن ذلك بقوله: [الطويل] بدتْ وهي أبهى من ذكاء وأرفع ... عقيلةُ فكر للمحاسن مجمعُ تشير بطرف اللّخط فاتن ... له كل أرباب الصّبابة خضّعُ لقد جمعت ما بين رقة لفظها ... وقوة معناها وذلك أبدع ولكنّها حلّت من الفضل عاطلاً ... وليس له في ذلك الروض مرتع فحاولت نفسي أن تقومَ بحقها ... وتشربَ من كأس أدارت وتكرع فألفيتها وافتْ وعمريَ مدبرٌ ... ولم يبقَ مني للصبابة موضع وحال جريضي عن قريظي فلم أطق ... أجاوب عنها بالذي فيه مقنع فحسبي دعاءٌ للذي صاغ تاجها ... بما هو في الدنيا وفي الدين ينفع وقرظ الرسالة المذكورة الشيخ أحمد البارودي بقوله: [الرمل] لؤلؤٌ نظّمَ أم درّ نثر ... أمْ سنا الفجر جلا وجهَ السحرْ؟ أم وميض البرق جنح الدّجى ... جاءه الغيثُ بماء منهمرْ؟ أم شعاعُ الشمس يتلوه ضيا ... في رياضٍ؟ إنها نورُ الشجر لا ولكن نورُ علمٍ ساطع ... سافرٍ عن وجه شرعٍ منتشر بمقولات الهمام المرتضى ... وتعاليلٍ بقولٍ مختصر من فنونٍ تقصر الأفهام عن ... درك ما استخرج عنها بالفكر فوجوه الحق منها تنجلي ... أنّ وجه الحق يجلى بالنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قل لمن رام المعالي يقتفي ... إثرَ من قدّم من سنِّ الصّغر ذلك ركن الشرع فينا (بيرمٌ) ... وابنُ ركنٍ للفتاوي مشتهر عمدةُ الفتوى عماد للهدى ... وإمامق كالإمام المنتظر أفريدَ العصر حاوي السبق في ... مذهب النعمان موصولَ الأثر كنت من بيت شريف وله ... من شريف الشرع ركنٌ معتبر يا ولاةَ الأمر شرعاً أذعنوا ... محض الحقُّ فهل من مدّكر هكذا المختارُ للفتوى فمن ... شاء فليؤمن ومن شاء كفر من يقل في الناس خلفاً يأتنا ... بكتاب مثل هذا مستطر واتل قول الله في تنزيله ... ما جزاء التقي فيمن ذكر عانك الله ولا زلت المدى ... ناصراً للحق مأمون الغير هاكها عذراً عروساً تجتلى ... مهرها منكم قبولٌ مغتفر فاقبلوها واقبلوا عذراً لها ... إن من عذري لكم بشر إن أكن قصّرتُ في قولي فما ... فضلكم يقصر عمن يعتذر وقد ألف رسالة في عدم فسخ الإجازة بموت المؤجر له وقرظها أيضاً الشيخ أحمد البارودي بقوله: [الخفيف] أقبلَ الفجر صادقاً مستنيرا ... ودجى اللّيل عنه ولّى حسيرا فبشمس الهدى أتانا بشيراً ... ولمحق الظلام جاء نذيرا فظلام الضلال أعمى تولى وضياءُ الهدى تراه بصيرا مثل ذاك الهدى فتاوى همامٍ ... في سماء العلوم يبدو منيرا حلّ من مشكلاتها معضلاتٍ ... بعد ما الطّرفُ باء عنها حسيرا كل من أمّه ليروي علوماً ... عنه يلقي عليه درّاً نثيرا عالمٌ عامل تقيٌّ عفيف ... صائب الراي يافعاً وكبيرا ذلِكمْ (بيرمٌ) محمدُ ابنٌ ... لسميّ له الكبير شهيرا مثلكم من يكون نجل همام ... أيّ ذلك الهمام فاسأل خبيرا ما على النجل من جناح إذا ما ... شابهَ الأصل فاضلاً أو حقيرا فنتاجُ المها يلدن مهاة ... وحوايا الحمير يلفى حميرا وحبوب الحصيد قوتٌ وذخرٌ ... وحصيد السّباخ يلفى حصيرا كل من كان من كرام أصول ... فكريماً تجدْه طلقاً بشيرا ومتى كان من وضيع أصول ... فعبوساً تراه أو قمطريرا يا كريم الأصولِ يا خير نجلٍ ... طاب أصلاك فانتشرت عبيرا فرّج الله عنك ما كان محصى ... ووقاكم بما صبرتم سعيرا وجزاكم بجنة الخلد عمّا ... جئت بالحق ناصحاً ونصيرا لا عدمناك للمفاخر فخراً ... أو عماداً ودمت فينا أميرا وبحسن الختام ندعوه ربّاً ... نرتجي عفوه عفواً قديرا وصلاتي على النبي وآل ... كلما سامرَ السميرُ سميرا وسلامي عليه ما أنشدونا ... أقبل الفجر صادقاً مستنيرا وأجابه الشيخ محمد بيرم الثاني بقوله: [الخفيف] جلبت إذ بدتْ إلى العين نورا ... وإلى القلب بهجةٍ وسرورا بنتُ فكر تسبي العقول بفكرٍ ... فاترٍ في الفؤاد يلفى قديرا شنّفت مسمعي بصوت رخيمٍ ... زاد عقلي سماعهُ تحريرا وأتت من بديعها بمعان ... وبيان أنستْ بذلك (جريرا) وكستني من نسجها ثوب مدحٍ ... جوهري ولا أقوال حريرا لست أهلاً له لكنه الح ... ب يغضُّ عن الحبيب ستورا ربها الباروديُّ أحمد من قد ... أدرك السبق للمعالي صغيرا طرفاه إن أرسل الطرف ولّى ... عنهما خاسئاً وولى حسيرا فأبوه وعمه وأخوه ... وكذا خاله حووا تصديرا فقهاءٌ أجلّةٌ وهو أيضاً ... مثلهم هل ترى لذلك نظيرا ولقد رمت أن أجيب وهيها ... ت وقد أصبح اللسان قصيرا فتوالي السّقام أخمدَ فكري وأعاد الصحيح مني كسيرا والذي هكذا بعيدٌ عن النظ ... م وإن كان بالقريض بصيرا فاقبلن عذره وعدّ قصوراً ... منه فيما أتاك لا تقصيرا وجزاه رب البرية عنها ... فوق ما ترتجون منه كثيرا بنبي الهدى عليه صلاة الله ... ما عانق الغماما ثبيرا وعلى الآل كلما قال صب ... جلبت إذ بدت إلى العين نورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقد عمّر الشيخ في خدمة العلم الشريف إلى أن بلغ الاثنتين والثمانين سنة، وختم له بالسعادة فأحب الله لقاءه، فتوفي أواخر ليلة السبت السادس عشر من جمادى الأولى سنة سبع وأربعين ومائتين وألف، وتبرّك الأمير والمأمور بحمل جنازته، عليه رحمة الله. وقد رثاه الأديب الفاضل الشيخ عبد الرحمن الكامل بقصيدة قال في مطلعها: [الكامل] فيم امتناعكُ للتراب بدارا؟ ... ولقد عدمت من السرور قرارا وأرخ وفاته الفاضل أبو الثناء محمود بن باكير بقوله: [طويل] ألا قف برمسٍ داعياً بتوسّل ... وكن تالياً أمّ الكتاب المنزّلِ تيقّنْ ولا تغفلْ عن الموت لحظةً ... فماذا بأولى منك فيه وأمثلِ وما أنت في دنياك إلا مسافرٌ ... فكل أوانٍ مشعرٌ بالترحّلِ سقامٌ وعسرُ بعد يسر وصحة ... دليلُ الفنا يغني الفتى عن تأمّلِ تزوّد لما بعد الممات من التّقى ... كما جاء في نص العزيز المرتّل وخص برزء الموت أن عزّ أهله ... وعمّ البرايا رزءُ هذا المفضّل إمام سما فوق الثريا مقامه ... وأضحى ضجيعاً بين ترب وجندل وقادت له فخراً ومجداً عناصرُ ... لهم نسبٌ ينهى إلى خير مرسل هدايةُ أهلِ العلمِ وهو كمالُهم ... بتحريرِ تقريرٍ وبين مشكل وبحرٌ محيطُ لكن الدّرّ لفظهُ ... ضيا إن بدا في غيهب الجهل ينجلي تآليفه جمّتْ وعمّت بنفعها ... كما عمّنا نفعُ السراج بأليلِ عيون أحول الشّرع منه تفجّرتْ ... ففاقت بعذب سائغ كلّّ منهل لقد كان في المفتين صدر شريعةٍ ... كوالده السامي على كل معتلي هما مجمع البحرين في العلم والتقى ... فسادا وحازا كلّ فضلٍ بأكمل فأمطرهما ربيّ شئابيب رحمة ... وأنزلهما الجنات يا خير منزل بخير الورى حقق دعاء مؤرخ: ... (لبيرم في الجنات أرفع منزل) ورثاه أيضاً العالم الفاضل الشيخ محمد الخضار بقوله: [الوافر] يروعُ الدهرُ بالهممِ الأبيّه ... ويكدي بعد أن يهب العطيهْ وينزل من أعنتها الدّراري ... إلى تُرب مبلقعةٍ خليّه وأيّةُ نسمةٍ تبقى بحال ... إذا انتشبت بأظفار المنيه وهل يبقى على الحدثان باقٍ ... سوى الذات المقدّسة العليّة هوى الدهر الخؤونُ برأس طود ... من الأطواد ليس له ثنيّه وزلزلَ من قواعده أصولاً ... لها في الدين مرتبةٌ سنيّة نعى الناعي لنا العلمَ المكنّى ... (بيرم) فانطوى الإسلام طيّه نعانا نجمه الأسمى ولكن ... نعى نفس العلومِ الألمعيّة إمامٌ كان في العرفان بحراً ... وما للبحرِ أن يحوي حليّه فكم نظم الجواهر في طروس ... تترجم عن مداركه الخفيّة وكم أجلى العماية عن سؤال ... يطول البحث فيه بلا رويّه ولا طاشت لفكرته سهامٌ ... ولا كذبت لحجته قضيّه فضاقت بعده الدنيا وكانت ... رزيّتنا به فوقَ الرزيّه ألا يا زائراً جوزيت خيراً ... فلا تنسْ الدعاء ولا التحية جزاه الله في الفردوس داراً ... من الدار المكدرة الدنيّه وهنأه السرورَ بما حباهُ ... من النعماء محتسباً هنيّه ولما فارق الدنيا وكانت سجايا المتقين له سجية 19 الشيخ مصطفى البارودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 هو أبو النخبة الشيخ مصطفى بن محمد بن حسين بن إبراهيم البارودي، فرع شيخي الإسلام. قرأ على والده وعلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث والشيخ صالح الكواش وغيرهم من علماء ذلك العصر، وتقدم على صغره إماماً ومدرساً بالجامع الباشي سنة 1207 سبع ومائتين وألف، وكان ضعيف البدن متمارضاً. ولما توفي والده قدّمه الأمير حمودة باشا إلى جميع وظائف والده من مشيخة المدرسة الشمّاعية وخطبة جامع باردو وإمامة الجامع الباشي والفتيا يوم الجمعة الموفي عشرين من ربيع الثاني عام ستة عشر ومائتين وألف والمرض يومئذ يصاحبه فأقام على تلك الوظائف. وكان ذكياً عالماً فقيهاً فصيحاً حسن الصورة خيّراً إلى أن عاجله الحمام رطباً فتوفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شعبان الأكرم عام 1219 تسعة عشر ومائتين وألف، وقد رثاه شاعر عصره العالم الشريف الشيخ أحمد رزوق الكافي قاضي المحلة بقوله: [الطويل] على النيّرِ المكنونِ في طيّ أكفانِ ... بدورُ العلا تبكي دماملَ أجفانِ بها ما دها العلياءَ من فقد مصطفى ... وأسمى بينها من هموم وأحزان سقى جدثاً واراهُ واكفُ رحمةٍ ... وروّاهُ من سحب الرضا صوب هتّان على مثل ذا المفتي الجليل تأسّفي ... يجدّد مهما قد تولّى الجديدان فتى كان كالنعمان فقها وإنما ... بلاغته أبدته في شكل (سحبان) وكان خبيراً بالنوازل عالماً ... بمبدأ كل من حديثٍ وقرآنِ فلو شاء أفتى في العلوم برأيه ... ولكن أبى الإفتاء إلا ببرهان فمنْ للعلا من بعد فقدان بدرها ... أصيبتْ إذاً في العين منها بفقدان؟ ومن لعلوم الدين بعدَ أفوله؟ ... وما كان إلا شمس رشد وتبيان؟ وأن يبكي المحرابُ والمنبرُ الذي ... علاه فمن شجو بكاه الجديدان مضى مصطفى البارود (ي) والمجدُ مصطفى ... وحيداً من الأشباه ليس له ثانِ وكان الغنى للعادم المال والمنى ... [تجود له] يمناه والقصد للعاني وما عاد من نشر الفخار لطيّه ... فإن غاب والآثار منه لإعلان ولكن إلى المولى أناب فخصّهُ ... بطيب رضا أوفى وعفو وغفران لذلك لما مات قلت مؤرخاً ... (لمفتٍ منيفٍ مصطفى طيبُ رضوان) 20 الشيخ أحمد البارودي هو الشيخ أبو العباس أحمد بن حسين بن إبراهيم البارودي تربى في حجر العز والترف، وحمل على كواهل العلوم إلى أعلى الغرف، فقرأ العلم الشريف والده ورافق أخاه شيخ الإسلام في القراءة على شيوخه، وانفرد بالقراءة على الشيخ محمد بيرم الأول فقرأ عليه قطعة من الأشموني وقطعة من الملتقى وقرأ على الشيخ محمد الشحمي شرح التهذيب للخبيصي. ثم جلس للتدريس فأجاد بتقرير عذب، ولسان غضب، ولي الإمامة والخطبة بالجامع الجديد بعد وفاة والده في ذي القعدة الحرام سنة ست وثمانين ومائة وألف، ثم ولى تدريس المدرسة الجديدة والمدرسة العنقية. ما شئت من فصاحة لسان، وحسن بيان، وترتيل في تلاوة القرآن، وحسن رواية لأحاديث سيد ولد عدنان، يسحر الألباب بثاقب فهمه، ويرمي الأغراض فلا يخطئ صائب سهمه، وله قريحة في نظم الشعر، مع الثروة التي تنعم بها وتجمل منها بفضل العطاء والإهداء الذي استرق به الأحرار من ذوي النهي. وله همة عالية، ومفاخر غالية، يركب الخيل بالسروج المحلاة ويلبس أفخر لباس. خرج للتداوي بحمام الأنف فأرسل إليه الوزير يوسف صاحب الطابع ألف محبوب فرد بها الرسول وقال له قل لسيدك لو أرسلت لنا مركوباً أو مملوكاً لقبلناه منك هدية أما المال فإنّا والحمد لله عندنا ما يكفينا فيمكنكم أن تتفضلوا به على من هو محتاج إليه. وقد راوده الأمير حمودة باشا على خطة الفتيا عدة مرات وهو يمتنع ويقسم أن لا يقبلها ويقول له إنه عنده ولله الحمد ما يغنيه عن تحمل أخطارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ولما توفي ابن أخيه المتقدم حلف المتقدم حلف عليه الأمير فأولاه الفتيا يوم الأحد موفى شعبان الأكرم عام 1219 تسعة عشر ومائتين وألف، فأضاف له عند ذلك خطبة باردو ودروس التجويد ودرس الجامع الباشي، فقام بإمامة باردو قياماً كلياً وباشرها بنفسه فزان المنبر والمحراب، وأتى في تلاوته وروايته ودرايته بالعجب العجاب، وقد هناه بتلك الولاية يومئذ شاعر البلاد وصديقه العالم الشريف الشيخ أحمد زروق بقوله: حقّ الثناء لأحمداً ... ولمثله أنْ يحمدا بدر العلا الباروديُّ من ... له في العلا أقصى مدى [الكامل] لك في العلا شرفٌ علا وفخارُ ... ومآثر شهدت بها آثارُ لبستْ بها وبك الليالي بهجةً ... حتى استوى ليلٌ بها ونهار وملأتها عدلاً ومعرفة بدا ... للدين منها وبينك استبشار وهدى أنرت به الشرائع فاهتدت ... فينا بصائرُ واجتلت أبصار حتى لقد سعدت بك الأقطار وازْ ... دهرتْ الأعصار والأمصار وحبتك أبكار الثناء وعونه ... فيما تطرز وشيه الأفكارُ ورأتك منفرد الكمال فأقسمت ... أن لا ترى أنظارك الأنظار تأبى المعالي ثانياً لك في العلا ... وتجلُّ عن ذا قدرك الأقدار ما ثاب من زمن الأعادي معشر ... مما أتيت من العلا المعشار عجز الأفاضل عن علاك فسلّموا ... لك ما أتاه لغيرك المقدار علموا بأنك خيرهم كرماً فإن ... جاروك في قصبات سبقٍ جاروا قصرتْ على علياك ألسنةُ الثنا ... وطوالها عما تنيل قصار لعظمتَ حتى لا يوافى فضلكم ... ما كرّرتْ من مدحه الإعصار وسمت لعزّك في المعالي همّةٌ ... شمّاءُ دون سموّها الأقمارُ شمساً طلعت فما انجلت لك بهجة ... حتى علاها من علاك نهار أخذت حظوظُ المجد فيك حقوقها ... وازدان منك على الفخار شعار ما لُحتَ في أفق المعالي نيّراً ... إلاّ ليعلَم للعلوم منار يا فخر تونس واكتمالَ بدورها ... لولاك ما اجتنب البدور سرار أنت الكفيل بعزّها ولعزها ... حيث اعتزالك في الخلود قرار لم يدركنهُ الفخر حتى لحت في ... كبرائها، والفخر منك يُعار فأعرتها شرفاً لها بمعيره ... تيه على الأكفاء واستكبار ها أنت تاج في سما أفلاكها ... شرفٌ به لا لؤلؤ ونضار ونظمت للمجد الخطير فريدةً ... عقداً وإنك درّه المختار وجمعت شمل المعلومات فأصبحت ... جاراً يعز كما يعز الجار ورعى اهتمامك بالمكارم سرحها ... فنظمتها كالدر وهي نثار رتب علوت العالمين بجمعها ... ويجمعها تتفاوت الأقدار بعلاك أوصاف الفخار تشرفت ... حتى كأنك للفخار فخار قد تفضل الأوصاف من موصوفها ... وبحسن لابسه يزين إزار كصفات أحمد فهي طيب ثنائه ... وشذاه وهي ثناؤه المعطار بدر العلا البارود (ي) صدر بدورها ... من قد علته هيبةٌ ووقارُ العالم العلم الشهير النير ... الفرد الذي عنّت له الأنظار ذو السيرة الغراء والحكم الذي ... نصرته من آرائه الأنصار مازال أحمدُ في شريعة أحمدٍ ... محمودةٍ من سيره الآثار حتى استنار به الهدى وأنار في ... أفق الشرائع من هداه منار وثقت يد النعمان منه بغاية ... في الفقه دون بلوغها الأنظار رأي له في الاعتقاد رشاده ... يهدى به كلّ الورى استبصار من كان مثل أبي حنيفة ماله ... إلاّ اعتقاد الأشعريّ شعارُ بحرٌ وأين النهر من تياره ... في بحر علمه تغرق الأنهار هو (ملتقى البحرينِ) من علم ومنْ ... أدبٍ طمعاً له فيهما تيار كل يقول لعلمه ولشعره ... هو (أحمدٌ) في شعره (بشار) (كابن الحسين) ابنُ الحسين وقلما ... تتماثل الشعراء والأشعار أو ما ترى الدّرر التي قذفتْ بها ... أفكاره سحرتْ به الأفكار تغدو المنابر تحته بسماعها ... معتزةً ولو أنها أحجار ويراع في يده اليراع وكيف لا ... وهي البحارُ ومن ذكائه نار الماجد الأعلى الجليل المجتبى ال ... معطاء والمتفضل المكثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 مفتي الأنام وشيخها ورئيسها ... نهر العلوم وروضها المعطار مجلي غوامض ما يخوض عبابها ... للفكر إدراك ولا إشعار مستحضر أغناه عن تكريرها ... نظرُ الطروس لكلها استحضار وكأنّ فكره في الذكاء موقّد ... وكأنّ كفّهُ للعطاء بحار تروي أنامله الأنامَ بجودها ... فكأنّما هي ديمةٌ مدرار لابن الحسين محاسنٌ ومحمدٌ ... شغفت بها الأسماع والأبصار ذا المجدُ فيه وفي أبيه وراثةٌ ... إذ هو منه ومن أبيه شعار يا ابن الألى ملأ البسيطة مجدهم ... وتعطرت بنسيمه الأقطار مثل البدور تدفقاً ... وتألقوا كالشمس ثم أناروا ركبوا العزائم للمكارم والعلا ... فلهم على صهواتها استقرار نفحت بهم وبذكرهم حلل الثنا ... فها بهم ولهم بها أعطار هم خير من لاقوا وأحمد خيرهم ... وأبوه فهو من الخيار خيار حزتم بني البارودي كل فضيلة ... فزتمْ فخصّكمُ بها المقدار وأرى العلا داراً لها أبناؤكم ... وبنوهم تأوي لتلك الدار رفعت بكمْ رتبُ الكمال فأصبحتْ ... أمماً وفيها أنتمُ الأقمار في القرب منكمْ كيمياْء سعادة ... في ضمنها تتيسّرُ الأوطار لم يعتصم بكمُ فقير بائس ... إلا وسار له غنى ويسار أو ينتسبْ لكم وضيعٌ خامل ... إلا سمتْ لسموه الأبصار فخراً أبا العباس إنك سيد ... شهد الأنام بها ولا إنكار ولئن اقرّ بها العداة ففضلكم ... يأبى لكم أن تكفر الكفار أضمرتُ فيك مودة أولى بها ... وأحقُّ من إضمارها الإضمار أخفيتها حذر الوشاة فمذ طما ... تيارها ظهرت وغاب حذار حباً أكون من الشهود وصدقه ... بشهود حبك ما لهم أعذار وجعلت يمنك في يمين توجّهي ... ورجوت أن يرقى بها السيار أربٌ يبيت سواك يملكني به ... فالحر تملك رقّه الأحرار أنت الذي أحييت آثار الجدا ... والفضل منك بدا له إيثار وعلمتُ ما لم يدر ما طرق العلا ... فغدا ودرهم فضله دينار وجرى على آثار سبقك كم جرى ... بطل فعاقه عن مداك عثار هيهات لو ركب الرياح سوابقٌ ... ما شق إثرك للحاق غبار بك خصّصَ التمييزُ لما ميّزتْ ... أقدارَ أربابِ العلا الأقدار فغدوت أنت كبير أهل الفضل ال ... كبراء إن نسبوا إليك صغار ما كل من نار الولاية محرزا ... شرفاً ولا كلُّ إليه يشار بعلاك يختتم الكمال وإنّما ... بمديحكم تتنقل الأخبار وقد أقام صاحب الترجمة على وجاهته ووظائفه واحترام، يباشر الوظائف على أحسن الوجوه ثم استأذن الأمير حمودة باشا في التوجه إلى حج بيت الله الحرام سنة 1127 سبع وعشرين ومائتين وألف بقصيدة وهي قوله: [الطويل] إليك رسولَ الله شوقي يسنّدُ ... وفرطُ غرامي فيك ما خلتُ ينفذُ وإن فؤادي في هواك متيم ... وجفني قريح ليس يرقى فيرقد فسل عن غرامي فيك مرقاة منبري ... يصدّقها المحراب والدمعُ يشهد وسل مربعي من بعد ذاك ومضجعي ... وما كنت ألقى في هواك وأسهد فقربك مطلوبي ووصلك بغيتي ... وإن زاد شوقي فيك لا شك أفقدُ فعد لي بوصل إنّ بعدي مضت به ... صنونُ وإني في غراميَ مبعدُ فيا ليتني إذ كنت فيها مواصلاً ... حبيبي وفي محرابه كنت أسجد يجيب مناجاتي ويرحم عبرتي ... ويؤنسني قرباً لأنّي مفرد وأسمعه القرآن ذلك وحيه ... وأتلو عليه ما تلا وأردد وأنشده مدحاً لحسان مسنداً ... [فذو العرش محمود وهذا محمد] وبت أناجي الله ربي وإنني ... لأشكره وصلي وإني لأحمد وفزت بقربي منه بالأمن والمنى ... وساعدني دهري وما كاد يسعد فشط مزاري بعد ذاك وليتني ... بلحد بذاك الترب فيه موسّدُ فلله ما ألقى من الوجد كلما ... ركاب له زفت وإني لمقعد وإن فصلت عير بقصد ديارهم ... وجدت له ريحاً وقالوا مفنّد سلام على تلك الديار ومن بها ... ففيها ديار للحبيب ومعبد سلام على محراب مسجد وحيه ... ومن قام فيه ليله يتهجّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 سلام على تلك البطاح من الربى ... وإن لها نوراً يرى يتوقد سلام على تلك الليالي وليتها ... تعود وما ظني بها الآن تبعد يقول لي العذال فزتَ بوصله ... وأدركت ما تبغي وما كنت تقصد فقلت بعادي بعد وصليَ زادني ... غراماً وشوقي اليوم فيه مجدّد فخلوا سبيلي إنني أطلب الدوا ... لعل دوائي فيه تحظى به اليد فوجهت آمالي إلى باب سيّدٍ ... يرقُّ لحالي رحمةً ثم يسعد هو الملك المولى الحميد مآثراً ... فحمودة باشا السعيد المؤيد فأشكوك يا مولاي شوقي لبعد من ... غرامي به لا زال في الناس ينشد قصدتك فضلا منك ترحم عبرتي ... رضاك الذي أبغي به أتزود لوصل رسول بعد حج وعمرة ... فأبلغه منك السلام فتسعد وأسأله عند اللقاء شفاعة ... إليكم وملكاً دائماً ليس ينفد فحقق رجائي فيك يا خير سيد ... وأنجد ولا تمنع فإنك منجد وإني ختمت المدح فيه مصلياً ... على من به ختمُ المديح ينضّدُ سلامي عليه كلما هبت الصبا ... وما قام في أيكٍ هخزارٌ يغرّد فلم يأذن له فاستعطفه ثانياً بالقصيدة الطويلة وهي قوله: [الرمل] أركبُ الصّعب ولا يستصعبُ ... ومقامي بمقامي أصعبُ وعتادي باعتنائي لكم ... راحتي الكبرى وذلك المطلب وهو أني بهوائي شرف ... وانتظاري بلقائي يعزب ولذيذ العيش بالبعد له ... من مذاق الصبر طعمٌ مكربُ كريه منه بقرب لكمُ ... نعمة عظمى ورزق طيب يعذب العذب ولكن إن تكن ... علة بالذوق لا يستعذب فزلال الماء في ذوق الذي ... هام فيكم علقم لا يشرب جرعةٌ من مائكم تكفي وإنْ ... لم يكن زادٌ كفاني العشبُ أولا أعزُب من ذكري لكمْ ... بمديح، وهو مما يعجب؟ لا ةعمر الله ما يفضله ... من مذاق الشهد عندي مشرب تنجلي بالمدح فيكمْ فكرتي ... لمعانٍ ليس عنها يرغب لم تكنْ عندي ولا في طاقتي ... بل ولا عنها مديح يعرب خالطَ الشوقُ غرامي فبدا ... لي ممّا لم أكن أحتسب كلّما يذكرني ذكركمُ ... هزّني من جانبيَّ الطّربُ يا بنات الحيّ من ذات القنا ... يا غصونَ البانَ لا تحتجبوا حمّلوا البدر سناءً منكمُ ... إنّني أرجوه إذ ما يقرب يا بدوراً أشرقت في ناظري ... دونكم هذا فؤادي فاغربوا وهو وقف عليكم حبس ... أفترضون به إذ يخرب؟ من حقوق الحب ما عنه احتوى ... جفن عيني حب قوم أغربوا من حقوق الحب ما عنه احتوى ... جفن عيني حب قوم أغربوا واقبلوا في الرق أيضاً خبّةً ... فارحموا إن شئتمُ أو عذّبوا كل فعل منكم عدل متى ... إن يكن رقي إليكم ينسب أقبلوا رقي ففيكمْ كرمٌ ... وارحموا ذلي فأنتم عرب أدركوني يا عريب المنحنى ... أدركوا صبّاً إليكمْ يرغبُ أسرعوا لي إنني مضنى بكم ... قبل أن أقضي ودوني الحجبُ لا تقولوا إنني أسلو الهوى ... ما لقلبي في هواكم تعب ليس ما أرجو ولا بي مطلب ... غير ما أني له مرتقب من رضاً عني وعفوٍ، إنه ... من جميل العفو أن لا تغصبوا متِّعوني وصلكم أو شرّفوا ... من هواكم بذلوا ما كسبوا لكن الحكمُ الإلهيُّ اقتصى ... قرب أقوام وقومٍ تحجب فقلوبٌ قاسياتُ أبعدت ... وعقول راسخات تجذب وعيونٌ ساهرات أمِّنتْ ... وجفونٌ نائمات ترهب ومطايا صافنات أتعبت ... لخطايا مثقلات تنهب في سطور بخطايا سطِّرتْ ... بمدادٍ من دموعي تكتب فلسانُ الحال فيها كتبت: ... يمّمُوا لنجداً فنعم المذهب هذه الكثبان منها قربتْ ... وإلى طيبة يسعى الطيب أطيب الأيام يوم قيل لي ... فيه هذي طيبةٌ والكثب هذه طيبةُ دارُ المصطفى ... عينها الزرقا لديكم فاشربوا هذه حضرة من قيل له ... ليلة الإسراء: أنت الأقرب هذه الرحمة حامت حولكم ... مزنها الهامي عليكم صيّب هذه جنة عدن فتّحت ... لكم الأبواب منها فاقربوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وحسانُ الحور منها أقبلت ... لتّحييكم وفيكم تخطب برزت غلمانها يدعوننا ... يا حجيجاً أكرموا من يركب فترجلنا وأركبناهمُ للمطايا عزّ ما قد رغبوا إنهم من حي من تهواهمُ ... ولعينٍ ألفُ عين ترغب فتسابقنا لأبارِ على ... نستقي منها ومنها المشرب ودخلنا الباب نبكي خشيةً ... من ذنوب كثرت لا تحسب فتنادينا: ظفرنا بالمنى ... وإلى باب السلام اقتربوا فولجناه وما منّا فتى ... قابل الحجرة إلا يرهب فترى القوم سكارى ما همُ ... بسكارى إنما هم أرهبوا من خطايا معضلاتٍ عظمت ... حسبوا أنَّ بها تنقلب علموا الذنب ولكن جهلوا ... عفو خير الخلق عمن يذنب وتوجهنا لوجه المصطفى ... بدموع من عيون تسكب فوجدنا قومه حفّوا به ... فهو في حجرته محتجب بستورٍ وشّحت من نوره ... حجب الشمس علينا الكوكبُ من وراء السّتر فيها نائم ... لا تقولوا ميتاً لا تكذبوا إنما الميت من عاش ولم ... تكن الحسنى إليه تنسب إنما من مات لا يشفع في ... من جنى وهو شفيع مرغب لكن الرسل الكرام انتقلوا ... للعلا ما همْ إليه رغبوا ورسول الله فينا طيّبٌ ... وهو منا ناظر لا يحجب يا رسول الله جد بالعفو ول ... يبقَ مني في حماكم مقرب بعد علمي أنّ ظهري مثقلٌ ... بخطيئاتٍ وأني مذنب وذمام الحب لولا أنني ... واثق بالحلم ما أقترب إنَّ ترباً خصَّ من بين الثرى ... لخطى أقدامكم منتخب لا أراه لخطى أقدامنا ... كلّما تخطو جفانا الأدبُ إنما حقَّ لذاك الترب أن ... تشتفي منه عيون تسكب بدموعٍ تخمد النار التي ... في فؤادي حرها يلتهب لبعادي من ديار أشرفت ... ورسول الله فيها يصحب كان لي فيها مقام سبقتْ ... لي بها الحسنى ومن قبلي أبُ لم يكن إذ ذاك من يمنعني ... من حبيب بل ولا لي مآرب غير ما أصبوا إلى روضته ... أجتني من خير ما ينتخب فمن القبر إلى منبره ... روضةٌ تقصر عنها الرُّتب بتُّ فيها ليلة ما مثلها ... من شهور الدهر ألفُ تحسب وتوجهت إلى محرابه ... قمت أقضي بعض [ما قد] يجب وانقضى ليلي به منفرداً ... وصفا وقتي ممن يرقب صبحوني عندما الفجر بدا ... نوره فيها ونعم المصحب لم يكنْ لي شغفٌ إلا بهم ... منهمُ قومي ومنهم عرب لا سوى حبهمُ عنديَ بل ... أكرم القوم لديَّ العرب إنهم لي سادة فيهم بدا ... سيدُ الخلق ومنهم ينسب وهو خير الأنبياء والرسل منْ ... جاءت الدنيا له تختطب فتولّى معرضاً عنها وما ... ناله منها نصيبٌ يحسب يا رسول الله أشكو فرقتي ... فدوائي عنكم لا يصعب يا رسول الله غوثاً إنما ... مطلبي من غيركم لا يطلب وكذا شوقي وأيم الله لا ... ينقضي حتى تماطَ الحجُب فإذا لم تستقم لي عودةٌ ... عظم الكرب وبان العطب يا بدوراً طال بعدي عنهمُ ... ورجائي فيهم لا يعزب قمت فيهم طول ليلي ساهراً ... أرصد النجم متى ينقلب يا لصحب بديار بعدت ... وإلى خير رسولٍ قربوا جاههم أرجوه عند المصطفى ... لخلاصي جاههم لا يغلب واسألوا الرضاءَ من طاعتهُ ... بكتاب الله شرعاً تجب ذلكم حمودة باشا الذي ... ساد فينا منه جد وأب فخرُ فحلٍ لعلي المرتضى ... لحسين بن علي ينسب طيبٌ من طيبٍ من طيب ... وإذا ما طاب فهو الطيب سيدٌ من سيدٍ من سيد ... فانتهى فخراً إليه الحسب ذهب خلص من تبر وهل ... خالصات التبر إلا ذهب هكذا المجد وإلاّ لا تقل ... مثل ذاك المجد مجد يحسب دونكم مولاي قولاً جامعاً ... لمعالي المدح مما يعجب باختصارِ اللفظ سهلُ نشرهِ ... كلما حاولته لا يحجب فخرهفي كلمٍ حررتها ... بمقول صادق يستعذب ذلك فخر القول لا ما أطنبوا ... بالذي يغري إليه الكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لا تقل مولاي إني موجزٌ ... مدحكمْ ربَّ مجيزٍ مطنب كنت مولاي رفعت لكمُ ... بمديحي منه قصدي يعرب لا أعيد القولَ في ذا إنما ... أثقلُ القولِ معادٌ يكرب أبتغي منكم جواباً بالرضا ... تنجلي منه لديّ الكرب فإذا لم تسمحوا واحسرتي ... آزفات آزِفات ترعب إنني قدمت مدح المصطفى ... بين أيدي مدحكم أستوهِب لك ما يرضيك منه عاجلاً ... وكذا في آجل لا ترهبوا إن باب المصطفى يفتح في ... وجه منْ أمّ إليه يرغب صل يا رب على من بعثت ... فيه بعث الأنبياء والكتب وعلى آلٍ وصحب والرضا ... عن جميعهم ومن هم صحبوا واسق يا ربّ ثرى تربتهم ... كلما بالغيثِ تهمي السحب وارض يا رب على ناظمها ... أحمد البارود باليا ينسب وارحم اللهم شيخي والدي ... وكذا والدتي لا عزبوا وأدِم حلمك في مذنبنا ... كلنا ذاك، ومن لا يذنب؟ واختم العمر جوار المصطفى ... ليكون الحشر فيمن يصحب وأذن له فحج بيت الله الحرام، ورجع مغفور الآثام، وصار الحاج أحمد ابن الحاج حسين ابن الحاج إبراهيم فثلاثتهم قد حجوا وزاروا، وإلى دار النعيم صاروا، فتوفي عليه رحمة الله ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شوال سنة 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن بالمرسى جوار ضريح الشيخ سيدي عبد العزيز المهدوي رحمه الله ورثاه العالم الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل] عش ما تشاء لذاذة وحبورا ... إن القصور ستستحيل قبورا يا غافلاً لم ينتبه لمذكّرٍ ... أفما كفى داعي المنون نذيرا كم من رفيع في أسرّةِ عزّه ... خفضوه في ذل التراب أسيرا وبموت أهل العلم أبلغ واعظ ... يهدي إلى كون الحياة مرورا وهنا اعتبر بضريح أحمد كم طوى ... بمغيّب في طيه منثورا غربت لبارودي بهون محاسن ... يا طالما أشرقن فيه بدورا قد كان في وجه المحافل غرةً ... وعلى المنابر قسها المشهورا ولطالما قرعت زواجر وعظه ... صمّا وكم ذا قد شرحن صدورا أمّا إذا يتلو الكتاب فإنّه ... يهدي لأموات القلوب نشورا عظم المصاب به وأحرى مذهب الن ... عمان إذ لهداه كان نصيرا ركدت رياحُ زئيره فكأنه ... ما كان ليثاً في الرجال هصورا إن يمض فهو سبيلنا ومنِ الذي ... كتبتْ له يمنى الخلود ظهيرا لبّى المنادي واستجاب لربه ... يرجو رضاه فضله الموفورا يا رب حقق فيه قوله مؤرخ: ... (ألقاه وجهك نضرة وسرورا) 21 الشيخ حسين برناز هو الشيخ أبو محمد حسين بن مصطفى برناز، ولد سنة أربعين ومائة وألف، ونشأ في طلب العلم، فقرأ على أعلام عصره كالشيخ صالح الكواش ومن عاصره، وختم الدر المختار على الشيخ مراد بوسيكة وقرأ صدر الشريعة على الشيخ حمودة باكير والشيخ حمودة البرادعي. وتقدم للفتيا ببلد منستير وخطبة جامعها الحنفي. ثم لما طال به المقام طلب رفع يده من خطط المنستير ورجع إلى تونس وجلس للإشهاد فعدَّ من ثقات العدول ودرس الفقه ومبادئ النحو بجامع الزيتونة وولي الإمامة والرواية بالجامع اليوسفي وخطبة جامع القصر. ثم لما ولي الفتيا الشيخ محمد بيرم الثاني تقدم عوضه لخطة القضاء يوم الجمعة الثالث عشر من المحرم 1215 خمس عشرة وقضى نحو خمس سنين في الخطة المذكورة، غير أنه كان غرّاً كريماً فقدمه الأمير حمودة باشا لخطة الفتوى يوم وهو يوم عيد النحر عاشر ذي الحجة الحرام عام 1219 تسعة عشر ومائتين وألف، وتولى خطيباً في جامع القصر عام 1224 أربعة وعشرين ومائتين وألف. وكان فقيهاً فاضلاً تقياً خطيباً فصيحاً حسن الاعتقاد كثير الزيارة للصالحين محسن الظن بالناس لا يتكلف شيئاً وقد بلغ الهرم حيث بلغ من العمر إلى ثمانية وثمانين عاماً وتوفي عند الفجر من يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شوال سنة 1228 ثمان وعشرين ومائتين وألف، ودفن من الغد بالسلسلة وقد رثاه العالم الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الرياحي بقوله: كل الورى هدف لسهم حمامِ ... حكم جرى حتى على الحكامِ كيف الدوام وكل شيء هالك ... لنزيل دار غير ذات دوام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فاعمل لنفسك صالحاً تلقاه إذ ... يصحو الورى من سكرهم بمنام وانفض يداً من هاته الدار التي ... سحرت بأحلام ذوي الأحلام وهي التي وعظت، وحسبك واعظاً ... موت العلوم ونقلة الأعلام انظر إلى هذا الضريح وما حوى ... من عالمٍ علمٍ وبحرٍ طامي بحر من التحقيق قلّد درّه ... نحرَ الطروس أنامل الأقلام كنز من التدقيق كم حلى به ... درراً من الإفتاء والأحكام هذا الإمام حسين العلم الذي ... نظم التقى والعلم أيّ نظام يا (مجمع البحرين) يا (برناز) من ... أبقيت نوراً في دجى الإظلام قد كنت مصباح الهدى وصباحه ... وجمال وجهِ محافلِ الأيام إن غبت عن نظر العيون فلم تزل ... بين الجوانح في أعزّ مقام يهنيك ما خلفت من شكر وما ... قدمت من ذكر لنيل مرام لا غرو أن يحوي المنى فضلاً وفي ... تاريخه: (حصل الهنا بختام) 22 الشيخ أحمد بن الخوجة هو الشيخ أبو العباس أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة، جده علي من بلاد الترك بوظيفة خوجة حج بيت الله الحرام وامتحن بفقده ولده محمد بفتح أوله غير أنه تسلى بحفيده حمودة المذكور، فتبناه واجتهد في التعليم، فقرأ العلم الشريف وكانت له في العسكرية وظيفة أولظاش على عهد الباشا علي وسافر بالأمحال مع ولده الأمير يونس باي، وكان في المحلة لا يتخلى عن إقراء الفقه لعوام العسكر الحنفية بعد صلاة العصر حتى اتفق أن يونس في بعض الأيام افتقد كثرة دوران من العسكر فسأل عن سبب انزوائهم فقيل له إنهم يقرؤون الدرس المذكور، فتعجب من أمر الأولظاش وطلبه للحضور ليختبره بمحضر إمام المحلة ولما حضر ورام اختباره أذنه بالمحاورة مع إمامه بمحضره ليتبين حاله وكان اليوم يوم جمعة فبادر الشيخ لسؤال الإمام وقال له إن هذا اليوم يوم صلاة جمعة فهل هي رخيصة أو عزيمة، فلم يجد الإمام جواباً وإنما قال للأمير إنه عالم يستحق أن لا يبقى على الخدمة العسكرية فأرسل الأمير لوالده بخبره وطلب سراحه فقبل غيره عوضاً عنه وأخرجه من العسكرية فلازم خدمة العلم الشريف إلى أن تقلد خطة التدريس بجامع يوسف داي، وفي أمر ولايته أنه يقري ما شاء. وهذا دليل واضح على سعة علمه وذلك على عهد الأمير علي باي في أوائل رجب من عام ثلاثة وثمانين ومائة وألف وخطب بالنيابة وكان كثير الخشوع عند الخطبة يغلبه البكاء وله في الدرس تحقيقات عقلية ونقلية، وصفه بذلك رضية، وقد كانت وفاته سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف، ورثاه الشيخ محمد بن سعيد النجم بقوله: كل امرئ نحو الممات سبيله ... سيان فيه عزيزه وذليله يفني الذي حرم القضاء ومن له ... تاج يعض جبينه إكليله لم يبق إلا ما قضت كل النهى ... ببقائه وأتى به تنزيله فليحذر الإنسان أن يغترّه ... من زخرف الدهر الخئون جميله وليعتظ بمصاب كل مسجّدٍ ... قد كان للصنع الجميل يطيله لا سيّما حمودة بن الخوجة الأ ... سمى الذي ما ريء قط مثيله قمر الدروس ومن إذا وقف الورى ... في مشكل لم يعيه تأويله يبدي المسائل مثل غصن ناضر ... والبحثُ في مثل النسيم يميله كم لاح فوق ذرى المنابرِ وعظه ... وانهلَّ في محرابه ترتيلهُ وجرى على ثوب الدجى من جفنه ... دمع لخوف الله كان يزيله حتى أجاب إلى ضيافة ربه ... جمّ الرجاءِ أمامه تهليله فاغفر له ربيّ وزده وأعطه ... ما لا يجول بفكره تأميله وأجب دعاه إذ يقول مؤرخاً: ... (هب لي قري من لا يخيب نزيله) ونشأ ولده صاحب الترجمة بين يديه، وقرأ المبادئ عليه، ثم على أعلام عصره كالشيخ أبي الفلاح صالح الكواش قرأ عليه المطول وصدر الشريعة والمغني وغيرها، وقرأ على الشيخ حسونة بن خليل الحنفي والشيخ محمد بن سعيد النجم ومن لطائف أستاذه معه أنه عند وفاة والده استدعاه ليلة الأربعين وكانت ليلة مطر فكتب إليه معتذراً بقوله: أبا العباس لا تعتب فإني ... بعيدٌ عن مزلاّتِ العتابِ أن نجم وهل أبصرت نجماً ... تبدى نوره ليل السحابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وتفقه عن شيخي الإسلام البيرمي الثاني والشيخ قاسم المحجوب وغيرهما من علماء جامع الزيتونة وتصدى للتدريس بعد التحصيل، فبنى تعليمه على أصل أصيل، ونهض للتحقيق والتحرير، وسلك مسلك النحارير، فكان لدرسه فخر يذكر، وتدقيق على بساط المعارف ينشر. وتقدم لإمامة جامع محمد باي المرادي خطيباً وإماماً ومدرساً بعد وفاة الشيخ محمد الترجمان فولّي يوم الثلاثاء تاسع ربيع الثاني سنة 1211 إحدى عشرة ومائتين وألف ولازم به التدريس، وقلّد لبة الألباء در علومه النفيس، وولي مشيخة المدرسة الشماعية عوضاً عن الشيخ محمد البارودي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة 1219 تسع عشرة ومائتين وألف، وأقرأ بها علومه الشرعية. وقدمه الباشا حمودة لخطة القضاء صبيحة الاثنين يوم عيد النحر من عام 1219 تسعة عشر ومائتين وألف فأحيا رسومها، وداوى كلومها، وأقام لها بتثبت ودين وفضل، وحكم فصل، ولازمها نحو العشر سنين. ولما توفي الشيخ أحمد البارودي تقدم للفتيا عوضه في ثاني ذي القعدة الحرام عام 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف وأفاد السائل، بتحقيق المسائل، وتصدى لبث العلم بالتدريس والتأليف، وقد شرح منظومة المحبي في المذهب الحنفي شرحاً بديعاً. وهو أول من سن الاجتماع على ختم البخاري بالجامع في شهر رمضان والكتابة على الختم، واستدعى لذلك أمير عصره حمودة باشا، وكان لا يتخلف عن ختمه، وتحضره جميع العلماء وتجري بينهم المباحثة إلى نهاية الدرس وقد وقفت له على ختم بديع ختم به سنة 1225 خمس وعشرين ومائتين وألف كتب فيه على باب مشروعية التهجد بالليل أطال فيه البحث مع شيخ الإسلام أبي السعود في تفسيره وحرر فيه مباحث يعز تحريرها على غيره واستدرك التحارير على نجم الأيمة ابن سعيد ما حرر به مبحثاً هاماً من حواشيه على الأشموني. ولمكان نفاسة هذا الختم قرظه العالم الشيخ محمد بن قاسم المحجوب بتقريظ لم نر له غيره من الشعر وهو قوله: [البسيط] لله هذا الذي قد راق وابتهجا ... ومنهج الحقّ والتحقيق قد نهجا محكّم النسج لا يخشى معارضة ... لأنه بيد الإتقان قد نسجا نزهت فكري في أفنان ما غرست ... يد الذكاء [به] مستنشقاً أرجا لمْ لا وواضعه فردُ الزمان ومن ... بعدله منصبُ الأحكام قد لهجا قاضي القضاة وفخر العصر منصبه ... من التقدم معروف لكل حجا أوضحت فيه أبا العباس مجتهدا ... وجه التهجد حتى قام مبتهجا لا أغمد الله سيفاً أنت مصلته ... من العلوم وفي صدر الحسود شجى ولا برحت كذا في كل قابلةٍ ... تقلد الختم من أنظاركم حججا وقد أخبر الشيخ أحمد بن حسين باش مفتي المالكية أنه كان يقرأ عليه مختصر السعد فأورد عليه بعض الحاضرين كلام المطول في ذلك البحث وتوقف فيه، فأخذ الشيخ من يده كراس المطول وتأمل المبحث ملياً ثم قرره وقرر كلام السيد وعبد الحكيم عليه هنالك وزاد تقارير أخر من عنده كأنما كان ذلك هو موضوع الدرس وذلك من غاية تحصيله. وناهيك به من عالم ما شئت من علم ودين وفضل وإنسانية وقناعة وأناة وكرم نفس وتواضع مع علو همة وعدم تصنع، له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية، وقد نفع بها كثيراً من علماء الحاضرة. وقد تنوقل خبر شرف أصله عن غير واحد من معاصريه في تلك الأيام حتى تواتر ذلك عند نقيب الأشراف في ذلك العصر وكتب كتابة تتضمن ثبوت شرفه لديه وقفت عليها مؤرخة في التاسع والعشرين من المحرم سنة 1257 سبع وخمسين ومائتين وألف. ولم أر له من الشعر غير بيتين أجاب بهما أحد أحبته وذلك أنه زار منزل الشيخ محمد المولا فأنشد في ذلك قوله: [الخفيف] أيها الحبرُ من سما أوج عز ... مثل بدر التمام حل بروجه زرتني من مودة ذاتِ صدق ... بدم القلب بقد بدت ممزوجة قلت إذ زرتني: وإنك في تا ... ريخنا: (أنت أحمد بن الخوجة) فأجاب الشيخ عن ذلك بقوله: [الوافر] مقام نشرُ عنبره عظيمٌ ... ومنه البدر حسناً مستعيرُ وأشرق نوره فلذاك قلنا ... وأرّخنا [مقامك مستنير] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ولم يزل صاحب الترجمة بين إمامة وخطابة وتدريس، وفتوى تدير على أسماع رواتها كؤوس الخندريس، إلى أن أتاه محتوم الأجل، ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف، ورثاه الشيخ محمد بن سلامة بقوله: [الطويل] هو الموت حتم لا محالةَ صائرُ ... ومن ورده كل ابن آدم صادرُ وهذا سبيل الناس طرّاً فما ترى ... سوى سائر يقفوه بالإثر سائرُ وما الناس إلا كالركاب إلى الرّدى ... يسير بهم من سابق الغمر ضامر يغر الفتى غض الزمان وما درى ... بأن جفون الحادثات سواهر وتخدعه الأيام حيناً فسلمها ... وأسيافها عند التمام بواتر تمرُّ به كفُّ التناول حيثما ... تبسّم عن روض الحياة أزاهر فطوبى لمن قد كان فيها مصاحباً ... إلى طرق الخيرات، وهو مبادر كهذا الإمام الفاضل الحبر من له ... خصالٌ سمت عن عدها ومآثرُ وذاك أبو العباس من جمع الهدى ... ولكنه بين البرية نادر عنيت به ابن الخوجة العلم الذي ... على موته جفن المكارم هامرُ تردى بهذا العلم صرح وركنه ... ومات بهذا الفقه والنحو حاسر تنكرت الدنيا عليه فأصبحت ... يعرّفها عنه الثنا المتكاثر فلهفي على علم الأصول معطلاً ... ودرس المعاني بعده اليوم حاشر ولهفي على كنز العلوم تحولت ... خبايا له الأرماس فهي ذخائر فيا قبر طب قد حلَّ فيك مكرم ... وزارك [من] بحر الحقائق زاخر غدوت لبث العلم فذاً ومن يكن ... إذا ثار من صعب المسائل ثائر فمن شاء يبقى بعدك اليوم فليمت ... فأنت الذي كنا عليه نحاذر حقيق بأن تكبي البرية منبراً ... ودرساً ثوى لما طوتك المقابر لذاك الورى ناحت عليك وأرخت: ... (لنعيك درس مثل در ومنبر) ورثاه الشيخ الحاج أحمد الكيلاني بقوله: [الطويل] ألا حكم ربي نافذٌ في العوالم ... به كانت الأقدار ضربة لازم وما منحُ الأيّام إلاّ زخارفاً ... وطيب جناها زائل غير دائم فيا فوز من لم يكترث بنعيمها ... كصاحب هذا الرمس فخر المكارم إمام الورى ابن الخوجة الفذّ أحمدٍ ... همامٍ حوى مجداً رفيع الدعائم فطوبى لقبر ضم أعظمه التي ... سقاها مدى الأيام فيض الغمائم وفوزاً لأرماس به قد تأسست ... ويا فوز من فيها بمحو الجرائم لقد كان في دنياه (صدرَ شريعة) ... أبان رسوماً مبهماتِ المعالمِ وقد كان للدين الحنفيّ صارماً ... وفي الحق لم تأخذه لومة لائم فما خالف المشهور مذ كان حاكماً ... ولا همّ بالمرجوح ميلاً لظالم وفي مذهب النعمان كان هدايةً ... به يهتدى في معضلات المعاظم أيا ابن همامٍ قد نعتكم طروسكم ... ويبكى على تحريرها في المآتم لقد راح من بالفتح يهجي ويهتدي ... محلّ عويص ضلّ عن عرضِ واهم فمن (لمنار) الدين من بعد سيد ... لإيقاف تيار انتشار المظالم وأين الذي يلفى (لتوضيح) مشكل ... إذا اصطكت الأبحاث في فهم عالم على فقده تبكي المنابر دهرها ... وتبقى بحزن دائم متراكم فراح وما راحت مناقب فضلهِ ... وقد زفَّ للحورِ الحسانِ النواعم فيا رب قد وافاك يبغي رضاكم ... فقابله بالرضوان يا خير راحم وحقّق بفضل منك قول مؤرخ: ... (فقد نال الفردوس طيب المكارم) وأرخ وفاته الشيخ محمد السقاط بأبيات رسمت على قبره وهي قوله: [الكامل] لذْ بالتّقى زاداً لربك واجهدِ ... في حسنِ أعمالٍ قلب أزهدِ إذ للمنيةِ فيك سهمٌ صائب ... إن لم يصبك اليوم فاجا في غد ولئنْ تكنْ أبداً زكياً ماجداً ... ما أنتَ من هذا الإمام الأوحد هو أحمدُ بنُ الخوجة العلم الذي ... بالرمس أضحى كالحسام المعمد حبرٌ ذكيٌّ فاضل متورع ... سند الهدى مأوى سباقِ السؤدد ذو المذهب الحنفي الذكيّ إمامه ... مفتي الورى حاوي علوم محمد حكمُ البرية ذو النهى من عدله ... يلفى لدى المظلوم أعظمَ منجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أخذَ العلوم وبعضها عن معشر ... ورثوا المكارم أمجداً عن أمجدِ وغدا وسيطاً ساعياً في بثها ... بحر نفيس الدر عذب المورد أكرمْ به لمّا بدا متحلّياً ... خللاً حساناً جمّعت في مفرد قد نالها وعسى بفضل الرب أن ... يحظى جلالاً في المقام الأسعد وأفادَ ذا المأمولَ قولُ مؤرخ: ... (راقٍ جليلاً في النعيم السرمدي) 23 الشيخ محمد بيرم الثالث هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن حسين بيرم، قد تقدم أن والده أصيب في الطاعون الجارف سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف بفقد أولاده، وعزم على عدم التزوج حتى زوجه والده بابنة الشريف الفلاري فرزق منها بولده صاحب الترجمة ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول من عام 1201 واحد ومائتين وألف. وقرأ على أعلام ذلك العصر مثل والده والشيخ حسن الشريف ومن عاصرهما من جلة العلماء غير أن أكثر قراءاته كانت على الشيخين المذكورين، وقرأ على الشيخ أحمد بن الخوجة كلا من المغني والمحلي والمطول والدرر، وحثل على الرتبة العالية في العلوم العقلية والنقلية. وتصدى للتدريس فأخذ عنه فحول العلماء منهم الشيخ محمد بن سلامة، والشيخ محمد النيفر الناسج على منواله في الإلقاء إذ أن صاحب الترجمة قد اختص برتبة عالية في التدريس بحيث إنه يلقي الدرس على كيفية في التنظيم والاتساق والتحرير لا نظير لها مع حسن الأناة وإعمال النظر السديد في التحقيق، وقد أخذنا عمن أخذوا عليه، فكان شيخنا بواسطة رضي الله عنه. وكان يقرئ أولاً في جامع الزيتونة والمدرسة الباشية مع مواظبة كلية وتحرٍّ في أوقات الدرس وقد ظهرت مزيتة على أترابه، وتقدم عليهم في شرخ شبابه. وختم كتباً مهمة بالتدريس ولما ختم المختصر المنطقي للشيخ السنوسي هنأه بذلك الختم أحد تلامذة الدرس معتذراً عن التخلف في يوم ذلك الختم من شعبان سنة 1254 أربع وخمسين ومائتين وألف وهو العالم الخطيب المدرس الشيخ محمد الطيب الرياحي بقوله: [الكامل] يا سيداً سعد الزمان بسعده ... وغدا الكمال حليفَ خدمة مجده وأضاءتِ الدنيا بنور علومه ... وتوضحت سبل السداد برشده لك في الفؤاد مكينُ ودٍّ يقتضي ... لكمُ من التعظيمِ غاية وجدهِ وأوّد لو سمح الزمان فصغت من ... مدحيك ما فاقت جواهر عقده ولكمْ يجولُ الفكرُ حول حياضه ... فيذودهُ صرفُ الأسى عن ورده شغل من الأشغال ينتهبُ الحجا ... نهباً ويغمد سيفه في غمده سيّما وعندي اليوم أكثر شاغل ... أغنى المقامُ وحاله عن سرده والحقُّ أني في القضية مذنب ... جاوزت في التقصير أقصى حده وأنا بعفوك من عتابك عائذ ... مستوهب نيل الرضا من بعده ولأنت أكرم واهب وأجلّ من ... ترتاد غايات المنى من عنده لازلت موصولَ السعادة آويا ... لأثيل عزٍ لا زوال لطوده ولما تمّر جامعث الوزير صاحب الطابع بالحلفاوين قدمه الأمير خطيباً به فكان أوّل خطيب به فصلى فيه أوّل جمعة في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 29 تسع وعشرين في يوم مشهود، وحضره الأمير والمأمور فاستلان صلد القلوب بمواعظه وخطبه البليغة. وكان ابتداء بناء الجامع المذكور يوم الأحد غرة المحرم سنة 1223 ثلاث وعشرين وبنى حوله المدرسة الفخيمة والتربة والمكتب، ودفن بالتربة ولي الله الشيخ عثمان بن كرم يوم الأربعاء الموفي ثلاثين من جمادى الثانية سنة 25. ثم لما توفي الشيخ أحمد البارودي وولي عوضه الشيخ أحمد بن الخوجة قدمه الأمير عثمان باشا مفتياً في ثاني ذي القعدة الحرام سنة 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف، وكان عندما دخل على الأمير هو وشيخه الخوجي السابق الترجمة أراد الأمير أن يقدمه مفتياً ويجعل شيخه المذكور مفتياً ثالثاً فصاح به شيخ الإسلام والده البيرمي الثاني وقال للأمير كيف يتقدم ولدي على رجل طال جلوسه بين يديه للتعليم، وأمر ولده بالتأخر عن شيخه فتأخر وصار يومئذ مفتياً ثالثاً وكان سنه يومئذ دون الثلاثين سنة، فلاقى والده بولايته سروراً كان يظن أنه لا يلاقيه، والله ذو الفضل العظيم، وقد هنأه بذلك الفاضل الشيخ محمد بن نصر بقصيدة طويلة قال في مطلعها: [الكامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يهنيك يا فخر الصدور سروركم ... بولاية النجل السعيد محمد وله يومئذ مشيخة المدرسة العنقية وكانت خاربة جداً بحيث إنها صارت مرمى للأزبال فجمع ما انتشر من أوقافها وبادر إلى رمها شيئاً فشيئاً إلى أن أتم إحياءها في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وأرخ إتمامها من قال في ذلك: [الطويل] ولما انتهى البنيان قلت مؤرخاً: ... (لقد تمّها من حينه الحبر بيرم) وقد شمر رحمه الله على ساعد الجد، ولقي من مساعدة والده ما ليس له حد، فتجملت الخطة بكماله، وعد من فحول آله. وله تحاور مع الشيخ إبراهيم الرياحي باش مفتي المالكية رضي الله عنه في نازلة وأرسل له بعد المحاورة فيها النص من مختصر المنار وعندما حمله كتب إليه بقوله: [الوافر] أحطبُ بما بعثت إليّ خبراً ... من الصور المدارة كالقلاده فكان الرأي أنْ لا خلفَ فيها ... لما تحويه من حسن الإجادة فلا زلتم مناراً في رشاد ... ولكن غير مختصر الإفاده ومن ذلك أنه تحاور مع المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي الحضرة في مسألة أصولية شاع فيها بيت من الشعر ولما رجع إلى داره أرسل له الكمال بن الهمام حجة لما اختار، فكتب إليه المولى الجد بقوله: [الطويل] كمالك بدر بل من البدر أعظمُ ... وقدرك دهرٌ بل من الدهر أفخمُ وهمتك استهوته لا بتكلّفٍ ... وعلمك بحر بالجواهر مفعم ولو سأل الغمر العموم من الذي ... به يقتدي علماً أجابوه بيرم أرى مذهب النعمان منك مؤيداً ... تحررّه أصلاً وفرعاً وتحكم إذا كنت في جمع فأنت فصيحهم ... وغيرك في يوم المجامع ملجم ألا أيّها المفتي الهمام محمد ... ومن هو في فصل العويص المقدم ظفرتُ بها أرسلتَ لي من كمالكم ... جواباً به كشف الغوامض محكم يباهي لهارون الرشيد امتحانه ... أبا يوسفٍ في الحسن والله أعلم فإن ترفقني يا هند فالرفق أيمنٌ وقد خطبه الأمير حسين باشا باي في ابنته لأكبر بنيه المشير الثاني محمد باشا باي فزوجه بها وصاهره، وأظهر له من البذاخة والثروة في تجهيز ابنته المذكورة ما يتلى حديث في الحاضرة. وزفها لبيتها ليلة الخامس عشر من شعبان سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف، واتفق ليلة زفافها أن خسف القمر وأحسن العالم الشيخ إبراهيم الرياحي في تعليل الخسوف المذكور في خطاب الأمير إذ قال من قصيدة تهنئته في وصف سرور الزفاف المذكور: سما فوق السماء فلا عجيبٌ ... لغيظ البدر إذ أبدى سواده ومن ظن الخسوف بدا لشر ... فخير الخلق قد رد اعتقاده وكتب إليه يهنيه بزفاف ابنته فقال: [الوافر] سلامٌ طيبهُ كالمسك صائك ... على العلم الشهيرِ ومن هنالك ولله الذي هنّاكَ حمدٌ ... على تيسيره صعبَ المسالك فإنّك قد ركبت من المعالي ... متوناً غيرُ صاحبهن هالك فقمت لها قيام ذوي اهتمام ... لهم في نيل أفضلها مدارك وبالله استعنت فكان عوناً ... وأهلُ العلم مثلك أهل ذلك فجاءت مثل ما يهوى محب ... ينادي بالدعا اللهم بارك فيالك من هناء نلت منه ... سرورَ الوصل من حبٍّ متارك أدام الله عزك في مزيد ... وحسنك في الوجود بلا مشارك ولما توفي المفتي الثاني قدم الأمير حسين باشا باي صاحب الترجمة مفتياً ثانياً والده، أواخر شعبان الأكرم من سنة 1214 إحدى وأربعين ومائتين وألف، فاعتضد به والده واستعان بشباب ولده على مرامه ومع ذلك فإن احترامه لوالده كان عظيماً وحسبك أنه والد جسده وروحه فكان أصل جسده وعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أتاه في شهر رمضان خبر تجاسر أحد الأعراب على فلاحته بالسرقة فأتى به وسجنه فأرسل الأعرابي من السجن يشكو لوالده شيخ الإسلام الثاني فخرج والده فصادف ولده داخلاً وهو المفتي الثاني، فرام أن يقبل يده فمنعه من ذلك وصاح عليه كيف تظلم مسلماً في شهر رمضان فأخبر ولده بقصة ما صنع معه الأعرابي فلم يتريث الشيخ أن قال له وما تقول بين يدي الله إذا قال لك كيف تقضي لنفسك وهلا أرسلته للقاضي وترافعت معه كسائر آحاد المسلمين وأعرض عنه وقال له إني لا أسامحك حتى يحضر بين يدي الأعرابي ويعلمني بأنه سامحك فيما ظلمته به فخرج الشيخ وأرسل للأعرابي وأتى به واسترضاه ودخل به على والده ليعلمه بمسامحته إياه. ولم يزل باراً بوالده إلى أن أدركت والده المنية فقدمه الأمير حسين باشا إلى خطة مشيخة الإسلام ونقابة الأشراف يوم السابع عشر من جمادى الأولى سنة 1247 سبع وأربعين ومائتين وألف فزان الخطتين بعلمه وعمله، وبلغ به الفضل إلى غاية أمله، ماشئت من علم مسبوك بالسياسة الشرعية، وعمل يرضي الله ورسوله وأهل الشريعة المحمدية، ووقار تخر دونه الشم البواذخ، وكرم نفس وقدم على صراط التثبت راسخ، وحسن أخلاق عذبة المذاق، تجملت به الرئاسة، حين عطر بها أنفاسه، إذا خطب أبدع، وإذا تلا القرآن حن إليه كل من يسمع، وإن روى الحديث الشريف، أيد القلب الوجيف، وإن أملى دروس المعقول من بعد، خلت نفسك في حضرة السيد والسعد، وإن أملى الفقه والأصول، أبلغ سامعيه غاية المأمول، وإن نظم أو نثر، أراك كيف نثر الزهر وقلائد الدرر، شعره لطيف ونثره جيد. وكتائبه العلمية محررة غاية التحرير قد كتب حاشية الفواكه البدرية لابن غرس فأبدع فيها ما شاء وقرظها عمه وتلميذه الشيخ مصطفى بيرم بقوله: [الكامل] زارت وكانتْ للمتيّم سولا ... سحر التنجّزُ وعدها المسئولا وتمنّعت من أن تنال بلحظة ... وأرى التمنع في الجميل جميلا حسناءُ بنتُ معارفٍ لاحتْ على ... هامِ الزمان بحسنها إكليلا فهي النتائج لا نظيرَ لجمعها ... جمعت لنا المعقول والمنقولا سحّت على غرس (ابن غرس) فاغتدى ... لا يشتكي طولَ الزمان محولا قد أنتجتها فكرةٌ من حدها ... تنسي لديها الصارم المصقولا وأبان غرتها بياناً تحتوي ... لبيانها التشبيه والتمثيلا ذاك الهمامُ محمدٌ من قد غدا ... عقد العويص بلفظه محمولا العالم النحريرُ والحبرُ الذي ... يبدي لنا التحريم والتحليلا قد بات في كل العلوم رئيسها ... وخبيرها بخبيّها المسؤولا لو لم تكن بيني وبينه لحمة ... تعطي المكابر للعناد سبيلا لأتيت بالإعراب عن أوصافه ... وإن اقتضى في مدحها التطويلا والحقّ وضاحٌ وهل من طالب ... وسطَ النهار على الضياء دليلا لازال في حرم وعزٍّ شامخ ... ما ماس غصن بالنسيم أصيلا وكتب حاشية على شرح والده لمنار الأصول، وشرح رسالة إيساغوجي في المنطق شرحاً بديعاً أقرأناه بجامع الزيتونة مراراً، ولتحريره هممت بالكتابة عليه لإيضاح مقاصده غير أن القدر لم يساعد، وله غير ذلك من الرسائل، التي احتوت على أحسن المسائل. ولم يزل في خدمة العلم الشريف إلى أن أتاه أجله فتوفي آخر ليلة الأربعاء الثامنة والعشرين من ربيع الأول سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف، ورثاه الشيخ الشريف محمود قابادو بقصيدة بديعة مثبتة في ديوانه قال في مطلعها: [الكامل] الدهرُ حرب بالرزايا الفجّع ... وبنوه نهبٌ للمنايا الشرّع ورثاه العالم الشيخ محمد بن سلامة بقصيدة قال في مطلعها: [الكامل] الجوُّ مغبرُّ اكتسى بظلام ... لما هوى بدر العلوم السامي ورثاه العالم الشيخ الطيب الرياحي بقصيدة قال في مطلعها: [الكامل] جدتَ البلا أعلمتَ أمْ لمْ تعلما ... أن قد حويت سنا الشريعة بيرما ورثاه العالم الشاعر الشيخ محمد الخضار بقوله: [الطويل] ألا فجعَ الإسلام وارتجَّ جانبهْ ... ودجّت من الخطب المهول غياهبهُ وضاق مجال الدين رحباً فطرقه ... كأن لم تكن مسلوكةً ومذاهبه هوى نجم من زال العلا بكماله ... وما طالع إلا سيأفل غاربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فيالك من طودٍ تضعضع ركنه ... وخرّتْ إلى بطن الوهاد شناخبه قضى الله أن تعفو الرسوم وتطمس ال ... علوم وأن يسترجع الدر واهبه وأن يأخذ الناشي من الترب مصحفاً ... وإن خلقت فوق السماء مراتبه مضى ثالث الأعلام من آل بيرم ... إلى نزلٍ رحبٍ كريم يناسبه فلا كان من يومٍ به كان نعيه ... فقد هلك (النعمان) فيه (وصاحبه) إمام كسا الإسلام نوراً فأشرقت ... مشارقه من حسنه ومغاربه إذا ذكر النقاد نقداً لغيره ... فحليته منشورة ومذاهبه فمن لمصاب الدين يبكيه فيلحدْ ... بدمع، وإنْ لم يقض بالدمع واجبه وقل لبنات المجد قد بان مفخر ... لكم وإذن فليطلب المجد طالبه محمدُ لا تبعد فديناك سيّداً ... فما عنك إلاّ فاقدُ الظن ذاهبه فمن للقضاءِ الفصل والكلم التي ... إذا انتظمت بالدرّ يهواه ثاقبه ومن لبيان المشكلات بصارمٍ ... من الفكر عضبٍ ليس تنبو مضاربه ومن لفضاء الصدر إن عز مجلس ... له احتفلت يوم القضاء مواكبه ومن لبغاة العرف إن ضاق ذرعهم ... بوجه كصوب القطر تهمي جوانبه وكنتَ لمن قد غص كالماء مسعداً ... فديت فمن للماء إن غصّ شاربه عسى النسخة الغراء تجبر صدع ما ... تصدع يكسى حلة الأصل نائبه فيا تربةً واريتِ أكرمَ من مشى ... على الأرض هوناً ليس يهضم جانبه ويا ساحةَ العلياء أقفرتِ بعده ... كأن لم تحم يوماً حماك مواهبه سقى رمسك السامي مساءً وغدوةً ... نوالٌ من الرضوان تهمي سحائبه ولقّاكَ في الفردوس أكرم منزل ... تناغيك منه خوده وكواعبه ونلت الرضا ما قال يوماً مؤرخ: ... (ألا فجع الإسلام وارتج جانبه) 24 الشيخ حسن البارودي هو الشيخ أبو محمد حسين بن محمد بن حسين البارودي بن إبراهيم وهو المفتي ابن أخي المفتي وأخو المفتي وابن شيخ الإسلام فهو الخامس من آل بيتهم وثالث آبائه في الخطة الشرعية. ولد سنة أربع وخمسين وتسعين ومائة وألف ونشأ في عز آل بيته وقرأ على عمّه أبي العباس وعلى العالم الوافد من المغرب في أواخر القرن الفارط الشيخ محمد الفاسي وعلى شيخ الإسلام البيرمي الثاني وعلى غير هؤلاء من علماء جامع الزيتونة إلى أن حصل على ملكة من الفقه الحنفي وولع بالقرآن والتجويد وانتصب لبث ذلك فأخذ عنه كثير من أشياخنا. ولما توفي والده قدمه الأمير حمودة باشا خطيباً بالجامع الباشي عوض الشيخ مصطفى البارودي أخيه أواسط ربيع الثاني عام 1216 ستة عشر ومائتين وألف، ثم لما توفي أخوه أولاه الأمير المذكور إمامة بجامع باردو المعمور أواخر شعبان الأكرم سنة 19 تسع عشرة، وفي يوم الجمعة منتصف ذي القعدة الحرام ولي إمامة الجامع الباشي وتدريسه وولي أخوه الشيخ أحمد البارودي خطبة الجامع الحسيني فزان المحراب والمنبر فصاحته وحسن تلاوته وروايته. ونمكث يبث علوم القرآن والفقه إلى أن توفي المفتي الثاني الشيخ أحمد بن الخوجة، فقدمه الأمي حسين باشا مفتياً ثالثا ًصبيحة يوم الجمعة الرابع عشر من شهر رمضان المعظم سنة1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف، ثم بعد وفاة شيخ الإسلام البيرمي الثاني تقدم مفتياً ثانياً أواسط جمادى الأولى سنة 47 سبع وأربعين. ولما توفي شيخ الإسلام البيرمي الثاني قدم الأمير للرئاسة ولده رابع البيارمة وجعل كاهيته الشيخ محمد بن الخوجة ثم تقدم ثم تقدم أبو العباس أحمد الأبي مفتياً ثالثاً وابن صاحب الترجمة رابعاً لكنه لكمال ثبته وخبرته لم يؤثر عنه تأثر من ذلك، ولازم طريقته المثلى. ولم يزل مواظباً على الإقرار والتجويد بجامع الزيتونة مع خيرية ووجاهة وتواضع حسن خلق كريم وكرم نفس وعلو همة، أتاه بعض أعيان البلاد ليلة العيد متشكياً من القل فلما أراد الخروج من عنده ولم يكن عنده وقتئذ ما يواسيه فانتزع بعض ثيابه وأذنه ببيعه لقضاء حاجته. وهو معروف بالانقياد إلى الحق أن أتاه أجله بمرض لكوليرا العام فتوفي خامس من رمضان المعظم سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف وأرخ وفاته ولده العام الشيخ محمد البارودي بقوله: [الكامل] مدّت إليك موائدُ الرضوان ... وسعت بها حور مع الولدانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يا قبر من خدم العلوم دراسةً ... أحرى الفنون تلاوة القرءان إذ قد أفاد بها وأبدى دقة ... فيها وأتقن غاية الإتقان أعني حسيناً ذلك البارودي من ... ذو السؤدد الأسنى وذو الإحسان من فد عنى علم الشريعة والهدى ... فرقى به لمراتب الأعيان قد سرّ تونس ما فشا من علمه ... إفتاؤه في مذهب النعمان لكنه لما أتى في سنه ... لما نفته فسيئ بالأحزان دلت على حشر له لشعورها ... بتوقع في قابل الأزمان قد كنت أعلم نفيها الأحداث ل? ... كن قد نفت في ذا قوى الإنسان قد حل في شهر الصيام سقامه ... بالبطن أصلا قامع الغثيان في خامس من ذاك كان وفاته ... ليجيب دعوة خازن الريان لما توارى قلت في تاريخه ... (نت يا شهيد مؤَّنس القرآن) الشيخ محمد بيرم الرابع هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بن بيرام، رابع آبائه في مشيخة الإسلام. ولد ليلة الأربعاء منسلخ جمادى الأولى من عام عشرين ومائتين وألف نشأ بين يدي أبيه وجده وقرأ القرآن العظيم، ثم قرأ العلم الشريف، فقرأ على جده كتب مبادئ النحو إلى أن ختم عليه الألفية لابن مالك، وقرأ مختصر المنار وإيساغوجي والفقه والتوحيد ومصطلح الحديث وروى عنه قطعة من صحيح البخاري وأخذه عنه بسنده فيه، وقرأ على والده الشيخ محمد بيرم الثالث كتب مبادئ النحو والألفية ومبادئ المنطق والبيان والفقه، وقرأ على الشيخ ابراهيم الرياحي دروساً من لنحو والتوحيد وقرأ عليه السعد والمحلي وصحيح البخاري وتفسير القاضي البيضاوي وقرأ على الشيخ عبد الرحمان الكمال الدرة وشرح العقائد النسفية، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي الفرائض والنحو والحديث، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة شيئاً من الحساب والنحو والتوحيد. ولما استكمل تعاليمه جلس للإقراء بالمدرسة العنقية وعمره ثماني عشرة سنة، وأقرأ بجامع الزيتونة إقراء تحرير. ثم تقدم مفتياً ثالثاً وعمره سبع وعشرون سنة وذلك منتصف أولى الجمادين سنة 1247 سبع وأربعين ومائتين وألف فتجمل للحظة وتجملت به. ولما توفي والده قدمه المشير الأول أحمد باشا باي لمشيخة الإسلام ونقابة الأشراف ومشيخة المدرسة العنقية وذلك في ربيع لأول سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف، فوليها وعمره تسع وثلاثون سنة وزانها بحسن التنظيم وحفظ حقوقها وصادف أن كانت ولايته عقب وقوع الترتيب الأحمدي بجامع الزيتونة فضبطه وذب على حقوق العلماء وجمع شملهم وأجرى الأمور بجامع الزيتونة مجراها. ثم جرى على يده تنظيم المجلس الشرعي وإقامة اجتماع المجلس الشرعي وإقامة دار الشريعة المعمورة، فأنشأ الترتيب المعجول بالمعلقة التي في صدر بيت اجتماع المجلس الشرعي، وبعد أن أنجز ذلك الترتيب من المشير الثاني أنكره بعض الشيوخ وتعقبوه بكتائب، ولما بلغ خبر ذلك لصاحب الترجمة كتب إلى لسان الدولة في ذلك بقوله: [الوافر] سلامٌ نشره كالمسك فاحا ... جعلتُ لحمله طرسي جناحا إلى علم البلاغة من تسامى ... بأعلى أفقها بدراً ولاحا وبعد فإن ما حررت مما ... لدار الشرع أحسبه صلاحا وأنفذ كتبه في اللوح جزما ... وخاطبني المشير به صراحا تعقبه الشيوخ بأن فيه ... عليهم في تقرره جناحا وأبدوا في البيان له وجوها ... لدى الإنصاف لن تلفى صحاحا ولكن ما لهم ضبط قديم ... فقد كانت مصالحهم فساحا ولما ألزموا في الحال ضبطاً ... أبى كل تحمله وباحا ثم وقع العمل على إجراء ما بالملعقة المذكورة. وتقدم خطيباً بالجامع اليوسفي فزان المحراب والمنبر، وخطب من إنشائه العذب خطباً بليغة، وختم فيه الأختام العزيزة، وكان صهره المشير الثاني محمد باشا باي له معه مودة أكيدة قربه بها وأشركه في سياسة الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وجرى على يده انتخاب العدول بالحاضرة وذلك أنه صدر الإذن أولاً لكافة الشيوخ أهل المجلس الشرعي بأن ينتخب كل واحد منهم مائتين من العدول الموجودين ثم جمعت الانتخابات المذكورة عند الأمير، ومن يوجد من العدول وقع عليه انتخاب جميع الشيوخ، أو أكثرهم يثبت في العدالة إلى استكمال المائتين، ثم يؤخر عن الإشهاد ما يبقى، فكتب الشيخ جريدة بها مائتا عدل اختار غالبهم من المنقطعين للعلم الشريف، واعتمد في المشاهير من موثقي عدول الحاضرة على انتخاب بقية الشيوخ، ولما حضرت الجرائد عند الأمير نفذ انتخاب شيخ الإسلام وترك جميع الانتخابات فانجلى الحال على إسقاط كثير من رجال التوثيق من خطة العدالة، منهم الشيخ محمد بن سلامة، والشيخ الحاج محمود الباهي العريان، والشيخ عثمان الحشائشي وغيرهم، وأحس من ذلك جميع الشيوخ أهل المجلس الشرعي ونسب جميع العدول والمتأخرين أمر عزلهم إليه فتعاطته الألسن وباشره بعضهم بما يكرهه من أجل ذلك، وتحمل بثبت صبره جميع ما جرى من ذلك عاذرهم فيما أصابهم من ألم العزل، وأما المنتخبون من العدول فقد ألزمهم التقيد بمروءة العدالة ولبس شعار أرباب الوظائف الشرعية، كما الزم بذلك أهل العلم والأئمة وتشدد في إجراء ذلك حتى اتخذ الناس ذلك الأمر شعاراً وصان بذلك فضلهم وأظهر ناموس خططهم الرفيعة. ولما ولي المشير الثالث محمد الصادق باشا بأي أمر بإرجاع أوامر جميع العدول وأطلقت الألسن بشكر فضله بسائر المجامع، فأرجها لهم شيخ الإسلام المذكور بعد أن كتب فيها انتخابه إياهم وعلى كل حال أجرى عليهم التقييد بمروءة خطة العدالة وحافظ عليه بغاية جهده. وكان عالماً فاضلاً نزيهاً عالي الهمة خبيراً بالسياسات الشرعية وإيقاعها في مواقعها، حكيماً في وضع الأشياء مواضعها، فصيح اللسانين كريم السجية، حسن الأخلاق جميل السمت وقوراً مهاباً جليلاً، غيوراً على العلم والعلماء حامياً لحوزة المعارف، محافظاً على مروءته، شاعراً مفلقاً له نظم ونثر يزريان بتغازل الجفون المراض، في بساط الرياض، إن أطنب أعجب وإن أوجز أعجز، لشعره ديوان يزري بقلائد العقيان، لطافة وإحكام نسج واتساق معان، إلى أن أدركته المنية فتوفي ثالث جمادى الأولى 1278 ثمان وسبعين ومائتين وألف، ورثاه الشيخ محمود قبادو بقصيدته التي أربت على ما سواها طولاً وبلاغة المثبتة بديوانه ومطلعها: [الكامل] القلب يخشع والمدامع تهمعُ ... والقول ما يرضي الإله وينفعُ ورثاه الشيخ سالم بو حاجب بقوله: [الكامل] خطبٌ لركن العلم منه تزعزعُ ... ولطالبيه تفجعٌ وتوجّعُ عمَّ المصابُ به وعمّم عهدنا ... إنَّ الهموم تهون حيث توزع إذ أفرع النادي على أكباد أه ... ل القطر قطراً والمسامع أقمع فالناس بين تلهف وتأسّف ... والصّبر صبرٌ لم يكن يتجرّع حتى الحسودُ أبان من غشيانه ... ولذا غدا سنَّ التندم يقرع خطبٌ نفوسُ المجدِ منه كئيبةٌ ... وبه لأفئدة العلوم تروُّع وبه معاطس همة قد أرغمت ... وقفا القوافي بالغباوة يصفعُ يوم استبى روح العلا الفذَّ الذي ... كل لعزته يذل ويخضع واسترجع الدهر الضنين ذخيرة ... في الدين والدنيا إليها المرجع هو ذلك الفذُّ الإمام المرتقي ... رتباً بأدناها الأحازم تقنع الجهبذُ الحبر الوفي المرتضى ... اللذوعي الألمعي المصقع البيرمي محمد بن محمد ب? ... ن محمد بن محمد والأربعُ أعلامُ علم، تاجُ تونسَ لم يزل ... منهم بمحمود الخصال يرصّع يا أيها النحريرُ دعوةُ آسف ... تخذ التلهفَ ديدناً لو ينفع إن غاب بدرك من سما الدنيا ففي ... أوج الجنان لديه نور يسطع لكن لحتفك عبرة بين الورى ... ولأهل ودك عبرة لا تقلع ولفقد عدلك في القضاء فظاعة ... وعلى المعارف فقد فهمك أفظع وأرى لسعر الشعر بعدك حطة ... وأساءُ إذ سعر الجهالة يرفع لهفي على الكهف الذي كنا له ... نأوي فيحنو مثل أمٍّ ترضع لا يبخسُ الفضلاءَ من أقدارهم ... شيئاً ولا وضيع منه يرفع وشعاره الإعراض عن أغراضه ... ولديه إرجاف الوشاة مضيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ومناه تنمية العلوم وإنما ... هامُ المنى بظبا المنايا تقطع (وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع) والموت يعتام الكرامَ ويصطفي ... أخيارهم ولكل جنب مصرع بكت الدفاتر والمحابر والمزا ... بر والمنابر والمفاخر أجمع لأفولِ شمس هداية لا يرتجى ... منها لآفاق المحافل مطلع نسخت ظلال ظلاله أنوارها ... وبها غدت ظلمات ظلم تقشع من شاد ديوان الشريعة فاغتدى ... لشتيت شمل الحكم فيه تجمّع وحبا دروس العلم تنظيماً به ... عمرت لها بعد الدروس الأربع أمّا ميادينُ الكلام فإنه ... فيها المبرز والبليغ الأبرع ولنفسه حريةٌ وتواضعٌ ... ودماثةٌ وديانةٌ وتورعُ ورياسةٌ علمية وسياسة ... شرعية وفراسة لا تخدع قل للذين يشيّعون سريره ... إن لم يكونوا قد دروا من شيعوا هذا إمامكمُ وعمدة دينكم ... وعلى حقوقكم السياجُ الأمنع هذا نصيحكمُ الصدوق، وصدره ... من كل أضغان وحقد بلقع كم قوبل الإحسان منه بضده ... فعفا وكلٌّ حاصد ما يزرع واها لذا الطودِ المنيف يقله ... بعد العلي والعز ذاك الشرجع سارتْ بسير سريره الأسرار والآ ... داب لكنْ أقسمت لا ترجع لا همَّ يا من قد تفرد بالبقا ... ولكل عسر منك يسرٌ يتبع وافاكَ ذو القلب السليم فوقِّه ... ما يقتضيه الفضل منك الأوسع وارفع منازلة لديك فطالما ... قد كان قدر ذوي المعارف يرفع وأنله رب جزاء ما قد كان من ... فعل جميل معْ عبيدك يصنع فعلى الموالي غرم دينِ عبيدهم ... والكلُّ من أنهار جودك يكرع وله عليّ دينُ ودٍّ ليس لي ... في أن أكافيه عليه مطمع كمْ كنتُ أستشفي به في معضل ... فيبينهُ وبغيره يتبرع كم كنت أبصر فغي مرايا رأيه ... وذكائه تمثال ما كنت أتوقّع كم كنت أروي عن بديعة فكره ... غرر القوافي نشرها يتضوع لكنَّ ما حصلت من آدابه ... أضحى يبدد درّها لي مدمع فانظر بهذا النظم هل تلفي به ... معنى برقته يشنّف مسمع يا رب صدّق فيه قولَ مؤرخ: ... (مثواه في أعلى الجنان مرفّع) 26 الشيخ علي الدرويش هو الشيخ أبو الحسن علي بن يوسف بن علي بن يوسف بن أحمد الدرويش أصله من باجة، وقد ظهرت على جده كرامة لقب من أجلها بالدرويش. ولد ضحى يوم الاثنين السادس عشر من شعبان 1198 ثمان وتسعين مائة وألف، ونشأ في طلب العلم فأخذ عن فحول علماء عصره من المعقول على الشيخ أبي محمد حسن الشريف والشيخ أبي الصفاء الطاهر بن مسعود وتفقه على شيخ الإسلام البيرمي الثاني، والشيخ أبي العباس أحمد بن الخوجة، إلى أن حصل على الأمل من العلم والعمل، فلازم بث العلم بين أولي الفهم. وقدمه الأمير محمود باشا إماماً لمسجد بيت الباشا بباردو المعمور يصلي فيه ويروي صحيح البخاري صبيحة يوم الأحد الثاني عشر من المحرم سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف عند عزل الشيخ محمود بن باكير، وذلك عاق علمه عن عموم البث. وتقدم لخطة القضاء يوم الأحد الموفي عشرين من ربيع الثاني سنة 32 اثنتين وثلاثين، وعوض عنه في الإمامة الشيخ أحمد البارودي فامتنع من التخلي عن الإمامة، وعلى كل حال ألزم لخطة القضاء فقام بأعبائها نحو التسع عشرة سنة بعلم وتثبت دين. ثم إن الأمير مصطفى باشا قدمه للفتيا صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين من جمادى الثانية سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف فأولاه مفتياً رابعاً لمحضر أهل المجلس الشرعي تقدمه البيرمان الأخيران والبرودي الأخير، غير أنه لما توفي شيخ الإسلام وقدم المشير الأول على البارودي المذكور المفتيين على ما ذكرناه آنفاً صار صاحب الترجمة مفتياً خامساً. وعلى كل حال فقد قام بالخطة بتثبيت وتحرير ومحافظة على مروءته مع الإقراء بجامع الزيتونة حيث تقدم لخطة التدريس في المرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي. وكتب حاشية على شرح الشذوذ لابن هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقد زان علمه بالعفة والديانة والتواضع مع الصيانة والتبصر، حاول بعض أعوان السوء أن يدس له مراسلة في أثناء ما أذن به فردها وعادت إليه بعد أشهر مرات عديدة فأرسل للعدل الذي كتبها بأن مثل ذلك لا يحسن به وأنه هلى بصيرة مما يرد عليه ولم يزده على ذلك. يحضر كل يوم بجامع الزيتونة للتدريس إلا أن أتاه أجله فتوفي ضحوة يوم الأحد الخامس من ذي القعدة الحرام سنة 1262 اثنتين وستين ومائتين وألف، وأرخ وفاته العالم الشيخ محمد بيرم الرابع بقوله: [الطويل] هوَ الدهر يبري صائبات سهامهِ ... فيورد نفس المرء حوض حمامهِ مصابٌ تساوت في تجرّع كأسه ... نفوسُ الورى من سفّل وكرامه عجبت لذي لي تيقن أنّه ... سبيل ويولي الطرفَ طيبَ مقامه وأولى به أن يرسل الدمع نادماً ... على سالفٍ أبداه سوء احترامه ويصرف فيها يثمر الأجرَ عمره ... ليجنيَ طيب الغرس يوم قيامه كصاحب هذا الرّمس من لم يفه بما ... يعاب فلا مفض لخدش مقامه عليٌّ على الدرويش مفتي للورى ومن ... له سيرة تقضي برعي ذمامه هو العالم الأرضى التقي أخو الحجا ... وذو القصد حتى عن فضول كلامه إلهي حقق فيه قول مؤرخ: ... (لقد نال في الفردوس نيل مرامه) 27 الشيخ محمد بن الخوجة هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة شيخ الإسلام، وابن مفتي الأنام، وحفيد العالم الرفيع المقام. كانت ولادته عام 1204 أربعة ومائتين وألف، ونشأ في خدمة العلم الشريف فقرأ على والده وشيخ الإسلام البيرمي الثاني والشيخ أبي محمد حسن الشريف والشيخ أبي إسحاق إبراهيم الرياحي وأبي العباس أحمد الأبي وغيرهم من علماء جامع الزيتونة. وقدمه والده لمشيخة الشماعية نائباً في الحياة مستقلاً بعد الممات يوم السبت الحادي والعشرين من ثاني الربيعين سنة 1238 ثمان وثلاثين ومائتين، وألف فزان المدرسة والجامع بدروسه وأفياء ظلال معارفه في ساحته، درسه بهجة السامع والناظر، ومجلسه من أجمل المحاضر، أناخ التحقيق رحاله بين يديه، وانتهى تحرير السعد والسيد إليه، جلست بين يدي أعلام العلوم، فاستظلوا بكهف معارفه الشامخ المعلوم، آية الله في الذكاء والتحصيل، وتعضيد النقليات بالمعقول على أصل أصيل، وهو ممن ران الرتبة الأولى في التدريس بجامع الزيتونة عند وقوع الترتيب أول مرة. ولوع بصحيح البخاري وله أسانيد وبه يتصل سندي المحمدي في الصحيح المذكور، وكان ملازماً لروايته حتى كانت جميع أحاديثه منه على طرف الثمام، فهو حافظ عصره والسلام، ومن ولوعه بالإجازة استجار الشيخ أبا المحاسن يوسف بدر الدين في الشفا للقاضي عياض فأجازه بأبيات نظم فيها سنده في الكتاب المذكور وهي قوله: [الرجز] حمداً لمولانا القويِّ السند ... ثم صلاتنا على محمّدِ وآله وصحبه من شيّدوا ... أركان ما أتى به وأيّدوا وبعدُ فالحديث فنٌ معتبرْ ... وفضله على الفنون مشتهرْ وكان ممن خصه مولاهُ ... بضبط هذا العلم واجتباهُ الفاضلُ العلّامة النحريرُ ... ومنْ له الإتقان والتحريرُ محمّدٌ الشهير بابن الخوجةْ ... أبقى الإله في العلى عروجهْ سليلُ أحمد الإمام المفتي ... مجلي دجى الإشكال للمستفتي تواضعاً منه استجاز في الشفا ... جمعِ عياضٍ في حقوق المصطفى وإنّه أولى بأن يجيزا ... لأنني أرى له التمييزا لكنّه وصف الكمال حازهْ ... حتى ارتجى من مثلي َ الإجازة وفّقه المولى لما يرضاهُ ... وحفّه باللطف في قضاهُ وقد أجزته وأنني لفي ... حيا قصوري وفي هذا أكتفي كما بخط يده أجازني ... محدث الشآم ذو لقدر السني (الكزبريُّ) عن الإمام السند ... والدهِ شمس العلى (محمد) عن (المنينيِّ) عن (البصريّ) ... عبد الإله السَّند المكيّ عن شيخ بابلٍ (علاء الدين) ... عن (سالمٍ) تلميذ نجم الدين عن (زكرياءَ) عن (القيَّاتي) ... شمسِ الكمال الباهر الآيات عن (السّراج عمرَ) الملقِّن ... عن (اللَّواتي) هوَّ يحيى المرتضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عن (يوسفٍ) هو الدِّلاصيُّ الرّضى ... عن (اللَّولاتي) هوَّ يحيى المرتضى عن (ابن ضائعٍ) عن المؤلفِ ... منشي الشفاءِ الجامع للشرف أخذته عن شيخنا داريه ... وجاد له بالإذن الروايهْ وقد أذنت الفاضل المجازا ... بأن يجيز من له استجارا إجازة شاملة محققة ... مطلقة بكل فن حققه بشرطها المقرر المعتبر ... بالاتفاق عند أهل الإثر وأسألُ الله له أن ينفعا ... بعلمه جميع من له سعى والمدنيُّ يوسف ُالمنكسرُ ... أخو القصور المذنب المفتقرُ يرجو من الكريم حسن الخاتمهْ ... بدار من للأنبياء خاتمهْ صلّى عليه ربنا وسلما ... والآلِ والصحب ومن له انتمى وتقدم في جامع محمد باي المرادي إماماً وخطيباً ومدرساً وشيخنا في المدرسة الشماعية بعد وفاة والده، فزان المحراب المنبر فصاحة وتلاوة وخطب من إنشائه واجتمع بين يديه هنالك العلماء للدراية والرواية وأبدع في أختامه غاية الإبداع، على طريقة لا تستطاع. ثم قدمه الأمير مصطفى باشا لخطة القضاء فزانها نحو الثماني سنين بعلم راسخ، وتيقظ لجميع الشبه ناسخ، مع التضلع بفقه القضاء والتحري والديانة والتثبت الكلي في حقوق الله وحقوق العباد لا تأخذه في الحق لومة لائم وله إخبار في ذلك تدل على كمال خشيته لربه. ولما توفي شيخ الإسلام البيرمي الثالث ويقدم للمشيخة رابع البيارمة تقدم صاحب الترجمة مفتياً ثانياً من أول وهلة مع وجود من سبقه في الخطة على ما تقدم آنفاً وذلك في التسع والعشرين من ربيع الأول سنة 1256 تسع وخمسين ومائتين وألف فزان خطة الإفتاء بفتاويه ومراسلاته التي أبان بها ما له من العلوم الشرعية من باهر آياته. ولما توفي شيخ الإسلام البيرمي الرابع قدمه الأمير محمد الصادق باشا باي لمشيخة الإسلام فشمر عن ساع الجد ونهض لها نهوض المجتهد، مات شئت من علم ودين، وفقه متين، وكرم أخلاق، وتثبت في مزالق الحذاق، يخشى الله سراً وجهراً بعيداً عن التصنع متخلقاً بأخلاق الصالحين قضى وأفتى وخطب ودرس وألف، وشكر سعيه في جميع ذلك. كتب حاشة على مختصر السعد استدرك بها على ثلاثة السعد والسيد وعبد الحكيم بما يشهد له برسوخ القدم بين الأمم، وله شرح لطيف في سياسة الملك على الحكم التي تنسب لأرسطو، وأولها: "العالم بستان سياجه الدولة ... "، وهو شرح بديع الأسلوب، قرظه شيخ الإسلام البيرمي الثالث بما نصه: "يقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغني، محمد بن محمد بن محمد بيرم الحنفي، غفر الله ذنبه، وفرج كربه، لما طالعت هذه النقلية الأنيقة، التي هي بالإذعان حقيقة، صنعه البدر الزاهر، الهمام الماهر، أبي عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام، عمدة الأنام خاتمة المحققين، كمال العلماء المتأخرين، أبي العباس أحمد بن الخوجة رأيت ما يبهج به الناظر، ويقوم عليه لمجادل والمناظر، من نقول تصحبها متانة وجزالة، ونقود تمتزج بها بلاغة وجلالة، وحسن انسجام، ألذ من لوجدان بعد الإعدام إلى غير ذلك مما تدركه الألباب، ولا يحيط به نطاق الاستيعاب، فحمدت الله سبحانه على التيسير، في مثل هذا الزمن العسير، وابتهلت إليه جل جلاله أن يكثر من أمثاله، ويسهل لهم النسج على منواله، إنه الفعال لما يريد، المالك أزمة التيسير والتسديد، وحين رتع الذهن الكليل في ذلك البستان، وتملأ ناظره من بديع هاتيك الحسان، صار اللسان على قدم الشكر يجول، وحملت الوجد الفادح على أن يقول: [الكامل] لا تنكروا ولهي وطولَ غرامي ... ومزيدَ أشواقي لها وهيامي هذي التي سمح الزمان بوصلها ... من بعد تسويفي وطول مقامي نسختْ بطلعتها ونور جمالها ... ليلَ الشكوك وحيرةَ الأوهام لا تعجبوا منها فإن مقيلها ... بيتُ العلوم ومفخرُ الأعلام بيت إذا حلّ العويص بسائلٍ ... وافاه ملتمساً لنيلِ مرامِ لا زال محروس الجناب موفقاً ... متعطر الأرجاء بحسن ختام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 هذا وفتاويه وأختامه محفوظة عند المعتنين بالعلوم، ولطائف مراسلاته الأدبية يزري نثرها بكأس الرحيق المختوم، وبالجملة فإنه قد كانت الأبصار والأسماع تبتهج بفصاحة كلمه، ولطافة قلمه. مرض فرأى شيخ الإسلام البيرمي الرابع وقد أهدى أترجة فعبرها بالموت فأتاه الأجل المحتوم وتوفي (يوم) عاشوراء من عام 1279 تسعة وسبعين ومائتين وألف وقد أشار إلى تاريخ وفاته يومئذ شاعر البلاد العالم الشيخ محمود قابادو بقوله: [لكامل] يوم الحسينِ وليس فيه عزاء ... ردَّتهُ للتاريخ: عاشوراءُ ورثاه الشيخ المذكور بمرثية بديعة مثبتة بديوانه قال في مطلعها: [الكامل] خطب عيون الدين منه ثجوجه ... ومسامع الدنيا به مرجوجه ورثاه الشيخ الباردوي بقصيدة قال في مطلعها: [الكامل] خطبٌ أصاب فؤادنا بسنان ... أجرتْ دماءَ جراحه العينانِ ورثاه الشيخ المختار شويخة بقصيدة قال في مطلعها: [الطويل] كفاه لرزءِ أن يقصّر سائلهْ ... وينهلَّ من طرف البرية سائلهْ ورثاه الشيخ محمد الرياحي بقصيدة قال في مطلعها [الطويل] ألا كل شيء للبقاء مثالهُ ... ولم يبق إلا الله جل جلاله ورثاه الباجي المسعودي بقوله: [الكامل] نبأٌ عظيم عنه قد اعترضتمُ ... أوليس يا قومُ المخاطب أنتمُ كلاَّ لقد أسمعت لو كانت تعي ... ودنا الرحيل فأين أين الأحزمُ هذي الجبال على المناكب سيِّرت ... هذا ثبيٌر راحل ويلملم هذا الذي فجعَ البرية فقده ... من قد عرفتم فضله وعلمتم طودٌ أشم محمد بن الخوجة ال ... علمُ الإمامُ الألمعيُّ الأكرم (صدرُ الشريعة) شيخ الإسلام الذي ... فقد كان عن سر الكتاب يترجم وخليفة (النعمان) (والجعفي) ومن ... تلفيه في كل العلوم يقدم ملأ المنابرَ والمحاربَ نوره ... ولفضله كل الجميع مسلم (حلف الزمان ليأتين بمثله) ... كفِّر يمينك مسرعاً يا مقسمُ منْ للجلالةِ والمهابة بعده ... من للصدارة صرحوا أو جمجموا من للبراعة واليراعة راعها ... صدأ الردى وأقيم؟ فيها المأتم من للعويصات الصعب حلّها؟ ... من للقضايا من يشير فيبرم؟ من ثلث قرن دمن خمسٍ قد قضى ... بهدىً وأفتى والدراسةَ يلزمُ يا راحلاً والصبر يذهب إثره ... والدّمع يكتب كيف شاء ويرسم والأرض رجت والقلوب تصدعت ... والأفقُ يظلمُ والجوانح تضرم أبشرْ برضوان الإله بمضجع ... حيّاك فيه السائلون وسلّموا وأروكَ قصرك في الجنان مشيَّداً ... والروحَ والريحانَ حولك نظّموا وتركت من أرجِ الثنا ... ما سار في الآفاق ينجدُ عاطراً أو يتهمُ وعظيم فقدك عم حتى أنشد ال ... تاريخ: في فقد الإمام لا عظمُ 28 الشيخ أحمد الأبي هو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمود بن كبير الأبي، وهو من بيت فضل كان والده وجيهاً ذكياً تالياً للقرآن ذاكراً خمولاً وتوفي سنة 1204 أربع ومائتين وألف فكتب على قبره قصيدة قال صاحبها في تاريخها: [الخفيف] فدعوت وقلت إذ أرّخوه: ... ربي أسكنه في قصور النعيم وكذلك عمه وهو أبو العباس أحمد بن كبير الأبي له ملكة علمية وقد تصدى للإشهاد، فكان من ثقات العدول حتى تقدم لشهادة أوقاف الحرمين وقد توفي يوم الأربعاء سابع أول الجمادين سنة 1216 ست عشرة ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وولد صاحب الترجمة ليلة الاثنين الثاني عشر من رجب سنة 1180 ثمانين ومائة وألف ونشأ نشأة صالحة وتصدى لقراءة العلم الشريف اقتفاء بآثار والده فأخذ عن أعلام منهم الشيخ صالح الكواش، والشيخ محمد بيرم الثاني، وقرأ المبادئ على والده. ولما اشتد بالعلوم كاهله جلس للتدريس بجامع الزيتونة فأقرأ المعقول والمنقول وأفاد علماء كثيرين بمعارفه التي بثها في صدور الرجال وتقدم لخطة العدالة يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الثانية سنة 17 سبع عشرة ولما أتم الوزير يوسف صاحب الطابع بناء جامعه انتخبه الأمير إماماً به يقيم الخمس وقدمه للتدريس والرواية فقام بأعباء الخطط المذكورة وثابر باجتهاد في المواظبة هنالك وانتفع عليه خلق كثير ومع درسه ذلك فدرسوه بالجامع مشهورة، وآيات فخرها بين العلماء منشورة، حتى قل من لم يأخذ عنه ممن أدركه ولما عزل الشيخ علي الستاري من خطبة جامع القصر بسبب تولي صاحب الترجمة عوضه يوم الأربعاء الحادي عشر من رجب سنة 1229 تسع وعشرين. وكان فصيحاً خيراً محافظاً على مروءته ذا دين متين وفقه في الدين، تقدم للتدريس في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة 58 ثمان وخمسين فجرى على طريقته المثلى في بث العلم بجامع الزيتونة. ثم قدمه المشير أحمد باشا للفتيا يوم الأحد سادس المحرم سنة 1262 اثنتين وستين ومائتين وألف وكان ذلك بمحضر المجلس الشرعي، ولما لبس زي الخطة وأراد الدخول على الأمير مع الشيوخ حسين البارودي وجد صاحب الترجمة فرجة أبقاها الشيخ حسين بينه وبين من فوقه فظن أنها موضع رتبته فدخل فيها وبذلك الترتيب دخلوا على الأمير فصار مفتياً ثالثاً وأبقى وراءه كلاً من البارودي والدرويش واستقر على تلك الرتبة يفتي بفقه محكم وتحر مع مواظبته على دروسه وهو في سن الهرم وقد أصيب بفقد أكبر بنيه العالم المدرس خطيب جامع القصر وإمام الخمس بجامع صاحب الطابع خلفاً عن والده الشيخ أبي عبد الله محمد الأبي وذلك سنة 71 إحدى وسبعين وأرخ وفاته العالم الشيخ محمد البارودي بقصيدة قال في تاريخها: [الكامل] لما تردى قال فيه مؤرخ: ... (جوزيت بالفردوس وهو المصعد) فصبر الشيخ لفقد ولده، ولازم بث العلم على هرم جسده، ولازم رتبة [الإفتاء] إلى أن بلغ من العمر أربعاً وتسعين سنة فهو أكبر من عاش من المفتين الحنفية وكانت وفاته يوم السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة 74 أربع وسبعين ومائتين وألف ورثاه العالم الشيخ أبو عبد الله محمد بيرم الرابع بقوله: قمر العلوم بذا الضريح أفولهُ ... فحرٍ لجفنك أن تسح سيولهُ (أسفاً لفقدان العلوم فإنه) ... أصماك من فقد الإمام مهوله هذا أبو العباس أحمد أوحد ال ... فضلاء عالم دهره وجليله الجهبذُ الأبيّ من في عصره ... قد كان وهو لرأسه إكليله مفتي الورى الأرضى لذي ألعلمُ قد ... جمعت لديه فروعه وأصوله أفني نفيسَ العمر في تحريره ... علماً يفيدُ يناله وينيله لله ما أبداه في تدريسه ... من در تحقيق يروق صقيله ويبيت يقضي نصحه في همه ... فيما من الحق المبين يقوله وأمانة في العلم أمّا نصحه ... لمريد أخذٍ عنه فهو سبيله تبكيه حافلةُ الدروس وأهلها ... والدمع قد يغني الحزينَ هموله ومساجدٌ قد كان بدراً سامياً ... في أفقها واليوم يلك طلوله يا رب إنك قد وعدت بعتقه ... والعمر بشَّرهُ بذلك طوله ولذلك أعلن من يقول مؤرخاً: ... (في جنة الفردوس طاب نزوله) 29 الشيخ محمود باكير هو الشيخ أبو الثناء محمود بن حمودة بن حسين بن ملا باكير، ولد جده الشيخ ملا باكير الحنفي في بلاد الترك وقرأ بها مبادئ العلم الشريف، ثم قدم إلى تونس فقرأ بها على الشيخ أحمد برناز وغيره واعتكف على العلم والمطالعة وتقدم إماماً للباشا على باي وله في العلوم يد طولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أما ولده حسين فقد حج بيت الله الحرام وتزوج بإحدى بنات الشريفة حسينة بنت محمد بن أبي القاسم بن محمد بن علي بن حسن بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا، ومنها كان ولده الشيخ أبو محمد حمودة وكان عالماً فاضلاً ثقة خيراً قدمه الأمير علي باشا باي إماماً بسراية باردو لإقامة الخمس ورواية البخاري وقدمه لإقراء ولده لأمير حمودة باشا العلم الشريف فتصدى لذلك ولازم سكنى باردو المعمور، وبسبب ذلك لم يستمر على الإقراء بجامع الزيتونة وكانت عنايته بإقراء الأمير ابن الأمير وتربيته وحصل بذلك على إقبال عظيم من لخاصة والعامة مرموقاً بعين الإجلال يأتيه الفقهاء للتهنئة بالمواسم العيدية لمكان علمه وجاهه. ولم يزل على جلالته إلى أن توفي ليلة الجمعة الرابع العشرين من ذي الحجة الحرام سنة عشرين ومائتين وألف وحضر ابنه الروحي الأمير حمودة باشا جنازته مع سائر أل بيته وشيعها راجلاً إلى المقبرة وهو يطيل البكاء والنحيب في ذلك المشهد العام بروراً بشيخه وشيخ تربيته وبذلك اكتسب فخراً في الوفاء وحسن العهد والبرور لم يعهد مثله بحيث إن المجامع قضت أياماً تروي حديث ما وقع من الأمير مع شيخه رحم الله جميعهم. ثم كانت ولادة صاحب الترجمة أواخر رمضان سنة 1182 اثنتين وثمانين ومائة وألف ونشأ بين يدي أبيه مرموقاً برعاية ابن تربية أبيه الأمير حمودة باشا وكان به حفياً، وأخذ العلم عن والده أولاً ثم عن علماء جامع الزيتونة منهم شيخ الإسلام البيرمي الثاني، والشيخ صالح الكواش. وغيرهم، وحصل على الملكة في المعقول والمنقول، وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة. ولما توفي والده قدمه الأمير حمودة باشا لإمامة الخمس بمسجد دار الباشا صبيحة يوم الأحد السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة 20 عشرين وقربه وآواه فجبر صدع فقد أبيه وغمره بعطائه وأقام على الوفاء ببر شيخه مع ابنه هو وأخوه الأمير عثمان باي وبانقراض دولته عزل عن الإمامة المذكورة رحم الله جميعهم. ثم إنه تقدم للإمامة بجامع القصر وتقدم مدرساً في المرتبة الأولى عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف ولازم التدريس بجامع الزيتونة. وتقدم لخطة القضاء فباشرها بدين وعلم نحو الأربع وسنين. ولما توفي الشيخ الدرويش أولاه المشير الأول أحمد باشا باي الفتيا فتقدم مفتياً خامساً صبيحة يوم السبت الحادي عشر من ذي القعدة الحرام سنة 1262 اثنيتن وستين ومائتين وألف فجمع بين إمامة وخطبة وتدريس وقضاء وفتيا. وحمد في جميعها على ما له من حسن المحاضرة والأدب وإجادة نظم الشعر وسرعة الجواب وثقة النفس وكرمها وعلو الهمة والأمانة والصيانة وحفظ المروءة وحسن الخلق مع الفقه والتفنن في العلوم والديانة إلى أن أتاه الأجل المحتوم فتوفي أوائل ربيع الأول سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف. 30 الشيخ محمد عباس هو الشيخ أبو عبد الله محمد ويدعى حمدة بن محمد بن محمد بن محمد عباس الحنفي أصلهم من بلد مورة واشتغل آل بيته بصناعة الشاشية بحاضرة تونس حتى صاروا من أعيان أربابها. وولد صاحب الترجمة سنة 1209 تسع ومائتين وألف، ونشأ بين يدي والده وجود القرآن العظيم بالعشر على الشيخ محمد السقاط وقرأ عليه كتب مبادئ النحو، وقرأ على الشيخ أحمد اللبي شرح العيني على الكنز، وقرأ على الشيخ الطاهر ? بن مسعود شرح الأشموني على الألفية ومختصر السعد، وقرأ على الشيخ ابراهيم الرياحي تفسير القاضي البيضاوي وشرح البخاري، وقرأ على غير هؤلاء كالشيخ الحاج الشاذلي بن المؤدب وحصل على الملكة فقرأ بجامع الزيتونة وتقدم للإمامة بجامع القصبة سنة 1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف فزان المحراب والمنبر بحسن تلاوته وفصيح خطبته. وتقدم في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي في شهر رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين فتصدى للإقراء وأفاد الطالبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وكان مع ذلك له معرفة كلية بأسرار الحروف، وله في بيته خلوة وله نوع تصرف في الجان افتك بها كثيراً من المصابين في وقائع مشهورة وقد توقف الشيخ محمد بن الخوجة في أمر هذا التصرف فسأله وكانت للشيخ بنت مصابة فوعده صاحب الترجمة بالاجتماع باللجان ومحادثته له بواسطة ابنته وطلب منه أن يحضر مع ابنته بين العشاءين من تلك الليلة ليرى أمر الجان فأحض الشيخ ابنته بين العشاءين في بهو بيته وجلس هنية فإذا بابنته تسلم عليه وتحادثه حديث الجان المتبركين بالاجتماع به، واتفق للشيخ ذلك اليوم أن ورد عليه أحد أتباعه يخبره بأن فرسه قد سرقت من الهنشير وبينما كان يحادث الجان تذكر حديث الفرس فسأل الجان عن خبر فرسه فطلب منه الإمهال إلى أن يرسل من يبحث عنها ويخبره بها وبينما هم كذلك وإذا هو يقول له إن فرسك بالداموس الفلاني قرب الهنشير وإنها داخل الداموس ومستور عليها بالتبن، وبمجرد انفضاض المجلس مع الجان خرج الشيخ الأعرابي الذي أخبره بفقد الفرس وأمره بالرحيل من ذلك الحين وأعلمه بمحل وضع الفرس ليطلبها منه فوجد الأمر كما ذكر، أما هنشير الشيخ من ذلك اليوم لم يبق لمجاوريه تجاسر على تعاطي شيء منه خشية من اكتشافه من حيث لا يعلمون وبذلك ثبت عنده تصرف صاحب الترجمة في الجان. ولما توفي الشيخ محمود باكير قدمه المشير الأول أحمد باشا باي مفتياً رابعاً يوم الأحد الخامس والعشرين من رجب 1267 سبع وستين مائتين وألف فأفاد بدروسه وفتاويه والتزم عدم التعرض لأمر الجان مراعاة لخطته الشرعية وكان عالماً فقيهاً فاضلاً ثقة ذاكراً متبتلاً حسن السكينة حميد الأخلاق محباً للصالحين لطيف المحاضرة ينظم الشعر ويحتسب افتكاك المصابين من الجان كثيراً أدركته المنية في جمادى الثانية سنة 69 تسع وستين ومائتين وألف عليه رحمه الله، ورثاه العالم الشاعر الشيخ محمود قابادو بقوله: [الطويل] أجدك هذا مضجع بفخر والمجد ... ومأوى الفرد والسؤدد العد أجدك قد ضم التراب مكارماً ... بها عنق العلياء قد كان ذا عقد أجدك يهوى البدر من أفق العلا ... إلى منزل في الأرض دان على البعد أجدك ما عاينت ليس توهماً ... فما في حياة لامرئ بعد من قصد ألا فجعتنا الحادثات بمن به ... على حادثات الدهر نعدو ونستعدي فقدناه فقدَ الشمس في ساعة الضحى ... وفقد زلال طاب باليمن والرفد عهدناه نسراً ليس تدركه الدلا ... فكيف حوت أبراجه حضرة اللحد وكان سريعاً للصريخ جوابه ... فما باله ما إن يعيد ولا يبدي؟ محمدُ عبَّاس غدا الدهر عابساً ... لتبدل من بعد البشاشة ذا وجد كان لم طن تاجاً على هامة العلا ... ولا غرة في جبهة العلم والزهد كان لم تكن أعتاب بابك ملجأً ... لأهل النُّهى والفضل في الحل والعقد كان لم تكن في مسند الدرس قائماً ... وألفاظك الأصداف للجوهر الفرد كان لم تكن في مجلس الحكم صارماً ... يصمّم في أغراضه ماضي الحد كان لم تك التنزيل من فيكَ يكتسي ... غلائل من حسن الإبانة والسرد كان لم تكن فوق المنابر قارعاً ... قلوباً غدت أقسى من الحجر الصلد لئن جرِّعتْ من فقد كأسك علقماً ... فيا طالما جرعتها خالص الشهد لقد كنتَ للخضرا شهاباً فأينما ... تباعدُ عنها ماردَ الجن بالطرد تحرّرُ للقربى من الله وحده ... رقاباً غدت من ربقة الأسر كالعبد تبوَّأت من حكم ابن داود منزلاً ... لغيرك ما إن ينتهي قط من بعد هنيئاً لك الأجر الذي قد أتيته ... جوار كريم واسع الفضل والرفد فإنّ عباد الله جل عياله ... بهم لجنان الخلد أجدر بالودّ فها كلهم يدعو بقول مؤرخ: ... (محمد عباس أنل جنة الخلد) 31 الشيخ محمد معاوية هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمود بن محمد بن مصطفى بن حسين بن بايه محمد التركي الوافد على تواس من بلاد الترك وتزوج بإحدى حفيدات ولي الله الشيخ سيدي معاوية رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقد ولد صاحب الترجمة غرة ربيع الثاني سنة 1209 تسع ومائتين وألف، ونشأ في طلب العلم فقرأ على فحول الرجال منهم الشيخ حسن الشريف والشيخ محمد بيرم الثاني والشيخ الطاهر بين مسعود والشيخ محمد الفاسي والشيخ محمد بيرم الثالث والشيخ إبراهيم الرياحي، وبرع في المعقول والمنقول، وظهرت مزيته في الفروع والأصول، وتقدم إماماً بجامع الحنفية ببلد سليمان فأضاع علمه مدة سكناه تلك القرية. لكنه تدارك أمره بعد حين وأرسل بتسليمه وحضر بجامع الزيتونة فوفد عليه أعيانه وتواردوا على دروسه توارد الظمآن على الماء فجلس للتدريس، بتحريره النفيس، وتصدى لإقراء عويصات الكتب وتدقيق غوامض المسائل بواقد فكره السيال، وفصيح تقريره السلسال، فقضاها سنين متطاولة يبث العلم في صدور الفحول، ويسترزق بالإشهاد وهو من أيمة الموثقين العدول. وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف فأفرغ كليته للاشتغال بالتدريس عامة يومه اكتفاء بمرتبه لقناعته. وأخذ عنه فحول سبق ويأتي ذكرهم في تراجمهم، وتقدم خطيباً بجامع حمودة باشا المرادي صبيحة يوم الجمعة من سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف صبيحة يوم وفاة خطيبه الشيخ حمودة بن أحمد البارودي فخطب الخطب البليغة من إنشائه. ثم قدمه الأمير أحمد باشا باي مفتياً خامساً يوم الأحد الخامس والعشرين من رجب الأصب 1267 سبع وستين مائتين وألف، وأنف من تأخره عمن قبله حتى كاد أن لا يقبلها وعند ذلك اعتكف على الإفتاء مع التدريس وظهرت له في الفقه آية كبرى فخطب الخطب البليغة، وعند وفاة من تقدمه للفتيا وهو الشيخ محمد العباس صار مفتياً رابعاً ثم عند وفاة الشيخ أحمد الأبي صار مفتياً ثالثاً، ثم عند وفاة شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع صار فتياً ثانياً ثم عند وفاة شيخ الإسلام محمد بن الخوجة قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي لمشيخة الإسلام أواسط المحرم سنة 1279 تسع وسبعين مائتين وألف، وتنقل خطيباً وإماماً ومدرساً بجامع صاحب الطابع وشيخاً بمدرسته، وخلفه في خطبة الجامع الباشي الشيخ عثمان بن محمد البارودي إمام سراية باردو فزان الخطط بعلمه وفضله وخطب من إنشائه خطباً بليغة. وآثاره العلمية أعدل شاهد على تضلعه في العلوم المعقولة لاسيما أصول الدين والبيان فقد حرر حاشية على مختص السعد البياني، وحاشية على السعد على العقائد النسفية، وحاشيتين على شرح عصام للسمر قندية كبرى وصغرى نحا في جميعها منحى الأعاجم من الميل إلى الاكتفاء بالرموز بحيث إن من لم يكن على بصيرة وانفصال في كلام الحواشي لا يقدر أن يحوم حول مغزاه في لطائف مقاصده الخفية ورموزه التي كر فيها بالإبطال على كثير من كلام السيد وعبد الحكيم فضلاً عن غيرهما وحسبك بهذا عنواناً على علمه، وقد شرح رسالة فواتح السور للشيخ محمد بن ملوكة، وله رسالة في الحسن ولقبح العقليين سلك طريقته في تسلسل الأبحاث. وقد قرضها تلميذه الشيخ سالم بو حاجب بما نصه: الحمد لله الموفق لدقائق حكمه البالغة، والموصوف بجلائل نعمه السابغة، التي من أجلها هاته الرسالة الشريفة وفهم المراد من إشاراتها اللطيفة، حتى انجلت عن الألباب ظلم الحيرة المدلهمة في خلاف لا يكاد مثله بين أولئك الأيمة، كما من مطالعتها تراه، وتحمد عاقبة سراه. هذا ولما أطلعني على مكنون سرها، ناظم مكنون درها، شيخنا البحر العلامة، وحبرنا النحرير الفهامة، القدوة اللوذعي، والجهبذ الألمعي، معدن التقى والإصلاح ومنبع الهدى والفلاح، النقادة الدراكة الراوية أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد معاوية، أبقى الله بركته، وقرن بالسعادة سكونه وحركته، ورزقنا رضاه، ورضي عنه وأرضاه، فجمل الابتهاج بها فاتر الفكر، على القيام بواجب الشكر، فسلك اللسان مهامه الثناء على مولي النعم، وأنا بفي شكر مؤلفها لسان القلم، فجعل يركع في محرابها ويسجد، ويستملي في محاسنها وينشد: [الكامل] طلعتْ تديرُ سلافةَ الألبابِ ... وتنيرُ بالتوفيق أفقَ صوابِ دقَّتْ معانيها ورقت منطقاً ... يسبي العقول ويا له من سابي حلو المذاقة مرها لمسلّمٍ ... ومعاندٍ كالشّهدِ أو كالصاب يهمس فيلقح في القلوب رشادها ... كتفتُّق الأزهار غبَّ سحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 لاح الهدى برسالة سلكت بتح? ... قيق الأعاجم مذهب الأعراب ودلالها يبدي دلال لفظها ... كالغَّرةِ الحسناء تحت نقاب يلهيك عن جريال معناها من التج? ... نيس والتسجيع أي حباب جاءت تبين المذهب الحنفي في ... حسن وقبح دون ما إطناب وتميط عن وجهٍ لتجمعَ بينه ... والأشعرية أيّما جلباب وتدرجت من خدر فكرِ مجيدها ... تختالُ في حلل من الآداب ذاك الإمام الفذ والشيخ الذي ... قد نال منه العلم عودَ شباب يا صاح دونكها وخض لجيها ... ترجع بدر القلب لا الأرقاب ما هي إلا منحة فتحيةٌ ... من فيض من يؤتي بغير حساب ولذاك رصّع تاجها باسميه ج? ... لَّ جلاله الفتاحِ الوهابِ كان عالماً فاضلاً فقيهاً محدثاً واعظاً أصولياً بيانياً متكلماً محصلاً شعلة من الذكاء لا يقف بحثه عن حد يتلاعب بعويصات المسائل إثباتاً ورداً علة وجه يحار فيه متلقيه آية الله في الاحتجاج، تجاوز عمره الخمس والثمانين سنة في حومة العلم، بحيث إنه في هرمه وعجزه لم يترك المطالعة، ول تزل فكرته على ما عهد منها، وقد ختم عكره بالكتابة النفسية التي كتبها في الحقيقة المحمدية، وهو عفيف عالي الهمة عزيز النفس محافظاً على شرف خطته إذا حضر المواكب يأخذ الأمير بيده. وقد توفي ليلة الاثنين الحادي والعشرين من المحرم سنة 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف وقد أرخت وفاته بقولي: [الكامل] الموتُ لم يبرح مجّرد غضبهِ ... فانظر مآل ذوي الحياة وعظ بهِ لا يسلمنّ من الممات فتىً ولو ... سامى سماءً منْ تسامى كعبه كلَّا ولا يجدي الفتى غيرُ الذي ... عملت يداه وكان أفضل كسبه والعلمُ أفضل ما به يبقي الفتى ... فضلاً وذكراً يصطفيه بقربه يبلى ويبقى علمه علماً على ... وسطِ الصدور وفي مؤلف كتبه مثلُ المهامِ المرتضى علمُ الورى ... بحرُ العلوم المرتوى من عذبه شيخُ الشيوخ الراسخ القدم الذي ... يسمو على (سعد) البيان (وقطبه) هذا معاويةُ الإمامُ محمدٌ ... (ركنُ الشريعة) من سما في حزبه هذا الذي في مذهب النعمان قد ... أجلى محاسنَ من مدارك لبّه له في البيان وفي الكلام (مواقفٌ) ... لا يستضاء بغير نير شهبه أفتى وحاز رئاسة العلما ولم ... يفتر عن التأليف منْ ولع به حتى دعاه الموتى عن هرم فلم ... يبدِ الترُّيث عن موارد شربه ولذاك قال ذوو النهى إذ أرّخوا: ... (يلقى معاويةُ الرِّضى من ربّه) 32 الشيخ مصطفى بيرم هو الشيخ أبو النخبة مصطفى بن محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بن بيرام، كان والده شيخ الإسلام البيرمي الأول في آخر عمره تزوج جارية اشتراها من إحدى الغنائم ليت وردت إلى تونس فرزق منها في آخر عمره بولدها صاحب الترجمة وتركه صبياً فكفله أخوه شيخ الإسلام البيرمي الثاني ورباه في حجره وعلمه ما يحتاج إليه حتى أخذ الملكة ثم تصدى لقراءة على ابن أخيه شيخ الإسلام البيرمي الثالث ولما ختم عليه السعد مدحه بقصيدة التي قال في مطلعها: [الوافر] فؤادٌ ليس يصغى للملام ... ولحظٌ لا يميل إلى المنام وأخذ عن جامع الزيتونة معقول العلوم ومنقولها، أخذ عن فحول منهم الشيخ أحمد بوخريص، قرأ عليه المطول، وقرأ على الشيخ حسين الشريف، وعلى جدنا الشيخ محمد السنوسي، وعلى أخيه الشيخ أحمد زروق وعلى الشيخ أحمد العوادي، وقرأ على الشيخ أبي الفدا اسماعيل التميمي مختصر ابن الحاجب الأصلي بشرح العضد، وتفقه على أخيه وابن أخيه، وأخذ عن الشيخ أحمد اللبي حتى صار من أعلام المحصلين وتصدى لتدريس فأفاد. وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف فواظب على التدريس أدركته يقري أبناءه بسكينة بيرمية مع عدم الزيادة على ما في الكتاب الذي بين يديه إلا ما لا بد منه رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وقدمه لمشير الأول أحمد باشا باي إلى خطة القضاء في الحادي عشر من ذي القعدة الحرام سنة 1262 اثنتين ستين ومائتين وألف فباشر الخطة بفقه وتثبت ودين مع كمال العفة والتحري لدينه وأقام على الخطة المذكورة خمس عشرة سنة منها نحو العشر سنين يسكن بدار خربة لم يقدر على رمها واكتفى بسقيفتها للجلوس للحكم إلى أن أفضت الدولة إلى المشير الثاني محمد باشا باي فتكرم عليه بدار فاخرة فشكر فضله بقصيدته التي قال في مطلعها: [الطويل] تبلّج ليلُ النصر عن صادقِ الفجرِ ... فأصبحتِ الأيّام باسمةَ الثغرِ ولما توفي الشيخ محمود بن باكير قدمه المشير الثالث لخطة الفتيا منتصف ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف وتقلب في خططها إلى أن بلغ مفتياً ثانياً. وتقدم إماماً وخطيباً ومدرساً بالجامع اليوسفي، كما ولي مشيخة مدرسة الباشا الحنفية. وهو عالم عامل فاضل محافظ على ديانته متثبت في قضائه وفتاويه، حسن الخطبة حافظ للتاريخ، قد اكتفى بقاعته في حفظ مروءته لم يحفظ عنه أنه طرق باب أميره أو وزيره، ولا تأخذ في الله لومة لائم، شعره رقيق، ونثره أطيب من المسك الفتيق. وله تحارير في كثير من المسائل، استدرك بها ما تقدم عن الأوائل، وله أختام بديعة الانتظام وقد لازم الإفتاء وكان عماداً في الفتيا حتى أن شيخنا أبا عبد الله محمد البارودي لما ولي خطة القضاء لم يعتمد على غيره واتخذه مرجعاً يسعى إلى داره في كثير من الأوقات وقد أفاده في فقه القضاء فائدة سمعته يشكر فضله فيها كثير كما هو شأن الفضلاء أمثالهم في الاعتراف بالفضل لذويه. وقد توفي في أوائل ذي القعدة الحرام سنة 1286 ست وثمانين ومائتين وألف وقد رثاه العالم الشيخ سالم بو جاجب بقوله: [لكامل] الحدسُ يجمع والزمان يفرِّقُ ... والنفس من خوف التفرق تفرقُ ودوائرُ الآمال بها وسَّعتْ ... ما وسّعت لا شيءَ منها أضيق لا يأمنُ المشتف كأس مسرة ... أن يقذيَ الأقداح حزن يدمق وبقدر حسن الشيء يخشى نهبه ... زله الردى حجبَ التوقي يخرقُ كم ذي حجا لزم الخمول مجانباً ... ما في المظاهر من سهام تمرقُ وإذا أحس الدهرُ منه بشهرة ... في الناس عاجله بصدق يوفق أو ما ترى طودَ الهدى نسفته في ... زحلوقةٍ هيف المنون الزَّحلق فارتدَّ روضُ العلم يبساً ذاوياً ... وبواتر الفتيا عداها الرونق ولمذهب النعمان أي كآبة ... وتلهفٌ وتحسّرٌ وتحرّقُ لأفول شمس الدين والدنيا التي ... كانت على أرجاء تونس تشرق لكت الدفاتر والحابر والمزا ... بر والمنابر لو جمادٌ ينطق فاستفتِ دارسَ رسمها في مشكلٍ ... هل يخبرنكَ اليوم بيدٌ سملقُ؟ أين الذي يا كتب كان يجيبنا ... عنكم بما هو للتّحير أمحقُ؟ أين الذي قد كان يفتح منكمُ ... بمقالدِ الأقلام ما يستغلقُ؟ أين الذي يجلي بكحلِ مداده ... ما في عيونك من عيون تغلقُ؟ يمسي ويصبح مصلحاً ما شانها ... أو بين مختلفِ النقول يوفِّق أين الذي يا كتب كان مسامراً ... لجموعكم بحديثها يتأرَّقُ؟ أين الخبيرُ بما تكنُّ سطورها ... وبما يقيد حكمها أو يطلق؟ مالي أراها لا تجيب تصامماً ... أم مات منْ لأصمِّها يستنطقُ كنزُ المعارفِ مصطفى نجلُ الذي ... هو في محاميد البيارم أسبق ذاك الذي جمع الخمول وكونه ... ينبوع علم للورى يتدفق جمع البشاشةَ والتودُّدَ للورى ... مع همَّة بالفرقدين تعلق جمع البلاغة والشجاعة والتقى ... وتغزل الآداب وهو موفَّق وله بتاريخ البلاد درايةٌ ... وروايةٌ لحوادثٍ تتنسّق وعوائدٌ فيها تنوسيَ أصلها ... وفوائدٌ ما إن حواها مهرق لا عيب فيه سوى الأناة مع الحيا ... أوْ أنه بالعلم لا يتشدق أو أنه في كل فن قدوة ... وبعلمِ فقهٍ شأوهُ لا يلحقُ نصبتْ منصَّات النصوص لديه نص? ... ب العين بالإفتاء برقاً يبرق فاسأل جميع الناس هل حفظوا له ... من زلة حيث النهى تستزلق هل ريءَ منه سوى الرضى عند القضا ... أو كظم غيظ أن جفاه الأحمق؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 هل ريء يوماً راغباً في منصب=أو بابَ ذي جاه وجود يطرق؟ هلْ كان غير الاقتصاد سبيله=لا يقتفي رخصاً ولا يتعمّق؟ واسأل ذوي الإغواء هل كانت لهم=في حكمه آمال ميل ترمق يرضي كلا الخصمين نافذ حكمه ... فترى السجين كأنّما هو مطلق وإذا خلا الحكام عن غرض وعن ... جهل بحق الله لا يستحنق وبجملةٍ فالشيخُ فذُّ زمانه ... وبصالح السلف الأوائل ملحق ما ضرّه التأخيرُ في تصديره ... كاللام في إخبار إنّ تزحلق يا راحلاَ عن فتية غادرتهم ... حيرى ويومُ البين ليلٌ مطبق أعزز عليهم أن تغيب ولا يرى ... من شمسكم قبل القيامة تشرق يا مودعاً في قلب من قد فاته ... توديعكم حرقاً بها يتمزق هل أعجلتك الحور عنا أم لكم ... علم بأني عن قريب ألحق؟ أم قد نسيت العهد لا بل ها أنا ... مستغفر مما لساني يسبق جهل العهود البيرمية مبرم ... بسواه ذو التجريب لا يتوثّق يا آل بيرم لا عدمنا منكم ... عقداً به جيدُ العلوم يطوّق إن أخلقتْ نوبُ الردى منكم فتى ... ففخاره طول المدى لا يخلق من ينتحلْ تهذيبكم فجوابه ... شتان خلق راسخ وتخلّق وعزاؤنا والناس طرّاً واحدٌ ... وأرى المصاب يهون إذ يتفرق يا رب أكرم نزله وأنله ما ... قد كان من سعة العطا يتحقق يا رب خلقك يشهدون بأنه ... الأصدق الأوفى النصوح المشفق يا رب صدّق فيه قول مؤرخ: ... (بمقام صدق حل هذا لأصدق) ?33 الشيخ أحمد بن الخوجة هو شيخنا أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة شيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام وحفيد مفتي الأنام فهو ثالث أبائه الكرام في الخطة الشرعية، ولد سن 1246 ست وأربعين مائتين وألف، وتربى في حجور العلم والتعليم، والفضل والتكريم، باعتناء والده شيخ الإسلام الذي اتخذ الاشتغال بتعليمه ديدناً في أواخر عمره سائر الليالي والأيام، فجود على والده القرآن العظيم وقرأ عليه الأجرومية وشرح الشيخ خالد والأزهرية والمكودي على الألفية والدرر في الفقه الحنفي وشرح المحلي على جمع الجوامع والسعد على العقائد النسفية، وروى عنه صحيح البخاري وأجازه عنه بسنده العالي إجازة مطلقة رضي الله عنه وهذا نصها: الحمد لله الذي وصل من انقطع إلى جنابه، ووقف ضارعاً خاضعاً ببابه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاماً ترجو بهما النجاة يوم العرض على الله من مناقشة حسابه، وأليم عقابه. وبعد، فإن ولدي الفاضل النجيب، الزكي الذكي الأريب، الحائز من العلوم أوفر نصيب، الرامي في ميدانها بسهم مصيب، الأمجد، الأنجد، أبا العباس أحمد، زاده الله توفيقاً، وحشرني وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قد التمس مني أن أجيز له فيما تضمنه هذا الثبت وغيره مما أمليت أو كتبت وفي سائر ما هو لدي، وصحت نسبته إلي، فها أنا قد أجزت له إجازة تامة في ذلك كله علماً مني بأنها من وضع الشيء في محله، وأجزت له أيضاً أن يجيز من أراد الكرع من حوضه، والاقتطاف من أزهار روضه، وأوصي ولدي بتقوى الله في سره وعلانيته، فإنه سبحانه مطلع على فعله وعلى نيته، وأن لا ينساني من صالح دعواته، في خلواته وجلواته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم كتبه بيده الفانية الفقير إلى ربه محمد بن بالخوجة عفا الله تعالى عنه بمنه في يوم الاثنين التاسع عشر من صفر سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين وألف، سبحان المحيي المميت سبحان الحي الذي لا يموت سبحانه لا إله إلا هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقرأ على عمه الشيخ حسن بن الخوجة القطر والفاكهيونبذة من العيني على الكنز، وجود برواية حفص على الشيخ حسين البارودي والشيخ محمد الستاري، وروى عن الشيخ إبراهيم الرياحي قطعة من الموطأ وأجاز إجازة عامة مثل ما أجازه به والده وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة نبذة من شرحه للدرة، وقرأ على الشيخ محمد يبن عاشور الآجرومية والخبيصي على التهذيب والأشموني ومقدمة مختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة نبذة من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر قطعة من الأشموني ومقدمة مختصر السعد والكبرى وقطعة من تفسير البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد معاوية المطول وصدر الشريعة والشفا، وقرأ على الشيخ محمد البنا الأشموني على الألفية، وقرأ على الشيخ محمد الخضار نبذة من الأشموني، وقرأ على الشيخ علي العفيف الأزهرية والتوضيح المحلي على جمع الجوامع، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد المكودي على الألفية والأشموني والمطول، وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي شرح الشيخ خالد على الأجرومية والأزهرية. ومع هذا سهر الليالي في خدمة العلم والمطالعة وإجازه شيخ الإسلام البيرمي الرابع بإجازة بديعة نصها: [الوافر] بحمد الله أفتتح المقالا ... وأشكره على النعمى تعالى وأسأله الصلاة على رسول ... بمحكم شرعه نسخ الضلالا وأسأله سلاماً منه دوماً ... على علياء حضرته يوالي صلاة مع سلام كل حين ... يعم شذاهما صحباً وآلا وبعد، فإنّ نيل العلم فخرٌ ... لصاحبه يورِّثه جلالا ولاسيما الحديثُ وأي شخص ... يزاوله ولم يحمد مآلا وممن قاده التوفيق حتى ... تردّد في معالمه وجالا وأسهر جفنه فيه اكتساباً ... وبالغ في تطلبه فنالا (أبو العباس أحمد) وهو منْ قد ... عجزت إذا طلبت له مثالا وبابن الخوجة الأسمى أبيه ... محمدٍّ الهمام حوى احتفالاً ومن أضحى لذاك الليث ... فقد سبق الجهابذة الرجالا وقد طمحتْ إلى الإسناد نفس ... زكتْ منه وأحسنتِ الفعالا فأضحى للفقير يرومُ منه ... إجازته وقد ظن الكمالا وأفنى في تردده زماناً ... وكرّر من عنايته السؤالا فأحجم عن إجابته حياء ... وأوسعه لذا المعنى المطالا ولمّا لم يجد من ذاك بدّاً ... ولا أعفى الملحُّ ولا أقالا تجشَّمها وليس بأهلٍ ... مساعفةً لراغبه وقالا: أجزتُ له روايةَ ما روى لي ... أساتذتي وقد كانوا جيالا وخصصت الصحيحَ بذاك ذكراً ... لأنّ له على السبق اشتمالا وذلك جامع (الجعفيِّ) من قد ... عليه الناس قد أضحوا عيالا وأرويه عن الجدّ المعلَّى ... ومن بعلومه ملأ السِّجالا وقدْ أبدى له سنداً بنظم ... شهيرٍ لو حواه الطِّرسُ طالا وعممت الإجازة في علوم ... لزمت بكسبها مني اشتغالا فلست مخصصاً منها كتاباً ... ولا فنّا وأوسعت المجالا وما حرَّرتُه في العلم عني ... روايته له ساغت زلالا وفي المنثور والمنظوم ممّا ... تنمّق فاغتدى سحراً حلالا وذاك ملائكه التقوى فطوبى ... لعبد نال بالتقوى اعتدالا وبالإخلاص في التعليم أوصي ... فذاك يورِّثُ العلم الجمالا وأسأله إذا ناجى دعاء ... لزلاتي العظيمة أنْ تقالا وبالختم الجميل وفاز عبد ... غدا حسن الختام له نوالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة فزان الجامع بدروسه في المعقول والمنقول، وأخذ عنه كثير من الجهابذة الفحول، وتقدم لإمامة جامع محمد وباي مدرسة المشيخة الشماعية فزان صدريهما بدروسه العالية وخطب من إنشائه الخطب البليغة، وختم بالجامع الأختام التي هي أفخر الأختام حضر الأمير كثيراً منها واتخذها جهابذة العلماء محطاً لرحالهم، وتقدم لخطبة القضاء في ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين مائتين وألف فقام بأعبائها ورجع والده فشابهه في التطبيق والتنزيل وأصبح في دار الشريعة هو الفرد العلم، ومن يشاب أباه فما ظلم، وفي المحرم سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف تقدم مفتياً ثالثاً، فأعاد على جامع الزيتونة ما ألفه من دروسه المحققة المحررة وتصدى للتدريس والإفتاء، على طريقة لا ترى فيها اعوجاجاً ولا أمتاً، وكتب الفتاوي المحررة وقد تصدى لتكميل حاشية والده على الدرر من أولها حيث إن شيخ الإسلام والده ابتدأ على الكتاب المذكور من النكاح. ولما توفي الشيخ مصطفى بيرم صار هو ثنيان الفتيا وهو عماد أهلها علماً وفقهاً وخبرة بالسياسة الشرعية مع تضلع في العلوم العربية والأدبية بحيث إنه حامل رواية المعقول والمنقول، الآية الكبرى في الفروع والأصول، وتجمل بحسن الأخلاق ولطف المحاضرة وحسن تقلب في المذاهب السياسية والشرعية وعلو الهمة وحسن الملاقاة والبشاشة والكياسة والمعرفة بتاريخ البلاد، والأصالة التي ألحقت الأبناء بالآباء والأجداد، والإبداع في النظم والنثر والقلم السيال، في حسن الإرسال، والتصدي لنفع العباد بما فوق المراد، فقد بذل جاهه فيما نفع به كثيراً من الناس وله ميل إلى معالي الأمور وتخليد الذكر الحسن. وقد قرأت عليه في مبدإ قراءتي غالب شرح القطر لابن هشام بحواشي الشريف ونبذة من التصريح، وقرأت عليه بعد ذلك دروساً في المطول من مبحث الفصل والوصل بحواشي المولى عبد الحكيم مع تحرير بديع، ثم قرأت عليه الفاتحة في تفسير القاضي البيضاوي بحواشي عبد الحكيم وكان يومئذ بصدد الكتابة على الحواشي المذكورة بحيث إنه تصدى لإتقان إقراء الكتاب المذكور بغاية الاعتناء وحضر بين يديه حينئذ كثير من جهابذة علماء العصر. ولما توفي الشيخ محمد معاوية قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي إلى خطة مشيخة الإسلام يوم السبت السابع والعشرين من صفر الخير سنة 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف فزان الخطة المذكورة بمفاخرة التي لا تحصى. وقد كاتبه الشيخ سالم بوحاجب مهنئاً بذلك بما نصه. تبارك الذي أقر عيون المناصب الشريفة، بمصادقة ذوي الرتب العرفانية المنيفة، ووسع دوائر الإنتاج في كل إدارة، كلما زفت الصدارة، لمزيد الجدارة، فهناك تتواصل أرحام السداد، وتتعاضد فنن الاتحاد، بانضمام سهولة الانقياد، بحسن الاقتياد، وقد آذن بتفتق أزهار الرياض العرفانية، غرف هاته الأماني السنية. [الكامل] نبأٌ أدار سلافة السَّرَّاءِ ... وأدال تهنيةً عقيبَ عزاءِ بدءاً نعى شيخ الشيوخ المنتجي ... بسليم قلب أرحم الرحماء وبإثر ذا هجم السرور على الأسى ... كهجوم جيش الصبح بالظلماء أن قد تبوأ رتبة المرحوم من ... هو منه منزل مبدع الأبناء العالم ابن العالم ابن العالم اب ... ن أماجد الأجداد والآباء فلتهن مشيخة الإسلام ... ول تعد الشباب بأحمد الأكفاء فلبيتها الخوجي عادت رغبة ... والعود أحمد مفصح بثناء سيدي وملاذي، وابن المقدس سيدي وأستاذي، أدام الله بمجدك الأثيل مسرة أصدقائك، ولا حجب العيون عن الاهتداء بنور ارتقائك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بعد السلام الأتم، النامي بطيب المكتم، فإن رسوخ قدم الأخوة القديمة، وحسن المعاملة التي لم تزل لحفظ حقوقها مستديمة، مما يوجب أن أنهي لجنابكم السامي وسؤددكم العظامي والعصامي أن ارتقاءكم رتبة المشيخة الإسلامية، المؤسس على دعامتي التهذيب والتبريز في الحلبات العلمية قد توفر من مسرته حظ العبد، وإن اتسعت مسافة البعد، واستوعبن الأشغال القبل والبعد، بيد أني تصاممت برهة من دواعيها، لأبث لهاته البطاقة طوية تحظيها عند واصيها، وفي ضمن تهنئكم أهنئ نفسي ثم سائر أبناء جنسي، حيث إن منى الجميع هو نمو النتائج العرفانية لذي هو ملاك الاستقامة الدينية والدنياوية وتقديم مثلكم حفظكم الله تعالى فإنه لتحقيق المنى، فما أجدره بتعميم المسرة والهنا، وأسأل الله أن يديم بحفظكم نجاح الآمال، فما أجدره بتعميم المسرة والهنا، وأسأل الله أن يديم بحفظكم نجاح الآمال، وتسديد الأعمال، وظهور آثار الكمال. وقد لازم بعد تقلده الخطة تحرير المسائل، لكل سائل، وكتب عدة رسائل، يجري بها عذب النفع السائل، ووقفت منها على تحريرات صدعت، بأوضح التقريرات وفي كثير من تخريجاته يتبين له أنه وافق فيه ما هو مختار محرر المذهب الحنفي بالديار التونسية شيخ الإسلام البيرمي ومع ذلك يجمع ما عليه المذهب الحنفي والمذهب المالكي مما يكون به تحقيق المناط في غاية الوضوح، وذلك من سعة علومه وتوسع أنظاره في مقتضيات الأحوال توسعاً لم يشاركه فيه أحد من علماء البلاد في هذا العصر. ومما أوقفني عليه من بدائع تحريراته رسالة في حكم الانتفاع بشواطئ البحار ومعظم الأنهار، وعندما تأملتها ورأيت حسن منزعه فيها كتبت له عليها بما نصه: حيهلا بالمحيا الوسيم، والثغر العاطر الشميم، المفتر عن الدر النظيم، من تحريرات ذي النفع العميم حجة الإسلام، ومجمع بحري المعقول والمنقول، تاج جبين الأعلام، الذي افتخرت به الفروع والأصول، البحر الخضم، المتلاطم الأمواج بالعلوم والحكم، والطود الأشم، والركن المستلم، ومن إليه انتهى التحقيق في كل ما عرض وألم، مقيم دعائم المجد والكرم، بالفضل الأعم، حامل لواء الشريعة في كل الأصقاع، وهل تخفى النار يحملها اليفاع، شمس لملة وإمامها، وفخر الأمة وعلامها، صاحب المفاخر التي لا تقف عند حد، ووارثها عن أكرم أب وجد، فرع شموس الهدى بين الأنام، ومنجب العز المحجلين من الأعلام أستاذنا الهمام، مولانا شيخ الإسلام وابن شيخ الإسلام علامة العصر سيدي أحمد بن الخوجة لازالت سيول معارفه ثجوجه، وطريقته في العلوم أكمل طريقة منهوجة، وناهيك بما أبداه من الآثار، التي شنفت السمع بالدر المختار، وأجلت لسائر الأنظار، أجنتها الدافية القطوف والثمار، من هاته الرسالة التي أوضحت حكم الانتفاع بشطوط الأبحر ومعظم الأنهار، وما شاكل ذلك من المسيلات والعيون، مما كان حكمه بين الجهابذة في زوايا الكمون، حتى تجلت هاته المسائل كالعرائس على منصاتها، وقد ضفت ظلال التحقيق على عرصاتها، واكتسب من إبداع التحرير أي جلباب، عليه رونق تحبير الآداب، بفصاحة الأنفاس، ووضوح النص والقياس، حيث جمعت جميع ما تحتاج إليه تلك المسائل على الوجه المحصول، وأحاطت بأحكامها الفرعية المؤيدة بقواعد الأصول، مستندة إلا ما جرى به العمل في هاته الديار، وتحرر عن الجهابذة الأخيار، حتى أجرى به مؤلفها النحرير من أعذب موارده، بالنقل عن المقدس والده، نقلاً مدللاً بنصوص أيمة المذهب وحفاظه، مؤيداً بمتانة فهمه وعذوبة ألفاظه، ولابدع في ذلك ما هاته بأولى أياته، وكم أظهر في غرائب المسائل لطائف نكاته، النمحبرة بتحبير تحريراته، لازال بيته ركنا في الإسلام، وهو تاج بين الأعلام، على ممر الأيام، وبما أن كرم هذا المهام أنالني حضور مائدة الإكرام، بإباحة المطالعة لهاته الآيات العظام، حتى أسمت الفكر القاصر في رياضها، وكرع من منزل حياضها، حتى أصبح نشوان من أقداح هذا الإبداع، ولك يتمالك أن حدا اليراع، في اقتحام ما ليس بمستطاع، حتى جرى في ذلك الميدان خجلاً من مقام الإجلال، ونظم ما جال في الخلد من جولان تلك الرسالة البديعة فقال: [الكامل] جالت فأجلت نيّرَ الأقمارِ ... وأجالت الأقداح باستبصار فإذا لها فخر المعلّى ينجلي ... بين الأجلاء انجلاء منار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وبهاته كشف المعمى حيثما ... عنها أميط اليوم خير ستار فبدا محياها عليه تهلل ... بطلاقة التحرير دون غبار وتبسمت عن ثغر تحرير جلا ... تدقيقَ حبر واسع الأنظار وجرت بميدانِ النصوص وأحرزت ... نسقاً يعود بأحسن الآثار لم تعدُ منطوقاتها إلا لتح? ... قيق المناطِ بواضح الأسرار وتأيدت من ذاك بالعمل الذي ... أجراه من سلفوا على أطوار فغدت حفاظَ مسائل سالت بها ... مزنُ العلوم بوابلٍ مدرار أبدى مؤلِّفها بها حكماً على=شطِّ البحور ومعظم الأنهار لا زالت حجة ديننا تسمو به ... أصقاعنا عنه سائر الأقطار وتوفي بمرض لازمه عدة سنين لم يترك في فرص راحته الاشتغال بالعلم والإفتاء إلى أن أتاه محتوم الأجل بعد زوال يوم الأحد الخامس من ذي الحجة عام 1313 ثلاثة عشر وثلاثمائة وألف، ودفن صبيحة الاثنين بالزلاج وحضر الأمير مشهد جنازته وصلي عليه ببطحاء القصبة عليه رحمة الله. 34 الشيخ أحمد كريم هو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمود بن عبد الكريم المدعو كريم بن عثمان التركي، ووالدته بنت مصطفى بن عبد الكبير بن يرسف بن عبد الكبير بن يوسف درغوث فهي حفيدة ثلاثة من مشايخ الإسلام، وكان مقدم جده عثمان من جند الترك، وكان ولده كريم أمين صناعة الشاشية بتونس، وكان ولده محمود تعاطى صناعة الشاشية. وولد صاحب الترجمة ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة 1243هـ? ثلاث وأربعين ومائتين وألف وقرأ القرآن العظيم على الشيخ الحاج علي بن المهدي وأتمه على الشيخ محمد الذهب الخياري وابتدأ قراءة العلم الشريف في شوال عام 1258 ثمانية وخمسين ومائتين وألف فقرأ على الشيخ حسن بن الخوجة كتب المبادي شرح الشيخ خالد والأزهرية والقطر ومراقي الفلاح ومولا المسكين على الكنز والتذكرة للقرطبي، وقرأ على أخيه الشيخ محمد بن الخوجة الأزهرية وقطعة من البخاري وقطعة من الدرر، وقرأ على الشيخ حمدة بن عاشور الألفية وقطعة من شرح الأشموني وقطعة من السعد، وقرأ على أخيه الشيخ الطاهر بن عاشور القطر والبردة والمحلي والمطول الجميع بحواشيه التي ألفها وقطعة من مسلم وقطعة من المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ حسن فرشيش الفرائض، وقرأ على الشيخ الحاج عبد الله الدراجي الشذور، وقرأ على الشيخ محمد برناز شرح المصنف على السلم، وقرأ على الشيخ محمد القسنطيني الصغرى والوسطى وقرأ على الشيخ محمد بن مصطفى البارودي الشذور، وقرأ على الشيخ محمد معاوية الدرر، وقرأ على غير هؤلاء يسيراً مثل الشيخ العربي الشريف والشيخ محمود قابادو والشيخ الأمين بن الخوجة وقرأ على الشيخ محمد ابن سلامة نبذة من المكودي، وأخذ جانباً من الموطأ عن الشيخ إبراهيم الرياحي، وروى الشفا عن الشيخ مصطفى بن عزوز دفين نفطة، وتقدم لخطة العدالة في 3 ذي القعدة الحرام سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف. وهو أول مدرس حنفي ثبت في الرتبة الثانية بجامع الزيتونة وولي ذلك في ربيع الأول سنة 1265، ثم ارتقى إلى الرتبة الأولى في 5 جمادى الأولى سنة 1267 وأقرأ كتباً مهمة منها الكنز وتتبعه بالهداية وفتح القدير ومنها شرح الشيخ برتقيز على متن القدوري وصل فيه إلى كتاب الجنايات، وعند ذلك اتفق أن انتصبت مجالس الجنايات بتونس وتقلد هو كاهية المجلس في شوال سنة 1277 وتقدم في قوانينها تقدماً كلياً إلى أن صار رئيس مجلس الجنايات وتقلد خطة الإفتاء في الثالث والعشرين من شوال سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف، ثم تقدم خطيباُ وإماماً ومدرساً بالجامع الحسيني أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف بتأخير الشيخ محمد بن أحمد البارودي إمام السراية بباردو. وخطب من إنشائه الخطب البليغة وقد وقفت له على ديوان خطب مهذبة مختصرة يستعملها بعض علماء الحاضرة وختم فيه الأختام المحررة الرائقة وقد حضر الأمير بعضها. وهو عالم داركة عارف بمقتضيات الأحوال فصيح اللسان والقلم لطيف المحاضرة مستحضرة للأجوبة محرر لدروسه خبير بدقائق المذهب الحنفي متودد إلى الناس جميل السمت نظيف الثياب حسن الهيئة أديب شاعر ناثر يرصع قصائده المديحية بمحاسن الغزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وجمع شعره في ديوان سماه السحر الحلال يحتوي على ثمانية كراريس من لطيف الشعر، وقد شرح قصيدة كعب بن زهير شرحاً لطيفاً شحنه أدباً ولطائف من أحوال العرب ووقائعهم، وكتب شرحاً على البسملة، وشرحاً على خطبة مختصر السعد التفتازاني، وحين أقرأ شرح القدوري للشيخ برتقيز بجامع الزيتونة تتبع قضاء الفوائت بمسائل معركة الشيخ حسين البارودي والشيخ لطف الله الأرزومي الأعجمي وكتب في المسألة رسالة صوب بها كلام كل من الشيخين. ولما توفي الشيخ مصطفى بيرم صار مفتياً ثالثاً ولما توفي الشيخ محمد معاوية صار مفتياً ثانياً فهو اليوم كاهية شيخ الإسلام ملازم للإفتاء والتدريس. وختم صدر الشريعة بجامع الزيتونة وكتب حواشي على مباحث من الدرر، وتصدى لشرح منظومة المحبي في الفقه الحنفي شرحاً بديعاً يحوي تلك المسائل الفرعية على ما به عمل الديار التونسية بأنقال عين المسائل من أمهاتها وتأييدها بقواعدها الأصولية التي ابتنت عليها وربما أوضح مبنى الاختلاف بين مذهب المالكية والحنفية بحيث إنه يعد من مهمات كتب الفقه الحنفي. ولما أطلعني على أجزائه قبل استيفائه كتبت عليه في تقريظه ما نصه: تبارك الذي أنشأ جنات معروشات، بأجمل العريش وأطلع في آفاق الصفحات خيلان الأحبوشات، وأفاض عليها من الإبداع جناح المريش. أبدع آيات إحكام أحكامه وكل شيء عنده بمقدار، وأتقن ترتيب العالم في نظامه ولا يعلم أحد ما أودع في تلك الأسرار، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شا ومن لعقل القاصر بفهمه أن يصل إلى إدراك حقائق ما على حكمة الإبداع قد انتشا فكم من خبايا في زوايا هذا النظام، تنشر أبدع الطي من مفاخره، وكم من غرائب تحار دونها الأفهام، لا تختص بأوله ولا بآخره، فمن خاض خضم هذا النظام وسبح في بحره الزاخر، رأى بعيني البصر والبصيرة مصداق كم ترك الأول للآخر، أفلم يأن للمتبصر أن يقلب طرف الاستبصار، ويجيل فكر الاعتبار، في شريعة سيد الأبرار، التي لم يزل تجدد الليل والنهار، يشيد منها أعز منار بأحكم الآثار، الدالة على صلوحيتها لكل جيل في جمع الأطوار، ولم يزل علماء الأمطار في جميع الأقطار يوضحون ما لم يهتد إليه غيرهم من الأسرار، إلى هذه الأعصار، التي أطلعت آية غطت على الشمس في كبد النهار، ونثرت الدر المختار، بما عليه المدار، من فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه وأرضاه ما تجدد الملوان، ألا وهو شرح المنظومة العديمة النظير، الموشحة بأحسن التحبير، المنسوبة إلى العلامة المحبي المساة بعمدة الحكام ومرجع القضاة في الأحكام، ويا لها من مرجع بديع النظام، تفتخر به الأيام، ويا لله ما أجلاه من خبياتها ذلك الشرح، الذي رفع به مؤلفه من قواعد الأصول والفروع أعظم صرح حرره ثنيان الفتيا، ومن له في العلوم العقلية والنقلية الرتبة العليا، الداركة النحرير، ومعدن التدقيق والتحرير، والعمدة العلامة، والدراكة الفهامة الهمام الكريم، والمتقلد من وصف الكرم بما يدل على التعظيم، من خيم الفضل في ساحاته فكان أكرم مخيم المفتي الشيخ أحمد كريم، لا زالت مساعيه ناجحة، وموازين علومه بالصواب راحجة، وناهيك بما أودع فيه، والذي ملأ الكون من مفاخرة يكفيه، فقد أتى في إبداعه بالسحر الحلال، والعذب الزلال من كشف خبيات تلك اللآل، التي كانت في زوايا الإهمال، وما جلس لها أحد لها في الخلال، حتى أجلاها على منصة الكمال، واضحة الأقفال مؤيدة من القواعد الأصولية بأمتن وجوه الاستدلال، التي لم تترك وجهاً للإشكال، مع الإنصاف الذي هو ملاك الأعمال وتحرير المعمول به الأقوال ولما أوقفتني مودة هذا الشارح على غاية الآمال من هذا الشرح العزيز المثال، الذي رتع الفكر في مفصل رياضه وجال، وتوله بحميا خندريسه فأنشأ وقال: [الوافر] أبحرُ الفقهٍ يقذف مثل غرب ... بفيض الدر من شرق لغرب فأطهر بين أهل العلم كنزاً ... يفيد كفاية في كل إرب أمٍ التوضيح بان به منارٌ ... من الإرشاد بالإصباح يبني هدانا للهدى لأعزّ معنى ... هو المغني على قرب المغب بلى إنّ الصباح لهُ انبلاج ... بفجر ساطع من تحت حجب وما هو غير شرح فاق كشفاً ... يزيل الحجب عن (نظم المحبي) به صدر الشريعة زان روضاً ... يطيب بعرفه لين المهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فساد به كمالٌ تونسي ... أسالَ النفع من سلسال عذب فعاد له الثنا عوداً ينادي ... بأن العود أحمد وهو حسبي همام توج الفتيا بعلم ... به الفتيا تروح له كصب وأطلع من مطالعه عزيز ال? ... فتاوى نيّرات مثل شهب وأجرى من منابعها سيوباً ... تروِّي النفس من رقراق شرب وأجلى من محاسنه عروساً ... موشحةً سمت عن كل ترب وأظهر من صنعائه جميلاً ... فهذا الشرح طب المستطب به درر المحب تزيد حسناً ... نحور المعتلي منها بقرب فتحظى حاليات من سناها ... وكانت قبل لم توسم بثقب ويا لله ما كشفَ الحجا من ... خبيات المعاني كشف ذرب فأضحى من أصول الفرع ما ... به كشف المعمى دون ريب وأيدها بأنقالٍ وفقهٍ ... أدلته نبت عن كل عطب وربَّتما توسّع في بساط ... توسُّع سابرٍ أغوار كتب يريك مداركاً لمذاهبٍ قدْ ... أماط عنها اليوم كل حجب وتعليلاً به يشفي غليلاً ... ويسق ظامياً أكواب عذب هو الشرح الذي في شرخ عمري ... رأيت الكشف منه فقلت حسبي به قد فاخر النعمان جهراً ... وأشهر صاحباه صقيل عضب ومن كرم كريم القوم أسدى ... به بيض الأيادي دون غب أدام به المهيمن سيب نفع ... يجود به لإرواء المحب وولي مشيخة الإسلام بعد وفاة من قبله وتوفي في المحرم سنة 1215. وتقدم عوضه الشيخ محمد بن مصطفى بيرم شيخ الإسلام البيرمي الخامس. 35 الشيخ حسن بن الخوجة هو الشيخ أبو محمد حسن بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة المفتي ابن المفتي وأخو شيخ الإسلام وعم شيخ الإسلام فهو رابع آل بيته الكرام في الخطة الشرعية. ولد عام 1209 تسعة ومائتين وألف وقرأ على والده الشيخ أحمد بن الخوجة شيئاً من المبادي وختم عليه الأشباه والنظائر، وقرأ على أخيه الشيخ محمد بن الخوجة كثيراً من المبادي وشرح الدرر، وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث صدر الشريعة والدرر، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي الفاكهي والأشموني، وقرأ على الشيخ محمد الستاري علم الكلام بمسجد العبيدي. وتصدى للإقراء غير أنه مع ذلك اشتغل أولاً بصناعة الشاشية وهي التي عاقته عن كثة الإقراء، وقد ولي خطة التدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي فأقرأ بالجامع، ومع ذلك لم يزل مشتغلاً بصناعته إلى أن ولي خطة القضاء في المحرم سنة 1279 تسع وسبعين وقضى نحو الست سنين وتقدم لخطة الفتيا فأولاه المشير محمد الصادق باي مفتياً خامساً تاسع شعبان الكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ مصطفى بيرم صار مفتياً رابعاً وباشر الخطة فأفاد المستفتين وكان فقيهاً لين العريكة حسن الأخلاق عارفاً بتاريخ البلاد حسن المداعبة. وقد بلغ من العمر نحو الثمانين سنة وتوفي ثالث ذي الحجة الحرام سنة 1289 تسع وثمانين ومائتين وألف عليه رحمة الله. 36 الشيخ محمد البارودي هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن حسين محمد بن حسين بن إبراهيم البارودي، ولد ثاني ربيعي سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ بين يدي والده فجود عليه القرآن العظيم، وقرأ عليه كتب المبادي وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث، والشيخ محمد بيرم الرابع والشيخ محمد بن الخوجة والشيخ محمد معاوية والشيخ محمد بن عاشور، والشيخ محمد النيفر وغيرهم من علماء جامع الزيتونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وتقدم لخطة التدريس في الرتبة الثانية عند وضع الترتيب الأحمدي في 12 ربيع سنة 65 خمس وستين فتصدى للإقراء بطريقة بديعة، وتقدم للإمامة والتدريس بالجامع الباشي عند وفاة والده وأقام به الخمس على عهد خطبة الشيخ محمد معاوية ثم الشيخ عثمان البارودي ثم ابنه الأكبر الشيخ محمد البارودي ثم أخوه الشيخ محمد وبوفاته تنقل لإمامة باردو وولي خطبة الجامع الباشي الشيخ حمودة بيرم وإمامة الخمس الشيخ الشاذلي بن القاضي ثم ضمت له الخطبة، وحيث إن إمامة الخمس هنالك الرواية أقرأ صاحب الترجمة فيه صحيح البخاري وختم فيه في شهر رمضان الأختام المحررة البديعة على العادة وتقدم لخطبة جامع باردو وإمامة السراية ثانياً لعمه، ثم لما توفي عمه الشيخ عثمان البارودي في رمضان سنة 84 أربع وثمانين صار إماماً أول فيهما، ولازم القيام بخطبة باردو عدة سنين، وولي ثانيه غيهما يومئذ ابن عمه الشيخ محمد بن عثمان البارودي، وتقدم للرتبة الأولى في التدريس بجامع الزيتونة ولازم التدريس به وتقدم لمشيخة المدرسة الجديدة ودرس بها الفقه الحنفي كثيراً. ولما انتصبت المجالس القانونية انتخب لها وباشر خدمتها مدة ترتيبها، ثم لازم التدريس وتزوج بابنة عمه وأقام لعرسه وليمة باذخة دعا لها دعوة الجفلى، وأظهر من نفائس الأطعمة والملابس ما اضطره إلى التداين بما لم يقدر على قضائه ولما اشتد عليه الطلب أنفت نفسه من البقاء على مطالبة الغرماء فلازم داره أكثر من عامين. وفي شهر رمضان المعظم سنة 1280 ثمانين أرسل له المشير الثالث محمد الصادق باشا باي بالخروج لعمل ختم البخاري بجامع الباشا على العادة المألوفة فخرج وحضر لختمه المذكور الأمير وسائر العلماء وسر الناس خروجه، وعند ذلك مدح الأمير بقصيدة طرزها بقوله سيدنا ومولانا الملك الشهير، محمد الصادق باشا المشير وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل] سعدتْ ببدر مشيرنا الأرواح ... مذْ لاح بارق نوره الوضاح ثم إنه أعمل وجوها من الصلح مع غرمائه وأعاد الكرة إلى دروسه فلازم التدريس سائر يومه، وكنت في ذلك الوقت نحضر غالب دروسه بحيث إنه يحضر بجامع الزيتونة قبل الزوال بأربع ساعات فيقرئ أربع دروس وعند الزوال يخرج لصلاة الظهر بالجامع الباشي، وبعد الزوال يقري درس الفقه بالمدرسة الجديدة ثم يصلي العصر بالجامع الباشي ويجلس للتجويد ساعة ثم يقري به درسين تدركه في ثانيهما صلاة المغرب مغالباً، هكذا ديدنه في كل يوم وفي ذلك العهد قرأت عليه شرح الشيخ خالد على الآجرومية مرتين وقطعة من الأزهرية والقطر، وقطعة من الشذور والمكودي على الأليفة، ودروساً من الأشموني، وجودت عليه القرآن العظيم براوية حفص وختمت عليه شرح القاضي على الجزرية والدمنهوري على السمرقندية ونبذة من الملوي عليها والجربي على إيساغوجي، وختمت عليه الباجوري على الجوهرة وقطعة من لامية الأفعال وقطعة من الباجوري على البردة ونبذة من أول الشفا بشرح الشهاب ومواضع متفرقة من صحيح البخاري بعضها دراية وبعضها رواية فقط، ومع ذلك حصلت بمراجعته ومجالسته ما نرجو من الله أن يجازيه عني به أحسن الجزاء. وكانت طريقته في التدريس أحسن طريقة لنفع الطالبين حيث إنه يلم بالمسألة أولاً ثم يعيد ما قرره بمطابقته على عبارة المؤلف مع غاية الإيضاح والبيان وعود الضمائر إيضاحاً لما يتوهم معه تخلف أحد الحاضرين عن الفهم، وهذه هي طريقته مع المبتدئ والمنتهي. وتقدم لإمامة السراية وخطبة جامع باردو وخطب من إنشائه خطباً كثيرة مع ما له من حسن الترتيل وجهوري الصوت وفصاحة اللسان، وتقدم لمشيخة زاوية القادرية بعد وفاة عمه أبي النور في شهر رمضان عام 84 أربعة وثمانين ومائتين وألف. ولم يزل على طريقته في ملزمة التدريس والقيام بجميع خططه إلى أن تقدم لخطة القضاء تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف، فوجه همته للقيام بحقوق الله وحقوق العباد وأعمل يعملات جده، وتحرى لدينه، ولازم دار الشريعة للحكم بحيث لا يكاد يتأخر في وقت الحكم، واعتمد مراجعة من قبله ومع ما هو عليه من الفقه والدين، وكتب في ختمه بيتين وهما قوله: [مجزوء الرجز] يا رب لطفاً في قضا ... راجي الرضا والجود أرشد إلى شرع الهدى ... محمَّد البارودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عرضت لي في مدة تصرفه نوازل مع خاصة الدولة فقام فيها لله وأيده الله، والحاصل أنه قضى خمس سنين لم يذكر فيها بسوء وعد بذلك من صالح سلف القضاة. ثم إنه طلب الإقالة وتشدد في طلب الخروج واعتذر بأعذار كثيرة وكتب في شأن ذلك للأمير وبعد مراجعات لم تطب نفسه إلا بالخروج على كره من الأمير فقدمه مفتياً رابعاً رابع جمادى الأولى سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وظهر عليه من السرور والفرح بسلامة خروجه من القضاء ما يشهد لفضله وعند ذلك عاد إلى دروسه بجامع الزيتونة ولازم التدريس على طريقته الأولى مع الاقتصار على الفتوى وملازمة تدريس صحيح البخاري الذي لم يترك قط روايته أو درايته حتى كاد مستحضراً لجميع أحاديثه استحضاراً لم يشاركه فيه أحد كاد به أن يكون حافظه وكان عالماً عاملاً عالي الهمة محباً لأعلى الأمور عفيفاً ديناً لم يترك غرماءه المصالحة معهم فيما قدر عليه من المال بل كان يرسل إلى كل واحد منهم ما يحضره إلى أن قضى أصل دينه ديانة منه ولم يسمح بمعاوضات الأوقاف إلا بعد التحري. وكان حسن الأخلاق جميل المعاملة حبيباً صلباً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، نظيف العرض، ينظم الشعر كثيراً محافظاً على مروءته، وكان حسن القامة جميل الصورة خصب البدن غلب عليه الدم فظهرت على عاتقه طالعة لازمته إلى أن أدركته المنية فتوفي قبل الزوال بساعتين وثلث من صبيحة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة الحرام سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف عليه رحمة الله، وقد رثيته بقولي: [الكامل] قد راعَ ركن الدين رجفُ رعودِ ... بأجلِّ خطب فادح موعودِ فارتجّتِ الدنيا لهولة رجفه ... وتسربلت ثوبِ اللِّيالي السود فكأنما الأعلامُ من أحلامنا ... دكَّتْ بصعقةِ رجفهِ المشهود فالناس في لهف ومحض تأسّف ... بجريح قلب مدنف مجهود والكل صار منوهاً بتأوه ... يذكي أجيج قلوبهم بوقود وعيونهم تهمي بساكب ديمة ... لولا الدما دعت الظماء لورود فالرأي غيض وكل قلب مرمض ... والعين فائضة بغير حدود وكبود أهل الحزم رضّت وارتضت ... بيع الحياة بغير ما منقود هيهات أن يبقى بهم من مترع ... للصبر أو من مهيع محمود فالصبر تجتثُّ الرزايا أصله ... وتحيله جزعاً ممرّ أبود وإذا المصيبة عمت الألبابَ لم ... يبق الذي يسليهم بردود وهناك تضطرب الأمور وتلتقي ... كل الورى في حيرة وصدود كلُّ معزّي لا معزّي بينهم ... يتناوبون نوائب المفقود ركنِ الشريعة وابنه وابن ابنه ... فخر العلوم (محمد البارودي) العالمِ العلمِ الذي عمّ الورى ... نفعاً وقلَّدهمْ أعز عقود بحرٍ ولكن فيه وردٌ سائغ ... عذبٌ يجود بلؤلؤ منضود فالناس طرّاً يوفضون لدرسه ... كحمائم حامت على المورود فهو الإمام وخير من قد أمنا ... في كل فضل ليس بالمحجود من أمه يلق العلوم تجسَّدتْ ... وغدت تضم له بخير جلود من أمه يلق التقى في جثة ... ملتفة منه بفضل برود من أمّه يلق البلاغة ركبت ... في صوغه السامي أعز نقود من أمّه يلق الرياض تزخرفت ... بحديث خير الخلق دون جحود ذا معدن الترتيل والتأويل في ... تنزيل آي الواحد المعبود داركة المعقول والمنقول ذو ... رأي سديد بالذكاء وقود (كشاف) (أسرار) حبرها ... (مفتاح) قفل المشكل المعقود (مغني اللبيب) و (قطب) دائرة (الطوا ... لع) فهو سعدُ الطالع المسعود (جمع الجوامع) صدره الرحب الذي ... ما ضاق يوماً من فعال حسود مع أنه (التوضيح) طوع لسانه ... ببيانه المنثور والمنضود قد كان (صدراً للشريعة) حاملاً ... في مذهب (النعمان) خير بنود قد كان بحراً زاخراً بمعارف ... وعوارفٍ تجري بغير جمود قد كان كنزاً لا يسام على المدى ... بالنفس كلا لا ولا بنقود قد كان طوداً لا ينهنهه الخنا ... يأوي المصاب بظله الممدود قد كان ذا روع وفقه محكم ... في الدين لا يرضى سوى المحدود فقضى وأفتى مدة ما سيم في ... أثنائها بسوى ثنا محمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 حاز الأمانة والصيانة والدايا ... نة والمكانة في رضى المعبود حاز المروءة والعفاف وبات من ... نعمائه يلتف خير برود حاز اكتمال الخلق والخلق الرضي ... بأثيل مجد عن كرام جدود فإليه كم وفدت أهالي تونمس ... والكل عنده ليس بالمردود يلقاهم بسماحة وطلاقة ... تبدي الأناة كقسوةِ الجلمود كم سخر الشَّرسَ الشَّموسَ بما به ... قد قاد للإنصاف كل شرود واهاً له من طود علمٍ شاهق ... حملته أيدي الناس فوق العود واهاً له من بحر علم زاخر ... قد عاد مثل الصارم المغمود واهاً له من روض علم رائع ... قد راعنا بغراسه المحصود حصدته شاخصة الليالي واجتلتْ ... أسف الورى في يومه المشهود ماذا عسى يبقى تجلدهم إذاً ... يا عين من در المدامع جودي فبذا تعلمت العيونُ البذلَ من ... نثر وشغل الرأي نظم عقود ما لليراع تروعه نوبُ الردى ... ويروم حصر كماله الممدود تالله ما يسلي النهى عن فقده ... غير انجلاء في جنان خلود يا ربّ أنت منحته فخر العلا ... فامنحه من رضوانك المحمود يا رب أمِّن خوفه وابسط له ... نعم المنى في يومك الموعود يا رب ظلله بظلٍّ وارف ... بجوار أحمدَ أكرمِ الموجود يا رب يمَّنْ خفضَ عيشه واسقه ... من ورد حوض المصطفى المورود يا رب في الفردوس أكرمْ نزله ... وارفع مكانه في مقر سعود يا رب حقق فيه قول مؤرخ ... (سعد بقاع محمد البارودي) 37 الشيخ حسونة عباس هو شيخنا أبو محمد حسن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد عباس ولد في الحادي والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 39 تسع وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ في طلب العلم بعد أن قرأ القرآن وجوده برواية حفص على الشيخ حسين البارودي، وقرأ عليه صدر الشريعة الفقهي، وقرأ على الشيخ محمد الأبي شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والقط، وقرأ الكتب المذكورة على الشيخ حسن فرشيش، وقرأ على الشيخ عمر القسنطيني القطر، وقرأ على الشيخ محمد القبايلي شرح الخزرجية، وقرأ على والده الشيخ محمد عباس شرح الشيخ خالد والشذور والفاكهي والمكودي والأشموني والسمرقندية والسلم ورسالة آداب البحث والخبيصي ومختصر السعد وقطعة من تفسير القاضي البيبضاوي إلى أثناء النساء وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الآجرومية والأزهرية والقطر والمقدمة والمكودي وقطعة من الخبيصي وقطعة من المحلى والبردة، وقرأ على الشيخ محمد النيفر الشذور والفاكهي وقطعة من السعد وقطعة من المطول وقطعة من البخاري، وقرأ على الشيخ محمد معاوية قطعة من الأشموني والدرر والتوضيح على الشريعة، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة المكودي على الأليفة والدرر من البيوع إلى آخره. وتصدى للإقراء واشتغل بصناعة الشاشية مدة ثم عاد إلى الإقراء فولي الإمامة بجامع القصبة والتدريس في الرتبة الثانية عند وفاة والده، ثم في جمادى الثانية سنة 1274 أربع وسبعين تقدم للرتبة الأولى من خطة التدريس، وفي ثالث جمادى الأولى سنة 1290 تسعين قدمه المشير الثالث مفتياً خامساً ولم يزل مجداً في التدريس وقد انتفع عليه كثيرون مع ماله من حسن المواظبة والاعتناء بالدروس وتحريرها وحسن السكينة والخيرية والفقه، وقد قرأت عليه نبذة من الفاكهي وشرح الباجوري على السمرقندية ونبذة من شرح الباجوري على البردة، وهو عالم فاضل جليل خير حسن المعاملة والأخلاق مواظب على تدريس مهمات الكتب قائم بحقوق خططه في الإفتاء والتدريس والخطبة وختم بجامع القصبة أختاماً مهمة حضر الأمير بعضها وله كرم نفس وتواضع وتباعد عن التصنعات مع الإنصاف في العلم. ولما توفي الشيخ محمد البارودي صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ محمد معاوية صار مفتياً ثالثاً وهو اليوم المفتي الثالث الحنفي في المجلس الشرعي أدام الله رفعته وحمى من طوارق السوء بقعته. القسم الثالث في التعريف بالمفاتي المالكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 اعلم أن مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه قد انتشر في إفريقية انتشاراً كلياً من مبدأ ظهوره وحسبك أن القيروان قد ضمت فحولاً من أصحاب الإمام مالك، ولم يزل العلماء يروون دواوين المذهب المالكي عن حفاظه خلفاً عن سلف منذ ذلك العهد وزاد المذهب انتشاراً حتى عم البوادي من أواسط المائة الخامسة حين أرسل القائم العباسي إلى المعز بن باديس بتقليد الإمارة على إفريقية وظهرت عند ذلك أمور كثيرة منها محو شعائر الشيعة وتعطيل جهات المملكة، وكان ذلك في حدود عام 488 ثمانية وثمانين وأربعمائة وبذلك عم انتشار والمذهب وظهر بإفريقية وتونس فحول ملأت تراجمهم دواوين التواريخ فأصبحت تونس محطاً لرحال العلماء وأرباب الفتيا بمذهب الإمام مالك. وكانت وظيفة الفتيا في ذلك العهد خاصة ببعض الجوامع، وأعظمهم مفتي جامع الزيتونة أدام الله عمرانه وهنالك فتيا جامع التوفيق في عشية الجمعة خاصة وقد تقدم الإلمام بالمفتين في تلك العصور في مقدمة أيمة جامع الزيتونة ثم انفصلت الفتيا عن الجوامع فغي آخر المائة الثامنة. 1، 2 وممن أفتى بتونس في ذلك العهد الشيخ محمد السكوني والشيخ يوسف الأندلسي. ثم لما استقرت المملكة في تصريف الدولة العثمانية وأخذ فيها أمراؤها قرارها وتداركوا حال العلماء فيها أقاموا بها مجلساً شرعياً وذلك هو مبدأ العهد بالمجلس الشرعي في تونس فأقاموا أربعة مفات من المالكية لا غير بحيث إذا مات أحد منهم عوضوا منه غيره خاصة العلماء المالكية الموجودين أهل الدين والعفاف لمشورة نائب القاضوية المالكي ومراجعة أرباب الخصوم. 3، 4، 5، 6، وقد ولي خطة الفتيا بمذهب مالك في ذلك العهد العالم الصالح الشيخ سالم النفاتي مؤسس مجد بيتهم الرفيع ولازم الخطة إلى وفاته، ووليها العالم الصالح الشيخ محمد قشور، والشيخ عبد الكافي، والشيخ قاسم عظوم القيرواني وكان عالماً بفقه مذهب مالك وأبي حنيفة وإليه المرجع فيهما وألف البرنامج الفقهي، وهو من عمد كتب الفتاوي في مذهب مالك. وكان ذا عيال وأولاد ومع ذلك هو قانع من دنياه بقوته وقوتهم بحيث إنه تعاطى التوثيق لما ولي خطة العدالة بتونس ولا يجلس للإشهاد إلا بمقدار ما يحصل على قوتهم. وسبب ولايته الفتيا هو أن عثمان داي طلب منه أن يشهد له في نازلة على غير الوجه الشرعي فامتنع ولما استدعاه الداي لبذلك لم يتهيب أن وعظه بما رجع به عن طليبته صهره، ولما رأى مكانته في الدين أولاه الفتيا في ذلك المجلس وكان ذلك في العشر الأول من المائة الحادية عشرة فلازم الإفتاء إلى أن توفي عليه رحمة الله. 7 ووليها أيضاً الشيخ أبو يحيى الرصاع الأنصاري مدة إلى أن ارتقى إلى إمامة جامع الزيتونة سنة 1017 سبع عشرة وألف. 8 ووليها الشيخ قاسم بن أبي الفضل البرشكي فكان مفتي تونس في حدود السبع والثلاثين بعد الألف 1237. 9 ووليها الشيخ الشريف إبراهيم الفلاري وكان متفنناً جميل الخط فلازم الإفتاء إلى أن توفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة 1039 تسع وثلاثين وألف ودفن بالمقبرة الكائنة أمام زاوية الشيخ محرز بن خلف التي بنى عليها محمد باي المرادي جامعه بعد سقفها فهي تحت الجامع من الجانب القبلي الشرقي. ?10 ووليها الشيخ أبو الحسن بن سالم النفاتي وهو الذي أتى بخط شريف من دار الخلافة العثمانية في تنفيذ كل حكم من المفتي والقاضي من غير أن يسأل أحد منهما عن نص المسألة بعد أن كانت العادة في البلاد أن الخصم يسأل كل عالم ويطلعه على المسألة وله أن يعارض بها القاضي أو المفتي في مجلس حكمه وبذلك حصل للشيخ أبي الحسن المذكور صيت عظيم في الخطة الشرعية إلى أن توفي في طريق الحج سنة 1049 تسع وأربعين وألف. 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ووليها أخوه الشيخ علي النفاتي، وعزل، وأعيد فلازم الإفتاء إلى أن توفي سنة 1016 ستين وألف، وفي خلال تلك العزلات ولي الفتيا العلامة الإمام الموثق الشيخ عبد الله ناجي، ولم أجد لهذا المفتي ذكراً إلا في رسوم أحباس صاحب الخيرات محمد باي المراد حيث كانت أغلب أملاكه في ذلك الوقت بشهادة الشيخ المفتي المذكور ومنها رسم شراية الفندق الذي اشتراه بالعزافين من تونس بتاريخ ذي القعدة سنة خمس وخمسين وألف بشهادة المفتي المذكور والشيخ محمد السخاوي ثم جعله مارستاناً وأوقف عليه نحو الثلاثين قطعة بين ربع وعقار واختصه لمداواة المرضى وإطعامهم وكسوتهم وفرشهم ودفن موتاهم في أواسط ربيع الأول سنة 1073 ثلاث وسبعين وألف بشهادة المفتي المذكور والشيخ محمد المحرزي ولم نقف له على تاريخ ولاية ولا تاريخ وفاة ثم إن أمراء بني مراد زادوا مفتياً بمذهب مالك وجرى العمل بالمفتيين سنين متطاولة إلى دولة الأمير علي باي الحسيني فزاد مفتياً ثالثاً ثم إن الأمير مصطفى باشا زاد مفتياً رابعاً ولم يزل عددهم في ازدياد إلى أن بلغ عدد المفاتي بالمذهب المالكي إلى ثمانية من الشيوخ كلهم يحضرون المجلس للتوافق على المعتمد في المذهب أو ما به العمل في النازلة والقاضي يقضي بما يقع الاتفاق أو الأغلبية. أما سائر أيام الأسبوع فالآن يحضر مع القاضي في كل يوم واحد من المفاتي للمراجعة. نسأل الله أن يديم عز شريعة الإسلام، بجاه النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام. وها نحن نذكر تراجم من ولي هاته الخطة الشرعية بعد النفاتيين على شرطنا السابق فقول وبالله نستعين. 12 الشيخ أبو الفضل المسراتي هو الشيخ أبو الفضل حفيد خطيب جامع الزيتونة وإمامه الشيخ أحمد بن عمر المسراتي القروي من ببت علم رفيع، أزرت مفاخرة بأزهار الربيع، أسس مجده فحلان توارثا إمامة جامع الزيتونة خطبا على منبره خطباً نثرت على الأسماع بدائع الجواهر المصونة وهما محمد وأحمد أبناء عمر جده الأعلى الوراد إلى الحاضرة من مدينة القيروان فزانا أواسط المائة التاسعة بين جهابذتها الأعيان. وقد اختص جده أبو العباس صاحب الفضل المحسوس، بالتقدم للصلاة على جنازة الغوث أحمد بن عروس رضي الله عن جميعهم. وقد ولد صاحب الترجمة بتونس وأخذ العلم عن فحول جامع الزيتونة وأعظمهم اختصاصاً به الشيخ أبو يحيى الرصاع ويذل الجهد في تحصيل العلم إلى أن بلغ فيه إلى درجة عالية فكان مرجعاً في فقه مذهبي مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما يسأل عن المسألة من كلا المذهبين فيقول: إنها في الورقة الفلانية من الكتاب الفلاني. وتقدم لخطة الإفتاء بمذهب مالك فأفتى مدة ثم تأخر عن الخطة إلى أن ولي الداي أسطا مراد بتونس في الثالث والعشرين من رجب سنة 1047 سبع وأربعين وألف فأعاده إلى خطة الإفتاء بعد عزل الأخوين النفاتيين من الفتيا ونيابة القضاء وأولى في نيابة القضاء يومئذ الشيخ أحمد الرصاع. ثم إن الشيخ علي النفاتي خرج لحج بيت الله الحرام وقصد دار الخلافة العثمانية وأتى منها بخط شريف في ولايته خطة الإفتاء وعزل أبي الفضل المسراتي، ولما توفي الشيخ المذكور سنة ستين بعد الألف استعيد صاحب الترجمة إلى الخطة بعد ست سنين فكانت ولايته فيها متكررة وعودة الأخير إليها سنة سبع وستين وألف. وقد خرج في بعض المرات من عزله إلى حج بيت الله الحرام، وسئل بمصر عن مسألة حار لها علماء المذهب فاستلقى على قفاه وأملى فيها رسالة كتبت من إملائه ولما استقر في آخر أمره على الفتيا تقدم لمشيخة المدرسة العنقية فأفاد بها وصاهر بابنته الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا وكان طويل القامة أشيب ضعيف البصر. وأدركته المنية سنة 1085 خمس وثمانين وألف عليه رحمة الله. 13 الشيخ محمد فتاتة هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم فتاتة ولد بتونس ونشأ بين يدي أعلامها فقرأ على الشيخ محمد تاج العارفين والشيخ محمد براو والشيخ أبي الفضل المسراتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وامتدت يده في يد علمي المعقول والمنقول، والفروع والأصول، فكان أعلم رجال عصره في التفسير والحديث والفقه مع تظلعه في المعقولات والآداب، وقد أقرأ بجامع الزيتونة مغني ابن هشام والمختصر الخليلي مراراً بغاية التحقيق والتدقيق المشار إليه فيهما ومع ذلك كان ذا ولع بالنوازل في مذهبي المالكية والحنفية حتى صار مرجعاً لعلماء المذهبيين بالحاضرة وكتب في الفتاوي كتائب في غاية التحرير وكان آية الله في الذكاء والألمعية مع البراعة في التوثيق حيث باشر الإشهاد مع جليسه الشيخ أحمد المحجوب. ولما توفي شيخه المسراتي دعاه مراد باي بن حمودة باشا إلى خطة الإفتاء فكتب إليه قصيدة يستعطفه بها ويستقيل من الخطة وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل] قسماً بنور جمال طلعتك التي ... تروي بشاشتها ظما المرتاد ومهمامه الأمر الذي أدعى له ... فيح تبيد رواحلي وجيادي وكتب تحتها جائزتي إقالتي فجمع الأمير له الديوان وألح عليه حتى قال له إنك إن امتنعت بعد هذا كنت معرضاً عن هذا الجمع بأسره وعند ذلك قبلمنه الخطة قكانت ولايته سنة 1085 خمس وثمانين وألف وانتفعت البلاد بعلومه وفتاويه. وقد وقفت له على حكم بتاريخ سنة 1103 ثلاث بعد المائة والألف على عهد الأمير محمد باي المرادي وكان القاضي يومئذ بتونس وعملها الشيخ محمد ولي الدين والمفتي الحنفي الشيخ عبد الكبير درغوث. وقد أكمل شرح الشيخ الأخضري لنظمه درة الفرائض ومع رسوخ قدمه في علوم الدين كانت له يد طولى في العلوم الدبية وبراعة في الكتابة والإنشاء لم يكن في عصره من يزاحمه فيها وألف تاريخاً يحتوي على نحو السبع كراريس في التعريف بعلماء زمانه. ومن لطائف شعره ما كاتب به صديقين له أهديا له سمكاً صحبة مكتوب فقال: [البسيط] أهديتما سمكاً مثل اللجين فيا ... الله من سمك وافى به شركُ شفعتماه بمكتوبٍ حوى درراً ... من در لفظكما فالدر مرتبك لا شك أنكما بحران قد زخرا ... فمنكما يستفاد الدر والسمك [الطويل] وروض حللناه كأنَّ نواره ... قلائد در في نحور النواعم إذا مالا شدتْ أطياره في غصونه ... ومالت سواقيه كبيض الصوارم وجدت لذيذ الخمر في طعم مائه ... وشنفت سمعاً من غناء الحمائم ومن إنشائياته ما كتبه في تقريظ سمط اللآل في التعريف بالرجال تأليف الشيخ محمد قويسم وهذا نصه إن أحسن كلام يفتتح به المقال، وأيمن ذكر يصدر به كل أمر ذي بال حمد الله الملك المعتال، وثناء ذي العزة والجلال، الذي أبدع الكائنات بقدرته الظاهرة، واخترع المصنوعات بحسب إرادته الباهرة، والصلاة والسلام على خاتمة الرسالة العامة، والنبوة التامة، محمد المبعوث بالآيات القاطعة المؤيد بالمعجزات الباهرة الساطعة، وعلى آله الأخيار ما تعاقب الليل والنهار. وبعد فقد وقفت على ما تيسر من هذا المجموع الغريب، والأنموذج المتأنق العجيب، جمع صاحبنا وأخينا في الله الفقيه الأفضل، والعلامة الزكي الأكمل، أبي عبد الله محمد ويعرف بقويسم ضاعف الله لي وله الحسنات وغفر لي وله الخطايا والسيئات بمنه فألفيته روضاً ينعت ثماره، وعبقت بأريج المسك أزهاره، فاشتمل على مباحث أثارت الأدلة الواضحة من أماكنها، فقنصت أوابد نقولها من غوامض مكانها، فأحسن به مجموعاً قد أشرقت معانيه، وعلت على الفلك أعلى مبانيه، فلله در ناظم عقوده، وراقم بنوده، فلقد ضمنه من منح المسائل، وقد أطلع من الدلائل، ما تقر به عيون أولي الألباب. [السريع] لله مجموع سما رتبة ... على السها والأنجم الزهرِ حوى حلى أهل النهى والتقى ... والأدبِ البارع والفخرِ كأنه في حسنه روضة ... حفَّت بأنواع من الزهر نظرت في آدابه نظرة ... فامحتْ الأشجان عن صدري وعاد لي أنسي الذي كانت لي ... مصباحاً في سالف الدهر همت وما نلت له غايةً ... وهل ينال الكوكب الدري؟ ما وقعت عيني على مثله ... قط وهذا غاية الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولما تأججت الفتنة بين الأخوين محمد وعلي المراديين وجالت يد محمد باي في البلاد اعتقل مفتيي البلاد وهما الشيخ يوسف درغوث والشيخ محمد فتاتة بمحلته المنصوبة بالجبل الأخضر خارج البلد، وكان الشيخ فتاتة أحس بما أضمره الشقي ففر بقطع من الليل ودخل دار الشيخ سعيد الشريف القريبة من باب البلد فاختفى بها إلى أن سكنت الفتنة وأصدر الإذن بتأمينه فخرج واستمر على خطته وامتحن بقتل ولده حمودة العالم سنة 1109 تسع ومائة وألف فصبر لذلك. وكان أبيض اللون ممتلئ الجسم مدور اللحية نظيف الشيب حسن الزي صاحب أناة في حركاته جميل المعاملة إلى أن مرض فتوفي سنة 1115 خمس عشرة ومائة وألف وكتبت على قبره قصيدة لطيفة وهي: [الكامل] أمحمد نورت بالحسناتِ ... رمساً كبدر حلَّ الهالاتِ بلَّغتَ نصحك في الأنام فكان غا ... يتها المماتَ بأشرف الحالات قد لقبوك فتاتةً من أجل ما ... فتَّتْ دروسك معجز الآيات أبقيت عين الدّين باكية فلم ... تبرح وما فيه سوى أنَّاتِ يا روحه بشراكِ بالرَّحمى فقد ... لاحت عليكِ دلائلُ الخيرات وكذاك يدعوك العفو كرامة ... أن أرخيه (وادخلي جناتي) 1115 14 الشيخ محمد العواني هو الشريف القروي الشيخ أبو عبد الله محمد العواني حفيد الصالح الشيخ علي بن حسن بن عبد الله بن محمد بن علي بن موسى بن يحيى بن أحمد بن عوانة المغربي النحوي ابن حمودة بن زيادة بن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت العلم والشرف، المتحلي من مفاخر الصلاح بكل عز وترف، وكم لهذا البيت من فحول، ثبتت غراستهم في رياض المعقول والمنقول، وكم ظهر منه من رجالا طلعوا في أفق الولاية، وظهروا في ديوان التصرف بأعظم آية، أولئك رجال الله الذين تفاخرت بهم العصور والأزمان، وتجملت بذكر كرامتهم ومفاخرهم تواريخ مدينة القيروان، فهو البيت الذي في المجد قديم، وحسبك أن أصله منبع الشريعة عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وقد ولد صاحب الترجمة بالقيروان ونشأ بها في طلب العلم فأخذ عن جلة علمائها في ذلك العصر إلى أن حصل على علوم شتى، ثم رحل إلى مصر فاستكمل بها علومه ودخل إلى إسلامبول ونال حظوة عند صدر الدولة ابن الكبري مصطفى باشا، ثم آب إلى حاضرة تونس على عهد رمضان باي فأكرم نزله وأولاه خطة الإفتاء لما رأى له من المعرفة بالنوازل وكان طويل القامة كثيف اللحية متواضعاً فصيح اللسان، ثابت الجنان، حاضر الجواب معظماً عند الخاصة والعامة. ولما استولى مراد باي وأكثر من تعاطي الفواحش وسفك الدماء وهتك الحرمات بلغه إنكار الشيخ عليه سوء صنيعه، مع أنه كان يجد منه في نفسه لمودته لعمه رمضان باي، فأحضره وسأله عن حكم ما يتعاطاه وبمجرد ما أفتاه بما أنزل الله في ذلك أمر بقتله فقال له إني أنصحك إذ أن من قتل عالماً أيس من الحياة بعده فلم يغن عنه شيئاً بل قتله ظلماً وقطع من لحمه وشواه وأكله بالخمر مع ندمائه أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1110 عشر ومائة وألف ونقل أهله بقية جسده إلى القيروان فدفن بين أشراف بيتهم رضي الله عنهم أجمعين. أما مراد بأي فقد دارت عليه الدوائر بعد ذلك وقتل شر قتلة والعياذ بالله وكان على يده زوال ملكهم فكان به انقراض دولة بني مراد بعد أن قتل جميع من بقي منهم وجمعت رؤوسهم ببطحاء القصبة والملك لله الواحد القهار. 15 الشيخ محمد بن موسى وجدت في بعض تقاييد جدي القريب أن الشيخ محمد بن موسى كان مباشراً خطة الإفتاء بتونس سنة 1116 ست عشرة ومائة وألف ثم رأيت صاحب الشهب المحرقة ذكر في مدرستي جامع الزيتونة على عهده ما نصه ومنهم الشيخ الإمام الفقيه الفاضل الواعظ المدعو عبد الكبير الشهير بابن موسى تولى ذلك عن أبيه القاضي المفتي المدرس الحاج الأبر أبي عبد الله محمد بن موسى المتولي ذلك عن والده الشيخ موسى المذكور وكان رجلاً صالحاً اهـ?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فهو من بيت علم وصلاح لم أقف له على خبر غير ما تلوته عليك أما ولده المدرس الشيخ كبير فكان من موثقي العدول يتعاطى الإشهاد بالمدينة من الحاضرة في حدود 1143 الثلاث والأربعين بعد المائة والألف عليهم رحمة الله آمين. ?16 الشيخ محمد بن الشيخ هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الشيخ أصله من بلد الحمامات وأخذ عن فحول علماء تونس وجلس للتدريس بجامع الزيتونة وأخذ عنه فحول من العلماء منهم المفسر الشيخ محمد زيتونة وقدمه الأمير محمد باي المرادي مدرساً بجامعه الذي أقامه أمام مقام الشيخ سيدي محرز بن خلف فأقام فيه الدروس فهو أول مدرس مالكي به عند إتمامه سنة 1109 تسعى ومائة وألف. وانتصب يومئذ لرواية الحديث به الشيخ محمد قويسم الشريف مؤلف كتاب سمط الآل في التعريف بالرجال إلى أن توفي سنة 1114 أربع عشرة ومائة وألف. وتقدم بالجامع المذكور أيضاً لتجويد القرآن الشيخ محمد التونسي. وكذلك تقدم صاحب الترجمة لمشيخة المدرسة المنتصرية وروى بها الحديث وتقدم لخطة الفتيا وأفاد الناس بعلومه وفتاويه بحيث إنه استمر على خطة الإفتاء نحو العشرين سنة وتجاوز عمره الثمانين سنة. وكان عالماً عفيفاً ديناً يميل إلى الخمول طويل القامة حسن الوجه أتم الصلاة العشاء فأدركته المنية على بساط صلاته بدون مرض سنة 1120 عشرين ومائة وألف ورثاه الشيخ محمد زيتونة بقوله: [الكامل] هجمت بموت الأكرمين خوارقُ ... وتقعقعتْ في الخافقين صواعقُ ورعودها صدعت حشاشة مدنفٍ ... واهتز من وقع المصاب الخافقُ وكأنّ صور البعث عجَّلَ نفخةً ... والكون مما حل فيه صاعق وارتجت الأرجا لصعقة عالمٍ ... سكن اللحود فبان منه الغامق وتزعزعت شمُّ الجبال لفقده ... والأفق أظلم والرؤوس طوارق والعين تبكي دمعها والعقل مك? ... سوف الضيا قد قدّ سهم مارق يدعى إلى ابن الشيخ فاضل عصره ... شوقي له والروح منه زاهق كم مشكل أبدى بجّيد عقله ... قد حار فيه مخالف وموافق ونوازل الأحكام لما أن نأت ... ناحت عليه صوامت ونواطق ورياض معلوم العلوم تخربت ... بذهابه أنبا بذلك الصادق فتكت به أيد المنون وغيبت ... عن ناظري وهو الجمال الفائق تبكيه خضراء البلاد وأهلها ... ويظلُّه الغصن الرطيب الباسق ونفوسنا تفديه لكن قد غدا ... لكريم فرسان الجنان يسابق ويفوز بالرضوان من رضوانه ... ويجاور الحور الحسان يعانق ويرى جمال الله جل جلاله ... وفق الذي أبدى الحديث الناطق فهو الذي يبكي عليه ومثله ... والغير لا نظرت إليه روامق 17 الشيخ علي الرصاع هو الشيخ أبو الحسن علي بن حميدة بن علي بن حميدة بن أبي يحيى بن قاسم بن محمد بن قاسم بن عبد الله الرصاع الأنصاري التلمساني، ولد جده عبد الله بتلمسان وقدم إلى تونس وإنما لقبوه بالرصاع لأن جدهم الوافد إلى الحاضرة كانت له براعة في ترصيع المنابر والسقوف حتى إنه لما بني جامع العباد الذي به ضريح الشيخ أبي مدين الغوث بتلمسان طلبه الأمير لترصيع منبره ولما أتمه طلب أجرته الدفن في مقام الغوث فنال ذلك وكانت وفاة الشيخ سيدي أبي مدين في حدود 570 السبعين والخمسمائة وكأنه لا خفاء في أن إنشاء الجامع المذكور، كان بعد دفن الشيخ بعصور وقد عاد يمن ذلك المدفن على ذرية الرصاع المذكور حتى كان منهم حفيده الشيخ محمد العالم الجليل فأخذ عن الشيخ أبي القاسم البرزلي شيخ الإسلام بتونس والشيخ عمر القلشاني قاضي الجماعة بتونس وغيرهما. وولي خطه قاضي الأهلة ثم خطه قاضي الأنكحة ثم خطه قاضي الجماعة بحاضرة تونس ثم اقتصر على الفتوى وإمامة جامع الزيتونة والخطبة به وتصدى لإقراء الفقه والأصول والعربية والمنطق، وشرح أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحاً غريباً، وله تأليف في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وشرح شواهد المغني القرآنية وشرح حدود ابن عرفة، وله تأليف في إعراب كلمتي الشهادة وآخر في أحكام لو وآخر في أسماء الأجناس وأحكامها وآخر في صرف أبي هريرة وفتاوي كثيرة في المازونية والمعيار وتوفي سنة 894 أربع وتسعين وثمانمائة عليه رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وكان ولده محمد من ثقاة موثقي تونس يعرف بولد القاضي. وأما ولده قاسم فقد ترقى إلى المراتب العلية واستوزره الأمير حميدة الحفصي وقربه وصاهره بابنتيه لولديه العالمين أبي الفضل وأبي يحيى، فتزوج أبو الفضل الرصاع بزوجته وتوفيت زوجة أبي يحيى قبل البناء عليها، وبذل الشيخ أبو يحيى نفسه في خدمة العلم ومن مشايخه الشيخ محمد الأندلسي اتفق لشيخه أنه خرج منتونس لطرابلس فلحق به للأخذ عنه فأخبره أنه كان لحق بشيخه أحمد العيسي شارح شواهد المغني كذلك عند خروجه من تونس إلى طرابلس رضي الله عنهم. وكان الشيخ أبو يحيى الرصاع من علماء التفسير يقريه قراءة رجاله. وتقدم لخطة الفتيا فزانها زمناً طويلاً ثم للإمامة الكبرى بجامع الزيتونة سنة 1017 سبع عشرة بعد الألف وعند ذلك استقال من خطة الإفتاء لاستقلاله بالإمامة والتدريس وزان محراب جامع الزيتونة ومنبره بعلمه ودينه وخطب الخطب البليغة. وأدركته المنية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ذي الحجة الحرام 1033 ثلاث وثلاثين وألف. ولم يزل العلم في بنيه، وجميع بنيه تقلدوا خطة العدالة؛ أما حفيده صاحب الترجمة فقد قرأ وجلس للإقراء والتوثيق وقدمه مراد بأي لإمامة جامع الزيتونة حين عزل الإمام البكري وتقدم للفتبا، ولما ولي إبراهيم الشريف عزله وقد عاد إلى الفتيا وعزل منها عدة مرار، وقد كان مباشراً للإفتاء أواسط سنة 1108 ثمان ومائة وألف، وكان إمام صناعة التوثيق واسع الاطلاع عريض الفتاوى طويل القامة خفيف الشعر حسن الملاقاة توفي سنة 1132 اثنتين وثلاثين ومائة وألف عليه رحمة الله وقد أبدع أبو الحسن علي الغراب في التورية في بعض قصائده التي قال فيها. [البسيط] كانت جواهر نظمي في محاسنه ... تعلو على أنجم الجوزاء والحمل فلم يزل يحتوي درَّ البيان وما ... يحوي يرصعه درّاً عليه جلي حتى إذا ما علا فيما يرصِّعه ... خفضت قدريَ للرصاع وهو علي 18 الشيخ علي الستاري هو الشيخ أبو الحسن علي الستاري ولد بتونس سنة 1075 خمس وسبعين وألف، وحفظ القرآن العظيم وتصدى لقراءة العلم الشريف فقرأ الفقه والنحو على الشيخ سعيد الشريف والشيخ محمد الغماد والشيخ محمد فتاتة، وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة وغيره وله قدم راسخ في التوثيق وكان منتصباً للإشهاد سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف. وله المعرفة الختامة بالنوازل ولذلك قدمه المقدس حسين باشا لخطة الإفتاء على مذهب الإمام مالك وكان عارفاً بالمذهبين مع حسن محاضرة ومعرفة بتواريخ البلاد وله صلابة في الدين لا تأخذه في الحق لومة لائم مع مروءة بها لا يلتفت إلى ما لا يعنيه، وان طويل القامة جميل الصورة لم أقف على تاريخ وفاته. وقد ذكره صاحب الشهب في علماء جامعه الزيتونة فقال: ومنهم العلامة النحرير العدل شيخ الإسلام مفتي المالكية الآن ببلدنا أبو الحسن علي الشهير بالستاري، له مشاركة في الفنون واطلاع على المذهب المالكي بل والحنفي غير متهم بما يتهم به الغير ولا يلين جانبه بخلاف الشرع ذو قدرة على المقابلة في الحق لا تأخذه في الحق لومة لائم يصدق عليه قول الشاعر: [الطويل] وإن لساني يشتفى بها ... وهوَّ على من صبه الله علقم 19 الشيخ محمد جعيط هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد جعيط كان واله عالماً جليلاً وتقدم لخطة التدريس ونسج ولده على منواله فقرأ الحديث على الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا، وأخذ الحديث أيضاً عن الشيخ سعيد المحجوز، وقرأ النحو والفقه والأصول والبيان والمنطق على الشيخ سعيد بن سعيد الطرابلسي الشريف، وقرأ علوم القرآن على الشيخ إبراهيم الجمل، وقرأ على الشيخ محمد الغماد والشيخ علي العامري والشيخ قاسم الغماري والشيخ محمد قويسم وبرع في التجويد والقرءات براعة تامة وتضلع بالفقه والنحو والبيان والحديث والمنطق والأصلين وحصل على إجازات فائقة وتصدر للتدريس في عدة أماكن وله ولع بخدمة العلم موصوف بالديانة والعفاف والوقار أفاد كثيراً بتدريسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ولما أحدث الأمير حسين باشا المدرسة التي أقامها عند تربته انتخبه لمشيختها فهو أول شيوخ المدرسة الحسينية تقدم إليها سنة 1120 عشرين ومائة وألف وبإثر ذلك قدمه الأمير لخطة الفتيا لما رأى فيه من الصيانة والديانة وكان حسن المحاضرة كريم الأخلاق لطيف المداعبة في خلواته زكي النفس ثبتاً رحمة الله عليه. ?20 الشيخ حمودة الرصاع هو الشيخ أبو محمد حمود بن محمد بن قاسم بن أحمد حفيد الشيخ أحمد بن عبد الله الرصاع الأنصاري الأندلسي. ارتحل جده أبو العباس أحمد بن عبد الله الرصاع في زمن شبيبته إلى المغرب واجتمع أبي العباس العوفي اللخمي وسمع كثيراً من كتاب سيبويه عن ابن رفيع القرشي واجتمع بمالك بن المرحل وسمع عنه كثيراً من شعره وكان فقيهاً صالحاً أديباً فاضلاً. ولم يزل الفضل في بيته وبيت أخيه إلى أن نشأ بينهم صاحب الترجمة وقد ولد سنة 1088 ثمان وثمانين وألف، ونشأ في شرف بيته بين يدي والده وجده وتصدى لقراءة العلم الشريف فأخذ عن فحول منهم الشيخ سعيد الشريف الطرابلسي والشيخ علي الغماد والشيخ محمد الحجيج الأندلسي والشيخ محمد الغماري والشيخ محمد فتاتة والشيخ عبد القادر الجبالي. وتعاطى التوثيق وجلس للتدريس، وتقدم للنيابة في خطة القضاء بالحاضرة عند تخلي جده على عهد المقدس حسين باي، فتلقاه الزعيم ونهض بها من أول يوم بغاية الفطانة والخبرة والمعرفة بأساليب القضاء بحيث إنه دخل المحكمة الشرعية أول يوم دخولاً عجيباً وصرف الداء الخصام أحسن صرف ومع ذلك كانت دروسه بجامع الزيتونة عند باب الشفا يهرع إليها وأقام على ذلك مدة طويلة. ثم إن الأمير المذكور تخيره لنفسه واختصه لرواية الحديث بين يديه بالليل في مسجد باردو وقدمه لخطة الفتيا وأولاه مشيخة مدرسته الكبرى ولم تزل دروسه مناخاً لرحال الطالبين وفتاويه العذبة غاية آمال المستفتين وكان طلق اللسان في الجنان له قدرة على استخراج النكت الغريبة بارع في علم الأحكام قاطع للنزاع حسن الملاقاة، خفيف شعر العارضين، أبيض اللون ربعة إلى القصر أقرب، وتقدم لرئاسة على عهد الباشا علي باي وعلى عهده توفي عليه رحمة الله وقد كان الشيخ علي الغراب طلب منه كتب فتوى فأرسل له بقوله أحسن في التورية. [الكامل] يا منْ رقى بكماله درجَ العلا ... وتشنفتْ بثناءه الأسماع حتى غدا فوق الأثير محلُّه ... كل المعالي دونه أوضاع وغدا القريض مطاوعي في مدحه ... مهما أردت وتطبعُ الأسجاع هو من غدا حاوٍ لكل فضيلة ... ولذا عليه انطوى الإجماع إن الأفاضل في الفضائل كلّها ... بك مقتدون وكلهم أتباع فالعبد يبغي القرب منك لبعده ... ولأنه من دهره مرتاع ورأى بروق الوعد منكم لم تزل ... تدني له غيث الرجا أطماع فاسمح بذاك الوعد لا زالت لك الأ ... يّام طائعة وأنت مطاع يا من يرصّع من جواهر لفظه ... درّاً نفيساً بالنفوس يباع قصدي إلى ترصيع عقد جواهر ... من نظم فيك لأنك الرصاع 21 الشيخ محمد سعادة هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر سعادة المنستيري ولد سنة 1088 ثمان وثمانين وألف، وقدم إلى تونس في طلب العلم فقرأ على الشيخ محمد الحجيج الأندلسي والشيخ محمد فتاتة والشيخ محمد الغماري ثم ظعن إلى المشرق في طلب العلم فقرأ بمصر على الشيخ إبراهيم الفيومي والشيخ منصور المنوفي وأخذ الحديث عن الشيخ الطالوني. وارتحل إلى بلاد الروم ودخل إلى إسلامبول واجتمع بجلة علمائها. ورجع إلى الحاضرة بعد أن حصل على العلوم وبيده إجازات من كافة مشايخه فجلس للإقراء وأخذ عنه كثيرون وأجرى عليهم المقدس حسين باشا جارية التدريس بجامع الزيتونة، وأقرأ به علوماً كثيرة ثم قدمه الأمير لمشيخة المدرسة المنتصرية فأقرأ بها وهو فصيح ولوع بالإقراء محرر، وكان حسن القامة جميل الصورة لطيف المحاضرة كتب حاشية على شرح الأشموني سماها تقرير المسالك من شرح منهج السالك إلى ألفية ابن مالك وكتب إلى الشيخ الصغير داود يسأله بقوله: [مخلع البسيط] إليك قطبَ النُّهى سؤالٌ ... نحاكَ شخص به وأمَّمْ فأنت كشاف مشكلاتٍ ... وأنت في عصرنا المقدَّمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وذاك قول الورى لشخصٍ ... إذا يصاب الفتى ويسقم آجرك الله في مصاب ... ما دفع الله كان أعظم هل ذا صحيح وذا بنص ... أثبت في كتب من تقدم وعبدكم قال ذاك لما ... دهاك خطب به تألَّم وقلبه منه فيه شيء ... ببادى الراي لا يسلَّم أجب فلا زلت في المعالي ... تجر ثوب التقى وتكرم فأجابه الشيخ الصغير داود بقوله: [مخلع البسيط] إن الجواب لمن توهم ... يبدو إذا ما الفتى تفهَّمْ إذ كل خطب وإن تناهى ... في غيب مبديه منه أعظم وكون هذا مكان هذا ... غيب الدفاع فلا توهّمْ فقول من قال للتسلي ... ما دفع الله كان أعظم صحيح معنىً لكل حبرٍ ... يقال نثراً نعم وينظم وفي حديثٍ لو اطلعتمْ ... إلى تمام الحديث مغنم يفيد من يبتغي جوابا ... وحسبنا الله وهو أعلم ولما طلع صبح الدولة الباشيه، تقدم نائباً بمحكمته الشرعية، ثم لما ورد الإذن للباشا علي من دار الخلافة بأن يولي القاضي من علماء تونس قدم صاحب الترجمة لخطة القضاء بالمذهب المالكي سنة 1157 سبع وخمسين بعد المائة والألف ثم قدمه لخطة الفتوى وتقدم لرئاسة أهل الشورى فكان زينة المجلس الشرعي. وقد أرسل إليه العالم الأديب الشيخ أحمد العصفوري رسماً يتضمن نازلة في العمرى وطلب منه الإفتاء فيه بعد أن أفتى فيه بقية المفتين فكتب إليه يطلب منه ذلك بقوله. [الوافي] أرى المفتين قد وضعوا خطوطاً ... بفتياهم لنا حصلت إفاده وما زبرت يراع الشيخ حتى ... نراها مثل واسطة القلاده لقد سبقت سعادتنا يقيناً ... إذا ختمت بخط من سعاده فكتب له الشيخ محمد سعادة في الرسم بما نصه: [الوافر] تأملت السؤال وما علاه ... من العمرى المسطرة المفاده وما زبر الشيوخ أمام رقمي ... ويمناه لسائلهم إفاده فألفيتُ الجميعَ أجاد فيما ... أجاب به وأغنى عن زيادة وما نقلوا بموضعه صريح ... صحيح حاز سائلهم مراده وأغنى عن مزيد فيه طولٌ ... ونفس الحر تجتنب الإعاده وناظمها يجيب بمثل ما قد ... أجابوا سائلاً ربّي السعادة وعفواً عن خطايانا جميعاً ... وعند الموت خاتمةَ الشهاده وكنت عن الجواب غنيت لما ... أتاني سائلاً يبغي الإفاده ونفس الحكم فيها ليسس صعباً ... فأغنى من أجاب عن الزياده فألجأني المهذَّب حبّ نفسي ... هو العصفور من حاز السياده وراقم ما على نظمي بدرٍّ ... رآني فيه واسط القلادة فحينئذ سمحتُ له بما قد ... دعاه إلى جواب من سعادة جزاه الله في دنياه خيراً ... وبلّغه من الأخرى مراده وكان عالماً فقيهاً عالي الهمة حسن المحاضرة كريم الأخلاق عزيز النفس وقفت له على نظم بديع في مناسك الحج وله كتاب لطيف سماه (قرة العين في نشر فضائل الأمير حسين) وأتبعه بمدح ابنه محمد الرشيد فكان من أبعد المقامات في الآداب وقد نزع عدة منازع لطيفة وأودعه من ذكر الخصال الحميدة وذكر فضائلها ما يروق علماء الأدب وحكماء تهذيب الأخلاق وضمنه أرجوزة في معنى (الصادح والباغم) في الحكم والأمثال تبلع مائتين وخمسة أبيات، مطلعها: [الرجز] أحمد من أتى حسينا منناً ... رى بها من المعالي قننا وقفت على نسخة منه مذهبه في غاية حسن الرونق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقد عزل من خطة الفتيا على عهد الباشا وأصابه ما أصاب الأفاضل أمثاله من السجن قبيل رمضان قيل: إن عزله كان في وسط المجلس الشرعي عند اجتماعه للحكم بين يدي الباشا فأمره بالقيام من المجلس وقال له: إني عزلتك من الوظيفة الشرعية ولما خرج استعاده فقال له إني عزلتك من التدريس ولما خرج أعاده وقال له إني عزلتك من مشيخة المدرسة ولما خرج أعاده وقال له إني عزلتك من الإمامة وعندما علم أنه انتزع جميع ما بيده من الوظائف قال له ارجع إلى بيتك فقال له بقي عندي وظيف آخر لم تعزلني منه فقال له الباشا ما هو فقال له الشيخ وظيفة العلم الذي في صدري ستجتمع علي الناس لتلقيه هل لك قدرة على انتزاعه مني وخرج بعد ذلك خلى سبيله وأعاده إلى جميع خططه وكان ذلك سنة 1161 إحدى وستين ومائة وألف وهنأه بذلك الشيخ علي الغراب بقوله: [الكامل] زارتك بعد تمنع وجفاءِ ... بيضاء ذات ذوائب سوداءِ زارت ومن عجب تزورك تفي العلا ... شمس الضحى في الليلة الظلماء لولا الذوائب ما غدت من ثغرها ... مأمونة من أعين الرقباء لم أنسَ حين ذكرت ليلة وصلها ... في صدها عنّي عظيمَ شقاء قالت أيشقى من غدا لسعادة ... يعزى ومنه سعادة السعداء شيخ جليل فاضل علم له ... رتب تزاحم رتبةَ الجوزاء أمست فنونُ العلم تخدم بابه ... صدراً بهن حقائق الأشياء هو أعقل العلماء إلا انه ... بين الأفاضل أعلم العقلاء هو أنبل الفضلا إلا أنه ... بين الأفاضل أفطن الفطناء هو أفصح البلغاء إلا أنه ... بين الأحبة أبلغ الفصحاء هو أرأسُ العظماء إلا أنه ... بين الأكابر أعظم الرؤساء هو آدب الشعراء إلا أنه ... بين البرية أشعر الأدباء ما فيه عيب غير أن مقامه ... بين الورى في الرتبة العلياء ذو همة بين السماك وبينها ... في الرفع ما بين السما والرائي ذو سؤدد في الصالحين ورفعة ... تنحط عنها أنجم الزهراء يا أيها العلم الذي بين الورى ... بالسّبق في التدريس والإفتاءِ لحن الزمان بصرفكم خبرا فعا ... بوه وعدّ?وه من اللكناء إذ ليس يصرف من له عدل ومع? ... رفة بها تسمو على النظراء لكن صرفت لضيق ذرع حواسد ... قد أسمعت بنميمة شناء قالوا عجيب كيف زال وإنه ... علم يفوق كواكب الجوزاء؟ فأجبتهم إن الجبال تزول من ... مكرِ الدُّهاة وحيلة الأعداء إني أتيتك بالرجوع مهنِّئاً ... وإلى عداك معزياً بعزاء لا لا تلم من لم يلم توجعاً ... وأتاك بعدُ مهنئاً بهناء فلرحمةِ المتوجعين حرارةٌ ... في القلب مثل شماتة الأعداء وقد أدرك في مبدأ نشأته الولي الصالح أبا البلابز الشيخ عبد الرحمن بن أبي بن الغيث بن عبد الرحمن بن راشد بن بلغيث بن راشد بن عبد الحميد بن يربوع القطب الشهير الطرابلسي الشريف رضي الله عنه، وكان صاحب الترجمة كثير الزيارة للولي المذكور بداره التي بالممر خارج باب المنارة وكان الولي يقول للشيخ هذا الموضع يجمع عظامي وعظامك. وتوفي الولي أوائل ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، وبعد مضي زمان اشترى الشيخ داراً جوار زاوية الولي وتوفي سنة إحدى وسبعين ومائة ألف ودفن على يمين ضريح الولي المذكور فكان ذلك الموضع هو مجمع عظامهما رضي الله عنهما. ?22 الشيخ أحمد المكودي هو الشيخ أبو العباس أحمد بن حسين المكودي من بيت علم وفضل ولد بحاضرة فاس ونشأ فيها في طلب العلم، وأخذ فيها عن جلة العلماء الذين منهم العالم الشهير الشيخ أبو العباس أحمد بن المبارك وهو الذي أجازه وله به مزيد اختصاص وقد مدحه بقصيدته التي يقول في مطلعها. [الطويل] إليك أبا العباس تحدي ركائبي ... وتغدو خفافاً راقصات النجائب وهي قصيدة طويلة أثبتها صاحب مفاتح النصر في علماء ذلك العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ثم إن صاحب الترجمة لما امتلأ علماً بحاضرتها خرج منها لحج بيت الله الحرام، ودخل مصر واجتمع بعلمائها وأقرأ بالجامع الأزهر غير أنه لم يطب له المقام بها فتخير الرحيل لسكنى حاضرة تونس وقدم إليها على عهد الباشا علي بن محمد علي تركي. ولما دخل الحاضرة أراد النزول بمدرسة بئر الحجار ولما علم شيخها يومئذ الشيخ مسعود المغراوي الباجي بعلو رتبة الرجل في العلم منعه من إعطاء بيت بها خشية منه وعند ذلك وجه الشيخ طلبيته إلى الباشا وكان عالماً ومحباً للعلماء وبمجرد ما علم رتبته أعطاه مشيخة المدرسة كلها وندم شيخها على منعه حيث لم ينفعه الندم. وعندما استقر الشيخ طلب منه الباشا أن يقرئ شرحه لتسهيل ابن مالك فأقرأه بجامع الزيتونة وأقرأ كتباً أخرى عالية ظهر بها علمه وفضله واجتمع عليه للأخذ عنه فحول العلماء ثم قدمه الباشا للفتيا وصار رئيس أهل الشورى من المالكية وكان عالماً عاملاً عفيفاً أديباً فاضلاً حسن الشعر عارفاً بالتاريخ حسن المحاضر صالحاً لا تأخذه في الله لومة لائم، قيل: إنه دخلت عليه للمجلس الشرعي نازلة كان الباشا يريد تأخيرها فأراد أن يقوم فسخاً للمجلس ليتأخر فصلها والنازلة قد اتضح فيها الحق لصاحبه وبمجرد قيامه جذبه الشيخ من طرف ثوبه وقال له: لا بد أن تجلس حتى ينفذ الحكم في هاته النازلة حيث ظهر فيها الحق لصاحبه فلم يسع الباشا إلا أن جلس ونفذ الحكم ووجد الباشا من ذلك في نفسه وعند انتهاء المجلس لما خرج الشيخ قال الباشا لمن بقي معه من المشايخ أو يعجبكم صنيع الشيخ إذ جذبني من طرف ثوبي لكن أنا عزلته ولما خرج الشيوخ واجتمعوا صحبة الشيخ قال لهم ماذا قال لكم الباشا فقالوا له لم يقل سوءاً فقال لهم على البديهة أو أنه عزلني لكن هو عزلني وأنا عزلته فلم تمض مدة حتى أقبل السعد على البلاد بدخول آل حسين وعزل الباشا المذكور وأبقى الأمير الحسيني الشيخ في رتبته إلى أن حضرته الوفاة. ودروسه بجامع الزيتونة يأتيها الناس من كل فج، فأقرأ شرح التسهيل للباشا وختمه وختم مغني ابن هشام، والقطب على الشمسية، وغير ذلك من الكتب المعتبرة وقد حضر في جميع ذلك العالم الأديب الشيخ المختار العياضي ومدحه في بعض أختامها سنة 1152 اثنتين وخمسين ومائة وألف بقصيدة غريبة وهي قوله: [الطويل] خليليَّ هل صب يحق عتابهُ ... وفي الأعين المرضى تقضَّى شبابهُ يبيتُ على فرش الهوى ويدُ النوى ... وسادٌ لهُ والفرقدان ارتقابه ويسكوه خمر الهوى فيبيت للس? ... هاد سميراً والنجوم صحابه وفي قلبه نار يشبّ لهيبها ... وفي الخد ودمع لا يزال انسكابه تملكه حب ووجد وصبوة ... فاصبح مضنى والسّقام ثيابه فيا لائميه في صباه ووجده ... دعوه فإن الحب عذب عذابه تملكه حب اللحاظ فقلبه ... متى شاهد الألحاظ زاد التهابه ويسبيه إذ يصيبه بالوجه أهيفٌ ... بثوب جمال قد كساه شبابه بديع جمال ما رأى البدر وجهه ... لعمرك إلا كان منه احتجابه له مبسم حقاً هو الخمر نكهةً ... وسكراً ولكن الثنايا حبابه ويغنيه عن زهر الرُّبى روضُ خده ... وعن شربه خمر الكؤوس رضابه ويسحر أربابَ الغرام بطرفه ... كأنَّ إلى هاروت كان انتسابه خليلي كم قضيت منه لبانتي ... بروض كأن المسك منه ترابه وبتنا وكاسات المسرة تنجلي ... إلى أن رأينا الليل طار غرابه وقمنا وثغر الفجر يصقله الضيا ... ورحنا وكف الصبح زال خضابه وفاح الرّبى طيباً فقلنا أهذه ... علوم أبي العباس أم ذا خطابه؟ إمام حوى كل الفضائل مجده ... وأمست ثياب المجد هي ثيابه ترى العلم بحراً وهو خائضُ لجِّه ... ولكن تحقيق العلوم عبابه إذا ما رأينا العلم أوثق رحله ... إليك أبا العباس كان ذهابه ولو سئل التحقيق منْ روحُ جسمه؟ ... لكان أبا العباس حقاً جوابه إمامٌ سوى أن الفصاحةَ تاجه ... هزبر سوى أنّ البلاغة غابه له هيبة في وجهه وجلالةٌ ... فلو شاهدته الأسدُ كانت تهابه فلو سيبويهٍ لم يكن مر واختفى ... بقبره واستولى عليه ترابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لكنا ادعينا أنه سيبويهِ وال? ... كتاب المسمى بالكتابِ كتابه وعلم المعاني قد تكرَّعَ نهره ... وكان له يا صاح عذباً شرابه وما احتجت البحث العويص وجئته ... لعمرك إلا زال عنه احتجابه فعن فضله حدث عن البحر إنه ... لبحر ولكن بالمعاني انسيابه فكيف وللعلم الشريف انتماؤه ... وللمصطفى المختار كان انتسابه عليه صلاة الله ما قال مغرم ... خليليّ هل صب يحق عتابه وكان مصاهراً لآل الشريف إذ تزوج ببنت منهم ولما توفي دفن بتربتهم الشهيرة بأعلى الجلاز وكانت وفاته سنة إحدى وسبعين ومائة وألف وقد أرخه الشيخ أحمد سمية الكاتب بقوله: [مجزوء الكامل] هذا الضريح لمن غدا ... تحت التراب مشيبه في خدمة العلم الذي ... قد كان فيه غريبه هو أحمد المكودي من ... ملأ الذكاء جيوبه قد قيل في تاريخه: ... (صرف الإله ذنوبه) 23 الشيخ قاسم المحجوب هو الشيخ أبو الفضل قاسم بن الحاج المحجوب الشريف المساكني وبها ولد، وقدم إلى تونس في طلب العلم الشريف ونزل بالمدرسة المنتصرية، فقرأ على أعلام عصره، وجهابذة مصره، بجامع الزيتونة وهو يومئذٍ عامر بأعلام العلماء، منهم الشيخ محمد الخضراوي والشيخ علي سويسي وغيرهما، وقرأ على الشيخ محمد الحرقافي فأخذ من معقول العلوم ومنقولها ما بلغ به إلى رتبة في العلم عالية وحفظ القرآن كرامة للشيخ أبي سعيد الباجي وذلك أنه توفي أحد طلبة حزب المدرسة وكان الشيخ لا يحفظ القرآن ورام ذلك الطريق لنفسه لماله من الحاجة إليه فخرج لجبل المنار رافعاً أمره إلى الباجي ونام عند ضريحه فرأى الشيخ في نومه وهو يعلمه القرآن وأنه استكمل حفظه وتكراره، ولما استيقظ وجد نفسه حافظاً فقصد الرجوع إلى تونس وهو يكرر القرآن حتى استكمله وعند ذلك ذهب لشيخ الحزب وطلب ذلك الوظيف وعرض نفسه لاختبار حفظه فتلا عليه القرآن كله بعد أن لم يكن يحفظه على ذلك الوجه المتقن، وأخذ ذلك الوظيف وقد ذكره الشيخ حمودة في تاريخه في علماء الحاضرة حيث قال: ففيها اليوم من الجهابذة النقاد والفحول الذين تضرب إليهم أكباد الإبل جماعة لا يشق غبارهم ولا يجارى مضمارهم كشيخنا المفتي أبي الفضل قاسم المحجوب المساكني حافظ المذهب المالكي بالغرب هـ?. وكان في مبدأ أمره حظي بعناية من الولي الصالح الشيخ قاسم السبابطي حيث عرض عليه طعاماً مكدراً مضت عليه ليال متعددة فعمد إليه وأكل منه ملعقة أولى ملآنه وتناول الثانية مثلها ثم تناول الثالثة مشمئزاً فكانت ناقصة وكان ذلك ثالث سلسلته العالم الشيخ محمد بن محمد بن قاسم المحجوب على ما يأتي ذكره. وقد زان الشيخ الخطط العلمية تدريساً وخطبة وفتيا إلى أن صار كبير أهل الشورى من العلماء المالكية ودروسه يومئذٍ هي زينة جامع الزيتونة ولما ختم المختصر الخليلي سنة 1172 اثنتين وسبعين ومائة وألف امتدحه شعراء تلامذته الأعلام بقصائد غراء ومن ذلك القصيدتان اللتان أنشأهما الشيخ محمد الغضبان المثبتتان في شعره قال في مطلع إحداهما. [الوافر] خليلي علَّني كأسَ الحميَّا ... رشيقُ القدّ وضاح المحيا إلى أن قال في تخلصها: سلا قلبي الهوى وثنى عناني ... إلى حبرٍ سما وغدا زكيّا أبي الفضل العلِّي بلا نزاع ... هو المحجوب من أضحى سميا شريف شرَّفَ الفتيا فسادت ... وطوق جيدها عقداً سنّيا وقد زان التدريس والفتوى بالعلم والتقوى، فقيه، حجة، أصولي، فقهه يحذو به حذو المجتهدين في تتبع وجوه الأدلة الأصولية خبير بمدارك مذهب مالك، وقد نجب بين يديه عالمان هما ابناه ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى. ولم يزل ركناً للدين وقدوة للأيمة المجتهدين وعمدة العلماء العاملين إلى أن أتاه محتوم الأجل فتوفي سنة 1190 تسعين ومائة وألف ودفن بتربتهم في أوائل الزلاج عليه رحمة الله ورثاه العالم الشيخ محمد بن سعيد النجم بقوله: [الطويل] تنام جفون المرء والخطبُ يقظانُ ... وينكر حربَ الدّهرِ والموت برهانُ ويكثر في الدنيا الدنية حبَّها ... وما وصلها إلا هموم وأحزان ومن عرف الدنيا وشدَّةَ مكرها ... تساوى له منها وصالٌ وهجران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وسيَّان للإنسان عزّ وذلةٌ ... إذا لم يساعده من الله رضوانُ ومن كان للأيام غرًّا فسحبه ... على غرِّها رزء الأيمة عنوان عنيتُ بهم من كان لو وزنوا به ... لكان لهم عنهم من الوزن رجحان أبو الفضلِ مفتى المالكيّة قاسمٌ ... وحسبك من ذكر به الدين نشوانُ سراجُ بني المحجوب بل وبني التُّقى ... وآل العُلا والعلم آية ما كانوا فتى كانت الدنيا بعاطر صيته ... كما فاح في وقت العشية بستان فتى كان ملك العلم ذا همة به ... وأبناؤه في رأس الدهر ذا تيجان فتى كان في فتوى البرية مالك ... وفي وعظها فوق المنابر سحبانُ فتى كان مرتاحاً بسنّة جدِّه ... ولكنّه في نصرة الحق ثعبان فتى كان للدين الحنيفيّ حامياً ... فلا الإنس يدنو من حماه ولا الجانُ فتى كان للمظلوم أعظمَ راحمٍ ... عليه من الرحمن عفو وغفران فحق عليه أن يقول مؤرخ: ... (يحق لمفت جل روح وريحان) 24 الشيخ أحمد البرانسي هو الشيخ أبو العباس أحمد الثعالبي الشريف شهر البرانسي من ذرية غوث الله الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي المفسر دفين الجزائر من السلالة الزينبية الطاهرة وكان عالماً جليلاً من الراسخين في العلم المحتقرين للدنيا، يأكل من عمل يديه ويحترف بخياطة البرانيس ولذلك ينسب إليها ويغير المنكر من غير مبالاة، وحج بيت الله الحرام. وبث علومه بجامع الزيتونة فأقرأ به مختصر السعد وكبرى الشيخ السنوسي في علم الكلام قراءة تحقيق انتفع به فحول الجامع ولما توفي الشيخ المكودي وتقدم لرئاسة أهل الشورى الشيخ قاسم المحجوب تقدم صاحب الترجمة مفتياً ثانياً. ولما توفي باش مفتي المذكور قدم الأمير علي باي ابنه على صاحب الترجمة للرئاسة وقيت صاحب الترجمة في رتبته يزينها بعلمه ودينه مع كون عموم الناس يعتقدونه، ولصالح الدعا يرجونه، إلى أن توفي في سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف ودفن تحت برج القرجاني ورثاه أحد شعراء البلاد بقوله: فقف للدعا واستوقفنَّ ذوي الهدى ... وكن قارئاً أم الكتاب مردِّداً وعظ واتعظ وانهض لما هو نافع ... لنفسك في الأخرى عسى أن تؤيَّدا فماذا عسى أن يبلغ العمرُ بالفتى ... ولو طال ما قد طال لا بد يلحدا فأين الملوك المالكون وملكهم ... وأين ذوو الفاقات ما لم يوددا تساوى بهذا المصرع الخلق كلّهم ... فم يدر ذو ذل ومن قد تمجّدا فيا فوز من قد قدم البرّ للِّقا ... كهذا الذي أضحى بذا القبر مغمدا هو الورع المفتي الإمام البرانسي ... يسمى أبا العباس أحمد في الندا فقد كان في الفقه المعظم مالكاً ... وحبراً تقياً زاهداً متعبدا وفي كل علم كان أعظم آية ... وفي الدين سيفاً قاطعاً لمن اعتدا فقد كان شهماً واسع الخلق في الورى ... وكان لجفن الدين والشرع إثمدا وما قوله يبدو وهوى وهو موعظ ... فيرضيك مغلوباً وقد كنت ذا اعتدا وكان رفيقاً بالمقلين متعباً ... لإظهار حق الله والدين والهدى فجازيه ربي بالرضى وبجبره ... بجده يا ذا الطول والفضل والندى ومتعه يا وهَّابُ بالنظر الذي ... به تمت الحسنى لكل من اهتدى وحقق رجا من قال أرخ لأحمدٍ ... بأعلى علا الفردوس جاراً لأحمدا 25 الشيخ محمد المجحوب هو الشيخ أبو عبد الله محمد بفتح الميم الأولى ابن قاسم ابن الحاج المحجوب الشريف ولد في النيف والخمسين بعد المائة والألف، وتربى في حجر والده فأخذ عنه معقول العلوم ومنقولها، وتصدى للأخذ بجامع الزيتونة فأخذ عن أعلام العصر قرأ على الشيخ أبي عبد الله محمد الغرياني والشيخ أبي عبد الله محمد الشحمي والشيخ أبي عبد الله محمد بيرم الأول، وتصدى للإقراء على أسلوب غريب من أبدع الأساليب سلك به طريقة والده، وأجرى به للجهابذة أعذب موارده، ولما ختم المختصر الخليلي امتدحه تلميذه الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد النجم بقصيدة مثبتة في شعره قال في مطلعها: [الطويل] ألا من لصب قد براه هواه ... فيذهب وجد حار فيه حجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ولما ظهرت له المزية تقدم للخطة الشرعية فولي الفتيا مع والده، وكان يومئذٍ قاضي باردو الشيخ منصور المنزلي آية الله في الذكاء والتضلع بمقتضيات الأصول والفقه حتى أولاه الأمير عاملاً على الوطن القبلي مع خطة القضاء بباردو ولما أعياه التشكي من عمال البلد المذكور وصار الشيخ يقضي بباردو صباحاً ويجلس بداره عشية لقبول نوازل عمله حتى فيل في ذلك من الملحون: يا منزلي خذ الفلوس بزايد ... في الصبح قاضي وفي العشية قايد وبفقهه وتبصره كانت له مع الشيخ قاسم المحجوب والد صاحب الترجمة في المجلس الشرعي عدة منازعات، يستجيد موقعها في تلك الأوقات، ولما ولي الفتيا ولده المذكور حذره ترصد الشيخ منصور لكنه بذلك قد زاد اعتناؤه، وتفقه تفقهاً حمد مبدؤه وانتهاؤه. ولما توفي والده تقدم لرئاسة أهل الشورى فكان رئيسها الذي لم يزل فخرها به يتلى، وجماله على تلك المنصة يجلى، وبذلك جمع له بين التعزية والتهنئة الشيخ محمد الغضبان بقصيدته التي قال في مطلعها: [الكامل] ما للمدامع بالربوع تبدَّدُ ... أسفاً ونيرانُ الأسى تتوقِّدُ إلى أن قال فيها: ولقد أقيم مقامه النجل الزكي ... بدر الدجى المولى الهمامُ محمدُ وهناه نجم الأيمة ابن سعيد بالقصيدة التي قال في مطلعها [الكامل] حجبتْ سلوِّي عن هواك حواجبُ ... ومعاطفٌ منها القلوب عواطفُ إلى أن قال فيها: سندي أبو عبد الإله محمّدٌ النير الأسمى الغمام الساكب فخرُ المشاهير المحاجبةِ اللس ... لهم النجومُ النيراتُ مناقب وقد ثبت على صراط الفتوى، وزانها بالعلم والتقوى، وتقدم لمشيخة مدرسة علي باي الجديدة عند بنائها فأقام دروسها وأخذ عنه من نزلائها ووارديها، وكان عالماً أصولياً عاملاً حافظاً للمذهب المالكي عارفاً بأصول المدارك، وقوراً مهيباً، خبيراً بالسياسة الشرعية معتقداً كريماً صاحب عفة وصيانة، وكمال مرؤة وديانة، وكان الأمير حمودة باشا لا يأذن للمجلس الشرعي بالاجتماع بين يدية إلا بعد أن يتحقق حضور الشيخ المحجوب بحيث إنه يأذن شيخ المدينة بأن يقابل الشيخ أولاً فإن رأى عزمه على الحضور يعلم بقية الشيوخ من المالكية والحنفية وإلا لم يعلم أحداً. ولا يخاطبه إلا بالسيادة، ويحضر بموكبه العام بمنزله بسانية جبل المنار ويجله غاية الإجلال لمكان علمه وحفظه للمذهب. وله مع تلميذه القاضي إسماعيل في النوازل الشرعية وقائع تنبئ على غاية تضلعه وتثبته طالما انتصر فيها تلميذه بموافقة عموم المجلس من المالكية والحنفية فلا يلبث بهم الشيخ المحجوب أن يهدم جميع ما بنوه عند انعقاد المجلس بمحضر الأمير ويرجع إليه جميعهم بمرأى ومسمع من الأمير. ومع كمال تضلعه لا يفتر عن المطالعة وكان يقطع الليل في المطالعة وينام بعد صلاة الصبح وكان يحضر في مجلسه ببيته جموع من الخاصة يقضون الليل في المسامرة عنده وهو مشتغل عنهم بالمطالعة. وكان ذا ثروة كريم الأخلاق معظماً عند الخاصة والعامة دخل يوماً على موكب وجد صدره قد امتلأ بمن ليسوا من جنسه فجلس إلى بعض الجوانب وأنشأ قائلاً: [الطويل] ولما رأيتُ الصدر قد ضم معشراً ... وجمعهم يزري وقولهم الوزرُ تباعدت عنهم عفة وصيانة ... وقلت لنفسي حيث كنتِ هو الصدرُ وأرسل إليه الأمير محمود باشا بعد وفاة الشيخ حسن الشريف ليقوم مقامه في إمامة جامع الزيتونة فامتنع من ذلك وتعلل بالكبر وأشار على الأمير بتقديم أخي الشريف المذكور فصنع. ولم يزل على كمالاته إلى أن أدركه الهرم حيث تجاوز التسعين سنة في عمره وتوفي يوم الاثنين السابع عشر من شعبان الأكرم سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين ألف ودفن بتربتهم بالزلاج عليه رحمة الله ورثاه العالم الشيخ أبو العباس أحمد الكيلاني بقوله: [البسيط] كأسُ الحمام لعمرُ الله قد هانا ... من حادث مزَّق الأحشاءَ أوهانا رزية لم تدع براً ولا جلداً ... ولا حجا يتسحيل الصبر أحيانا عجبت للشمس في الآفاق بازغةً ... كأنها ما ردت تصديقَ ما كانا عجبت للبدر يزهو في معارجه ... كأنه ما رأى في الأفق نقصانا نعيٌ لقد أدهش الألبابَ موقعه ... وما وجدنا إلى السُّلوان أعوانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 نعيٌ لقد أظلم الآفاق مأتمه ... فأضرم القلب والأحشاء نيرانا خطبٌ له أعين السلام ساهرة ... والدمع يهمي من الأجفان هتَّانا خطبٌ فظيعٌ لقد الأنام به ... أصمى قلوباً وقد أصم آذانا فالعقل منصرم والصدر مضطرم ... والحزن منسجم والدمع قد خانا إله صبري من دهماء قد برّحت ... لم تبقِ للعقل تذكاراً ونسيانا كيف السلو وطود العلم أودى به ... ريب المنون وحبل الصبر قد وانى؟ يا ناعيَ البين لا جوزيت صالحة ... فهل كتاج الدين إنسانا؟ محمد المرتضى المحجوب قد حجبت ... عنه النقائص إسراراً وإعلانا شمس الهدى شيخ الإسلام الذي صعدت ... به المكارم حتى جاز كيوانا من معشرٍ بهمُ الفتيا لقد سحبت ... في موقف الفخر والإعجاب أرادنا حازوا سياستها شادوا رئاستها ... مشايخاً وكهولاً ثم شبانا وكان في شرعة الإسلام تبصرة ... للمهتدين وإرشاداً وبرهانا منه استفاد مفيد كل منتخب ... من المفاخر ما لم يحض أثمانا سبحان من خصه فضلاً بعارضه ... حوت بياناً وتحصيلاً وإتقانا كما حوت روحه في الخلد منزلة ... حازت من النَّور والأزهار ألوانا لله روضٌ لقد ضمت جوانبه ... من ضيّق الأرض إكراماً وإحسانا ومن سما بالذي كانت مجالسه ... معمورة أبدا علماً وعرفانا يا زائراً ومسه أدعو بمرحمة ... واسئل له من غله العرش غفرانا وقد أتاك طعين السن مرتقباً ... من فيض جودك إحساناً ورضوانا فاجزل قراه بما يرجو مؤرخه ... (فرمسه قد روى روحاً وريحانا) 26 الشيخ محمد الدرناوي هو الشيخ محمد بن حسين الدرناوي نشأ هو وأخوه في طلب العلم الشريف، فأما أخوه عبد الله محمد الدرناوي فقد تعلق بالآداب وتحلى بحلية الكتاب، وفي نظم الشعر البديع، ختم على الشيخ أبي محمد عبد الله السوسي المختصر الخليلي ومدحه عند الختم بقصيدته التي قال في مطلعها: [الطويل] سلوا مدمعي الهتان عن شرح أحوالي ... وعن غربتي عن أهلِ منذ أحوالِ وهي قصيدة طويلة مثبتة في شعره وختم على الشيخ أبي عبد الله محمد الغرياني صحيح البخاري ومدحه عند الختم بقصيدة قال في مطلعها: [الطويل] تصَّرْ على الشكوى وإن برّح الحبُّ ... وأن تألفَ السَّلوى وإن برّح الحبُّ ولما استكمل التعاليم، وتقدم في الإنشاء على كل حميم، أولاه الأمير علي باي خطة الكتابة وتقدم في مراتبها إلى أن بلغ الرئاسة في مبدأ دولة الأمير حمودة باشا غير أنه عزل منها بعد حين ولازم بيته على وجاهته واحترامه إلى أن توفي أواسط ربيع الأول من سنة 1211 إحدى عشرة ومائتين وألف ورسمت إلى قبره قصيدة من شعر الشيخ محمد قلالة تاريخها: [الكامل] أيام مولده الشريف فأرخن ... وإلى علا الجنات سار محمد وأما أخوه صاحب الترجمة فإنه سبق أخاه المذكور إلى العلوم الشرعية فتضلع فيها حتى كتب على شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي وكتب على دره الفرائض وكتب على صحيح البخاري فهو فقيه فرضي من جهابذة علماء المعقول، ودروسه بجامع الزيتونة من أعز الدروس تحقيقاً وتحريراً، له اليد الطولى في الفصاحة وحسن الخط عالي الهمة متواضع. ولما توفي الشيخ الثعالبي قدمه الأمير حمودة باشا إلى خطة الفتيا ومشيخة بئر الحجار سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف فأحسن العمل لله والعباد، وأفاد المتعلمين والمستفتين بطريقة تستجاد، إلى أن توفي وصار إلى رحمة الله تعالى بالطاعون العام أواسط رجب الأصب سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف ودفن مع أخيه بأعلى جبل الفتح في الجهة اليمنى بتربتهم عليهم رحمة الله ورسم على قبره تاريخ من شعر أخيه وهو: [الكامل] ها قد توسد في الضريح صعيدا ... من بعد ما جاز السِّماك صعودا من كان يا بشراه جلُّ حياته ... في سلكه التقى معدودا العالم المفتي الذي أحكامه ... سلكت طريقاً في الأنام حميدا فخر الزمان محمد الدرناوي من ... عانى العلوم وأصرف المجهودا زان المدارس والدروس ببثه ... علما لطلاب العلوم مفيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فلكم تصانيفٌ له تسبي النهى ... أخفى الخمود لها وجا المشهودا قد أم بابك يا جوادُ فهب له ... قصراً بجنات النعيم مشيدا قد مات بالطاعون قلت مؤرخاً ... (تربٌ زكي أمَّ الجوادا شهيدا) 27 الشيخ أحمد سويسي هو الشيخ أبو العباس أحمد بن علي بن محمد سويسي الشريف، كان جده أبو عبد الله محمد بفتح أوله خيراً فاضلاً جليلاً ولي إمامة مسجد باب الخضراء. وكان ميلاد ولده الشيخ أبي الحسن علي سنة 1075 خمس وسبعين وألف وتصدى لقراءة العلم الشريف فقرأ على الشيخ سعيد الشريف والشيخ محمد فتاتة، وقرأ على الشيخ علي الصوفي مختصر السعد على التلخيص، وقرأ على الشيخ محمود مهتار التلويح على صدر الشريعة، وقرأ على الشيخ مصطفى بن عبد الكريم تسهيل ابن مالك، وقرأ على الشيخ قاسم المؤخر كثيراً من الفرائض، وقرأ على المحدث الشيخ سعيد المحجوز صحيح البخاري. وتقدم لخطة التجويد بجامع الزيتونة وكان حسن الصورة تخشع له القلوب فعمر الجامع تلاوة وتدريساً حتى كان شيخ شيوخ جامع الزيتونة علماً وعملاً وصلاحاً وله ولوع بحب الصالحين وزياراتهم والفزع إليهم في المهمات الدنياوية والعلمية؛ قدم إلى تونس أحد العلماء المغاربة مجتازاً إلى بيت الله والحرام وأورد على علماء الحاضرة في ذلك العصر سؤالاً من علم الكلام فلم يجب عنه أحد إلى أن كاد أن يرجع الشيخ آيبا من تونس فحضر كثير من علماء ذلك العصر إلى شيخ جامع الزيتونة وسألوه الاجتماع بالعالم المغربي وإجابة سؤاله ولما أورد عليه السؤال وأخذ الشيخ يفكر في جوابه قال له المغربي: اعلم يا سيدي أني أمهلتك في الجواب إلى أن نرجع من حجتي هذه إلى تونس وإن شئت إلى سنة بعدها وإن شئت أكثر فقال له الشيخ لا حاجة بنا إلى طول المدة وإنما نجتمع إن شاء الله بعد ثلاثة أيام وخرج من عنده فاكترى حماراً وقصد جبل المنار إلى أن أتى ضريح الشيخ سيدي أبي سعيد الباجي رضي الله عنه فجلس عنده وسأله السؤال وجلس هنالك فأخذه النعاس وبينما هو بين النائم واليقظان وإذا هو يرى الشيخ الباجي خارجاً من ضريحه إلى أن خرج نصف جسده فاستعاده السؤال وأجابه عنه فاستيقظ الشيخ وبمجرد ذلك أخذ فحماً من مبخرة الزاوية وكبت بها الجواب على الرخام واستحضر الكاغظ ونقله كتابة وتأمله فإذا هو الجواب الشافي فرجع من الغد واجتمع بالمغربي واستعاده السؤال فأملى عليه الجواب فصاح المغربي وقال له يا سيدي قم بنا إلى من أجابك فوالله لا يجيب عنه إلا مفتوحاً عليه من رجال الله فصدقه الشيخ وذهب به إلى زيارة ضريح الباجي رضي الله عنه. ولم يزل على علمه وفضله إلى أن توفي نحو سنة 1146 ست وأربعين ومائة وألف. وأما ولده صاحب الترجمة فقد نشأ بين يدي أخيه وأخذ عنه وعن والده وعن الشيخ أبي محمد عبد الله السوسي والشيخ محمد الهدة وقد وقفت على إجازة الشيخ السوسي لصاحب الترجمة وأخيه مؤرخة بأشرف ربيعي سنة 1170 سبعين ومائة وألف وهي إجازة مطلقة عامة تشهد لهما بما اشتهر من علمهما وفضلهما، وتصدى للتدريس فأفاد الطالبين وتقدم إماماً بمسجد باب الخضراء كجده ووالده، وكانت ولايته ذلك أوائل صفر الخير سنة 1170 سبعين ومائة وألف على عهد الأمير محمد الرشيد، وتقدم لخطة العدالة في جمادى الأولى من السنة المذكورة، ثم قدمه الأمير علي باي شاهداً على أوقاف السور وكانت يومئذ من الخطط النبيهة فوليها في المحرم سنة 1175 خمس وسبعين ومائة وألف، وقام بواجب معاينتها قياماً كلياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ثم أن الأمير علي باي لما عزل الصفوة العالم الفاضل الشيخ عبد الكبير الشريف من إمامة جامع أبي محمد الحفصي قدمه لها أوائل جمادى الأولى سنة 1187 سبع وثمانين ومائة وألف فزان المنبر والمحراب وخطب الخطب البديعة وهو في أثناء ذلك كله يبث العلم في صدور الرجال إلى أن توفي الشيخ الدرناوي فقدمه الأمير حمودة باشا لخطة الفتيا وأعطى أخاه مشيخة مدرسة بئر الحجار أواسط رجب الأصب سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف فامتنع من ذلك معتذراً بأنه لا يمكن له أن يتقدم على أخيه وشيخه محمد سويسي حيث كان قاضياً، والأمير لم يسمح بنقلته من الخطة المذكورة بخلاً به لعلمه ودينه وعند ذلك ألزمه الأمير التقدم للفتيا وآذانه أن يتأخر عن أخيه فتقدم إلى خطة الإفتاء وباشرها بالعلم والعمل والتواضع وأخلاق الصالحين والقناعة. ولما توفي أخوه ولي عوضه مشيخة مدرسة بئر الحجار وزانها بدروسه الفائقة، وتحريراته الرائقة، إلى أن أتاه أجله فتوفي في ذي القعدة سنة 1232 اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ودفن بتربتهم في أعلى جبل الفتح من الزلاج عليه رحمة الله وخلفه في إمامة الجامع الحفصي ورواية مسجد الحفصي ولده الأكبر الشيخ عثمان سويسي، ورثاه العالم الشاعر الشيخ أحمد الكيلاني بقوله: للمرء ما عاش في دنياه وجدانُ ... وعادة الدهر أفراح وأحزانُ فقل لمن يبتغي الدنيا وزخرفها ... هيهات هيهات جفن الموت يقظان قدم لنفسك ما ينجيك يوم غدٍ ... وكابد النصح لا يغررك سلوان وكن كصاحب هذا القبر مجتهداً ... في طاعة السّرِّ لم يصحبك خذلان أعني سويسي أبا العباس أحمد من ... سارت بتحقيقه في العلم ركبان شيخ جليلٌ خطيب واعظ وله ... في منهج الرشد تحرير وإتقان قد كان يفتي ولم يحفظْ له خلل ... وكم له لاتباع الحق إذعان ناشدتك الله قبراً هل سموت بمن ... صنيعه في دجى الأسحار قرآن وهل ظفرت بجسم راق منظره ... وطاب من نشره روح وريحان يا زائراً رمسه بمرحمة ... يرجى له فيه عند الله غفران وقل أتاك مسن العمر في خجل ... وقصده منكم برّ ورضوان فاجزلْ قراه بما يرجو مؤرخه ... (نجل التقى ناله عفو وغفران) 1232 28 الشيخ حسن الشريف تقدم استيفاء ترجمته في الأيمة في الأيمة وقد ولي الفتيا وأقام مفتياً دائماً بعد وفاة الشيخ أحمد سويسي سنتين زان فيهما الخطة إلى أن توفي عليه رحمة الله. 29 الشيخ محمد المحجوب هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن قاسم ابن الحاج الشريف، ثالث آبائه الكرام في الخطة الشرعية قرأ على فحول العلماء أكثر قراءته على والده. الشيخ محمد المحجوب وعمه الشيخ عمر المحجوب. وشارك في المعقول والمنقول مشاركة ما وجلس للإشهاد مدة ثم تقدم لخطة الإفتاء يوم الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف فباشر الخطة مع المحافظة على شرفها وهو مدل بعلم والده مع ماله من حسن التصرف والسكينة والوقار وكرم الجار بحيث لم يحفظ عنه خطأ مدة ولايته كلها. ولما توفي والده تقدم عليه الشيخ إسماعيل التميمي لخطة الرئاسة ثم بعده تقدم عليه الشيخ إبراهيم الرياحي ثم تقدم عليه الشيخ محمد بن سلامة مفتياً ثانياً مع الشيخ إبراهيم. وبقي صاحب الترجمة مفتياً ثالثاً محترماً ملازماً للمحافظة على همته والخطبة بجامع الزيتونة الكائن خارج باب البحر غير أنه عزل من ذلك في آخر أمره. وقد امتحن بفقد ولده الشيح أحمد المحجوب وكان من أعيان كتاب الدولة فتوفي في الخامس من ذي القعدة الحرام سنة 1260 ستين مائتين وألف وصبر والده لفقده واحتسب مصيبته. ولم يزل على احترامه واعتباره إلى أن أدركه الأجل المحتوم فتوفي يوم السبت خامس ذي الحجة الحرام سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف، ودفن بتربتهم في الزلاج عليه رحمة الله ورثاه أحد شعراء العصر بقوله: [الطويل] ألا فانظروا من صار بين الجنادلِ ... لقد كان في دنياه صدر الأماثلِ وأصبح تحت الأرض من كان فوقها ... وما كان إلا زينةً للمحافل هو الألمعي فخر الزمان محمد ... سليلُ جدودٍ من كرامٍ أفاضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فجدهم المحجوب يعزى نجاره ... لبيت شريف من خيار القبائل لقد كان في الفتيا حميداً وما رأى ... له أحد فيه جنوحاً لباطل فيكفيه ما قد ناله من أوائل ... أقر لهم بالفضل جمع الأفاضل فقد زينت الفتوى بهم وتبرجت ... وتاهت على رغم الحسود المجادل بهم قد أشاد الله مذهب مالك ... وأحيوا رسوماً قد خلت من مماثل وقد كان للدين الحنيفي صارماً ... وفي الحق ما مالوا إلى قول عاذل فيا زائراً بالله أدع برحمة ... تواجهه عند انتهاء المآمل وأهد له أم الكتاب مردداً ... ولا تك عما قد سئلت بغافل عليه من الرحمن أزكى تحية ... تروح عليه بالضحى والأصائل وكافئه يا ربّ بقول مؤرخ ... (له برياض الخلد أعلى المنازل) ?30 الشيخ إسماعيل التميمي هو الشيخ أبو إسماعيل بن محمد بن حمودة باشا الشريف التميمي ولد ببلد منزل تميم عام 1165 خمس وستين ومائة وألف، وحفظ بها القرآن العظيم على العارف بالله الشيخ أحمد بن سليمان. ثم قدم إلى حاضرة تونس في طلب العلم الشريف، وتصدى للأخذ عن شيوخ الجامع، فقرأ على الشيخ محمد الغنجاتي والشيخ محمد الشحمي وغيرهما ولازم فحلي المعقول والمنقول الشيخ عمر المحجوب والشيخ صالح الكواش فأخذ عنهما ما لاح به بدراً في أفق المعارف، يسدي من تحقيقه وتحريره أعز العوارف. وقد أجازه شيخه المحجوب بإجازة بديعة نصها: [الكامل] حمداً لك اللهم يا من أنعما ... بخرائدِ العلم العزيز وعلَّما واستنهض النقاد في تحويطها ... بخياطة الإسناد أن لا تكلما فنفوا شماريج الحديث وبينوا ... موضوعه وجلوا عن القلب العما حتى اجتنينا بعد كل سلجلج ... بل واجتلينا منه حالية الدُّمى وشكراً على نعمائك التي بسطت لنا خوانها، وآلائك التي هصرت لنا أفنانها، ونستوهب منك عرفاناً يزجينا إليك، وإيقاناً يدلنا عليك، وغفراناً نصل به حبالنا، ونسند إليه آمالنا. [الكامل] يا من خزائن جوده مملوّة ... وذخيرةٌ مرجوّة للمذنبِ ونصلي ونسلم على محمد واسطة عقد النظام، ونور حديقة الانتظام، الذي شاد من الشريعة بنيانها، وأقام لقسطاس العدل أركانها، وعلى آله وأصحابه الذين أشرقت في سماء الملة نجومهم، وأحرقت مردة العداء رجومهم، صلاة وسلاماً يهمي مدرارهما، فتوالى على ممر الأحقاب تكرارهما. وبعد فإن العبد الفقير الغريق في بحور التسويف، عمر بن القاسم المحجوب الشريف، تجلى الله له باسمه اللطيف، وأسبغ عليه ظل غفرانه الوريف، يقول إن أخانا في الله ومحبنا من أجله الفقيه النجيب الأنبه الأريب السيد الشريف ذي القدر المنيف، أبا الفداء إسماعيل ابن المرحوم أبي عبد الله محمد باشا التميمي حرس الله بهجته، وحاط عن الغلط مهجته، ممن أرهف في العلوم ظباته، وهز في ميدانها قناته، وتسنم من آيات المسائل غاربها، ونال من الفنون رغائبها، وارتضع أخلاقها، وعرف من المنقولات وفاقها وخلافها، وأخذ من الرواية بعنانها، وجالت من خيل الدراية في ميدانها، وقد لازمنا مدة مديدة وقرأ علينا كتباً عديدة، واقترح علي أعزه أن أجيزه، وأن ينظم في سلك هذه الأسانيد إبريزه، وعلمه محيط بأنا لسنا من أهل الاستجارة فضلاً عن الإجازة. [الطويل] ولكن إذا ما أقفرت دار زينبٍ ... وصوّح واديها وجفَّ معينها فلا غرو أن يستمرأ التمرد وارداً ... ويسمى هزيلاً حين عزَّ سمينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فطوى ثوبنا على بلله وأغضى عن عيوبه وعلله لعد أن أطلعته على خيبة أمري وصدقته سن بكري واسحثنا في كتب هذه الإجازة، ونويت بعد أن لويت إنجازه، ثم ما وسعنا إلا إسعافه، عز علينا إخفاته وإخلافه، فأجبته لمطلوبه وأسعفته لمرغوبه حرصاً على دعوة خير يهديها، وضراعة في أوقات الاستجابة يبديها وقد أجزت الفاضل المذكور إجازة عامة مطلقة تامة بجميع ما أخذته، ولمشايخنا أسندته، بما تضمنه هذا الثبت وغيره وأجزته أيضاً بجميع ما قرأته وأخذته عن والدنا عن الشيخ محمد زيتونة عن شيخه الفاضل سيدي محمد الزرقاني عن والده الشيخ عبد الباقي عن شيخه سيدي علي الأجهوري فيما رواه عن مشايخه المشهورين قدس الله أسرارهم، وأخضل مزارهم، وبجميع ما أخذته عن غير هؤلاء بطريق من طرق الأخذ إجازة مشيدة البنيان معربة عن علو الشان، مسلسلة بالأيمة الأعيان، مجلية لصاحبها وقائلة أطرزي فإنك فاعله وأجزته أن يجيز غيره بالشرط المعروف عند أهل هذا الشان والله تعالى ينفع به في جميع الأحيان، وعليه في ذلك أن لا ينساني وأولادي من صالح دعواته ويخصني بالاستعطاف عقب دروسه وصلواته، والله أسأل أن يكلأه من الدهر ونكباته، ويلطف بنا وبه في القضاء وسطواته، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول لا إله إلا هو. وصلى الله على سيدنا محمد وآله صلاة دائمة وفي رياض القبول سائمة ما اهتزت الأقلام، ما وتأنق بليغ في المبدأ والختام، والسلام من كاتبه ببنانه أسير خطاياه والمكبل في قيود خطاه الملتحف برداء الذنوب، عمر بن القاسم المحجوب، ستر الله عيوبه وكشف عنه خطوبه، ولم شعث تقصيره ومؤمن صنيعه عند مصيره بمنه وكرمه آمين. وقدم لخطة الإشهاد فكان من ثقاة الموثقين، وجهابذة الراسخين، وأخذ الرتبة العالية في صناعتي التدريس والتوثيق، وسلك مسالك التحرير والتحقيق. ولما عزل الشيخ عمر المحجوب من خطة القضاء وامتنع الشيخ إبراهيم الرياحي من البقاء على الخطة قدمه الأمير حمودة باشا لخطة القضاء صبيحة يوم السبت التاسع والعشرين من صفر الخير سنة 1221 إحدى وعشرين ومائتين وألف واستبشر بولايته الخاص والعام، وهنأه بها خاصة الأعلام. ومن ذلك ما هنأه به تلميذه الأكتب الشاعر الشيخ الحبيب بن أحمد الأصرم، وكانت ولادته بأرض الجزائر سنة 1168 ثمان وستين ومائة وألف مدة تغرب والده مع الموالي الحسينيين، وقرأ بتونس وارتقى إلى دست الكتابة وكانت وفاته رابع المحرم سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وكان شاعراً ومن شعره ما هنأ به صاحب الترجمة بولاية خطة القضاء وهو قوله: [الطويل] محياك من شمس الظهيرة أنور ... وذكرك من زهر الحدائق أعطر وإنك للدرُّ اليتيم الذي به ... ينافس أعيان الأنام ويفخر إذا لحتَ ما بين السِّماكين طالعاً ... تراءت لك الألحاظ عجباً وكبَّروا فخرك أضحى من عقائل عزه ... يجرُّ رداءً بالها يتبختر فضلت تميماً في مسالك نظمهم ... ومنْ كنت ظل الكل عنك مقصر ترقيت بالرأي الأصيل لرتبة ... يذل لها كسرى وبقصر قيصر وكم لبست وشي الجلال وكيف لا ... وعمَّن سواك اليوم تزهو وتكبر أيحكيك نحرير ومثلك في الورى ... كبحر عظيم بالغوامض يزخر فلا زلت في حفظ منيع ورفعة ... وبطش شديد في أعاديك تظفر يؤازرك الإسعاد والدهر قادم ... مطيع لما قد شئته حين تأمرُ فباشر الخطة بعلمه وثباته وعدله ورسوخ قدمه في معرفة فقه القضاء واستحضار النوازل وسلك فيها مناهج المجتهدين وقام بحقوقها على أكمل وجه نحو العشرين سنة ثم قدمه الأمير عثمان باشا مفتياً ثالثاً تاسع ربيع الثاني سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف فأقام في الفتيا ثلاثة أشهر وأعيد إلى خطة القضاء سابع رجب، وأظهر في فقه القضاء من معارفه العجب. ولما توفي العالم الصالح الشيخ محمد بن نصر القابسي ليلة الثلاثاء الثامن عشر من أشرف الربيعين سنة ثلاث وثلاثين تقدم عوضه لمشيخة المدرسة الأندلسية فأقام مع ذلك دروسها. وفي أثناء ذلك ألف: 1 رسالة في الوقف أبدع في مغزاها، ورصعها لمن يحاول في رياض الفقه انتزاها، فقرظها شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني بقوله: [البسيط] رسالة لستَ تلفي ما يدانيها ... في حسن ألفاظها أوفي معانيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 نظرتها فإذا التحقيق من كثب ... يدعو إذا رمت شيئا في مراميها بها (البيانُ مع التحصيل) إذ جعلت ... قواعد لأصول من مبانيها فهي (المعونة) إذ أضحت (مدونةً) ... مباحثاً لا ترى في غيرها فيها قد أنبأت عن يد طولي (وعارضةٍ) ... قويَّة لمعانيها ومنشيها جازاه مولاه عن سعيٍ له برضى ... فذاك في نفسه أعلى أمانيها وعمَّنا بعميم من مواهبه ... فضلاً ولا انقطعت عنا مجاريها بجاه من نرتجي منه الشفاعة منْ ... ما في القيامة من عظمى دواهيها عليه أزكى صلاة الله ما انتشرت ... في الأرض أزهى الدراري في مغانيها وقرظها المفتي المالكي الشيخ حسن الشريف بقوله: [لبسيط] رسالة أبرزت من فكر منشيها ... شموس فضل وإتقان معانيها حلَّت نظاماً وحلت في النباهة ما ... قد جلَّ إدراكه من غير مبديها سامرتها فاقتطفت الدر مبتذلاً ... وأسكرتني حلالاً من أماليها وأطرب الفكر منها كلُّ ساجعةٍ ... بطول معنى بليغ في معانيها وأوسعتني عطاء من نوادرها ... لتقتضي الشكر موفوراً لمنشيها فقمت أوسعه شكراً وأنشدها ... زدت العلو لذلك النور تنويها وقرظها الشيخ محمد بيرم الثالث بقوله: [الطويل] أسرّح طرفي في رياض صنيعكمْ ... لأبصر من أنواركم كلَّ شارقِ وأقتبس التحقيقَ من فيض بحركم ... فأكتسب العرفان من كل بارقِ فيا علمَ الأعلامِ أخرجت للنهى ... نتائج فكر بالعلوم الدقائقِ يه شدت للأعلام جل اجتهادهم ... وأوضحت للأفهام درك الحقائقِ فلا زلت بحراً موجداً درر النهى ... ولا زلت شمس الغرب بلْ والمشارق وقرظها القاضي الحنفي يومئذ الشيخ محمد بن أحمد بن حمودة بن الخوجة بقوله: لله تعالى أحمد وأصلي وأسلم على نبيه أحمد وعلى أصحابه الكرام وآله، الهادين كل متحير واله، وبعد فلما كانت هذه الرسالة، المتفجرة منها ينابيع التحقيق السلسلة، نافعة وإن نفعها لعام، كانت جديرة بثناء الخاص عليها والعام، من غير فصل بين الكبار والصغار، من أولي العز والصغار، فأردت أن أنتظم في سلك من هو لعنان الثناء علها ثاني، وإن كنت فلا مرية من القسم الثاني، فأقول إني اجتنيت ثمرات هاته الأوراق، من كل دان من أغصانها أوراق، واستنشقت من فوائح نشرها، حين أخذت في فتحها ونشرها، والتذذت بفوائح أرجها، حين طففت أسيم اللحظ في درجها، فما وقعت على كلام لمنشئها النحرير، إلا وهو في غاية التحرير، ولا عثرت له فيها على تعبير إلا وهو في نهاية التحبير، ولا رأيت منها محلاً، إلا وهو بالتحقيق محلى، إلى غير ذلك من خصالها الحميدة وخلالها، الحاصلة كما يرى في خلالها، مما لا يقدر على إحصائه يراع، ولو كلف بذلك يراع، فلله درها، من رسالة نفيس درها: [البسيط] رسالة قد سبتْ حجا معانيها ... السحر في لفظها أو في معانيها يا حسنها روضةً أطيارها صرخت ... له كم شنفت سمعي مغانيها كم راق فكريَ في أدواح ما غرستْ ... يد الذكاء التي شدت مبانيها ولعمر الله يمين صادق والكذب على مه إنها لأصدق شاهد وأوضح علامة، على أن منشئها جهبذ علامة، وأن له يداً طولى واقتداراً على التحقيق وطولاً وذهناً متلألئاً ذكا، مشرقاً إشراق ذكا، إلى غير ذلك مما لا يطيق أحد عده، ولو أعد لذلك أعظم عده. [الطويل] وإنيَ لا أستطيع كنه صفاته ... ولوْ أن أعضائي جميعاً تكلموا لا زال يدر هكذا نفائس الدر متخلياً عن الخلل، متحلياً بالحلل. وقد ألف غير ذلك من مهمات الرسائل: 2 فمن ذلك رسالة في الجواب عن ثلاثة أسئلة سئل عنها سنة 1244 في الاقتصاص من أحد الرجلين المتمالئين على القتل أو كليهما. 3 ورسالة في التطوع بالنفقة وأخذ العالم الغني من الزكاة وهل إن سامح الأمير أحداً في الزكاة تسقط عنه أم لا. 4 ورسالة في الجواب عمن يخلط الرديء بالطيب ليبيعها معاً. 5 ورسالة أجاب بها عن سؤال وجهه المقدس حسين باشا فيمن حبس عقاراً برسم خال من الحوز والقبول واشترط الغلة لنفسه بقية حياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 6 ورسالة أجاب بها الأمير المذكور عن سؤال أتاه به على لسان حضرة كاتبه المقرب العالم المدرس الشيخ محمد المناعي في قوم من المسلمين استأسرهم العدو بمراكبه وتحققوا أنهم مقتولون لما رأوه وقع بغيرهم هل يجوز لهم حرق خزنة البارود نكاية بالعدو ولأهلاك مراكبه وإن كانوا ميتين من ذلك لا محالة وهل تحصل لهم الشهادة بهذا الممات أم لا. 7 ورسالة أجاب بها الشيخ إبراهيم الرياحي فيمن حلف بالطلاق ما بقيت تقعد. 8 ورسالة في الجواب عن نازلة حبس مالكي. 9 ورسالة الوصية بالثلث. 10 ورسالة في حبس بعض نساء الملوك على قراء القرآن ليقرءوا على قبرها وأوضح بها حكم هاته القراءات على القبور. 11 ورسالة أجاب بها مفتي سوسة الشيخ حسن الهدة في طريق غير نافذة. 12 ورسالة أجاب بها عن سؤال ورد له من تقرت من بلاد الصحراء هل يسوغ عزل الأصلح من وكالة أوقاف الجامع وإمامته أم لا وهل تنعقد الولاية لغير الأصلح أم لا. 13 ورسالة أخرى في الجواب عن أربعة أسئلة كثيرة الدوران. 14 ورسالة في حكم الفئة الباغية إذا قتلوا أحداً هل يقتل به من أمكن الحصول عليه أو لا يقتل غير المقاتل. 15 ورسالة في حكم وطء الأمة المشتراة للتجارة على ذمة صاحب المال مع أن المدير شريك في الربح فهل يسوغ له ذلك بحق الشركة في الربح أم لا. 16 ورسالة في حكم لبس العمامة واستعمال شراريب الحرير في البرانس. 17 ورسالة في قول الفقهاء ولا يجمع بين عاصبين. 18 ورسالة في حكم الشهادة إذا تأخرت عن وقتها استدرك بها على الشيخ قاسم عظوم. 19 ورسالة فيمن حبس عقاراً غير معين. 20 ورسالة فيمن حلف على زوجته فقصدت تحنيثه. 21 ورسالة في البيع على اليتيم. 22 ورسالة في كون اللوازم الشرعية كاللوازم العقلية. 23 ورسالة في الرجوع عن الوصية. إلى غير ذلك من الرسائل التي لتحرير تلك المسائل، من أعظم الوسائل، وكم له من مراسلات، حررت أحكاماً بالآيات البينات. وبعد وفاة الشيخ حسن الشريف تقدم إلى خطة الإفتاء يوم عيد النحر سنة أربع وثلاثين وأقام على خطته إلى أن سعى به بعض السفهاء المتزلفين لملوك الإطلاق بأنه تتبع الأجفار ويخير بقصر مدة الأمير، ولما حضر يوم المجلس بباردو لم يأذن له بالدخول مع الشيوخ وأخبرهم الخبر فلم يفه منهم واحد بجواب فعزله الأمير من خطة الإفتاء يوم الأحد الحادي عشر من ذي القعدة سنة 1235 خمس وثلاثين ومائتين وألف وأولى مكانه الشيخ محمد المحجوب مفتياً والشيخ محمد الشرفي عدل باب الجزيرة شيخاً على المدرسة الأندلسية ونفاه إلى ماطر فأقام هنالك. قيل إنه بعد مدة أرسل أحد تلاميذه إلى زاوية الشيخ سيدي أحمد بن عروس رضي الله عنه يطلب منه الإذن في الرجوع ويشكوه ذلك المقام ففعل التلميذ ورجع للشيخ بماطر وأخبره أنه رأى في نومه رجلاً خارجاً من الزاوية ينشد: [البسيط] أبان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدإ منه ومختتم فقال الشيخ ها أنا في انتظار إلى ربيع الأول وكان الأمر كذلك ففي أول يوم من ربيع الأول سنة 1236 ورد إليه البشير بالإذن بالرجوع إلى تونس. ورأيت في بعض تقاييد معاصرية أنه إنما أقام في ماطر أربعة وثلاثين يوماً ورجع إلى تونس يوم الجمعة الخامس عشر من ذي الحجة فعاد إلى الحاضرة ولاقى من إقبال العلماء وتعظيمهم لمقامه ما هو أهله واقترحوا عليه أن يقريهم المسائل وإفادة كل كسال ودروسه محط لرحال أهل العلوم سلك فيها من التحقيق مسلكه المعلوم. ثم إن الأمير حسين باشا قدمه مفتياً ثانياً يوم الخميس السادس والعشرين من رجب سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف بين المفتيين المحجوبين الوالد وولده فزان خطة الإفتا، بطريقه لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. وأقام المفتي، وعم نفعه المتعلم والمستفتي، إلى أن توفي رئيس أهل الشورى أبو عبد الله محمد المحجوب فقدمه الأمير المذكور للرئاسة في شعبان الأكرم سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين وألف فزان الخطة علماً وعملاً وفقهاً مديداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وولي الخطبة والإمامة بجامع أبي محمد الحفصي فخطب الخطب البليغة من إنشائه، وقام بأعباء حفظ الشريعة بحسن إفتائه، إذ كان من حفاظ المذهب المالكي أخذاً في تحقيق المناط متضلعاً في أصول المذهب ومدارك الأيمة له عناية بتحرير المستند في الأحكام لا يأخذ فقهاً مسلماً بدون تحقيق للأصول التي يبنى عليها وكتائبه الفقهية ومراسلاته حجة اليوم عند الفقهاء المالكية محفوظة عندهم. اختلف في المجلس الشرعي هو والشيخ محمد المحجوب كبير أهل الشورى في نازلة تشعب فيها الخلاف بينهما، وطالت النازلة ولم يقع التسليم فيها فلما كان يوم اجتماع المجلس قال له الشيخ محمد المحجوب كيف ساغ أن تخالفني في مسالة أعم ما جرى فيها من عهد الإمام مالك أعلم من قضى بها منذ ذلك العصر إلى هذا اليوم فقال له الشيخ إسماعيل وإني لأعلم ذلك وأعلم وجه ما قضى به فيها كل قاض إلى هذا اليوم والحق فيها غير ما تحاولونه وحسبك بهذا دليلاً على سعة علمهما رضي الله عنهما. ومع هذا كله فإن صاحب الترجمة له في العلوم المعقولة يد طولى مع فصاحة لسانه وحفظه لتاريخ البلاد وحسن محاضرة لا تمل آية الله في الذكاء محب للصالحين حسن الأخلاق عالي الهمة كريم النفس نزيه مستحضر للجواب، مرجع للأحكام والفتاوي حسن القامة أكثر لبسه البياض نظيف الشيب والثياب عفيف لا تأخذه في الحق لومة لائم. وقد بلغ من العمر أربعاً وثمانين سنة وتوفي بعد الزوال بساعة من يوم الاثنين الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف ودفن من الغد بالزلاج وحضر جنازته الأمير وآل بيته والعلماء عليه رحمة الله ورثاه الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الرياحي بقوله: [الطويل] هل الناس إلا هالك وابن هالكِ ... وعزُّ البقا لله غير مشاركِ ولو أنه يبقى على الدهر فاضل ... لحقّ لنحرير عليِّ المدارك كهذا الذي أمسى الثرى متوسداً ... ونجم الثريا منه تحت أرائك لقد كان سيفاً في الشريعة صارماً ... ونورَ ظلام في الجهالة حالك إذا نشر التحقيق في روض درسه ... فيالك من نشر من المسك صائك ومهما دعا في موقف الفهم فاركاً ... على غيره جاءت له غير فارك قضاياه في جيد القضاء قلائدُ ... فتاواه تيجانٌ لمذهب مالك إذا قال إسماعيل فالكل منصت ... لأجزل معنى من صياغة سابك مشى ذكره في العالمين كما مشت ... ذكاءُ ولكن ذكره غير دالك إلى رحمة المولى مضى وهو آمل ... لمقعد صدق عند أكرم مالك ولما مضى أبكى القلوب توجعاً ... وإن كان ذا وجه من البشر ضاحك وعم الأسى حتى لساعة دفنه ... بكى المزن وبلاً بالدموع السّوابك لذاك تأتى أن يقول مؤرخ ... (لعين السما جريٌ على قبر مالك) 1248 31 ? الشيخ الشاذلي بن المؤدب هو الشيخ أبو عبد الله محمد الشاذلي بن عمر بن علي المؤدب ابن حسن المغربي الشريف كان جده الشيخ أبو الحسن علي بن حسن المغربي مؤدباً وتقدم إماماً بمسجد ابن جيشة بحاضرة تونس وبها توفي سنة 1196 ست وتسعين ومائة وألف. ونشأ ولده الشيخ أبو حفص عمر بن المؤدب في خدمة العلم الشريف وصاهر الصفوة الفاضل الشريف الشيخ علي بن أحمد دمام شيخ المغارة الشاذلية وابن شيخها وكان عالماً فاضلاً. ولما توفي صهره والد زوجته تقدم الشيخ عمر بن المؤدب لمشيخة المغارة سنة 1206 ست ومائتين وألف وذلك مبدأ دخولهم لمشيخة المغارة الشاذلية وتقدم أيضاً عوضه إماماً بجامع باب الجزيرة فزان المغارة والجامع بفصاحته وعلمه وعمله وله مع ذلك دروس يقريها بجامع الزيتونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ولما هاجر الشيخ العيوني لطريق الله وأعرض عن الدنيا وكان الإمام الثالث بجامع الزيتونة أرسل إليه الأمير حمودة باشا للتقدم إماماً ثالثاً وكان وقتئذٍ مقيماً بجبل المنار فامتنع من ذلك كل الامتناع حتى أتاه خليفة الجامع الشيخ عمر المحجوب وبه مرض وأكرهه على قبول الإمامة فقبلها يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة 1220 عشرين ومائتين وألف، وكان الإمام البكري يومئذٍ محجوراً عليه والخليفة مريضاً فلازم الشيخ الإقامة في الجامع وأقام الخمس والجمعة وعمر ما بين أوقات الصلاة بدروس يقربها فكان زينة لجامع. وحج بيت الحرام واستمر إماماً ثالثاً إلى أن توفي الشيخ الطاهر بن مسعود فقدمه الأمير محمود باشا خليفة بجامع الزيتونة أواخر صفر الخير سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، فزان الخطة إلى أن استكمل من العمر خمساً وثمانين سنة (85) وتوفي ليلة الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1245 خمس وأربعين ومائتين وألف وقيل في تاريخه: رحمة الله عليك يا عمر. وأما ولده صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1190 تسعين ومائة وألف وأخذ عن والده وعن الشيخ أبي محمد حسن الشريف والشيخ الطاهر بن مسعود والشيخ صالح الكواش والشيخ أحمد بن الخوجة. والشيخ أحمد بوخريص وتصدى للتدريس، فبث في صدور الرجال در علومه النفيس، وحج بيت الله الحرام فأقام بمصر نحو ستة أشهر واجتمع بعلماء الجامع الأزهر ولازم العالم الرباني الشيخ النميلي هنالك ولم يقدم على الخروج لزيارة ضريح سيدي أبي الحسن الشاذلي بدون إذن تأدباً معه رضي الله عنه ورجع سالماً. ولما تقدم والده إمامة جامع الزيتونة استولى هو عوضه إماماً بجامع باب الجزيرة في جمادى الثانية سنة عشرين ولازم التدريس. ثم أكره على خطة القضاء في ذي القعدة الحرام سنة إحدى وأربعين فقضى بحكمه العدل، وقضائه الفصل، نحو التسعة عشر شهراً ولما توفي كبير أهل الشورى المحجوبي الثاني قدمه الأمير حسين باشا مفتياً ثالثاً سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين وألف فعاد إلى التدريس بجامع الزيتونة ولازم الإفتاء. ولما توفي والده قدمه الأمير إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة وشيخاً في المغارة الشاذلية فزان الجامع بحسن التلاوة والعلم والعمل وخمّل الطريقة الشاذلية ولازم الفتوى، بعلم وتقوى، وكانت الشيوخ يجتمعون في داره في كل أسبوع ليلة المجلس للنظر في النوازل الشرعية حتى يقع الانفصال بينهم هنالك يقيمون تلك الليلة في المسامرة العلمية إلى صلاة الصبح كما هو شأن المتحرين لدينهم. ولما توفي الشيخ إسماعيل التميمي ولي مشيخة المدرسة الأندلسية سنة 1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف تقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين فعظم به نفع المنقطعين لقراءة العلم الشريف. ولما ولي الشيخ محمد بن سلامة مفتياً ثانياً عاد مفتياً رابعاً وجاءه الشيخ المذكور لداره يعتذر إليه فلم يتأثر من ذلك كشأن الأخيار ولازم التدريس والإفتاء ونفع الله بعلمه. وقد أخذ عنه جل شيوخنا الذين أدركناهم وهو عالم فاضل خير فصيح تقي بالله متلبس بأخلاق الصالحين محب لهم عزيز النفس ملازم للتدريس حسن القامة إلى طول آدم اللون طويل الوجه والذقن غلب عليه الشيب ذو سكينة ووقار جهوري الصوت في خطبه وقد خطب كثيراً من إنشائه ولم يزل على كمالاته إلى أن توفي وهو المفتي الثالث والإمام الثالث بجامع الزيتونة أوائل صفر الخير سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف ودفن جوار والده بالبيت الذي على يسار الداخل لبيت الذكر من المغارة الشاذلية عليه رحمة الله وقد رأيت من مدائحه قصيدة أنشئت بين يديه عند ختمه الوسطى في علم الكلام بجامع الزيتونة أوائل ثاني جمادى سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف من شعر تلميذه يومئذ المفتي الشيخ محمد بن سلامة وهي قوله: [الطويل] لذيذ الهوى دمع تعوده السفح ... وقلب له من حرّ لاعجه لفحُ إلخ. 32 الشيخ إبراهيم الرياحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 تقدم استيفاء ترجمته في الأيمة ولما توفي كبير أهل الشورى الشيخ إسماعيل التميمي تقدم للخطة المذكورة من أول وهلة في جمادى الأولى سنة 1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف وتقدم بذلك على الشيخ محمد المحجوب والشيخ الشاذلي بن المؤدب ولازم الخطة المذكورة أكثر من تسع عشرة سنة إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. 33 الشيخ محمد الخضار هو الشيخ أبو عبد الله بن محمد الخضار أصله من أبناء الحاضرة، وكان والده يحترف ببيع الخضر وتعاطي الدلالة بسوق الترك، وكان خيراً فاضلاً وليس هو من ذرية الولي الصالح الناسك الشيخ علي الخضار الأندلسي المتوفى آخر ذي القعدة الحرام سنة 1065 خمس وستين وألف في حالة سجوده من صلاة العصر بجامع الزيتونة رضي الله عنه كما توهم. وقد ولد صاحب الترجمة سنة تسع ومائتين ونشأ في طلب العلم وسعى في تحصيله فقرأ على الشيخ أبي محمد حسن الشريف والشيخ الطاهر بن مسعود والشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد الستاري وغيرهم وأخذ الفرائض والحساب عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن ملوكة وتعاطى العلوم الحكمية بالمطالعة وقرأ أوراقاً من المواقف على الشيخ محمد الفاسي، وتسلط على علوم أخر مثل الكيمياء والرمل وما شاكلهما، واجتمع مع قرينه الشيخ محمد البحري على نظر شرح القاضي زادة علي الجغميني في الهيئة بمقصورة النواورية بجامع الزيتونة قبل صلاة الظهر وفي أثنائه حضر هنالك الشيخ عثمان النجار المرجع الوحيد في ذلك الفن فعرضا عليه بعض المسائل وصار يأتيهما كثيراً في ذلك الوقت مساعدة لهما على ذلك الكتاب إلى أن تم ختمه وتعاطى نظم الشعر فسبق إلى غايته بحسن قريحته الوقادة، وهكذا كانت تعلماته أكثرها بالتسلط ومع ذلك بلغ غايات لم تدرك بما له من رسوخ الفكر واتقاد القريحة مع قلة قراءته وجلس لتدريس فأفاد الطالبين بعلمه وذكائه العجيب، وخرج لحج بيت الله الحرام وكان وقع للتاجر العروسي نزاع مع أحد شركائه بالشام وتوفي وخلف مالاً فتكلف الشيخ بنازلته ولما فرغ من حجته ارتحل إلى الشام واجتمع في مكة بالشيخ أحمد بن السنوسي والشيخ محمد بن أحمد وغيرهما من رجال الحديث المشاهير واجتمع في الشام بفحول العلماء وكانت مدة مغيبه خمس سنين. ثم رجع إلى تونس وأقام على بث العلم في جامع الزينوتة وتقدم قاضياً في المحلة المنصورة بعد وفاة قاضي المحلة الشيخ أحمد زروق سنة 48 ثمان وأربعين فسافر مع الأمير مصطفى باشا وسافر بعد ذلك مع المشير الأول أحمد باشا، وولي الإمامة والخطبة بجامع التوفيق فخطب من إنشائه خطباً يلين بها الحجر الصلد ثم قدمه الأمير للفتيا فصار مفتياً رابعاً في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ورمضان المعظم سنة 1253 ثلاث وخمسين ومائتين وألف، وتقدم لخطة التدريس بجامع الزينوتة في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع كالترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة 58 ثمان وخمسين وأقام على إفادة الطالبين والمستفتين ولما تقدم الشيخ محمد بن سلامة مفتياً ثانياً من أول وهلة صار صاحب الترجمة مفتياً خامساً. وكان عالماً متضلعاً في العلوم العقلية يميل إلى الحكيمات فقيهاً خيراً نقادة، اقتصر في عام 54 أربعة وخمسين على حضور ثلاثة أختام في شهر رمضان وهي ختم الشيخ محمد بيرم الثالث والشيخ الرابع والشيخ محمد بن الخوجة وقيل له في ذلك فقال: [مخلَّع البسيط] عيون أختامنا ثلاثٌ ... قد أحرزت في الكمال فضلاَ لغيرها لا أشد رحلي ... وهل تشد الرحال إلا وهو حسن الأخلاق والاعتقاد نفع الله بعلمه كثيراً فصيح القلم واللسان شاعر مفلق ينسج على منوال عزيز بذ فيه على شعراء عصره بالجزالة وإحكام النسج أثبت له كتابي مجمع الدواوين التونسية قطعة وافرة تناهز الكراسين وتدل على رسوخ قدمه في الآداب التي أتى منها بالعجب العجاب وكان حسن المفاكهة والمحاضرة يطربه الصوت الحسن قيل له في ذلك في بعض المجامع فقال: لا تلمني يا عذولي ... إنّني في الحب داعِ حسنٌ في ناظري ... وحسين في سماعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 إلا أنه غر كريم في بعض الأحيان يتصور للأشياء المعقولة وجوداً خارجياً كثيراً ما يداعبه أحبته على الطعام الحلو فيصفونه له بالحرارة فيشتكي ألم حرارته ويظهر عليه أثر شكايته ويقيم عند صديقه الوزير العربي زروق بجبل المنار وإذا عزم على الإياب دس له الوزير المذكور من يتحدث في المجلس بوجود اللصوص وقطاع الطريق فيعدل عن عزمه ويقيم إلى أن يتأكد عنده أمن الطريق. وقد ثقل عليه في آخر عمر ضعف بصره فكان من ذلك في تعب أخبرني الشيخ محمود قابادو أنه أرسل إليه هدية من راحة الحلقوم وكتب إليه صحبتها: [الكامل] مولاي إن كرام إسلامبول قد ... بعثا إلي برحلة وقدومِ ورأوا كأن الدرس أتعب مقولي ... فتداركوه براحة الحلقوم وكان الحاضر بين يديه شيخ لا يحسن القراءة فقرأها عليه قراءة نثر فظنها الشيخ من النثر فكتب إليه مجيباً بنثر وهو قوله: بعثوا لك يا مولاي بما يشبه في اللين دماثة أخلاقك وفي الطيب نداء صولتك وأعراقك، وفي العذوبة ما تجده النفس عند ارتشاف أذواقك، فلئن بعثوا لك راحة الحلقوم فلأنت راحة النفوس، ولا غرو أن ما فعلوا معك ذلك فلا عطر من عروس. ومن لطائف شعره ما كتبه إلى الشيخ الإسلام متشفعاً في بعض المسجونين من العدول فقال: أعيد أيديَ للنعماء موجبة ... أن يظهر السلب يوماً في مبانيها وطلعةٌ قرنت باليمن مسفرةً ... أن يرهق اليأس يوماً من يعانيها يا سيداً منه للأيام إذ عسفت ... أسنى شفيع فلا تحفل بلاحيها نبئت أن قد أتى نعمان واقعة ... يستوجب الزجرَ بالتعزيز آتيها لكن له صبية باتت مروعة ... ذرف العيون بما تبكي بواكيها فانظر لهن رعاك الله مقتصداً ... فأنت من أنت إجلالاً تنويها ملازماً للتدريس إلى أن توفي في ذي القعدة الحرام سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. 34 الشيخ محمد بن سلامة هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطيب بن أحمد بن علي بن الباهي بن سلامة الطرابلسي المحمودي من بني سليم قدم جده الباهي من سلامة من طرابلس إلى حاضرة وكان تونس وكان بها مؤدباً. ونشأة ولده الشيخ أبو الحسن علي في خدمة العلم الشريف وقرأ على فحول العلماء وتصدى لبث العلم في جامع الزيتونة فأخذ عنه علماء كثيرون منهم شيخ الإسلام البيرمي الثاني وغيره وتقدم إماماً وخطيباً بجامع التوفيق فزان المحراب والمنبر بعلمه وفصاحته، وتقدم لخطة قضاء باردو المعمور فقام بها أحسن قيام وأنصف في إبرام الأحكام إلى أن سار لرحمة المالك العلام وأرخ وفاته الشيخ محمد المولا الحنفي بقوله: [المتقارب] ألا كل شيء ملاقٍ حمامهْ ... بذا الربُّ في اللوح خطَّ ارتسامهْ فطوبى لمن كان مستعتباً ... غداً سالكاً لسبيل السلامهْ كهذا الإمام الزكي منْ عليه ... قد انتشرت للقبول علامه وقضّى الزمان بحسن قضاهُ ... وخصّ بدرس العلوم كلامه ولبى مجيباً لداعي الحمام ... فحلَّ القصور بدار الكرامه فأغمره الله من فضله ... وأعطاه رب البرايا مرامه فمن أجل ذاك أرخوا ... ببيت كسمط أجادوا انسجامه حوى كل رفد وكل المنى ... عليُّ الإمام هو ابن سلامه وترك ولده الشيخ أبا العباس، متحلياً من العلم بأفخر لباس، أخذ العلم عن والده وعن الشيخ صالح الكواش، وتصدى للتدريس فزان جامع الزيتونة. ولما توفي والده تقدم عوضه لإمامة جامع التوفيق وخطب على منبره كوالده ثم قدمه الأمير حمودة باشا قاضياً ببنزت فأقام فيها مدة ثم حن إلى منبت غرسه فاستقبال من الخطة وولي عوضه فيها الشيخ حمزة الجباس سنة خمس عشرة فأقام هنالك نحو الخمسة الأشهر ثم استقال فرجع مصحوباً بمرض لازمه إلى الوفاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وأما الشيخ أحمد بن سلامة فإنه لما رجع إلى الحاضرة أقام على التدريس بجامع الزيتونة وتقدم شاهداً على أوقاف الحرمين الشريفين يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1216 ست عشرة ومائتين وألف ولما توفي الشيخ صالح الكواش قدمه الأمير لمشيخة المدرسة المنتصرة عوضه فزانه بدروسه ولما توفي الشيخ الطاهر بن مسعود أواخر صفر الخير سنة 34 أربع وثلاثين تقدم عوضه مدرساً بجامع الزيتونة بدرس مراد باي وكانت دروسه بجامع الزيتونة بين فقه وحديث مع القيام بشهادة الحرمين الشريفين غير أنها كانت سبب محنته التي أصيب بها في آخر عمره وذلك أن الأمير حسين باشا كان يبلغه عنه ما يسوؤه من ذم دولته ومدح أبناء عمه السالفين وكان يغض الطرف عن ذلك حتى اتفق أن عرضت نازلة زيتون أوصلته الوراثة للشيخ أحمد بن سلامة وهو في شركة ابن الأمير محمد باي فأراد الأمير أن يضم لابنه الجزء الذي بيد الشيخ ورام أن يرسل إليه في طلب بيعه فامتنع رجال الدولة كلهم من طلب الشيخ في ذلك متعللين بتشدده وعدم ميله فتأكد عند الأمير ما كان يبلغه فأرسل إليه وأحضره بين يديه وسأله بيع الزيتون بما يريد من الثمن فلم يتهيب أن تجاسر عليه بكلمات لا يخاطب بها الملوك بعد التمنع من البيع وتزايد أمامه في التفاوه حتى أمر بقتله فأخرج من بين يديه وترامى أحد أعيان الدولة على الأمير متوسلاً في حفظ دمه لعلمه فقبل شفاعته وأمر بعزله من جميع وظائفه وهي شهادة أوقاف الحرمين الشريفين ودرس مراد باي بجامع الزيتونة وجراية ثلاثة أرباع من الجزية ومشيخة المدرسة المنتصرة التي قد وليها بعده الشيخ محمد العذاري قاضي المحلة وأمر بسجنه ومحاسبته عما تعاطاه في أوقاف الحرمين الشريفين فأجلت المحاسبة على أن عند الشيخ أموالاً باهظة أخذ فيها جميع كسبه الذي منه جزء الزيتون الذي امتنع من بيعه وبقي ولده يجمع المال ويدفع عن والده إلى أن أصابه مرض الطاعون العام فتوفي في سجنه يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف ورثاه الشيخ أبو عبد الله محمد بيرم الثاني بقصيدة قال في آخرها: فيا زائراً إنْ حمت حول ضريحه ... فزوده مما كان يبديه في الدَّرسِ وقل يا أبا العباس وابن سلامة ... عليك سلام ما بقيت بذا الرَّمسِ وما قرأ المجتازُ قول مؤرخ ... (ليهينك ما قد نلت من أطيب الأنس) (1234) وأما ولده الشيخ الطيب فقد كان ثقة عدلاً تقدم لشهادة الحرمين الشريفين وامتحن بفقد ولده في حياته وتوفي سنة 1278 ثمان وسبعين ومائتين وألف. وأما ولده صحب الترجمة فقد ولد عام 1216 ستة عشر ومائتين وألف، وتبناه جده واعتنى بتعليمه، فأخذ عنه كثيراً من كتب المبادئ إلى أن ختم عليه المكودي على الألفية وحفظ على يده كثيراً من المتون وجلس للأخذ عن علماء جامع الزيتونة، فقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث علم البيان، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب الكفاية وشرح الشيخ السنوسي على العقيدة، وقرأ على الشيخ محمد السقاط، وقرأ على الشيخ محمد المناعي شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ على غير هؤلاء كتباً كثيرة من المعقول والمنقول حتى قرأ تفسير القاضي البيضاوي على الشيخ إبراهيم الرياحي واستجارة فأجاز له بقوله: [الكامل] حمداً لمن جعل الإجازة سلما ... يرث المجاز بنيلها نسباً سما وصلاته وسلامه أبداً على ... خيرِ الورى متعلّما ومعلما ولآله وجميع أمته الرضى ... لاسيما علماؤهم لا سيما هذا وإن الفاضلَ ابن سلامةٍ ... ذاك الذي متن الكمالَ تسنَّما هشَّت إلى نيل الإجازة نفسه ... لما رآها للأفاضل مغنما فمن الفقير لها ارتجى معْ أنني ... ما كنت للظمآن فيها معلما لكنْ رجوتُ تشبهاً برجالها ... آبائنا العلماء ومن يشبه فما فأقول إني قد أجزت له بلا ... ثنيا رواية ما يصح ليَ انتمى من كل ما أدريه أو أرويه لا ال? ... جعفيَّ أقصد فقط أو مسلما موصي كما أوصيت بالتقوى التي ... أوصى بها القرآن نصاً محكما وبدعوة منه بقلب حاضر ... أرجو بها حسن الختام مكرَّما والله إبراهيمُ يحمدُ مبدياً ... أزكى الصلاة على الرَّسول مسلّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وتصدى للإقراء فأخذ عنه كثيرون وفي سنة إحدى وخمسين أولاه الأمير شهادة أوقاف المارستان والتكية فقبل الأولى وامتنع من قبول الثانية حيث كانت ولايتها بيد الشيخ محمد المساكني صهر الشيخ الشاذلي بن المؤدب مراعاة لشيخه ثم في رمضان المعظم سنة 53 ثلاث وخمسين ولي إمامة جامع سبحان الله ومشيخة المدرسة المنتصرة وخطب من إنشائه فزان بأدبه وفصاحته المنبر ولما تقدم الشيخ الخضار للفتيا قدمه المشير أحمد باشا باي قاضي المحلة المنصورة يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة 53. وكان ملازماً للشيخ محمد البحري فأخذ عنه فقه القضاء ولما توفي الشيخ المذكور وترقى للخطة جدي الشيخ محمد السنوسي تقدم صاحب الترجمة لقضاء باردو أواخر ربيع الأول سنة 1254 لأربع وخمسين ومائتين وألف فحضر في المجلس الشرعي وعلق همته بمزاحمة الشيوخ وتكلم في المجامع العلمية. ولما توفي جدي المذكور قدمه المشير قاضياً بالحاضرة أول شهر رمضان المعظم سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف، وكان عالي الهمة فشمر عن ساعد الجد واستعان عل الخطة بفحول أهل عصره وجمع العلماء بداره للمسامرة على المسائل فلم يلبث أن صار فقيهاً ذا خبرة بفقه القضاء. وصار من فحول العلماء مع ما عنده من الميل إلى الدنيا وحب متاعها وقد ساعده على ذلك البخت فتمكن حبه من نفس المشير أحمد باشا وأفاض عليه سجال نعمه وأعطاه العطايا العباسية حتى صار يدخل عليه إلى بيته بدون إذن ولا يتخلف عن زيارته ومسامرته. ولما استحكم أمره عنده استظهر بحجج جده في ذلك الزيتون الذي أخذه منه المقدس حسين باشا وطلب من المشير أن يملكه جميعه فأرسل المشير في الحال إلى ابن عمه وولي عهده محمد باي وطالبه برسوم جميع الزيتون المذكور التي على ملكه، فلم يسعه إلا أن أرسلها إليه وصدر أمر في تمليك جميعه له ولم يكفه ذلك حتى طلب من المشير استغلاله عن جميع السنين الفارطة من يوم خروج جزئه من يد جده إلى ذلك العهد وآذن المشير بتحرير ذلك من دفاتر بيوعات الزيتون وأعطاه في مقابلة ذلك كثيراً من الربع والعقار وكفى بهاته الواقعة شاهداً على نفوذ كلمته وسطوته وعلو شأنه وكان العقلاء ينكرون عليه ذلك خشية سوء عاقبته التي وقع فيها ولده من بعده لولا أن تداركه حلم المشير الثاني وذلك أن المولى محمد باشا باي لما استقل بالملك آذن بوضع اليد على جميع ملك الشيخ ابن سلامة الذي أعطاه المشير أحمد باشا باي حيث إنه ملك الدولة أخذه بدون حق وإن رجوعه لبيت مال المسلمين أولى وتصرفت الدولة في جميع الربع والعقار الذي انتزعه من ملكه وأصبح ولده لا كسب له ومع ذلك طولب بدفع ثمن ما فوته الشيخ بالمبيع وعظم الكرب بذلك لولا أن تداركت عناية الله وحلم المشير وكرم نفسه فتفضل أولاً بإسقاط الطلب فيما فات ثم اتفق أن وكيل البايليك تجاهر بالشكاية بمطالبة ولد الشيخ في المحكمة وكان ولد الشيخ جالساً بها في أثناء الكتاب فرأى المشير حال ولد الشيخ من الخجل والوجل والانكسار ووجد من نفسه ما يجد أبو الأبناء عند رؤية الخطوب، فرحم ذله وأصدر أمراً بإرجاع جميع ما كان في تصرف الشيخ إلى ولده رحمة منه وشفقة وهو أهل الفضل والكرم والله لا يضيع أجر المحسنين. ولنرجع لما نحن بصدده من الكلام على صاحب الترجمة فنقول: إنه قد استصحبه المشير الأول في سفره لأطرف المملكة، وأظهر في ذلك السفر من البذاخة والبذل والإطعام ما لم يزل حديثه يتلى في كل جيل، كل ذلك بمساعدة مودة المشير إليه، واستحسان ما يقع منه وإعانته عليه. ومكث في خطة القضاء نحو ثماني سنين انتهى إلى رتبة عالية في التفقه ثم إنه طلب من المشير أن ينقذه من ربقة القضاء بسبب رؤيا رأى فيها أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عتها تنهاه وتحذره القضاء وأقام في داره متعللاً بالمرض وأرسل مكتوب استعفائه وهذا نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أما بعد فلا يخفاك أن طاعتك فريضة وأن من جزئياتها النصيحة لك كما قال عليه السلام: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأيمة المسلمين وعامتهم وها أنا ممن ألهمك الله في تقديمه لهاته الخطة التي بها قوام حال العباد والبلاد، وإلهامه لا يمنعك من إمعان النظر في صلاح القوم وعدمه إذ لا معارضة بين المن ووقوع المقدور على وفق مراد القدر والذي يجب علي أداء نصيحة نفسي ونصيحتك أني لها لا أليق، ولحمل أعبائها غير مطيق، لا من جهة الأهلية ولا من جهة ضعف البدن الذي قام عليه دليل العيان، وفي الحديث لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان، قال العلماء كافة لا مفهوم لهذا الوصف بل هو إشارة إلى كل مشوش حتى الصيام فالمرض محل اتفاق أنه مدخل في حديثه عليه السلام وإذا كان صاحب الشريعة قال لي: لا تقضي فكيف أعصيه فيما أنا أزعم كاذباً نائبه فيه حاشا لله أكون أهلاً للنيابة عنه وأنا المجروح، والملفوظ من رحى العدالة المطروح، فسألتك بجاهه الذي لا يرد إلا ما أقلتني وعن رضى منك عافيتني وهذا ربنا تعالى الملك الأكبر، لم يرد هنا الجاه فأنت يا ملك الأرض أحرى وأجدر، ولست أخادعك بالتمويه فإني لا أرضاه، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وقال تعالى بل الإنسان على نفسه بصيرة ثم ليكن في علمك أني لست على حرف في خدمتك ولا ممن تقربه الولاية أو تبعده العزل عن حومتك بل ضعني من المنازل حيث شئت غير هاته الخطة فإني راض لأني لا أصلح للنياية عن الله ورسوله في أحكامه والتحية معادة من فلان. ثم إن الأمير راجعه وامتنع عن قبول استعفائه فأعاد إليه الطب وألح على الخروج من الخطة وعند ذلك قبل الأمير استعفاءه وقدمه مفتياً ثانياً من أول وهلة وتقدم بذلك على من سبقه في الخطة وذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف وعند ذلك تصدى للإقراء بجامع الزيتونة فأقرأ شرح التاودي على العاصمية وألزم جميع مدرسي الجامع بالحضور عليه فحضروا وكان فيمن حضر بين يديه العالم الشيخ حمدة بن عاشور وكتب حاشية على الشرح المذكور مملوءة فقهاً وتحريراً وصل فيها إلى الرهن وقرظها جدي الكاتب الشاعر الشيخ محمد ابن الشيخ محمد السنوسي بقوله: [البسيط] زارتْ بتيهٍ ولم تخطر على بالي ... رغماً على حسّادي وعذّالي وأقبلت وعليها للبها حلل ... تختال في أربح منها وإجلال وسكَّنت قلب صب مغرمٍ دنفٍ ... بعد التمنع مشحوناً بإمطال بتنا وللشهب غارات ومزدحم ... كأنها افتقدت قطباً وبرقال وقد خلوت بها واللّيل منسدل ... وحدي وقد ظفرتْ بالوصل آمالي مددت كفِّي لأحظى من تمتعها ... والنفس طاغية من فرط إملال فصادفتْ عقدها المنضود فانتشرت ... منه الجواهر فافترَّتْ بإقبال فبتُّ ألتقط الدر النفيس إلى ... أن أقبل الصبح أومتْ لي بإنزالي فقلت من أنت قالت وهي ضاحكةٌ ... أنا ابنةُ الفكر مضروب بأمثال أنا ابنة الثاقب الذهن الذي نشأتْ ... بين الأكارم في عز وإفضال أنا اليتيمةُ في دهري ولا هجبٌ ... جسمي من الدر فاستبصر لإكمال بحري محيط ولا يخشى لراكبه ... بأس ولا عطب في خير أحوالي إذ ذاك نبئت أن الدرَّ منشؤه ... بحر السلامة فاسبح واتل أقوالي ذاك الهمامُ الذي جالت قريحته ... بخالص القول إذ حفّت بأنوال ذاك الذي عز عن شبه النظير له ... إذا طما بحر إعمالٍ وإهمال بحر العلوم فلم يدركه ذو شرف ... سواه يسبح في فهم وإشكال في غامض الفقه يروي عن جهايذة ... لم يرم مرماه ذو سبق ولا تالي حارت عقول النهى عن نيل مدركه ... وفاز عنهم بتحرير وأعمال يا من تحكم بالإبداع رونقه ... وزانه حسن تقرير كسلسال خذ هذه خردا تحكي فضائل ما ... صاغته أفكاركم من غير إملال لا زلت أيَّ سراج يستضاء به ... إذا دجا مشكلُ يوفي بإجمال وكتب حاشة على خطبة القاضي البيضاوي تبلغ نيفاً وعشرين كراساً، وشرح قصيدة البكري. وأنشا قصيدة في فضل النعال الشريفة وشرحها. وكتب تاريخاً تونسياً خص به مخدومه المشير أحمد باشا باي أودعه ما شاء من أخباره معه وما قيل فيه من المدائح والأشعار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وله رسالة في الحرب بديعة سماها العقد النفيس وقدمها لمخدومه. وقرظها الشيخ أبو عبد الله محمد بن الخوجة بما نصه: يا حامل لواء مذهب مالك على كاهله، ومن لا يزول الصدى إلا بالكرع من عذب مناهله، الجهبذ الذي بيديه مقاليد اليراعة، الحائز قصبة السباق في ميادين البراعة مولانا سيدي محمد بن سلامة، كان الله له في الظعن والإقامة، أما بعد سلام من النسيم وأروق من محادثة الوسيم فقد زارني من بنات فكرك ما يخجل البدر ويحاكيه في جلالة القدر. [الكامل] أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذّ في الأجفان من سنةِ الكرا غرض انفردت بمضماره، وتجردت لحماية ذماره، ومقصد تتطأطأ له الرؤوس، وترتاح إليه النفوس، ويقول ناظره لاعطر بعد عروس، فحق لمولانا الملك المجيد، أن يحل هذا العقد النفيس محل القلادة من الجيد وبالجملة فإن شأوك لا يدرك وشعبك لا يسلك بحيث إن الحبر الماهر يعجز عن أن يأتي بمثاله أو يحوك على منواله. [الطويل] وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويزعم أن يأتي لها بضريب فالله تعالى، يبقيك ويقيك، ونسأله أن لا يجري دمع الحزن في مئآقيك، والسلام ختام وقد أجابه صاحب الترجمة بما نصه: يا أمير المذاهب كلها، وواضع ألويتها بمحلها، إن بتقليدك تلك الولاية، استطعت حمل تلك الراية ثم خافت بهمتك الناظرة إليها سقوطاً، ولاحت بوصل من إشارتك عليها لا صعوداً ولا هبوطاً قد حركت عزماتها بشائر طلائع إمدادك فأزالت عنها الفشل، فرواها ثناؤك عللاً بعد نهل، ولعمي إنها التناعس انزوت بالنشاط وطالت، ودخلت بحومة النزال فجالت وقالت آذنني المولى الهمام شيخ الإسلام، أن أتقدم بهذا الفضا، وأقول لكل مصل خلفي صلاته قضا منذ قدمني ركن الإسلام، محمد بن الخوجة الهمام واحد الدنيا والسلام. [الطويل] إذا قيل من في الناس يعدل كلَّهم؟ ... فقل معلناً هوَّ الإمامُ محمدُ فما كان عن تعطيله فمعطل ... وما كان عن تقليده فمقلد هذا وإن السلام لولا إنه تحية الإسلام لكان عدم الرد مقتضى المقام إذ بماذا أجيبك وأقول فيك وما ملأ الكون يكفيك إن قلت أرق من النسيم فلطفه منك إليه سرى، أو قلت أروق من محادثة الوسيم، فعسل بلاغتك في ريقه جرى، إذ لم يكن لولاك وأنت أنت وما أدراك لم يكن رد تحيتك إلا حياك مولاك، لله أبوك، لافض فوك، ولقد أرسلت بنتي على أن تستمد منك بختاً، وتستعبر من قبولك ما تتخذه تختاً، فأتت بأكثر من الأمل ترفل في حلي وحلل، مع احتياجها أي احتياج، لأن العروس لا بد له من ملابس الابتهاج، فكانت إلى ما حليتها به من نيل الراجي ما شط من طلبه. [الكامل] أشهى إلى الراجين من نيل المنى ... وألذُّ من وصل الحبيب لعاشقِ وأعز من رؤيا العيون محاسناً ... وأجلب من تأكيد ودّ سابق وليت مولانا يكتفي بتحليتها عن تحليتي فلم يفضحني في عجزي عن ثواب هديتي. [البسيط] ما كلف الله نفساً غير طاقتها ... ولا تجود إلا بما تجد وما غرني ما ذكرته من شأني ورفعت به مكاني، فكلنا في الأمر معذور، أنا على نفسي بصيرة وأنت بذاتك عند التحقيق مسستور، نظرت في ذاتك، فانطبعت فيه محاسن صفاتك، وأنا في هذا المعنى أقول (شعر) : [الطويل] وأحمق خلق الله من غره أمرٌ ... رأى منه ما قد كان فيه انطباعه فكل فتى مرآته عين ذاته ... فما غرني مما ذكرت سماعه أعزك الله وأجلك، وشيد قدرك وأعلى محلك، وأجاب فيك ما يعود على كل مسلم نفعاً، اللهم لا تثلم الدين بفقدانه، ولا تزلزله فإنه أعظم أركانه، وأقر عينه في بنيه، وأريه فيهم ما رآه أبوه فيه، والسلام، ختام. وقد طلب المشير الأول أحمد باشا باي معاوضة أرض وقف القنديل خارج باب سعدون في ربيع الأول سنة 1261 إحدى وستين فامتنع القاضي أبو عبد الله محمد البنا من ذلك حيث رأى فساد المعاوضة المذكورة فحرر صاحب الترجمة رسالة في صحة المعاوضة المذكورة نحا فيها عدة أنحاء استشهد فيها بعمل متأخري فحول المالكية والحنفية مثل القاضي إسماعيل والمولى الجد القاضي السنوسي وساق فيها من نظمه لقط الدرر، ما زان به تلك الطرر، وجرى عمل المشير على مقتضاها. وقد قرظها شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الرابع بقوله: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 تبدت فأبدت للمعاني جمانها ... فقال الهوى للحق كن ترجمانها ومن مفصح عما حوته طروسها ... فما أطلقت إلا بصدقٍ لسانها ألم ترها قد أبدعت في اجتنائها ... ومدت بما تهوى النفوس خوانها وجاءت ببرهان لو احتملت به ... شناخب صم الصخر يوماً ألانها فلله من أبدى جواهر عقدها ... ونظم في تلك النصوص حسانها وأبدع في تحقيقه غير منشئىٍ ... لمسألة لم تثن يوماً عنانها فما سألت غير الرِّضى ابن سلامة ... وقد كررت في خاطبيها امتحانها وكانت حروناً لا تطاق فراضها ... بإرشاده حتى أزال حرانها ومحجوبة عن طالبي لمحِ حسنها ... فأبدى لهم من حجبها لمعانها فلا زال مهما وجه الفكر كاشفاً ... لمشكلة إلا وأصلح شانها وقرظها الشيخ أبو عبد الله محمد الخضار بقوله: [الطويل] يميناً بمن بالحق شيَّد شانها ... لقد ودت الأفلاك تحوي مكانها وقد أبرزت شمس المعارف للورى ... ومدّت على أفق العلوم حسانها فلا زلت عزاً للشريعة ملجأ ... إذا سامها التغيير كنت أمانها إليك إمام الدين والعلم غادة ... كساها النهى ثوب الحياء فزانها فإن قصرت فالصفح فيك سجية ... وإن كملت فالفضل منك أعانها ولا زلت بحراً مستمراً ومورداً ... لتحقيق آيات تفيد بيانها وقرظها العالم الأديب الشيخ محمد الأمين بن أحمد الكيلاني بقوله: [الطويل] طروس عقود بالنفائس زانها ... وجبّنها عما أضرّ وشانها وأودع في تحقيق ما قد أتى به ... مباحث من حرّ الكلام أبانها فلله ما أبدت قرائحُ فكره ... بوراق قد أجلت لها لمعانها وقد قبلت أعلام تونس ما أتى ... به من نقول قد أشاد بيانها وسلمت الآراء لابن سلامة ... نفائس أبحاث من القدح صانها وأنثوا على تحريرها وطرازها ... وما صاغ لفظاً في حلاها وزانها فلا بدعَ أن أمست تجرّ رداءها ... وقد فوقت للعاذلين سنانها وقام لسان الحال عنها مترجماً ... فكن كاشفاً للمشكلات فكانها فلا أنسى لا أنسى عقوداً تنظّمت ... فرائد قد أجلت إلينا بيانها فلا زال يهدي للعويصات فهمه ... إذا حارت الأفهام يوماً أعانها وقرظها الأديب الكتب الشيخ محمد ابن خوجة الجلد الجزيري بقوله: [الطويل] تجلت فأجلى الحق فيها بيانها ... رسالة لا يلوي الزمان عنانها فجاءت بإذن أن نعوض ملكنا ... نعم بالنفوس العوض اللَّذّ أزانها حوت من نقول قاطعات فقل لمن ... يريد انتقاداً شامخُ العلم صانها هو العلم النحرير وابن سلامة ... به تصلح الأحكام مما أشانها فلا استعصت الأقوال إلاّ ألانها ... ولا خفتِ الأشياءُ إلا أبانها فناهيك من طود به يهتدي النُّهى ... وللسمحة البيضاء كان أمانها فلا زال يرقى في المعالي وهكذا ... معاليه من فوق الثريا أصانها وختم الشفا للقاضي عياض بجامع الزيتونة وحضر في الختم المذكور كل من الأمير والمأمور ولم يتخلف عنه من الشيوخ غير الشيخ إبراهيم الرياحي. وأنشد في آخر الختم من نظمه قوله: [المتقارب] بجاه الرسول النفيس الأجلْ ... فريدِ المعالي عزيزِ المثلْ سألتك يا من بدا ذاته ... وحاشاه من كل عيب أخل وأجلى به النورَ بعد العمى ... فكان الحري بوطء المقل تفضل علينا بنيل المنى ... وإخلاص ما كان لي من عمل قرأت الشفاء لكي أشتفي ... فكان الشفاءَ لكل العلل خدمت به حضرةَ المصطفى ... وإن كان منها بقدري أقل أيا سيد الرسل يا من به ... إلى الله كلُّ خديمٍ وصلْ تفضل بعدِّك لي خادماً ... فما بعد ذا مطلبٌ إن حصل وجاز الأمير على صنعه ... بإعلاء مدحك أعلى القلل فكان لإقراء ذا سبباً ... فصلْ منه حبلاً بكمْ قد وصلْ وسهل سبيلي إلى زورة ... وأنعم بإذنك لي عنْ عجلْ وذاك جزاءي لتدريسه ... لظِّني محو الخطا والزلل وحسنت ظني فأرخته ... تمَّ الشفاء وراق العملْ 1264 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ومدحه في ذلك الختم الشيخ الطاهر بن عاشور بقصيدة بديعة وهي قوله: [الطويل] لكَ الله من برق بدا متبسماً ... تألق ما بين المنازلِ والحمى أضاء لطرفي بالعقيق معاهداً ... فهيج أشواق الفؤاد وتيّما فديناك هل من ماءِ رامة رشفةً ... تعافى بها القلب الجريح من الظما وهلْ تحسن الأخبار عن عرب النقا؟ ... فشنِّف بها سمعي وإن كنت أعجما همُ خيّموا بالرَّقمتينِ وجوُّهمْ ... على البعد ما بين الترائب خيَّما عذوليَ دعني والتصابيَ والنوى ... فما نفع التذكارُ سمعاً مصمَّما أيرجىَ سلوِّي بعد ما عاهدت يدي ... أهيل ودادي عهد صدق محكَّما ومن شيمتي حفظ العهود وصدقها ... وما كل عهد بالوفاء متمما من الماجد الأسمى الذي قد علت ... له همة فوق السماك وغن سما جليل كسا ركن الجلالة مفخراً ... وأوضح من معنى السيادة مبهما هو الحبر والعلاَّمة الفرد من غدت ... مآثرهُ في غرة الدَّهر أنجما هو البحر لكن ساغ عذب زلاله ... هو البدر إن ليل الجهالة أظلما إمام محا رسم الضلال بهديه ... وأحيا سبيلاً للهدايةِ قيّما إذا ثار نقع للخلاف وأشكلت ... مسالكه كان الرّئيسَ المحكما وإن حمت يوماً نحوَ ساحلِ درسه ... رأيت من الياقوت عقداً منظَّما جواهر تبدو كالزواهر في الدجى ... لقد أبدع النِّظام فيها وأحكما وكم من مزايا دون معشار عشرها ... تخرس منطيق الثناء وألجما ولا سيَّما هذا الختامُ الَّذي غدا ... على فخره سعد السعود مترجما ختام به كان الشفاءُ من الهوى ... وحازت به الخضراء مجداً معظَّما محا غيهبَ الأفكار طالعُ نوره ... وأضحى به العرفان عضبا مقوما تباشرت الأرجاء منها وأشرقت ... وغنى به طيرُ الفلاة ورنَّما وكم رام قطب الجد تهنئة به ... رأى ما قد رآه فأحجما رأى طلعة الباشا المشير تحفها ... سرادق عزٍّ ما أجل وأنجما مليكٌ يقاد النصرُ طوعاً لعزمه ... وإن عدت الأقيالُ كان المقدَّما تصدى لحفظ الدين بالحزم والنهى ... فشيَّد أركاناً وأوضح معلما وأحيا رسوم العلم بعدَ اندراسها ... وجيَّشَ في قهر البغاة عرمرما بكل كمي الدرع صارم سيفه ... ترى فيه في يوم الوقيعة ضيغما فأرهب أعداء الإله بصولة ... لو انبسطت لم تبق في الأرضِ مجرما سرى صيتهُ في الخافقينَ فلن ترى ... لهيبته إلّا مطيعاً مسلِّما ومن كان في نصر الشريعة حزمه ... حري بأن يحمى حماه ويعظما تهنّى ملاذ العصر بالمفخر الذي ... ملأتْ به الآفاق بشرى وأنعما يهنى به الإسلام والعلم والهدى ... ودهر زها من نشره وتبسَّما وما هذه أولى أياد منحتها ... تسر الليالي منّةً وتكرما أياد يغار الغيث من نفحاتها ... ولا غرو إذ كانت أعزَّ وأعظما كفى بك فخراً للمريد وملجأً ... وحسبه أن والى علاك ويمَّما ومدحه أيضاً الشيخ الباجي المسعودي بقصيدة نحا فيها منحى الأستاذ وهي قوله: [المتقارب] لقد ساعفتنا بنيل الأمل ... وزارت على رغم من قد عذلْ وحيّت وأحييت حبيباً به ... من الشوق ما لفظه لم يقلْ تبدلت الغنج عن كحلها ... وبالدل عن حليها والحللْ وتبسم عن مثل نظم الجمان ... وترمي المنادي بسيف المقل حديث المتيِّم فيها صحيح ... فحدث ولا تخش فيه مللْ لحى الله لاح على حبها ... أما يعرف الوجه أو يستدل؟ دليل عليها كمثل الشهابْ ... ومثل الشفاء بإثر العلل وكابن سلامة في فضله ... وقد سار في الناس سيرَ المثلْ إمام تسامت به تونسٌ ... وأبدت به زينةَ المحتفلْ وبوّأه الله سبحانه ... من العلم والحلم فوقَ الأملْ إذا ما تصدر في مجلس ... ترى الناس حلت ببرج الحمل وإن بسطَ القولَ في درسه ... ترى كيف يبسط رقمُ الحلل وإن أخذت خمسة ليراع ... ترى أهله حوله كالخول أيا عضد الدين سعده ... ويا ناصر الحق سامي المحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ومالك ما قاله مالكٌ ... وتاليه في علمه والعمل وموفي ما دونته الكرام ... ومملي أحاديث قطب الملل لك الله من سيد رأيه ... هدى من تحيَّر أو من يضلْ هنيئاً بما نلت من رتبة ... فأنت المكافي لها والأجل وهنّئتَ ختم كتاب الشفا ... وفزت بنيل المنى عن عجل ولاقيت رضوان رب العبادْ ... ورضوانَ أحمد خير الرسل ولا زلت كهفاً منيعاً لمن ... يلوذ بعلياك شمسِ الدول وفضلك قاض بذا كلِّه ... وأرخ بنيل شفاءٍ حصل ولم يزل الشيخ بعد ذلك ملازماً للإفتاء والتدريس وكان عالماً فاضلاً ذا همة عالية، ووقار وكرم نفس، وجمال سمت وهيئة، وأمال عالية أودع منها ما شاء في تاريخه، شاعراً ناثراً كثير النظم، أغلب شعره في مدح مخدومه وشكر عطائه. غير أنه لم يساعده الزمان بنيل الرئاسة، وجميع الشيوخ ينقمون عليه تقدمه عليهم. عاجلته المنية قبل بلوغ الأمنية فتوفي بمرض الكوليرة الوبائية ليلة الجمعة الثاني عشر من شعبان الأكرم سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف بجبل المنار، وأوصي بدفنه جوار ضريح سديد عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه، ورثاه الشيخ أبو العباس أحمد الكيلاني بقوله: [الطويل] صروف الليالي لم تزل في تجدّد ... تروح علينا كل حين وتغتدي وما ثمر الأيام إلا بوارقٌ ... وطيب جناه زائل لم يخلد ففوز لمن لم يلتفت لنعيمها ... كصاحب ذا الرمس الهمام محمَّد هو العالم النحرير وابن سلامةٍ ... سري جواد ذو علاء وسؤدد سليم فؤاد من سليم نجاره ... له حسب يعلو على كل منجد إمام له في العلم أرفعُ رتبة ... يلوح سناها فوق نسر وفرقد فقد كان مصباحاً مضيئاً لذاهبٍ ... به في دياجي الشك للرشد مهتدي وقد كان مفتاحاً لك مغلَّقٍ ... فيفتح من أبوابه كل موصد به بهرت في الفقه أقوال مالك ... وصارت به الأعلام في الفهم تقتدي ومن لدروس العلم من بعد عالم ... يحلُّ من الأبحاث كل معقَّدِ فواها لأصحاب الدروس تطلعت ... مراتعهم عن طيب مرعى ومورد تآليفه في كل علم مفيدةٌ ... بتحرير أبحاث وفهمٍ مسدَّدِ فمن قال إنَّ الدهر يأتي بمثله ... فقدْ جاءَ زوراً بالمقال المفنَّد وما كنت أدري قبل ما حلَّ في الثرى ... بأن الثرى يحوي محاسن فرقد فراح شهيداً يرتجي عفو ربه ... وما راح منا بالثناء المخلَّد فطوبى لرمس ضم أعظمهُ التي ... سقتها شآبيب الغمام المسرمد فأكرمْ به رمساً لقد حاز رفعةً ... لمقبرة فازت بفضل مشيّد وأمسى لرمس المهد مجاوراً ... يضيء بنور مشرق متوقد فيا ربنا أجزل قراه وجازه ... بعفوك والغفرانِ والحلم في غد وحقق بفضل منك قول مؤرخ ... (ففي نزلِ الفردوس نزلُ محمَّدِ) 35 الشيخ محمد البنا هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد البنا أخذ والده العلم عن الشيخ صالح الكواش ومن عاصره، وتقدم للإشهاد فكان من ثقات العدول وولي شهادة الغابة فحسن فيها سيره إلى أن توقي في رجب الأصب سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف. وأما ولده صاحب الترجمة فقد جد في خدمة العلم الشريف فقرأ على فحول الرجال منهم أبو محمد حسن الشريف، والشيخ الطاهر بن مسعود، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ محمد السنوسي أحمد الأبي وغيرهم وتضلع بعلوم الشريعة وتصدى الإقراء بجامع الزيتونة فأخذ عنه كثيرون وأكثر ولوعه بالفقه وقد أقرأ منه كثيراً. وتقدم لخطة قضاء باردو ومشيخة مدرسة النخلة عند وفاة شيخه المولى الجد قدس الله روحه أوائل شهر رمضان المعظم سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف، فقام بخطتها وواظب على الحكم بباردو يخرج في بعض الأحيان راجلاً من تونس إلى باردو شأن أخلاق الصالحين وتقدم مدرساً في الرتبة الأولى عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان سنة ثمان وخمسين. ولما استعفى من قضاء الحاضرة الشيخ محمد بن سلامة قدمه المشير أحمد باشا باي بالحاضرة عوضه يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف، فكان من قضاة العدل وأنصف وتحرى لدينه وحمد في ذلك سعيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ولما توفي الشيخ بن الشاذلي المؤدب قدمه المشير مفتياً خامساً وإماماً ثالثاً بجامع الزيتونة في الحادي عشر متن صفر الخير سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف، فأعاد على الجامع حلية تدريسه، وزان محرابه بحسن رنته التي تخشع لها القلوب، ولم يزل يتقلب في مراتب الفتيا فصار مفتياًَ رابعاً عند وفاة الشيخ محمد المحجوب وصار مفتياً ثالثاً عند وفاة الشيخ محمد بن سلامة. ولما توفي الشيخ إبراهيم الرياحي قدمه المشير خليفة بجامع الزيتونة مع الإمام الأكبر الشيخ محمود محسن أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1266 ست وستين والمستفتين ويزين المحراب والمنبر بحسن رنته وتلاوته وخطب من إنشائه كثيراً ما يحضر الجامع أول الوقت بحيث لم يجده وقاد الجامع ليس على وضوء في أول وقت صلاة الصبح دائماً بمجرد ما يقرع عليه الباب يسمعه خارجاً على أكمل هيئة رضي الله عنه. أدركته بجامع الزيتونة يقرئ شرح الكفاية على رسالة سيدي عبد الله بن أبي زيد فسمعته يوماً في باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة بألطف عبارة وأحسن أناة وسكينة مع حسن التعبير الذي يستوي في فهمه المبتدي والمنتهي وكان عالماً عاملاً فقيهاً ورعاً عفيفاً نقي العرض حسن الأخلاق مهيباً وقوراً عزيز النفس كريم السجية كامل القامة طويل الذقن خالص الشيب يلازم غض البصر كثير الأناة حسن اللباس ولم يزل ثنيان الفتيا والإمامة إلى أن أدرك حمامه فتوفي في يوم الأربعاء السادس عشر من المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف ودفن في طريق المغارة الشاذلية على يمين المار إليها عليه رحمة الله ورثاه الشيخ أبو الوفاء الصادق ثابت بقوله: [الكامل] عمَّ الأسى إذ راع كلَّ جنان ... خطب ألم ففاضت العينانِ هدَّ الردى للعلم طوداً شامخاً ... وأراك كيف تضعضعُ الأركانِ فاعجب لخطب هائل عظمت به ... شمسُ الكمال بمغرب الأكفان ما كان إلا درَّةً صينت لدى ... فقدانها من لحده بصيان صدر الصدور محمد البنا الذي ... أربت فضائله على الحسبان علم تقربه العيون فكيف لا ... تبكيه دوماً بالنجيع الغاني قد كان سيفاً للشريعة صارماً ... لم ينب صارمه طويل زمان مستبدلاً ثوب العفاف مراقباً ... لله في الإسرار والإعلان ومواقف العلم المرفع أهلها ... قد كلن من أبطالها الشجعان وإذا دجا إيهام مشكلة عرت ... وأبى انبلاج صباحها ببيان وجرت بها الأفكار ثم تسابقت ... جلَّى فكان مجلي الميدان لله فذ فاضل قد زانه ... بحلى خطير جواهرٍ عقدان نسب إلى الهادي المشفع ينتمي ... ورحيب علم نيط بالإتقان كم أمَّهُ مسترشدٌ بإفادة ... بغزير علم من صحيح مبان موت الفحول رزية بحلولها ... حقاً تكون تضاعف الأحزان لا ينزع العلم انتزاعاً إنما ... فقدانه لذهاب أهل الشَّانِ لهفي على فذ المعالي والتقى ... ركن الفخار ومورد الظَّمآن هو بحر علم كل من قد أمَّه ... نال اقتناء الدر والمرجان وإذا رأيت عجائباً يوماً به ... وافتكَ أضعاف لها في الثَّاني فالجامع المعمور يشكو فقده ... فلكم أفاد به من العرفان يبدي الغريب من النقول محققاً ... ما صحَّ فيها من ذوي التَّبيان ولكم بمنبره أبان مواعظاً ... إذ كان من فرسان هذا الشَّان يجلو صدى رين القلوب بزجرها ... ويرغِّبُ الألبابَ في الإحسان ويحذر الناس الدُّنا ويقوم في ... محرابه بالذكر والقرءان يأتيه من بعد المسافة راجلاً ... يرجو ثواب الواحد المنان ووفود أصحاب الفتاوي نحوه ... تحدو المطي قصّيه والدانِ كم أسهرت منه الجفون لأجلها ... وجرى على القرطاس رقم بنان أما مجالسه البهية فهي لا ... تخلو دواماً عن دقيق معان فهي الرياض تفتحت أزهارها ... ودنا قطاف ثمارها للجان أورد بها ما شئت تلف جوابه ... بصحيح عارضة وثبت لسان مستبشراً يلقى العويص كأنما ... أتحفته بالورد والرَّيحان ويريك منه ما يروق وينتحي ... في حلِّه طرقاً من التبيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ويجرُّ أشتات الشوارد فكره ... شبه العتاق تقاد بالأرسان فإذا ظفرت بغرِّ تحريراته ... فاشدد يديك على فريد جمان أسفي عليه كما انتفعت بقربه ... ورأيت شخص الفضل رأي عيان وذهبت عطشاً فالمورد علمه ... ورجعت منه بحالة الرَّيان فيحق لي فيه التفجع والرِّثا ... جهد المقل وحيرة الولهان علّي أكون من الحقوق مؤديّا ... بعضاً وهل لي بالوفاء يدان خطب دهى قلبي فسحَّتْ أدمعي ... يجري لريّ للثَّناء لساني إن كان في فن البلاغة قاصراً ... باعي ولستُ به من الفرسان وغدت معاني ما أفوه بنظمه ... أولى ففيه من حلاه ثواني؟ جازاه ذو الجود العميم بفضله ... وسقاه صوب سحائب الرضوان بالمصطفى خير البرية جدّه ... طه المشفَّع رحمة المنَّان صلَّى وسلَّم ذو الجلال عليه ما ... بكت السماء وحنَّ قلبٌ عان والآل والصحب الكرام وتابع ... ما ناح قمريٌّ على الأفنان شيخي أبا عبد الإله تصدَّعت ... منا القلوب لحادث الفقدان لكنه أمر الإله وحكمه ... سبحانه الباقي وكلّ فان فالله يجبر صدعها وينيلها ... أجر المصاب بجوده الهتَّان قد كنت لي بدراً فغبت فأظلمت ... لمغيب ضوئك منيَّ العينان حسبي الدعاء بأن تكون منعماً ... بالفوز والرضوان وسط جنان وأقول إذ ليلي بتاريخي دجا ... نلت المنى من ربنا الرَّحمان 36 الشيخ سليمان المحجوب هو الشيخ أبو الربيع سليمان بن عمر بن قاسم ابن الحاج المحجوب الشريف المساكني وهو المفتي ابن قاضي المسلمين وحفيد كبير أهل الشورى من السادات المالكية وابن أخي كبير أهل الشورى أيضاً وابن عم المفتي المالكي وابن ابن عم القاضي المالكي فهو ثالث سلسلة آبائه وسادس آل بيته في الخطة الشرعية وهو أخرهم من كنانتهم ناهيك من حسب زانه شرف النسب. وقد أخذ العلم عن والده الشيخ عمر المحجوب وقرأ على عمه الشيخ محمد المحجوب والشيخ أبي محمد حسن الشريف وغيرهم. وتقدم بعد والده لمشيخة المدرسة المرادية غير أنه عاقه عائق الإشهاد لكنه كان من فحول الموثقين نسجاً على منوال آل بيته وكان فصيح القلم ومن يشابه أبه فما ظلم وبذلك استكتبه الأمير مصطفى باي وسافر معه بالأمحال المنصورة. وبعد ذلك ترقى في خطة الكتابة بديوان الإنشاء، وتصرف بفصاحة قلمه كيف شاء، وتدرج في مراقيها إلى أن صار كاهية لسان الدولة الأصرم. وكان مع ذلك يقرئ في بعض الطالبين بجامع الزيتونة حتى أنه لما جمع الأمير حسين باشا المدرسين بالجامع وأمرهم بالإقراء حضر هو وأقرأ مختصر السعد وهو متعمم بعمامة مطروزة بالحرير غير أنه أرهقه دين تعسر عليه الخلاص من أوحاله حتى سجن ببيت الضياف بباردو إلى أن عزل من وظيفته. وقام في كن بيته متجملاً بالقناعة إلى أن توفي ابن عمه فأرسل إليه المشير الأول أحمد باشا فحضر بين يديه بباردو لابساً اللباس الطويل لباس الكتابة وقدمه لخطة الفُتيا فلبس لباس الخطة الشرعية فوق لباسه الطويل وصار مفتياً خامساً في أواخر ذي القعدة الحرام سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ ابن سلامة صار مفتياً رابعاً، واستمر على ذلك ولازم القناعة والمحافظة على ناموس شرفه إلى أن حضر أجله فتوفي أواسط رجب سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف عليه رحمة الله. 37 الشيخ أحمد بن حسين القمار هو الشيخ أبو العباس أحمد بن حسين بن محمد بن حسين القمار الكافي ولد ببلد الكاف عام اثني عشر ومائتين وألف، ونشأ في رفاهية أهل بيته وكان آباؤه ذوي شأن يتولون الأعشار ونحوها من متعلقات الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وحفظ القرآن العظيم في بلده ثم قدم إلى تونس في طلب العلم، ونزل بالمدرسة السليمانية وقرأ على شيخها الشيخ الطاهر بن مسعود مختصر السعد والأشموني والخرشي، ثم تنفل لمدرسة جامع صاحب الطابع فقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي البخاري والمختصر الخليلي بشرح الدردير والسعد والدرة والبيضاوي، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي مختصر السعد والمحلي، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة الدرة، وقرأ عليه الأشموني ومختصر السعد. وقرأ بجامع الزيتونة على كثير من العلماء منهم الشيخ محمد بيرم الثالث ومنهم الشيخ حسن الشريف قرأ عليه الخرشي والأشموني بمدرسة حوانيت عاشور، وقرأ على الشيخ محمد المناعي والشيخ إسماعيل التميمي نبذة من شرح الشيخ عبد الباقي، وقرأ على المولى الجد الشيخ محمد السنوسي كتباً من المعقول والمنقول وقرأ مختصر السعد على الشيخ أحمد بن الخوجة نقل عنه أنه عرض لهم مبحث أطنب فيه السعد في مطوله ولما استوفى الشيخ تقرير كلام المختصر قال له بعض الحاضرين إن المطول فيه مسودة مهمة وناوله نسخة المطول فطالعها الشيخ وتريث قليلاً ثم قررها بجميع ما كتب عليها من المحشين وحسبك بذلك دليلاً على تحصيله. ثم إن صاحب الترجمة آذنه الشيخ إبراهيم الرياحي بالإقراء بمسجد بالحلفاوين وكان فيمن قرأ عليه هنالك الشيخ حمدة بن عاشور والشيخ الطيب الرياحي وختما عليه الخبيصي وغيره وشرح المكودي على الألفية وأنشد بين يديه في الختم الشيخ الطيب الرياحي قصيدة مثبتة في شعره قال في مطلعها: [الطويل] أحنّ إلى لقياكم جيرة السَّفح ... عسى أن أداوي جرح قلبيَ بالشرح ثم في سنة ثمان وأربعين ومائة وألف قدمه الأمير حسين باشا قاضياً بالكاف وشاع له صيت في الفقه والإنصاف وله مراجعات مع شيوخ الحاضرة في كثير من المراسلات أنبأت على رسوخ قدمه في المعاملات وبعد حين ولي الإمامة والخطبة بالجامع الكبير كما ولي مشيخة المدرسة الحسينية هنالك وأقرأ كتباً كثيرة منها البخاري بالمدرسة والدردير بالجامع وكتب في النوازل الفقهية كتائب محررة. ولم يزل صيت علمه يعظم وهو متلبس بالخطة المذكورة ببلده إلى أن توفي كبير أهل الشورى الشيخ إبراهيم الرياحي فرأى المشير أحمد باشا باي أنه لا يسد ثلمته المذكور، فأرسل إليه وأحضر المجلس الشرعي بباردو وقدمه من أول وهلة كبيراً لأهل الشورى في شوال سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف. وهنأه بذلك الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي الضياف بمكتوب نصه: لم أقدر والله نهني الخطة أو نهنيك، وبماذا أثني عليك والذي ملأ الأكوان يكفيك، أبقدمك الموجب تقديمك، أم بحديثك الموجب حديثك، ومن لي بجامع كلمة العلم بعد انتشارها، ومقيل عثارها والآخذ بثارها، والمخلد لآثارها، علم التقوى، وعماد الفتوى، بل ركن العلم الأقوى، الذي أخذ رايته باليمين، أبي العباس أحمد بن حسين، رئيس فتوى المالكية بهذه الحاضرة التونسية لا زالت أراؤه سديدة، وتصرفاته حميدة، وأزمة النفع به مديدة، ميمونة سعيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أما بعد السلام التام، المؤدي لحق المقام، كل ما حنَّ مشتاق إلى اللقاء ومال، وبلغ من ذلك الآمال وحمد غب الأعمال، فإن الإنسان كما علم سيدي أسير الأقدار، مسلوب الاختيار يلقبه الفاعل المختار، إلى كل ما يختار، وقد اختارك لهذا المنصب الشريف وهو أعلم باختياره، ولا ينازع في مقداره، وقدم على مصلحتكم مصلحة عباده، وهو أعلم بمراده، فطب سيدي نفساً، ودم سروراً وأنساً لا تحرك في ذلك حدساً لأن من قلدك لهذه الأمانة تكفل لك سبحانه بالإعانة حيث لم تطلب بلسان مقال، بل ولا بلسان حال بل كرهتها والترحال، قال والله تعالى في كتابه المنزل على من أرسله بشيراً ونذيراً (يوجد آية) [النساء: 19] ونحن نحمد الله ونشكره على بلوغنا المراد حيث لم يرنا في مقام شيخنا إلا أعز تلامذته الجهابذة النقاد، وما حصل لنا في ولايتكم من البشرى كاد أن ينسينا مصابه الذي هو الطاقة الكبرى وأشهد أنه كان قدس سره يتوهم في أوصافك الحسنى، ما أوتيته من المقام الأسنى، وأنه كان يدعو لك على ظهر الغيب ومات راضياً عنك بلا ريب وهذه بشارة أقدمها بين يدي تهنيتكم بالولاية، وتهنيتها بكم لكمال العناية، فإنك بحمد الله من رجالها وفارس مجالها بل أنت نادرة الدهر، وكفوها المولي لها بالمهر ولولا أن الله يقول (يوجد آية) [الذاريات: 55] سيدي بنعم الله تعالى عليه التي تعجز شكر الشاكرين، ولولا عائق المرض، ومنع الطبيب من كل غرض، لأعلمت قدمي قبل إعمال قلمي، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك قله، فهذا حفيدي فلان وصحبته فلان تلميذيكم إن شاء الله ينوبان عن خالهما في الحضور الآن إلى بابكم وتهنئة جنابكم، وإن كنت أنا أحق بالهنا، والخطة أولى بذلك منا والله يعينكم على ما أولاكم كما جعل أوصاف الكمال حلاكم والسلام من معظم قدركم كاتبها بحمام الأنف غرة ذي القعدة الحرام سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف أحمد بن أبي الضياف. وتقلد عند ذلك مشيخة مدرسة جامع صاحب الطابع، ولما توفي الشيخ محمد الخضار تقدم لإمامة جامع الهواء ومشيخة المدرسة التوفيقية، ولما توفي الشيخ علي الرياحي تقدم عوضه إلى إمامة جامع أبي محمد وكره الناس تقدمه للخطط المذكورة وبعضهم ينسب تقديمه عليهم لعدم حضور الشيوخ جنازة الشيخ محمد بن سلامة فتقدم صاحب الترجمة للخطط المذكورة ولازم داره منكمشاً في المراجعة والمطالعة، ثم خرج وأقرأ بجامع صاحب الطابع تفسير القاضي البيضاوي وشرح البخاري والمختصر الخليلي قراءة تحقيق وأقرأ غير ذلك. وظهر صدق الظن به فكان أفقه رجال عصره وهو عمدتهم في المجالس الشرعية إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، وصار الشيوخ يحضرون داره في عويصات النوازل وهو يفيد بحسن فتاويه وتحريره. وقد وقفت له على شرح الإحدى عشرة قاعدة التي انبنى عليها عهد الأمان الذي أصدره المشير الثاني محمد باشا باي فإذا هو عنوان تضلع في أصول الدين والقواعد الفقهية. وله رسائل وتحريرات مسائل أجاب بها الشيوخ في النوازل العارضة منها ما كان مع الشيخ محمد البنا والشيخ محمد النيفر الأكبر وكتب حاشية على شرح الشذور لابن هشام تبلغ أكثر من عشر كراريس تعقب بها مباحث الشيخ الأمير، بما به التحرير، وكتب هوامش وحواشي على شرح التاودي على العاصمية تبلغ أيضاً عشر كراريس، وحواشي على عقائد الرسالة للشيخ ابن أبي زيد، وهوامش على بقية الكتاب كما كتب حواشي على شرح الخبيصي وحواشي على مقدمة ابن هشام كل ذلك عند إقرائه للكتب المذكورة. وله في النوازل الفقهية كتائب كثيرة تصدى ولده الأكبر المدرس الشيخ حسين لجمعها كما جمع حواشيه السالفة. ولما أراد والدي جمع منظومة جده لقط الدرر وقد كادت أن تتلاشاها الأيدي ساعده على ذلك فجمع نلك المسائل مسألة مسالة كل واحد في بابها لأن الناظم نظمها على حسب ما عرض له من المسائل بدون ترتيب، وواظب في هذا الصنيع الجميل نحو سنتين يرتبها وكان اتفق له أن توقف في بعض المسائل في أي باب يجعلها فرأى الناظم في النوم وأعلمه بأن المسألة من باب التجهير ولما راجع وجدها منه فكان هو صاحب مزية جمعها جزاه الله خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقد أنجب في العلم ثلاث أولاد وهم الشيخ حسين والشيخ محمد والشيخ الطيب وعلى يده كانت ترقية ابنيه الأولين لخطة التدريس فبلغ أولهما الرتبة الأولى في التدريس بجامع الزيتونة وظهر منه الجدّ والاعتناء وأقرأ بالجامع كتباً مهمة مثل المحلي وغيره، والثاني في الرتبة الثانية من التدريس وله مواظبة على دروسه ولوالدهما بهما أعظم اعتناء. وكان عالماً متضلعاً في الفقه ومعرفة فقه القضاء عفيفاً حسن الملتقى، متثبتاً في النوازل له قدم راسخ في المعقول ويد طولى في الأصول وجمال سمت وكمال هيبة أدركه الأجل غرة شعبان الأكرم سنة 1258 خمس وثمانين ومائتين وألف وتبرك الأمير والمأمور بحضور جنازته ودفن بتربته من ربض باب السويقة عليه رحمة الله آمين. 38 الشيخ محمد النيفر هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن مَحمد بن مُحمد بن أبي النور النيفر، ناهيك من عالم عامل، وقدوة كامل، نشأ في بيتهم الرفيع وأسس بالعلم مجده البديع، وقد سبق لنا ذكر منشأ هذا البيت الذي كرم منه كل حي وميت في ترجمة أخي هذا الهمام الصالح الإمام، وذكرنا هنالك نسبتهم إلى شيخ الطريقة الرفاعية مولاي أحمد الرفاعي المصري بناء على أن مقدمهم إلى صفاقس كان من مصر القاهرة. وأما القطب الرفاعي المشهور الذي تنتسب إليه الطريقة المذكورة فقد رأيت بخط المحدث الشيخ صالح الفلاني نقلاً عن المناوي في ترجمته أنه القطب أحمد بن علي بن يحيي ين حازم بن رفاعة الزاهد الكبير، أحد الأولياء المشاهير، أبو العباس أحمد الرفاعي المغربي شريف نما روض شرفه وهمى على العالم غيث سلفه، كان سيداً جليلاً، وصوفياً نبيلاً، قدم أبوه من المغرب إلى العراق وسكن بأم عبيدة من أرض البطالح وولد له صاحب الترجمة سنة خمسمائة ونشأ بها وتفقه على مذهب الشافعي ثم تصرف وأعرض عما في أيدي الخليفة، وأقبل على اشتغاله بالحقيقة، مات ببلده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ولم يعقب وإنما المشيخة لابن أخيه اهـ?. قلت الذي في كلام الرفاعية عن صاحب الترياق أن الشيخ كان كثير التزوج وله من الولد اثنا عشر وبنتان، وعدهم، وذكر من انتشر عقبه منهم بما يطول ذكره. ثم رأيت في تقريب النفحات للشيخ تاج أن الشيخ أحمد الرفاعي من أولاد الإمام موسى الكاظم ورأيت نسبه في مناقبه لبعض السادة الرفاعية في مجلد لطيف عند الشيخ محمد المشطاوي المغربي بمكة المشرفة قال هو أحمد بن علي بن يحي بن ثابت بن حازم بن علي بن حسن بن المهدي بن محمد بن حسين بن أحمد بن موسى الثاني بن إبراهيم المرتضى المشهور بالمجاب ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله (وذكر له اثني عشر ابناً وبنتين وسرد أسماءهم وانتشارهم في البلدان وأن منهم إبراهيم وله عقب في الشام ومصر والحجاز إلخ ما ذكره اهـ ما وقفت عليه بلفظه. والظن أن انتساب آل بيت صاحب الترجمة إنما هو إلى هذا القطب الشهير فيما يذكرون وهم من ذرية من كان من أبنائه في مصر على ما نقله الشيخ صالح الفلاني من وجود عقبه أيضاً بمصر، ومنها تنقلوا إلى صفاقس ثم تنقل منها أبو النور النيفر إلى حاضرة تونس ونشأ في بيت شرفهم صاحب الترجمة مؤسس دعائم بيته بالعلم والعمل فهو مشيد بناء مجدهم. وكانت ولادته عام 1222 اثنين وعشرين ومائتين وألف ونشأ نشأة صالحة وجمع القرآن على المؤدب الصالح الشيخ محمد القسنطيني، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة ومع ذلك استمر على حفظ المتون بين يدي مؤدبه سنتين وتصدى لقراءة العلم الشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وجود القرءان على الشيخ محمد المشاط، وقرأ على الشيخ محمد معاوية بمسجد حوانيت عاشور شرح الأزهري على الآجرومية والأزهرية وقرأ عليه بجامع الزيتونة شرح الشذور، وقرأ على الشيخ عمر بن المؤدب شرح الأزهري على الآجرومية وقرأ على الشيخ محمد البحري شرح الجربي على إيساغوجي، وقرأ على الشيخ محمد الخضار شرح القطر، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي شرحي الماكودي والأشموني على الألفية، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي شرح الشيخ ميارة على نظم ابن عاشر وشرح الفاكهي على القطر وتفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة قطعة من الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي ونحو النصف من شرحه على الدرة، وأتمه هو بالإقراء لبعض من حضر معه من الطلبة بإذن شيخه، وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث مختصر السعد البياني ومختصر السنوسي المنطقي، وقرأ على الشيخ إسماعيل التميمي قطعة من شرح الشيخ عبد الباقي وقرأ قطعة على الشيخ الشاذلي بن المؤدب، وقرأ على الشيخ محمد المناعي قطعة منه وقطعة من العضد، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة مختصر السعد، وقرأ على والده الشيخ أحمد بن الخوجة شرح المحلى على جمع الجوامع، وقرأ على المولى الجد الشيخ محمد السنوسي ربع الزكاة من شرح الشيخ الخرشي على المختصر الخليلي وتضلع بالمعقول والمنقول حتى أصبح آية الله في التحصيل والذكاء. واعتكف على بث العلم في صدور الرجال وتقدم لإمامة مسجد السبخة أوائل شعبان سنة 1254 أربع وخمسين، ولما ولي الشيخ أحمد بن حسين خطة القضاء بالكاف تقدم عوضه لمدرسة جامع صاحب الطابع وعند وفاة الشيخ محمد السقاط تقدم عوضه لمشيخة مدرسة بئر الحجار ثم تقدم مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي. ثم إن المشير أحمد باشا قدمه لخطة القضاء بالمحلة المنصورة عند عزل الشيخ أحمد بن الطاهر محشي شرح التاودي لنظم ابن عاصم. وقد كان عالماً فاضلاً غراً أتاه أحد الشيوخ بنسخة رسم حبس افتعل فيها ما شاء فعقد عليها ظناً منه أنها كأصلها وختم على عقده يومئذ الشيخ الشاذلي بن المؤدب نائب القاضي إذ ذاك لغياب القاضي ابن سلامة صحبة المشير أحمد باشا، ولما رجع القاضي ابن سلامة ونشرت النازلة لديه أطلع على اختلاف النسخة مع أصلها وأنهى ذلك إلى المشير فتبرأ الشيخ الشاذلي باعتماده على وجود عقد قاضي المحلة الشيخ أحمد بن الطاهر واعتذر الشيخ أحمد المذكور بالاغترار فكانت نتيجة النازلة قطع يد الشاهد الأول وعزل الشيخ أحمد بن الطاهر من العدالة وقضاء المحلة في ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائتين وألف، ولما حان سفر المحلة الاعتيادية تقدم صاحب الترجمة لقضاء المحلة في شهر رمضان المعظم وباشر الخطة بعمله وعمله وسافر لها مع الأمير محمد باي نحو ثلاث محال، غير أنه في آخرتها رفعت إليه نازلة في التشكي من الكاهية صالح بن محمد فأحضره عليه فامتنع من الحكم فعاقبه ولم يتوقف انتصاراً لحق الله وشريعة الإسلام. ولما رجعت المحلة أخره المشير من الخطة، لكنه ندم على صنيعه في تأخيره قاضياً لعدله، ثم تدارك أمره فقدمه لخطة قضاء باردو يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف، فسار فيها سيرة أهل الفضل من قضاة العدل. ثم تقدم لخطة قضاء الحضرة في الحادي عشر من صفر الخير سنة 1263 فزان الخطة بديانته وإنصافه وتحريه، وتدارك أمر الاحتساب على المعاش أحسن تدارك. ثم تقدم للفتيا فصار مفتياً رابعاً في الخامس والعشرين من رجب سنة 67 سبع وستين، ولما توفي الشيخ محمد الخضار صار مفتياً ثالثاً. واستمر على ذلك وأعاد على جامع الزيتونة حلي تعاليمه بطريقته التي لم ينسج أحد على منوالها، كان درسه يحسبه سامعه تأليفاً مستقلاً في المسألة وذلك من غاية تحصيله وسهولة إلقائه بحيث يلقي الدرس وهو كأنما على رأسه الطير لا يستعين بحركة مع ما في درسه من التحقيق والتحرير. ومن أعز ما كتبه رسالته في مذهب الشيخ عبد القاهر في "ما أنا قلت هذا" في علم البلاغة حرر فيها المسألة تحريراً يعز على غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أما رسالته الفقهية في منع النساء من الخروج إلى الحمام وجواز التيمم لهن فقد نسج فيها على منوال غريب من أبدع الأساليب، وحرر فيها من نصوص الأمهات ما بلغ في تحقيق المسألة إلى أبدع الغايات، وقد أنهاها في ذي الحجة سنة 47 سبع وأربعين وقد وقفت على مسودتها بخطه المبارك مفتتحة بقوله أحمد الله حق حمده وأشكره وفاءً بعهده وأصلي وأسلم على رسوله وعبده وعلى آله وأصحابه فرائد عقده إلخ. وكفاها شهادة القاضي إسماعيل بأنه لو كتب في المسألة ما زاد على ما تضمنته هاته الرسالة، ووقفت له أيضاً على رسالة في إثبات البسملة في أول الفاتحة في الصلاة حررها سنة خمس وستين. ووقفت له على أوائل رسالة حكمية انتصب فيها للحكم بين العلامة الشيخ محمد بن سعيد النجم التونسي والشيخ ابن عمار الشريف في الاختلاف بينهما في العقل هل هو جوهر أم عرض وكثرت بينهما المكاتبات في ذلك ولما وقف على مختار كل حرر في المسالة تحريراً حكمياً في رسالته المذكورة. أما أختامه التي حررها وبالبدائع حبرها فقد وقفت منها على ختم كتب فيه على حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وقد حرر فيها مباحث من علمي الكلام والبلاغة يعز على سواه تحريرها. وقد ختم بالتدريس كثيراً من مهمات المعقول والمنقول، تخرج بها عدة من الجهابذة الفحول، وشاع له بذلك صيت عظيم. ولما ختم منها مختصر السعد البياني، تسابق في حلبة درسه كثير من فرسان البلاغة والمعاني، فأنشدوا بين يديه قصائد مديحهم البليغ، فكانت عدة قصائد في هذا الغرض، نوشح ترجمته بما حضرنا منها. القصيدة الأولى من إنشاء الوزير العالم لسان الدولة الشيخ محمد العزيز بوعتور وهي قوله: [الطويل] طريق لنيل العز حرز المطالبِ ... وغور لأسنى القصد صدر المراتبِ وشمُّ نفوسٍ للمعالي مآثرٌ ... وحوز خصال من تمام المتاعب ولو كان إحراز الفضائل هيناً ... لساد بمحض القول من لم يضارب وشيئان في الأذهان حسم اجتماعها ... طريد اجتهاد واختيار الملاعب فلا وأبي لا يبلع المجدَ عاجزٌ ... يعلل نفساً بالأماني الكواذب ولكنَّما ذو العزم من ساد قرنه ... لشأو العلا دون اقتناء الصواحب وحزمه لا تلوي الحوادث قصدهُ ... فإما لحتف أو لنيل المناصب وليس مثار الحزم إلاّ عزائم ... تريه كميناً من عزاز المواهب إذا كانت السَّادات تصبو لرفعة ... فإني ملكت المجد جد الرغائب وإني لمقدامٌ وغيريَ جازع ... وإني لقوال بأي المواكب نشرنا على متن السِّماك مراتباً ... تؤم لها الركبان من كل جانب ويا ربَّ ليلٍ يثبر الصلد حزنه ... أضاء الدياجي من يراع وقاضب وربّ عويصٍ قد أزلنا لثامه ... له الناس فوضى بين راد وذاهب لقد كنت قدماً بالأوابد مولعاً ... وأين من العلياء طول الشَّناخب فخارُ بني الدنيا رحيب الجوانب ... وعز سراة المجد شُّم النجائب أبو المجد مهطال العلوم محمد ... وهل ينكر الإنسان فضل السحائب جوادٌ همامٌ باهر العز والسَّنا ... له الشرف الأقصى لهام الكواكب إمام حباه الله بالفضل حلّةً ... تهب بها الأرياح قبل الركائب منيف على شأوِ الثريا إذا رنا ... أزال المحمَّى من عويص السباسب يجل حياءً ثم يعظمٌ هيبةً ... جليل مضاء غير وكل وهائب إذا افترَّ علماً فالرّقابُ خواضع ... وإن جال فالأذهان رهن الرغائب مليك سناً يعتاده من معاشرٍ ... تخرُّ لها الأذقان فوق الترائب عفافٌ كرام للرسول نجارهم ... وهم سادة الإحسان غرّ الأطائب كأنَّ سناء الشمس من نور وجهه ... صفائح تبر أشرعت بالمغارب كأن الثريا نظمت من بيانه ... سلاسل درّ أشرقت بالمواكب كأن مهبّ الشرق من فرط لطفه ... أوان شروق السعد بين الثواقب تجلّى ويالله كالدوح رافلاً ... مطارفه الحسنى بخضرة شارب تحاريرُ أقوال وللروض جدولٌ ... سراعاً بمزج الكاس رشف المشارب لها الدر جسماً واللجين نطاقه ... وزهر الروابي من نصيب السواكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فلا كلمٌ إلا الدقائق دونها ... ولا لمحة إلا بجزل المآرب ولا كرمٌ إلا إليك مآبه ... ولا مفخر إلاّ لتلك المناكب فما زال يبدي كلّ وقت ولحظة ... غرائبَ فكر توِّجتْ بغرائب براعة فهم حنكتها فصاحة ... تفوقُ لدى الألباب سحر الذوائب لقد ملأ الأقطار باهرُ ذكركم ... وهل يصدمُ الولهانَ وقعُ القواضب وأنت إمام ما بقيت وإنما ... سنام لدى العلياء سمح السَّلاهب وما العلم إلا بعض ما أنت حامل ... ولا الفضل إلا بعض تلك المناقب لك الشرف السامي وإنك أوحد ... تضيء به الأذهان وقت الغياهب إليك بني الزهراء تعنو وجوهنا ... فأنتم بني الزهراء فخر المغارب وحسب المعالي أن تكونوا ملاكها ... فمن منزل العلياء شم الجوانب ومن كانت العلياء طوع بنانه ... فقد أترع الإفضال قبل التخاطب وأرسلها منشئها إلى الشيخ علي الرياحي وكتب عليها بقوله: [الطويل] كفاني فخاري أن أهمَّ براحةٍ ... جوانبها الدنيا ومالكها علي وقد كتب عليها الشيخ علي الرياحي قوله: ل [الطويل] عزيزةُ مثلٍ يشهدُ الذوق أنها ... ألذّ وأحلى من رضاب الكواعب وقرظها قرينه الشيخ أحمد بيرم بقوله: [الطويل] أبدر الدجا قد لاح جنحَ الغياهب ... أم الربق يبدو من خلال السحائب أم الزهر أضحى في الغصون منظما ... كعقدٍ لآلٍ في نحور الكواعب أم السحر أبدى من بدائع نفثه ... فنونا زرت آياتها بالهوادب أم الروضةُ الغرَّاءُ بل بكرُ فكرِ منْ ... حوى من مراقي الفضل أسنى المرتب عزيزةُ حسنٍ للعزيز قد انتمت ... فكانت لعمر الله إحدى العجائبِ كشمس كبدرٍ كالسَّحاب وكالضحى ... كالصبح كبرق كالسنا كالثواقب لقد ملأ الأقطارَ باهرُ فضلها ... وسارت بها الركّبان من كل جانبِ ولا غرو أن كانت كريمة ... أصلها فإن لمنشيها كريمَ المناقب لعمري هوَ الفردُ الذي أصبحت به ... تفاخرُ أرضَ الشرق أرضُ المغارب فحسبيَ أن أدعو بكلِّ العلاَ له ... ونيل الذي يرجو وحسن العواقب وقرظها قرينه الشيخ حمودة الزلفاني بقوله: [الطويل] ومخجلة ترقى لكل المراتب ... حوت حسن تبيين بكل غرائب غدت ولها سرٌّ عجيب وسؤددٌ ... تزيد سناء للنجوم الثواقب جواهر فكرٍ أشرقت بمحاسنٍ ... تفوق جمالاً عن بهاء الكواعب فما الفضل إلاَّ ما حوته من السَّنا ... وما قدرها إلا مكان الكواكب بديعةُ نظمٍ للمعالي لطيفة ... حكت رقة ما يستساغ لشارب خرائدُ يعزى للبلاغة لفظها ... فيجلو سناها جنحَ ليل الغياهب أتت من عزيز حسنه وجماله ... ينير وميضٌ منه دجنَ السحائب فقد صار طوداً يهطل العلم ثغره ... وقد صار بحراً من بحور الغرائب كأن علوماً أتحفت بذكائه ... فصار لها حداً كبيض القواضب يبيد ظلامَ الجهل إذْ صار دونه ... فأرداه مهزوماً بحدّ المضارب وحتى شموس الأفق نالت به سنا ... وسادت به الأتراب سمر الذوائب كأن لواءَ الحمدِ نال مقامه ... وأن ثناء المجد فيه بساحب ألا بأبي فرداً جميلاً ممجداً ... يسود على الأتراب مجلي الغياهب وقرظها الشيخ محمد بن الخوجة الجزيري مطرزاً بعزيز تونس فقال: [الطويل] (ع) عقودُ لآلٍ في نحور الكواعب ... أم السَّعدُ يبدو بين زهر الكواكبِ (ز) زلال ثغور يزدري بمدامة ... وسحر لفكر يزدري بالثّواقب (ي) يعير عيونَ الظبي سحرُ بيانه ... ويهزأ حقّاً بالعوالي القواضب (لإ) زعيم بنظم القوافي لذا غدتْ ... قوافيه ركناً أمَّهُ كلُّ طالب (ت) تراها وفحواها وحسن نظامها ... كؤوسَ رحيق أسكرتْ كلَّ شارب (و) ولا عيب فيها غير أن نظامها ... ليعجز عن مثل كلَّ كاتب (ن) نظمتُ طرازاً في رياضٍ بديعة ... وما قمتُ بالمندوب أحرى بواجب (س) سأنفق طول العمر ما في خزائني ... من المدح للأرض العزيز المراتب =عزيز تونس وقرظها قرينه الشيخ قدور بن رويلة الجزيرة بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 [الطويل] بصارم سيف أم فتور غواصب ... فتنتَ أم الدعج الوقاح القواضب وسمر القنا الرجراج في كف ناجبٍ ... أم السمر راشت من يدي قوس حاجب وتلك لآل أم ثغور بواسم ... أم البرق لاحت في ظلام الغياهب وشمس الضحى بالأفق أم هو نظمكم ... طريق لنيل العز حرز المطالب هي السمحة العذراء حلت بموكب ... تباهي الدراري السبع شهبَ الثَّواقب وعدتَ لفرسان البلاغة مظهراً ... تقاعد سبقاً عنه شهم النَّجائب وقامت بميدان التهاني زعامةٌ ... وقد فل فيه كلُّ عضب وقاضبِ ولما صفا المضمار قال لها العلا ... هنيئاً لك التسليم من كل جانب لك السعد كفلٌ والبلاغة منطق ... وسحر البيان العذب تحت الذوائب وبكرُ عزيزِ القوم مهرٌ وحلية ... قلادة حسن الصنع فوق الترائب فألقت عن الوجه الجميل نقابها ... وشنَّفت الأسماع من كلّ عازب وقالت حديثاً محكماً ومسلسلاً ... عنِ أنفاسك العليا وتلك المناقب ومن كانت العلياءُ طوع بنانه ... فقد أنزع الإفضال قبل التخاطب وقرظها الشيخ عبد الكريم عمر الجزيري بقوله: وعذراءُ من أفق أرشقت ... عليها من الحلي البديع ملابسُ تلوح كبدر مستوٍ في صعوده ... تباهي قريض الشعر ثمَّ تنافسُ كأنَّ سطور الطِّرس من فرط حسنها ... كراسيُّ تخلى من عليها عرائس كأن مداد الوشي فيها غدائر ... على صفحة الخد الشريق محارس كان نظيم الدرّ من ثغرها بدا ... ألا فالتقط تلك اللآل النفايسَ تجرد من جفن المعاني صوارما ... كلحظ عزيز الحسن فتان ناعسِ ليهنيك يا فخرَ المعالي بتونس ... غدوت بها شهم البلاغة فارسَ القصيدة الثانية من إنشاء العالم الماجد المدرس الشيخ أحمد بيرم وهي قوله: [الطويل] بسعد الفتى تأتي إليه غنائمهْ ... وتبدو لدى كل الأنام مكارمهْ ومن لم يكن بالسعد في الجد قاتلاً ... نبا عنه عكسا رمحه وصوارمهْ ومن طلب المجد المؤثل والعلا ... تهون عليه نفسه وكرائمه تلذ له الأهوال في نيل راحة ... كما يستلذ أطول الليل نائمه كما يستلذ العذل صب مواصل ... لنكثر من ذكر الحبيب لوائمه وأمَّا إذا ما بان عنه حبيبه ... فأكره ما يلقى من الناس لائمه وكيف يطيق العذل صب ببارق ... تنصِّبه الأسقام والبعد جازمه إذا ما جرى ذكر الأحبة عنده ... جرى فوق خديه من الدمع ساجمه أبى الدهر للإنسان إبقاء حالة ... يحاربه طوراً وطوراً يسالمه ومن لاذ بالحبر الهمام محمّد ... غدا سيَّداً للدهر والدهر خادمه هو العلم المشهور فينا بنفيرٍ ... ومخفر هذا القطر بل هو عالمه إذا غاص في بحر العلوم مقرراً ... ترى منه بحراً ليس يعبر عائمه ترى طالبين العلمَ كالطَّالب الحيا ... إذا أجدبوا جادت عليه غمائمه لقد حاز في العلياء أشرف رتبة ... فمن ذا يجاريه ومن ذا يزاحمهْ ترى كلَّ من ناواه في نيله العلا ... هوى ساقطاً كالطير قدَّت قوادمه ومن يدَّعي في المجد ما ليس عنده ... فذلك عندي ساقطُ الرأي عادمه وقد يتزيّا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه إليك سليلَ المجد والشرف الذي ... بجدك خير الخلق شدت قوائمه أتيت بشعر قاصر عن مديحكم ... ومن شعره يحوي علاك تراجمه فأنت عماد الدين بل أنت قطبه ... نعم أنت سعد الدين بل أنت خاتمه وقرظها قرينه الشيخ العزيز بوعتور بقوله: [الطويل] إلى منزل العلياء هطلٌ سواجمه ... فمنه منار للهوى ومعالمهْ مراتب عزٍّ لا تزال منيعة ... بحرس جمال قد أطلت عزائمه تباكره العلياء من نحو وجهه ... فتضحى بفخر قد توالت غمائمه جناب أبي العباس من آل بيرم ... يسودُ به حظ وبدر ينادمه أزال عنِ الأيّام سود كسادها ... وشنفت الأسماع حسناً سواجمه ترنَّحُ من بين المديح كأنها ... سلافة ثغرِ قد تهادت مباسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 تشيّد ركناً من معالي كماله ... كما ضعضعَ الأبطال قسراً مكارمه إذا جدد الأكفاء يوماً جمالها ... فلا السيف بتار ولا العضب خادمه وهذا يسير في علاك فإنه ... بسعد الفتى تأتي، إليه غنائمه وقرنها قرينه الشيخ محمد الزلفاني بقوله: [الطويل] وغانيةٍ أمست لقلب تصادمه ... وتغري بذكراها لتشفى عزائمه فأيقنتها حقا بأنّ لها العلا ... وأنّ لها قدراً تخلت وصائمه تجلت فأجلت للنديم عفافها ... فيرنو لها لحظٌ وتلك تصادمه فأحسنه ما قد أبدعتْ بمحاسن ... ويا حبذا والقلب فيه تمائمه أتت بكرَ فكر من سلافه قرقف ... تحاكي شذا طيب الكرام يبارمه وقرظها الشيخ محمد بن الخوجة الجزيري بقوله: [الطويل] وروض زهت أنواره وكمائمه ... ولاحت لنا أنواره ومعالمه وهبّ أريجٌ منه كالسمك لا خبا ... أريجه إنّ المسك عطر غمائمه وما هو إلاّ روض فكر الذي ترى ... بأعتابه كلَّ القوافي تسالمه فذاك أبو العباس أحمد بيرمٌ ... مشيِّدُ أركان البديع وناظمه كأنّ انسجام القول منه إذا بدا ... لجينُ مياه هام في النهر ساجمه كأن لطيف النظم عند وفوده ... هبوبُ الصَّبا سارت لديه تكلمه كأن لدى الأسماع عذب نظامه ... رنين من الأوتار أبدت معاجمه ولا عيب إن عدت إليك نقائصٌ ... كفى المرء كهم نبلاً أن تعد مثالمه فقد قالها قوم لقوم كرائمٍ ... فأنت كهم يكفيك فضلا تلائمه (وذلك فضل الله يوتيه منْ يشا) ... وفضلك لا يحوي لراعٍ تراجمه وقرظها الشيخ قدور بن رويلة بقوله: [الطويل] بنشر لريح النظم تهدي مواسمه ... وتروي ذكي المسك عنه مباسمه وصافحنا الوسميُّ من قطرِ فكره ... بنظم عقودِ الدرِّ تهمي غمائمه وأفعم في وادي البلاغة وانطوى ... حساماً صقيلاً يبهر العقل صارمه فلن يستطيع الخوض منَ فيه مسكة ... ولا يستطيع الغوص من هو عائمه على أنه نظم من أفكار بيرم ... فلن يبلغ السباق منه طواسمه فلله ما أعلى طوالع نظمه ... وناغمه إن شئت يسمعك ناعمه بسعد الفتى تأتي إليه عزائمه ... وتبدو لدى كلِّ الأنام مكارمه ففي كل ضرب منه آية سحرةٍ ... وكل عروض منه يعرض فاحمه اذا كان صوغ الفكر منه توائماً ... فمن ذا الذي منه تقيه تمائمه فإن الذي إن كنت كف معصم ... فبيرم في الصنع البديع خواتمه وقرظها الشيخ أحمد بن عمر الجزيري بقوله: [الطويل] لتنبيك عنْ فخر العلاء مباسمه ... عرائس فكر في السماك دعائمه يضيء الدجى عند انصداع صاحبها ... ومن فرعها يبدو من الليل قاتمه إذا افترّ عن نظم اللآلي ثغورها ... يلوح من المنثور في النحر ساجمه إذا نظمت شمس المحيا تبرقعت ... مها الحسن وانسدت حياء معالمه فما هي إلاّ السحر تعبث بالنُّهى ... وما هي إلا الروض تشدو حمائمه ولا غرو أن تسقي النفوس حياتها ... فإن أبا العباس للعقد ناظمة همام بأوج العز مسرى جواده ... وأرض مثار الحمد فيه قوائمه فلا الفخر إلا في معاشر أهله ... سلالة فضل صاغها من يلائمه تراه على متن الثريّا قد استوى ... وفي مقعد الأحباب تهمي غمائمه إذا ما يصوغ المدح أحيا زهيره ... وإن جال في سحر البيان فحاتمه كأنّ نظام الشعر من لطف صنعه ... عقودٌ من الياقوتِ منها كرائمه ومن ثم رمت الصفو عما منحته ... لما أنه سعد الزمان وحاتمه القصيدة الثالثة من إنشاء الأكتب البارع الماجد أبي محمد حمودة الزلفاني وهي قوله: [الطويل] غزالٌ سبى الألباب في ثغره شهدُ ... ومن هجره يبدو لعاشقه سهد لقدْ سهم الأكباد هدبُ لحاظه ... ومن خدِّه حسناً لقد يجتني الورد وحسنُ ابتسام للبروق أعاره ... ومن نوره شمسلإ لقد زانها وقد هلالٌ يعم الكون بعض ضيائه ... ويخجل منه البدر إذْ دونه سعد شربت كؤوساً من مدامة ثغره ... فأمسيت نشواناً ولا عادني نكد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فزادتنيَ الألحاظ حدًّا بنجلها ... ومن يشرب الصهباء يلزمه الحد تثَّنى كغصن البان رنحه الصبا ... فيا حبذا قد فلا مثله قد تفرَّدَ حسناً بالمحاسن والبها ... ففي عطفه ند وليس له ند تزايد شوقي في هواه ولم يكن ... يواعدني قرب لديه ولا بعد أتاني عذولي هاتفاً بملامة ... فقلت له مهلاً ففي لفظك الحقد فلما تبدىّ لي وجدت جماله ... يحاكي سنا علمٍ لأستاذنا الفردِ فلا غيرهُ يرقى المعالي بعلمه ... ولا يدرك الإفضالَ منْ لا لهُ بدُّ له الطَّلعة الغرَّاء بين قرانه ... يسود الورى علماً ومنه اقتني المجدُ محرر إتقان العلوم وكاشف ... لكل معاليها ونيل به الرّفد وراجح عقل يجتلي لغياهب ... كما أبدى لنا من مغمض حدسه رد رسائل شوقي من تلالؤِ نوره ... ففي برِّه بحر يتيه به الأسد إمام لأهل العصر ساد علاهم ... فلا من يضاهيه ولو بالغ الجهد لعمري وما في مدحه السعد إنما ... ببعض معاليه لقد يمدح السَّعد عليك مريدي بارتشاف علومه ... فمن غدا نهلاً منه لم يقصه البعد هو النفير الأسنى الزكي محمّدٌ ... سليلُ رسول الله والمصطفى الجد فلا زلت مولاي على رتبة السُّها ... تسود علواً لا يكون له حدّ وقرظها قرينه الشيخ محمد العزيز بوعتور بقوله: [الطويل] هو الّسعد ما ينحلُّ ما عقد السعدُ ... وضربُ العوالي عند أصحابه فردُ وما الناس في التحقيق إلا سوائمٌ ... وذو العقل منهم في الحساب له العد ولجت ديار الحي والذئب هاجع ... بفرط سهاد ما له بالكرى عهد لعلي أرى من نحو رامة لامعاً ... ينمنمه (حمودة) الأوحُ الفرد فلاقيت وجهاً كالنهار جلالة ... وصدراً هو الدنيا وعضباً هو الجد كشمس الضحى كالحقف كالقد كالقنا ... كصرف سلاف من لبابٍ هو الرند وهبني حسبت الصبح وقت ظلامه ... أيخفى ضياء عن عليم له الرشد وقرظها الشيخ أحمد بيرم بقوله: [الطويل] عجبت لخود أسفرت ما لها ندُّ ... لدى ريقها عطر وف قربها لَّ وفي فرقها صبح وفي فرعها دجى ... وفي ثغرها در وفي خدّها وردُ هي الشمس كلَّ أفكر عن درك حسنها ... ولكنها تشفى بها الأعين الرُّمد هي الجوهر الأسنى الذي عز مثله ... كما أن منشيها هو العلمُ الفرد هو الفائق الأترابِ حمُّودةُ الذي ... حوى غاية العليا وما فوقها حدُّ فلا يبلغُ المعشارِ ناشرُ فضله ... ولو أنه يشدو بما دونه شهد فلا زال يبدي للغرائب ما شدا ... هزار على الأغصان في روضة يشدو وما هّيج البلبال للصب والنوى ... (غزال سبا الألباب في ثغره شهد) وقرظها الشيخ محمد بن الخوجة الجزيري بقوله: [الطويل] وفت تجتلي مثل الدراري لها وقد ... خرائد فكر في القلوب لها رفد أضاء الدجى إذْ لاح نور بديعها ... كضوء صباح لاح والليل مسود وجاء بمعنى باللطافة تنتشي ... كأن كؤوس الراح من لفظها يبدو لذاك ترى الألباب من ضمن سحرها ... نشاوى لذكراها وليس لهم ضدّ فريدةُ حسنٍ لا شبيه لحسنها ... بديعة نظم لا يجانسها عقد إذا ذكرت لا أذنْ تصغى لغيرها ... وإمَّا بدت كانت هي العلمَ الفردَ فروحي فداها إن تمنَّ بأخذها ... ومن يبذلك الأرواح في حسنها رشد؟ لعمري لقد حازت من الفخر ما لها ... مواطن في العلياءِ ليس لها حدُّ فأنت جدير بالمديح وبالثنا ... ومن يعنِ الأترابِ حقَّ له الحمد وقرظها الشيخ قدور بن رويلة الجزيري بقوله: [الطويل] غزال سبى الألباب في ثغره شهد ... فلا مثله قبلُ ولا مثله بعدُ لعمري لقد حاز الجمال أصالةً ... ولم يغنني قربٌ لديه ولا بعدُ إذا ما بدا يهتزُّ قال قوامه ... فأين غصونُ البان والقضب الملد وأين الرِّماحُ السُّمر والبيض فيكمُ ... وأين القلوب الصابرات لذا تبدو فإمّا شربنا الحب في حال صبوة ... وخضنا حروباً ما لها في الوغى حدُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ولجنا الفيافي فرفد بعدَ فرفد ... وجلنا اللَّيالي المقمرات فتسودُّ وما راعنا فتك الصوارم مثلما ... لقيناه من حمُّودة الأورعِ الفهدِ حنانيك يا فردَ المعالي بتونسٍ ... ترفَّقْ بحرٍّ لا يزال لكمْ عبدُ وقرظها الشيخ عبد الكريم بن الأمين الجزيري بقوله: [الطويل] قلائد درٍّ قد تبدت لناظري ... تحار الأفكار والعلم والسعد فما له في فن البلاغة مشبهٌ ... يحاكي وفي حسن الرشاقةِ لا ندُّ تكاد قوافي الشعر تخفى بحسنها ... وحقَّ لها أن تختفي بل ولا تبدو لذاك صبونا من جلاها وكيف لا ... وحمُّودة الأسني يشيب فيشتد غزال سبي الألباب في ثغره شهْد ... ومن ثغره يبدو لعاشق سهد وقرظها الشيخ قدور بن رويلة الجزيري بقوله: [الطويل] ورب غوان قد برزن ولا وعدُ ... معطلة الأجياد ما إن لها ندُّ خرجن كأنَّ الريم يمرح عشوة ... يميس ذللالاً لا نفارٌ ولا صدُ وجوهٌ كأنَّ البدرَ شكلٌ ودارةٌ ... وقد ولا الأغصان تشبهها الملْدُ فضحن ظباء الحي جفناً وحاجباً ... وخصراً وردفاً في الرشاقة لا حدّ كما فضحت تلك القصيدةُ بغتةً ... عزيزَ قوافي الشعر ردّاً وما ردُّ وكيف وقد جاءت من أفكار ماهر ... وقد رشفت من ثغرة مرشفاً شهدُ وعلَّلها سحرَ البيان تخلُّصاً ... وجوَّدها حمُّودة المرتضى الفردُ عليه سلام ما ترنَّم منشدٌ ... بسحر غوان قد برزن ولا وعدُ وللشيخ العزيز بوعتور مقرظاً للتقريظ أعلاه بقوله: [الطويل] أما ودراري من علاك لها المجد ... لقد زين الدنيا بتاج هو الحدُّ أتيتَ بنجم من سماء جمانه ... بماء اللحاظ النُّجل جلَّله الوقد وقائلةٍ مالي أراك مولهاً ... وقد كنت ثبتاً لا ينهنه الرعدُ أشرقك طيف أم سماعك لاحناً ... بسحر (غوان قد برزن ولا وعدُ) فقلت لها إيهٍ ومثلي منصتٌ ... لهطلِ سحاب يستقل به الرشدُ وقول كرامٍ لا يزال وليدهم ... يؤمِّمُ مجداً ثم يتبعهُ السعدُ وإني لمشتاق لقوم فواضلٍ ... وجوههم الدنيا وقولهم الحدُّ وللشيخ حمودة الزلفاني مقرظاً للتقريظ بقوله: [مجزوء الرمل] أعذبتْ حسن المراشفْ ... منْ حماكمْ تترقرقْ أشرقتْ شمسُ المعارفْ ... من سناكمْ تتألَّقْ ومعانْ فيه تبدو ... كبحارٍ تتدفَّقْ حازتِ العلياءَ فضلاً ... قدْ رقت والبرق يخفق هكذا شأنٌ رفيعٌ ... صولهٌ فيها تشرقْ أبدع يا ليت شعرري ... هل إليها من تشفَّقْ ازدرت بالورد أمسي ... في رياض يتفتَّقْ يا لها بكر تضاهي ... خدَّ خود تتعشَّقْ أخذتْ فكريَ وعقلي ... بانثناء وترفُّقْ أضرمتْ ناراً بقلبي ... وفؤادي يتمزَّقْ قد سقتني من لماها ... خمرةً والمسكُ يعبقْ لم يزل منّي شوق ... من هواها يتعلَّقْ وكان صاحب الترجمة علامة محققاً، له صيانة وديانة يضرب بهما المثل، تقياً نقي العرض صافي السريرة حيياً محبباً إلى الناس كريم النفس لطيف الخطاب، يقصده أهل الحرمين الشريفين كثيراً ولا يرد واحداً منهم خالياً وربما تكرم عليهم بأمتعته إن لم يجد ما يواسيهم به. حج بيت الله الحرام ثلاثاً وتوفي في ثالثها بعد الزيارة بالمدينة المنورة، وقد ظهرت عليه مكاشفات قبل موته حقق بها لولده أنه غير راجع إلى تونس، ثم أتى عليه إسهال إلأى ان توفي ودفن بالبقيع فكانت وفاته في المحرم سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. 39 الشيخ محمد القبايلي هو الشيخ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى البجائي المزي الشريف، وقفت على وثيقة أقيمت ببجاية تشهد بشرف جده محمد مؤرخة بأوائل صفر الخير سنة 1160 ستين ومائة وألف وجده المذكور هو القادم من القبائل لتونس. وكان والد صاحب الترجمة تاجراً خيراً حافظاً للقرآن العظيم عليه سيماء الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ونشأ ولده في خدمة العلم الشريف وقرأ على علماء كثيرين، قرأ على الشيخ أبي محمد حسن الشريف، والشيخ أحممد بوخريص، والشيخ الطاهر بن مسعود، والشيخ إبراهيم الرياحي، والشيخ محمد بن ملوكة وغيرهم من علماء ذلك العصر. وجلس للتدريس فأفاد، وتقدم مدرساً بجامع الزيتونة في الطبقة الأولى عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف فزان الجامع بدروسه الرائقة غير أنه مع ذلك استغل بالمتجر واتسع فيه نطاقه وذلك هو الذي منعه من كثرة الإقراء مع كونه عالماً جليلاً. تقدم لحظة قضاء باردو المعمور في الحادي عشر من صفر الخير سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف فأحسن القيام بها وحُمد مسعاه فيها ثم قدمه المشير أحمد باشا باي لحظة الفتيا فولي مفتياً خامساً في الخامس والعشرين من رجب سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف، وأفاد الطالبين والمستفتين ولما توفي الشيخ الخضّار صار مفتياً رابعاً. أما شعره فهو عزيز ومن أحسنه القصيدة الغراء التي مدح بها المشير الأول أحمد باشا باي وجمع فيها مفاخر دولته وشكر بها صنعه في نشر العلم بجامع الزيتونة وهي قوله: [الطويل] خليلي ما تلك القباب التي تجلو ... فقد لاح منها ما به يذهل العقلُ تراءتْ على بعد فعاودني الصبا ... وهيّج لي التذكار ما كان لي يحلو تهادي سروراً والهمومَ تذودها ... كما تفعل الصهباء لوْ فاتها الخبلُ وتمنه من وافاه رونق حسنها ... من أن يلتوي عنها ولو شأنها المحلُ بعيد عن الآفات من حام حولها ... فلا ضيم يخشاه ولا ظالم نذلُ إذا ما علته الطير ظلت سواكناً ... كأن جناح الطير أوثقه الكبلُ تظلُّ حيارى من غرائب صنعها ... وإن تركت أفراخها ما لها أكلُ متى أمَّها الرامي وأوتر قوسه ... وحقق فيها الرمي طاش له النبلُ كذلك جار الأكرمين ممنّع ... مصون عن الأعداء ما نيله سهلُ ومن بينها حسن ترآى لناظري ... مشسّدة أركانه شادةُ العدلُ فيممته حين وقفت تجاهه ... وأيقنت أن الحصن ليس له مثلُ فناجتن نفسي أنتي الآن واقف ... أمام الذي يمناه بالجود تنهلُ مشير أبي العباس من طار صيته ... فعمَّ البرايا والكرامُ له تتلو إمامٌ همامٌ سيّد خضعت له ... رقاب الألى ما كن يخضعن من قبلُ؟ فتوَّجهمْ تاجَ الرضى وأنالهم ... مقامات عزِّ شامخاتٍ بهم تعلو ولو أعرضوا أو خالفوا لأذاقهم ... كؤوس المنايا صاغرين وإن جلوا فمجده مرٌّ علقميّ مذاقه ... مهاب إذا قابلتهُ العقل يختل؟ فحاذر إذا جئته حين جده ... وبادر إليه ريثما يُشتهى الهزلُ خبير بأعقاب الأمور وسرُّه ... مصون صدور لا يحلُّ لها قفلُ وكم له منْ فخرٍ وفضل وسؤدد ... وفعل جميل لا يحيط به القول فأحيا رسوم العلم بعد اندراسه ... ودحض أهاليه وقد سامه الخذلُ فعمّر سوق العلم واغتصَّ جمعه ... وسارت له الركبان والتأم الشملُ وجاء لنيل العلم من كل جاني ... وأقصى مكانٍ لا عياء ولا هزلُ وكانت نفوسٌ جامحاتٍ فأصبحت ... له جانحات والمرارة قد تحلو وبادر للتعليم ناء وحاضر ... غني وذو فقر صحيح ومعتلُ وشوقهم للعلم رغباً وساقهم ... عطاءٌ جزيلٌ وافرٌ صوبه وبلُ ونوَّر بيت الله بالعلم إذ حوت ... مصابيح علم تستضاءُ بها السُّبلُ وأتحفه من نيله بعرائسٍ ... متوجةً ففي ضمنها الصعب والسهلُ وفيها فنون يفتر العقل دونها ... يحاولها من وصفه الدذق والنبلُ وأغراهم شوقاً وأوقد عزمهم ... وأورثهم خيراً مرتبة الجزلُ فأكرمْ بها من نعمة ذخرتْ له ... أشيدت لها الرايات وانتشر الفضلُ وأحيا لدين الله أفضل موسم ... بمولد خير الخلق حق له الفضلُ بنشر علامات السرور وبسطه ... موائد إكرام تناوله سهلُ وفُتحتْ الأبواب وانتشر الضيا ... ونوِّرت الأسواق واحتفل الأهلُ وجيء لبيت الله من كل جانب ... وظلت جموع الخلق كل له شفلُ فقومٌ بذكر الله تاهت قلوبهم ... وقومٌ كتاب الله ألسنهم تتلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وكان إلى الإصباح ذلك دأبهمْ ... فمنك إلى الخيرات لاحت لهم سبلُ ورنت مهولات الحروب كأنها ... تشير لدين الله حزب بهم يعلو فيا له من يوم جليل بفضل ... تباشرت الأطيارُ والحوتُ لها نقلُ فأكرم به من موكب جلَّ صدرهُ ... أميرٌ بحب المصطفى قلبه مملو هنيئاً كنوز الخير فزتَ بفتحهما ... وذلك فضل الله ليس لنا حولُ وجنَّد جنداً عز عن نيل مثله ... صناديد آساد وغبَّاهم الأسلُ إذا حاربوا صفاً لصف كأنهم ... صفوفُ صلاةٍ أمَّهم فاضل عدل تصرفهم فعلُ الجميل كواحد ... وفاق رئيس الجند لا بعد لا قبلُ ويمشون في الهجياء مشي تأودٍ ... فلا رعب يغشاهم ولا سامهم ذلُّ فيمشون مشياً كالشيوخ وفعلهم ... فعالُ شبابٍ طافحٍ أو فتى طفلُ فيرمون رمياً مسرعاً فكأنهم ... يعاونهم في السير أضعافهم عجلُ ولا يعرفون الصَّدَّ إمّا غنيمة ... يسوقونها قسراً وأن يبتلي الكلُ إذا قابلت ألفٌ ألوفاً كثيرة ... فما كثرة تغني وما ضرَّهم قلُّ فمن حاربوه فرَّ قبل قتالهم ... وكيف أطقت حربهمْ وهمُ بسلُ إذا ما غزوا الطير تعلو سيوفهم ... لما عوَّدوها من فرائس ما قلوا لهم نغمات مطربات كأنها ... تبشرهم بالنصر أيّان ما حلوا جوائزهم ربح ولا عيب فيهم ... سوى أن بذل الوفر في جميعهم بخلُ فأكرمْ بهم من عسكر جمعت لهم ... خصال فخامٌ والمشاهدة العدلُ وحين رماني الشوقُ في بحر مدحه ... ولستُ أجيد السبح بي صدي القوولُ ولولاهُ ما فات اليراعُ أناملي ... وجود أبي العباس صوبه منهلُ ومن شاطئ الوادي عزفت مدائحي ... وما خضت في بحر وما كدت أبتلُ وإني لأرجو أن تزول نوائبي ... أخوض بها بحراً به المدح ينحلُ مديحك يا فخرَ الملوك غنيمةٌ ... تعز به نفسي وإن رخصت تعلو شمائلك العطمى أراحت سجيتي ... أجرُّ يراعي والمحاسن لي تملو فدعني وتعداد المديح فإنني ... أروّق نفسي والهموم به تسلو فأيُّ ثناء أبتغيه أرومه ... وأنت كريم من كرام له أهلُ فدونكما عذراء يخجلها الحيا ... أبية نفسْ أن يكافا بها فعلُ وأقصى مناها أن تحوز قنوعة ... بلثم تراب منْ وطا مسه النعلُ وأن تشتريها بالرضى منك إنما ... رضاؤك لا كسبي لمن وصفه القلُّ تصول فصدق المدح نبهاً بصدقها ... يضاجعها سيف البواتر والنعلُ تقول أنخت الرحل قرب مملَّك ... كريم أصيل ماجد بذله البذلُ متى سامني دهر بهول أصابني ... وأدنى التفات منك ينكشف الهولُ وكم من فتى قبلي تصاعب دهره ... فغاد له سهل وفارقه المحلُ فدم في سماء المجد ما دام فرقد ... يلوح به والبدر والشمس والحملُ مهنا معافى سائلاً ما تريده ... عليك سحاب الخير لا زال ينهلُ وكان فقيهاً مشاركاً متفلسفاً، له معرفة بالرياضيات، حييا يقطر وجهه حياء من كل أحد، صبوراً خيّراً، كريم الأخلاق حسن المحاضرة أديباً لطيف الشعر يوده المشير حتى أنه لما مرض أرسل إليه أطباء حضرته وكان مرضه في يده فرأى الأطباء لزوم قطعها خشية سريان الداء فصبر على قطعها من دون مخدّر وبم يشتكِ من ذلك ومع ذلك أدرك الحمام فتوفي في ذي القعدة الحرام سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين وألف ودفن خارج باب الفلة عليه رحمة الله آمين. 40 الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 هو الشيخ أبو الصفاء الطاهر بن محمد بن الشاذلي بن محمد بن الشاذلي بن عبد القادر بن محمد بن عاشور بن إدريس الشريف الأندلسي السلاوي. خرج جده عاشور من جزيرة الأندلس في حدود الثلاثين والألف، ودخل مدينة سلا من المغرب، وبها زيد ولده محمد، ونشأ بها في سلوك طريق أهل الله، وأخذ الأسرار هنالك عن الشيخ محمد القجيري ثم خرج لحج بيت الله الحرام لوما أتم حجه آب إلى محاضرة تونس مع عمه الشيخ سيدي داود دفين المرسى. وكان الشيخ داود بن إدريس السلاوي من أهل الجذب المشتهري الصلاح، وكان الشيخ محمد بن عاشور من العارفين بالله يقرئ علوم أهل الحقيقة ملازماً للدرس والجماعة وقد لازمه فحول منهم الشيخ سعيد الشريف وأشار له بوفاة ولده في حياته فكان الأمر كذلك، ومنهم الشيخ محمد بن شعبان ومنه استمد الشيخ علي الغماد والشيخ مصطفى البايلي والشيخ محمد الملاح، وقد ظهرت الولاية على ثلاثتهم وقد احترف بصناعة الشاشية وساعده فيها القدر مع كون كراماته كفلق الصبح دخل بقصد الصلاة بجامع القصبة ولما شرع في صلاة النفل دخل إمام الجامع وخطيبه الشيخ محمد البيك وأخذ يصلس في ركن من الجامع فاستعجل الشيخ صلاته ونادى الإمام بتخفيف الصلاة فلما سلم استدناه من مجلسه وعند ذلك سقط الركن الذي كان يصلي فيه الإمام فحمد الله على ذلك وكان يعمل مع أهله فينخل الدقيق ويغسل الثياب وأتاه إلى بيته الداي علي رايس زائراً ومعه رجال دولته فأغلق في وجهه الباب وامتنع من ملاقاته وكانت مدة إقامته بتونس نحو الخمسين سنة وتوفي بين العشاءين من ليلة الأربعاء غرة جمادى الأولى سنة 1110 عشر ومائة وألف ودفن بزاوية شيخه سيدي علي الزواوي عند باب سيدي عبد الله خارج باب المنارة من تونس بعد أن كان ملازماً لإقامة الأوراد الشاذلية بالزاوية المذكورةز وورثه في فضله ولداه إدريس وعبد القادر، فأما إدريس فإن والدته هي ابنة الشيخ داود بن غدريس وأما عبد القادر فإنه من زوجة أخرى وقد كان ازدياده بإشارة القطب الشيخ الجيلي وأشار على والده بتسميته على اسمه، فكان من الصالحين وقد لازم إقامة الميعاد الشاذلي بزاوية الشيخ سيدي علي الزواوي رضي الله عنه مثل والده إلى أن توفي وقد استوفى الموؤخ حسين خوجة ترجمته وترجمة والده أكمل استيفاء كما ترجم لهم الشيخ محمد الوزير السراج رضي الله عنهم أجمعين. وعلى كل حال فقد نشأ أبناؤه من بعده في خدمة العلم والتحلي بالمكارم إلى أن وصلوا إلى والد صاحب الترجمة فأنجب في رياض العلم ولدين وهما صاحب الترجمة وأخوه. أما أخوه محمد ويدعى حمدة فكان عالماً عاملاً من النحو، وقرأ على الشيخ محمد معاوية المطول وغيره، وقرأ على الشيخ محمد السنوسي الخرشي، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة مختصر السعد، وقرأ الحساب والفرائض على الشيخ محمد بن ملوكة، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي. حتى تضلع من المعقول والمنقول، والفروع والأصول، وصار يشار إليه في التحرير والتدقيق وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي بجامع الزيتونة أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف وزان الجامع بدروسه ولما توفي الشيخ فرج التميمي بالمحلة أرسل إليه المشير الأول أحمد باشا باي يراوده على خطة المحلة فتعلل بضعف بدنه، ولما أعيد الطلب قال إنه إن ألزم الخطة المذكورة خرج فاراً فلم يكلفه المشير ذلك. ولازم التدريس وكتب حواشي على مقدمات شرح المحلي على جمع الجوامع حرر فيها مباحث أصولية مهمة وتوفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من صفر الخير سنة 1265. وأما صاحب الترجمة فقد نشأ في رياض الترتيب الأحمدي بجامع الزيتونة وأخذ عن أخيه كثيراً، وقرأ على غالب شيوخ أخيه، فقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن الخوجة، والشيخ محمد بيرم الثالث، والشيخ محمد بن ملوكة، والشيخ محمد بن سلامة وكان آية الله في الذكاء وعلو الهمة في العلم لا يقنع بظواهر الكلام بل يتتبع الأصول ويحرر الوجوه والتعاليل غاية التحرير، تقدم للتدريس فزان الرتبتين وابدع بفصاحته وذكائه ما شاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ثم قدمه المشير أحمد باشا باي لحظة القضاء بالمحاضرة في الخامس والعشرين من رجب الأصب سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف فأعمل يعملات عزمه، وعلق همته بالمدارك العالية فنحى منحى الشيخ إسماعيل التميمي في التنزيل وتتبع المدارك والإصابة في التطبيق حتى صار فقيهاً أصولياً مع ما له من اليد الطولى في المعقول، وفصاحة المقول. ولما توفي الشيخ محمد النيفر قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي مفتياً ثالثاً يوم الأحد الخامس عشر من ربيع الثاني سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف وقربه حتى أدخله في مجلسه الخاص، وولي مدة المجالس في المجلس الأكبر وتقلد خطة نقابة الأشراف في جمادة الأولى سنة 1278 ثمان وسبعين ومائتين وألف وكان الأمير يرغب في مجالسته وهو لا يتخلّف عن زيارته وقد نال من عطاياه الوافرة أمراً عظيماً وكان ذا رفاهية وحب لنضارة العيش يركب المراكب الفاخرة ويلبس أحسن اللباس. أدركته يقرئ بجامع الزيتونة درس المحلي ودرس صحيح مسلم بفصاحة بديعة يحضر الدرس وهو ملتف بسفساري من حرير والعلماء بين يديه يأخذ ونعنه، وهو علامة المعقول والمنقول فصيح كريم النفس رفيع الهمة حسن المفاكهة والمحاضرة محب للخلاعة فصيخ القلم واللسان شاعر مجيد، شعره يصلح ديواناً وقد أثنت منه نحو الكراسين في كتابي مجموع مجمع الدواوين التونسية. وقد شرح قصيدة البردة شرحاً بديعاً سماه شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح، وله حواش على شرح القطر لابن هشام أبدع فيها ما شاء وحرر فيها مسائل عويصة يحتاج إليها المنتهي أكثر من المبتدي. وقد طبع كل من الشرح والحاشية بالمطبعة المصرية وكتب عليها مصحح المطبعة عند ختم كل تقريظاً لطيفاً وهو الأديب البارع الشيخ طه قطرية بن محمود الدمياطي فكان تقريظه على شرح البردة هو قوله: [الرمل] ملء عيني من لأوج الحسن يرقى ... مذ جفاني بات دمعي ليس يرقا بان عن عيني ولكن لم يبنِ ... عن فؤادي وعصا صبري شقَّا عاذلي فيه ملح والهوى ... آمر ناه لقلب ضل عشقا راعني من بعد صفو العيش إن ... قيل قد آن حثيت العيس سوقا يا حداة العبس قرّت عينكم ... بالقوارير ارفقوا بالله رفقا يا بروحي يوسفياً حسنه ... مصره قلبي وإن أذكاه شوقا ليته لما كا جسمي الضنى ... بردة المدح لخير الناس خلقا سيد لو عاش يطري مدحه ... ألف عام أفصح الأقوام نطقا قامت البردة من أعبائه ... بالذي عز على الغير وشقّأ يا لها بردة مدح حاكها=شرف الدين الذي أحرز سبقا واقتضت شرحاً لها من فاضل ... يكشف السر الذي رق ودقّا والذي استخرج منها كنزها ... فاتحاً من بابها ما كان غلقا شرحها الوافي المسمى بالشفا ... آخر الطب وما أحلاه ذوقا هاكه شرحاً بديعاً طبعه ... من يسوي بصناع الكف خرقا تم طبعاً فانجلى تاريخه ... (في شفا القلب الشفا للطبع حقاً) وكتب على حواشي القطر بقوله: [الكامل] ظعن الحبيب فبات يندب منزلا ... صب تنبأ دمعه مذ أرسلا بلغت به الأوصاف مبلغها الذي ... تركت به جيد العزاء معطلا يا عاذلي اقصر من ملامك أو أطل ... إنّي على الحالين لن أتحولا أتحط عن أهل الهوى أعباءه ... فاحطط إذاً عبء الملام المثقلا لو جئت بالتسهيل في أمر الهوى ... بوجدت قلباً ساهياً فيمن سلا لكن رأيتك في الملامة واغلاً ... فرأيت قلبي في الصبابة أوغلا هب أن لومك لي هديةُ ناصح ... يأبى الغرامُ لمثلها أن تقبلا فاستبق بعض اللوم تهديه إلى ... أهل القلوب بأن قلبي قد خلا نحو الحبيب بعثته بهدية ... بعث الأريب بها إلينا أوّلا كم خاض بحر المشكللات بفكره ... حتى لعمرك لم يغادر مشكلا أكرمْ بها شهدت بأنعم ربها ... من مد للتحقيق باعاً أطولا فلتقعد الهمم التي انبعثت إلى ... نسج على منوالها أن تفعلا ولتبذل الطلاب في تحصيلها ... درر النفائس والنفوس لتحصلا قالطبع أولاها الكمال مؤرخاً ... (القطر خير هدية طبعاً حلا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقد كتب صاحب الترجمة أيضاً حواشي على شرح العصام للسمرقندي لم يتمها، وله حواش على المقدمات من المحلي على جمع الجوامع وله حواش على حاشة المولى عبد الحكيم على المطول سماها الغيث الإغريقي نحا فيها منحى عزيزاً وولج فيها وعور مسالك السعد والسيد وناقش فيها المولى عبد الحكيم وكفاه فخراً يخلد له في العلوم ذكراً. وكانت بيده مشيخة مدرسة حوانيت عاشور ووليها بعد وفاة الشيخ حمدة الشريف، فختم فيها الأختام الغربية يحضر بها الأمير والعلماء وتجري فيها المباحثات المعتبرة. ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً ثانياً وله في المجلس الشرعي صولة تنازع مع كبير أهل الشورى الشيخ أحمد بن حسين في المجلس بمحضر الأمير فأبطل الأمير اجتماع المجلس بين يديه من أجل ذلك. ولم يزل في بذاخة شأنه إلى أن أصابه نقط في عيد الأضحى وكان مقيماً بأريانه فاستمر ساكتاً أياماً إلى أن عاجلته المنية وله من العمر نيف وخمسون سنة فتوفي في يوم الاثنين الحادي والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف ودفن بتربة آبائه بزاوية سيدي علي الزواوي عند باب سيدي عبد الله الشريف عليه رحمة الله وحضر جنازته الأمير والمأمور ورثاه خاتمة الشعراء الشيخ محمود قابادو بالمرثية الطنانة في ديوانه التي قال في مطلعها: [البسيط] خطب له الدين أرنى لحظ مذعور ... فالناس ما بين مبهوت ومبهور ورثاه الشيخ محمد بن مصطفى بيرم بقوله: [الطويل] خطوب المنايا بالرزايا نزعزع ... شوامخ علم بالمعارف تنبع فأهدم من حصن الشريعة معقل ... بدافع عنها كل خطب ويصنع وزلزلت الأقدام مصابه ... وخشِّعت الأبصار بالدمع تهمع وأذهلت الألباب عن كل واضع ... وأرجفت الأكباد مما يُلسِّع وأبكمتن الأفواه من كل مصقع ... وصمّت ذوي الأسماع من هول ما وعوا ورجت له الأقطار لما غدا بها ... نعيق غراب البين بالرزء يصدع وعجت إلى الله المهيمن أعبد ... تقد لما أمضى بحتم وتخضع ومن ذا الذي لا يرتضي بقضائه ... وكيف له إنكار ما هو يصنع سبانه من خالق ومدبر ... لإبداع كون للكاملات يجمع إذا أنت قد أمعنت فكراً بصنعه ... تجدْ حكمة في كل ما هو يُبدع ويقضي النُّهى والطبع أن لنوعنا ... معاداً إلى ما فيه كنا سنرجع تدّبر إذاً حقاً لما هو محكمٌ ... بآياته يتلى عليك فيسطع (فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم) ... ترى القدر عيناً قد تألق يلمع تذكر بمن قد كان سبقاً ممتعاً ... فأضحى صريعاً للبليات يُسرع فيا تراكم من نواصي نععفرت ... به بعدما قد كان فيها تضوع وأنجم هدي قد هوت برغامه ... زكان لها فوق السماكين مربع وأرباب تيجان له قد تسلمت ... وأصحاب عرفان به قد تصرعوا فهذي سبيل الغابرين وأنت في ... غرور الدُّنا فانظر لماذا ترجَّع فقز بالذي يرجى ليوم بنهبها ... إمام الورى وهو المهنا المرفع رمتْ ابن عاشور بسهمٍ مقرطسٍ ... وثنت رزايا لا تكاد تجرّع هو الطاهر الأسمى محمد الرضى ... مكين بأسرار الشريعة يبرع له الشرف الأعلى بعلم ونسبة ... إلى خير خلق الله تنمى وترفع وذو همة قد رصعت بعلوها ... مصابيح هدي بالبديع ترصع هلم بنا نبكي لفقد إمامنا ... وقد جاءنا منه الصقال الممنع فيا لهمام الدين فخر رجاله ... وصدر الفتاوي باللحود المفضع ويا أسفاً قد دج غيهب فقده ... بسبل الهدى فهو المصاب المفضع وواهاً دروس العلم أظلم جوها ... فأغشى عيون الطالبين التدمع وواهاً لديون الفصاحة مرتجاً ... فأمسى قفاً بين البلاغة يصفع وواهاً لتحرير الدروس وبسطها ... وتقريرها حتى يزال التبرقع وواهاً لفهم للمباحث كاشفٍ ... وواهاً لغضب في النوازل ينقع وواهاً لفصل للنشاغب حاسمٍ ... وحزم لأيدي الزور والبهت يقطع وواهاً لجمَّاع المكارم كلها ... ونقادة الدنيا العليم السميدُع فمن ذا الذي للغامضات وكشفها ... وخوض بحور سبحا متزعزع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ومن ذا لبث المكرمات ونشرها ... ومن ذا الذي يبدي المزايا وينفع هوى طودها العالي فقلت مؤرخاً ... (سيرقى حمى أعلى الجنان يُرفع) 41 الشيخ الشاذلي بن صالح هو شيخنا أبو عبد الله محمد الشاذلي بن عثمان بن صالح بن أحمد الجبالي، كان جده يحترف بصناعة الشاشية وقد تزوج امرأة أمها بنت الشريف الأبر الحاج علي دمدم المشهور الشرف بتونس وأوتي منها بولده عثمان فله شرف من قبل أم أمه. وكان والده عثمان خيراً حافظاً للقرآن العظيم يقرأ الأحزاب بجامع الزيتونة وولده ملازم له لفقد بصره إلى أن توفي سنة 1274 أربع وسبعين ومائتين وألف. ونشأ في طاعة والده والبر به نشأة محمودة، وتوجه باعتناء والده لخدم العلم الشريف بعد أن حفظ القرآن بختم السبع تجويداً على الشيخ محمد المشاط، وقرأ عليه كتب مبادئ النحو، وقرأ على الشيخ فرج التميمي كنب مبادئ النحو أيضاً إلى أن ختم عليه المكودي على الألفية ومختصر السعد ونبذة من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث مختصر السعد البياني ومختصر السنوسي المنطقي وأجازه بثبته، وقرأ على الشيهخ إسماعيل التميمي نبذة من شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة قطعة من شرحه على الدرة والمكمودي على الألفية، وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة قطعة من التاودي على العاصمية بحواشيه، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة المكودي على الألفية بجامع صاحب الطابع وقطعة من مختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد معاوية الخبيصي على التهذيب، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي الأشموني على الألفية من باب الحال إلى نهايته بجامع صاحب الطابع، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب الصغرى في علم الكلام، وقرأ على الشيخ نصر بن عقبة الكافي نبذة من الألفية بمسجد العزافين، وقرأ على الشيخ محمد لسقاط شرح الخرشي على المختصر الخليلي بمدرسة بئر الحجار، وقرأ على الشيخ أحمد الكيلاني المكودي، ومختصر السعد ونبذة من الشفا، وتصدى للإقراء بجامع الزيتونة سنة 1252 اثنتين وخمسين ومائتين وألف، وأخذ عنه كثير. وتقدم مدرساً في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي في السابع والعشرين من رمضان سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف. ولما توفي الشيخ فرج التميمي بالمحلة أواخر جمادى الأولى قدمه المشير أحمد باشا بايب قاضياً بالمحلة المنصورة أواسط ذي القعدة الحرام سنة 1262 اثنتين وستين ومائتين وألف، وسافر مع ابن عمه المولى محمد باي، ولاقى من إكرامه وجزيل إنعامه ما يدل على صدق نية الأمير مع العلماء ثم قدمه الأمير لخطة قضاء باردو المعمور أواخر رجب سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف فأحسن القيام بأعبائها سيمل وقد انضم إليه أنه ولي مشيخ المهندسين بمكتب الحزب يقريهم مبادئ النحو والفقه فلازم للقيام بالخطتين سكنى باردو مدة وولي مشيخة مدرسة باردو وهو يختم بها كل سنة، وكان لا يتخلّف عن التعليم والقضاء بباردو، ثم قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي مفتياً رابعاً يوم الأحد الخامس عشر من شعبان الأكرم سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً ثالثاً، ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً ثانياً. ولما توفي الشيخ أحمد بن حسين تقدّم عليه للرئاسة صالح النيفر، ولما توفي الشيخ المذكور قدمه المشير لرئاسة أهل الفتوى في الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وولي عند ذلك أيضاً مشيخة المدرسة المرادية فباشر الخطة بقبول النوازل، وفي أثناء تقلبه في الفتيا صدر له الإذن بالنيابة عن أيمة جامع الزيتونة في صائفة عام 83 ثلاثة وثمانين لما مرض الأئمة الثلاثة فناب في الخميس وقام إماماً بمحراب جامع الزيتونة مدة، وعند وفاة الشيخ محمد البنا الخليفة بالجامع تقدم للنيابة الرسمية الشيخ صالح النيفر وعند ذلك بطلت نيابة صاحب الترجمة. (وقد عزل من خطة باش مفني يوم الاثنين الثالث من المحرم سنة ثلاث وثلاثمائة وألف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وهو شاذلي الطريقة كثير الزيارة للمغارة الشاذلية عالم فقيه، خير حسن الأخلاق مع الخصوم، سهل الجانب، يلازمه أحد شهود البلاد رجل يقال له محمد العرفاوي الجريدي ولربما اعتمد على مراجعته اامسائل الفقهية ووثق به في شهادة السر وغيرها. ولوع بمطالعة كتب الأحكام وكتب عدة رسائل في تحرير مسائل خلافية وقع له فيها النزاع مع الشيوخ (قرظ أكثرها الشيخ أحمد كريم بما أثبته في ديوان شعره) وله نثر وشعر من عنوانه ما كتبه تقريظاً لكتاب تعليم القاري في التجويد تأليف الماجد إمام سراية باردو وابن إمامها الشيخ محمد بن أحمد بن شيخ الإسلام محمد البارودي وهذا نصه: الحمد لله رب العالمين والصلاو والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فلما تأملت هذه الرسالة المرسومة بتعليم القاري وجدتها كتاباً وغيثاً نافعاً ودرة فاخرة وروضة زاهرة تشهد لمنشئتها بالعرفان وأنه من فرسان هذا الميدان ولحسن ألفاظها ومعانيها تستحق أن يقول ناظرها فيها. [الطويل] لقد جمعت وصف الحروف وبنيت ... مخارجها كل البيان ووضحت وزادت على هذا من العلم جملة ... لمن يقرأ القرآن حقاً تعينت قاله وكتبه الفقير إلى ربه محمد الشاذلي بن صالح أصلح الله حال الجميع آمين في قعدة الحرام من عام 1293 ثلاثة وتسعين ومائتين وألف، وقد قرأته عليه نبذه من شرح المكودي على الألفية ابتدأه غرة رجب الأصب سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف، وقرأت علليه بعد ذلك نبذة من شرح التاودي على تحفة ابن عاصم وكان يومئذ بصدد تحرير حاشية على الشرح المذكور جزاه عنا أحسن الجزاء آمين. (وقد أجرت له الدولة بعد تأخره عن الخطة مرتباً عمرياً لجلوسه للتدريس وولي وكالة الشيخ سيدي أبي سعيد الباجي عند وفاة الشيخ محمد الشريف. وأقام في جبل المنار وكان به مرض الحصا فاشتد به إلى أن توفي بجبل المنار يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة 1308 ثمان وثلاثمائة وألف وقد ناهز التسعين في عمره وكان أجاز لي بإجازة اتصلت بثبت الشيخ عبد القادر الفاسي وهي ... ) . ً42 الشيخ علي العفيف هو الشيخ أبو الحسن علي بن القاسم بن أحمد بن علي بن محمد شعبان العفيفي التبرسقي، ومن ذرية الشيخ العفيف الغساني رضي الله عنه. قدموالده الشيخ القاسم من بلد تبرسق في طلب العلم، فأخذ عن أعلام عصره منهم الشيخ صالح الكواش والشيخ حسن الشريف وغيرهما، وامتلأ معقولاً ومنقولاً وتصدى للإقراء بجامع الزيتونة فأقرأ كثيراً وأكثر دروسه في الفقه وكان عالماً فاضلاً عابداً متواضعاً عزيز النفس وقوراً إلى أن توفي أواخر ذي الحجة الحرام سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف. ونشأ ولده من بعده في طلب العلم فقرأ مبادئ النحو على الشيخ محمد المشاط والشيخ فرج التميمي، وقرأ أيضاً النحو والبيان على الشيخ أحمد الأبي والشيخ محمد معاوية، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر الكفاية على الرسالة، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة الدرة، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة المكودي والأشموني على الألفية والمحلي، وقرأ على الشيخ محمد المناعي قطعة من شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي الدرة ومختصر السعد وصحيح البخاري وتفسير القاضي البيضاوي. وتصدّى للتدريس واجتمعت عليه جموع المستفيدين وتقدم مدرساً في الرتبة الأولى عند وضع الترتيب الأحمدي بجامع الزيتونة في شهر رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف، فواظب وأفاد وأبدع في تحرير المسائل وأجاد وختم به كثيراً من مهمات الكتب المتداولة للإقراء بجامع الزيتونة في معقول العلوم ومنقولها. ولما ختم مختصر السعد مدحه تلميذه الشيخ أحمد بن محمد بن الخوجة شيخ الإسلام بقوله: [الطويل] إليك فإن العذل ليس بناجعِ ... وقد صم عن قول العذول مسامعي ملامك أهل الحب حول قلوبهم ... وحبّهمُ في القلب أرتع راتعِ تروم ارعواءً عن هوى من جفونها ... فعنَّ بقلبي مثل فعل الضرائعِ فتاة متى تنطق تخال حديثها ... عقود لآلي في نحور المسامعِ فتاة إذا تمشي تخال قوامها ... ترنح فضبان الغصون اليرانعِ لها بشر مثل الحرير تخاله ... من اللين والإشراق أنور مائعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وهب أنها بالسحر أبلتْ محبَّها ... ومزقت الأحشاء تمزيق باضعِ أليس لكل العاشقين توجع ... وتقطيع أكباد وهطل مدامعِ على تلك التي إن مت من طول هجرها ... حييت بكتب من تحارير بارعِ هو العالم الكشاف عن كل غمة ... هو الجحفل النحرير باني المصانعِ تلذذ إذا أنصت صفو علومه ... تلذذ صب بالحمام السواجعِ كأنَّ تقارير العفيف جواهر ... وأصدافها السُّماع أهل المناصعِ إذا مشكل أدجى وأظلم ليله ... بدا رأيه مثل البروق اللوامعِ بدا مثل بدر أذهب الحندس الذي ... تجاريه شهبٌ للعقول السواطعِ سمي تحلّى بالمكارم والعُلا ... إلى طرق الخيرات خير مسارعِ علي عفيف بالفخار مسربلٌ ... تقي نقي العرض عذب المشارعِ وأنت الذي للعز سهّد جفنه ... وأرقه من نائم الطرف هاجعِ وأين الذي يرضيه وطء بسيطه ... ومن ذا الذي يرضيه وهمُ المطالعِ أرى كل طود للمكارم جامع ... وأنت من الأطواد (جمع الجوامعِ) وتقدم لخطة قضاء المحلة المنصورة في أواخر رجب الأصب سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف فسافر مع الأخوين المشيرين الثاني والثالث وكانا يشكران منه حسن المعاشرة، ثم تقدم لخطة الإفتاء فصار مفتياً خامساً يوم الأحد الخامس عشر من شعبان الأكرم سنة 1277 سبع وسبعين، وافتصر على خطته بحيث أنه لم يقضِ بين اثنتين وكان عالماً ثبتاً فاضلاً تقياً حسن الإلقاء بعيداً عن التكلف، محافظاً على مروءته، لم يطرق الأبواب ولم يقم في بيته على السائليلن حجاب، كثير الأاة والترنم حتى في تلاوته وإقرائه، كامل العفة ونظافة الثياب لم يتزوج قط، تقدم لمشيخ ة المدرسة المنتصرية بعد أن هاجر شيخنا الشيخ الحاج عبد الله الدراجي إلى المدينة المنورة وحضر الأمير في أختامه ولم يتصنّع فيها البتة، ومع ذلك كانت أختامع محررة تقع فيها المباحثات من الحاضرين متخلقاً بأخلاق الصالحين من القناعة مع سعة ذات يده، خرج من بيته في اشتداد القيظ فنادى على تابع له وأيقظه من نومه وأمره برفع ما توسده فإذا تحته حية عظيمة فقتلها ورجع إلىبيته. وصدر له الإذن أولاً بالنيابة عن أيمة جامع الزيتونة عند تعذرهم ثم تقدم عليه وعلى من قبله إماماً ثالثاً الشيخ صالح النيفر ثم قدمه المشير محمد الصادق باشا باي إماماً ثالثاً في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف، ثم قدمه جليفة للشيخ محمد الشريف أواخر ذي القعدة سنة 1290 تسعين ومائتين وألف فزان المحراب والمنبر بحسن تلاوته وتأثير مواعظه التي تخشع بسماعها القلوب وكان مع ذلك إماماً بجامع الزيتونة الأصغر خارج باب البحر يقيم به الجمعة والعيدين. ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ الطاهر ابن عاشور صار مفتياً ثالثاً، ولما توفي الشيخ صالح النيفر بعد تقدمه للرئاسة صار مفتياً ثانياً. وكان مع خططه المذكورة مواظباً على التدريس لا يتخلف عن دروسه إلا بالمانع الأكيد وقد قرأ كتباً كثيرة وانتفع به خلق عظيم، ومع كثرة دروسه لم يسمح لي الوقت بأخذ كثير عنه وإنما قرأت عليه نبذة من آخر الشفا للقاضي عياض وحضرت ختمه ونبذة من أول صحيح مسلم في مدة راحة المصيف وحضرت أختامه بالمدرسة. ولم يزل على كما للاته ثنيان الفتوى والإمامة إلى أن توفي في الثاني والعشرين من جمادى الثانية سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف، ودفن بالزلاج عليه رحمة الله وقد رثاه العالم الشاعر الشيخ سالم بوحاجب بقوله: [الكامل] بتسابقي ذي الدار هل من دارِ ... إن المنيَّة غايةُ المضمارِ وفي الترتيب السبق لقاء مح ... توم الردى بالبدء بالأخبارِ مثل الذي قد صار هذا الرمس من ... بركاته متيم الزوارِ الفاضل الحبر الهمام المرتضى ... بتقى وعلم منبر الأبرارِ ذو همة أضحى اسمه وصفاته ... وكست معارفه برود وقارِ ونزاهة قد صدّقت تلقيبه ... باسم العفيف جماع كل فخارِ لله دوحة علمه كم أثمرت ... نفع الورى كل على مقدارِ وفروعها دوحاً غدت وتفرعت ... منها فروعٌ جمة الأثمارِ أبمثل هذا مات لا بل إنما ... غابت مشاهده عن الأبصارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ومضى إلى دار الكرامة معقباً ... مجرى الأجور (فنعم عقبى الدارِ) قد كان ما يرجوه في تاريخه ... (ساق العفيف إلأى أعز قرارِ) 43 الشيخ صالح النيفر تقدم استيفاء ترجمته في الأيمة وقد تقدم لحظة الفتيا في غرة صفر الخير سنة 1280 ثمانين وألف فولي مفتياً سادساً، ولما توفس محمد البنا صار مفتاً خامساً، ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ أحمد بن حسين تقدم للرئاسة على من قبله ولازمها إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. 44 الشيخ محمد الشاهد هو شيخنا أبو عبد الله محمد ويدعى حمدة بن محمد بن عثمان بن عمر بن سلامة شهر الشاهد من ذرية الولي الثالح الشيخ سيدي عمر الكناني دفين ضواحي القيروان رضي الله عنه، وكان انتقال آبائه من القيروان في إحدى الفتن إلى تبرسق فنزلوها وتناسلوا بها وكان لعمر بن سلامة المذكور ولدان وهما علي وعثمان، أما علي فكان عالماً ليلاً واي خطة القضاء بتبرسق وأما عثمان فكان عدلاً ثقة وفيه صلاح تقلد خطة العدالة ولم يشهد نحو الأربعين سنة ويقال إنه طولب لخطة القضاء بعد وفاة أخيه فلم يجب وارتجل إلى تونس وتوفي بها وترك ولده محمد بفتح أوله في إبان بلوغه فقرأ على الشيخ محمد الشحمي وغيره وتقدم الإشهاد وعاش نحو التسعين سنة وتوفي عام 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف. وقد ولد ولده صاحب الترجمة نحو سنة 1220 عشرين ومائتين وألف وقرأ القرآن العظيم باعتناء والده، ونشأ نشأة صالحة فأخذ في قراءة العلم سنة 1236 ست وثلاثين وجود القرآن العظيم بروايات ست إلى أن ختم البقرة على الشيخ محمد المشاط، وقرأ عليه شرح الشيخ خالد على الآجرومية، وقرأ على الشيخ محمد الخضار قطعاً من سيدي خالد والقطر والفاكهي والقاضي علي الخزرجية، وقرأ على الشيخ فرج التميمي قطعة من المكودي، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر نبذة من المختصر الخيلي، وقرأ على الشيخ أحمد زروق شرح القاضي علي إيساغوجي، وقرأ على الشيخ أحمد بن حسين قطعة من الخبيصي، وقرأ على الشيخ محمد بن معاوية نبذة من القطر ونبذة من الشذور، وقرأ على الشيخمحمد بن ملوكة شرح الدرة للمص وشرحه عليها والسلم والألفية، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة مختصر السعد، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي الفاكهي والأشموني والأربعين النووية، وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث شرح العصام على السمرقندية ومختصر السعد، وقرأ على جدي الشيخ محمد السنوسي الخرشي على المختصر الخليلي من البيوع، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي قطعة من آخر المكودي وشرح الشيخ قدورة على السلم ومختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد المناعي نبذة من شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ نبذة منه على الشيخ إسماعيل التميمي. وتصدى للتدريس بغاية المواظبة والاعتناء بتحرير المسائل وتقدم مدرساً في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي في رمضان المعظم سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف، ثم تقدم للإمامة بجامع الهواء ومشيخة المدرسة التوفيقية بعد تنقل الشيخ أحمد بن حسين لخطبة جامع أبي محمد عند وفاة الشيخ علي الرياحي فزان الجامع بخطبه وأختامه الرائقة مع مواظبته على التدريس بجامع الزيتونة ختم بها كتباً كثيرة. وتقدم مفتياً سادساً في ثالث ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف. وهو عالم محصل دراكة في المعقول والمنقول، كان يقرئ المطول بالمدرسة الشماعية ويحضر دروسه كثير من أعيان العلماء وهو يقرئ كل يوم من المطول وحواشي السيد والسيلكوتي عدة ورقات يستمر في إلقائها من الضحى إلى قرب الزوال مع غاية الإفصاح والإلمام بما احتوت عليه من دقائق الأنظار وحل المشكلات وقد كان بعض النقادة من تلامذته يورد عليه البحث المتعلق بكلام السلكوتي فيطرق مفكراً ثم يأتي بالعجب العجاب وناهيك به من قدوة فاضل حسن الأخلاق بعيد عن التصنّع معدود من بركة السلف الصالح حسن النية يسكن بربض سيدي منصور ويحضر جامع الزيتونة كل يوم راجلاً لا يتكلف شيئاً في سيرته ومعاملته مواظب على الإقراء أخذ عنه كثيرون، درسه سهل المأخذ حسن العبارة لا يخرج في درسه عن محل الحاجة إلا بما لابد منه وقد قرأت عليه قطعة من أول شرح الشبرخيتي على الأربعين النووية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ولما توفي الشيخ البنا صار مفتياً خامساً، ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ صالح النيفر صار مفتياً ثالثاً، لوما توفي الشيخ علي العفيف قدمه الأمير مفتياً ثانياً. ولم يزل سالكاً حالته في الاجتهاد في التدريس اليومي حتى تخرج عليه كثير من فحول جامع الزيتونة وتيسر له بمواظبته وحسن تضلعه في الصناعة أن ختم كثيراً من مهمات الكتب المتداولة الإقراء بالجامع حيث إنه لا يشغل درسه بشيء من فراغ المباحث اللفظية، وجميع درسه تحقيقات علمية مع الأخذ بمجامع الكلام فيجمعه في قالب سهل التناول، لكل سامع مع كثرة ما يقريه من المسائل وفي سنة 1279 تسع وسبعين ختم شرح الأشموني على الألفية وما هو بأول أختام هذا الكتاب ومدحه عند ذلك تلميذه المدرس الشيخ محمد بن مصطفى بيرم بقوله: [الطويل] فمثلك أفق العلم أضحى منجملً ... وباهى بك بدراً منيراً إذا سما وتوج هامَ المجد منك مفاخرٌ ... ترَّقى بها في العاليات معظَّما وقلد جيدَ الفخر منك لآلئٌ ... على سمطها تبدي بهاءً منظما وملء صدور الفضل منك جلالة ... فلله يوماً كنت فيه المقدما به أقبلت بشرى الهنا بمحمد ... لعرش المعالي إذ له قد تسلما فأصبح يشدو أنه نال ما بدا ... بليغاً فصيحاً كاملاً ومفخما بيان المعالي سلسل من رحيقه ... يسوغ لذيذاً رشفه ومُنعِّما تفرس فيهالدهر أنه عالم ... فميزه بالشاهد الفذ إذ طما رياض التقى كانت عليه مهابة ... تجلى بها في موكب قد تسنما يحاكي ضياء الشمس إشراقُ نوره ... ويربو على الأعياد بشرى وموسما ويبدي ويعلي في سماء مهابه ... من المكر والإنجاب شهبا وأنجما فوافيت ختم المزج فيه إبانهً ... وأوليت من إبداع كشفه الغمّا بقيت تظل الروض من علم مانح ... يفيض المزايا من بحار تكرما ودم وابقَ واعزز واتقي ورق وقل ... وحل واسعد وامنح وزد وانح واسلما؟ وقد توفي على خطة الإفتاء بعد زوال يوم ال؟ أربعاء الرابع من ذي القعدة سنة 1311 إحدى عشرة وثلاثمائة وألف ودفن يوم الخميس بالزلاج عليه رحمة الله. 45 الشيخ محمود قابادو هو شيخنا أبو الثناء محمود بن علي بن محمد قابادو الشريف، أصلهم من صفاقس وأهل بيته من أرباب صنائع عمل الأيدي وقد تنقلوا إلى تونس وبها ولد صاحب الترجمة سنة جمس وثلاثين ومائتين وألف وأرخ ولادته بقوله (ولد الشيخ الأكبر) يعني الشيخ محيي الدين لما له من الولع بحبه والتعلق به. وقد نشأ نشأة صالحة فلاحت عليه مخائل البراءة في صغره فقرأ مبادئ النحو ثم تعاطى الأسماء والأذكار، وتشوق إلى مراقي الأسرار، وساح بالتعرف إلى العزيز الجبار. وارتحل إلى طرابلس في أخذ المدد من الطريقة المدنية وكان يعتريه الحال فيجد على لسانه أشعاراً رائقة فيأخذ في كتابتها في ظلمة الليل الداجي فيجد النور يضيء على قلمه فيكتب ما شاء. وكان شيخه ينهاه كثيراً عن ارتكاب مثل ذلك فلم يكن منه إلا التمادي حتى انقشع عنه سحاب تلك الحال، وعاد إلى تونس ثابتاً محنكاً بالفصاحة. فتعاطى التدريس والمطالعة ويقال إنه في أثناء ذلك قرأ على الشيخ محمد معاوية والشيخ أحمد بن الطاهر وعلى ثبوت ذلك فإن العلم الذي ظهر عليه أعظم من ذلك بكثير ولا طريق له إلا الفتح الإلهي فقد ظهرت عليه علوم شتى أعظمها علم القوم، فكان فيه المفرد العلم، العارف بأذواقهم وأفهامهم. وأما الفصاحة والبلاغة ونظم الشعر الذي لم ينسج على منواله سابق فتلك رتبة يدركها كل مطالع لديوان شعه الذي جمعته له بعد وفاته وتيسر بعون الله طبعه في جزأين وقرظه جميع أدباء الحاضرة وكثير من أدباء الجهات الشاسعو حتى بلغت تقاريظه ما يصلح أن يكون كتاباً من الشعر والنثر. وقد كتبت على ظهره قولي: [الكامل] هذا الذي نظمت به الآباد ... عقداً به تتفاخر الأجيادُ تنسي محاسنه القلائد والمخا ... ني إن زها بنظامه الإنشادُ فيريك (نفح الطيب) مع زهر الريا ... ض بزهرِ أفق بلاغة تنقادُ جمع المحاسن زهرها والزهر في ... ديوان شعر أبي الثناء قابادو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وأعجب العجاب في آدابه قصيدته القريبة التي سماها "سوق أساطيل البوارج لعوق أباطيل الخوارج" تهنئة للسلطان عبد المجيد خان لما أراد الخوارج أن يوقعوا به وأنجاه الله من مكرهم وهي تحتوي على تواريخ لا يحصي عددها إلا الله ولغرابة أمرها رأيت أن أثبتها هنا مع بعض شروح الناظم عليها وهي قوله: [الخفيف] خيرُ حامٍ مجدٍ مجيرِ العبيدِ ... حاطَ خيراً مجرىً لعبدِ المجيدِ حاطهُ عن عثارِ جعدٍ برجفٍ ... منتجٍ جحدَ عُرفِ ربقِ العهودِ آلُ عثمانَكفلُ رهجٍ برجم ... جبروا الأطمَ ثلمَ رجفٍ عنودِ فرعُ إرثٍ سما وجلَّ بنجلٍ ... فرع النسرَ رجثَّ بأسٍ وجودِ سابَ رجواً فقصَّرتْ عنْ جداهُ ... رجفُ سحبٍ قد روعتْ منْ جمودِ فجعتْ بانسجامِ زكمِ قراهُ ... وانسجامِ رجفٍ بثكلٍ رعودِ يا ثمالَ رجعٍ بنجوى نصيرٍ ... لصريعٍ برِثد مجنىً نجيدِ نصرُ جفٍّ جمٍّ وإعتاقُ ربلٍ ... بل ثمالٌ نسرٌ لرجفِ الوجودِ عضمُ جارٍ يثني الجريَّ به نا ... جي الثُّريا نصراً بديعً الجنودِ حيثُ نارً البرجيس للأوجِ عيناً ... حيثُ سعداً جرى بنصرٍ نجيدِ فقتَ نجرا أمْ أصَّل المجدَ برٌّ ... رمتَ للبجلِ نجر صدقِ فرودِ فنجومٌ راقتْ صعودكِ رجباً ... فرقتْ منك أوج برجِ السُّعودِ آثلوا المجدَ منْ فروعٍ بحجرٍ ... منجحاً برهَ جدلٍ عرفٍ ثعودِ ماثلوا نجرهمْ بأرفعِ مجدٍ ... أثملوا نجرَ عرفهمْ بالجدودِ مثلهمْ منْ أبار ملجورِ رجفاً ... لاث عجراً فجوسِ نكبٍ مرودِ فأجار آلعثار مسبلَ نجدٍ ... فارعاً بصلادِ ثجرِ النُّجودِ جلَّلوا النَّفرَ لبسَ رجو وثالوا ... سبرَ جودٍ من حفلِ ثجمٍ مرودِ فثرانا مسجولُ برٍّ بجملٍ ... ثرُّ سجمٍ لنفحِ سجلٍ برودِ ناصرو الحقِّ كبتُ عجوٍ ورجفٍ ... باكتوا الفجرِ صدقُ رهنِ المجودِ أمَّنوا الجمعَ حربَ رجفٍ قتامٍ ... أرجفوا أمن جمعِ لبثِ الحرودِ آثروا البرَّ عنْ جفالٍ وصدٍّ ... منْ جفاءٍ جسوسِ ثربٍ سرودِ بعثَ الفجرَ للأراجسِ نوحاً ... جاسراً لثلبِ مرجفاً للنهودِ كم فجورٍ من الرجاسِ بمقتٍ ... رام ثلباً نجهاً لرجفٍ صلودِ نال بالسفهِ إثم أرجاس حجرٍ ... بل أجوراً كنفعِ رجسِ ثمودِ جرع الرعبَ منه جحفٌ وحثٌ ... زادعٌ عنفَ حجدِ ربثِ المجودِ حدثٌ رجفِ بحلمِ إعناجِ روعٍ ... عبرُ مسراه فحثُ حجنِ الهجودِ فسقُ جورٍ لعدسِ جبتٍ أرنوا ... فارقوا نسلَ كعبةٍ مرجِ جودِ عينُ نبثٍ جرى لحجرٍ عسيٍّ ... ريثَ سجؤِ قد موسِ سبيٍ جديدِ قد جروا وعراً فمنبتُّ جمعٍ ... هم بنجفٍ لحرجٍ رعثِ آلمرودِ من ثنى الجيدَ عمدَ طيرٍ برجمٍ ... يرمَ حجراً من ثني عبد المجيدِ قد جنوا بالرجوسِمرسلَ شفقٍ ... موجساً جبنَ صفقِ شرِّ الرقودِ (ثمرُ الجفوِ بعدَ مجناهُ مرّاً ... منْ فجورٍ عاثٍ مرابعَ جودِ عثرٌ منْ عنى بمجرىً مميح ... هاجَ حينٌ منْ عثرِ مجرىً بعيدِ أين يجري بالنَّكثِ عمهُ جعارٍ ... يعجبُ الرَّينَ نكثُ جاري العهودِ ربَّ وعِّثْ منْ راعَ مجداً جفاهُ ... وانصرِ المجدَ واطفِ ربثَ جمودِ ربِّ وارفعْ منجا مؤثَّلِ مجدِ ... رفعَ ربوٍ ما جمَّ منثالُ جودِ أنهى هذه الأعجوية المفتتحة بالخير المختتمة بالجود راقماً بردها ببنانه، ملحمة ومسديه بجنانه، الحقير الضعيف، محمود التونسي الشريف خادم العلوم بخضراء تونس في 29 أول جمادى عام 1279 أحسن الله ختامه داعياً حامداً مصلياً مسلماً. ثم قال الناظم المقدم ذكره هذه القصيدة مولدة من الأم السالفة من كل بيت منها مصراع كما أشير إليه بالحبر الأحمر وهي مثل الأم في كون كل مصرالع منها تاريخاً والمهمل والمعجم إلى آخر ما نشير إليه. [الخفيف] خيرُ حامٍ مجير عبد المجيدِ ... عن عثارٍ برجفِ جحدِ عهودِ آل عثمانَ كلهم جبرُ رجفٍ ... فرعُ إرثٍ لنسج بأسٍ وجودِ قصَّرتْ عن جداهُ رجَّفُ سحبٍ ... بانسجامٍ ورجفِ ثكلِ رعودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 يا ثمالَ نجوىَ صريعٍ برجسٍ ... نصرُ جفٍّ ربلٍ ثمالُ الوجودِ عصمُ جارٍ ناجى الثريا بدينٍ ... حيثُ نار البرجيسُ سعدُ نجيدِ فقتَ نجراً أمَّا المجلُّ بصدرٍ ... فنجومٌ راقتكً برجَ السُّعودِ آثلوا المجدَ منجحاً بره عرفٍ ... ماثلوا رفعَ نجرهمْ بالجدودِ مثلهمْ منْ أبادَ عجراً فجورٍ ... فأجارَ عثراً بصلدِ النُّجودِ جلَّلوا النَّفرَ سبرَ جودٍ ملثٍّ ... فثرانا مسجولُ سجلٍ برودِ ناصرو الحقِّ باكتو الفجرِ مجدٌ ... أمَّنوا الجمعَ رجفَ بثِّ الحرودِ آثروا البّر عن جفاءٍ جسوسٍ ... بعثَ الفجرَ جاسراً للنُّهودِ كمْ فجورٍ منجَّسٍ رامَ ثلباً ... نالَ بالسفه أجرَ رجس ثمودِ جرِّع الرُّعبَ منْ هجودٍ فحدثْ ... حدث رجفٍ بمنعِ مسراً هجودِ فسقُ جورٍ أرنوا لكعبةِ مجدٍ ... عينَ نبتٍ لرعيِ رجسٍ جديدِ قدْ رمتْ جمعهمْ بنفلِ حجارٍ ... طيرُ رجمٍ من ثنيِ عبدِ المجيدِ قدْ جنوا بالرجوس مصفقَ شرٍّ ... ثمرَ الجفوِ منْ مرابعِ جودِ عثرٌ منْ جنى بمرمى جحيمٍ ... أين يجري بالعرحِ نكثُ العهودِ ربِّ وعِّثْ منْ رامَ جفواً لمجدٍ ... ربِّ أفعمْ مروجَ منثالِ جودِ أتمها مؤلفها اغتناماً لفرصة الاستبداد بهذه الخدمة معتذراً عن رداءة خطه بأنه لم يتقدم له كتابة بهذا القلم قبل هاته وكانت كتابته مجرد محاكاة إذ خطه الذي اعتاده مغربي لا يجانس الخطوط المشرقية على اختلافها ومع غاية من الاستعجال والله ولي التوفيق بمنه. ثم قال الناظم المذكور الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اعلم أن هاته القصيدة عدد أبياتها ستة وثلاثون بيتاً تحتوي على اثنين وسبعين مصراعاً، وكل بيت ينقسم بالحروف الحمر والسود إلى نصفين فتكون اثنين وسبعين أيضاً، ويكون الجميع مائة وأربعة وأربعين، ثم إن كل نصف أحمر هو مصراع من وزن القصيدة وهو مع ما يليه بيت على رويها ثم إن كل نصف وكل مصراع إذا جمع عدد حروفه بحساب الجمل كان موافقاً للتاريخ الهجري لعامنا 1276، ومعجم كل مصراع وكل نصف من معجم ما عداه من الأنصاف والمصاريع ومن مهمل كل منها أيضاً تاريخ. وكذا مهمل كل مصراع وكل نصف مع كل من مهمل ومعجم ما عداه، ثم إن الأنصاف الحمر تلتئم منها قصيدة من الوزن والروي كما أشير إليه وقد عبرنا عنها بالمولدة وكتبناها بالأحمر إثر الأم ثم لا يخفى أن لمصاريعهما اعتباراً من حيث إنها بعض من أبيات القصيدة الأولى المعبر عنه بالأم واعتباراً من حيث استقلالها وهي بالاعتبار الثاني مغايرة لنفسها بالاعتبار الأول وبه ينبغي أن تضاف عدة مصاريعها إلى مصاريع الأم وأنصافها فيكون جميع مصاريع كليهما مع أنصاف الأم التي هي الأحمر والأسود مائة وثمانين، كل واحد منها تاريخ ومعجمه مع معجم ما عداه ومع مهمل ما عداه أيضاً تاريخ، وكذلك مهمله مع المهمل ومع المعجم أيضاً من جميع ما عداه فيكون عدة التواريخ المستخرجة بهذا الوجه من القصيدة هو ما يجتمع من جميع الأعداد المتوالية من الواحد إلى مائة وتسعة وسبعين وهذا بمعجم كل مصراع وكل نصف مع مهمل ما عداه ومثلها بمعجم كل مع معجم ما عداه ومثلها بمهمل كل مع معجم ما عداه، ومثلها بمهمل كل مع مهمل ما عداه، فيكون عدة ما يخرج من التواريخ بهذا الوجه هو ما يحصل من جمع الأعداد المتوالية من واحد من التواريخ بهذا الوجه هو ما يحصل من جمع الأعداد المتوالية من واحد إلى مائة وتسعة وسبعين مضروباً في أربعة وذلك 74440 وأما كل بيت من الأم في خويصة نفسه فيخرج منه بهذا الوجه أربعة وعشرون تاريخاً هي: مهمل المصراع الأول مع مهمل الثاني ومهمل الثاني مع مهمل الأحمر ومهمل الأول مع مهمل الأحمر ومهمل الثاني مع معجم الأحمر ومهمل الأول مع مهمل الأحمر ومهمل الثاني مع مهمل الأسود ومهمل الأول مع معجم الأحمر ومهمل الثاني مع معجم الأسود ومهمل الأول مع مهمل الأسود ومهمل الثاني مع مهمل الأحمر ومهمل الأول مع معجم الأسود ومعجم الثاني مع معجم الأحمر ومهمل الأول مع مهمل الثاني ومعجم الثاني مع مهمل الأسود ومعجم الأول مع مهمل الثاني ومعجم الثاني مع مهمل الأسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ومعجم الأول مع معجم الثاني ومعجم الثاني مع معجم الأسود ومعجم الأول مع مهمل الأسود ومهمل الأحمر مع مهمل الأسود ومعجم الأول مع مهمل الأحمر ومعجم الأحمر مع مهمل الأسود ومعجم الأول مع معجم الأحمر ومعجم الأحمر مع معجم الأسود فإذا ضم إليها تاريخ من المصراع الأول بمعجمه ومهمله وتاريخ من المصراع الثاني كذلك وتاريخ من الأسود كذلك وتاريخ من الأحمر كذلك كان في كل بيت ثمانية عشرون تاريخاً (هذا محل الحاشية الأولى الآتي ذكرها) . ثم أقول ومن إبداعات هاته القصيدة التزام حروف بأعيانها في المصاريع والأحمر والأسود، والتزام أصول سبعة يتركب منها كل نصف ومصراع بحيث يخرج بها من التواريخ من كل بيت ألوف، غير أنه لم يسعنا الحال لبيانها والقصيدة بعد مفتقرة لشرح يبين معانيها وما احتوت عليه من الزايا التاريخية وسنشرع فيه مستعينين بالله ثم نوجهه للحضرة العلية بعد الإتمام إن شاء الله. قاله وكتبه عبد ربه راجي عفوه عن ذنبه محمود الشريف لطف الله به آمين. الحاشية الأولى حصل ثمانية عشرون تاريخاً من كل بيت من الأم، ولا يخفى أنها داخلة في وجه الاستخراج من جميع المواقع السالف تحريره، عدا التواريخ الأربعة الأخيرة من كل بيت، فإنها لم تدخل في ذلك الوجه كما لا يخفى. هذا وأقول إن لهذا الوجه أسهل وجوه الاستخراج من هذه القصيدة، وهناك وجوه أخرى يخرج بها من التواريخ ما يستغرق العد، غير أنها مفتقرة إلى باعٍ في علم العدد مديد، وفكر حديد، ولنشير إلى واحد. يخرج به من البيت الواحد من الأم في خويصة نفسه، ثلاثة عشر ألفاً وثمانمائة وسبعة وعشرون تاريخاً 13827، لا تداخل بينها وبين ما يخرج بالوجه السالف، ويخرج به من كامل القصيدة ألوف ألوف، ألوف، ألوف، الألوف، مكررة الإضافة خمس مرات، ويزيد عدد التواريخ على ما يحصل من تضعيف رقعة الشطرنج وتمهد الإشارة إليه مقدمة، وهي أن جميع أوجه التاريخ التي اعتبرناها في هذه القصيدة، تستخرج بطريق التركيب، وجميع الأعداد التي لا نسبة بينها وهي مبنية بأسرها على قاعدة اختلاف المركب باختلاف أحد أجزائه كانعدامه بانعدامه، إذا علمت هذا: فاعلم أن كل موقع من المواقع المشار إليها آنفاً، مركب من سبعة أصول، عدا طالع الأم بمواقعه الأربعة والمصراع الأول من المولدة، فإنها مركبة من ستة فقط. الأصل الأول: آحاد المعجم وهي ثمانية في جميع المواقع المائة والخمسة السبعين. الأصل الثاني: منحط عشرات المعجم ونعني بالمنحط ما لا يتجاوز من الأعداد المجموعة مرتبة، وبالمرفوع ما يرتفع من مرتبته إلى ما بعدها: وذلك المنحط ثلاثون في الجميع. الأصل الثالث: عشرات المعجم مرفوعاً وهي مائة في الجميع. الأصل الرابع: وهو المعجم وهي خمسمائة في الجميع. الأصل الخامس: آحاد المهمل منحطاً وهي ثمانية في الجميع. الأصل السادس: آحاد المهمل مرفوعاً مع عشراته، منحطاً ومرفوعاً، وهي مائتان وثلاثون في الجميع. الأصل السابع: آحاد مئو المهمل وهي أربعمائة في الجميع. وأنت إذا جمعت هاته الأصول السبعة وجدتها اثنتي عشر وستة وسبعين، وتبين لك تركب التاريخ منها، فإذا أردت أن تستخرج بها عدة ما يمكن من التواريخ في البيت الواحد بمفرده، فإنك تركب تلك الأصول السبعة بحسب المواقع الأربعة، ولنلمع إلى كيفيتها. الحاشية الثانية يحصل 1044 ثم تأخذ واحداً من الخمسة، وله صور من مائة وثلاثة وسبعين موقعاً يحصل 865 ثم تأخذ واحداً من الأربعة من 172 موقعاً يحصل 688 ثم واحداً من الثلاثة وله ثلاث صور من 171 موقعاً يحصل (513، ثم واحداً من الاثنين بصورتين من 170 موقعاً يحصل) 340 ثم الواحد المتمم من 169 فإذا ضربت الحواصل في بعضها حصل لك جميع التراكيب السباعية التاريخية. 566788420673280000 وذلك. 048461546048288000 ويحصل من التركيب السداسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وتتم على هذا الأسلوب في التركيب، الخماسي، والرباعي، غير أنها تفتقر إلى مزيد علم بالحساب، وفطنة لشعب الصور، وقد بلغني عن بعض الحيسوبيين من الفرنج أنه لما بلغه أني نظمت هذه القصيدة، وذكر له نزراً مما يسترج منها من التواريخ أنكر على الناقل له ذلك أفظع إنكار، ورأى أن ذلك في حيز المستحيلات، ولتكونن هاته القصيدة بحول الله شجى في حلوقهم وفخراً لكافة المؤمنين. واعلم أنها مفتقرة إلى شرح يحل معانيها، ويبين ما روعي في أبياتها من الشروط وما ينشأ عنها من التواريخ فإن الذي أشرنا إليه نزر من بحر، وسنشرع فيه بحول الله بعد وقوعها موقع الارتضاء من حضرة وليها خلد الله سلطانه. واعلم أن نصف المعجم ما يخرج بالوجه الأول يدخل ما يخرج بهذا الوجه فيستقل ذلك الوجه بنصف ما يخرج به فهو لا يخرج بهذا الوجه الأخير، وهناك وجوه أخر كل منها يستقل بألوف ألوف متكاثرة، مبنية على شروط أخر، روعيت في الأبيات جمعاً وفرادى، لا يمكن لنا الآن الإشارة إليها، وإن تيسر الشرح، رأى ناظره العجب العجاب، بإعانة الله سبحانه. كتبه منشئه حامداً مصلياً مسلماً الحاشية الثالثة يحصل صور من مائة وأربعة وسبعين موقعاً 1225 ثم تأخذ واحداً من الستة الباقية وله ستة ولك فيه سبع صور من المواقع المائة والخمسة والسبعين، التركيب السباعي، فنقول هو أن تأخذ واحداً من الأصول السبعة لك التركيب الرباعي فما دونه لأن المواقع أربعة، ولنبين، والخماسي فما دونه وأما في البيت الواحد بمفرده فلا يتأتى مائة وخمسة وسبعين ويمكن لك التركيب السبعي والسداسي والاستخراج بهذا الوج من كامل القصيدة فإن المواقع تصير حينئذ فيها ببرهان، ولولا ضيق الوقت لسقتها بحذافيرها وأما يحصل لك بهذا الوجه ألوف كثيرة من البيت الواحد لا تداخل .... وثمانون ... ثم تركب بأخذ ثلاثة أصول من موقع واحد وهكذا إلىت أن الواحد والعشرين والثلاثين في ستة، وذلك ثلاثة آلاف سبعمائة، ثم تكمل الأصل السابع من الموقع الباقي فيحصل لك من التواريخ مسطح من ثلاثة الأصول الباقية، ولك فيها ثلاثة أوجه وموقعان لها بستة من الثلاثة وفيه عشرة أوجه في المواقع الثلاثة بثلاثين، ثم تأخذ اثنين ولك فيها أحد وعشرون وجهاً، ثم تأخذ اثنين من الخمسة من وقع ولك فنقول، التركيب الأول أن تأخذ اثنين من الأصول السبعة من موقع .... ومع كمال غرابة هذه القصيدة قد شذت عن ديوان شعره لأنني لم أظفر بها حين جمعي له وإنما وصلتني بسبب وذلك أنني لما أتممت طبعه وأرسلته إلى كافة الآفاق ورد إلي مكتوب من باريس كتبه الأديب النصراني رشيد الدحداح الماروني اللبناني يخاطبني فيه برسالة في متعلقات القصيدة المذكورة حيث إنها كانت من ذخائره ثم ألّلإ رسالة سماها قمطرة طوامير وأودعها نص الرسالة التي كاتبني بها بتاريخ 25 أيلول سنة 1879 لما احتوت عليه من مآثر صاحب الترجمة، ولأهمية هاته الرسالة التي خاطبني بها نوردها هنا بما احتوت عليه وهذا نصها بعد المفاتحة والتحلية والخطاب: إنني لما اطلعت على ديوان علامة مصره، ونابغة عصره، صاحب الذكاء العبقري، ومن له في كل فن زند وري، الهمام الذي بمثل بعض صنائعه، وبدون البلوغ إلى طبقة بدائعه، اشتهر رجال وسرفوا وسادوا، الشيخ الشريف محمود قابادو، ووجدته عباب فضل لأدواء الأفئدة آسيا، فأذكرني من ربه عهداً ما كنت به ناسياً، أما أنت أيها المفضال الذي اعتنى بجمع دررع، وأطلع من الحجاب متواليات غرره، وأبد لمآثره ذكراً، وأفشىمن مفاخره سراً، بعد أن كان هو الحريص2 على كتمانه، عن أهل زمانه، فإني أشهد لك بإسباغ المنة، وهذا أصدق من قوله إنه وإنه، وأما الضالة التي نشدتها، أي القصيدة التي فقدتها، فاسمها سوق اساطيل البوارج، لعوق أباطل الخوارج، مكتوب بعض حروفها بالأحمر فيخرج من تلك الحروف من كل بيت شطر فتصير قصيدة ثانية من الوزن والروي قائمة بذاتها مشتملة على ألوف التواريخ كالأصل والذي وجدتموه منها وذكرتموه في الديوان غير صحيح وهاك أولها: [الخفيف] خير حام مجد مجير العبيد ... حاط خيراً مجرى لعبد المجيد حاطه عن عثار جعدٍ برجف ... منتج جحد عرف ربق العهود فيخرج من أحمر هاذين البيتين بيت وهو: خير حام مجير عبد المجيد ... عن عثار برجف جحد العهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وهلم جر إلى آخرها. فهذه الأعجوبة السنية، التي لا تكاد أن تكون إنسية، هب ملكي وفي حوزتي أهدانيها مؤلفها بعد رجوعها إليه من الآستانة وقال لي إنه لم يمكن أحداً من نسخها وعليها له شرح وجيز لبيان وجه واحد من وجوه استخراج التواريخ منها فبقتضاه يخرج 74440 تاريخاً وقد نقلت بعض حواشي من تسويد أعارني إياه غير كامل قال فيه إنه يخرج من البيت الواحد في خويصة نفسه 13827 تاريخاً غير ما يخرج بالوجه السالف وإنه يخرج من كامل القصيدة ألوف ألوف ألوف ألوف ألوف مكررة الإضافة خمس مرات وإنه يزيد عدد التواريخ التي فيها على ما يحصل من تضعيف رقعة الشطرنج فسبحان الذي قسم رحمته بين أهل الأرض، ورفع بعضهم درجات فوق بعض. وقد اطلعت في الديوان على تصديره وتشطيره قصيدة بشر وساءني عدم ذكركم أنه مرتجل، ولعلكم ما علمتم ذلك على أن واقعى حال نظمها أعظم شأناً وأكبر قسمة لبيان طبقة ذكائه من مجرد رؤية بلاغته فيها فأنا الذي اقترح ذلك عليه وأخذه عنه، إذ وردت عليه يوماً فقلت له قد جئتك يا سيدي في حاجة، قال: على الرأس إن كانت في وسعي قلت تشطير قصيدة بشر قال: ابن عوانة، قلت: نعم، قال: طلبت هينا لكنه قد طال عهدي برؤيتها فسأبحث عنها وأشطرها لك، قلت: ها هي معي، قال: إذاً ستأخذها غداً مشطرة إن شاء الله، قلت: بل الساعة إن تكرمت، قال: الله أكبر ومن يفعل مثل هذا، قلت: أنت، قال: هذا أمر صعيب، قلت: على غيرك، قال: قريحتي والله صدية، قلت: أجلها بالنظم، قال: سأفعل الليلة، قلت: بل اليوم إن كنت عليّ من المتفضلين، قال: أنّى والأمر يبحتاج إلى التروي، قلت: افعل وأنا معك من المنتظرين، قال: لابد من توطئة قبل التشطير، قلت: هذا أحسن إحسان والله لا يضيع أجر المحسنين، قال: قد أعييتني حجة يا فلان هاتها، فتناول القصيدة ولم يقرأ غير مطلعها ثم قال: اكتب على خيرة الله، ورفع رأسه وأغمض عينيه وأخذ يملي علي التصدير وأنا أكتب حتى خيل لوهمي أنه تجرد عن العالم الجسماني وغداروحانياً يرى البعيد الغائب، لا تحجب بصيرته الحاجب، فلما تلعثم والله في بيت ولا تهمل ريثما يجد شطراً أو كلمة ولا بدأ بفقرة ثم أتى بأحسن منها ولكنه كان كمن يقرأ في صحيف6ة وكنت أنا اجهد نفسي بسرعة الكابة ولا أفوه ببنت شفة حتى لا أثبط ذلك السيل عن انهماره، ولا أقف في طريق ذلك البحر عند تدفق تياره، اللهم نعم قد وقفت مرة في المجال، والحق أحق أن يقال لأنه أملى عليَّ بيتاً غير تام الفحولة فلم أرضه له فتكلفت واستأذنت واستسمحت وما داهنت فقلت له: يا سيدي إذا كانت خزائن البلاغة في تصرفك فأعطني منها لهذا المكان بيتاً أعظم هيبةً وأكبر فخامة، فتبسّم وقال: اكتب. [الوافر] ومن هولٍ لوجبته أراني ... هدمت به بناء مشمخرّا ثم استمر يملي عليَّ حتى أتى على آخرها فبقيت مبهوتاً بين يديه ولا أجد كلاماً يفي حق الثناء عليه ثم خرجت من حضرته وأنا أمجد الله وأسبحه وأحمده وما برحت إلى الآن مذهولاً من تلك الموهبة الربانية، والمنحة الصمدانية، التي امتاز بها هذا القطب على الأبدال والنجباء والمجددين والنقباء والأعمدة والأخيار، وجميع ذوي الأسرار، فإن رأيت أني وقعت هنا في الغلط أو ارتكبت الشطط فاعذر ثم أذكر أنها قالة أديب لا عقيدة وعندي أنه إذا كان مجموع ديوانه شاهداً لدخوله في عداد الفحول من الشعراء المتقدمين ففي سوق الأساطيل وهذا الارتجال الجليل شاهدان لتفضيله على كل بليغ سابق، وأنه أقام للإعجاز حداً أمام كل لاحق، وقد رأيت من الواجب أن أورد عليكم الخبر لكي تذكروه إذا طبعتم من كلامه شيئاً آخر لعلكم تحسنون تلخيصه في الرائد وتتحفون به أصحاب نسخ الديوان وهكذا لا نكون ألتناه من عمله من شيء فإن لم يتيسر لكم ذلك فأنا سوف أؤدي شهادتي له لإيفاء حق مننه علي، وتودده إلي، عندما أطبع سوق أساطيل البوراج مع ما عندي من شرحها ولذلك ألتمس الآن من فضلكم أن تستنسخوا لي كراسة الشرح المشار إليها في الديوان وتعلموني بالمصروف لكي أبادر إلي إيصاله إليكم مع الشكر الجزيل، والثناء الجميل. استدراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يظهر لي أن من تروّى في المحاورة المذكورة في أمر التشطير لابد له من أحد أمرين، فإما أنه يتهم صدقها، أو أنه ينتقد علي عملي ويراني أبرمت الشيخ وثقلت عليه، بوقوفي لديه موقف الغريم المستقضى ديناً واجباً، فلهذا وجب أن أبيّن سبب ما فعلت، ليتحقق صدق ما نقلت، وبتقديمي هذا البرهان أكون زدت المطالع معرفة بهذا الرجل الذي كان آية من بدائه خلق الله. والحكاية هي أني وجدت يوماً في مجلس جماعة من كبراء الدولة التونسية فذكر أحدهم شدة إعجابه بقصيدة بشر ثم تلاها عليهم فتهز هوت إليها القلوب وودوا أن تكون أكثر طولاً فقال رجل منهم إن أحببتم تطويلها بما يفوق على ما سمعتم حسناً فاقترحوا على الشيخ محمود قابادو أن يشطرها لكم ففرحوا برأيه وكلفوه إلى الافتراح فاعتذر، وأشار إلى آخر، والآخر إلى غيره، وكلهم يقول لا فائدة في الطلب لأن الشيخ بخيل بجواهره، فيعد ثم يلوي ويضيع السعي سدىً، ثم إنه وقع الإجماع على أن أكون أنا السفير إليه، وقالوا كلنا يعلم ما لك عنده من العزازة، فلا شك في أن يستحي منك ويلبي دعوتك، ولكن حذار من قبول الوعد إلى غد، قلت: لابد من إمهاله ولو ليلة لمثل هذا الاقتراح، فضحكوا كلهم وقالوا: كأنك لا تعلم اقتدار صاحبنا، وأخذوا يوردون علي من إخباره ما يذهل العقل، فمن ذلك أنه كان في دعون معهم مرةً فذكروا بيتاً حماسياً لأبي الطيب والتمسوا منه أن ينظم لهم قصيدة على ذلك النمط من الغلو والإغراق بالفتوة، فأخذ ينشد حتى غادر ذلك المتنبئ وراءه بمراحل، ثم ابتدره أحدهم ببيت من تائية الفارضي، واقترح عليه النظم على نسق تلك الجناسات، فانتقل فوراً من فخامة ذلك التحمس إلى رقة ذلك النسيب، حتى أدهشهم، وقالوا: لو شاء الإنشاد يوماً كاملاً لقدر عليه لما عنده من غزارة المادة فهو بحر لا ينزح. وذكروا لي عجائب أخبار عن ذاكرته الوقادة حاصلها أنه ما قرأ شيئاً فنسيه وأن ما يقرع سماعه إعادتها عليهم ففعل، فمن ذلك ما أترك العهدة فيه على الناقل، أنه تلي عليه يوماً رسالة بالفرنساوية، فلما فرغ منها، أعاد الشيخ كلماتها مع أنه لا يعرف شيئاً من لغات الإفرنج، فلما سمعت كل ذلك توجهت إليه حازماً على الإلحاح، فكان في ما بيننا ما مر بيانه وجاء فعله بقصيدة بشر مصداقاً لما قيل لي عنه. أما حليته، فقد كان طويل القامة، مستوفي الجسامة، رقيق البشرة، أبيض مشرباً بحمرة، أدعج العينين، حسن الابتسام، عذب الألفاظ لطيف نغمة الكلام، يميل برقة لفظه إلى الإشمام، وكان سهل الجناب رقيق الحاشية أنيساً متواضعاً على أنه ما كان يحجم أحياناً عن القول أنه أعلم الناس طراً وما كان مهذاراً، ولا سريع الكلام، وكان يخيل لسامعه أن فيه سراً موجباً لتصديق ما ينطق به، ذلك لأنه ينطق متأنياً، كأن كلماته تتصعد من سويداء قلبه يرافقها أحياناً تصاعد أنفاسه، وكان يحب الوحدة كأنه غير راضٍ عن الناس، ومع علو طبقة عقله كان يظهر أحياناً ساذجاً، وما كان يسعى للدنيا ولا يحتال لطلب الوجاهة، ولذلك كان قليل النشب، تلازمه حرفة الأدب، أما علومه ففضلاً عن أنه كان الفقيه المحقق، والحافظ المدقق، واللغوي النحرير والأديب الماهر، الناظم الناثر، والمالك لزمام المعاني، والبيان والبديع، والنحو، والصرف، والعروض، لم يكن أجنبياً عن سائر العلوم كالفلك، والمساحة، والحساب، والطب، والتاريخ، واستخراج الغوامض من علوم النجوم والجفر وأشباهها، وما كان يرى من الألغاز والمعمى شيئاً، إلا وكشف عنه الغطاء فوراً، وقد توفي وما أخاله بلغ الخمسين، وإني عليه لمن الآسفين. أهـ. مكتوب رشيد الدحداح. وحيث تضمن هذا المكتوب ذكر واقعة تشطير القصيدة الغراء وتصديرها فإني أثبت ذلك هنا تزييناً لترجمته وهذا نصه: [الوافر] رنت بفواتر الأجفان سكرى ... يُخيِّل سحرهن النجب خزرا فيالك من فتون في فتور ... ومن سكر به السحر استمرا عقيلة ربربٍ جيداً وطرفا ... وخوطةُ بانةٍ قدّاً وخصرا يجول بخدها ماء وراح ... ليمتزجا فما أن يستقرّا يبيح لناظر ورداً نضيراً ... ويورد حائماً ورداً مقرّا أما وعيونها الدعج اللواتي ... أقامت للهوى العذري عذرا وخالٍ بين قوسي حاجبيها ... بحيث يكون قطب الحسن قرَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وفرع ليله فرقٌ لفرق ... به صبح الجبين أبان فجرا لقد غطت على بصري وسمعي ... بملثوم جلا حبباً ودراً فبالثغر النظيم تدير كأساً ... وبالنطق الرخيم تدير أخرى فيالك سورة أضحى فؤادي ... لصورتها هيولى ليس يعرى وكيف يُفيق من يُسقة بكأس ... يكررها التفكر مستمرّا فيا سرعان ما وطّنت نفسي ... على ما غيره بالحرّ أحرى عصيت تجملي وأطعت وجدا ... يسخرني لها سراً وجهراً ولم أعطِ الهوادة عن هوان ... ولا جزعٍ لأن حُملت إصرا ولكني خطبت ظباء أنس ... جعلت رضائهن علي مهرا (أفاطم هل علمت مضاء عزمي) ... ومطمح همتي نخواً وكبرا وجود يدي وإقدامي وبأسي ... وصدقي كلما استسهلتُ وعرا وأني لا أسامُ الدهرَ ضيماً) ... ولا أعصي لباغي العرف أمرا تلين لمن يسالمني قناتي ... (وتصلبُ إن يرم ذو الغمز هصرا) (وإني لا أعدّ الوفر ذخراً) ... ولكني أعدّ الذكر ذخرا وما كل الخلال تذاع بأواً ... (ولا كل المذاع يصح سبراً) وفي التجريب ما ينفي ارتياباً ... ويصدق سنُّ بكر منه فرَّا (أفاطم لو شهدت ببطن خبت) ... لهانت عندك الأخبار خُبرا ولو أشرفتِ في جنح عليه ... (وقد لاقى الهزبرُ أخاكِ بشرا) (إذا لرأيتِ ليثاً رام ليثاً) ... وكلٌّ منهما بأخيه مغرى يرى كل على ثقة أخاه ... (هزبراً أغلبا لاقى هزبرا) (تبهنس إن تقاعس عنه مهري) ... وأقبل نحوه أذنيه ذعرا فكاد يريبه فيخال مني ... (محاذرة فقلت عُقرتْ مهرا) (أنلْ قدميَّ ظهر الأرض إني) ... أرى قدمي للإقدام أجرا ولست مزحزحي شيئاً ولكن ... (رأيت الأرض أثبتَ منط ظهرا) (وقلت له وقد أبدى نصالاً) ... بأهرتَ فاغرٍ يصررن صرّا وشوصاً تلتظي أرنت لحاظاً ... (محددة ووجهاً مكفهرا) (يكفكف غيلة إحدى يديه) ... كبالي القوس ينزع مسبطرّا ولا يثنى براثن منه إلا ... (ويبسط للوثوب علي أخرى) (نصحتك فالتمس يا ليث غيري) ... +فلي بُقيل عليك وأنت أدرى ومهرى قائل لك لا تخلني ... (طعاماً إن لحمي كان مرا) (ألم يبلغط ما فعلته كفّي) ... ولست ترى الأظافر منه حمرا ألم تكُ طاعماً أشلاء سيفي ... (بكاظمة غداة قتلتُ عمرا) (فلما خال أن النصحَ غش) ... وغرته الجراءة فاستغرّا ولج على التهور في نزالي ... (وخالفني كأني قلت هُجرا) (مشى ومشيت من أسدين راما) ... مساورة فلاقى البحرُ بحرا روجّا الأرض إذْ بغيا عليها ... (مراما كان إذْ طلباه وعرا) (سللت له الحسام فخلت أني) ... أسلت من المجرة فيه نهرا ولم أمشِ الضراء له لأني ... (شققت به لدى الظلماء فجرا) (وأطلقت المهند من يميني) ... وقائمه بها المحبوس إسرا هفا إبريقه هفيان برقٍ ... (فقد له من الأضلاع عشرا) (فخر مضرجاً بدمٍ كأني) ... نصحت عليه عبَّ السكر سؤرا ومن هول لوجبته أراني ... (هدمت به بناء مشمخرّا) (بضربة فيصل تركته شفعا) +تضاجع بطنه في الأرض ظهرا وشيكاً فاثنى منها مثنَّى ... (لديَّ وقبلها قد كان وترا) (وقلت له يعز عاي أني) +أراك معفّراً شطراً فشطرا وأستحيي المروءة أن تراني ... (قتلت مناسبي جلداً وقهرا) ولكن رمت أمراً لم يرمه) ... مريد سلامة قد هاب خطرا ولم يكُ سامني بالنصح خسفاً ... (سواك فلم أطق يا ليث صبرا) (تحاول أن تعلمني فراراً) =فهل علمت نفسك أن تفرّا وتنفض مذرويك لحل عزمي ... (لعمر أبيك قد حاولت نكرا) (أتيت تروم للأشبال قوتاً) ... فلو ما طلتها ما كان ضرّا ولكني أدافع منك بغياً ... (وأطلب لابنة البكريّ مهرا) فلاغ تبعد فقد لاقيت حراً) ... ولا تذمم فقد أبلغت عذرا وعن كرم برزتَ إلى كريم ... (يحاذر أن يعاب فمتَّ حرا) ولا أسفٌ على عمر تقضى ... أفادك منه حسن الذكر عمرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وله في العلوم المعقولة من الأصول والبيان والمعاني والنحو مدركة تشتعل اشتعالاً يستحضر بها سائر الأبحاث وما عساه أن يقال في المسألة في آن واحد من غير مطالعة، ولطالما نقلت له كلام السعد وقبل أن أذكر ما أورده عليه السيد وما تحمله الشيخ عبد الحكيم وما يمكن أن يكون قد خطر ببالي فيعاجلني بإيراد جميع ذلك كأنما كان يسامرني في تلك المسألة مع طول عهده بها، أما درسه فلم يكن على رتبة علمه لأنه لا يمكن له أن يقصر كلامه في المسألة التي بين يديه حتى ينفصل منها بل كان ينتقل من حال إلى حال في آن واحد فيذهب مع كل خاطر ويخرج عن المقصود وذلك من سعة علمه وعدم تقيده بالتدريس. وله معرفة تامة بالعلوم الرياضية وما ألحق بها غير أني لا علم لي بها ولم ندر ما هو عليه فيها. وقد اشتغل في مبادئ أمره بإقراء البشير بن سليمان كاهية ولازمه للتعليم وسلك به مسلكه في الولوع بأهل الله وخدمتهم حتى كان من أعيان السالكين في الطريقة الشاذلية. وقد ألّف فيها كتاباً سماه سفينة المريد والعلم المفيد، وقد وقفت فيه على إجازة له من صاحب الترجمة أستاذه في الطريقة المدنية كتبها له في حدود عام 1250 فأحببت أن أثبتها هنا وهذا نصها: الحمد لله مستحق الحمد ووليه، والصلاة والسلام على نبيه، أما بعد فيقول عبد ربه محمود بن علي الشريف الشهير بقابادو والد قاوي الراجي رحمة مولاه، الراقب له في سره ونجواه، إني أجزت أخي في الله وسويداء فؤادي وأعز الناس عندي سيدي محمد البشير بن سيدي سليمان كاهية في قراءة المخروجة المدنية على الصلاة المشيشية التي هي من لوازم طريقتنا بالإذن من المؤلف شيخي وقدوتي ونور بصري وبصيرتي المربي سيدي محمد بن حمزة المدني القاطن بطرابلس الغرب بجبل غريان هناك، أبقى الله لنا وجوده، وأدام شهوده، لانخراطها في سلكها الشريف إجازة تامة كما أجازني بها شيخي عن مشايخه والله يتولانا وإياك بلطفه ويجمع قلوبنا عليه ويشرح قلوبنا بأنوار معرفته كما أجزته وأذنته بذكر الورد في أوقاته وذكر اسم الاستغراق على الحالة المعهودة وتلقاها مني بالإذن من الشيخ والله يبلغه ويمده بمحبة الشيخ إنه المنعم الكريم ا. هـ. وبينما كان الشيخ في تعليم تلميذه المذكور وإطلاعه على بعض علومه الحرفية حتى أحس من المشير الأول ما حمله على الخروج فارتحل إلى إسلامبول وأقام لها مدة، ثم رجع إلى تونس وتقدم شيخاً في مكتب الحرب يقرئ المهندسين ما يحتاجون إليه من النحو واللغة والفقه وغيرهما. ثم قدمه المشير محمد باشا باي مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى ابتداء سنة ثلاث وسبعين فأقرأ بالجامع وتقدم لمشيخة المدرسة الجديدة بعد وفاة الشيخ محمد بن صالح بن ملوكة الشارني سنة ست وسبعين وأقرأ فيها وختم فأبدع في أختامها. ثم قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لخطة قضاء باردو يوم الأحد الخامس عشر من شعبان الأكرم سنة 1277 سبع وشبعين ومائتين وألف فلازم القيام بالخطة، وتقدم لإنشاء الرائد وتصحيح المطبوعات بمطبعة الدولة التونسية، ثم تأخر عنها لأشغال خطة قضاء باردو ثم تقدم مفتياً خامساً تاسع شعبان الأكرم سنةةة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف. وقد أدركته قبل الفتيا فلازمته ليلاً ونهاراً في غير أوقات دروسي وقرأت عليه دروساً من الجربي على أيساغوجي ودروساً من القاضي على الخزرجية وفي آخر أمره قرأت عليه دروساً من القطب على الشمسية ودروساً على المطول واستفدت مع ذلك بمراجعته ومحاضرته وكان عالماً متبحراً فهامة شاعراً مفلقاً غراً كريماً عزيز النفس سريع البكاء شفوقاً ينخدع لكل مخادع رخي العيش لسعة ذات يده، أغلب كسبه أنفقه في شراء الكتب فاكتسب كتباً لا حد لها تلاشتها الأيدي من بعده، وقد اجتمعت معه مدة لترتيبها فلم يتم ذلك. ولم يستكمل الستين 60 سنة من عمره وأتاه محتوم الأجل فتوفي في صبيحة الأربعاء ثالث رجب الأصب سنو 1288 ثمان وثمانين ومائتين وألف ودفن بالجلاز بتربة الشيخ سيدي الونيس ابن السعدي الشريف المشيشي رضي الله عنه رحمة الله عليه، ورثاه الشيخ سالم بو حاجب بقوله: كك [السريع] نبل قسي الموت هدَّافها ... يصمي وأهل الفضل أهدافها والدهر مهما ينتبذ درة ... من جيده لم يُرجَ إخلافها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فكم لآلي حكمة بالثرى ... تقذف والأجداث أصدافها فانظر لهذا الرمس كم ضمَّ من ... معارف لم تحصَ أصنافها إذْ حلَّهُ النحرير روض النهى ... مخفي رموز القول كشافها علامة المعقول دراكة ال ... منقول والأسرار نقافها محمود ست بعد دال تلي ... خساً زكاً من قبلها قافها قضى وافتى كم بأفهامه ... صينت حقوق خيف إتلافها أما رحى الآداب فهو الذي ... بفقده قد حان إيقافها أسدى له الرحمن أضعاف ما ... ترجو منَ أهل الجود أضيافها ولا عدت سحب الرضى تربة ... آواه في التاريخ (أشرافها) 1288 46 الشيخ محمد الشريف تقدمت ترجمته في الأيمة مستوفاة وقد تقدم لخطة الفتيا فصار مفتياً سادساً في تاريخ شعبان الأكرم 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ محمود قابادو صار مفتياً خامساً، ولما توفي الشيخ صالح النيفر صار مفتياً رابعاً، ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً ثالثاً أدام الله بقاءه، وأعاد علينا دعاءه. 47 الشيخ محمد النيفر هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن أحمد النيفر الشريف أصغر أخويه السابقين، قرأ بجامع الزيتونة عليهما وعلى الشيخ علي العفيف والشيخ الشاذلي بن صالح وغيرهم من علماء جامع الزيتونة وتقدم لخطتي التدريس فأفاد بفصاحة معتبرة. وتقدم لخطة القضاء بالحاضرة بعد أخيه الثاني في غرة صفر الخير سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف وكان مع علمه يميل إلى المشاركة في الرأي واعتضد لذلك بأخيه ولازم المراجعة والمطالعة والتحري في المسائل مع أعلام المجلس الشرعي يومئذ الذين منهم الشيخ أحمد بن حسين والشيخ محمد البنا والشيخ الطاهر بن عاشور، ومارس المسائل بذلك حتى صار فقيهاً عمدة في التطبيق5 وتقدم لمشيخة مدرسة النخلة عند وفاة الشيخ محمد البنا وتقدم إماماً بجامع أبي محمد عند وفاة الشيخ أحمد بن حسين وختم في كليهما أختاماً رائقة حضرت بعضها، فصيح الخطبة. وقد تقدم إلى القتيا فصار مفتياً خامساً رابع جمادى الأولى سنة 12901 تسعين ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً رابعاً. وهو عالم حسن المعاملة فصبح الدرس ولما ولي الفتيا أقبل على التدريس بجامع الزيتونة فأقرأ تفسير القاضي البيضاوي قراءة تحرير، وله دروس آخر مواظب على إقامتها عند باب الشفا بجامع الزيتونة. وأقام بين تدريس وإفتاء وخطبة إلى أن تأخر عن خطة الإفتاء بسبب نازلة كان الوكيل فيها رجلاً اسمه سليمان الطرابلسي يخاصم عن رجل طلياني ولما لزمه الدخول تحت الحكم حضر صاحب الخصومة فحضر مع كاتب سفارة إيطاليا في المجلس الشرعي ولما ألزم الوكيل بالدخول تحت الحكم امتنع من ذلك أولاً ثم فوّض إلى صاحب الخصومة نفسه قيل إن الشيخ قال له عند ذلك يا كلب تأتي لنا بهؤلاء النصارى أو بهؤلاء الكلاب النصارى، وكل من صاحب الخصومة وكاتب السفارة عارف بالعربية فخرج كاتب السفارة وكتب لدولته بما وقع من الشيخ فكاتبت دولة فرانسة وجرت المفاوضات في النازلة إلى أن ورد إذن من فرانسا بعزله أو توجهه لاسترضاء قنصلاتو إيطاليا فاختارت الدولة عزله وأرسلت إليه ابن أخيه الشيخ علالة النيفر أحد كتاب الوزارة الخارجية إلى ديوان الشريعة فأعلمه هنالك وساء كثيراً من الناس خبره لأنه أول مفتٍ بالحاضرة تأخر بيدٍ أجنبية وكان ذلك قبل زوال يوم الثلاثاء تاسع شعبان سنة 1301 إحدى وثلاثمائة وألف وصبر لذلك وبعد نحو شهر كان عيد الجمهورةية الفرانساوية في رمضان وأرسلت السفارة لاستدعاء عامة الشيوخ ليلاً فلم يتخلف منهم غير شبخ الإسلام والقاضي الحنفي وخليفة جامع الزيتونة في التاريخ وكان أول داخل لدار السفارة في تلك الليلة إمام جامع الزيتونة الأكبر المفتي الثالث أحسن الله عاقبة الجميع، ووفقنا إلى أحسن الصنيع. 48 الشيخ صالح بن فرحات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 هو شيخنا أبو الفلاح بن فرحات بن محمد بن فرحات بن أحمد بن حامد التبرسقي الأنصاري، وأمه عسكرية من ذرية الشيخ سيدي عسكر دفين الحمادة، فله شرف من قبل أمه ولد بتبرسق أواخر سنة 1235 خمس وثلاثين ومائتين وألف ونشأ بين يدي والده، وقرأ عليه القرآن هنالك وقرأ على عمه الشيخ البخاري التبرسقي في شرح الصغرى والكفاية، وقرأ على الشيخ الحاج علي بن الشاهد شرح البسملة والسوسي في الفلك وبعض علوم حكمية. ثم قدم إلى تونس وبمعيته أخوه الشيخ سليمان التبرسقي في طلب العلم فأما أخوه الشيخ سليمان فنشأ في ذكاء شهير وملازمته في خدمة العلم وولي خطة القضاء بالمحمدية على عهد المقدس أحمد باشا وتقدم للتدريس بجامع الزيتونة ولازمه، وقد أدركته يقرئ بجامع الزيتونة بعد الثمانين والمائتين والألف وتوفي في ذلك العهد عليه رحمة الله. وأما أخوه صاحب الترجمة فقرأ على الشيخ يونس الدباغ شرح الدمنهوري على السمرقندية، وقرأ على الشيخ الأمين الكيلاني مختصر السعد، وقرأ على الشيخ عاشور القاضي على أيساغوجي والقلصادي والدرة والشنشوري على الرحيبة والكفاية، وقرأ على الشيخ علي العفيف الملوي على السمرقفندية والأشموني وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والف5اكهي، وقرأ على الشيخ محمد القبايلي القاضي على الخزرجية والدردير على المختصر الخليلي وبعض علوم انفرد بها، وقرأ على الشيخ محمد البنا الصغرى والمكودي على الألفية والخرشي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر القطب على الشمسية والكبرى والخرشيعلى المختصر الخليلي وقطعة من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد الخضار الهداية والدماميني على الخزرجية، وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة نبذة من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الفاكهي والخبيصي ومختصر السعد والمغني والدردير والتاودي والمحلي على جمع الجوامع، وقرأ على الشيخ محمد معاوية العصام على السمرقندية والسعد على العقائد النسفية والمطول والشبرخيتي على الأربعين النووية والشفا للقاضي عياض، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة شرحيه على الدرة ورسالته المنطقية ورسالته في أوائل السور وآجروميته النحوية والمكودي على الألفية، وقرأ على جدي الشيخ محمد السنوسي الخرشي على المختصر الخليلي، وأخذ صحيح البخاري عن الشيخ محمد بيرم الرابع واشيخ محمد بن الخوجة، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي دروساً من تفسير القاضي البيضاوي وجلس للإقراء بجامع الزيتونة فبث العلم في صدور كثير من الرجال، وتقدم لخطتي التدريس. وتقدم لخطة قضاء المحلة المنصورة يوم الأحد الخامس عشر من شعبان الأكرم سنة1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، وسافر مع الأمير علي باي ولاقى من بره ما هو أهل له ثم تقدم لخطة قضاء باردو المعمور أواخر شوال سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف وجلس بمحكمة باردو وتقدم لمشيخة المدرسة الجديدة أوائل رجل الأصب سنة 1288 ثمان وثمانين وختم بها الأختام المحررة الدالة على سعة علمه، ثم تقدم مفتياً سادساً في الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً خامساً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وهو عالم فاضل محقق حسن الأخلاق أديب ينظم شعراً جيداً وينثر نثراً بديعاً له عناية زائدة بالعلوم العقلية وله فيها تحرير غريب وهو غزير البحث في دروسه يميل إلى مباحثة تلامذته منصف من نفسه في العلم مواظب على دروسه يميل إلى الخمول ضعيف البدن مصاب باحتباس البول يمنعه من الإقراء في الشتاء كثيراً قرأت عليه شرح القطر لابن هشام بحاشيتي الشيخ حسن الشريف والسجاعي وقطعة من مختصر السعد على التلخيص ودروساً من مقدمة التلخيص بالمطول وحواشيه قراءة تحقيق وبحث ونبذة من الشمائل بشرح الباجوري غير أنه لما ولي خطة قضاء باردو اشتغل بها عن التدريس ولما تقدم إلى الفتيا رجع إلى مألوف عادته في التدريس فابتدأنا عليه شرح السعد على العقائد النسفية بحواشي الخيالي وعبد الحكيم قراءة بلفت الغاية في التحقيق ةالتحرير ةقد حض ر في ذلك الدرس كثير من أعيان العلماء ولذلك كان له به عناية زائدة جزاه الله أحسن الجزاء آمين (وتوفي بعد وال يوم الأربعاء آخر جمادى الثانية 1309 ودفن جوار سيدي عبد العزيز القسنطيني بالزلاج عليه رحمة الله) . 49 الشيخ أحمد الشريف هو شيخنا أبو العباس أحمد بن حمدة بن محمد بن عبد الكبير بن أحمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا وهلم جرا إلى سلسلة شرفه المتصلة برسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو حفيد إمام جامع الزيتونة المتقدم الذكر. وكان والده خيراً فاضلاً متخلقاً بأخلاق النبوة تقدم لشهادة الديوان حين ولي والده إمامة جامع الزيتونة ثم بعد وفاة والده تقدم عوضه لدرس جامع محمد باي المرادي وإمامة مسجد دار الباشا والدرسين بجامع الزيتونة رضي الله عنه وتوفي يزم الأربعاء الثالث والعشرين من أشرف الربيعين سنة 1266 ستو ستين ومائتين وألف. وكانت ولادة صاحب الترجمة سنو 1251 خمسين أو إحدى وخمسين ومائتين وألف ونشأ أسلافه الكرام وقرأ القرآن العظيم وابتدأ قراءة العلم الشريف بجامع الزيتونة عام 1268 ثمانية وستين فقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ حسن بن الخوجة شرح الشيخ خالد على الآجرومية وقرأ على أحمد عاشور نبذة من الدرة، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد الفاكهي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح شرح سيدي خالد على الآجرومية والأزهرية والقطر والدمنهوري على السمرقندية، وقرأ على الشيخ علي العفيف سيدي خالد على الآجرومية والأزهرية والقطر والمكودي على الألفية والأشموني عليها وميارة على ابن عاشر والكفاية والخرشي على المختر الخليلي وشرح الشيخ عبد الباقي عليه وأكثر الوطأ والشفا وصحيحي البخاري ومسلم الجميع دراية. وجلس للتدريس بجامع الزيتونة فقرأت عليه شرح الشيخ خالد على الآجرومية من باب الأفعال إلى أخره قراءة نصح يتوصل بها المبتدي إلى غاية المسئلة، ومع ذلك يكد على ما يقرئه أولاً بالمراجعة وهو عالم نقي العرض، كريم الأصل والأخلاق، يقطر وجهه حياء عاليس الهمة، جميل السمت حسن الملتقى، تقدم لمشيخة مدرسة حوانيت عاشور أواخر حجة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وختم فيها الأختام اللطيفة الغراء. وتقدم للنيابة في رواية الحديث في الأشهر الثلاثة بجامع الزيتونة عند مرض الشيخ صالح النيفر في عام وفاته. ثم تقدم مفتياً ثامناً يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1290تسعين، ولما توفي اللشيخ صالح النيفر صار مفتياً سابعاًُ، وقدمه المشير محمد الصادق باشا باي إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة في الصثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290، ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً سادساًَ، وتقدم خليفة لابن عمه بجامع الزيتونة في الخامس والعشرين من جمادىالثانية وتقدم خليفة لابن عمه بجامع الزيتونة في الخامس والعشرين من جمادى الثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف فزان المحراب والمنبر بحسن تلاوته وعذوبة خطبه البليغة مع ملازمة إقامة الخمس والمحافظة على أداء الصلاة في الوقت وملازمة رواية الحديث بحيث يحضر لها يومياً في الثلاثة الأشهر في شدة الحر من جبل المنار ويرجع وقد اعتنى بنسخ صحيح ميلم بخطه للرواية مع الضبط والتحري فيه والكتابة على مشكله وعلى عهده اتفق في صلاة المغرب من يوم الأحد السادس عشر من رجب الأصب سنة 98 ثمان وتسعين ومائتين وألف أن المقيم أقام الصلاة وعند انتهائه تقدم للمحراب رجل مغربي عليه سمة الصلاح فكبر وأخذ يقرأ الفاتحة والناس من حوله ينادونه ويتجاذبونه وآل الأمر أنه تقدم إليه بعض المصلين وأخذوه من المحراب بعد فراغه من الفاتحة وشروعه في قراءة سورة الكافرون وتقدم الإمام المذكور إلى محرابه فصلى المغربي خلفه ولازم الاعتكاف في الجامع أياماً لم يسمع أحد منه كلاماً غير أنه أجاب الإمام المذكور بأنه قاصد حج بيت الله الحرام وقرأ له فاتحة الإلحاح عليه. (ولما عزل الشيخ الشاذلس بن صالح من خطة باش مفتي انتخب لها لما هو متصف به من العفة والصيانة والمروءة بحيث تقدم بذلك على العالم الشيخ محمد الضشاهد والزكي الشيخ صالح بن فرحات والإمام البحر الشيخ محمد الشريف ابن عمه في موكب حضره جميع الشيوخ بالمرسى صبيحة يوم الاثنين الثالث من المحرم سنة ثلاث وثلاثمائة وألف وقبل الولاية بعد تمنع ولم يظهر عليه ابتهاج لهاته الولاية بل أظهر التغير لمن تقدمهم من الشيوخ مع رغبة في حسن الدعاء جزاه الله خيراً) فهذا الإمام اليسوم هو باش مفتي المالكية وخليفة جامع الزيتونة الذي ابتهج بولايته، ولما وليهاً هنأه العالم الشاعر الشيخ سالم بو حاجب بقوله: [الخفيف] هكذا بيت خير آل ينيف ... شرف تالد ومجد طريفُ وسجايا زكية الأصل بالعل ... م أتيحت لحسنها التضعيفُ ذهب خلصته بوتقة الته ... ذيب عن أن يشوبه التزييفُ ذا جدير بأن يحلّ مقاماً ... دونه للأنام طراً وقوفُ وبأن يرتقي منابر للها ... دي إليه حنينها معروفُ فهنيئاً لمنبر الجامع الأع ... ظم إذ عاد يمينه الأملوفُ بإمام شريف ذات ووصفٍ ... ليس يطفي نوريهما تأفيفُ قدوةٌ وثفوةٌ تقيٌ ... ذو اتضاع وهمة، غطريفُ من يشرف بنيلِ رتبة عز ... فبذا للمراتبِ التشريفُ وجميع الورى يهنَّونه أن صا ... دف من يستحقه التوظيفُ فلسان السداد يملي على الآ ... ذان بيتاً لهابهِ تشنيفُ حبذا منصب شريف حواه ... أحمد واسمه فأرخ (شريفُ) القسم الرابع في التعريف بالقضاة الحنفية قد تقدم في صدر المقدمة أن الغازي السلطان سليم الثاني لما فتح البلاد التونسية على يد وزيره سنان باشا سنة 980 إحدى وثمانين وتسعمائة أقام بالحاضرة قاضياً من الترك فذلك هو مبدأ تاريخ تولية القاضي الحنفي بحاضرة تونس، واستمر الأمر بقدوم قاضي الحضرة من بلد الخلافة الإسلامية الأستانة العلية أدام الله عزها ببقاء آل عثمان ما تجدد الملوان وكانا لقاضي يومئذ يجدّد فيكل ثلاث سنين وورد في ذلك العهد من علماء الترك أفاض لا فتخرتبهم الخطة. منهم المولى: 1 على أفندي وأصله من الجزائر من أولاد الترك ومنها توجه إلى إسلامبول وانعلامة فقدم إلى تونس لخطة القضاء ولم تطل مدة ولايته وتوجه إلى بلد بنزت ليركب منها إلى إسلامبول فقتله هناك مملوكه عليه رحمة الله. ومنهن المولى 2 رمضان أفندي قدم بوظيفة القضاء ولما تمت مدة ولايته أمسكه يوسف داي، ومنع من الخروج. فقدمه إلى الإفتاء بمذهب أبي حنيفة وخطبة جامع يوسف داي ومشيخة مدرسته عند بنائها فأقام على الخطط المذكورة إلى أن توفي عليه رحمة الله. ومنهم المولى 3 كمال أحمد أفندي ابن عبد النبي قدم أيضاً بوظيفة القضاء وتقدم إماماً لإقامة الخمس بجامع يوسف داي فهو أول إمام به ولما استوفى مدة ولايته أمسكه يوسف داي لعلمه ومجده. ومنهم المولى 4 محمد قارة خوجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ابن مصطفى برناز قدم والده مصطفى في جملة العسكر العثماني وحضر فتح حلق الوادي في زي درويش وتقدم إماماً بزاوية الشيخ سيدي علي بن زياد وتزايد ولده المذكور سنة 1012 اثنتي عشرة وألف وحجره والدهإ لى المولى أحمد أفندي، فنشأ أولاً في خدمة العسكرية ثم تعاطى العلم فتفقه وولع بالحديث ودرسبزاوية سيدي علي بن زياد والمدرسة الشماعية عدة مرار ولاية وعزلاً. وكان فصيحاً باللغة التركية فتقدم خطيباً بجامع القصبة ولما بنى المولى محمد باي المرادي جامعه الذي أمام زاوية الشيخ سيدي محرز بن خلف رضي الله عنه قدمه لإمامة الخمس به فهو أول إمام بالجامع وهو أول إمام صلى الخمس وروى البخاري بجامع حمودة باشا المرادي، وعزل منه قبل موته بسنة. وخرج لحجبيت الله الحرام وله من العمر أربع وستون سنة وهو راجل ومركوبه يسير خلف هو كان يقوم الليل. واختاره الداي أحمد خوجة إماماً له وقربه عنده وسعى له في ولاية خطة القضاء بالحاضرة فوليها فكان أيضاً أول قاضٍ حنفي من أبناء البلاد التونسية غير أنه تخلى عنها بعد مدة، وكان منزله مقصوداً للخاصة والعامة لكمال وجاهته ونفوذ كلمته. وقد ختم الله له بالسعادة فمات قتيلاً وأرخ وفاته الشيخ محمد الوزير السرّاج بقوله: ألا رحم الله هذا الشهيدْ ... كما طاب ذكر الثناء السعيدْ محمد برناز المرتدي ... رداء الشهادة يوم الوعيدْ فأقام الهداة بيوم الوفاة ... لدار النجاة بقصر مشيدْ وكان إماماً بدار الدُّنا ... فراح الخطيب الشكور الحميدْ ويكفيه بشرى جميل الثنا ... وقد أرخوه (هليك شهيدْ) ومنهم 5 الشيخ محمد القصري ابن المولى أحمد أفندي ابن عبد النبي وكان فقيهاً مشاركاً عارفاً باللسان التركي والفار سيتقدم لمشيخة المدرسة اليوسفية عوض الشيخ محمد بن عبد الكريم وحج بيت الله الحرام ورجع ودرس بالمدرسة الشماعية ولما توفي والده تقدم عوضه لإمامة الجامع اليوسفي وتزيّا مدة بزي الدراويش ثم سافر إلى إسلامبول واجنمع بالسلطان. وتولى خطة القضاء بتونس مدة، وتأخر عنها ولما رجع ولد يوسف داي من تفربه أخره عن إمامة جامع والده، وأولى مكانه قارة خوجة، وولي هو إماماً وخطيباً بجامع القصر، إلى أن توفي سنة 1093 ثلاث وتسعين وألف ودفن بجامع القصر عليه رحمة الله. ومنهم: 6 الشيخ عبد النبي أفندي ابن الشيخ محمد القصري، وكان عالماً فاضلاً حسن المعاشرة والمفاكهة وجيهاً إلى دار الخلافة العثمانية. وولي خطة القضاء بتونس، ولما توفي والده عوضه إماماً وخطيباً بجامع القصر، ولازم ذلك إلى أن توفي في المحرم الحرام سنة 1116 ست عشرة ومائة وألف عليه رحمة الله آمين. ومنهم: 7 الشيخ محمد ولي الدين 8 والشيخ أحمد أفندي إلى غير ذلك من أجلة الأفاضل الذين زانوا تلك الولاية عليهم رحمة الله. وقد استمر العمل على ذلك مائة وخمسة وسبعين سنة إلى عهد الباشا علي بن محمد بن علي تركي، فاستأذن الدولة العلية العثمانية في تقديم القاضي من علماء الحاضرة، وورد له الإذن بذلك، فأقام قاضياً مالكياً وقاضياً حنفياً من أهل البلد، فكان أول قاضٍ حنفي تقدم لهاته الخطة بحاضرة تونس الشيخ أحمد الطرودي. وها نحن نذكر المشايخ القضاة الحنفية من ذلك التاريخ إلى هذا العصر فنقول وبالله نستعين: 9 الشيخ أحمد الطرودي هو الشيخ أبو العباس أحمد بن مصطفى الطرودي حفظ القرآن على صغر سنه وجوّده على خطيب جامع الحلق وصاحب السجادة بجامع الزيتونة الشيخ أحمد عزوز، وتصدى لقراءة الفقه والفرائض على الشيخ محمد الكفيف، وقرأ النحو والتوحيد على الشيخ محمد بن قاسم الغماري، ولازم الشيخ محمد زيتونة، وقرأ على شيخ المدرسة المنتصرية الشيخ محمد بن عميرة الصفار والشيخ سعيد المحجوز وأخذ عنه سنده العالي في الحديث، وأخذ علم القوم على الشيخ مصطفى البايلي وسلك طريق الله مع الأستاذ الشيخ سيدي علي عزوز رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وتصدى للتدريس وأجرى عليه الأمير حسين باشا جراية بجامع الزيتونة ثم ولاه التدريس والإمامة بمسجد القايد مراد ثم انتخبه لنفسه فقدمه للخطبة بجامع باردو عندما أحياه وصيره جامعاً ثم ولاه إمامة الخمس بجامع القصر ومشيخة المدرسة اليوسفية عند وفاة الشيخ هبة الله فأقام التدريس بها وانتفع عليه فيها خلق كبير. ولما أمكن للباشا علي أن يقدم لخطة القضاء في المذهب الحنفي قاضياً من الحاضرة تخيره لعلمه وفضله وورعه ونزاهة نفسه فقدمه لخطة القضاء سنة 1156 ست وخمسين ومائة وألف واستمرت الخطة بيده إلى أن أصابه صمم عزل من أجله. وكان قصير القامة جميل الصورة حسن اللباس والأخلاق لا يتكلم فيما لا يعنيه محباً للصالحين، آخذ في طريق القوم إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. 10 الشيخ يوسف القفال هو الشيخ أبو المحاسن يوسف القفال حج بيت الله الحرام وولي خطة القضاء عند عزل من قبله في ذي القعدة الحرام سنة 1161 إحدى وستين ومائة وألف غير أنه عزل منها بعد ست سنين. 11 الشيخ مصطفى الطرودي هو الشيخ أبو النخبة مصطفى بن أحمد الطرودي أخذ عن والده وعن غيره من علماء تونس وتفقه كثيراً من علماء الحنفية. وقدمه الباشا لي بن محمد بن علي تركي لخطة القضاء في رجب الأصب سنة 1167 سبع وستين ومائتين وألف واستمر في الخطة إلى أن ولي الأمير محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، فأقره أولاً في خطته وباشر الخطة في مدة ولايته، ثم عزل ولم أقف على تاريخ عزله. وقد توفي للة الجمعة الحادي والعشرين من المحرم الحرام سنة 1173 ثلاث وسبعين ومائة وألف ودفن بالزلاج قبل وصول بير فضل بنحو خمسين خطوة ورثاه أحد الشعراء بقوله: [الكامل] لله قبرٌ اشرقت أرجاؤه ... لمّا به روض الأمان تزخرفا أضحى به قاضي القضاة ومن به ... درّ النوازل في قلائده صفا زان المدارس والدروس بعلمه ... وزهت به الأوراق لما صنفا علمٌ خطيب واعظ رجحت به ... أحكام علم ف موازين الصفا لما توفي جاء في تاريخه ... (مات الطروديُّ المرجِّحُ مصطفى) 12 الشيخ علي الجربي هو الشيخ أبو الحسن علي بن عمر الحربي، قدم به يونس باي من بلد جربة لعلمه فتحنف وتقرب عند الباشا. ثم تقدم لخطة القضاء أوائل دولة الأمير علي باي الحسيني بعد عزل الشيخ مصطفى الطرودي. ولم أقف له على خبر إلا أنه خرج من الخطة المذكورة معزولاً، ولم تطل مدة ولايته، وقد وقفت على رسم فيه حكمه بتاريخ المحرم سنة 1172 اثنتين وسبعين ومائة وألف عليه رحمة الله آمين. 13 الشيخ عمر بوشناق هو الشيخ؟ أبو حفص عمر بوشناق العالم الجليل تقدم لإمامة الجامع اليوسفي على عهد الباشا فوليها سنة 1162 اثنتين وستين ومائة وألف وأنابهالشيخ حسن البارودي في رواية الجامع الباشي عند ولايته إياها أواخر ذي الحجة الحرام سنة 1169 تسع وستين ومائة وألف. وقدمه الأمير علي باي الحسيني لخطة القضاء فباشر الخطة من سنة اثنتين وسبعين إلى سنة أربع وسبعين ومائة وألف على ما استفيد من بعض الرسوم، لوم تطل مدته إلا أنله فيها ذكراً حسناً عليه رحمة الله آمين. 14 الشيخ خليل خوجة هو الشيخ أبو الضياء خليلبن حسن خوجة كان فقيهاً فاضلاً تقدم خطيباً بالجامع اليسوسفي بعد رفع يد الشيخ محمد بيرم الأول من الإمامة. وقدمه الأمير علي باي لخطة القضاء وباشر الخطة سنتي سبع وثمان وسبعين ومائة وألف على ما استفيد من بعض الرسوم على ذلك نحو سنين في الخطة ثم عزل منها وبقيت بيده الخطبة إلى أن توفي سنة 1203 ثلاث ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. 15 الشيخ مرادبو سيكة هو الشيخ أبو الإقبال مرد بن الأعدل محمد بوسيكة المنزلي. كان فقيهاً فاضلاً اصطفاه يونس باي على عهد والده الباشا، وقربه وأعلى منزلته عند والده مع ما هو عليه من العلم والفضل، فبث العلم وخطب. وقدمه الأمير علي باي لخطة القضاء بالمذهب الحنفي ولازم الخطة نحو العشر سنين إلى أن توفي سنة 1190 تسعين وألف عليه رحمة الله آمين، وكتب على قبره: [البسيط] يا واسع الجود والإفضال والكرمِ ... وباسط المن والإحسان والنّعمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أقبل نزيلاً أتى يرجو قرا كله ... ويستحير من الأسواء والنقمِ أحسن كرامته أجز لمثوبته ... وكن أماناً لهمن لفح مصطلمِ هو الإمام مرادٌ حفظ ومعرفة ... تزري بكل لبيبعاقب فهمِ وإن رقى منبراً يوماً لموعظة ... ترى المدامع منسهلٍ بمنسجمِ وإن أتى مجلساً يوماً لفصل قضا ... تراه يفصل بين الخصم والحكمِ فاغفر له ما جنى ياذا الجلال وكن ... له مجيراً من التوبيخ والندمِ في يوم حشرٍ إذا ضاق الخناق وقد ... أمرت بالجمع يا مولاي للأممِ واقبل دعاء الذي يا رب أرخه: ... (فاجعل مراداً بالرضا العممِ) 16 الشيخ محمد قارة بطاق هو الشيخ أبو عبد الله محمد قارة بطاق بن مصطفى خوجة، ولد ببلد طرابلس صبيحة يوم السبت السادس والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1112 اثنتي عشرة ومائة وألف وارتحل لتونس في طلب العلم، وقرأ على أعلام تونس فجود القرآن بالعشر على الشيخ حمودة العامر يو الشيخ رمضان القروي والشيخ أحمد التونسي والشيخ قاسم الجبالي. وشارك في علوم كثيرة وانرد بعلوم القراءات فألّف فيها كتابه تحفة البررة بقراءة الثلاثة المتممين للشرة وقرظها الشيخ محمد الخضراوي بقوله: [الخفيف] بوجوه من القراءات تتلى ... بنظا ميفوق عقد الجمانِ ومزيد من فهم علم وكتب ... جمعت طرق أحرف القرآنِ سيما ما أبدا هقزمٌ همام ... قارة باطاق فارس الميدانِ فجزاه الإله خير جزاء ... وحماه من طارق الحدثانِ عندما قد نشقت طيب شذاها ... وبلغتا لمنى بها والأماني وسرى أمرها السر يبقلبي ... فتمايلت منه كالنشوانِ قلت سبحان من هداه لهذا ... جلّ ربُّ العطاء والإحسانِ وشهد بفضله العموم، وجلس لتجويد القرآن بجامع الزيتونة على عهد الأمير حسين باشا، ثم قدمه للتجويد بجامع محمد باي الحنفي. وألف كتاباً آخر سماه الجواهر النضرة والرياض العطرة في متواتر القراءات العشرة وكان مفرد عصره في ذلك الهلم الجليل. وتقدم إماماً وخطيباً وراوياً بالجامع الحسيني على عهد الباشا علي، ثم لما رجع الملك إلى الأمير محمد الرشيد باشا باي وقدم للخطة المذكورة الشيخ حسين البارودي عوضه من ذلك إمامة الخمس بالجامع الباشي خاصة، غير أن الشيخ البارودي استنابه في جميع وظائف الجامع الحسيني. ثم قدمع الأمير علي باشا باي لخطة القضاء سنة 1190 تسعين ومائة وألف ثم عزله يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة 1192 اثنتين وتسعين ومائة وألف، وأبقيت بيده إمامة الجامع الباشي إلى أن توفي في رجب الأصب سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف عليه رحمة الله. 17 الشيخ محمد بيرم الثاني تقدمت ترجمته في المفتين مستوفاة. وتقدم لخطة القضاء على ما سلف في بسطه يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة 92 اثنتين وتسعين ومائة وألف، واستقال منها فأقيل يوم الأحد الرابع من رجب الأصب سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف، ثم أعيد إليها يوم الاثنين السادس والعشرين من ربيع الثاني عام 1194أربعة وتسعين ومائة وألف ولازم القيام بها بعد ذلك إحدى عشرة سنة ثم ارتقة عنها إلى الفتيا عليه رحمة الله تعالى. 18 الشيخ حسونة الترجمان هو الشيخ أبو محمد حسونة بن مصطفة الترجمان كان عالماً جليلاً، وحازماً نبيلاً، صاحب اعتناء وفضل وجاه وإقبال. وقد جمع لنفسه مجموعاً علمياً جعله كناشاً، فتهافت الشعراء على تقريظه وقرظه الشيخ أحمد سميه مؤرخاً بقوله: [الكامل] نعم الصنيع أتى به حسن الرضا ... لذوي النهى أهلا لفصاحة والنجادْ جمع المسائل فيسلوك عجائبٍ ... فتفردت بين المسائل بالرشادْ أنّى نظرت بديع دفتره انثني ... إلّا وأشرقت المعاني بازديادْ لما نظرت إلى بديع جماله ... عفتُ الرقاد ولذ لي طعم السهادْ أجلى الإفادة للورى فلأجل ذا ... بمحرم أرخت كنا شٌأفاد) وقرظه الشيخ علي الغراب بقوله: [الوافر] كتاب جامع منكل فنِّ ... حكى البستان في زهروتيه إلى الكناش ينسب حين يدعي ... وتاريخاً إذا يعزى إليه فيا لك جامعاً في الحسن فرداً ... فليس لما تضمن من شيبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 تكّلف وشيَ حلته حسين ... لذاك الحسُ مقصورٌ عليه وذاك الوشي أعجز كل حبر ... حكيم، أو أديب، أو فقيه فيالك من كتاب إنْ تؤزخْ ... (ترى من كل علم فاق فيه) وكان مع علمه وجلالته امتحن على عهد الباشا علي بالسجن وأطلق بعد ذلك وهنأه جميع شعراء عصره بقصائد غراء وورى فيه بالحسين واليزيد الشيخ أبو الحسن علي الغراب في قوله: [المتقارب] إذا ماعدوك في القول زاد ... على ما جرى مثلما قد يريد فلا غرو أن زاد ما لم يقع ... فإنّ عدو الحسين يزيد وقد شطّر هذين البيتين كثير من شعراء العصر. وكان الشيخ خيراً زكياً نبيهاً أديباً فاضلاً وقفت له على مقامة بديعة من جيد النثر ولطيف الشعر خاطب بها صاحبه الشيخ أحمد العصفوري تبلغ نحو كراس، وقد فصل فيها اثني عشر علماً ووصف بها ممدوحه. وتقدم لخطة القضاء على عهد الأمير علي باي يوم الأحد الرابع من رجب الأصب سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف ثم عزل منها يوم الاثنين السادس والعشرين من ربيع الثاني سنة 1194 أربع وتسعين ومائة وألف. وكان له ولد وهو الشيخ محمد بفتح أوله ولي خطة الإمامة بجامع محمد باي الذي أمام زاوية الشيخ سيدي محرز بن خلف وتوفي الإمام المذكور يوم الاثنين الثامن من ربيع الثاني سنة 1211 إحدى عشرة ومائتين وألف ودفن حيثد فن والده بالسلسلة عليهما رحمة الله. وكانت وفاة والده عقب عزله من خطة القضاء بمر كان به وكتب على قبره: [الكامل] حتى متى تنسى مفاجأة الحمامْ ... فكأنما ترجو لمحياك الدوامْ عجباً لمن لم يتعظ بمآله ... أيظن أنه خالد دون الأنامْ فليعتبر بالشامخ الهمم الذي ... كانت به الآمال تأتي والمرامْ حسن الزعين الترجمان المرتدي ... حلل المحامد من مزاياه الجسامْ قد كان يملأ كلعين همَّةً ... ومروءة ويرد منقبل السلامْ ويقوم للراجج يبت بليغ المنى ... ويبر بالجاني ويرثي للمضامْ ويرقُّ للفقراء ويحمل ذا العنا ... ويذبُّ عمن قد أُهين من الكرامْ ولطالما جر انتفاعاً للورى ... من غير ما حثٌّ عليه ولا كلامْ هذا وفي كل العلوم قد ارتقى ... رتباً أبت من بعد فقده أن ترامْ لما تكامل عيشه وزها به ... وجه الزمان وحل منزلة المقامْ وافته في عجل منيته وقد ... عجز الحميم وحنَّ منيرعى الذمامْ فمضى لأكرمِ ماجدٍ يرجو القرى ... والصفح في يوم التغابن والزحامْ فلذا أتى لما انقضى تاريخه: ... (يا ماجداً حسن من الحسن الهمامْ) 19 الشيخ حسن برناز تقدمت ترجمته مستوفاة في المفتين وتقدم لخطة القضاء بعد الشيخ محمد بيرم الثاني أوائل المحرم سنة 1215 خمس عشرة ومائتين وألف. وكان مع علمه غراً كريماً فأخره الأمير حمودة باشا من الخطة المذكورة وأولاه الفتيا. عليه رحمة الله. 20 الشيخ أحمد بن الخوجة تقدم بسط ترجمته في المفين وولي خطة القضاء بعد تأخير من قبله في ذي الحجة الحرام سنة 1219 تسع عشرة ومائتين وألف وأفام بها نحو العشر سنين وارتقى عنها إلى الفتيا عليه رحمة الله آمين. 21 الشيخ مصطفى دنقزلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 هو الشيخ أبو النخبة مصطفى دنقزلي أخذ العلم عن فحول من علماء المعقول والمنقول وتصدى للتدريس فأفاد وتقدم للإمامة بالجامع اليوسفي عند عزل الشيخ حسونة التركي يوم الجمعة الثالث عشر سنة 1215 خمس عشرة ومائتين وألف بإشارة الشيخ محمد البارودي. ولكن لما توفي الشيخ عمر زيدة إمام جامع القصبة وإمام مسجد سيدي ابن زياد يوم الثلاثاء التاسع من محرم سنة 1217 سبع عشرة تقدم عوضه لإمامة المسجد الخوجة محمد سيفي، وتقدم عوضه لإمامة جامع القصبة الشيخ حسونة التركي صبيحة يوم السبت الثالث عشر من المحرم المذكور، فانجبر بذلك صدع التركي. وبقي صاحب الترجمة على إمامة الجامع اليوسفي والشيخ حسونة التركي على إمامة جامع القصبة إلى أن توفي الشيخ حسونة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة1222 اثنتين وعشرين فولي صاحب الترجمة الإمامة المذكورة عوضه يوم السبت التاسع من ذي الحجة غير أنها تنقات عنه، فوليها الشيخ حسين صفر يوم الثلاثاء الثاني من ربيع الأول سنة 1226 ست وعشرين. ولما عزل الشيخ علي الستاري بسبب لحنه ترقى صاحب الترجمة عوضه إمامة الجامع اليوسفي وروايته صبيحة يوم الثلاثاء العاشر من رجب سنة 1229 تسع وعشرين فأقام خطبة الجامع ملازماً للتدريس بجامع الزيتونة. ثم قلده الأمير عثمان باشا خطة القضاء في ذي القعدة الحرام سنة 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف، فأقام في الخطة نحو ثلاث سنسن وكان مغفلاً فأخره الأمير محمود باشا عن الخطة وأقام على الإمامة والتدريس. وأخذ عنه كثير من العلماء وكان عالماً فقيهاً فاضلاً خيراً حسن الأخلاق، غراً كريماً تقياً. وقد أصيب في الطاعون العام فتوفي في شعبان اأكرم سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف ورثاه العالم الشاعر الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل] الموت رام للأنام بنبله ... متخطف كل امرئ من أهله لم يبقَ من أحد ولا يبقى ولو ... بلغ الفتى في الفضل غاية نبله ما هوَّ إلا ما يقدمه الفتى ... من علم أو عمل يسر بفعله مثل الإمام العالم العلم الذي ... في عصره بخل الزمان بمثله هوَّ الأفندي مصطفى دنقزلي من ... عبقت على الأحكام نسمة عدله أغنى ببهجته الزمان عن الضحى ... وبوابل من علمه عن طله ولكمْ أفاد وجاد من تقريره ... بعجائب من نقله أو عقله ولكم بتقوى الله كان ممسكاً ... من حسن توفيق بأوثق حبله ثم استجاب لربه مترجياً ... منه الجزيل من القرى في نزله والله أجدر أن يبلغ آملاً ... من فضله ما يرتجيه بنيله ولذاك إذ قوي الرجا قد قلت في ... تاريخه (وسمت سحائب فضله) 22 الشيخ علي الدرويش تقدم ذكره في المفتين وقد تقدم لخطة القضاء عند عزل من قبله أثناء سنة 1232 اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، وأقام في الخطة تسع عشرة سنة [19] حسن فيها ذكره وتيقظه ثم ترقى لخطة الفتيا إلى أن توفي، عليه رحمة الله. 23 الشيخ محمد بن الخوجة تقدم استيفاء ترجمته في المفتين وقد ولي خطة القضاء في السادس والعشرين من ثاني جمادى سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف وأقام في الخطة نحو ثماني سنين حسن فيها ذكره وتيقظه حتى كان رتبة لها إلى أن ارتقى لخطة الفتيا وأدركته المنية في مشيخة الإسلام عليه رحمة المالك العلام. 24 الشيخ محمود بن باكير سبقت ترجمته وتقدم لخطة القضاء ثامن ربيع الأول سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف وأقام في الخطة نحو الأربع سنين وارتقى لخطة الفتيا ولازمها إلى وفاته عليه رحمة الله آمين. 25 الشيخ مصطفى بيرم مرت ترجمته مستوفاة وتقدم لخطة القضاء في الحادي عشر من ذي القعدة الحرام سنة 1662 اثنتين وستين ومائتين وألف، وزان الخطة علماً وصيانة نحو الخمس عشرة سنة، ثم ارتقى إلى الفتيا إلى أن صار ثنيانها وأدركته المنية عليه رحمة الله آمين. 26 الشيخ أحمد بن الخوجة سبقت ترجمته وتقدم لخطة القضاء منتصف ربيع الثاني سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، فزان الخطة نحو السنتين، ثم ارتقى عنها لمعارج الفتيا إلأى أن توج هام مشيخة الإسلام، أدام الله حراسته على ممر الليالي والأيام. 27 الشيخ حسن بن الخوجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 تقدمت ترجمته وتقدم لخطة القضاء في المحرم سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف، وأقام في الخطة نحو ست سنين، وارتقى عنها إلى الفتيا عليه رحمة الله آمين. 28 الشيخ محمد البارودي قد استوفينا ترجمته سابقاً وتقدم لخطة القضاء تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف وأقام زينة للخطة علماً وديانة نحو الخمس سنين، وارتقى عنها إلى الفتيا إلى أن توفي، عليه رحمة الله. 29 الشيخ محمد بيرم هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن مصطفى بن محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بن بيرم. ولد سنة خمسين ومائتين وألف وتربة في حجر صيانة والده، وقرأ عليه، وقرأ على الشيخ سالم بو حاجب المغني والمطول والأموني، وقرأ على الشيخ علي العفيف والشيخ محمد الشاهد وغيرهم. وتصدى للتدريس وتقدم لخطته الأولى والثانية، ثم قدمه المشير محمد الصادق باشا باي بعد وفاة والده إماماً وخطيباً وراوياً بالجامع اليوسفي، وشيخاً على المدرسة اليوسفية. ثم بعد ذلك قدمه لخطة القضاء رابع جمادى الأولى سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، ولازم المراجعة والتحري بحيث لم يحفظ له خطأ في ولايته المذكورة. وهو عالم فاضل حسن السكينة والوقار، عفيف مثبت حسن الخلق عارف بمقتضيات الأحوال متحفظ على شرف خطته ملازم لصيانة مقامه جار في الخطة على منهاج آبائه الكرام وآل بيته العظام فهو القاضي وابن القاضي وابن أخي القاضي ثالث قضاة آل بيته وسادسهم في الخطة الشرعية لا زالوا مذكورين في الخطة بكل مزية. أعلم أن خطة القضاء بإفريقية خطة قديمة جرت من عصر التابعين ثم تابع التابعين وقد وليها رجال من أصحاب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، ولم يزل القضاء لها به العمل من مذهبه الزكي بإفريقية وتونس من ذلك العهد إلى هذا اليوم غير أن القضاة من رجال المذهب المالكي اختلف محل استقرارهم من إفريقية على حسب اختلاف مقر الدولة. فقد كانت القيروان هي مقر إمارة إفريقية وبها يجلس قاضي إقريقية، وأما تنقل الخطة إلى حاضرة تونس فإنما كان مع استقرار دولة بني أبي حفص بها وبعد ذلك أتت على الخطة المذكورة أطوار، وحيث إنها من أعظم الخطط الشرعية لم يتقدم لها في كل عصر إلا من لهم شأن في العلم والدين وكل زمان فيه ذوو شأن، والشأن يختلف باختلاف الزمان، ولسبقية هاته الخطة الشرعية في المملكة الإفريقية تتبعت رجالها، وحصرت أجيالها، ليكون هذا القسم عنونان أطوار البلاد الإفريقية في العلم والفضل والدين والورع، على أنني لم أذكر أخبار أحد من هؤلاء الرجال، فيما كانوا عليه من الفضل والكمال، إذ أن أخبارهم مبسوطة في مطولات التواريخ. وقد جعلت هذا القسم خمسة رياض، ففي مجموعها ما تعلقت به الأغراض، من استيعاب قضاة إفريقية على الوجه الأتم، والتيمن بذكر مفاخرهم المشتهرة اشتهار النار على هلم، فكانت الرياض المذكورة هي الآتي بيانها: الأول: روض الأفنان فيمن ولي قضاء إفريقية بالقيروان. الثاني: الروض المونس فيمن ولي قضاء إفريقية بتونس. الثالث: الروض الذي عوابق أفنانه مذاعه فيمن ولي بتونس خطة قضاء الجماعة. الرابع: الروضة المرضية فيمن ولي نيابة القاضوية. الخامس: الروض الذي عنده تنتهي الآمال في معرفة من ولي الخطة بعد تمييزها بالاستقلال. كل ذلك على مذهب عالم المدينة مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه وبطالعة هذا الانتشار، يتبين ما أتى على الخطة المذكورة من الأطوار، فأقول وبالله نستعين. روض الأفنان فيمن ولي قضاء إفريقية بالقيروان أعلم أن مدينة القيروان من وضع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإفريقية وكان رسم بنائها بعد الخمسين من الهجرة فآوى إليها كثير من الصحابة والتابعين. ولما أفضت خلافة الإسلام إلى الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اختار عشرة من فقهاء التابعين وأرسلهم ليفقهوا أهل إفريقية فبثوا فيها العلم والدين وتفقه بهم رجال أصبحوا غرراً في جبهة المذهب المالكي رضي الله عن امامه وسائر الأئمة وعند ذلك أقيمت خطة قضاء إفريقية بأولئك الرجال ثم بمن بعدهم من الأجيال رضي الله عنهم أجمعين. وهذه تراجمهم على وجه الاختصار حيث أن فضلهم في الدين أشهر من الشمس في رابعة النهار. 1- أبو الجهم التنوخي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 هو التابعي أبو الجهم عبد الرحمن بن رافع التنوخي، روى عن عبد الله بن عمر وجمع من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو أحد العشرة السابقين الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية فسكن القيروان وهو أول من استقضى بها بعد بنائها، أولاه موسى بن نصير قضاء افريقية سنة 80 ثمانين بعد الهجرة وكان ثقة بعد الهجرة بنفسه عدلاً في أحكامه، فقضى تسع عشرة سنة، وتوفي بالقيروان سنة 113 ثلاث عشرة ومائة رضي الله عنه. 2- عبد الله بن المغيرة هو التابعي عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني روى عن سفيان بن وهب الخولاني وكان من فضلاء التابعين وأهل الورع منهم. وقد كان سليمان بن عبد الملك وجَّه إلى عبد الله بن موسى بن نصير عامل إفريقية أن يوجه إليه ما تحصل من خراج إفريقية صحبة عشرة من عدول القيروان يشهدون عنده أنّ هذا المال أخذه من وجهه ففعل ذلك، ولنا دخلوا على سليمان سألهم عن ذلك فقالوا لم يؤخذ إلا من وجهه وعبد الله بن المغيرة ساكت لم يتكلم بشيْ. وكان عمر بن عبد العزيز حاضراً بذلك المجلس فعلم أنه إنما منعه من الكلام الورع والخوف من الله عز وجل فسأل عنه بعد انصرافهم فعرّف بدينه وورعه وفضله فلما أفضت الخلافة إليه ولاه قضاء إفريقية سنة99 تسع وتسعين فكانت ولايته من الخليفة، وأقام قاضياً إلى زمن كلثوم بن عياض فاستعفى من القضاء سنة123 ثلاث وعشرين ومائة رضي الله عنه. 3- أبو علقمة هو التابعي أبو علقمة مولى عبد الله بن عباس رضي الله عنهم روى عن عبد الله بن عباس وابن عمر وأبي هريرة، وسكن القيروان واستوطنها وولي قضاء إفريقية ذكر ذلك أبو سعيد بن يونس. 4- أبو كريب المعافري هو القاضي أبو كريب جميل بن كريب المعافري واسمه عبد الرحمن روى عن أبي عبد الرحمن الحبلي وكان من علماء تونس، فأرسل عبد لبرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري إلى والي تونس في طلبه، وأشخصه من تونس سنة 132 اثنتين وثلاثين ومائة، وراوده على الخطة فسكت ولم يجب حتى قام الأمير على قدميه وقال له: يا أبا كريب والله الذي لا إله إلا هو ما أردتك إلا لتنفيذ الحق علي، وأجعلك حسنة بيني وبين الله عز وجل للمسلمين، وتكون لي عوناً على هذا الأمر وتحكم علي بالحق فاتق الله عز وجل فيما دعوتك إليه من الحق فيَّ وفي المسلمين، فقال له: أبو كريب الله أردت ذلك؟ قال: نعم، فكرره عليه ثلاثاً، فقال أبو كريب: قد قبلت فولاه يومئذٍ قضاء إفريقية وجلس بجامع القيروان يحكم بينهم. وبعد أيام أتاه خادم لاامرأة الأمير، ورفع إليه أها اشترطت على الأمير أنه متى تسرى عليها كان أمرها بيدها، وأثبت وكالته فأرسل طابعه إلى الأمير يُطالبه بالحضور بين يديه لمرافعة الوكيل، فحضر وجلس بين يديه مع الخادم، فسأله عن القضية فاعترف بالشرط والتسري، فأشهد من حضر أن أمرها بيدها إن شاءت أقامت وإن شاءت طُلّقت وامتثل الأمير ذلك وقال: الحمد لله الذي رأيت قاضياً يحكم بالحق. وكان أيو كريب إذا توجه إلى الجامع ساق حماره بين يديه وإذا انصرف ركبه، وكان رسن حماره حبل ليف، وكان إذا تبين له الحكم بالليل يأتي دار من ثبت حقه فيأمره أن يُحضر له صالحي جيرانه فيشهدهم ويقول لو تركت هذا إلى غد ثم مت من ليلتي أليس يتلف حقه. واستمر أبو كريب على خط القضاء إلى أن ثار عاصم بن جميل الصُّفْرِي ومن معه، وغلبوا العسكر وساروا إلى مدينة القيروان وكانوا يستحلون دماء المسلمين وسبي ذراريهم ونسائهم فدعا أبو كريب الناس لقتالهم، واجتمعوا عليه نحو ألف رجل وخرج إلى الوادي المعروف بوادي أبي كريب، وبعد قتال شديدقتل أبو كريب ومن معه سنة 140 أربعين ومائة رضي الله عنه. 5 عبد الرحمن بن أنعم المعافري هو القاضي أبو البقاء عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم المعافري الشعباني أول مولود في الإسلام بعد فتح إفريقية، ولد سنة 95 خمس وتسعين ببرقة والجند داخلون إفريقية. وروى عن أبيه زياد بن أنعم عن أبي أيوب وجماعة من التابعين منهم عبد الرحمن الحبلي. وكان محثاً عالماً متقدماً ذا ورع وزهد وصلاح، مع تفنن في العربية والشعر، مجاب الدعوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وولي قضاء إفريقية مرتين، إحاهما لمروان بن محمد والثانية لأبي جعفر المنصور، وذلك أنه وفد عليه في شيوخ أهل القيروان مستنصراً على البربر الصفرية ووصل إلى القيروان سنة أربع وأربعين ومائة، واستمر على القضاء أيام محمد بن الأشعث والأغلب بن سالم وعمرو بن حفص وصدر من إمارة يزيد بن حاتم فعزل نفسه. ورحل إلى تونس، وأقام بها مدة، ثم رجع إلى القيروان وتوفي في شهر رمضان المعظم سنة 161 إحى وستين ومائة ودفن بباب نافع وصلى عليه يزيد بن حاتم ولما رَأى كثرة المشيعين للجنازة أنشد متمثلاً: [البسيط] يا كعب ما راح من قوم وما ابتكروا ... إلا وللموت في آثارهم حَادي 6 عبد الله بن فرّوخ هو القاضي أبو محمد عبد اله بن فروخ الفارسي ولد بالأندلس سنة 115 خمس عشرة ومائة، ورحل إلى المشرق فسمع عن أبي زائدة التابعي، وتفقه على مالك بن أنس، وسمع من سفيان الثوري والأعمش وهشام بن حسان. ورجع إلى إفريقية فاقام بالقيروان يحدث التاس ويعلمهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد إلى الرحيل ثانية فقَام إليه مالك بن أنس ووصفه بأنه فقيه المغرب. واجتمع بابي حنيفة وكتب عنه نحو عشرة آلاف مسألة وناظر زفر بين يدي الإمام حتى ظهر عليه. وعاد إلى القيروان فعرض عليه رَوْح بن حاتم قضاء إفريقية فامتنع فتوعده بالقتل وأمر بإلقائه من أعلى السطح إن لم يقبل، ولما صعدوا به إلى السطح وأرادوا إلقاءه قال قبلت وجلس للحكم بالجامع وجعل يبكي ويسترحم الخصوم لإقالة عثرته في خصومتهم وكلما أتاه خصمان بكى واسترحمهما. ولما أيس منه روح بن حاتم قال له: أشر علينا بمن نوليه القضاء فأشار عليه بولاية عبد الله بن غانم وعند ذلك خرج من الخطة. وكان فقيهاً ورعاً فاضلاً لا تأخذه في الله لومة لائم مبايناً لأهل البدع حافظاً للحديث والفقه، وكان الناس يتبركون به ويجلسون له على طريقه إذا خرج يغتنمون منه دعوة وموعظة. وكان القاضي ابن غانم لما ولي التزم مشاورته في المسائل فخاف أمور المسلمين، فخرج إلى الحج. وأخباره لا يفي هذا المختصر باستيفائها ولما حج وعاد أدركته المنية بمصر فمات سنة 176 ست وسبعين ومائة رضي الله عنه. 7 عبد الله بن غانم هو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن غانم بن شرحبيل بن ثَوْبان الرُّعَيني ولد ينة 129 تسع وعشرين ومائة. ورحل من إفريقية في طلب العلم فصلحب مالك بن أنس، وروى عنه وعليه كان اعتماده، وروى عن سفيان الثوري وإسرائيل بن يونس وعثمان بن الضحاك المدني، وروى بإفرقية عن ابن أنعم وخالد بن عمران، ودخل الشام والعراق ولقي أب يوسف صاحب أبي حنيفة. واشتهر علمه وفضله ودينه وورعه وولاه روح بن حاتم قضاء إفريقية في رجب سنة 171 إحدى وسبعين ومائة، فباشر الخطة بعدل ودين، وأخباره في ذلك تخلدت في المطولات. ولم يزل على خطته وورعه نحو العشرين سنة إلى أن أصابه فالج وتوفي في ربيع الثاني سنة 190 تسعين ومائة رضي الله عنه. 8 أبو محرز الكناني هو القاضي أبو محرز محمد بن عبد الله بن قيس بن مسلم الكناني يقال إن جده قيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل معه. وأما أبو محرز فقد رحل وسمع من مالك بن أنس وعبد الله بن كثير وعبد الرحمن بن أنعم وعبد الله بن فروخ. وكان فاضلاً ورعاً، كثير الصقة فصيح اللسان بصيراً باللغة والشعر، فقيهاً، عارفاًبالحجة، كثير التثبت في أحكامه. ولمّا توفي عبد الله بن غانم دعاه إبراهيم بن الأغلب للقضاء فتبرأ واستقال ثم ألزمه في خبر طويل فولي خطة قضاء إفريقية سنة 191 إحدة وتسعين ومائة، وعدل في قضائه إلى أن توفي يوم الخميس الموفي عشرين من شهر رمضان المعظم سنة 214 أربع عشرة ومائتين رضي الله عنه. 9 أسد بن الفرات هو القاضي أبوعبد الله أسد بن الفرات بن سنان مولى بني سُليم، ولد بنجران سنة 142 اثنتين وأربعين ومائة، وأتى به أبوه إلى القيروان وعمره عامان فأقام بها تسع سنين وقرأ القرآن بقرية علي وادي مجردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وسمع من علي بن زياد ورحل إلى المشرق سنة 172 اثنتين وسبعين ومائة فقصد مالك بن أنس رضي الله عنه، وسمع منه، ثم رغب في ملاقاة الرجال وارتحل فلقي من أصحاب أبي حنيفة القاضي أبا يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو ثم سمع الحديث عن يحيى بن أبي زيادة وعن المسيب بن أبي شريك وهيثم بن بشير. وسمع الفقه بمصر عن عبد الرحمن بن القاسم وعنه دوّن الأسدية وقدم بها إلى القيروان ثم ولاه زيادة الله بن الأغلب قضاء إفريقية سنة 204 أربع ومائتين فكان يقضي مع أبي محرز ولم يعهد اجتماع قاضيين بالقيروان غيرهما، كل منهما يقضي في موضعه، ولم يزل كل منهما يقضي إلى أن أراد زيادة الله بن الأغلب غزو صقلية فاختار أسد بن الفرات أميراً على الجيش وأرسله ففتحها، غير أنه أصيب بجراحات مات بها هنالك محاصراً لسَرقُوسة في شهر ربيع الأول سنة 213 ثلاث عشرة ومائتين ودفن هنالك رحمه الله. 10 أحمد بن أبي محرز هو القاضي أحمد بن أبي محرز محمد بن عبد الله بن قيس بن مسلم الكناني. لما توفي والده أحضر زيادة الله بن الأغلب من هم مظنة الأهلية فامتنع عليه جميعهم ولما لم يتعين عنده من يقدمه أمرهم بالإقامة في بيته وخرج ودس لهم من ينظر من يقدمونه للصلاة عند حضورها فقدموا أحمد المذكور فصلى بهم ولما بلغ ذلك إلى زيادة الله قال رضيت من رضوه وغصبه على الولاية فولاه قضاء إفريقية سنة 214 أربع عشرة ومائتين. وكان بحراً من بحور العلم، حافظاًللسنن عارفاً بأصول الديانات من أهل الورع والكرامات قامعاً لأهل الأهواء ولما حضرته الوفاة أوصى بكتم موته وتوفي في جمادى الثانية سنة 221 إحد وعشرين ومائتين، عليه رحمة الله آمين. 11 الشيخ الإمام سحنون التنوخي هو القاضي أبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي ولد سنة 160 ستين ومائة. وسمع بإفريقية من علي بن زياد والعباس بن أشرس والبهلول بن راشد وعبد الله بن غانم ومعاوية الصُّمادحي، ورحل إلى المشرق سنة 188 ثمان وثمانين ومائة فسمع بمصر من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وشعيب بن الليث ويوسف بن عمر، وسمع بالمدينة من عبد الله بن نافع ومعن بن عيسى وأنس بن عياض وابن الماجشون ومطرف والمغيرة بن عبد الرحمن، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي. ورجع إلى القيروان سنة 191 إحدى وتسعين ومائة فنشر مذهب عالم المدينة ثم أكرهه أحمد بن الأغلب على ولاية قضاء إفريقية بعد أن عزل القاضي ابن أبي الجواد الذي كان يذهب إلى رأي الكوفيين ويقول بخلق القرآن وقد لبث أحمد بن الأغلب سنة في مراودة سحنون حتى أولاه بعد أن التزم بجميع ما شرط وذلك في رمضان سنة 234 أربع وثلاثين ومائتين. ولازم القضاء بفقه ودين وورع إلى أن امتحن من ابن أبي الجواد، وتوفي منتصف يوم الأحد سادس رجب الأصب سنة 240 أربعين ومائتين رضي الله عنه. 12 سليمان بن عمران هو القاضي أبو الربيع سليمان بن عمران ولد في شعبان سنة 183 ثلاث وثمانين ومائة وتفقه على فحول المذهب. ولما طلب أحمد بن الأغلب سحنون للقضاء قال له: لا يصلح له غيرسليمان بن عمران ثم ولاه سحنون قضاء باجة شكوه إلى سحنون بأنه يحكم بمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فقال لهم: ما قدمته عليكم إلا وأنا أعلم أنه يحكم بمذهبه، فانصرف فلما مات سحنون أوتي به إلى القيروان فولي قضاء إفريقية، وكان ذا حضرية ولطف وحسن فراسة، وكان ابن التبان يقول: لم يكن سليمان يقول بخلق القرآن. وقد عزل ورجع مراراً، وتوفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر سنة 270 سبعين ومائتين. 13 عبد الله بن طالب هو القاضي أبو العباس عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي وكان فقيهاً ورعاً سخياً. وُلّي إمامة جامع القيروان بعد ابن أبي الحواجب، ثم ولاه إبراهيم بن أحمد بن الأغلب قضاء إفريقية عند عزل سليمان بن عمران سنة 257 سبع وخمسين ومائتين، ثم لما راى ميلَ الناس إليه أخّره سنة 59 وأعاد سليمان بن عمران ولما هاجر سليمان عزله وردّ ابن طالب سنة 69 تسع ستين ثم عزله سنة 75 وولّى عوضه ابن عبدون. وسجن لإنكاره أفاعيل إبراهيم بن الأغلب فتوفي شهيداً، عليه رحمة الله. 14 حمّاس بن مروان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 هو القاضي أبو العباس حماس بن مروان بن سماك الهمداني، ولد سنة 202 اثنتين ومائتين، وسمع من محمد بن عبدوس وسحنون. وكان قاضي إفريقية بالقيروان محمد بن أسود الصّدّيني المعتزلي ممن يقول بخلق القرآن والناس ينفرونه، فأراد زيادة الله بن الأغلب أن يحمده العامة، فعزل الصديني وأولى حماساً قضاء إفريقية في رمضان سنة 290 تسعين ومائتين. وكان من أفضل القضاة واعْدَلِهم وأعلمهم بعلم القضاء مع حسن الفطرة. وكان ابن الصايغ كبير دولة زيادة الله من الشيعة فسعى عند زيادة الله في ولاية محمد بن أحمد بن جمال من أهل العراق فولي القضاء مع حماس واليد له فخرج حماس إلى رقادة ستة اشهر يطلب الإعفاء إلى أن أعفي في جمادى الأولى سنة 294 أربع وتسعين ومائتين. ثم تنقلت الدولة إلى عبيد الله الشيعي وخرج زيادة الله بن الأغلب هارباً إلى المشرق ومعه ابن الصايغ وولى عبيد الله الشيعي محمد بن عمر المروذي الشيعي، وعظم أمره علر رأس الثلاثمائة وكثر قتله للعلماء والصالحين حتى عاد عبيد الله من سجلماسة فوجد في سجنه بعض أعيان علماء تونس فعزله وسعى به إلى ابن خنزير فضرب وقتل. وتوفي حماس سنة 304 أربع وثلاثمائة عليه رحمة الله آمين. 15 محمد بن أبي منصور الأنصاري هو القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي منصور بن محمد بن عبد الله بن حسن الأنصاري الأندلسي رحل إلى المشرق وسمع من القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره. وجبره المنصور إسماعيل بن أبي القاسم بن عبد الله على القضاء، وقبل ما اشترطه، ولازم القضاء بالقيروان بفقه ودين إلى أن توفي لعشر بقين من المحرم سنة 337 سبع وثلاثين وثلاثمائة عليه رحمة الله آمين. 16 عبد الله بن هاشم هو القاضي أبو محمد عبد الله بن هاشم بن مسرور من أهل العلم والتقشف والصقة ولي القضاء بالقيروان بعد وفاة من قبله ولازمه إلى أن توفي يوم الاثنين لست بقين من شعبان سنة 360 ثلاث وستين وثلاثمائة عليه رحمة الله آمين. 17 محمد بن هاشم هو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن هاشم بن مسرور. صلّى على والده بعد وفاته وتقدم عوضه للقضاء بالقيروان ولازم القضاء إلى أن توفي في منتصف شعبان سنة 399 ثلاث وتسعين وثلاثمائة عليه رحمة الله آمين. 18 عبد الرحمن بن هاشم هو القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن هاشم بن مسرور. صلى على والده بعد وفاته وولي عوضه القضاء بالقيروان إلى أن توفي سنة 435 خمس وثلاثين وثلاثمائة عليه رحمة الله آمين. 19 أحمد بن أبي زيد هو القاضي أبو العباس أحمد بن أبي زيد تقدم للقضاء بعد وفاة من قبله وتأخر سنة 439 تسع وثلاثين وأربعمائة. وبعد هذا التاريخ أتى على القيروان الخراب بسبب تفاقم أمر الشيعة، وتنقلت الدولة إلى المهدية، ومن قضاتها أبن سعلان الذي لم يقبل القضاء إلا باستدعاء عبد الحميد بن الصائغ القيرواني إلى الفتيا معه بالمهدية ليعتمد عليه في المشورة، واجتمعا بالمهدية في الخطتين سنة 475 خمس وسبعين وأربعمائة. ثم قَطَع دعوة الشيعة من القيروان المعزُّ بن باديس وكان قاضيه يومئذ ابو بكر بن أبي محمد بن أبي زيد السني، فحكم هو وأبو القاسم اللبيدي بفساد مذهب الشيعة مستهل صفر الخير سنة 488 ثمان وثمانين وأربعمائة وعظم فساد الأعراب وانتشر انتشاراً كلياً. قال أبو مهدي عيسى الغربيني: إنه بعد الخمسمائة من الهجرة انقضت طبقة العلماء من إفريقية، ولم يبق بالقيروان من له اعتناء بتاريخ لاستيلاء مفسدي الأعراب على إفريقية وتخريبها وإجلاء أهلها عنها إلى سائر بلاد المسلمين وذهاب الشرائع بعدم من ينصرها من الملوك، إلى أن منّ الله على الناس بظهور دولة الموحدين وهم بنو عبد الواحد بن أبي حفص فوضحت بها معالم الدين وسبل الحق ورسوم الشرع فظهر بظهورها بإفريقية العلماء والصلحاء. الروض المونس* فيمن ولي قضاء إفريقية بتونس 1،2،3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قد سبق في صدر المقدمة أن المملكة التونسية في وسط القرن السادس أتت عليهما سنون كانت أكثر جهات المملكة فيها فوضى إذ لا حاكم لها (واختلف الحال على تونس حتى أن أهلها لما خافوا فوضاهم استقدموا قاضيهم أبا محمد عبد المنعم ابن الإمام أبي الحسن لتدبير أمرهم وهو الذي أشار عليهم بمحمد بن زياد وبعد أن خرج أتى عليها عبد الله الخراساني وهو الذي قتل قاضيها يومئذ أبا الفضل جعفر بن حلوان) إلى أن غزاها الخليفة عبد المؤمن بن علي في سنة الأخماس أعني سنة 555 خمس وخمسين وخمسمائة. 4- وكان قاضي تونس يومئذ هو الشيخ علي بن أحمد الأبي وهو الذي أنشد [البسيط] ولي الشباب أمام الشيب منهزماً ... فذا يصول وذا يشتد في الهرب ثم إن حفيده الناصر استخلف عليها عبد الواحد بن أبي حفص بتونس عاملاً له وذلك مبدأ استقرار الدولة بتونس إلى أن استقل بملكها ابنه أبو زكرياء يحيى يوم الأربعاء السادس من رجب الأصب سنة 625 خمس وعشرين وستمائة، فكان ذلك مبدأ استقرار الدولة التونسية. وكان القاضي يومئذ محمد بن زيادة الله فهو قاضي إفريقيا بتونس لاستقرار الدولة بها وهنا نذكر هؤلاء القضاة من فحول المالكية الذين كانوا في مبدإ استقلال دولة بني أبي حفص بالاقتصار على تاريخ ولايتهم ووفياتهم خاصة، وفي تاريخ البلاد من مفاخر فضلائهم وأخبارهم ما لا تفي به المسامرات فنقول مستعيناً بالله: 5- الشيخ محمد بن زيادة الله كان قاضياً بتونس حين استقلال أبي زكرياء يحيى في شهر رجب غير أنه عزله في الموفي ثلاثين من شهر رمضان المعظم سنة 625 خمس وعشرين وستمائة. 6- الشيخ أبو القاسم المريش ولي القضاء بتونس بعد عزل ابن زيادة الله ولازم الخطة إلى أن تأخر سنة 640 أربعين وستمائة. 7- الشيخ عبد الرحمن بن عمر بن نفيس تقدم للقضاء عند تأخر المريش، ولازم القضاء، وتأخر في صفر سنة 646 ست وأربعين وستمائة، وكانت وفاته سنة 682 اثنتين وثمانين وستمائة عليه رحمة الله. 8- الشيخ عبد الرحمن بن علي بن الصائغ التوزري قُضِّي بتونس من بعد عزل ابن نفيس وتأخر سنة 657 سبع وخمسين وستمائة وكانت وفاته سنة 659 تسع وخمسين وستمائة عليه رحمة الله. 9- الشيخ أبو القاسم بن علي بن عبد العزيز بن المهدوي التنوخي لما عزل ابن الصايغ تقدم عوضه لقضاء تونس وتأخر سنة 58 ثمان وخمسين، ولازم الإفتاء إلى أن توفي سنة 677 سبع وسبعين وستمائة رحمه الله. 10- الشيخ عمران بن معمر الطرابلسي قد ولي القضاء أولاً ببلده ومنها نقل إلى القضاء بتونس عند عزل ابن البراء فقضى سنتين إلى أن توفي عاشر ربيع الثاني سنة660 ستين وستمائة عليه رحمة الله آمين. الروض الذي عوابق أفنائه مذاعه فيمن ولي بتونس خطة قضاء الجماعة قد سبق اجمال استقلال دولة بني أبي حفص بتونس، ولما استحكم أمرهم أمكنهم الارتقاء إلى السلطنة فصارت تونس قاعدة خلافة الاسلام على عهد محمد المستنصر الحفصي، وخطب باسمه في مكة المشرفة وحاضرة فاس وتلقب بأمير المؤمنين سنة 657 سبع وخمسين وستمائة. وبعد ذلك اعتنى بخطة القضاء بتونس فجعل أربعاً من القضاة قاضي الأهلة وقاضي الأنكحة وقاضي المعاملات، وقاضي الجماعة وهو بمنزلة قاضي القضاة بالمشرق وهو الذي بيده مقاليد القضاء بحاضرة تونس ولذلك سمي قاضي الحضرة، وإذا أطلق لفظ القاضي إنما ينصرف إليه وغيره إنما يقال مضافاً إلى الأهلة والأنكحة والمعاملات وقاضي الجماعة هو قاضي الحضرة وقلما ترك بنو ابي أحفص واحداً في قضاة الحضرة أكثر من عامين. وذكر الزركشي أن ذلك منهم عمل بوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومع ذلك جعلوا يوم الخميس لاجتماع القاضي مع العلماء في مجالسهم للمفاوضة في النوازل الشرعية وتنفيذ الأحكام في النوازل الغامضة بين يدي الأمير، وفي باقي أيام الأسبوع يتصرف القاضي وحده في الحكم وكان أول من تقلد خطة قضاء الجماعة ابن الخباز. ثم باعتناء بني أبي حفص بالعلم وأهله صارت تونس روضة من رياض العلوم وخرجت منها فحول من أعلام المالكية الحافظين للمذهب ذوو فضل وورع ودين. نذكر هنا قضاتهم على حسب شرطنا وفي تواريخ البلاد من أخبارهم ما هو مشهور وبكل لسان مشكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 1 الشيخ محمد بن الخباز هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم المهدوي المعروف بابن الخباز أولاه أمير المؤمنين المستنصر خطة القضاء بالحاضرة بعد وفاة القاضي الطرابلسي عاشر ثاني ربيعي سنة 660 ستين وستمائة، وسماه قاضي الحضرة، وكان يقول ما يسألني الله عن أمور الأمة بعد أن قدمت عليهم ابن الخباز. ثم أخره ثالث شهر رمضان المعظم سنة662 اثنين وستين، ثم استعاده لحظة القضاء تاسع عشر ذي القعدة سنة667 سبع وستين وستمائة. ثم تأخر عنها وتوفي بالمهدية في السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة683 ثلاث وثمانين وستمائة عليه رحمة الله آمين. 2 الشيخ أحمد بن الغماز هو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن سعيد بن محمد الغماز الأندلسي الأنصاري ولد ببلنسية يوم عاشوراء سنة 609 تسع وستمائة. وقرأ بالأندلس، وارتحل إلى بجاية، وولي بها العدالة ثم قدم إلى حاضرة تونس وولي قضاء كثير من بلدانها، ثم قدمه المستنصر لخطة قضاء الحاضرة ثالث رمضان سنة662 اثنتين وستين وستمائة وأخره رابع شوال سنة 667 سبع وستين. وكحان قاضي الأنكحة على عهده الشيخ محمد بن الرايس الربعي. ولما ولي أمير المؤمنين إبراهيم بن أبي زكرياء قدمه على علامته الكبرى في الخامس عشر من صفر سنة 677 سبع وسبعين وستمائة بعد استعادته للقضاء. ثم أخر من خطة القضاء في رجب الأصب سنة79 تسع وسبعين، واستعيد إليها ثامن عشر ربيع الأول سنة680 ثمانين وستمائة، ثم تأخر ووليها تاسع عشر رمضان سنة691 إحدى وتسعين وستمائة، إلى أن توفي يوم الخميس عاشر المحرم سنة 693 ثلاث وتسعين وستمائة ودفن بقبرة سيدي عبد الرحمن المناطقي بتونس عليه رحمة الله آمين. 3 الشيخ أحمد المفسر هو الشيخ أبو العباس أحمد بن إبراهيم المفسر، قدمه المستنصر لخطة القضاء بالحاضرة عند عزل ابن الخباز رابع شوال سنة667 سبع وستين وستمائة وكان فقيهاً صالحاً وأخره عنها في التاسع عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة. 4 الشيخ إبراهيم الأصبحي هو الشيخ أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن منصور بن الرشيد الأصبحي أخذ عن أبي عبد الله السوسي وابن معاوية الأريسي، وولي نيابة القضاء بتونس وتأخر وتوفي ليلة الأربعاء التاسع من المحرم سنة 693 ثلاث وتسعين وستمائة ودفن بجبل المغارة رحمه الله. 5 الشيخ عبد الحميد بن أبي الدنيا هو الشيخ أبو محمد عبد الحميد بن أبي الدنيا تقدم لخطة القضاء عند تأخر ابن الغماز في رجب سنة 679 تسع وسبعين وستمائة، ولم يستكمل فيها ثلاثة أشهر، وتأخر في شهر رمضان. وتوفي في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة 684 أربع وثمانين وستمائة ودفن بالزلاج عليه رحمة الله آمين. 6 الشيخ أبو القاسم بن زيتون هو الشيخ أبو القاسم بن أبي بكر بن زيتون اليمني، ولد عام 620 عشرين وستمائة وتقدم للقضاء عند تأخر من قبله ولم يستكمل فيها ستة أشهر وتأخر في الثامن من ربيع الأول سنة 680 ثمانين وستمائة. وتوفي يوم الأثنين السابع عشر من رمضان سنة 691 إحدى وتسعين وستمائة، ودفن بجبل المرسى عليه رحمة الله. 7 الشيخ زكرياء الغوري هو الشيخ أبو يحيى زكرياء بن أبي بكر الغوري الصفاقسي صديق الولي الصالح أبي محمد المرجاني. تقدم لخطة القضاء بعد وفاة ابن الغماز ولما توفي صديقه الشيخ المرجاني أوائل جمادى الأولى سنة699 كان مريضاً فكتموا عنه موت صديقه خشيةً عليه، ثم عاده ابن [عبد] الرفيع فأخبره فزاد ما به، وتوفي رابع عشر الشهر المذكور عليه رحمة الله. 8 الشيخ إبراهيم بن عبد الرفيع هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن علي بن عبد الرفيع الربعي ولد في ربيع الأول سنة637 سبع وثلاثين وستمائة. وولي قضاء تبرسق وقابس. ثم قدمه المستنصر بالله لخطة القضاء بعد وفاة من قبله فحكم عاماً وأحد عشر شهراً ثم تأخر عن الخطة واستنيب من بعده مدة ووليها بعد ذلك وهكذا تداولها في خمس دول. وله أخبار حوتها بطون التواريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وكان قاضي الأنكحة على عهده الشيخ عمر بن محمد بن إبراهيم بن عبد السيد الهاشمي صاحب النزاع مع ابن عبد الرفيع وذلك أن قاضي الأنكحة أذن بالإشهاد عدلين على نكاح ذميين فأنكر ذلك عليه القاضي ابن عبد الرفيع، وتشعب الخلاف بينهما فألف الهاشمي كتابه إدراك الصواب في أنكحة أهل الكتاب، ووافقه على ذلك ابن عرفة. وألف ابن عبد الرفيع كتاباًفي المنع، ووافقه عليه ابن عبد السلام. وكان ابن عبد الرفيع عارفاً بالوثائق منفذاً للأحكام لا يتهيب الأمراء. سالم العرض ألف مفيد الحكام والرد على المنتصر وأجوبة أسئلة القاضي أبي بكر الطرطوشي. واختصر أجوبة ابن رشد وتوفي على خطته ثامن شهر رمضان سنة 733 ثلاث وثلاثين وسبعمائة ودفن بدار أعدها لدفنه قرب جامع القصر وجعل بإزائها مكتباً لتعليم الصبيان رحمة الله عليه. 9 الشيخ عبد الرحمن القطان هو الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن القطان البلوي من أهل سوسة تقدم لخطة القضاء بالحاضرة غرة ربيع الثاني سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة وتوجه إلى بلده فأقام هناك مدة وأنابه فيها من كان قبله ثم عاد إلى الحاضرة وباشر الخطة. 10 الشيخ محمد بن الغماز هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن حسن بن الغماز الأنصاري الأندلسي، قدمه أمير المؤمنين المتوكل على الله لخطة القضاء يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الثاني سنة ثمان عشرة وسبعمائة ثم تأخر عنها. 11 الشيخ عمر بن قداح هو الشيخ أبو علي عمر بن قداح الهواري، حافظ المذهب المالكي ومفتيه، ولي قضاء الأنكحة وتدريس المدرسة الشماعية، ثم تقد لخطة قضاء الحاضرة في رمضان سنة 733 ثلاث وثلاثين وسبعمائة، ولم تطل مدته فأدركته المنية عام 734 أربعة وثلاثين وسبعمائة عليه رحمة الله. 12 الشيخ محمد بن عبد السلام هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري. أخذ عن الحُباب وغيره، وكان من فحول المذهب، شديداً في الحق. قدمه السلطان أبو يحيى لخطة القضاء بعد وفاة ابن قداح، والتدريس بالمدرسة الشماعية، ثم لما بَنَتْ أختُ السلطان مدرسة عنق الجمل سنة 742 اثنتين وأربعين وسبعمائة كان هو أول مدرس بها، ومنه تنقلت إلى معاصره الشيخ محمد بن سلامة. وقد شرح ابن عبد السلام جامع الأمهات لابن الحاجب وتوفي فلحق به بعده بثلاثة أيام فكانت وفاته في الثامن والعشرين من رجب الأصب سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة ودفن معه ولده بالزلاج عليهما رحمة الله آمين. 13 الشيخ محمد الآجمي هو الشيخ أبو عبد الله محمد الآجمي ولي قضاء الأنكحة مدة ولما توفي ابن عبد السلام تقدم لخطة قضاء الحاضرة غير أنه لم تطل مدته وأدركته المنية عليه رحمة الله آمين. 14 الشيخ عمر بن عبد الرفيع هو الشيخ أبو حفص عمر بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن عبد الرفيع الربعي، ولي قضاء الأنكحة عند ولاية الآجمي قضاء الحاضرة ثم [لمّا] توفي الآجمي تقدم هو لخطة قضاء الحاضرة ولازمها إلى أن توفي سنة 766 ست وستين وسبعمائة عليه رحمة الله آمين. 15 الشيخ محمد بن خلف الله هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن خلف الله النفطي، كان نزع من نفطة إلى الحاضرة مغاضباً لعاملها فراعى السلطان إبراهيم نزوعه إليه وأولاه قيادة العساكر إلى الجريد حتى أحس منه ابن المالقي ثم قدمه لخطة القضاء في الحاضرة. ولما ولي السلطنة خالد بن إبراهيم أظهر ابن المالقي ما في نفسه مع القاضي وأمر بسجنه وحين رَامَ الفرار قتله في محبسه سنة 770 سبعين وسبعمائة، رحمه الله. 16 الشيخ أحمد بن حيدرة هو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن قاسم بن محمد بن حيدرة ولي قضاء الأنكحة عند وفاة الآجمي وتقدم لقضاء الحاضرة ابن خلف الله المذكور ولما توفي قدمه أمير المؤمنين خال بن إبراهيم إلى خطة القضاء بالحاضرة ولازمها إلى أن توفي آخر ربيع الأول سنة 778 ثمان وسبعين وسبعمائة، ودفن بالجلاز عليه رحمة الله. 17 الشيخ حسن القسنطيني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 هو الشيخ أبو علي حسن بن أبي القاسم بن باديس القسنطيني ولي خطة القضاء بحاضرة تونس بعد وفاة ابن حيدرة واستمر نحو الثلاث سنين ثم استعفى في صفر سنة 781 إحدى وثمانين وسبعمائة وتنقل إلى بلده قسنطينة قاضياً إلى أن توفي هنالك عليه رحمة الله. 18 الشيخ محمد القطان هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن بن القطان البلوي السوسي. ولي قضاء الخاضرة عند استعفاء من قبله أواخر صفر سنة 781 إحدى وثمانين وسبعمائة ولازمها إلى أن توفي سنة 785 خمس وثمانين وسبعمائة عليه رحمة الله آمين. 19 الشيخ عبد الرحمن البرشكي العدناني هو الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن الإمام البرشكي التلمساني، كان أبوه إماماً بأحد مساجد برشك ومات قتيلاً فارتحل عنها ولداه عبد الرحمن وعيسى إلى تونس وكانت وفاة عيسى 750 خمسين وسبعمائة وأما عبد الرحمن فقد ولي القضاء بالحاضرة بعد وفاة القطان وأتى عليه مرض منعه من مباشرة الخطة وباشرها من ناب عنه إلى أن توفي سنة 787 سبع وثمانين وسبعمائة عليه رحمة الله. 20- الشيخ عيسى الغبريني هو الشيخ أبو مهدي عيسى بن يحيى بن أحمد بن محمد بن عبد الله الغبريني، كان جده أبو العباس ولي خطة القضاء في بجاية وهو مؤلف عنوان الدراية وتوفي سنة أربع وسبعمائة ونشأ أبو مهدي في خدمة العلم. وباشر خطة القضاء بالنيابة عن البرشكي مدة مرضه ولما توفي البرشكي استقل هو بالخطة وكان قاضي الأنكحة على عهد عمر بن البراء ثم لما توفي عام 97 سبعة وتسعين ولي قضاء الأنكحة محمد بن قليل الهم. واجتمع لأبي مهدي الغبريني خطة القضاء وخطبة جامع الزيتونة والإفتاء به بعد صلاة الجمعة وقد لام على الزغبي في تطويل الخصومة على الغرماء وقال له: إن تونس وُجُهَاءها كثيرون فلا تحسُنُ الإطالة فاعتذر إليه بأنه يرد الحكم بين الخصمين ينتظر من ذلك المحق من المبطل فقال له إني نعرف المحق من المبطل بمجرد نظري للخصمين بين يدي قبل أن يتكلما فما اعتذرت به لا يقبل. ولم يزل على خططه إلى أن توفي في يوم السبت السابع والعشرين من ربيع الثاني سنة813 ثلاث عشرة وثمانمائة ودفن بالزلاج عليه رحمة الله. 21- الشيخ يعقوب بن يوسف الزغبي ولي قضاء الأنكحة والتدريس بمدرسة عنق الجمل، بعد وفاة القاضي الغبريني تقدم لخطة القضاء بحاضرة تونس وعلى عهده توفي قاضي المحلة وخطيب جامع القصبة الشيخ أحمد الشماع في شوال سنة833 ثلاث وثمانين وثمانمائة وتقدم عوضه في الخطتين الشيخ محمد المسراتي وكانت وفاة القاضي الزغبي سادس ذي الحجة الحرام من السنة 833 المذكورة عليه رحمة الله آمين. 22- الشيخ محمد الشريف هو الشيخ محمد بن أحمد الشريف ولي خطة القضاء بتونس وباشر الخطة بعد الزغبي. 23- الشيخ أبو القاسم القسنطيني هو الشيخ أبو القاسم بن سالم الوشتاتي القسنطيني، تقدم لخطة قضاء الحاضرة في شهر رمضان سنة 834 أربع وثلاثين وثمانمائة فتأخرت ولايته عمن قبله مدة ثلاثة أشهر، ثم ولي خطبة جامع التوفيق والفتيا به بعد صلاة العصر، واجتمع له بعد ذلك خطة القضاء وإمامة جامع الزيتونة والإفتاء به بعد صلاة الجمعة، وتولى بعد ذلك التدريس بمدرسة ابن تافرجين. واستمر على ذلك إلى أن ضربه أحد الأشقياء بمغروس عند سلامه من صلاة الصبح بجامع الزيتونة على سجادته عند باب البهور، وقتل ضاربه تحت الصومعة، ورفع الشيخ إلى داره، فكتب وصيته. وتوفي ليلة الخميس الثامن عشر من صفر الخير سنة846 ست وأربعين وثمانمائة ودفن بالزلاج عليه رحمة الله آمين. 24- الشيخ عمر القلشاني هو الشيخ أبو حفص عمر بن محمد بن عبد اللع القلشاني الباجي كان والده ولي قضاء الأنكحة ومشيخة المدرسة العنقية ولما توفي تقدم ولده عوضه ثم تقدم لوظائف القاضي الوشتاتي بعد وفاته وهي قضاء الحاضرة وخطبة جامع الزيتونة والفتوى به بعد صلاة الجمعة وقضى مدة ثم أصابه الوباء العام فطال مرضه إلى أن توفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رمضان عام 847 سبعة وأربعين وثمانمائة بعد أن بلغ من العمر أربعة وسبعين عاماً ودفن قرب والده بالزلاج عليه رحمة الله آمين. 25- الشيخ محمد بن عقاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عقاب الخزامي كان فقيهاً حافظاً ولما أتم السلطان عثمان بن المنصور بناء مدرسة أخيه المنتصر قرب سوق الفلقة وبنى مدرسته التي قرب دار صولة أوائل ولايته كانت سنة 839 تسع وثلاثين وثمانمائة قدم للتدريس بمدرسة أخيه المنتصرية ابن عقاب، ولمدرسته الشيخ محمد الزنديوي. ولما توفي القاضي القسنطيني تقدم ابن عقاب للخطبة بجامع التوفيق والفتيا به. ولما توفي القاضي القلشاني تقدم لخطة قضاء الحاضرة والفتيا بجامع الزيتونة خاصة وخطبة جامع القصبة ولما توفي خطيب جامع الزيتونة وإمامه المسراتي ضمت الإمامة والخطبة لابن عقاب واجتمعت له الخطط المذكورة وتولى عند ذلك ولده محمد التدريس بمدرسة عنق الجمل. ولازم والده تلك الخطط إلى أن توفي ليلة الاثنين السابع عشر من جمادى الأول عام أحد وخمسين وثمانمائة ودفن بجبانة سيدي أبي سعيد الباجي بالمرسى رحمة الله عليه. 26- الشيخ أحمد القلشاني هو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله القلشاني الباجي، تقدم لخطبة جامع التوفيق والفتيا به عند ولاية ابن عقاب فتيا جامع الزيتونة، ولما توفي ابن عقاب ولي التدريس بالمدرسة المنتصرية، وتقدم كأخيه السابق إلى خطة قضاء الجماعة بالحاضرة. استعفاه من خطة القضاء في السابع والعشرين من رجب الأصب سنة 858 ثمان وخمسين وثمانمائة وتقدم إلى خططي جامع الزيتونة والتدريس بالمدرسة الشماعية، وباشر عند ذلك قضاء الأنكحة نحو ثمانية أشهر وقد باشر الإفتاء والخطبة بجامع الزيتونة إلى أن بلغ من العمر أربعاً وثمانين سنة وتوفي عند غروب الشمس ثامن شعبان عام863 ثلاث وستين وثمانمائة ودفن بالزلاج عليه رحمة الله آمين. 27- الشيخ محمد القلشاني هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله القلشاني الباجي، ولي التدريس بمدرسة عنق الجمل عند وفاة والده ولما استعفى عمه أبو العباس من خطة القضاء قدمه أمير المؤمنين لخطة قضاء الحاضرة عوض عمه غرة شعبان سنة858 ثمان وخمسين وثمانمائة، وولي عند ذلك أيضاً خطبة جامع التوفيق المعروف بجامع الهواء، وبعد أيام ولي به الفتوى بالقلم مع صلاة الجمعة. ولما توفي عمه تولى الإفتاء بجامع الزيتونة والخطبة بجامع القصبة فجمع بين القضاء والفتيا وفي رجب سنة 875 خمس وسبعين وثمانمائة مرض فأناب عنه أمير المؤمنين الشيخ محمد الحسيني أواسط شهر رمضان ووقعت له مكالمة مع ولد القاضي أفضى به الحال إلى جلوس كل منهما للحكم في جهة فعوض النائب المذكور بالشيخ عبد الرحيم الحصيني أواسط صفر عام ستة وثمانين إلى أن توفي القاضي القلشاني سنة890 تسعين وثمانمائة ودفن بالزلاج عليه رحمة الله آمين. 28- الشيخ محمد الرصاع هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن القاسم بن عبد الله الرصاع الأنصاري تقدم لخطة قضاء المحلة عند تأخير الشيخ أحمد بن كحيل في رجب الأصب سنة 865 حمس وستين وثمانمائة وتقدم لخطة قضاء الأنكحة عند تأخير الشيخ علي بن محمد الزندويوي. ولما توفي القاضي القلشاني تقدم لخطة قضاء الحاضرة ثم اقتصر على الخطبة بجامع الزيتونة والفتوى وتصدى للإقراء إلى أن توفي سنة 894 أربع وتسعين وثمانمائة عليه رحمة الله آمين. 29 الشيخ محمد الوشتلتي هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن سالم الوشتاتي القسنطيني، تقدم لخطة قضاء المحلة عوض الشيخ الرصاع ثم بعد وفاته تقدم لخطة قضاء الحاضرة كوالده. 30 الشيخ محمد البكي هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل قاسم البكي الكوفي، كان معاصراً للشيخ سيدي أحمد زروق ومن تلامذة شيخه أحمد بن عقبة الحضرمي. ووقفت له على شرح الحاجبية المسمى تحرير المطالب لما تضمنته عقيدة ابن الحاجب وهو شرح في غاية العزة والنفاسة وصفه المناوي فقال فيه وشرحعلى الحاجبية يدل على أنه من الراسخين في علم الظاهر والباطن الحائزين لدرجات الرسوخ في مقامات اليقين اهـ. وقد ولي خطة القضاء بتونس إلى أن توفي بها سادس عشر ربيع الأول من عام ستة عشر وتسعمائة عليه رحمة الله. ومن شعره مادحاً: [الكامل] قوم لهم شرف العلا في حمير ... وإذا انتموا لمتونة فهم همُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لما حَوَوْا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا ومن شعره في الهجاء: إن المرابط باخل بنواله ... لكنه بعياله يتكرم الوجه منه مخلّق بقبيح ما ... يأتيه فهو من أجله يتلثم وقد أتى على البلاد الوباء الذي كان ابتداؤه في القعدة الحرام عام 872 اثنين وسبعين وثمانمائة وتزايد إلى أن بلغ الخارج من البلاد ألفاً في اليوم الواحد ثم ارتفع في ذي الحجة مكمل العام المذكور، ثم أتبعه الطاعون الجارف أيضاً سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة، وتتابع بعد ذلك الطاعون الذي جرف علماء البلاد وفضلاءها من الكتاب والمؤرخين، وبقيت بها بقية كان من آخرهم الشيخ محمد الوشتاتي الذي تقلّد خطة القضاء سنة 894 أربع وتسعين وثمانمائة فكملت به المائة التاسعة وأتت المائة العاشرة على القاضي البكي وقد أقفرت البلاد من العلماء ثم توالت فيها الحروب بسبب التهيات أمد سلطنة بني أبي حفص واختلافهم عليها حتى أدخلوا لها الإسبانيول. ثم تلقفتها الدولة العثمانية خلد الله عزها فتم لها افتكاكها سادس جمادى الأولى سنة 981 إحدى وثمانين وتسعمائة واستقر بها عمال الترك على حين لم يكن بالبلد من يعد في أفراد العلماء المعدودين وغاية من هم بها أهل الدين عدول ينتصبون للإشهاد في المعاملات بين الناس يفتون على حسب ما عندهم من العلم لكن على كل حال هم من أهل الفضل والدين ذلك من أعظم شروط العدالة المحققة فيهم رحمهم الله ورضي عنهم. الروضة المرضية، فيمن ولي نيابة القاضوية قد سبق أن الدولة العثمانية خلد الله عزها فتحت البلاد التونسية وأقامت بها عمالاً وقد صار القضاة عند ذلك يأتون من بلاد الترك فيقضي القاضي بتونس ثلاث سنين ويستبدل بغيره بحيث إنه بعد كل ثلاث سنين يقدم قاض من قضاة الترك، غير أنه لما كان على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأهل المملكة التونسية كلهم على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه احتاج القاضي الحنفي الوافد من بلاد الترك إلى إقامة نائب من المالكية يقضي بمحضره، فيكون ذلك النائب من أمثل العدول الموجودين. ثم لما انتظم أمر الدولة وتراجعت المملكة بتراجع العلم في أهلها في دولة بني مراد أقاموا أربعة من العلماء المالكية للإفتاء بين الناس ومشورة نائب القاضوية مع كون نائب القاضي من أخيار أهل عصره في العلم، وأعادوا اجتماع الفقهاء يوم الخميس فجتمع في يوم الخميس كل من القاضي الحنفي ونائب القاضوية المالكي والأربعة المفتين من المالكية ونقيب الأشراف بدار الخلافة المسماة دار الباشا بمحضر خليفة الباي عامل البلد المسمى الباشا أو نائبه وهنالك يقع فصل النوازل الخلافية التي لم يرتض الحكم فيها أحد الخصمين وطلب تأخيرها إلى المجلس. إلا أنه لما صار الحاكم المعبر عنه بالباشا كبيراً على العساكر وأقيم للحكم عوضه الدولاتي صارت الأحكام تتصرف في المجلس بمحضر الدولاتي في المجلس وبعد نهاية وقت اجتماع المجلس يخرج القاضي ونائب القاضوية والمفتون ونقيب الأشراف ويحضرون بدار الحاكم نفسه ويعلمونه ما وقع وربما عرض لهم ما يمنعهم من فصل النازلة فيفصلونها بين يديه في داره ولا يمكن لمحكوم عليه بعد ذلك التخلص من الحكم الذي صدر بمحضر الحاكم ولا يقدر أن يحميه أحد في البلاد. 1 - 2 - 3 وستمر العمل على ذلك إلى أوائل الدولة الحسينية خلد الله أمرها فكان أول من ولي القاضوية من علماء البلاد الشيخ ساسي نوينة الأنصاري الأندلسي أكرهه علي أفندي لما وفد من دار الخلافة العثمانية إلى الحاضرة التونسية بخطة القضاء، وكان عالماً، فطلب نائباً عالماً فلم يجد أعلم من الشيخ ساسي المذكور فطلبه للنيابة عنه فامتنع ولما رآه متشدداً قال له إنك عن لم تتول النيابة لافتيّن بقتلك على مذهبك وعند ذلك وليها ولازمها إلى أن توفي. ووليها من المالكية أيضاً الشيخ محمد النفاتي ويأتي ذكره. ولما عزله أسطى مراد ولي عوضه النيابة الشيخ أحمد الرصاع. ثم عزل ووليها محمد بن موسى وقد سبق ذكره في المفتين ولما ولي هو الفتيا أعيد إلى نيابة القاضوية الشيخ أحمد الرصاع وهو الذي أدرك الدولة الحسينية وها أنّا نذكر ترجمته وترجمة من وليها من بعد على مقتضى شرطنا السابق فنقول وبالله نستعين: 4- الشيخ أحمد الرصاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 هو الشيخ أبو العباس أحمد بن علي أبي الفضل قاسم بن أحمد حفيد الشيخ أحمد بن عبد الله الرصاع الأنصاري الأندلسي. ناهيك من ذي حسب ونسب، تضلع بالعلم والأدب، مع أن له في الفقه طول باع، وسعة الاطلاع، والخبرة بمواقع التنزيل، والمروءة والديانة التي زانها مجده الأثيل، وله معرفة تامة بمراتب الناس، وتنزيل كل منزلته التي هو عليها عند الأكياس، يُرضي الخصمين بلطفه، وله فراسة تقضي على من جالسه باعتقاد كشفه، مع مروءة يجتنب بها المرور في الأسواق. وتقدم لخطة النيابة بالمحكمة الشرعية فزانها علماً وديناً وورعاً وأقام حدود الله ولم يخش لومة لائم في المحكمة الشرعية مدة تقرب من خمس عشرة سنة 15 لم يذكر فيها إلا بخير إلى أن توفي سنة 1119 تسع عشرة ومائة وألف ودفن بزاوية سيدي معاوية أمام المارستان بالعزافين. وريء في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني بين يديه وكلمني في أشياء فقلت يارب أنت أعلم العالمين فغفر لي ونقل من قبره بعد مدة لعارض فوجد كيوم وضع عليه، رحمه الله وقد أرخ وفاته الشاعر الشيخ محمد الوزير بقوله: [البسيط] إليك مدّ قاضي المسلمين يدا ... يجني لما قد جناه من رضاك ندى يمّرغ الخدّ بالأعتاب معترفاً ... عساك تُلقي عليه من نداك ردا وجاء بالمصطفى والصحب معتصماً ... فإنهم أعظم المستشفعين غدا وأنت أهل لإتمام المرام به ... لأن فضلك بالإحسان فيه بدا وقد بدا لامح الغفران بين ثنا ... أقلام حقك من وصف به سعدا ثناؤه أحمد مثل اسمه ولذا ... أتى لِما أرخوه (عدله شهدا) 5- الشيخ قاسم الرصاع هو الشيخ أبو الضياء قاسم بن أحمد بن علي بن أبي الفضل قاسم بن أحمد حفيد الشيخ أحمد بن عبد الله الرصاع الأنصاري الأندلسي، تقدم لنيابة القضاء بعد وفاة والده وكان عالماً جليلاً موثقاً كريم النفس ملازماً للإقراء شغلته خطة القضاء عن التدريس وطال مقامه فيها فتخلى عنها لحفيده عليه رحمة الله آمين. 6- الشيخ حمودة الرصاع تقدم استيفاء ترجمته وقد تقدم لخطة القضاء بعد تخلي جده له فقضى مدة طويلة على عهد المقدس حسين بن علي تركي، وتنقل منها لخطة الفتيا إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. 7- الشيخ إبراهيم النفاتي هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حميدة حفيد الشيخ سالم النفاتي نسبة إلى قبيلة نفّات قبيلة من قبائل الجهة القبلية تقرب من صفاقس ناهيك من بيت علم وفضل تقدم جده الشيخ سالم لخطة الإفتاء أوائل المائة الحادية عشرة وكان عالماً جليلاً وبعد وفاته خلف ثلاثة من العلماء وهم الشيخ بلحسن والشيخ تاج علي والشيخ أبو المواهب محمد أبناؤه. فتقدم الشيخ أبو الحسن لخطة الإفتاء وأظهر شأنها فكان هو أول من أظهر في هاته البلاد معنى خطة الإفتاء وكان معاصراً للشيخ أبي يحيى الرصاع إلا أنه كان أنفذ منه كلمة بل إن الشيخ أبا الحسن تصرف في المملكة تصرف الوزير المستشار مع تنفيذ فتواه وكانت العادة أن الخصم يمكنه أن يسأل عن نازلته كل عالم في البلد ويريه النص وربما عارض به القاضي والمفتي واسترجعه إلى غير ذلك حتى سافر الشيخ أبو الحسن النفاتي لدار الخلافة في مهم عرض للدولة فأتى بخط شريف يقتضي حكم نفوذ القاضي والمفتي من غير أن يسأل عن نصه، وعظم بعد ذلك شأنه وانفرد بالكلمة هو وأخوه وشنع عليه بعض معاصريه عدة مسائل أنكرها يوسف داي فخرج لحج بيت الله الحرام سنة 1094 تسع وأربعين وألف وتوفي في الينبُع عليه رحمة الله. وقام أخواه مقامه في الفتيا ونيابة الأحكام الشرعية. ولما ولي أسطى مراد عزلهما وأولى عوضهما الشيخ أبا الفضل المسراتي والشيخ أحمد الرصاع وبقيا على ذلك إلى أن ولي في الدولة أحمد خوجة فخرج الأخوان لحج بيت الله الحرام ولما بلغا إلى مصر كتبا سؤالاً في النازلة التي عزلهما لأجلها أسطى مراد فأفتى جميع علماء المشرق بما أفتى به الأخوان ولما تم حجهما توجها إلى أبواب الخلافة وعرضا المسألة فصدرت خطوط شريفة في ولايتهما فأقام الشيخ أبو المواهب محمد النفاتي في دار الخلافة وارتقى إلى رتبة الموالي إلى أن توفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وقدم الشيخ تاج علي النفاتي بالخطوط الشريفة وقد وقفت على مضمون أمر مختوم بطابع محمد باشا بن مراد باشا مؤرخ بأواخر المحرم فاتح شهور عام 1071 أحد وسبعين وألف، وتضمن أنه ورد عليه من الباب العالي مكتوب مضمونه ولاية أبي المواهب الشيخ محمد النفاتي قاضياً بتونس ومصحوب بمكتوب من القاضي المذكور في استنابة الشيخ محمد خوجة إمام جامع الباشا المشار إليه ومكتوب آخر فيه تفويض الأمر إلى الباشا المذكور في استنابة من أراد إن عجز النائب المذكور فناب النائب أياماً قليلة ورفع يده لأعذار قبلت منه. واستشار الباشا مع أبي المكارم الشيخ تاج علي النفاتي فيمن ينوب أخاه أبا المواهب إلى أن يقدم من الأستانة، فاتفقا على تقديم الشيخ يوسف بن درغوث شاوش فقدمه الباشا قاضياً بالنيابة عن أبي المواهب دون أخذ المعلوم حيث يتولى قبضه أبو المكارم تاج المذكور ويبقى بذمته لأخيه أبي المواهب بمحضر الباشا وأهل العلم. واستقل أبو المكارم تاج بالفتيا بعزل من وجده فيها وهو الشيخ المسراتي ولازم خطته بنفوذ كلمته إلى أن توفي رحمه الله. ونشأ في بيتهم الشيخ أبو الحسن النفاتي، وكانت له مشاركة مع شراسة. حضر درسه بعض الطلبة من المغاربة وهو يقرىْ رسالة سيدي عبد الله بن أبي زيد فأكثر عليه السؤال لما آنس فيه من القصور فأحضر عصاً أخفاها ولما سأله في أثناء الدرس فأجابه بالضرب على رأسه إلى أن أدماه. ولم نجد مما يدل على ولايته خطة الإفتاء بتونس إلا ما حكاه الشيخ محمد الشافعي في كتابه إظهار النكات بشرح المحركات قال حضرت مجلساً أشار فيه المفتي أبو الحسن النفاتي بقتل رجل وذهبوا به فعلق فانقطع به الحبل فأخبر الأمير حسين باي صاحب الدولة إذ ذاك فأمر به أن تؤخر دعوته إلى أن يجتمع الفقهاء عنده ويستشيرهم في أمره فلما كان يوم اجتماعهم عنده شاور الفقهاء فاتفقوا على أنه لا يقتل إلا المفتي المذكور ومن جملة ما احتج به على قتله أن قال لهم هل يمكن أن يكون هذا الرجل لم يقع منه لواط ولا زنى وعدم إمكان ذلك كاف من قتله. قلت وهذا اللازم ربما يعم في زمن الفساد فكان على الشيخ أن يبادر بمقتضاه إلى قتل كل نفس زاكية ولكن الله لم يوجب الحدود والقصاصات بمجرد الظنون وإن بلغت مبلغ التحقق بل أتاط وجوب ذلك بالشهادة المستوفية للوجه المخصوص وذلك صريح جميع النصوص. وقد نشأ أيضاً في هذا البيت الشيخ حميدة جد صاحب الترجمة في عز آل بيته وتلاه في ذلك ولده محمد فقرأ العلم الشريف وحج بيت الله الحرام وتقلد خطة العدالة، وولد وله أبو إسحاق بتونس ستة 1075 خمس وسبعين وألف وحفظ القرآن الكريم وتصدى لقراءة العلم الشريف على الشيخ محمد قويسم والشيخ ساسي نوينة. وتقدم للخطبة والإمامة ورواية الحديث بجامع أبي محمد وبرع بالفرائض وتقدم لخطة قضاء الفريضة أولاً ثم قدمه المقدس حسين باشا لنيابة القضاء بالمحكمة الشرعية، وسار فيها سيرة مرضية إلا أن عدم معرفته بالنوازل الفقهية أوجب نقصاً في اعتباره حتى أن الأمير حسين باي بعد أن أولاه بمدة جاهره يوماً بقوله قيل لي: إنك جاهل فلم يتهيب الشيخ أن قال له أنت أوليتني وما تصنع بولاية الجاهل فتغافل الأمير عنه أياماً قليلة وعزله فأقام على وجاهته مع حسن الملاقاة. وكان عفيفاً خيراً عالي الهمة عظيم الوقار حسن القامة جميل الصورة نظيف الثياب فيه صلاح ومحبوب عند الناس إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. 8- الشيخ أحمد الشريف هو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا تقدم في القسم الأول ذكر سلسلة شرف هذا الفرع الحسيني رضي الله عتهم أجمعين وقد ولد صاحب الترجمة بعد وفاة جده القطب الشريف ونشأ بين يدي والده، وقرأ النحو والصرف على الشيخ عبد القادر الجبالي، والفقه والحديث على الشيخ محمد بن عمير بن محمد الصفار القيرواني والتوحيد والمنطق والبيان على الشيخ محمد الخضراوي وبرع في المعقول والمنقول. وتصدى للتدريس في أماكن كثيرة ثم إن المقدس الباشا حسين باي أجرى له جراية على التدريس بجامع الزيتونة، فأقرأ به علوماً كثيرة وكان جيد العبارة حسن القريحة فصيح اللسان عفيفاً معتدل القامة خفيف الشعر حسن الوجه ملازماً لخدمة العلم الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ولما أتم الأمير بناء الجامع الجديد الحنفي سنة 1136 ست وثلاثين ومائة وألف وقدم الشيخ أحمد النميس الحنفي للخطبة به والإمامة قدَّم صاحب الترجمة مدرساً بالجامع المذكور فتصدى للتدريس وأفاد كثيراً. ثم قدمه لنيابة القضاء بالمحكمة الشرعية في آخر دولته، ثم عزل، فلازم خدمة العلم الشريف والإشهاد إلى أن توفى وقد ذكره صاحب مفاتيح النصر في التعريف بعلماء العصر فقال في ترجمته ما نصه: هو من المشهورين بالشرف في تونس ولد سنة 1091 إحدى وتسعين وألف وهو ممن له قوة معرفة بالنحو والبيان والاطلاع على كتب الأدب في هذا الزمان ولي القضاء أياماًعلى عهد حسين بن علي ثم عزل ورجع إلى الإشهادوالإقراء، ولم تزل تلك سيرته إلى أن أودع بطن الثرى فمن عنوان شعره [تضميناً] لبيت مشهور. [المتقارب] مُعنَّاكم نفسه سادتي ... ببحر المديح له غائصة يُهزّزها الشوق وجداً لكم ... فتضحي لتذكاركم راقصه ونفس صديقكم لم تزل ... على المجد في مجدكم حارصة إذا ما قبلتم قريض الذي ... أتاكم على نية خالصة (فقد ضاء شعري على بابكم ... كما ضاء در خالصة) الروض الذي بلغ ناظره غاية الآمال، في ذكر من ولي بتونس خطة القضاء بالاستقلال قد استمر العمل على قدوم القاضي من دار الخلافة العثمانية وهو على مذهب الإمام أبي حنيفة، ومباشر الأحكام الشرعية في البلاد إنما هو نائب القاضوية من العلماء المالكية، ومع ذلك نشأت في البلاد نشأة من القضاة الحنفية فرأى الأمير علي باشا باي بن محمد بن علي تركي أن يتولّى هو تقديم القاضي من علماء البلاد ويجعل قاضيين كل منهما مستقلاً بمذهبه أحدهما مالكي والآخر حنفي حيث يوجد من علماء البلاد من فيهم الكفاءة لذلك. وعرض ذلك على الباب العالي، فأسعفته الدولة العثمانية بذلك، وورد له به الإذن العلي سنة (1157) سبع وخمسين ومائة وألف، فقدم الشيخ أحمد الطرودي قاضياً حنيفاً، وقدم الشيخ محمد سعادة قاضياً مالكياً بعد أن كان متولياً النيابة فعادت بذلك خطة القضاء بالمذهب المالكي إلى سالف استقلالها بتونس وعملها، ويلقب متوليها بألقابها السالفة من قاضي الحضرة وقاضي الجماعة وتقررت خطة القضاء بالمذهب الحنفي في علماء البلاد ويلقب متوليها بلقبها أعني أفندي. وقام بخطتي القضاء في البلاد التونسية علماء البلاد أدام عمرانها بهم إلى يوم الدين فكان الشيخ محمد سعادة هو أولَّ قاضٍ مالكي مستقل وقد سبقت ترجمته في المفتين. ولما ارتقى إلى الفتيا ولي خطة قضاء الحضرة الشيخ حمودة الريكلي وسبقت ترجمته في الأيمة. على أن الأمير حسين بن علي قد كان أقام قاضياً مالكياً للمحلة وقاضياً مالكياً لعمل الفرائضى في بيت المال يسمى قاضي الفريضة. 1- أما قاضي باردو فإنما يقضي بباردو خاصة وأول من ولي هاته الخطة الشيخ علي شعيب وهي خطة قائمة بنفسهالا يرتقي صاحبها إلى قضاء الحضرة ومع ذلك فإن قاضي باردو يحضر في المجلس الشرعي عند اجتماعه لعروض نوازل جرت بيده جرت بباردو. 2-3- ووليها كثيرون لم يتجاوزوها إلى غيرها، منهم الشيخ نصر بن عثمان قضى بباردو على عهد الشيخ مصطفى الطرودي القاضي الحنفي والشيخ إبراهيم المزاج القاضي المالكي. 4- ومنهم الشيخ منصور المنزلي، وكان فقيهاً عارفاً بالنوازل. 5- ومنهم الشيخ محمد العش وكان عالماً موثقاً. 6- ومنهم الشيخ المختار بن أحمد بن علي المنكبي كان أبوه أحمد عدلاً، وتأخر سنة 1194 أربع وتسعين ومائة وألف. وكان ولده عالماً فاضلاً وتوفي يوم السبت الثاني عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1226 ست وعشرين ومائتين وألف. 7- ومنهم الشريف الشيخ محمود الميلي وكان من أعلام الموثقين وخلف في العدالة ولديه محمداً وعبد السلام توفي أولهما في رمضان وتوفي ثانيهما في ذي الحجة الحرام وكل ذلك من عام 1225 خمس وعشرين ومائتين وألف. 8- ومنهم الشيخ علي بن الباهي بن سلامة. 9- ومنهم الشريف الشيخ محمد بن محمد بن علي بن محمد التميمي. 10- ولما وليها الشريف الشيخ سالم المحجوب بعد قضاء بنزرت ارتقى عنها إلى قضاء الحضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 11- وهكذا وكان ارتقاء المولى الجد الشيخ محمد السنوسي من بعده وجرى ذلك ترتيباً بين الخطتين ولربما كان ارتقاء قاضي باردو إلى خطة الإفتاء كما يعلم ذلك في أعلام القسم السابق رضي الله عنهم أجمعين. وأما قاضي المحلة فإنه يسافر مع الأمير في محلتي الشتاء والصيف اللتين تخرجان لاستخلاص جباية المملكة وهي خطة قديمة جرت في سلطنة بني أبي حفص وبني مراد وجرت على عهد المقدس حسين باشا ووليها أيضاً: 1- الشيخ علي شعيب فجمع له بين قضاء باردو والمحلة. وجعل مفتياً لمحلته وهو الشيخ عبد الرحمن الجامعي لسان الدولة الحسينية، وتوفي سابع ذي الحجة الحرام سنة 1141إحدى وأربعين ومائة وألف. 2- وممن ولي قضاء المحلة في الدولة الحسينية الشيخ قاسم بن غانم. 3- ومنهم الشريف الشيخ محمد الشافعي. 4- وممن وليها في أواخر المائة الثانية عشرة الشريف الشيخ علي بن محمد التميمي كان من ثقاة العدول يتعاطى الإشهاد في حدود الثمانين. 5- ومنهم الشيخ محمد العذاري وكان موثقاً يتعاطى الإشهاد في الثلاثة والثلاثين بعد المائتين والألف. 6- ومنهم الشيخ محمد البحري. 7- ومنهم الشريف الشيخ أحمد زروق وجميع هؤلاء لم يتجاوزوا قضاء المحلة عدا الشيخ محمد البحري على ما يأتي. 8- ثم وليه الشيخ محمد الخضار وارتقى منها إلى الفتيا. 9- ثم وليها الشيخ محمد بن سلامة وارتقى منها إلى قضاء باردو. 10- ثم وليها الشيخ أحمد بن الطاهر. 11- والشيخ محمد النيفر. 12- والشيخ فرج التميمي على التوالي. ثم صار قاضي المحلة يرتقي إلى خطة قضاء باردو، ومها يرتقي تارة إلى قضاء باردوا ولربما ارتقى إلى الفتيا. والمرتقي إلى قضاء باردو يرتقي منها إلى خطة قضاء الحضرة تارة وإلى الفتيا أخرى، وتفصيل ذلك يعلم من تتبع تراجم أرباب هاته الخطط رضي الله عنهم. وأما قاضي الفريضة فهو إلى اليوم لم يقع بها الارتقاء إلى غيرها وقد وليها كثير من قضاة البلاد. 1- منهم الشيخ أحمد الرصاع كان قاضي الفريضة عام 1146 أربعة وستين ومائة وألف. 2- ومنهم الشريف الشيخ الحاج محمد الحشاشي وعزل في الالث والعشرين من المحرم سنة 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف. 3- والشيخ عثمان بن محمد بن كبير بن ابراهيم بن علي بن قاسم بن أحمد الرصاع بعد أن كان شاهد الغابة، وتوفي ليلة السبت الموافق عشرين من صفر الخير سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف. 4- ثم وليها ولده الشيخ الحاج محمد الرصاع. 5-6-7- ثم وليها بعد عزله الشيخ خلف المحرزي، ثم عزل منها في الخامس والعشرين من شعبان سنة تسع وخمسين وعند ذلك وليها الشيخ محمد بن مراد بن محمد بن الحاج علي خوجة الحنفي وبعد وفاته وليها الشيخ الطاهر السقاط. 1-2- وحيث تمهد هذا المهاد في قضاة تونس بالدولة الحسينية إلى هذا اليوم تراجم أرباب الخطة المذكورة على مقتضى شرطنا في صدر الكتاب، فنقول إن المتوظفين في خطة القضاء من العلماء المالكية بعد القاضيين اللذين مرّ ذكرهما أعني الشيخ محمد سعادة والشيخ حمودة الريكلي إلى هذا العهد هم من يأتي بيانهم. -3- الشيخ محمد الوافي. هو الشيخ أبو عبد الله محمد الوافي تزايد بنواحي سوسة سنة 1094 أربع وتسعين وألف، ولما بلغ أشده رحل لصفاقس في طلب العلم فقرأ على الشيخ علي النوري والشيخ عبد العزيز الفراتي. ثم قدم إلى حاضرة تونس ونزل بالمدرسة المرادية على عهد مشيخة الشيخ محمد زيتونة فلازم دروسه بها. وقرا عليه كتباً كثيرة في سائر الفنون حتى صار من فحول العلماء الذين لهم اليد الطولى في المعقول والمنقول. وتقدم لخطة العدالة بواسطة شيخه المذكور. وولي إمامة مسجد المهراس داخل باب البحر في محروسة تونس. وتقدم للتدريس بجامع الزيتونة وأجرى عليه المقدس حسين باشا جراية بيت المال. وتقدم لخطة القضاء بالحاضرة على عهد الباشا بعد وفاة من قبله. وكان فقيهاً صالحاً معتكفاً على بث العلم لطيف الجسم حيياً إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. -4- الشيخ القاضي الكافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لم أعرف لهذا الشيخ خبراً غير أن الباشا كان أتى به من بلد الكاف لنكاية علماء الحاضرة وأولاه أولاً خطة قضاء باردو. ثم إنه لمزيد النكاية عزل إمام جامع الزيتونة البكري وعزل القاضي، وأولى في الخطتين من يقصر عنهما فأولى في خطة قضاء الحاضرة القاضي الكافي ونظن أني وقفت على اسمه محمد وقد أدرك في مباشرة زوال دولة الباشا فأزيل هو بزوالها وعلى الجميع رحمة الله آمين. -5- الشيخ إبراهيم المزاج هو الشيخ ابو إسحاق إبراهيم الأندلسي الغرناطي عرف المزاج بتشديد الزاي ولد بغرناطة عام 1101 واحد ومائة وألف ونشأ هنالك وقرأ وارتحل إلى مصر وقرأ بها على الشيخ عبد الله بكسر العَين البناني. وارتحل إلى تونس فقرأ بها على الشيخ محمد الصفار القيرواني وقرأ قطعة من البخاري على حسونة الترجمان بجامع محمد باي المرادي وأخذ قطعة أخرى منه على الشيخ عبد الكبير الشريف بجامع أبي محمد سنة 1126 ست وعشرين ومائة وألف. وارتحل إلى مكة فأخذ بها الحديث عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري، قرأ عليه قطعة من صحيح البخاري سنة 1127 سبع وعشرين ومائة وألف. ثم رجع إلى تونس وأقام على التدريس بجامع الزيتونة وتقدم لمشيخة المدرسة المنتصرية بعد وفاة الشيخ محمد سعادة سنة 1171، وأقرأ بها ثم تقدم لخطة القضاء عند عزل القاضي الكافي في مبدإ دولة الأمير محمد الرشيد واستمر على الخطة نحو عامين ونصف وتخلى عنها. وشرح لامية الزقاق شرحاً معتبرة. وكان محمود السيرة عالماص منصفاً فاضلاً رفيع الهمة عزيز النفس توفي يوم الأحد الموفي عشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1175 خمس وسبعين ومائة وألف ودفن قرب بير فضل من الزلاج، عليه رحمة الله، وقد رثاه تلميذه الفرضي الموثق العالم الشيخ محمد العشي قاضي باردو بقوله: [الكامل] يا زائر قف داعيا بلسان ... وابسط يديك إلى عظيم الشانِ واسأله عفوا عن إمام سار في ... أحكامه بالعدل والإحسان قاضي الورى إبراهيم المزاج من ... لبّى دعا الدارين بالإذعان علامة الدنيا وفخر قضاتها ... وإمامهم في العلم والإتقان فلطالما أهدى لمذهب مالك ... ولكم أفاد عقائد الإيمان فافسح له في رمسه يا قادر ... والطف به (بالملك) و (الفرقان) واكرم لقاه واجزه خير الجزا ... وآسبل عليه مطارف الغفران وأجب دعاء مؤرخ ياربه ... (واجعل جزاه جنة الرضوان) -6- الشيخ سعيد الشيبوقي لا أعرف لهذا القاضي ترجمة غير أنه ولي القضاء في المذهب المالكي بعد وفاة الشيخ إبراهيم المزاج. واتفق في مدة ولايته مبدأ دولة الأمير علي باي أن وقع جدب واحتبست المطر بتونس مدة، فطلب أهل البلد عزل القاضي وكان لسان حالهم ينشد قول الشاعر: [المتقارب] يمر السحاب ببلدتنا ... فلا يستطيع إليها النزول يروح ويغدو ولم يسقها ... لجور القضاة وزور العدول ولما لم يجد الأمير بداً من إجابة مطلبهم أمر بعزله، وأرسل للشيخ سويسي وأولاه مكانه، قيل أن القاضي الجديد لم يصل من باردو إلى تونس إلاّ مبتل الثياب بالمطر، وكان الشيخ سعيد يقول إني لم أعجب لطلب أهل البلاد لعزلي حيث كنت نعلم: إن نصف الناس أعداء لمن ... ولي الأحكام هذا إن عدل ولا من إجابة الأمير لذلك لأنه مضطر لإجابتهم وإنما تعجبت لصب المطر رحمة الله عليه آمين. -7- الشيخ محمد سويسي هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد سويسي الشريف. نشا بين يدي والده، وقرا عليه العلوم العربية والفقهية، وقرا الفقه على الشيخ عبد الله السويسي، والشيخ محمد الهدة، وغيرهم من علماء جامع الزيتونة. وتضلع بالعقول والمنقول والفروع والأصول وجاس للتدريس بجامع الزيتونة وتقدم لمشيخة بير الحجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ثم قدمه الأمير علي باي لخطة القضاء لعلمه ودينه، وكان عالماً عاملاً زاهداً متقشفاً يجلس للحكم على جلد شاة ويأكل من عمل يديه قيل إنه كان يخبز في كل يوم قرصة ويتحمل بنفسه مؤونة عجنها وطيابها بطاجين أمامه فحضرت بين يديه نازلة وكانت القرصة في طاجينها فالتفت أحد الخصمين فرآها أخذت في الانحراق فأسرع إلى قلبها على الوجه الآخر فصاح به الشيخ إنك قد تركتني اليوم بلا طعام ولم يأكلها حيث رأى أن صنيع الخصم بها من الرشوة للقاضي وهكذا كان ورعه رضي الله عنه. وجلس لقراءة القرآن على كرسي ختمة جامع الزيتونة بعد وفاة والده مدة طويلة إلى أن أصيب خليفة الجامع الشيخ حمودة إدريس عند صلاة الظهر بقصورة الجامع وضاق الوقت عن انتظار تولية الأمير فأجمع المسلمون الحاضرون بالجامع على تقديم قاضيهم صاحب الترجمة، فلما نزل من القرءة عن الختمة قدموه للصلاة بهم، ولما باغ الأمير علي باي ذلك قال لا أعدل عمن اختاره المسلمون لأنفسهم فقدمه خليفة بجامع الزيتونة فزان المحراب والمنبر وخطب الخطب البليغة واستلان القلوب بحسن ترتيله ومواعظه مع ملازمته للإقراء بجامع الزيتونة بحيث إنه عمر الجامع سنين متطاولة وولده أبو الحسن علي شيخ الختمة إلى أن حضرته الوفاة وهو على خططه الرفيعة بين قضاء وإمامة وتدريس فتوفي سنة 1204 أربع ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين وقد رثاه أحد الشعراء بقوله: [الخفيف] آيل الناس هكذا بطن رمس ... موحش من حواه من بعد أنس غصة الموت أوقفت كل شخص ... تحت جبن وبلّدت كل حس ليس يدري ولا يداري نفيساً ... نفس الكرب أو هبوبةُ دوس مثل هذا الرئيس من كان طوداً ... عالماً قد أعيذ من كلّ لبس أنفق العمر في العلوم وأمسى ... مسهراً للعيون في حرف طرس حين لاقى الإله قد أرخوه ... (نال طولاً من الكريم السويسي) -8-الشيخ محمد الطويبي هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن الجليل الطويبي الطرابلسي قدم جده علي بن عبد الجليل من طويب من عمل طرابلس إلى جزيرة جربة وقرأ بها العالم الرباني الشيخ إبراهيم الجمني وتوفي بها ودفن هنالك. وسلك ولده من بعده مسلكه في طلب العلم، فقرأ على شيخ والده، ثم قدم إلى تونس وتقدم لخطبة إمام جامع الهواء ومشيخة المدرسة التوفيقية. وكان عالماً فاضلاً حسن الخط، نسخ كتباً كثيرة للأمير علي باشا لحسن خطه. ولازم التدريس مع القيام بخطة إمامة جامع الهواء إلى أن أتاه محتوم الأجل سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف وكتب على قبره: [الكامل] هذا ضريح قد أتته بشائر ... سقيا له روض رحيم طاهرُ قد حل فيه كرامة لنزيله ... من جنة الرضوان نشر عاطرُ إذ حلَّة الشيخ الهمام المرتضى ... بحر المعارف والعلوم الزاخرُ جد الزمان وعالم العصر الذي ... دانت إليه أصاغر وأكابرُ أعني الطويبيّ المهذب أحمداً ... من ذا لرتبته السها يتقاطرُ قد كان في التدريس بحراً زاخراً ... تطفو بساحله علا ومفاخرُ ذاك الإمام الواعظ العلم الذي ... نارت محاريب به ومنابرُ لما أتاه الموت أبقى زاده ... براً جميلاً رمسه به نائرُ وافى لربه راجياً غفرانه ... ورضاه إنه للبرايا غافرُ فلذاك وافق من دعا تاريخه ... (برضاك متّع أحمداً يا قادرُ) ونشأ ولده صاحب الترجمة بين يديه، فقرأ عليه وعلى الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز الكاتب قبل الترقي لخطة الكتابة، وقرأ على الشيخ الكواش والشيخ محمد العنجاتي العالم الصالح، كان من فحول علماء جامع الزيتونة مع قلة ما بيده اتفق أنه تخلف يوماً عن درسه وكان يقرأ عليه كثير من العلماء فلما ألحوا عليه في السؤال عن سبب التخلف أعلمهم أنه لم يجد زيتاً ولا ما يشتري به الزيت. وبعد أن سمعوا منه العذر اجتمع من تلامذته الشيخ الطاهر بن مسعود وصاحب الترجمة الشيخ محمد الطويبي والوجيه الأبر الحاج سالم الوسلاتي وتأسفوا لحال الشيخ وقالوا إن كان شيخنا مع علمه لم يحصل له ما يشتري به الزيت فماذا عسى أن نبلغ نحن بعده وأخذوا يفكرون في الاشتغال بما يتيسر لهم به الرزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ثم إن الأولين منهم تخيرا خدمة العلم وقال صاحب الترجمة: إني نتمم قراءة العلم ونرجو من الله أن نتولى خطة القضاء فقال له الشيخ الطاهر: أنا لا أتحمل مسؤوليتها إن كان ولا بد فنرجو أن نتولى خطة إمامة جامع الزيتونة. ثم قال الحاج سالم الوسلاتي: أنا إنما نتمنى على الله سعة البيع والشراء مع الوجاهة وملازمة جامع الزيتونة في الصلوات الخمس، وقد حقق الله أمنية جميعهم حيث إن الحاج سالم اشتغل بحانوت في العطارين قرب باب جامع الزيتونة وكان لا يتخلف عن الصلاة به واتسع ما بيده حتى أن أمين العطارين لما أحس به من وجاهته سعى مع باش حانبة يومئذ أحمد بن علي فأرسله له حمودة باشا وآذنه أن يخرج من سوق العطارين كل من لم يكن من أبناء الحاضرة جرياً على سالف عادة العطارين ولما بلغ الخبر إلى الحاج سالم الوسلاتي أخذ من قرينه الحاج علي بن عبد الرزاق الوسلاتي ألفين وخمسمائة محبوب، وضم إليها مثلها، وقدمها هدية إلى يوسف صاحب الطابع وقال له إن لنا في سوق العطارين نحو الأربعين سنة فكيف يسوغ للأمين أن يخرطنا في الأحداث. ولما عرض أمين السوق جريدة الآفاقيين الذين بالعطارين على الباي استثنى من الإخراج كلاً من التاجرين المذكورين لوجاهتهما، فسقط ما في يد الأمين، وأخرج من سواهما وكان حمودة باشا إذا مر بحانوت الحاج سالم وقف عليه ومالحه، وهو مولع بالتضمخ بالطيب كثيراً. وأما الشيخ الطاهر بن مسعود فولي الإمامة. وأما صاحب الترجمة فتضلع بالمعقول والمنقول، وجلس للتدريس في الفروع والأصول، وأخذ عنه كثير من العلماء الفحول، واشتغل بالمتجر وصناعة الشاشية، واتسع في ذلك نطاقه. ولما توفي الشيخ محمد سويسي أرسل له الأمير حمودة باشا إلى حانوته بالسوق الكبير من أسواق الشواشية واستحضره فقلده خطة القضاء بالحاضرة وخطة النيابة بجامع الزيتونة، وعدت توليته من كمال معرفة الأمير بحقيقة أهل بلده فزان الخطتين علماً وإنصافاً وديانة. وكان جهوري الصوت تقرع مواعظه القلوب، لا يتخلف عن الجامع تدريساً وإمامة، مع القيلم بحقوق خطة القضاء على الوجه المرتضى، لا تأخذه في الحق لومة لائم، زكي النفس إلى أن بلغ من العمر نحو خمس وستين سنة، وتوفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من يناير الموافق للتاسع من شوال سنة 1217 سبع عشرة ومائتين وألف عليه رحمة الله. وأرخ وفاته قاضي الفريضة الشيخ محمد الحشايشي الشريف بقوله: [الكامل] كل امرىء وسط التراب يكون ... فالموت من بعد الكرام يهونُ هذا الطويبيّ عالم ثبت الحوى ... شرع الرسول وللحقوق يصونُ عز القضاء بعفة وسياسة ... وبفصل أحكام إليه شؤونُ الجامع الأسنى استنار بدرسه ... من للرواية أصلها مدفونُ واأسفاً للوعظ مات بموت من ... قد كان منه للجهاد عيونُ باهتْ به الخضراءُ توني مشرقاً ... بنفيسِ فهمٍ دره مكنونُ يا ربنا أجزل قراء محمد ... وامنحه قصراً روضه مسكونُ فلقد ألمّ بباب جودك راقياً ... يرجو لقاءك بالمنى مقرونُ ناداه داعي الفضل بشرى أرخوا ... (مسكنه الفردوس فيه يكونُ) -9- الشيخ عمر المحجوب هوالشيخ أبو حفص عمر بن القاسم بن الحاج المحجوب المساكني الشريف نشأ بين والده في طلب العلم، وكان ذكياً يحضر على والده مع أخيه مع أنه أصغر منه سناً وعلماً، ومع ذلك فإنّ والده يشهد له بفضل الذكاء، وقرأ على كثير من علماء ذلك العصر منهم الشيخ محمد بن حسين الهدة السويسي والشيخ محمد الغرياني وأجازاه بالإجازة العامة المطلقة وهذا نص إجازته الغريانية: أحمده حمداً معترفاً بالعجز عن إحصاء حمده، وأشكره شكراً مقراً بإحسانه ورفده، لأنه لاإله إلا هو وحده في ملكه، من اعتصم بحبله المتين أفلح فملك ومن شرد عن بابه الكريم خاب وهلك، وخير العباد من صدق التوجه إليه، واقتفى بكنه الإلهية في أمره كله عليه، وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم وعبده وعلى آله وأصحابه، وعترته وأحبابه، وكل مؤمن ينتسب إلى بابه صلاة تفوق الإحصاء عدداً وفضاءً، وتملأ الوجود أرضاً وسماء، وتكون لحقهم الكريم منا أداءً، وأسلم كثيراً كذلك، والحمد لله على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 أما بعد فيقول أسير ذنبه وفقير كسبه الراجي عفو ربه، الفار من حوله وقوته، محمد بن علي الغرياني بوأه الله تعالى ومن أحبه دار الهناء والأماني، قد أجزت ولدنا الفقيه النبيه، الحسيب النسيب، الحائز من الفضل والعلم أوفر نصيب، المشارك في سائر العلوم، الراضع من لبانها الفمنطوق والمفهوم، وبلغ فيها بفضل الله غاية المراد، وبحث فأجاد وأفاد أبا حفص عمر بن أخينا حقاً، ومحبنا صدقاً العلم الشهير، النقاد الخبير، مفتي الأنام وشيخ الإسلام فريد دهره ووحيد عصره المتفنن في العلوم العقلية والنقلية المنفرد في الرئاسة الإفريقية أبي الفضل الشيخ الفاضل والهمام الأجل الكامل سيدي قايم المحجوب فيما تضمنه هذا الثبت بالسند المتصل بالمشايخ الأجلة والبدور الأهلة القائمين بالشريعة في عين الحقيقة السالكين في ذلك واضح محجة وطريقه إجازة عامة مطلقة إقراء وقراءة وإجازة لغيره بشرطه المعتبر عند أهله لأنه من وضع الشيء في محله وإعادته إلى من هو من أهله وعلمي بتقوى الله وأن لا ينسانس من صالح دعائه ونسأله سبحانه أن ينفع به العباد في الحاضر والباد، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير والصلاة والسلام على النبيّ الشهير وآله وصحبه ذوي الفضل والخير النضير. ونبغ في المعقول والمنقول وسلك في العلوم الفقهية والأصولية مسلك والده وأحرز راية البراعة في المعقول وحسن الخط وفصاحة القلم واللسان وجلس للتدريس فأفاد وكان من علمه وفضله يكتب للدولة مهمات المكاتيب الإنشائية بفصاحة قلمه، وحسن إنشائه، ونسخ للأمير كتباً تبهر العقول بحسن خطها وتنميقها مع اليد الطولى في حسن التوثيق والشعر الرقيق وجودة الصوت وجمال السمت. ولما توفي شيخ الختمة بجامع الزيتونة وحفيد شيخها الشيخ سويسي الثاني تقدم صاحب الترجمة عوضه شيخاً على الختمة. ولما توفي الإمام الثاني بجامع الزيتونة تقدم إماماً ثالثة بجامع الزيتونة في غرة رجب الأصب سنة 1210 عشر ومائتين وألف وهنأه الكاتب الشيخ محمد الدرناوي في ذلك بقوله: يا أيها العلم الحبر الإمام ومنْ ... حفته من جده طه العناياتُ ومن تسامى إلى أن نال مرتبة ... في الأفق من دونها الشهب المنيراتُ وأيها العلم الفرع الذي جُمِعَتْ ... فيه خصال حميدات جميلاتُ إن النيابة مذ وليتها ابتهجت ... حتى لقد أشرقت منها الدُّجنَّاتُ فيا لها خطة قد كان فاز بها ... أيمة في قديم الدهر ساداتُ أتتك ساحبةً ذيل الفخار بكم ... من بعد شوق وللأشياء أوقاتُ فاهنأْ بها يا أبا حفص الإمام ودم ... في أنعم ما لها في العد غاياتُ وليكن في كريم علمك أيها الشيخ الجليل، والفاضل الذي ليس له من مثيل، أنه قد تعذر عليَّ الحال، عن زيارتكم الهنا، يا نعم المنى والتأنيس بلقيلكم، ومشاهدة محياكم، ولم أجد عارفاً بشروط النيابة لمخاطبة تلك المثابة. [الطويل] بعثت بنظمي نائباً عن زيارتي ... ومخن لم يجد ماء تيمم بالترب والخليل الجليل، والكريم الكثير الجميل، يقبل القليل، كالعين مع شرفها تقبل ما يهديه إليها الميل، وربنا سبحانه وتعالى يزيد في قواكم، على القيام بما أولاكم، ويتقبل منا ومنك حسن الأعمال، ويجعلنا وإياكم من أهل الكمال، والسلام. وحيث أن صاحب الترجمة ولي الخلافة على توالي المرض كتب إلى صديقه المهني له بما نصه: [البسيط] وافت وللصب من شكواه لو عاتُ ... تحية عبقت منها البراعاتُ ما خلت قبل انتشائي من بدائعها ... أن المهارق منها البابلياتُ ما غادة غَنِيَتْ في روضة زهيت ... أنوارها منها وزهت المنيراتُ أطيارها صدحت تشدو بما فرحت ... من حسن ما شرحت تحلو الصباباتُ أبهى وأحسن عندي من مهارقكم ... حلت بها من معاني الحسن أشتاتُ فنظمها ناثر في مسمعي درراً ... والنثر ينظم منه اللؤلئياتُ تخالها كالدراري السبع في طبق ... من النضار لهل بالمسك حالاتُ راقت لدى ناظري منها قلائدها ... وشنفت أذني منها المقاماتُ جاءت وقد عظمت عندي نيابتها ... عنكم فهنت ولذت لي النياباتُ يا أيها الأوحد الأحظى بمنزلة ... على البيان لكم منها الولاياتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أما فؤادي فمشفوف بودكم ... والود لا تمترى منه الدلالاتُ وحيث ما صح منك الود معتبطاً ... فلا علي إذا فاتت ملاقاة ولتعرفى أيها المولى الفاضل، والمحرز لأشتات الفاضائل والفواضل، أنه قد حال الجريض، دون القريض، وشغلتنا الأدواء عن الكتابة والتعريض، وضُرِب بيني وبين الآداب بسور من معالجة الأبدان ونسا بيني وبينها الظَرِبان، وصرت حتى كأني لا أفهم من الموافقة إلا ملائمة العلاج، ولا المراد بالمطابقة إلا المساواة في المزاج، ولا من الاستخدام إلا استخدام الغاذية لقواها، واعتبار العوارض التي تغشاها، ولا من التجريد إلا مقدمة الغوص في الأبْزَنَات، ولا من التفريد إلا العدول عن فويّ المركبات، ولا من اللف إلا ما كان خوف الأهوية، ولا من الحل إلا تفكيك الكثيف من الأدوية، ولا من العقد إلا عند المعاجين والحبوب، ولا من القبض إلا امتناع التفل عن أن يصوب، ولا من الجناس إلا الأَجناس العشرة من النبض ولا من التعديد إلا عدّ أنواعه السبعة والعشرين وتمييز بعضها عن بعض، وبجملة لم يبق لي من الأدب شوب، ولا روب، ولا هارب، ولا قارب، وصرت عند ورود موارده، والنزع إلى رسائله وقصائده، كما قيل في المثل إذا أصابت الظباء الماء فلا عباب، وإن لم تجده فلا أباب، غير أنه لما وردت صحيفتكم السنية، الباهية الرضية، وصُلينا منهاببلية، واعتبرنا قوله تعالى وإذا حييتم بتحية، ووجدنا رد الجواب عنها من الواجبات الشرعية، ووجدتني في الإتيان بمثلها عاجزاً عنها، فضلاً عن الإتيان بأحسن منها، تفصينا عن الوقوع في مخالفة الآية، ورأينا أن نأتي بالميسور وإن لم يصل الغاية، وحيث كانت العزائم بالعجز عنها مطرحة، فلا جرم أنّا نقرع أبواب الرخص المتفخة، فإن لم يصبها وابل فطل، وإن لم يكن خمر فخل، والله تعالى يحرس علاكم ويديم بقاكم، وليس لنا عليكم إلا الدعاء بظهر الغيب وإن لم يظهر من الجيب ونستوهب من واهب الصور النوعية، أن يفيض علينا من عنايته القدسية، بمنه وكرمه والسلام. وقد قام بخطة النيابة أحسن قيام بلغت به إمامة جانع الزيتونة في ذلك العهد إلى غاية المرام، ولما توفي الشيخ محمد الطويبي قدمه حمودة باشا لخطة القضاء وخليفة بجامع الزيتونة يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال سنة 1217 سبع عشرة ومائتين وألف، فزان الخطتين بفصاحته وعلمه زمتانة فقهه وكمال خبرته بفقه القضاء وتطبيق النوازل وهنأه بذلك إبراهيم الرياحي بقصيدته التي يقول في مطلعها: [الطويل] على قدَرٍ وافتك عالية القدْرِ ... ويا طالما حنت إلى وجهك البدر وكان الأمير حمودة باشا يستجيد خطبته، بحيث لا يكاد يتخلف عن حضور الجمعة بجامع الزيتونة رغبة في سماع خطبته. وكان سَمَّى أخته لوزيره صاحب الطابع، غير أنه لم يزوجه منها فطلب الوزير المذكور من الشيخ أن يخطب في وعيد العضل رجاء أن يزوجه سيده ولما حضر الأمير الجمعة خطب الشيخ في ذلك فاستشاط الأمير غيظاً وكاد أن يخرج قبل الصلاة وبمجرد فراغه من صلاة الجمعة عزله من جميع خططه، وكان ذلك يوم الجمعة التاسع والعشرين من صفر الخير سنة 1221 إحدى وعشرين ومائتين وألف، فلازم بيته. وكان عالماً موثقاً فقيهاً أصولياً منصفاً، درسه رياض البساتين، سهل التناول، كاتباً شاعراً، فصيح القلم واللسان، بديع الخط، حسن المحاضرة، كريم الأخلاق، عزيز النفس. توالت عليه الأمراض بعد عزله فلازم جبل المنار إلى أن توفي ليلة الأربعاء الموفي ثلاثين من المحرم سنة 1222 اثنتين وألف، وجيْ به إلى تونس فدفن بتربتهم بالزلاج ةعليه رحمة الله آمين ورثاه بما كتب على قبره الشيخ عبد الرحمن الكامل بقوله: [الكامل] قف واعتبر فهنا ترى الأنباء ... جاءت بها عن صخرها الخنساءُ ودع المدامع هطلا فلقد بكت ... أسفاً عليك الصخرة الصماء واندب من اللذات مضغتها لقد ... ذهب الهناء وساء منه عزاء تبكي فقيداً عاد في أصدافه ... شرفت به الخضراء والغبراء تبكي أبا حفص وهل يجدي البكا ... ذلت لعز مقامه الؤساء محجوب أسرار صفت لجنابه ... فثوابها في لحده الإخفاء هذا لعمري قبره فأعجب به ... قد ضم بحراً موجه الألاء من للعلوم وكان في روضاتها ... قمر الدجى عمت به الأضواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 من للفصاحة حين كان أميرها ... شهدت إليه بطوعها البلغاء من للبلاغة نثرها ونظامها ... فلها بنعيك حرقة وبلاء من للمحافل حين كان رئيسها ... وجذيلها وله الوقار وقاء من للمنابر بعد فقدك خاطباً ... لك في علاها رتبة القعساءُ أبديت في غرر العلوم غرائباً ... عن مثلها تتقاصر الآراء يا سيداً والفضل فيه سجيةٌ ... ما هذه الأهوال والأسواء لك نسبة الشرف الزكي نفاسة ... شرفت به الآباء والأبناء فاهنأ بخير وافر من راحمٍ ... ضمن الوفاء لمن له إدلاء يفنى الزمان وطيب ذكرك في الورى ... باق عليك ونشرة فيحاء فعليك من صفو الفؤاد تحية ... ما نوحت بفراقك الأدباء وعلى محبك حسرة وتأسف ... حتى يطيب لمقلتيه بقاء عظم المصاب بكم بقول مؤرخ ... (عظمت بفقدك عندنا الأرزاء 10- الشيخ إسماعيل التميمي تقدم استيفاء ترجمته في المفتين، وقد تقدم لخطة القضاء في غرة أشرف الربيعين من سنة 1221 إحدى وعشرين ومائتين وألف وأقام في الخطة نحو الأربعة عشرة سنة، فزانها وامتحن فيها. وتقدم إلى الفتيا وصار رئيس أهلها إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. 11- الشيخ أحمد بو خريص هو الشيخ أبو العباس أحمد بن علي بو خريص من أبناء زاوية كرامت الشهيرة الشرف بجبل وسلات، وينتسبون إلى غوث الله الشيخ سيدي أبي مدين شعيب بن الحسين الأندلسي صاحب المناقب الشهيرة بتلمسان الذي توفي سنة 594 أربع وتسعين وخمسمائة. وقد وقفت على شجرة شرف لأحد أبناء زاوية كرامت التي ينتسبون إليها الآن وبه يتصل شرف عبد الرحمن بن محمد المديوني ابن إبراهيم بن عمر بن علي بن سالم بن علي بن أحمد بن قاسم وذكر فيها أن المديونيين من الأشاف على فرق، منهم فرقة بتلمسان ومنهم فرقة في تونس وفرقة في باجة، وأن جدهم الذي يتصلون به هو أبو محمد عبد الله المديوني ابن محمد بن علي بن قاسم المذكور آنفاً. ثم إن قاسماً هو قاسم بن سالم بن عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن عبد المطلب اللطيف بن محمد بن عبد الله بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن الصبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان تاريخ الرسم المذكور أواسط جمادى الأولى سنة 1202 اثنين ومائتين وألف ممضى بختم الشيخ عبد الكبير الشريف نقيب الأشراف بتونس. أما ولادة صاحب الترجمة فكانت بوسلات سنة1156 ست وخمسين ومائة وألف. ولما أجلى الباشا أهل جبل وسلات من مكانهم وأخلاه سنة1175 خمس وسبعين ومائة وألف قدم مع والده إلى حاضرة تونس، وتوجه لخدمة العلم الشريف، وقرأ على الشيخ محمد الشحمي والشيخ صالح الكواش والشيخ محمد الغنجاتي والشيخ محمد الغرياني والشيخ عبد الله السوسي وولده الشيخ محمد الأوسط وغيرهم من علماء ذلك العصر حتى تضلع من علوم الدين. وتصدى للتدريس فأقرأ الفقه والفرائض والعلوم العقلية بجامع الزيتونة والخلوة المحرزية الكائنة قرب رحبة الغنم. وتصدى للإشهاد فنال في التوثيق أكمل رتبة وتقدم إماماً وخطيباً بجامع الحلق خارج الباب الجديد وخطب فيه الخطب البليغة من إنشائه. ثم قدمه لأمير محمود باشا لخطة القضاء تاسع ربيع الثاني سنة1230 ثلاثين ومائتين وألف فوسع الناس إنصافاً وعدلاً، ولم يقبل خصماً في داره، ماتزم الحكم بدار القاضي في مدة ولايته الوجيزة حيث إنه لم يستكمل الأربعة الأشهر. واستحال نور بصره إلى بصيرته فاستعفى من الخطة في أواسط رجب من تلك السنة وأقبل على شأنه في التدريس، فبذل فيه نفائس العمر النفيس. وكان مرجعه في عويصات المسائل هو ضريح الشيخ القرجاني فيفتح عليه هنالك بحلّ ما يُشكل، وقد حكي عنه في بعض المرار فتح عليه بمجرد عزمه على التوجه إلى الشيخ القرجاني، فرقص من ذلك طرباً بما وجده من لذة المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وكان له في العلم ستة أشبال امتحن بفقد أربعة منهم في الطاعون الجارف، وهم العلماء مصطفى وحسن والطاهر وأحمد كلهم نشأوا بين يدي والهم وحفظوا المختصر الخليلي وقرأوه على والدهم كما قرأوا على تلامذته كالشيخ محمد بن ملوكة والشيخ الطاهر بن مسعود، وقد توفي أولهم في صفر الخير سنة 35 خمس وثلاثين وكان فقيهاً فرضياً وفي اليوم الرابع لحق به أخوه الثاني وفي ربيع الأول لحق بهما أخوهما الطاهر العرض وكان أديباً شاعراً متفنناً في الخط، وفي رجب لحق بهم أخوهم الرابع وكان موثقاً فرضياً، وقد صبر الشيخ على فقد أربعتهم. وبقي بين يديه من أبنائه عالمان وهم الشيخ محمد والشيخ محمود وكلاهما على طريقة إخوتهما في الفقه والفرائض مع البراعة في الإنشاء وقد ترقيا لخطة الكتابة فكان الشيخ محمد كاتباً في المحلة وصاحبَ أحمد باشا في الأمحال سنين كثيرة وعليها توفي رحمه الله. وأدركت الشيخ محمود كاهية باش كاتب بديوان الإنشاء وهو مرجع في مشكلات الفرائض، وله يد في الفقه، كثير الكتابة في المسائل الفقهية. صاحب أناة ووقار، ملازم للمطالعة وأكثر مطالعته الكتب الفقهية، ملازم حضور الخمس في الخلوة المحرزية التي في رحبة الغنم، لا يتخلف عن صلاة الصبح فيها شتاء وصيفاًن مع ملازمته تلاوة القرآن وله وجاهة واعتبار في النفوس يعظمه الجليل والحقير لعلمه وديانته ووجاهته. وقد دعاه الأمير محمد باشا باي لإقراء ولده حسين باي العلم فجلس به مجال معدودة، وللأمير الصادق باشا باي به عناية لما له من حسن الملاطفة معه. ولاختصاصه بمعرفة دقائق الحساب اختص برئاسة قسم المحاسبات في الدولة حين تقسمت وزارتها سنة 1286 ولما استقر المجلس الشوري سنة 1296 انتظم في سلك أعضائه وأقام على وظائفه إلى وقوع انقلاب أواسط سنة 1298. وكانت ولادته عام 1215 خمسة عشر ومائتين وألف في أواسط سنة ثمان وتسعين تنقل بأهله إلى سكنى المرسى ثم أصابه فالج عطله فعزل بسبب تعطله من خطة كاهية باش كاتب وأقام مضاجعاً للمرض، إلى أن أتاه محتوم الأجل صبيحة يوم الأربعاء الثالث من جمادى الثانية سنة 1301 إحدى وثلاثمائة وألف ودفن عشيته وشيع جنازته جميع العلماء والكتاب ووجوه الأهالي إلى القرجاني، وصلى عليه قاضي الحضرة يومئذ. وخلف ولدين وهما أبو العباس أحمد وأبو عبد الله محمد الطيب وأولهما معدود من أعيان علماء جامع الزيتونة في الرتبة الأولى من خطة التدريس، وبيده مشيخة المدرسة الحسينية الصغرى، ثم ارتقى إلى خطة الإفتاء فصار مفتياً سادساً صبيحة يوم السبت الحادي عشر من صفر الخير سنة 1302 اثنتين وثلاثمائة وألف وسر الناس بولايته لتواضعه وحسن معاملته وله مشاركة في الفنون الآلية والنقلية. هذا وأما جدهم صاحب الترجمة فكان بيده إمامة جامع الحلق وخطبته ومشيخة المدرسة الحسينية الصغرى. وبعد تخليه عن القضاء لازم التدريس. وكان عالماً نزيهاً فاضلاً قدوة محصلاً فقيهاً فرضياً موثقاً صبوراً زكي النفس عمدة في النقل ثبتاً متواضعاً حسن اللقاء توفي خامس ربيع الأول سنة 1240 أربعين ومائتين وألف بعد أن بلغ من العمر أربعاً وثمانين سنة ودفن بالقرجاني عليه رحمة الله ورثاه العالم الشاعر الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الخفيف] كم رحيق معطر مختوم ... في كؤوس المنطوق والمفهوم قد سقاها أبو خريص ندامى ... أطربتهم بسرها المكتوم في دروس أنوارها ساطعات ... في سماء النهى بحسن فهوم طالع السعد قال ذاك محلّي ... لا تحيدوا عن قطبها المعلوم أحمد جامع الجوامع طراً ... سيدٌ في الكمال غير مروم عضد الدين حجة وهو فخر ... في سبيل الهدى وبث العلوم أي بحر في العلم لم يجر منه ... أي ظام من ريه مختوم ذكره المسك في الأنام ... عبيقٌ قدره دونه مجاري النجوم يشبه الشمس شهرة في البرايا ... في ثناء كاللؤلؤ المنظوم ثم لبى لما دعاه المنادي ... لقضاء على الورى محتوم سكن القبر بعد تلك المعالي ... يا لحصن من الهدى مهدوم! إن هذا المصاب خطب جسيم ... باذل الروح فيه غير ملوم غير أن المصير للفضل كف ... تغرس الصبر في الفؤاد الكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يا إمام الهدى عليك سلام ... من رؤوف بالعالمين رحيم رحمة في الحياة كنت وقوراً ... أي جهل من بعدها مركوم فحقيق قولي متى قلتأرّخ ... كسفت بعدها بدور العلوم -12- الشيخ سالم المحجوب هوالشيخ أبو النجاة سالم بن حسن ابن الحاج المحجوب المساكني الشريف، قرأ على ابن عمه الشيخ محمد المحجوب وغيره، وتصدى للإشهاد. ثم تقدم لخطة القضاء ببنزرت، ولعل ولايته كانت عقب استعفاء العالم النحوي المحصل الشيخ حمزة الجباس وذلك أنه ولي خطة قضاء بنزرت عام خمسة عشر وأقام في بنزرت أربعة أشهر أصلبه فيها مرض على ضعف بدنه فاستقال من الخطة ورجع إلى تونس، إلى أن توفي سنة سبع عشرة فكان ولاية صاحب الترجمة بعده ببنزرت، وأقام فيها مدة. ثم لما عاد المولى عثمان باشا اجتماع المجلس الشرعي أَوْلَى في خطة قضاء باردو الشيخ قاسم ابن قاضي باردو المختار المنكبي غرة ذي القعدة الحرام سنة 1229 تسع وعشرين ومائتين وألف فلم يقم على الخطة إلا قليلاً، واستعفى فتقدم عوضه صاحب الترجمة لخطة قضاء باردو المعمور في تاسع ربيع الثاني سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف. وأقام على الخطة المذكورة مع مشيخة المدرسة الجاسوسية، إلى أن توفي الشيخ محمد العذاري قاضي المحلة فتنقل عوضه لمشيخة المدرسة المنتصرية في ربيع الثلاثين سنة 1234 أربع وثلاثين وولي عوضه على المدرسة الجاسوسية الشيخ أحمد الكيلاني الطرابلسي. ثم لما تقدم الشيخ إسماعيل التميمي لخطة الإفتاء يوم عيد النحر سنة1234 أربع وثلاثين قدمه الأمير محمود باشا لخطة القضاء بالحاضرة وأعانته عليها معرفته بالتوثيق وكانت بيده إمامة مسجد السبخة. وأقام في خطة القضاء ست سنين، فعرضت له نازلة قبل فيها التجريح في عدولها مع أنهم من ثقات العدول الذين جرى العمل بعدم قبول التجريح في أمثالهم، وأفضى الأمر فيها إلى عزل شهود التجريح ثم اجتمع المشايخ أبناء عمه ومن معهما وكتبوا شهادة بقصوره وعدم رجوعه لمشورتهم وجعلوها عن إذن القاضي الحنفي الشيخ محمد الدرويش فامتنع من الختم عليها وقال: إني ما علمت عليه من سوء في مدة ولايته الخطة وأفضى الأمر إلى إرسالها للأمير بدون ختم فقبلها الأمير وصرفه عن الخطة يوم الجمعة الثالث من ذي القعدة الحرام سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف. وكان موثقاً خيراً مشاركاً فرضياً حسن الأخلاق صبوراً لازم بيت العزل بيته، إلى أن توفي يوم الخميس سابع شعبان الأكرم سنة1254 أربع وخمسين ومائتين وألف ودفن بتربة آله من الزلاج عليه رحمة الله آمين. -13-الشيخ الشاذلي بن المؤدب تقدم استيفاء ترجمته وتقدم لخطة القضاء بالحاضرة عند عزل من قبله في ذي القعدة الحرام سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف، ولازم استشارة الشيوخ والتحري لدينه. ولم تطل مدة ولايته المذكورة فارتقى منها لخطة الفتيا ثاني ربيعي سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين وألف، ولازم الفتيا إلى أن توفي، عليه رحمة الله. -14-الشيخ محمد البحري هو الشيخ أبو عبد الله محمد البحري بن حسين بن عبد الستار بن عامر المانسي قدم جده عبد الستار بن عامر من مانس قرب جبل وسلات عندما أجلاه الأمير علي باي بن حسين، وقرأ بتونس، وحج بيت الله الحرام، وكان مجوداً واستكتبه الوزير الحاج علي بن عبد العزيز، وتوفي عام 1205 خمس ومائتين وألف وأرخه أحد شعراء عصره بقوله: [الخفيف] ذا ضريح قد حاز سراً ونوراً ... ونعيماً وبهجتاً وسرورا ضم حبراً براً تقياً عفيفاً ... شكره بالثناء أضحى عطيراً ذاك عبد الستار من حاز فخراً ... واعتزازاً ونال فضلاً كبيرا أتقن السبع في القراءة فهماً ... وأداء وكان بدراً منيراً ولقد عطر الزمان بذكر ... في البراري أن ليس يخشى فتوراً قد دعاه داعي المنايا فلبى ... بامتثال ونال في الخلد حورا فدعونا وقلت إذ أرخوه ... ربَّي أسكنه في نعيم قصورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقد اعتنى الشيخ المذكور بولده حسين وحضه على خدمة العلم فقرأ على الشيخ محمد الغرياني والشيخ صالح الكواش، ولازم الشيخ محمد بن سعيد النجم، ودرّس بمسجد سيدي أبي عصيدة قرب داره. ولما زيد له ولده صاحب الترجمة سماه محمد ولقبه وحجره للشيخ سيدي البحري صاحب الزاوية المعروفة بتونس وقد امتحن بفقد ولده المذكور في حياته وتوفي في غرة ذي الحجة الحرام سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف. وكانت ولادة ولده صاحب الترجمة سنة 1197 سبع وتسعين وائة وألف فتربى في حجر جده، ثم دخل إلى جامع الزيتونة، فقرأ على الشيخ الطاهر بن مسعود والشيخ إبراهيم الرياحي ولازم الشيخ حسن الشريف إلى أن تضلع بمعقول العلوم ومنقولها، فتصدى للتدريس. وتقدم إماماً بجامع ابي محمد الحفصي بعد الشيخ إسماعيل التميمي ولما إرتقى الشيخ محمد العذاري إلى خطة قضاء باردو وتقدم عوضه لخطة قضاء المحلة وسافر مع المقدس مصطفى باشا في مبدإ دولة أخيه، وأقبل عليه أمير المحلة بالمودة التي استحكم أمرها بينهما. ثم قدمه الأمير حسين باشا قاضي بالحاضرة في ربيع الثاني سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين وألف فاعتمد في ذلك على مراجعة الشيخ إسماعيل التميمي، ولازم الرجوع إليه في توقيفاته إلى أن تفقه في مهيع الشيخ التميمي بفقه القضاء بحسن رجوعه للحق. وكان الشيخ محمد السنوسي جدي الأعلى يحضر المجلس الشرعي بخطة قضاء باردو، والعادة أن صاحب الخطة المذكورة ليس له حق التكلم في النوازل التي ترد للمجلس، ومع ذلك اتفق لصاحب الترجمة أن حكم في نازلة بالقتل ووافقه على ذلك من حضر من الشيوخ فأمر إليه المولى الجد بأن مشهور المذهب الذي عليه العمل في النازلة غير ما وقع عليه الاتفاق، فلم يتهيب الشيخ أن طلب من الأمير تأخير النازلة إلى أسبوع قابل وعند رجوعهما أرسل له النص في المسألة فلم يكن منه بعد العصر إلا أن ركب فرسه الخضراء، وحضر لدار المولى الجد وعند تلاقيهما قبله بين عينيه، وقال له: أنقذتنا من قتل نفس أنقذك الله من النار، وأرسل النص في المسألة لكافة الشيوخ، ولما حضر المجلس أمر بإحضار المدعى عليه وأعلن في المجلس للأمير بما وقع من المولى الجد وأن المشايخ اتفقوا على عدم قتل الرجل وقضى بذلك، شأن المنصفين المحبين للإهتداء إلى سواء السبيل. ونازلة الأختلاف الذي وقع بينه وبين شيخه إبراهيم الرياحي قد عظم أمرها بسعاية من تداخل بين الشيخين من السعاة نسأل الله أن يغفر للجميع، بجاه النبي الشفبع. ومن لطيف التورية ما رأيته من شعر الشيخ محمد بيرم الرابع يخاطبه وقد وجه إليه حواشي الحكيم بعد أن طلبها بعد أن طلبها منه وتأخر بإرسالها. [الطويل] أيا من عدا تاجاً على مفرق الدهر ... ودرة يتم في عقود بني العصر أتتك من التحقيق خود كواعبٌ ... تجل إلى التشبيه بالأنجم الزهر ولا تحسب التأخير مني لريبة ... وحق الضحى والليل والعصر والفجر ولكنها در نفيس وكيف لي ... بأن أهدي الدر النفيس إلى البحر قيل: إنه قبل ولايته القضاء رأى رؤية وهي أن سيدنا أبا بكر الصديق أعطاه شيئاً من الفاكهة وإحدى عشرة خبزة وسيدنا عمر أعطاه ميزاناً، فعبر الميزان بالحكم والخبز بأعوان الولاية والفاكهة بأن تلك المدة تكون أيام سرور وراحة. ولما ولي القضاء واستكمل السنين طلب من أحد المنجمين عند دخول سنة 54 أربع وخمسين أن يعمل له نصبة في أحوال البلد، وأرسلها للشيخ عثمان النجار، فلما نظر فيها كتب عليها ولاية وعزل وموت أكبر قضانها فظن صاحب النصبة أن أكبر القضاة الميت هو الشيخ إبراهيم الرياحي وكان مسافراً في حج بيت الله الحرام نيابة عن الباشا مصطفى باي، ورأى أنه أن أعلم الشيخ البحري بذلك سره الأمر فلما أعلمه الخبر أصفر وجهه ورأى أن ذلك مطابقاً لمقتضى رأياه عليه رحمة الله. وكان عالماً، فقيهاً، محققاً، فاضلاً، حازماً، عالي الهمة، حسن الأخلاق، ذا صيت بعيد، وسعي حميد، نفع به كثير من العبيد. وتوفي ليلة الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة 1254 أربع وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. 15- الشيخ محمد السنوسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 هو جدي وشيخ مشايخي أبو عبد الله محمد السنوسي بن عثمان بن محمد بن أحمد عرف ابن مهنية من حفدة الولي الصالح الشيخ سيدي عساكر بن ضيف الله بن محمد بن منصور بن إبراهيم بن محمد بن عامر بن موسى بن عبد الله بن عثمان بن بخت بن عياد بن ثابت بن منصور بن عامر بن موسى بن مسعود بن علي بن عبد المجيد بن عمران بن محمد بن داوود بن علي بن عبد الله بن إدريس بن إدريس الأصغر بن إدريس الأصغر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن الصبت ابن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان سيدي عساكر من مشاهير الأولياء رضي الله عنه، وهو دفين قلعة سنان قرب الكاف. كان حفيده أبو العباس أحمد بن مهنية القلعي خيراً، حج بيت الله الحرام. وتنقل ولده أبو عبد الله مَحمد بفتح أوله إلى بلد الكاف، وأقام بها إلى أن توفي ودفن بمقصورة الشيخ سيدي ابن حرزة الله. ونشأ ولده الشيخ أبو النور عثمان في طلب العلم، فقرأ هنالك أولاً، ثم ارتحل إلى تونس فقرأ بجامع الزيتونة على الشيخ عبد الله السوسي وقد استفدت ذلك من تقاريره التي على كتبه، وقرأ على غيره من علماء ذلك العصر وسكن المدرسة المرادية ن وأقرأ بها، وتقدم لخطة العدالة على عهد الأمير محمد الرشيد بن حسين بن علي في أواخر جمادى الأولى سنة 1170 سبعين ومائة وألف، ثم قدمه الأمير علي باي ابن حسين مدرساً بالجامع الكبير ببلد الكاف، ومرتبه عن ذلك ستة نواصر، وذلك أةائل جمادى الأولى سنة 1177 سبع وسبعين ومائة وألف، فرجع إلى بلده وتصدى للإقراء. وأخذ عنه هنالك الشيخ الحاج أحمد الزين قاضي بلد الكاف، والشيخ الحاج أحمد بن العلمي، والشيخ الحاج ونيس وغيرهم. ثم قدمه الأمير المذكور لمشيخة المدرسة الحسينية بالكاف، ومرتبه سبعة نواصر، وذلك في أواسط المحرم سنة 1181 إحدى وثمانين ومائة وألف، وزاده بعد ذلك في مرتبه ضعفيه حتى بلغ ست خرارب يومياً. وكان في أثناء إقامته يقدم لتونس لزيارة أحبته بها وألإجتماع بهم. ولما قدم إلى حاضرة تونس أوائل سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف قدمه الأمير علي باي لخطة الفتيا ببلد الكاف في التاسع والعشرين من صفر الخير سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف على كره منه، ورجع إلى بلده كرهاً يطلب حسن الخاتمة فلم تطل إقامته في الخطة، وعاجله الأجل ودفن بمدفن والده بمقصورة سيدي ابن حرز الله، وإلى هذا اليوم على قبره تابوت وهو مزار في بلد الكاف. وكان عالماً عاملاً ولوعاً بالمعقول جميل الخط نسخ كتب قراءته كلها بخطه وكتب على جميعها التقريرات وتحريرات عن أشياخه ومن استظهاراته قد انتفعت بها حال قراءتي وإقرائي. وكان متخلقاً بأخلاق الصالحين محباً في الأولياء، كثير الزيارة لهم، سمى أولاده على أسماء من تيمن بأسمائهم تفائلاً، فسمى أكبرهم باسم عالم الكلام صاحب الكبرى الشيخ سيدي محمد السنوسي وسمى الثاني باسم الفقيه الصوفي الشيخ سيدي أحمد زروق، وسمى الثالث باسم القطب الشاذلي رضي الله عنه. وقد حقق الله رجاءه في جميعهم. فأمل الشيخ محمد الشاذلي فكان عالماً فاضلاً كثير الخلوة ملازماً للأذكار تقدم للتدريس بجامع بلد الكاف في المحرم سنة 1212 إثنتي عشرة ومائتين وألف، ومات قتيلاً في الطريق بين تونس والكاف. وترك ولداً من علماء الزيتونة وهو الشيخ محمد اللخمي قرأ على عميه وارتحل إلى صفاقس للأخذ على عالمها الشيخ محمد مقديش فأخذ عنه علوماً انفرد بها من دقائق الحساب والهيئة وعلوم حكمية نظرية عملية وتعاطى بها فن الكيمياء والرمل والجفر كثيراً، وبرع بالمعقول والمنقول، وأقرأ بتونس كتب مهمة منها شرح السعد على العقائد النفسية وكان حسن المحاضرة أديباً ظريفاً فرضياً موثّقاً حسن الملاقاة والإلقاء وتوفي بالمرض العام سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. وأما الشيخ أحمد زروق فكان من فحول العلماء وخاصة البلغاء، وزان الخطط العلمية وتوفي على خطة قضاء المحلة المنصورة، عليه رحمة الله آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وأما المولى الجد صاحب الترجمة الشيخ مخحمد السنوسي فقد ولد سنة 1176 ست وسبعين ومائة وألف ونشأ بين يدي والده وقرأ هنالك كتب المبادىْ حى أنه لما توفي والده قدمه الأمير علي باي لمشيخة المدرسة الحسينية بالكاف عوض والده في الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة 1195 خمس وتسعين ومائة وألف، وعند ذلك قدم لتونس في طلب العلم ونقل عنه أنه عند وصوله لتونس أسرع إلى جامع الزيتونة، وذلك أول عهده به فدخله من أحد أبواب العطارين قبل صلاة الظهر، فرأى درساً سأل عن استاذه فإذا هو الشيخ صالح الكواش فانتظره إلى نهاية الدرس وسلم عليه وأعلمه بنفسه وطلب منه ارشاده إلى طريق استئناف العلم فأمره أن يأتيه للمدرسة المنتصرية وعندما أتاه إليها سلم له مفتاح بيته الكبرى التي على يسار الداخل، وأمره بحفظ المتون وأجلسه بين يديه، فأختص به اختصاصاً كلياً من ذلك العهد حتى صار يحضر جميع دروسه ويلازمه في داره ملازمة التلميذ البار لاستاذه، حتى أدخله على أهله، وصار يؤخر الدرس لتأخره فقرأ عليه المعقول والمنقول ورأيت في آخر نسخته من مختصر السعد أنه ختمه عليه يوم الثلاثاء تاسع شعبان الأكرم سنهة 1208 ثمان ومائتين وألف. وقرأ في أثناء ذلك على غيره من بقية السلف الذين أدركهم كالشيخ محمد الغرياني والشيخ محمد الشحمي، وغيرهما من فحول ذلك العصر، وأخذ الفرائض عن الشيخ أحمد بوخريص لكن أكثر قراءته على الشيخ صالح الكواش وعليه تفقه حتى صار يحيل إليه الإجابة في كثير من السؤالات الفقهية. ولما حضرته الوفاة أوصاه بسلوك طريقته في القناعة نقل عنه أنه قال له عند وفاته إن كنت ترغب في رضائي عنك فالزم حالتي التي تراني عليها فأخذ داره بعد وفاته ولم يغير شيئاً من بنائها حتى إن دهليزها ساقط فلم يقمه وقيل له في تغيير باب الدار فقال لا أغير حلقة مستها يد شيخي ولا باب رضيه شيخي وكان لا يتخلف عن زيارة قبره كل جمعة إلى أن توفي يركب على بغلته إلى باب عليوة فينزل راجلاً إلى أن يصل إلى قبر شيخه وراء مقام الإمام ابن عرفة فيترك نعله من بعد ويجلس هنالك وكان لا يترك قراءة القرآن لوالده وشيخه المذكور براً بهما وقد حصل من رضاه على العلم الواسع. وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة فأخذ عنه جم غفير، ثم قدمه الأمير علي باشا لخطة قضاء بنزرت تاسع ربيع الثاني سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف فأقام ببنزرت قاضياً وإماماً، وتصدى هنالك للإقراء فنفع وخرج من تلامذته من هو ولي هنالك القضاء والفتيا وكان قاضي الحاضرة في ذلك العهد هو الشيخ إسماعيل التميمي. وله مراجعات في مراسلات القاضي إسماعيل دلت على ما عنده من التمكن في الفقه والنوازل حتى استرجغه الأمير إلى الحاضرة وقدمه لخطة قضاء باردو المعمور ثاني المحرم سنة 35 خمس وثلاثين، وولي عوضه في قضاء بنزرت الشيخ عبد القادر التميمي. ورجع المولى الجد إلى سالف عادته من بث العلم بجامع الزيتونة عند باب الشفا، وقرأ عليه كثير من فحول المالكية والحنفية منهم الشيخ فرج التميمي قاضي المحلة قرأ عليه الأشموني فيما ينقل عنه، وباش مفتي المالكية الشيخ أحمد بن حسين، والمفتي المالكي الشيخ محمد البنّا والمفتي الشيخ محمد النيفر والمفتي الحنفي الشيخ مصطفى بيرم وقاضيى باردو الشيخ أحمد عاشور والعالم المدرس الشيخ حمدة بن عاشور وباش مفتي الشيخ الشاذلي بن صالح، والمفتي الشيخ محمد الشاهد والمفتي الشيخ صالح التبرسقي والإمام الشيخ أحمد بن الطاهر والمدرس الشيخ العربي الشريف وغيرهم من علماء تونس الأعلام. وتقدم لمشيخة المدرسة الحسينية الكائنة قرب سيدي قاسم السبابطي في الرابع والعشرين من صفر الخير سنة 1235 خمس وثلاثين ومائتين وألف بعد الشيخ محمد الشريف فأقام دروسها، وختم بها أختاماً مهمة، كتب فيها على عدة أبواب من صحيح البخاري منها تعليق على حديث بدء الوحي، وتعليق على حديث فضل العلم ولازم القيام بخطة القضاء بباردو فكان يقرأ الدرس بجامع الزيتونة من بعد صلاة الصبح إلى الضحى ومن هنالك يركب بغلته للحكم بباردو إلى الزوال، ثم في العشي يجلس للإشهاد والمطالعة، وكان من الأيمة الموثقين وربما أقرأ عشية أو ليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقد اتفق له مدة قضائه بباردو أن ورد إليه رجل يقال له موسى الغدامسي متشكياً من سليمان باش بواب يطلب منه ثمن قسطل وكان المشتكي به ذا سطوة فأرسل إليه يأمره بالحضور فوجده العون بمحكمة الأمير فأخبره بأن القاضي يأمره بالحضور فامتنع عليه متعللاً باشتغاله بحكم الأمير فأعاد وأمره بغصبه حيث إن الأمير لا يتوقف في الحكم عليه ولما رجع إلى العون انتهره وامتنع عنه بالدخول إلى المحكمة فرجع العون يشكو ما لا قاه من باش بواب وبادر الشيخ إلى النزول من موضع حكمه، وأمر بغلقه وذهب لدار الأمير يترقب خروجه من الحكم ليسلم لديه في الخطة. ولما بلغ خبر ذلك لباش بواب اشتد خوفه وتوسل بكثير من أهل الدولة فلاطفوه وواعدوه بحضوره لديه في محل الحكم وطلبوا منه عدم مقابلة الأمير فرجع، ولما بلغ خبر ذلك كله إلى الأمير مصطفى باشا أحضر باش بواب المذكور وأرسله للشيخ صحبة كاتبه الشيخ أحمد بن أبي الضياف ليبلغ للشيخ أن الأمير حكّمه فيه بما يشاء لامتناعه من الحضورلديه فلما بلغه رسالة الأمير قال له أما أنا فلا أحكم عليه إلا بإعطاء حق خصمه، وإنما أسأل الله سبحانه أن يحكم فيه بشديد حكمه فقال له الشيخ ابن الضياف والله يا سيدي لو حكمت فيه حكمك بما شئت لكان أهون عليه مما دعوته عليه وامتثل إعطاء حق خصمه ورجع، رحم الله جميعهم. وتقدم لمشيخة مدرسة النخلة ثاني صفر الخير سنة 54 أربع وخمسين فأقرأ بها وختم. ولما توفي الشيخ محمد البحري قدمه المشير أحمد باشا باي قاضياً بالحاضرة في الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة 1254 أربع وخمسين ومائتين وألف فزان الخطة بفقهه وديانته كأنّ المختصر الخليلي منه على طرف الثمام وهو أعرف الناس بخيباته في ذلك العصر، بهذا يصفه شيخ الإسلام الشيخ محمد بن الخوجة حيث اجتمع معه في الخطة إذ كان هوقاضي الحنفية مدة ولايته ومع ذلك فجميع أمهات الفقه التي كانت على ملكه، كلّها طالعها وأوقف عليها حتى أن بعض معاصريه يسميه مالكاً الأصغر وله مراجعات كثيرة في المذهب الحنفي نظم بعضها في منظومة لقط الدرر، وله في تقاييده كثير من هذا الباب. وكانت له مودة خاصة بالشيخ محمد بيرم الثالث لجوار منزليهما فيجتمعان صبيحة كل يوم عند أحدهما وكل واحد منهما يرجع لصاحبه في مذهبه، ولهم في ذلك مسائل كثيرة منها مسألة أرسل له صاحب الترجمة فيها نظماً يطلب منه بيان الحكم فيها بمقتضى المذهب الحنفي وهي قوله: [مجزوء الرجز] بعد سلام سائل ... عن حكم فرع معتبر هل اعتراف مشتر ... لمثل دار إن صدر بعد سنين أنّ ما ... كان اشتراه لعمر يعمل شرعاً عندكم ... أو حكم رده استقر وقد عرضت له نازلة تشعبت عمن قبله، وطال فيها النزاع وصاحبها صفاقسي يدعى القَط فوقف فيها إلى أن انهاها وأبرم فيها الحكم وأنشد في ذلك قوله: [الطويل] وقائلة هل للقضاء فيك موضع ... فنوليكها قلنا نعم ذاك عن شرط فقالت وما الشرط الذي أنت شارطه ... قرنت به تلك الولاية بالربط فقلت على أن لا أخوض خصومة ... مشعبة تُعيي كنازلة القَط وقد استمر في خطة قضاء الحاضرة إلى وفاته، فكانت مدة مباشرته خطة القضاء أكثر من خمس وعشرين سنة، قضى منها خمس سنين ببنزرت، ونحوتسع عشرة سنة بباردو والبقية بالحاضرة واجتمع فيها من قضاة المالكية مع الشيخ إسماعيل والشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد البحري، وكان معه من القضاة الحنفية الشيخ محمد علي الدرويش ثم محمد بن الخوجة وهو الذي أدركه في قضاء الحاضرة. وكان مدة هاته الخمس والعشرين سنة لم يترك فيها الإشتغال بالنوازل ومباشرة الحكم يوماً وكان مع ذلك وقد وقفت له على أبيات في مسودات تقاييده العلمية يشكو بها ما يجده من تعب الخصوم وهي قوله: [الوافر] أرى دهري تقّسم للرسومِ ... مدى ليلي ويومي للخصومِ فدهري كلّه خصم ورسم ... أقاسي منهما كلّ الهموم فما لي راحة أرجو انجلاء ... لما ألقى من التعب العظيم أحاول من فضاضة ذا وهذا ... أحاول منتج الشكل العقيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وقد نظم فيما به العمل من مذهب مالك أربعة آلاف ومائتي بيت من الرجز سماه لقط الدرر، ذكر فيه فروع المسائل مبسوطة الخلاف مع بيان ما به العمل معزوة لمحّال أنقالها ونقل عنه الشيخ محمد بن سلامة في رسالته التي ألّفها في معاوضة حبس القنديل بحيث إنّه نظم في غاية التحرير غير أن الشيخ تركه مسودة وجمع شمله من بعده حفيده بمباشرة الشيخ أحمد بن حسين وأضاف إليه بعض تلك المسائل مما وجده في تقاييد الناظم فكان تأليفاً من أعز ما يقتنيه القاضي أو المفتي وقد طبع بالمطبعة التونسية وكتبت عليه قولي: [الوافر] لمذهب مالك فضل الشموس ... تريك الرشد في طي الطروس وتهدي للشريعة وهي بحر ... حباك بدرّه القاضي السنوسي ولما نجز طبعه كتبت في ختامه بما نصه: من شآبيب فضل الكريم الوهاب، نستمطر أسكوباً ومن محض عنايته التي نبلغ بها إلى غاية الآداب ننال من الآمال مطلوباً، ذلك بأن الله ذو فضل عظيم فنحمده جلّ ذكره، وتعالى عن أن يوفى في العالمين شكره، حمداص يعبق بزيادة النعم نشره، ويعم سائر الحامدين بشره، وأنّى للعاجز أن يقوم بواجب حمد من خلق السماوات والأرض وما بينهما وهو الخلاق العليم. ونصلي ونسلم على من أرسله الله بالدين الحنيف وأيّده بالمعجزات المؤذنة بمزيد التشريف، وعلى آله وأصحابه الغنيين بفضلهم عن التعريف، ما اهتدى بهم مقتد فيما يتجمل به كل عامل عفيف، من أصول الشريعة وفروعها التي اهتدوا بها إلى الصراط المستقيم. أما بعد فيقول حفيد ناظم لقط الدرر، ملتزم طبعه حتى صار عيناً بعد الأثر، العبد الراجي من عطاء الحمن، مواهب الامتنان، محمد بن عثمان بن محمد بن محمد السنوسي بن عثمان إن أهمية علم الأحكام، من شرعة الإسلام، لا يخفى نورها على بصير، وما ينبئك مثل خبير، لا سيّما كتب الأعمال، التي يمكن للقضاة والمفتين أن يبلغوا بالاعتماد عليها إلى غاية الآمال، ولذلك التزمت طبع نظم لقط الدرر، مع ما وجد في تقاييد ناظمه من الحواشي والطرر، حيث احتوى على أربعة آلاف بيت ومائتين واثنين وعشرين بيتاً في النوازل التونسية، وضبط ما جرى عليه العمل في محكمتها الشرعية السنية، على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه نظم المولى الجد السنوسي بن عثمان، متعه الله بنعيم الجنان، والفوز بالنظر إلى وجه الرحمن بعد أن باشر القضاء نحواً من خمس وعشرين سنة، واستعمل في القيام بحقوقها ما أمكنه فجاء نظماً بديع الضبط والعذوبة التي يكاد يحفظه بها سامعه حين يرويه، ويرغب في مطالعته كلّ متثبت في دينه عالم بقدار ما أودع فيه وقد أبدع العالم الماجد النحرير الشيخ سيدي محمد جعيط إذ كتب عليه قوله: [الطويل] حوت دررَ الأحكام أصداف قولها ... وذي جنّة الأفكار تبدو لمن نظر فناظمها بحر العلوم محمد ... ولا غزو أن البحر يقذف بالدرر فكان من مفاخر البلاد التي يرغب فيها كل ذي غيرة دينية وحمية وطنية من الأفراد وكم للبلاد من مفاخر يضيق الفضاء عن نشرها بقيت في خدور سترها ولكن مقاليد التيسير بيد الحكيم الخبير ولا شك أن طبع هذا الكتاب مما يقع موقع الاستحسان عند ذوي الألباب وقد أبدع العالم النحرير والدراكة الشاعر الشهير المدرس الشيخ سيدي محمد الخوجة فيما كتبه في هذا الموضوع وهو قوله: [الوافر] لمجدك أيّها العلم السنوسي ... دلائل أصبحت مثل الشموس ومن تلك الدلائل ما تبدّى ... لجدك ذلك القاضي السنوسي جمال المصر مفخرةٌ همام ... تحلّي فضله جيدُ الطروس وحسبك من مفاخره نظام ... غدا للفقه كنزاً من نفيس يبين ما به الفتوى وهذا ... لعمري قد غدا سؤل النفوس فلا عجبٌ إذا ما لقبوه ... بلقط الدرّ للنظم النفيس لقد أبداه للعلماء غيثاً ... كثير جوزي من رئيس وقد نجز بحمد الله طبعه بمطبعة الدولة التونسية، خلع الله عليها ملابس الفخر السندسية، بعد إعمال الجهد في تصحيحه والتحري في المقابلة بخط الناظم وإن لم يشمله بتنقيحه في منتصف شعبان الأكرم من عام 1297 سبعة وتسعين ومائتين وألف وقد أرّخ إنجاز هذا الطبع الجميل الصنع التفنن الماجد الفاضل النحرير المعز الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز بقوله: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أجلُّ اكتساب الألمعي عوارفه ... وغاية قدر المرء ما هو عارفه وما الخسر إلا للذي ضاع عمره ... بلا صالحات والزمان مساعفه أخا العقل نافس معشر العلم واتسق ... بسلكهمُ ما دام يوجد كاشفه وثافن على فقه به يبتني التقى ... ويسمو إلى قرب المهيمن عاكفه ولا سيّما نظم تألق درّه ... شهيد بعلياه لدى السبك شائفه أمّا شمته علياء تاج فصاحة ... وجلباب إخلاص المصنف لاحفه أما تلقط الدر النثير تفقُّهاً ... فهذا الذي بالصدق يحمد لا قفه تخلله شرح فزاد نفاسة ... لتشمل ذا الفهم البطيء لطائفه كما جمّل الياقوت صف لىليءٍ ... بترتيب دهقان غذته معارفه متى امه حكام مذهب مالك ... هدتهم لمنهاج سويٌّ صحائفه وما رامه صادٍ لتبريد غلّة ... بكوثره إلا تلقاه واكفه يؤنسه تانيس شيخ محبب ... ويحميه من حر التحير وارفه ويسقي به راحاً ولا إثم فأعجبوا ... عقار لصيد العقل يؤجر راشفه تبلج من فكر الهمام الرضى الذي ... بأفق هدى الأحكام ضاءت مواقفه رحيب الثنا القاضي السنوسي حاطه ... من الله رضوان تدر عواطفه إمام لو ارتيدت حلاه لجمعها ... لعمِّر في بيدِ المحاسن واصفه وهذا كتاب من مساعيه للورى ... وقد رق طبعاً واستطيبت مراشفه وإذ فاح مسك الختم قلت مؤرخاً ... زها طبع لقط الدر لا خاب قاطفه ووشح هذا الختام، بقصيدة تتضمن تاريخ وفاة الناظم الهمام، وتاريخ هذا التمام النحرير الأبرع والفاضل الأورع، المتفنن الشاعر الشيخ سيدي الحاج محمد طريفة بقوله: [الوافر] رياض العلم ناضرة الطروسِ ... وعاطرة الأزاهر في الغروسِ وحالية الغصون بكل نورٍ ... ودانية الجنى ليد النفوس غدت جنات كلّ فتى أريب ... يطاف عليه فيها بالكؤوس وفيها غادة الأفكار تجلى ... على كرسي المعارف كالعروس وتحكم بالشريعة وهي تبدي ... لنا منها الخفايا كالشموس بمنظوم يكاد يقول فخراً ... كفانيَ أنّ ناظمي السنوسي محمد الذي قد حاز مجداً ... له أس يفوق على الأسوس وأبرز من سماء الفكر منه ... شموس العلم تلمع في الطروس همام عابر سبل القضايا ... إمام صابر في كل بوس تقي عامل بالعلم لكن ... قد اتخذ النصيحة كاللبوس وغيث صار روض العلم منه ... مصاناً في الزمان عن الدموس وحبر قلبه بحر وفيه ... جوزاهر قد سلمن من النقوس فكم قد حاز من علم وفضل ... وزهد في غنا دار النحوس وأعمالٍ تأرخّها عليها ... رضى الرحمن في يوم الوكوس أما التقطت رويته اللآليء ... فأغنت كل ذي قلب يئوس أما أبدى النوازل في نظام ... يهزّ قلوب أرباب النفوس كأن بيوته فيما حوته ... كؤوس قد ملئن من الخروس فيا لله من نظم معين ... على الإفتاء وإقراء الدروس به حادي المعارف قد تغنى ... وشيطان الجهالة في خنوس يحق لطالبيه أن يعضّوا ... عليه بالنواجذ والضروس وأن يدعوا لناظمه بخير ... وبالرضوان في يوم العبوس وأن يثنوا على الحبرابنه الّذ ... أدار عليهم أسنى الكؤوس وأتحفهم بما ملكت يداه ... من الجد المؤرث للنفيس عليهم إن يكونوا أنصفوه ... برفع مقامه فوق الرؤوس وإن هم عرّفوه أن يقولوا ... هو المحيي الفخار إذا تنوسي وإن ذا الطبع منه استحسنوه ... يقولوا لا رمته يد البؤوسي وإن هم أرخوه أن يقولوا ... عقود الدر قلدنا السنوسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وكان صاحب الترجمة عارفاً بالعلوم البدنية زيادة على العلوم الدينية، وقد أقرأ ألفية ابن سينا بجامع الزيتونة، وله كثير من التقاييد الطربية، أمّا تقاييده الفقهية في النوازل التي عرضت مدة الخمس والعشرين في مباشرة خطة القضاء فقد جمع له حفيده منها ما ينيف عن الأربعين كراساً، يفني الليالي في مطالعه الفقه وتحريره وأمل الأدب فله به ولع، ونظم كثيراً من الشعر في أغراض شتى، وقد جمعت من شعره قطعة وافرة أثبتها في كتابي مجمع الدوواين التونسية، وله مراسلات شعرية مع شيخ الإسلام البيرمي الاربع منها أنه كتب إليه شيخ الإسلام المذكور يستعير منه الجزء الرابع من المعيار بقوله: [الكامل] يا له من رقى بعلومه أفق العلا ... فسما على نجم السماء الساري أهدي إليك من السلام لطيفة ... يذكو اريجُ نسيمها المعطار هذا ولي أرب أروم حصوله ... من رابع الأجزاء للمعيار فاسمح به لقضائه لا زلت ذا ... شرف وعز شامخ المقدار فأجابه المولى الجد قدّس الله روحه بقوله: [الكامل] وافت فأخجلت العقول وأنعشت ... محل الفؤاد وخامل الأفكار تاهت على أهل اللسان وتوجت ... تاج البلاغة كامل الأسرار وتقول بعد تحية منت بها ... لا غرب إلاّ رابع المعيار فسألت ممن ذا الكمال فقيل لي ... من آل بيرم شامخ المقدار فعلمت إرب ذوي النهى في العلم لا ... ينفّك في الإقبال والإدبار وومنحته جزء الكتاب مساعفاً ... بسلام طيب هاطلٍ معطار وكان شيخ الإسلام المذكر أطلع المولى الجدج على رسالة أنشأها في مخاطبة مفتي المنستير حين أرسل إليه كتباً في قفة فراسله بمراسلة أبدع فيها ما شاء وأودعها من الدعابات الأدبية ما يعز على غيره ولمّا طالعها المولى الجد قدّس الله روحه كتب إليه قوله: [الكامل] منشي الرسالة قد أجاد وأبدعها ... فيما أتى فيها وشنف مسمعا فهي الجواهر بل زواهر في سما ... علم البلاغة للهداية أطْلَعا موضوعها لقب المسمى إن يرد ... تحقيره عند المنادي إن دعا شالته إذ رفعته بعد خساسة ... فحوى الترقي للعلا واستجمعا وكسته من حلل البها بحديثها ... عنه كساء بالجواهر رصّعا أفضى به إبداع منشيها إلى ... تشريف ما قد كان قِدْماً أوضعا صحفت معجمه بفقه مجيدها ... فغدا لملتمس المعارف مترعا وصراحة الموضوع فيها قف بها ... يا من يروم إلى الصراحة منزعا لا زال في كمد بيرم ... يعلو إلى نجم الثريا مطلعا وحسوده لا زال في كمد وإن ... زلت به قدم يجاب بلا لَعَا وأجابه عن ذلك شيخ الإسلام المذكور بقوله: [الكامل] وافت إليّ لمّا أشالت برقعاً ... حتى استباحت من فؤادي موضعاً هيفاء ترفل في ملابس حسنها ... زهواً وتحتقر البدور الطُلّعا وتسنمت بذرى البلاغة منبراً ... فغدت لها أهل البراعة خضعا وأصاخت الأسماعُ نحو حديثها ... فأصاب حسن اللفظ منها الموقعا ولها جدير ذاك لما أصبحت ... تاجاً على هام الزمان مرصعا ما كنت أحسب قبل رؤية عِقدها ... أن اليراع هوى النجوم اللمعا هبت بها نسمات سلع رقة ... لله راقم وشيها ما أبدعا ذاك الإمام الألمعيّ المرتضى ... من حاز من كل المعارف منزعا أعني السنوسيَّ الهمام الأوحد ال ... حبر الجليل الأحوذي البلتعا لا زال محروس الجناب مرفعاً ... ولكل فضل في البرية مطلعا وكتب قدس الله روحه للأكتب الشيخ محمد المسعودي يستعير منه عدة كتب بقوله: [مجزوء الرجز] حامل الكَتْبِ إليكم ... طالباً رقم الحلل مع ابن زيدون به ... فاصحب رسولي إذ نزل أما ابن بسام إذا ... سلتمه بما حمل كنت امرأ متى سئل ... لآمل نال الأما فأرسل اليه ما حضر من الكتب المذكورة وكتب له قطعة من شعر ابنه المؤرخ الشاعر الأكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي وهي قوله: [مجزوء الرجز] يا سيدا شرفني ... بنظمه السامي الأجل ومن غدا لي مخلصاً ... في قوله مع العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هاك ابن زيدون مع ال ... رسول مع رقم الحلل أما ابن بسام ومن ... أحلكم هذا المحل ما هو في ملكي ولا ... نظرته إلا عجل وكان عليه رحمة الله لا يهمه من دنياه غير ملك الكتب ومطالعتها، ويجاس للحكم على جلد شاة ويقنع من اللباس بما يحضره. أرسل إليه الأمير بأمر ولاية جامع الزيتونة الكائن خارج باب البحر لسعة وقفه فامتنع من قبوله متعللاً بأنه يصلي بالمسجد الذي قرب داره وآل الأمر أنه ألزم به بواسطة لسان الدولة الشيخ أحمد بن أبي الضياف وقد بلغ من العمر سبعاً وسبعين سنة، وبدنه وبصره في غاية الاستقامة. وأصابه نقط في سجوده عطل عند صلاة الصبح حركته يومين وتوفي ليلة رمضان بين العشائين ولما بلغ خبر وفاته للشيخ محمد بن ملوكة خرج بنفسه لرسم قبره بالقرجاني فأخذ الفأس بيده واختطه متحرياً جهة القبلة وابتدأ حفره بنفسه وخرجت جنازته عند صلاة الظهر يوم رمضان يصحبها عويل العلماء رضي الله عنهم أجمعين. وقد ذكره ذو الوزارتين الشيخ أحمد بن أبي الضياف في تاريخه بما نصه: نشأ هذا الفاضل في طلب العلم وجد في تحصيله وأخذ عن أعيان كالشيخ الشحمي والشيخ الغرياني ولازم الشيخ صالح الكواش فانتفع به وتقدم لخطة القضاء في بنزرت ثم إلى الخطة في باردو وانتقل منها لقضاء الحاضرة فسار في الخطة سيرة أهل الفضل من قضاة العدل وله رجز في الأحكام أطول من نظم ابن عاصم، وكان عالماً فقيهاً ثبتاً واسع الاطلاع عفيفاً شديد المراقبة لربه، قريباً من الزهاد نقي العرض حسن الأخلاق جميل الصبر جميل المحاضرة أديباً ناظماً متواضعاً محبباً إلى الناس ولم يزل على حالته الرضية وأخلاقه الزكية إلى أن لبى داعي المنية أواخر شعبا، من سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. -16- الشيخ محمد بن سلامة تقدم استيفاء ترجمته، وقد تقدم لخطة القضاء أول شهر رمضان المعظم سنة 1255 وأقام في الخطة خمس سنين وأشهراً وارتقى لخطة الفتيا إلى أن توفي، عليه رحمة الله آمين. -17- الشيخ محمد البنا تقدمت ترجمته مستوفاة، وتقدم لخطة القضاء يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف وأقام في الخطة سنتي، وشهراً، وارتقى إلى الفتيا إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. -18 - الشيخ محمد النيفر سبق ذكر ترجمته وتقدم لخطة القضاء في الخامس عشر من صفر الخير سنة1263 ثلاث وستين ومائتين وألف، وزان الخطة أربع سنين وأشهراً، وارتقى إلى الفتيا إلى أن توفي عليه رحمة الله آمين. -19-الشيخ الطاهر بن عاشور مرت ترجمته، وتقدم لخطة القضاء في الخامس والعشرين من رجب الأصب سنة1267 سبع وستين ومائتين وألف، وأقام في الخطة نحو العشر سنين، وارتقى منها إلى الفتيا إلأى أن توفي عليه رحمة الله. -20-الشيخ صالح النيفر سبقت ترجمته، وتقدم لخطة القضاء منتصف ربيع الأول سنة1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، وأقام فيها نحو ثلاث سنين وارتقى إلى الفتيا إلى أن صار رئيسها عليه رحمة الله آمين. -21-الشيخ محمد النيفر سبقت ترجمته، وتقدم لخطة القضاء غرة صفر الخير سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف وأقام في الخطة نحو العشر سنين وارتقى إلى الفتيا حرسه الله. 22- الشيخ الطاهر النيفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 هو شيخنا أبو الصفا الطاهر بن محمد بن أحمد بن قاسم بن محمد النيفر، هو رابع القضاة من آل بيته ولد سنة1247 سبع وأربعين ومائتين وألف. تربى في حجر اعتناء أبيه، فقرأ القرآن العظيم وجوده على الشيخ محمد الستاري والشيخ محمد بن شعبان، وتصدى لقراءة العلم الشريف، فقرأ على والده الآجرومية، والقطر وشرح ميارة على ابن عاشر، والكفاية ونبذة من الأشموني، ومختصر السعد، والقطب على الشمسية، والتاودي على العاصمية، وقطعة من مختصر الشيخ خليل ونبذة من شرح الشهاب على الشفا، وقطعة من صحيح البخاري وقطعة من تفسير القاضي البيضاوي. وقرأ على الشيخ أحمد عاشور الأزهرية والقطر والمقدمة والفاكهي ونصف الأشموني ونبذة من الخبيصي ونبذة من الدرة ونبذة من الختصر الخليلي وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي شرح الشيخ خالد على الآجرومية وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر متن الآجرومية وشرح الشيخ خالد عليه وقطعة من المكودي على الألفية وقرأ على الشيخ محمد بن مصطفى البارودي نبذة من الشذور وقرأ على الشيخ الحاج عبد الله الدراجي نبذة من شرح الآجرومية للشيخ خالد وقرأ على الشيخ حسن بن الخوجة شرح الشيخ خالد والأزهرية والقطر وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة آجروميته النحوية، وقرأ على الشيخ محمد الخضار الألفية بشرح ابن عقيل ثم أتمها بشرح الأشموني وقرأ على عمه الشيخ صالح النيفر المكودي ومختصر السعد وقرأ على الشيخ علي العفيف نبذة من التوضيح وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح شرح الشيخ خالد على الآجرومية وقرأ على الشيخ محمد معاوية شرح الأشموني على الألفية لجمع التكسير وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة قطعة من المكودي على الألفية وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة قطعة من المكودي. ولما استكمل معالميه تصدى للتعليم، وعند ذلك أقامه والده مُقامه في خطة التدريس من الرتبة الأولى ابتداء بموافقة شيخ الإسلام البيرمي الرابع، فصدر له أمر الولاية ولازم التدريس متدرجاً مع غاية المواظبة والمحافظة على الوقت والاعتناء بالدروس في تحقيق مسائلها وإلقائها في الدرس على نسق واحد، إلى أن أتى على أعالي الكتب المهمة من الحديث والفقه والأصول والبيان والنحو وغير ذلك وتيسر له بمواظبته أن ختم منها ما عز على خيره. وقرأ عليه كثير من أعيان فضلاء جامع الزيتونة حتى كانت أختامه رياضاً لبديع القصائد التي أنشدت في الأختام بين يديه وهي تصلح أن تكون ديواناً لطيفاً وتقدم بعد والده لإمامة مسجد باب الجزيرة وختم فيه أختاماً بديعة حضرت الكثير منها. وتقدم أيضاً لمشيخة بئر الحجار. وقد قرأت عليه شرح الشذور لابن هشام وشرح الشنشوري على الرحبية متابعة بحواشي الباجوري وكلاهما ختمته عليه وقرأت عليه قطعة وافرة من الأشموني، ودروساً من آخر شرح الدردير على المختصر الخليلي، وقطعة من أول شرح الخرشي عليه إلى التيمم ونبذة من المطول على التلخيص بحواشيه، وقطعة من شرح الزرقاني على الموطأ، ونحو الربع الأول من شرح القسطلاني على صحيح البخاري دراية. واستجزته بسنده فيه فأجاز لي إجازة مطلقة عامة ثم خص فيها سنده في صحيح البخاري وهذا نصها: نحمدك يا من أنار صدور الصدور بأنوار السنة النبوية، وآثر لحفظ درها المنظوم والمنثور عزائم أهل الهمم الأبية، فحمل علمها من كل خلف عدوله، وسَلِم من تحريف القالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين معقوله ومنقوله، فهو الوديعة تُبلغ خلفاً عن سلف، والذخيرة حظ مضيّعها من الدارن الندامة والأسف، وأصلي وأسلم على من اتصل به السند إليك بلا انقطاع، وبلغ بصحيح المصحف والموضوع بين الذعاع، فتواتر في الخافقين مشروعه واشتهر صالحه ومسنده ومرفوعه، وعلى الطاهرين آله، وعلى تابعيهم الغائصين على فرائده العديمة لمثالها السالفين الجهد في جمعها وإيصالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أما بعد فإنه قد تقرر للعلم مكانة لا تجهل ومنصة لا يحط فارعها ولا يستنزل قد ركب سَرَاة النفوس مطايا العزم في تحصيله، ولجتمعوا ولو افترقوا على تفضيله وتأصيله وتفصيله، وقلّبوا في محاسنه أحداق الصائر، وعضوا على أحاسنه بالنواجذ وعقدوا عليها بالخناصر، حتى ظهرت عليهم خلع العرفان، وتوجت نفوسهم الزكية بمواهب الرحمن، وتلك قصارى الهمم غير القواصر، ومنتهى أمل الجهابذة الأكابر فالأريب من صرف لدرايته عزمه، وتابع في تحرير روايته كده وحزمه، كي يلتحق بالجلّة الأول ولا يعدم من مشربهم نهلاً ولا علل. هذا وإن ممن رمى ميدان الاشتغال بسهم صائب، وأرجو من الله أن يصل بانقطاعه إلى أسنى المطالب، الفقيه الألمعي والأديب اللوذعي ابن الروح الأعز أبا عبد الله محمد السنوسي سمي قاضي القضاة جده المتجاوز بفضل الله لشأوه وحده، وقد التمس مني إجازة تامة، مطلقة عامة، فناجيت نفسي الأبية، عن غصب الرتبة العلية، الخبيرة بمقدارها، المستقيلة من سوء عثارها، فأجابت بأن هذه المنصة وإن كانت لديها، دون أن أتطاول إلى الترقي إليها، إلا أن مساعفة الطالب لنيل مرامه، حتى يشتفي من ظمأ اشتياقه وأوامه، إذا حسنت فيه السريرة، وتمحضت السلامة من حظوظ النفس الشريرة، أمر لا ينكره شرع ولا عادة سيما إن أثمر الإفادة والاستفادة ورُجِيَ شمول التبرك بذلك، وقصد التأسي بسلفنا أولئك. فعند ذلك قلت حامداً مصلياً قد أجزت الأعز ابن الروح المذكور جميع ما تصح روايته عني بشرطه كما أجازني بذلك على العموم والدي أظله الله بسحائب رضوانه وأسكنه أعلى فسيح جنانه عن شيخه العلم سيدي محمد بيرم الثالث عن جده سيدي محمد بن حسين بيرم عن شيخه سيدي أحمد بن حسين الماكودي الحسني عن سيدي علي بن أحمد الحريشي عن شيخ الجماعة سيدي عبد القادر الفاسي بن يوسف عن شيوخه الثابتين بفهرسته نفعنا الله بهم وأعاد علينا من بركتهم. وبسند آخر لخصوص صحيح البخاري عن والدنا إلى الشيخ الحريشي عن الشيخ سيدي عبد الله العياشي عن الشيخ سيدي علي الأجهوري عن أبي حفص عمر المعروف بأبي النجائي عن شهاب الدين الحجازي عن شيخ الجماعة ابن أبي المجد عن الحجار عن الزبيدي عن أبي الوقت عن الداودي وأبي ذر عن السرخسي والكُشْمِيهَني زاد أبو ذر والمستملي عن الفربري عن البخاري. كما أجزت له في التصدر للتدريس فليتوخ ما لهذا المقام العالي النفيس من الإخلاص لله وتقواه فإنه ملاذ كل أمر ومناه، باذلاً في النصيحة الوسع مستعملاً للضروب المنتجة لعظيم النفع، قائماً بما يجب للسلف من الأدب والتلطف، متجنباً لمذموم التشدق والتعسف، مراجعاً من فوقه فيما لم يصل إليه، حتى يكون على بصيرة فيما يلقيه لمن بين يديه، فإن العلم أمانة، وقَفْوُ غير المعلوم من أعظم الخيانة، متلبساً لما يجب لمولانا سبحانه من الشكر، متذكراً لي بصالح الدعاء عند الحضور في السر، وعلى الله القبول، وإليه الوسيلة في بلوغ المأمول، إنه ولي ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل، قاله منيباً في كتابته خديم العلم الشريف الطاهر بن محمد النيفر أناله الله من رضوانه الحظ الأوفر في 2 الثاني من ربيع الأول سنة 1290 تسعين ومائتين وألف. وهو عالم فاضل عالي الهمة زكي النفس شهم محب للخير، تقدم للإمامة والخطبة بجامع النفافتة أولاً ثم بجامع باب البحر البراني بعد وفاة أستاذه الشيخ علي العفيف فاستلان القلوب بحسن مواعظه وتلاوته التي حسنها بحسن صوته. وقد طرأ عليه ضعف بأعصاب صدره بسبب كثرة الإقراء فاختلت مواظبته مدة، وعند ذلك قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لخطة القضاء بالحاضرة رابع جمادى الأولى سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، فقام بأعبائها وزانها بالمحافظة على شرف ناموسها، وقام لها قيام الزعيم من أول وهلة بثبات وحزم لا نظير له جزاه الله خيراً، وبالجملة فإنه عالم ثقة. ولما ولي الخطة المذكورة هنيته بقولي: [الكامل] البشر أسفر عن محيا زاهرِ ... ورياضه عمت بنشر أزاهرِ والطير في أدواح أفراح يُرى ... بتصادح نغمات خير مزاهرِ فدنا لنا قطب المسرة وانثنى ... غصن المبرة باهتزاز باهرِ والأرض عرّفها أريج فاغتذى ... تدبيجها يُزري بحلي السامرِ ما إن ترى غير الثغور بواسماً ... لمواسمٍ بُهرت ببشر ظاهرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والدين غُرِّر وجههُ بطلاقة ... والشرع قد أضحى قرير محاجرِ والحق عم غداة أصبح صادعاً ... بولاية الحبر الهمام الطاهرِ إذ كان رابع معشر فازت بهم ... خطط القضا كل كليث هاصرِ فغدت بهم دار الشريعة ترتقي ... لمفاخر شاعت كمثل سائرِ وهم النيافرة الذين تناولوا ... تلك الرئاسة كابراً عن كابرِ لله مجدهم فمن حسب ومن ... نسب زكي قد رقوا لمفاخرِ طابت أصولهم وأينع فرعهم ... فيه نرى للدين أعظم ناصرِ علامة الغبرا ونحرير النهى ... وإمغم من فازوا بخير مشاعرِ دراكة المعقول والمنقول بَحْ ... رٌ طمّ في الخضرا بموج زاخرِ وبشمس فكر قد غدت منجابة ... عن مشكلات مدلهم دياجيرِ يسدي إلى المسترشدين أجل ما ... بسنائه هديُ الضلول الحائرِ فمتى رقى فوق المنابر أسمع ال ... صم الدعا وألان صلد حناجرِ ومتى روى عن جده في درسه ... فالقلب يعمر مذ روى عن عامرِ فترى البرية خشع الأبصار قد ... هملت عيونهم بدمع هامرِ ومتى يجُلْ في فقه مذهب مالك ... يسمع تحارير الإمام (المازري) أما إذا قدح الزناد وحل في ... درس البيان فذاك (عبد القاهر) فهو المجلي في ميادين المعا ... رف بين أرباب العفاف الفاخرِ واليوم قام لنصر شرعة أحمدٍ ... بجيوش إنصاف وعون القادرِ سيرى بخيسِ ليوثها كالغيث إذ ... ينهل بالأحكام غير مظاهرِ فليُهنِ تونس والأهالي كلهم ... أن قد سمت بهزبر عدل ماهرِ إذ كنت يا قاضي القضاة كفيلها ... بُقياً تسوق حقوقها لعشائرِ فاهنأ ودم واقبل إليك عقيلة ... حيت بوجه من جمال سافرِ وافتك بنت الأمس تجتلب الرضى ... فاسعف لها كف القبول الوافرِ فلأنها سحر النهى بين المها ... ترنو بطرف ذابل متكاسرِ كل القلوب لها تهش صبابة ... إذ أنبأت عن فضلك المتكاثرِ أحكمت رصف الدر في أبياتها ... فتناسقت منها عقود جواهرِ بانت ولا منّ عليك ولا فخا ... ر لي بها ما حاكها من شاعرِ صعقت بها حسادنا وصغت لها ... أهل الوداد بكل قلب حاضرِ فسقتهم كأس المسرة بعد أن ... وافتهم بسنى جمال باهرِ حتى غدوا طُّراً نشاوى مثل ما ... عمت ببشرى قاطن ومسافرِ لازال يغمر كل أهل الأرض من ... علياك في التاريخ عز بشائرِ (وتوفي على خطة القضاء بمرض لازم به الفراش شهرين، ورأى نقهاً فتوجه إلى رادس وهنالك كانت وفاته عشية الجمعة ونقل للحاضرة ووقع تشييع جنازته صبيحة السبت الخامس عشر من شوال الأكرم سنة 1311 إحدى عشرة وثلاثمائة وألف، عليه رحمة الله) . ملحق ترجمة الشيخ محمد الصادق النيفر محمد الصادق النيفر وهو أبو الوفاء الصادق بن الشيخ المدرس محمد الطاهر بن التاجر البار الصالح أبي الثناء محمود بن السيد الجليل التاجر الصادق الخير تالي كتاب الله عز وجل صباح مساء أحمد النيفر أصل هذه الأسرة نقتصر في ترجمة هذا الشيخ على ما كتبته المجلة الزيتونية عنه في الجزء الخامس من المجلد الثاني الصادر في ذي الحجة من سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف. جاء في هذا العدد تحت عنوان. ترجمة فقيد العلم الشيخ محمد الصادق النيفر ما يأتي بعد كلمات وجيزة في التعريف ببعض سلف الشيخ وأنه يتصل بالسيد محمود بن السيد أحمد، وأمه بنت العلامة الطائر الصيت الشيخ محمد الطاهر النيفر قاضي الجماعة المتوفى سنة 1311 وأمها من بيت الوزير إحدى بيوتات الأندلس العريقة الوجيهة. مولده ونشأته الأولى ولد رحمه الله في جمادى الآخرى سنة (1299) بدار جده لأبيه حيث يسكن والده وأعمامه في حومة جامع غربال قرب جامع الزيتونة وتبناه جده لأمه الشيخ الطاهر فتولى تربيته بنفسه وحفظ القرآن الحكيم تحت إشرافه بضريح الشيخ الصالح المشهور بسيدي يانس المجاور لدار الشيخ رحمه الله على المعلم الشيخ محمد الزواري أحد شهود المرسى اليوم. دخول جامع الزيتونة وطور الاستفادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 دخل رحمه الله جامع الزيتونة سنة (1313) . فأخذ مبادىء في القراءات والتجويد عن المرحوم المقري الموثق الشيخ المولدي بن عاشور المتوفى في شهر رمضان سنة (1325) وأخذ سائر الفنون المتداولة به يومئذ عن مشهوري أساتيذه من أعلام المذهبين. وكان قوي العارضة، صحيح الحافظة، وافر العناية فمن أساتيذه شيخ الإسلام الحنفي في التاريخ. والشيخ أبو العباس أحمد بن مراد المفتي الحنفي. والشيخ أبو النجاة سالم بو حاجب كبير أهل الشورى المالكية. والشيخ أبو حفص عمر بن الشيخ المفتي المالكي. والشيخ محمد النجار المفتي المالكي. والشيخ حسين بن حسين المفتي المالكي. والشيخ أحمد بيرم شيخ الإسلام. والشيخ مصطفى بن خليل. والشيخ مصطفى رضوان. ووالده الشيخ محمد الطاهر النيفر. والشيخ عمر بن عاشور. والشيخ محمد النخلي. والشيخ علي الشنوفي. وكان معظم تحصيله وانتفاعه على الشيخ حسين بن حسين فقد حضر كثيراً من دروسه التي كانت مهبط تحقيق وتدقيق واختص من بين أترابه بمجالس بيته الخاصة التي لم تكن تقل في النفع والإفادة عن دروسه بجامع الزيتونة. وقد امتلأ وطابه بما أخذ عن هؤلاء الأعلام وصار في مقدمة أقرانه على حداثة سنه وتهيأ أن يفيد وينفع بما استفاد وانتفع. "طور الإفادة" التدريس والخطابة تقدم لامتحان شهادة التطويع سنة (1318) فكان في طليعة المجلين في حلبته، وكانت هذه الشهادة تخول صاحبها حق التدريس بجامع الزيتونة بصفة متطوع بإثر الحصول عليها، فشرع رحمه الله يدرس وعني نتنشأة الطبقات وتربيتها وتناول الفنون المختلفة فدرس أكثر كتبها المتداولة بالجامع يومئذ دراسة نصح وتحقيق وبلغت دروسه في اليوم الواحد الستة أو جاوزتها. وكانت له عناية خاصة بالفقه والسيرة والحديث، ومن أجل ما درسه من كتبها شرح الداودي على التحفة ختمه نحواً من خمس مرات وشرح الدردير وسيدي عبد الباقي على المختصر والشفا للقاضي عياض بدأه وأتمه، وشرع مكانه في تدريس الموطأ فأقرأ زهاء ربعه، وشرع في تدريس العارضة شرح سنن الترمذي للقاضي أبي بكر بن العربي فأقرأ جملة صالحة منها بضريح الشيخ يانس. وكان يختار تدريس الحديث الشريف في شهر رمضان ويعنى في دروسه بما يفيد العامة من حاضريها وحضر في هذا الطور طور الإفادة بعض دروس الجلة من أساتيذه يقتبس من نورهم ويغترف من بحورهم ومنهم الشيخ سالم بو حاجب والشيخ حسين بن حسين وقد أقرأ متطوعاً ومدرساًرسمياً زهاء ربع قرن من سنة (1318) إلى منتصف سنة (1341) وكانت الطبقات المتتابعة تأخذ عنه وأكثرهم يزين اليوم مناصب التدريس والقضاء والفتوى ودواوين العدلية ولأول العهد بانتصابه للتدريس خطب بجامع باب البحر نائباً عن والده فسلك في الخطابة طريق مثلى تسفر عن حكمة الشارع فيها، واعتمد ما ينشئه من الخطب التي تتفق مع الأحوال الحاضرة ويخاطب فيها الناس بما يفهمون وكان لمواعظه الأثر الصالح. وقد يضم إلى الخطابة دروساً بالجامع في شهر رمضان ينتفع بها العامة والخاصة. صلته بعلماء المغرب وفي أثناء اشتغاله بالتدريس دخلت تونس حواشي الشيخ المهدي الوزاني على شرح التاودي على التحفة، ولصاحب الترجمة غرام بتدريس الشرح فعني بهذه الحواشي واتصل بصاحبها بالمكاتبة، ثم زار الشيخ المهدي تونس سنة (1323) فنزل ضيفاً بدار صاحب الترجمة وزادت الصلة بينهما قوة وكان كل يعرف لصاحبه فضله ومكانه من العلم ثم رغب إليه الشيخ المهدي رحمه الله أن يزور المغرب الأقصى سنة (1330) فلبى الدعوة وتعرف بكثير من أهل العلم والفضل وكان محل التجلة والإعجاب وكان بينه وبينهم حوار في موضوعات شتى علمية وتاريخية أسفر عن قوة عارضته ونهوض حجته وكتب عن هذه الرحلة مفكرات خاصة لم يسبكها على قالب مؤلّف مستقل. المناصب التي تقلدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ولي رحمه الله خطة الإشهاد بالحاضرة سنة (1318) وكانت تبعاً للحصول على شهادة التطويع، وفي ذي القعدة سنة (1331) ولي مدرساً في الطبقة الثانية، وفي شهر ربيع الأول سنة (1332) ولي مدرساً من الطبقة الأولى، وفي سنة (1339) ولي الإمامة والخطابة بجامع باب البحر ورواية الحديث بمدرسة بئر الحجار خلفاً عن والده. وفي سنة (1341) تم العزم على تسميته عضواً حاكماً بالمجلس المختلط العقاري بإحياء الخطة التي كان يتقلدها المرحوم العالم الشيخ محمد المختار شويخة وكانت موقوفة من يوم وفاته سنة (1334) ، وأعلمت الحكومة رئيس المجلس المختلط بهذا ووافقها وتعين ميعاد تنصيبه، ولكن الحكومة تغير عزمها فقلدته قضاء الجماعة في اليوم الذي عين لتنصيبه بالمجلس المختلط وكان هذا في رجب سنة (1341) ، واضطلع رحمه الله بعبء القضاء، فقد كان فقيهاً جليلاً واسع الاطلاع على النصوص بصيراً بأمر تنزيلها على الحوادث، ماضي العزم. وظل يباشره نافذ الأمر والنهي عزيز الجانب إلى أن تخلى عنه في ذي القعدة سنة (1347) . مؤلفاته كتب رحمه الله بضعة تعاليق نفيسة على أبواب من صحيح البخاري قام بها دروساً بمدرسة بئر الحجار وجامع باب البحر في مواعيد أختامهما، وكان يترك الكتابة في الأكثر ويكتفي بمطالعة ما يعين على فهم الحديث ثم يقوم بذلك كله درساً يفهمه العامة ولا يستغني عنه أحد من الخاصة وجرى على هذه الطريقة في أيام ولايته القضاء لتزاحم أعماله عليه ولم يكتب في هذه المدة إلا سنة (1342) وهي السنة التي عني المقدس المولى محمد الحبيب باشا باي بحضور بعض مجالس أختام الحديث الشريف. ومنها مجلس ختم الشيخ بجامع باب البحر فكتب تعليقاً جليلاً محرراً على باب كلام الرب مع أهل الجنة من صحيح البخاري أبدع فيه ما شاء الله أن يبدع. وفي أواخر سني حياته أقبل على المطالعة والكتابة وزاد شغفه بالحديث وكتبه وترك فيه تقاييد نفيسة جليلة وقد كتب في بضعة أعداد من المجلة الزيتونية فصولاً في وضع الحديث ولم يتمها، وله حاشية على التاودي قيمة. أخلاقه كان رحمه الله متواضعاً بشوشاً وفياً نصوحاً، ولتلاميذه حب جم فيه غرسه في قلوبهم نصحه لهم وإخلاصه في تربيتهم وتعليمهم، عزيز النفس، قوي العزيمة. مرضه وموته وموكب جنازته كان رحمه الله مصاباً بداء ضعف القلب منذ أمد بعيد وكان أثره فيه خفياً، ولم تظهر أمارته عليه إلا في السنين الأخيرة وهو يغالبه بجلده وصبره، وكان يشعر في آخر عمره بدنو الأجل وتصرّم حبل الحياة، وقد كتب رحمه الله وصية بخطه عهد تنفيذها إلى بنيه وأودعها ما يحب أن يكون في غسله وتكفينه وحمله وتشييعه والصلاة عليه ودفنه ولم يخرج في شيء مما أوصى به عن محيط السنة ومن مظاهر بر بنيه بعد موته أن نفذوها كما عهِد إليهم. وكان موكب جنازته من المواكب النادرة شاركت فيه طبقات الأمة كافة آسفة حزينة ولاسيما تلاميذه على وفرة عددهم، وصلي عليه بالمقبرة طبق وصيته ودفن في تربة سلفه بالزلاج. نسأل الله أن يتغمده برحمته ورضاه وأن يجعل من بنيه خير معز عنه يبقي ذكره ويعمر بيته إن ربي قريب مجيب. وكتبت مجلة الهداية الإسلامية في عددها 9 من المجلد 10 الصادر بالقاهرة في شهر ربيع الأول سنة (1307) ما يأتي وهو بقلم صديق صاحب الترجمة الستاذ العلامة الشيخ خضر حسين تحت عنوان: مصاب تونس بوفاة عالم جليل أصيبت تونس بوفاة العلامة الجليل صديقنا الأستاذ الشيخ السيد محمد الصادق النيفر قاضي القضاة بتونس سابقاً، فقد كان الأستاذ رحمه الله أحد النوابغ الذين أنبتتهم الجامعة الزيتونية نباتاً حسناً وكان له فضل كبير في النهضة العلمية الحديثة وقد قدرت الجمعيات العلمية والأدبية في تونس قدر الأستاذ الراحل فأقاموا له عند مرور أربعين يوماً على وفاته حفلة تأبين ألقى فيها كثير من العلماء والأدباء خطباً وقصائد أتوا فيها على ما كان للفقيد من غزارة علم وسمو أخلاق وجهاد في سبيل الحركة الوطنية السياسية. وكانت لجنة هذه الحفلة أشعرت رئيس تحرير هذه المجلة بما عزمت عليه من تأبين صديقه الأستاذ فاختار أن يشارك في تلك الحفلة بكلمة في صلة الصداقة التي انعقدت بينه وبين الأستاذ رحمه الله وبعث إلى اللجنة المكلفة بالكلمات الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 طالعت المجلة الزيتونية الزاهرة ووقع بصري على عنوان رثاء فقيد العلم الإمام محمد الصادق النيفر فرماني هذا العنوان بسهم من نار فإذا الفؤاد يتلظى والفكر يتقلب في ذكريات العهد الذي كنت أتمتع فيه بصحبة الأستاذ الفقيد ورابطة الصداقة بيني وبينه خالصة محكمة. تقدمت الأستاذ الراحل في تلقي العلم ببضع سنين وكنت أراه فيمن أرى من طلاب العلم وهو يشار إليه بأنه حفيد العلامة القاضي في ذلك العهد الشيخ محمد الطاهر النيفر وكنت ألاقي الفقيد في الطريق فيبادرني التحية فأقدر له ذلك الأدب السني، واللبنة الأولى في بناء صداقته المتينة أني كنت يوماً جالساً يوماً بالجامع الأعظم فأقبل رحمه الله وجلس يحييني في تواضع زاده في عيني رفعة وأبدى رغبة في دراسة علمي العروض والقوافي، وأذكر إن لم تخنّي الذاكرة أننا قرأنا على وجه المذاكرة فصلاً أو فصلين من علمي العروض بالحجرة القائمة على يمين المصلى بالمعهد الزيتوني فعرفت في ذلك الفتى يومئذ نباهة الألمعي وأدب الماجد السري وانتظمت الصداقة بيني وبينه في صفاء وسماحة. وما زال ذلك الفتى البارع مجداً في طلب العلم حتى رأيته أستاذاً يدرس الكتب العالية بالمعهد الزيتوني وطلاب العلم يزدحمون على دروسه ويردونها ورود الظماء للماء الزلال. وأذكر أني أديت صلاة بعض الجمعات في جامع باب البحر وكان الأستاذ الراحل رحمه الله يلقي على منبره خطباً بليغة يراعي في اختيار مواضيعها ما يستدعيه الحال، وكنت أعجب بما أسمع وآنس من تلك الخطب فواتحَ إصلاح الخطابة المنبرية في توني. ولا أنسى تلك الليالي ليالي الجمعة من كل أسبوع إذ كان الأستاذ يتفضل بالزيارة ونقضيها في أسمار ممتعة يجاذبنا أطراف أحاديثها فريق من طلاب العلم، ثم لا أنسى أوقاتاً عصفت بها رياح الرياسات وأدارت وجوه بعض الإخوان إلى ناحية غير ناحيتنا، ورأيت الأستاذ الراحل من أشد الإخوان احتفاظاً بحقوق الصداقة شأن من يعتز بعلمه ومجده ولا يرضى أن يكون لاتجاه بعض الرياسات أثر في وصل صداقته وقطعها. كان ذكريات ذلك العهد تخطر فتجد في النفس أمل لقاء ذلك الصديق الراحل وتجديد ما درس من عهد الأنس به فلا تثير من الأسى ما يجرح الفؤاد من كل ناحية، أما اليوم وقد ذهب ذلك الأمل فأراها تخطر فتثير أشجاناً يذوب لها القلب وتتساقط العبرات. أجل ذهب ذلك الأمل المروح عن الخاطر وأصبحت ذكريات عهد تلك الصداقة تبعث حسرات بعضها فوق بعض فتجعلها ركاماً وإن كان هناك ما يخفف من وقع هذا المصاب فهو أملنا أن يكون لعلم الأستاذ الراحل وفضله ورثة من أنجاله النجباء يحفظون التالد ويعززونه بالطريف ويوطد هذا الأمل أن بيت آل النيفر قد عرف أنه منبت العلماء الراسخين والأدباء البارعين، وإني ألمح في شباب هذا البيت اليوم همماً طماحة للمعالي وجهوداً من أصدق الجهود في إعلاء شأن العلم والأدب والفضيلة وأقدم لآل الفقيد على هذه الفاجعة خالص التعزية وأسأل الله تعالى أن يفيض على ضريحه نوراً ورحمة ويحسن جزاءه على ما بذل في سبيل الخير من همة وما غذى العقول من علم وحكمة. (من تراجم المفتين على مذهب الإمام مالك، للشيخ محمد البشير النيفر، الكراس الثاني ص 184 مخطوط) عمله الوطني وبذل المرحوم الشيخ محمد الصادق النيفر جهداً مشكوراً وتفانياً في العمل حين كان من أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري مما خلده التاريخ له. ومن أعماله البارزة رئاسة الوفد الذي ذهب لمقابلة المرحوم الأمير محمد الناصر وذلك في 2 شوال سنة (1338هـ) و (1920م) وقد ضم هذا الوفد أعيان المملكة التونسية في ذلك العصر، وقد قصر المرسى حيث مقام الأمير المذكور. وقد ألقى رئيس الوفد كلمة منشورة في كتب التاريخ التونسي. كما قدم عريضة المطالب التونسية في إقرار دستور تونسي للبلاد، وذلك أول عمل وطني للتونسيين. من مراثيه أنشدت عند وفاته مراث طفحت بها الصحافة التونسية عند ذاك، ومن مراثيه مرثيتي التي عنوانها (دمعة مقروح) ومطلعها: مصابك يا شيخ الشيوخ عظيم ... وذكرك رغم الحادثات مقيم -محمد الشاذلي النيفر- @بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء الرابع من كتاب مسامرات الظريف بحسن التعريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الخاتمة في التعريف بالآباء الكرام، والشيوخ والأعلام وما ألحق بذلك في هذا المقام. أعلم أنّ حفظ النسب من الأصول التي اجمع عليها المليون وفي الأثر عن ابن الخطاب رضي الله عنه تعلموا النسب ما تصلون به أرحامكم. ويؤثر عنه تعلّموا أنسابكم ولا تكونوا كالقبط ينسبون إلى القرى وهذا الأمر الآن ليس خاصاً بالقبط، بل إنّ غالب الأنساب قد أتلفتها البلدان فترى الواحد ينتسب إلى بلاده حبّاً فيها وبتطاول السنين يتناسى آباءه فيضيع نسبه بهذا الوجه، ولذلك قال العراقي في ألفيته: [الرجز] وضاعت الأنساب في البلدان ... بنسب الأكثر للأوطان ولمّا كانت العرب شعوباً وقبائل تراهم إنّما ينتسبون لآباء قبائلهم وأجداد عشيرتهم وبذلك حفظوا أنسابهم وكان النسابون بينهم كثيرين ثم إنّ البلدان ضاعت الأنساب وعادت النسب الأصلية إلى التراب وكانّ الجميع أخذ بقول الشاعر: [الطويل] إذا كان أصلي من تراب فكلّها ... بلادي وكلّ العالمين أقاربي أما التفاخر بالنسب والتذمم بالألقاب فقد جاءت شريعة الإسلام بالنهي عن ارتكابه سيّما والنسب في نفسه لا يعتمد على فخره إلاّ ضعيف عاجز عن اكتساب فضل لنفسه، فيعود إلى العظام الرفاة، فيحتسب الفخر بذلك ومثل ذلك ليس من الحزم قال الشاعر: [الطويل] لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه ... على ما بدا من حاله لا ابن أمسه وما الفخر بالعظم الرميم وإنّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه على أن كرم النسب في نفسه فضيلة لا تنكر إنّما الاعتماد عليها ليس من الحزم في شيء، ولا شكّ أن الحسب معه أكمل منه بدونه ولذلك كان الحزم والفضل في اكتساب المفاخر والمفاضل التي يسود بها الشخص من نفسه سواء كرم نسبه أو لأن فإن كان ذلك مع كرم النسب فإن ذلك اكمل له ولفضله، سيّما إن كان النسب لأكمل خلق الله صلى الله عليه وسلّم الذي وقع الإجماع على أفضليته ولذلك قال اليوسي: إن إلقاء النسب جور والاقتصار عليه عجز والصواب ما قاله عامر بن الطفيل: [الطويل] فإني وإن كنت ابن سيّد عامرٍ ... وفي السرذ منها والصريح المهذّب فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أبِ ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبِ والحاصل أن النسب فضيلة ومن العجز الاقتصار عليه ومع ذلك فحفظه واجب على كل حال، فلإن يكن الإنسان ثابت النسب في قوم كيف ما كانوا خيراً له من أن يكون داعياً في أعالي النسب، فما بالك به إذا كان ثابت النسب العالي لإغن ذلك لا ينبغي إهمال اعتباره. وبهذه الأسباب رأيت أن أجمع ما أمكنني الوصول إليه في التعريف ببيوت آبائي وأمهاتي مما نجمع به شمل الرحم الذي أوجب الله علينا صلته. وهو مقصد ألّف فيه كثير من الفضلاء منهم لسان الدين بن الخطيب ألّف كتاباً أسماه "المفاخر الطيبة في المفاخر الخطيبية"، وقد الّف شيخ الإسلام اليبرمي الثاني رسالة في النسب البيرمي على أنني لم نقتصر هنا على ذكر ى بائي خاصة بل أتبعت ذلك بالتعريف ببقية آباء روحي من أساتيذي رضي الله عنهم، ثم ذكرت نتيجة جميع ذلك بضبط ما أخذته من العلم على ضعفي وقصوري، ولذلك كانت هذه الخاتمة منقسمة إلى ثلاثة أقسام: المبدأ والمقصد والنتيجة. وها أنا أشرع في المبدأ المذكور متبرئاً من قصد المفاخر والميل إلى التباهي، والله المسؤول أن يعصم أقلامنا ويبت أقدامنا. المبدأ قد خصنا هذا المبدأ بذكر بيت آبائي وبيوت أمهاتي، إلى حيث أمكنني الوصول إليه من أصول نسبي الذي أوجب الله عليّ الاحتفاظ به وصلته، ولذلك نذكرهم هنا بيوتاً وانساباً وأرجو الله أن يحسن إليه مئاباً. السنوسيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 والدي قاضي جبل المنار الشيخ أبو النور عثمان بن الكاتب الشيخ محمد المهدي ابن قاضي الحضرة الشيخ محمد السنوسي المتقدم الذكر ابن مفتي بلد الكاف الشيخ عثمان بن الحاج محمد بن احمد عرف بن مهنية من حفدة ولي الله الشريف سيدي عساكر بن ضيف الله بن محمد بن منصور القصوري صاحب الشجرة الشهيرة في الشرف، المعروفة عند من سلف وخلف، وسبق في ذكر المولى الجد سرد سلسلتها المباركة، وهنا نتيّمن بذكر ترجمة سيدي عساكر أداء لحق أبوته رضي الله عنه. أما اتصال نسبه بالحسن بن علي بن ابي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه امر مفروغ منه، وقد أخبرني والدي أن شجرة الشرف كانت بدارنأن وعند البحث تبيّن أن جميع سكان القلعة التي بها مقام الشيخ يتناقلون خبر شرفه رضي الله عنه، ويقولون إن اصله من المغرب الأقصى، وإن الشيخ سيدي عساكر والشيخ سيدي عبد الجواد والشيخ سيدي عبد الله بوكريشة الأولياء الثلاثة المدفونين بالقلعة المذكورة هم في النسب من بيت واحد. وبالبحث عن رسوم شرف أحد هؤلاء الثلاثة وقفت على شجرة تامة تتضمن أنّ الشيخين المذكورين من ذرية الشيخ سيدي منصور القصوري دفين سقبنارية قرب الكاف وذلك أنّ الشيخ له ولدان أحدهما سيدي محمد بفتح أوله وهو والد الشيخ سيدي عبد الله بوكريشة وأخيه سيدي مرزوق وهو جد سيدي عبد الجواد بن محمد بن مرزوق وأخيهما سيدي ضيف الله والد سيدي عساكر، فهو عساكر بن ضيف الله بن محمد بن منصور رضي الله عنهم، وجدهم سيدي منصور المذكور من أولاد بوعنان من بني مطهر وهو منصور بن إبراهيم بن محمد بن عامر بن موسى بن عبد الله بن عثمان بن بخت بن عياد بن ثابت بن منصور بن عامر بن موسى بن مسعود بن علي بن عبد المجيد بن عمران بن محمد بن داود بن علي بن عبد الله بن ادريس الأصغر بن ادريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شريف ثابت النسب. قدم من المغرب إلى تونس فصادف يوم وفاة الشيخ سيدي أحمد بن عروس صبيحة يوم السبت ثامن صفر الخير سنة 868 ثمان وستين وثمانمائة فوجد وصاية له من الشيخ يأمره فيها بالتوجه إلى الكاف للشيخ سيدي ابن حرز الله، فخرج إلى الكاف ثم إنّ الشيخ سيدي ابن حرز الله أمره بالخروج حول البلد فأقام هنالك إلى أن توفي ودفن هنالك بزاويته المشهورة ودفن بعده ولده محمد هناك، ثم تنقلت أبناء سيدي محمد المذكور إلى القلعة وبها ضريح سيدي عبد الله بوكريشة بن محمد بن منصور وسيدي عبد الجواد بن محمد بن مرزوق بن محمد بن منصور وأما الشيخ سيدي عساكر فقد خرج إلى خارج القلعة وكان صعب المراس، ولما توفي دفن بزاويته الكائنة خارج قلعة سنان، وهو من الأولياء المشهورين المنادى بهم في كل ملمة، وقد توسل بهم الشيخ سيدي عبد السلام الأسمر في بعض شطحاته حيث يقول: وعساكر والحلاجي، والحارثي وهنية. ويقال له: سيدي عساكر بوعبانة، وذلك أنه بعد وفاته كثيراً ما يظهر حول زاويته ملتحفاً بعبانة سوداء وكراماته كثيرة محفوظة منها أنه خرج في بعض الأيام فأتى إلى زوجته السيدة خديجة سبعة رجال راكبين على أفراسهم وراموها بالسوء فحضر الشيخ في الحين فركبوا أفراسهم فأدركهم الشيخ، وأمسك الأعنّة السبعة قال على بركة الله فوقع الجميع في الأرض، والأسد يحضر إلى زاويته ولا يؤذي أحداً قيل إن أهل الزاوية كانوا مهما ذبحوا ذبيحة إلا تركوا الرأس والسقط للأسد فيحضر لأكلهأن وتراب الزاوية إلى هذا الوقت معدن للبركة فما وضع في طعام إلا بورك فيه، وسبب ذلك أن إحدى بنات الشيخ قدم عليها أضياف وقلّ عندها الطعام فأضافت شيئاً من تراب الزاوية فكفى ببركة الشيخ فاعتادوا ذلك، ولم يزل أمراً مجرباً إلى هذا الوقت يحضر لمناديه في بعض الأحيان بشخصه، تعرض قطاع الطريق لرجل هناك فقال عند ربي وعندك يا سيدي عساكر فحضر من حينه وافتكه من قطاع الطريق فرجعوا فراراً فطلبه الرجل فلم يجده رضي الله عنه. وقد سبق ذكر التعريف بحفدة هذا الولي إلى المولى الجد في القضاة المالكية قدس الله أرواحهم وإنما نذكر هنا من بعده من أصولي الذين كان الغرض هو حفظ نسبهم فنقول: إنّ الجد المذكور قدس الله روحه كان له ثلاثة ابناء وهم الشيخ محمد المهدي والشيخ إبراهيم والشيخ محمد سميّ والده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فأما أصغرهم وهو الشيخ محمد فقد ولد سنة 45 خمس وأربعون ونشأ بينيدي والده وتعاطى بعد العلم، وتقدم للإشهاد ثم ظهر له شغف بالصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واعتكف على دلائل الخيرات ولازم الصالح الشريف الشيخ علي محسن في مبدأ أمره مدّة طويلة، إلى أن اتفق له في بعض الأيام أن كان يقرأ دلائل الخيرات في بيته على عادته فيخرج من فيه نور اتصل عموده بسقف البيت فرأى أن ذلك من آثار الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ثم لازم أستاذه إلى أن ظهرت عليه حال وكرامات في خلوته مع القيام بظائفه الشرعية، وهو اليوم ممن سلم الناس من يده ولسانه مرابط في بيته لا يتجاوز بخروجه قرب الدار، وعليه سيما أهل الأسرار. وأمّا أخوه الشيخ إبراهيم فسياتي له ذكر وأمّا الشيخ محمد المهدي فهو جدي الأقرب وقد ولد سنة 1216 ست عشرة ومائتين والف وقد أرّخ ولادته عمه أحمد زروق بقوله: [مجزوء الرجز] بشرى بمولود ورد ... والدهر منه قد سعدْ أتى الهنا يمناً وقد ... صدّ العناعنا وردّ أورد في إقباله ... كلّ سرور إذ ورد أقبل كالغيث على ... محلٍ به الغيظ اتقّد جاد به الدهر رضى ... من بعد ما لجّ ولدّ فقلت في تاريخه ... تمّ السرور لولد وارخه أيضاً بتاريخ ثانٍ وهو قوله: [الكامل] ولد ابننا الأسمى النجيب محمدٌ ... نجل العلا والفخر والتفخيمِ في يوم تسع بعد عشرٍ هنّ من ... رمضانَ شهر الله ذي التعظيم من عام ست بعد عشر قبلها ... مائتان بعد الألف في التتميمِ ووالدته خديجة بنت قويدر ابن الحاج أحمد بن سليمان اللبّدي حفيد الولي المعروف بالعديسي بن عبيدة قرب الكاف، فوالدة جدي من بيت فضل وصلاح. ونشأ بين يدي والده وعمه فحفظ القرآن العظيم وحفظ المختصر الخليجي، وقرأ العلم الشريف على والده وعمّه والشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد البحري وغيرهم، وتفقه وقدمه الأمير محمود باشا لخطة العدالة غرّة شعبان سنة 1232 اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، فاشتغل بالتوثيق. ولمّا أقام والده ببنزت قدّمه الأمير المذكور إماماً بجامع السويقة من البلد المذكور أواخر جمادى الثانية سنة 1234 ارب وثلاثين. ولمّا رجع إلى تونس جلس للتوثيق حتى صار من عمد الموثقين وسافر مع عمّه شاهداص لقاضي المحلّلة. وتقّدم بعد والده لخطة الكتابة والوكالة على بعض الأوقاف. وله في الأدب آثار من رقيق الشعر سافر لبلد الكاف مع عاملها أمير الأمراء فرحات قائد الجبيرة فكاتبه صديقه الشيخ الطاهر بن عاشور بما نصّه: [الطويل] لقد كنت لا أرضى بطيب وصالِ ... فها أنا راضٍ منكمُ بخيالِ أيا سادة شطّتْ منازل قربهم ... وبانوا فبانَ الصبرُ بعد كمالِ هجرتم بلا عذر نأيتم بلا رضى ... ضننتم ولو بالكتب والإرسالِ وإنّي مع بعد الديّار متيّمٌ ... على الودّ لم يأت السلوّ ببالي أناشد عنكم كلّما لاح بارق ... من الحيّ أو هبّت رياح شمال أناجي اصفرار الشمس عند غروبها ... أوّد لو أني لأنفاسها تالي ولمّا نات داري وعزت مطالبي ... تخذتُ كتابي معلّماً بسؤالي فيا كتب يهنيك السرور بقربه ... بعيشك بلغ لوعتي وملالي تأدب إذا ما جئت حضرة عزة ... فذاك مقام بالمفاخر عالِ مقام من تمكن من سماء السعود بالفلك السمى، وحلّ من المفاخر بالحضرة الباهية السمّأن وحاز قصب السبق في ميدان الأدب والبلاغة، ونظم جواهر الألمعية في سلك المودة وصاغه، العلامّة النحرير، الفهامة الشهير المالك القلوب بخلاصة خلته الضارب في مرضاة الأخوة ما في صداقته ومحبته: [الطويل] ففي كل قلب حبه متمكنٌ ... وفي كل نادٍ ذكره فائحُ النشرِ من اشتهرت محاسنه اشتهار الشمس دون غمام، وطلعت على الأفق مزاياه طلوع البدر التمام، حتى أشغلني مدحه عن ذكر اسمه، وأكتفى بالتلويح عن التصريح بوسمه: [البسيط] لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يكفينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 أما بعد سيدي فلولا أن السلام تحية الإسلام، لكان مسبوقاً بتقبيل الأيدي ولثم ترب الأقدام، فأنشىْ سلاماً أرقّ من النسيم وألذ من مناولة النعيم، يجول حول ذلك الحمى الدائم عزه واحترامه، ويبث اشتياق صبٍّ نكدت بالبعاد لياليه وأيامه، ويليه تقبيل تلك الراحة الشريفة، ولثم الترب من تلك الحضرة المنيفة. أما السؤال عن جميع الأحوال، فهو غاية المطلوب وقصد الآمال، لا أخلف الله فيها عوائده الحسان لا زالت جارية على وفق المراد بجاه خلاصة ولد عدنان. فأما حال مضناكم المتيم بالهجر والبعاد، فلا يخفاك ما فعل به الشوق والنكاد: [الطويل] فما حالُ عين غاب عنها ضياؤها ... وما حال قلب بعدما فارق الصدرا أسأل مآل ذوي الدعوات أن يعجل بالملاقاة في أحسن الأوقات، بجاه النبي والآل والصحب والزوجات، ويبلغك السلام الأتم من جميع الأحبّة خصوصاً من الشيخ أخي سيدي محمد، والأخ الودود سيدي الحاج الطيب أبي نمرة، ودمتم في العز والأمان، والسلام من خديم جنابكم الرفيع عبيدكم محمد الطاهر بن عاشور لطف الله بالجميع. وأجابه عن ذلك الجد بمكتوب قال في طالعته: [الطويل] من الشرق لاحت درة ولآلي ... تقبلها كل الورى بجمالِ فأصبح من بالغرب في حلل البها ... يتيه بفخرٍ شامخٍ وجمالِ وعزت على لثم الشفاه بفضلها ... فآمالنا ترنوا بغير ملال سمت في العلا فخراً على كل فاضل ... شذاها ومسراها معا بمجال أشارت بأن الصب أضحى متيماً ... يروم وصالاً فانثنى بمطال فقد حان في أضعاف ما نال صبركم ... من الشوق وانزاح السلو ببالي ولم يُبقِ مني السقم غيرَ حشاشة ... يروح بشبح مضنيٍ ومقال وقالت مراسيل التوحش زمرة ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي عسى من قضى بالبعد يجمع شملنا ... ويبدلُ هجرانا بطيب وصال وراجعه الشيخ الطاهر بن عاشور مكاتباً بما نصه: [الكامل] رجعتْ لسكنى القلب روح حياتي ... مذ حلّ كتبك في فناء جهات وارتاح مضنى طال ما سه الدجى ... من فرْط شوق موقد الجمرات فنشرته من بعد لثم ختامه ... وتمرغِ الخدين والوجنات ورأيت من علياه عِقدَ جواهرٍ ... لم تحوهِ الأبحار في الصدَّفات فنظامهُ مثل انتظام لآليْ ... والنثر مثل تناثر الزهرات كا لنَدِّ بلْ كالمسك ما قد فاح من ... أرجاء تلك الأسطر البهياتِ يا مهدياً نحوي رسائل ودّهِ ... أفرطت في الاحسان والصدقات وإليك روحي مع رسالة فكرتي ... خذها مع التشريف والتحيات من محب سقاه الهوى كاسات الهوى والهجران، وأنحى على الإقامة بساحة فؤاده ركاب الشوق والأحزان، فغدا بين الورى في حيرة وهيام، وما حال من استبدل طيبَ الكلام ببلاغات الكلام، إلى من كسته المحبة جلابيت العز والكرامة وألبسته المودة تاج المفاخر والفخار، فهو بدر سماء المحبة اللامع، وفريدة عقد المودة التي شعاعها ساطع، مُطلع الأبيات الشعرية ومرجع النكات الألمعية ومنبع اللطائف الأدبية والحائز فصاحة اللسانين بلا ريب المخصوص بأعلا رتب البلاغة ممن عنده مفاتيح الغيبى حبيبنا الأول، وأخينا الأجمل، وعلامة وقتنا الأفضل، أبي عبد الله سيدي محمد السنوني لا زالت المفاخر حائمة حول حماه الكريم، محفوفاً بحفظ يس والقرآن الحكيم، أزكى السلام، وأنمى التحية والإكرام، فقد ورد علينا ما شفى القلوب من وبالهأن وهدى الروح بمركزها بعد ضلالهأن كتابك الزكي بهواؤه، اللامع سناؤه، فتشرف منه العبد ببديع نظامه، وقبل الأرض تكريماً إذ كان وسمك الشريف مركز ختامه، تالله لقد علمت به علم يقين، لا علم تخمين، ما فعل القميص بيوسف إذ جاءه البشير فالحمد لله حمداً يوافي سلاماتكم والشكر له شكراً نتأهل به للفضل بنعمة ملاقاتكم إذ هي غاية المرام، ولو حصل لنا لكنا في غاية الإنعام، وما ذكرت لنا في الجواب فهمناه، فأما إلخ. ثم قال: هذا ولما عجزت عن مقابلة ما أتاني من الجواب، وقعدت عن الإتيان بمثل تلك الحباب، استعنت على ذلك الشان، بأعز الإخوان، وتحفه نجباء الزمان، أخينا فلان، ونطلب من فضلك، لا تزيد شوقاً بالبعاد، فإن اليوم عندنا بمنزلة يوم التناد والسلام من عبدكم محمد ةالطاهر بن عاشور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وأجابه الجد عن ذلك بمكتوب كتبَ في طالعته قوله: [الكامل] لعلا مقامك وانتعاش حياتي ... فرح تراكم من جميع جهاتي فسعدت حين انلتني ببطاقة ... محفوفة بلطائف الزهرات وظللت من فرحي بها لم أدرِ هل ... ريح السرور أم اكتساب حياثني فوضعتها لصقَ الجفونِ ليشتفي ... ألمُ البعاد وتنجلي حسراتي قبلتها سبعاً وطفت بكعبها ... وجعلتها لي النثر بالميقات وأخذت من حصباء درّ رياضها ... ما قدْ رميت بموقع الجمرات يا أيها العلم الذي في طيه ... نشر العلوم ومدفع الأزمات قل للمتيم بعد تقبيل الثرى ... بتواضع وتمرغ الوجنات ما كان إذ أعرضتُ عنك لحادث ... يصبي الفؤاد وينجلي بثبات كلاى وإني فيه صب مغرمٌ ... متشخِّصٌ لصفاته البهيات ولكم بذكر علاه ما هب الصبا ... في الأفق والغدوات والعيشات ذاك الذي أعلى يراعي برهة ... ما صح منه لساقط العثرات وعليكمُ منّي سلام طيب ... يغشاكم بلطائف النسمات وكان موثقأن ألمعيأن نحريراً أديبأن فاضلأن عالي الهمة، حسن المحاضرة، وجيهأن مع سعة ذات يده، أحدث عدة بناءات بتونس كلها حول العزافين قرب سوق النحاس، ومنها حومة السنوسي هنالك فإنها سميت باسمه. وسافر مع أمير الأمراء فرحات قائد الجبيرة، وبه مبادي مرض فاشتد به فرجع واقام على فراش مرضه بمرض الاستسقاء، وتوفي قرب زوال يوم الجمعة خامس صفر الخير سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف، عليه رحمة الله. وأما والدي فقد ولد سنة تسع وثلاثين أو سنة أربعين ومائتين وألف، ونشأ بين يدي جده، وحفظ القرآن العظيم وألفية ابن مالك، وقرأ العلم أولاً على جده ليلاً فقرأ عليه بعض كتب المبادي مثل الأجرومية والقطر، ثم قرأ بجامع الزيتونة على الشيخ أحمد عاشور والشيخ محمد النيفر والشيخ محمد بن ملوكة والشيخ علي العفيف وغيرهم. وتقدم للإشهاد في التاسع من ربيع الاول سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين وألف، فاشتغل بالتوثيق، وعاقه عائقُهُ عن خدمة العلم على الوجه الأكمل، الإ أن اشتغاله بالتوثيق حصل به على ملكة في النوازل الفقهية، سيما وقد وُلِع بحفظ نظم جده حتى كان عارفاً بجميع مسائله. ثم اشتغل بالتجارة وتوسَع فيها وحج بيت الله الحرام عام 1269 تسعة وستين ومائتين وألف، وترافق لذلك مع العَالِمَيْن الشيخ الحاج عبد الله الدراجي والشيخ الحاج صالح النيفر، ورجع إلى تجارته. ثم لاَزَمَ الإشهاد بعد وفاة والده، وشهد على أوقاف المنعمة عزيزة عثمانة، وسافر للساحل في بيع غلة الوقف أواخر سنة ست وثمانين ومائتين وألف. وعند إيابه هنأني العالم الماجد النحرير الشيخ سيدي محمد ابن الخوجة بقوله: [الكامل] طربت يراعي للقدوم فبادَرَتْ ... تأتي بكل غريبة الإنشاءِ علماً بِأَنْك أميرُ كل يراعة ... فلذا تُوالي خدمة بوفاءِ هذا اليراع يهزُ عطف مسرة ... وهو الجماد فكيف بالأحياء لاسيما القُرَبَا وأهل مودة ... فقد ارتَوَوْا من عذب راح هناء فهمُ سكارى راح بشر عتقت ... يتمايلون مميل ذي الِإغفاء ولديهمُ يوم اللقاء كأنَه ... عيدٌ بَلى أسنى بدون مِراء لا زال ماءُ البشر دوماً وِرْدَهُم ... يتمتعون به بلا أقذاء وشهاب افق العلم فيهم نيرٌ ... لايعرف التنكيس في الإخفاء ذاك الحبيب الماجد الفذ الذي ... سبق الفحول على زمان فتاء حيث البلاغة كلّها مجموعةٌ ... في شعره السّامي على الزهراء خذها أبا عبد الإله ذميمة ... خرجت على كره من استحياء خجلَتْ وحُقّ لهل لأجل شهودها ... بدرَ السماء بمهجة شوهاء لكنها قدمت لأنك سيد ... ذو شيمة تقضي على العوراء من معشرٍ سَادُوا على كل الورى ... بديانة وفضائلٍ وعلاء لا زال طير الحمد يبدي ذكرهم ... عند الملا في دوحة العلياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ولازم الإشهاد بعد ذلك، ولما توفي الشيخ علي بن محمد الطويبي قاضي جبل المنار عشية يوم الاثنين قدّم المشير الثالث محمد الصادق باشا باي والدِي المذكور قاضياً بجبل المنار وإماماً وخطيباً بجامع سيدي أبي سعيد الباجي صبيحة يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف، وقدّمه شاهداً على عموم أوقاف تلك الجهة، وقدنقش في ختمه بيتاً وهو: [الوافر] لطيفاً في القَضَا باري النُّفوسِ ... بعونك جُدْ لعثمانَ السنوسي وهو خامس من ولي خطة القضاء بالجبل المذكور وذلك أن أول قضاتِه هو الشريف الشيخ عثمان دمدم وليها بسعاية محمد خوجة كاهية حلق الوادي، وهوالذي أقام ته بجامع المكان منبراً. وبعد وفاة الشيخ عثمان ولي عوضه خطتي القضاء والإمامة الشريف الشيخ علي بن محمد التميمي، وبعد وفاته وليها ولده الشيخ محمد التميمي، ثم استقال، فخلفه صهره الشيخ علي الطويبي سنة 1278 ثمان وسبعين ومائتين وألف، والآن صارت إلى والدنا المذكور بسأل الله لنا وله الإعانة على ما يرضيه. وعند ولايته الخطة المذكورة كتب إليّ الأديب البارع الثقة الشيخ الحاج محمد سيالة مهنياً بما نصه: [الكامل] الفرع مهما طاب أصلاً لم يزل ... يسعى ليحرز ما به الأصل اكتمل فتراه ذا حزم وعزم ما نَبا ... حَدَّاهما لو كلفا صعب العمل وبذا يسود وَلاَ يزال إذا ارتقى ... للرتبة العليا لأعلى ينتقل إذ ذاك يحظى سلكهم بفريدة ... يزداد إشراقاً بها عند الأوَل فيزان جيد زمانه بفضائل ال ... حَبْرِ الأجَل ابن الأجل ابن الأجل وبذاك يصبح ثم يمسي داعياً ... لكمالهم بتسلسل لا ينفصل الفاضل الذي جمع أشتات الفضائل والفواضل، والكامل الذي لا يدرك شأوه مناضل، خلاصة الألبأن والطلع من كنوز المعارف على المخبأ من استعبد حر الكلام بسن اليراع، وشرع حد ذكائه على جيش الفصاحة والبلاغة فأطاع، فاقتحم كل شِعب من شعوب الآداب، واقتفى أثر كل شاردة وضالة من كل فدفد، فأصبح وهو المالك لأزمّة البراعة، وضرب له بالسهم الأكبر من الغنيمة التي هي أشرف بضاعة، كيف لا وهو الذي جد فوجد، وزرع فحصد، وصال فذلّل الحرون الشَّموس، وقال فصيّر سُهَا المسائل كالشُّموس، أعني الأخ الذي طالما تنزهت في رياض آدابه، وعانقت خرائد المعاني بين سطور كتابه، واتخذت من بنات أفكاره أنسي، ولأت من سلسبيل رضا بها كؤوسي، سيدي وأخي الشيخ محمد السنوسي، لا زال بدر سعادته دائم الكمال، محفوظاً بعين عناية ذي الجلال. أما بعد إهداء ما يليق بمقامكم الأسنى، من التحية الحسنى، فإني قد بشرت بما شنف آذاني وأفعم بالسرور جَناني، من أن الهمام الفاضل واسطة الأمجاد الأفاضل، من شرفت أقدامه قلل المعاني بالفرع، وقلد الدهر بدرر مفاخر أصله والفرع، الجامع بين تليد المجد والطريف ذا الحسب الباذخ والنسب الشريف، فرع الفضلاء الأعلام ووالد نخبة الكرام، المعني بالكلام، والدنا الشيخ سيدي عثمان السنوسي قد شرف ركابه منصب القضاء بجبل المنار، وبشرت بما سينهلّ به سحابه من العدل هاتيك الديار، حملتني كثرة السرور التي تعلمها من غير ذلك ما أبديتها من سكنى الدّر بانيها وإعطاء القوس باريها بعد أن هنات نفسي بنفسي على أن أقدم لكم التهنئة قبل أن تقدمها إليّ وإن كان هذا الفرض قد وجب عليكم قبل أن يجب عليّ، حيث إن حبل المودّة بيننا متين، وصدق المحبة جعلنا توأمين بلامين, مع أنك فزت بقرب الدار من الملاذ المشار إليه، ولكن استواء الحب حكم بسقوط التكليف على ذويه، وحينئذ فهنئتك أيّها الأخ بالرتبة السنية التي أمت رحابكم، وانتهى بها التفتيش على كفء لها إلى أن طرقت بابكم فوجدت من هنئت بقبوله لها وتشبثت بأذيال من يكسوها حلل الفخر والبها فجعلها الله مقرونة باليمين والإقبال، مبشرة بنيل الآمال فاتحة لإدراك ما حازته الأوائل من الرتب السنية والشرف الكامل ورزق من لاذت به الإعانة على الدوام حتى يتوج القضايا بالنقض والإبرام ويبلغ بحسن السيرة وصفاء السريرة المرام. ويشاهد كما شاهد حسن المبدأ حسن الختام, والسلام من ودودكم وحافظ عهودكم الحاج محمد سياله لطف الله بالجميع في ربيع الثاني 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وبموجب ولايته خطة الإمامة والخطبة بعثني على إنشاء خطب مستجدة للأسابيع وقد جمعها ديواناً وقد سبق أنّه هو الذي اعتنى بجمع مآثر جده العلمية، جزاه الله خيراً. وقد سافر إلى بلد الكاف وبحث عن أصول شرفنا وأقام شهادة في ذلك، ضمّها إلى وفيات قديمة عندنا وجدّد بذلك شجرة أثبت فيها شرفه فكتب فيها نقيب السادة الأشراف بالحاضرة كتابة بديعة هذا الحمد لله الذي أظهر الطلعة الأحمدية نيراص أعظماً وأمدّ من نوره بمزيد عنايته به بدوراً وأنجمأن فاشرقت به ىفاق الجهل الحوالك واتضحت به الطرق والمسالك وجعله مرشداً للنجاة محذراً من المهالك وفتح به للنجاح والعلاج قلوباً وأبصارأن وجعل له من قرابته وعشيرته حماة لدينه وأنصارأن وأبرزه للخلق رحمة وشفأن وخصّه وأهل بيته الشرفا بالسؤدد مع الصدق في القول والوفا وأجزل عطيتهم وتكريمهم وأوجب على الخليقة توقيرهم وتعظيمهم على لسان نبيه المرتضى ورسوله المجتبي بقوله (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا الموّدة في القربى) والصلاة والسلام على سيدنا محمد تاج مفرق المعالم وسيّد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وكل من اهتدى بذلك المنار وانتسب لذلك الجناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أمّا بعد فإن من تعلّق بالنبي عليه الصلاة والسلام واتصّل بحبله سببه، وحرّي أن يحرز القصبات ويركب سفينة النجاة ولو كان من أولاد البنات على ما يرشد بارئ البرية وواجب العطيّة بقوله: "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريّة" واسم الذريّة يتناول أولاً البنات كما نقل عن الحنفية والمالكية في باب الوقف والوصية وآل بيته عليه الصلاة والسلام هم علي وفاطمة وأبناؤهما رضوان الله عليهم، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج النبي عليه الصلاة والسلام ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلهأن ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: "يوجد آية"، وللترمذي وقال حسن صحيح عن أم سلمة أنّ النبي عليه الصلاة والسلام جللّ على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، وقال اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قالت أم سلمة وأنا معهم يا رسول الله قال: إنّك على خير، وفي رواية فجئت لأدخل معهم قال فكأنّك وأنت على خير أنت من أزواج النبي. وفي قوله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية دليل على اعتنائه تعالى بهم وإشارة إلى عليّ قدرهم حيث أنزلها في حقّهم لا تشمل غيرهم معهم كما يستفاد ذلك مما فعل عليه الصلاة والسلام بهم حيث سوى بينه وبينهم في دخوله الكساء معهم فمن اقترف من ذريّته عليه الصلاة والسلام شيئاً من الوزر يرجى أن يتدارك بسبب التطهير إمّا بإلهام المثوبات أو بأنواع المصائب ونحوها من المكفرات كعدم إنالتهم ما ناله غيرهم من الحظوظ الدنياويات، وآخرها الشفاعات النبويات. وناهيك في علو قدرهم سلام الله عليهم، فقد نقل عن جماعة من المعبرين عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى "يوجد آية" فياسين ومحمد مثل يعقوب وإسرائيل، ومن اختصار الزاهرات الوردية بالفتاوي الأجهورية ما نص: وسئل عن الشريف أفضل أم العالم فأجاب الشريف أفضل من حيث النسب ولمذا كانوا عنده بهذه المكانة أوجب على كل مسلم مبتهم وموالاتهم وحرم عليه إهانتهم وإذايتهم، فالمخلص في المحبة لجدّهم يعفو عنهم إن آذوه معاملة له كما حكي عن إمام دار الهجرة مالك بن انس رضي الله عنه لما ضربه جعفر بن سليمان العباسي وكان أميراً بالمدينة ونال منه ما نال ظلّ مغشياً عليه فلما أفاق قال أشدكم عليّ أنّي جعلت ضاربي في حل فسئل عن ذلك فقال خفت أن أموت وألقى النبي عليه الصلاة والسلام ما سمي ما أن يعذب بعض آله بسببي. وبالحقيقة لا يكون من المؤمنين من لم يجد رسول الله وذريّته إليه من نفسه أحب وأعز عليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين. ومن علامة محبته عليه الصلاة والسلام محبة ذريّته وإكرامهم والإغضاء عن انتقادهم، فما انتقد ذرية محمد محب محمد قطّ، فهم قوم شرّف الله أخلاقهم, فلا تغلب عليها أفعالهم كغيرهم، فمن ترى فيه المخالفة من أهل بيته عليه الصلاة والسلام فإنّما نبغض أفعاله فقط، وأما ذاته فلا نبغض لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة منّي" ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكون بواسطة بضعة منه عليه الصلاة والسلام، ألا ترى قول عمر لعلي رضي الله عنهما في خطبته لأم كلثوم بنت فاطمة إنّي أحب أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان من يشاهد اليوم من ولدها فهو بضعة من تلك البضعة ولو تعددت الوسائط. قال الشيخ محي الدين بن العربي: لا ينبغي لمسلم أن يذمهم بما وقع منهم أصلاً لأنّ الله طهرهم وليعلم الذّامّ لهم ان ذلك راجع إليه ولو ظلموه، فذلك الظلم هو في زعمه ظلم لا في نفس الأمر وإن حكم عليه الشرع بأدائه، بل حكم ظلمهم إيان في نفس الأمر يشبه إجراء المقادير على العبد في نفسه وماله وما يحبه بالأمور المهلكة كأن يصاب في نفسه أو يحرق ماله أو يموت بعض أحبابه، وهذا كله ممّا لا يوافق غرضه، ولكن لا يجوز له أن يذّم قدر الله وقضاءه، بل ينبغي له أن يقابل ذلك بالشكر فإن نزل عن هذه المرتبة فبالرضى والتسليم، فإن نزل عن هذه المرتبة فبالصبر فإن في طي ذلك نعما لهذا المصاب هكذا ينبغي للمسلم أن يقابل جميع ما يطرأ عليه من آل البيت في ماله ونفسه وأهله، فعفونا عنهم فيما أصابوه منّا تكون لنابه عند الله اليد العظمى والمكانة الزلفى فقد طلبت منا الموّدة لهم، ومعناها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الثبات على المحبة في كل حال، فمن اتصف بالموّدة لهم لم يؤاخذهم لما يطرأ في حقه منهم، بل يتركه محبة وإيثارأن إذ كل ما يفعل المحبوب محبوبه. وروى أن الحسن تلا قوله تعالى: "يوجد آية" ثم قال: إنّ الحسنة مودّتنا أهل البيت وقال محمد ابن الحنفية في قوله تعالى: "يوجد آية" لا يكون المؤمن إلاّ وفي قلبه ودّ لأهل البيت لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وأهلي أحب إليه من أهله، وقال عليه الصلاة والسلام: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال حب نبيكم وحب أهل بيته وقراءة القرآن، وقال عليه الصلاة والسلام": حب آل محمد خير من عبادة سنة، ومن مات عليه دخل الجنة وقال عليه الصلاة والسلام: أنا شجرة وفاطمة حملها وعلي لقاحهأن والحسن والحسين ثمرهأن والمحبوبون لأهل بيتي ورقتهم في الجنة حقاً حقأن وقال عليه الصلاة والسلام: لا يحبنا أهل البيت إلاّ مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا منافق شقي، وقال عليه الصلاة والسلام: اشتدّ غضب الله وغضب رسوله وغضب ملائكته على من آذاني في عترتي. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه دخل عليه عمه العباس فقال: يا رسول الله إنّا لنخرج فنرى قريشاً يتحدثون فإذا رأيونا سكتوا فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام ودرّ عرق بين عينيه ثمّ قال: والله لا يدخل الجنة قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله وقرابتي ثم قال أيّها الناس من آذى عمّي فقد آذاني، وقال لو أنّ رجلاً صفّ أي جمع قدميه بين الركن والمقام فصلّى وقام ثم لقي الله وهو مبغض لآل نبيّه دخل النار، وقال صلّى الله عليه وسلم: من لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث إمّا مريب أو منافق أو حملت به أمّه من غير طهر، وقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لا تزول قدم عن قدم يوم القيامة حتى يسأل الرجل عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله مّما اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت وروي في قوله تعالى: "يوجد آية" أي عن ولايته أهل البيت، والمعنى أنّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي عليه الصلاة والسلام أم أضاعوها وأهملوها فتكون عليهم المطالبة والمؤاخذة بذلك وعنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: من آذاني في عترتي فعليه لعنة الله، وقال عليه الصلاة والسلام: إنّ الله حرّم الجنة على من ظلم أهل بيتي أو قاتلهم أو أعان عليهم أو سبّهم، وقال عليه الصلاة والسلام: رأيت ليلة الإسراء مكتوباً على أبواب الجنة والنار أذذل الله من أهان أهل البيت، إلى غير ذلك من الآيات والآثار الدالّة على منقبتهم السميّة، وسمو رتبتهم العلية، ممّا لو تتبعناه لأفضى بنا إلى التطويل وحسبنا الله ونعم الوكيل. وفيما ذكرناه كفاية لمن أناب، وليتذكر أولو الألباب. هذا ولمّا اطّلعت على هذه الشجرة الباسقة وانتظامها في سلك السادات الأشراف وعقودها المتناسقة، ثبت عندي بمقتضاها شرف الثقة الأعدل الأبر الشريف السيّد الحاج عثمان بن الأكتب النحرير الشريف السيّد محمد ابن العلاّمة العامل المؤلف الشريف السيّد محمد السنوسي قاضي الجماعة بتونس ابن العامل الفاضل الشريف السيّد عثمان المفتي ببلد الكاف ابن الناسك الأبر الشريف السيّد الحاج محمد بن الوجيه الصفوة الزكي الشريف السيّد أحمد عرف بن مهنية أحد حفدة الولي الصالح البركة الشريف السيّد عساكر دفين قلعة سنان من عمل كاف رضي الله تعالى عنه وأرضاه آمين، ولذلك أطلقت لسان الشكر على ما لأهلها من الأنتساب، إلى رفيع ذلك الجناب والله يبلغ المأمول، وبالمعاملة والقبول. قال ذلك وحرره الفقير إلى مولاه الغني به عمن سواه عبده محمد العربي البشير الإدريسي الحسني الشريف نقيب السادة الأشراف بالحاضرة التونسية وقطر إفريقيا عامله الله بألطافه الخفيّة آمين بتاريخ الثامن عشر من قعدة الحرام عام 1296 ست وتسعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تحية. وكانت وفاته ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الأوّل عام ثلاثة وثلاثمائة والف ودفن بمقبرة القرجاني بجوار والده وجدّه قاضي الحاضرة ورثاه بما نقش على قبره العالم الماجد المدّرس الشيخ سيدي محمد جعيط بقوله: [الكامل] طلب الحياة هدى النفوس القاصرة ... ما العيش إلاّ عيش دار الآخرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 دار الغرور فما تدوم على صفا ... بل لا تزال على النواء بسافرةْ إنّ التقيّ من امتطاها قاصداً ... دار الجزا ذات القصور الفاخرةْ كالفذِّ عثمان السنوسي من له ... بالذكر في الأسحار عين ساهرةْ قاضي لدى جبل المنار ومن غدا ... بالحقّ للأنامِ أوامرهْ وخطيبه اللسن الذي من وعظه ... للخير قاد ذوي النفوس النافرةْ وهو الشريف ومن سما في خطة الت ... وثيق ما في العصر شخص ناظرهْ أبدى فتاوي جدّه في نظمه ... في لقط درٍّ في البحور الزاخرةْ يا من يؤم ضريحه قف سائلاً ... رضوان خالقه له في الآخرةْ وانظر إلى عبر الذين مضوا وقد ... حازوا من الذكر الحميد مفاخره حتى ترى في خير تاريخ حوى ... (قاضي المنار جوار قاضي الحاضرة) ورثاه العالم الماجد الأكتب الشيخ سيدي حمودة تاج بقوله: [الكامل] فوض إلى الله الأمور وردّد ... فاجع العلا والمجد دون تردد ياحبّذا رجل يقضّي يومه ... مستوفزاً يزداد زاداً للغد ما أمر ذي الدنيّا ولا لذّاتها ... إلا كطيف زار مقلة أرمد أو ما فقدت بها أبا النورين عث ... مان السنوسي ذا التقى والسؤدد! من بعدما زان المنابر والمزا ... بر شائداً لبناء ذاك المحتّد وقضى على جبل المنار فشاهدوا ... عدلاً جبلياً كحدِّ مهّند والعلم والعمل الرفيع إذا هما أج ... تمعا بشخص حلّ أشرف مقعد فأنا أرى ذا الرمس حول جنة ... منحوتة من عسجد وزبرجد فأرى لها وأختار وقتاً صالحاً ... لرحيله لسنى النعيم السمد وبعيد غيبته أتى تاريخه ... حضر الجنان بأمر يوم المولد ورثاه الأديب الأبرأن والدّرّاكة الألمع الشيخ سيدي أحمد أديب المّكي بقوله: [البسيط] أقبر عثمان فيك العلم والطيب ... ومن به ظهرت فينا الأعاجيبُ قاضي المنار الذي باهت بمحتده ... ما في الوجود من الناس الأعاريبُ ثوى ببطنك فاستجرى محاجرنا ... دمع له الدهر تصعيد وتصويب وبالضمائر منا كل ما ذكرت ... أبناؤه الغرُ إضرام وتلهيب بكاه منبره السامي ومن حسنت ... بحكمه فيهم دقت أساليب وودَّ كلُ حبيب لوفدته به ... مخالب الحادث السود الغرابيب وغير مجدٍ لأن الخلق أجمعهم ... في ذا السبيل لهم سير وتأويب فيا ضريحاً به قد فاز لا برحت ... تسقيك من رحمة البار أنابيب وترتضي ألسناً قالت مورخة ... (أقبر عثمان فيك العلم والطيب) وورثاه الأديب الأبرع، المتفنن الأبرع الأكتب الماجد الشيخ سيدي البشير الأكودي بقوله: [الكامل] لا تجزعنَّ فكل شىْ فان ... واصير لحكم مكون الأكوانِ أين الفرار من الحمام وهوله ... أين الفرار ولات حين أوان قدم لنفسك ما استطعت من التقى ... زاداً لترحل كل أتٍ دانٍ فإذا فعلت لقيت ربك سالماً ... سكنت فضلاً جنة الرضوان كالشيخ عثما السنوسي الذي ... من فقده دمع المنابر قانٍ فضلاً عن الأبناء والأحباب وال ... إخوان والأعمام والجيران قد كان ذا وعظٍ يحرك وجد من ... في قلبه حظ من الايمان وقضاؤه بالعدل كم أجراه في ... علمِ المنارِ بمحكم التبيان وعفافه وتقاؤه لا يمكن التع ... بير عنه بخاطر ولسان ذاك الشريف ابن الشريف ابن الشري ... ف المعتلي شرفاً على كيوان سحّت عليه هواطل الرحمات من ... ربٍ رحيم مشفقٍ رحمان وله الهناء بما لديه من الرضى ... والصفح والغفران والإحسان وكفاك فال جاء في تاريخه ... هنئتم ُعثمان بالجنّان ورثاه العالم الماجد الأكتب ابن عمه الشيخ سيدي محمد بن إبراهيم السنوسيّ بقوله: [الطويل] ألا في رضى الرحمن تسعى الأفاضل ... فتباً لمن عن ذلك السّعي عادلُ وتعساً لمن لا يوقظ الوعظ قلبه ... ويزعم أنّ الرشد ماهو فاعلُ فلا تغترر يا صاح فالموت عبرة ... وكلّ امرئ إلى الموت آيلُ وإيّاك والدهر الخؤون فإنّه ... يزخرف للإنسان ما هو باطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فما المرؤ إلاّ ما تزّود في التقى ... فذا في ثياب الفوز لا شكّ رافلُ كهذا الذي امسى ضجيعاً إلى الثرى ... وأعرض عنّا والعيون هواملُ هو السيّد الأتقى أبو النور من له ... بهمته العلياء طابت شمائل عنيت السنوسيّ الذي عز ندَّه ... وصار وحيداً ما له من يشاكل فتى كان في التوثيق بهجة عصره ... ومارئ في أقرانه من يماثل وقام على طول المنارة قاضياً ... يؤم وبالتثبيت، والعدل حافل إذا ما أتى يملي على الناس وعظه ... به من دموع الناس سالت جداول على ذا استمرّت حاله وهو مكثر ... لأوراد ذاك (الشاذليّ) مواصل إلى أن دعاه للضيافة ربّه ... فلبّاه بالإقبال والعفو سائل يرجي نوالاً من سعادة مولد ... به آب للنعماء وهي جلائل وهذا مآل الناس يا صاح أرخن ... (فسيح جنان الله عثمان نازل) وأرخ وفاته الصفوة الذاكر الخير الماجد حامل كتاب الله الشريف الشيخ سيدي محمود جراد بقوله من الرجز: [الكامل] هذا التقيّ الألمعي ومن به ... أهل المكارم بالوغى تزدانُ هذا السنوسيّ العالمُ النحرير زد ... وهو الشريف واسمه عثمان لاقى الإله تحبباً في مولد ... ففيه أرّخ وله الغفران وكتب من مصر في التعزية لوفاته العلاّمة النحرير الماجد الشيخ سيدي محمد بن مصطفى بيرم أحد أعضاء المحاكم المصرية بما نصّه: ابني العزيز، وصديقي الحائز من مديح البسيط من قولي والوجيز، الفاضل النحرير، والبارع في التقرير والتحرير، الشيخ سيدي محمد السنوسيّ لا زالت مراهم معارفه لجراحات الجهالى توسي. أمّا بعد سلام زكي عاطر، وإناس لبساط التعزية ناشر، فقد ساءني خبر تفجّعكم بوفاة والدكم المبرور، هيأ الله له شامخ القصور، في جنات الحبور ودار السرور، وأمّا ما خلا الدعاء له بما ذكر والدعاء له بمزيد الصبر من شرح أفانين التعزية وضرب الأمثال في التسلية، فعلومكم بحمد الله لما ورد في السنّة حاوية، وليس ورائها بقية تتطلّب لا سيّما في أمور الدار الباقية، والله نسأل أن يجعل ذلك خاتمة ما ورد عليكم من الأكدار في هته الدار لا ربّ غيره وهو أرحم الراحمين والسلام من الداعي محمد بيرم لطف الله به في 12 ربيع الثاني سنة 1303. الزرقيّون والدة والدي هي ابنة عم والده إذ هي خديجة بنت الشيخ أبي العباس أحمد زروق شقيق المولى الجدّ عليهما رحمة الله، وهو أحمد زروق بن عثمان بن محمد بن أحمد بن مهنية من حفدة الشريف سيدي عساكر رضي الله عنه، وقد توفيت الجدّة المذكورة أوائل سنة 1264 أربع وستين ومائتين وألف، ووالدها ولد سنة 1185 خمس وثمانين ومائة وألف ببلد الكاف، وارتحل إلى تونس في طلب العلم فقرأ على الشيخ صالح الكوّش وغيره، وولع بالمعقول فبرع فيه براعة سبق فيها من عاصره وجلس للتدريس فأفاد وطلب من الأمير حمودة باشا أن يوليه الإشهاد مدّة اعتزازه فقدم إليه القصيدة ذات القصيدتين وأنشدها بنفسه بين يديه ولمّا أتم إنشادها قال له الأمير إنّي أعرف ما أنت عليه ولكن نخشى من اشتغالك بالإشهاد أن تترك التدريس بجامع الزيتونة، فقال له معاذ الل أن نترك خدمة العلم الشريف، وإنما نرجو أن نحصل على ما يعينني عليه فأمر له كتابة الأمر بالإشهاد عند ذلك ولم يرجع إلاّ وأمر ولايته بيده وقصيدته المذكورة من غرر القصائد وهي قوله: [الكامل] ملك الملوك كفيت كلّ معاند ... نائي المدى وبلغت كلّ مراد وأنلت كل مؤمن متباعد ... صعباً غداً وملكت كلّ قياد أشكو إليك ولا تزال لقاصد ... علم الهدى لمن استجارك هاد جور الزمان ولست فيه بواجد ... لي مسعداً متحقق الإسعاد إلاّ نداك وفيه غنية رائد ... فغدا الندى وجدا الغمام الجادي أأضام فيه وأنت أمنع ذائد ... لمن اعتدى وغنى العديم الزاد وعلى نداك علاك أعدل شاهد ... كم قد هدى المحتاج للإشهاد سدّت الملوك بعزّ ملك خالد ... متأبداً وسبقت كلّ جواد وأثرت للأعداء صولة راشد ... راع العدا أسد من الآساد حتى أحطت بكلّ باغ مارد ... شرك الردى في كل يوم طراد وبقيت دين الله سوء معاند ... معتمداً ودفعت كلّ فساد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وكذا عرفت بكل عدل عاقد ... لعرى الهدى والدين حبل سداد للعدل قد أوضحت كل معاهد ... حتى بدا في سائر الآباد فخر علاه أنطته بعطارد ... حتى ارتدى بسنا البدور الباد وعلا على ضوء الشهاب الواقدِ ... مسترشداً بهداه ضوء الهادي أنت الرشيد لكلّ آوٍ قاصد ... حيث لحمال لا بغداد يهني الأماني منك بشر مساعد ... ريث الندى وغياث كل منادي فأنعم ودم لمفاخر ومحامد ... تحوي مداها سائر الآماد وقد جلس للإشهاد مع التدريس فكان من ثقاة الموثقين، وأعلام المدرسين، ثم تقدم لمشيخة مدرسة بير الحجار بعد وفاة الشيخ أحمد سويسي فأقام دروسهأن وكان مواظباً على التدريس بهأن وقرأ عليه كثير من العلماء هنالك. ثم قدمه الأمير حسين باشا باي لخطّة قضاء المحلة في ربيع الثاني سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين وألف بعد ارتقاء الشيخ البحري لخطة قضاء الحاضرة وسافر مع الأمير مصطفى باشا ونال من موّدته وإقباله منالاً عزيزاً. اتفق له في محلّة باجة أن حضر إليه أعرابي يشكو إليه أحد الأضباشية في دين عليه، فأرسل له عوناً وجده بحانوت برادعي داخل باجة، فامتنع من الحضور معه وحين عاد إليه قام له قيام الزعيم، وأخذ يضربه ويشتمه، وعندما بلغ ذلك إلى الشيخ أرسل من حوله للإيتان به على أسوأ حال، وأمر بتطويفه على حمار ينادي عليه هذا جزاء من عصى الشريعة. ولمّا بلغ خبر ذلك لأمير المحلة أرسل إلى الشيخ كاتب سره يشكره على حسن صنيعه وقال له: وقد حكم عليه الأمير بخمسمائة سوط بعد إنهاء حكمك، فدعا الشيخ للأمير وطلب أن يعفو عنه من السيّاط بشفاعته، فقبل فيه شفاعته وأعفاه. وكان عالماً موثقاً فرضيأن ذا همّة عالية، ونفس عزيزة. أما الأدب فقد اختّص بحمل رايته في ذلك العصر حيث نسج فيه على منوال عزيز، وخلّص بدائع معانيه خلوص الإبريز، ومدح الشيخ أحمد البارودي بقصيدة فعظم عنده موقعها وكتب له شاكراً على ذلك بقوله: [الطويل] بمدح أبي العباس أصبحت ناسياً ... أناساً يعود المدح فيهم إلى الباس فقد ناب هذا الفرد لي عن جميعهم ... فاغنى وبعض الناس يغني عن الناس وكان لطيف المحاضرة، حسن المفاكهة، ولوعاً باللطائف الأدبية في مجالسه ومكاتيبه، كتب ملغزاً في عين قوله: [الطويل] أيا روض آداب رعته الهواطلُ ... ويا حكماً ما الحق عندك باطل سألتك ما اسموهو حرف مثلث ... وعيناه ذا حال بنقص وعاطل ومعناه مغناه احتمي فهو انما ... يلوح إذا دلت عليه دلائل سريع متى تلفي السبيل إجابة ... بلا قدم يجري إذا سال سائل غدت دونه الحاجات وقفاً وإنما ... تبلغك الحاجات منه الوسائل ويكشف إن يكشف عنه غطاؤه ... وما حاجب عن كشفه الأمر حائل وأول عيب ثم ثانيه فيه أن ... إلى منتهى حسن نما إذ يقابل وها هو فرد إذ يعد وإنما ... يشاركه في اللفظ ما لا يشاكل وحسبي بياناً ما ذكرت وإنما ... يعاجلُ مثلي بالإجابة عاقل فأجابه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الطويل] أيا عين آداب بها الظرف سائلُ ... ومن هو منحى القصد إن سال سائل سألت وما تعني سوى عين ما عنت ... إلى شأو معناه العيون الأفاضل وقد صرّح التبيان منه بعينه ... فما حاجب عن كشفه الأمر حائل وإن كان في عين جعلتَ نزوله ... فها هو في عيني لأجلك نازل وقد حكم التصريف أن بعينه ... حلياً وجيد الفاء من ذاك عاطل وحسبك تبياناً وقد جاء واضحاً ... ومثلك لا تخفى عليه الدلائل فكتب إليه الشيخ أحمد زروق بقوله: [الخفيف] بك أقسمت أنكم ليمين ... ليس في سبقك الأفاضل مينُ قد جرى منك ما ملا العين حسناً ... صح أن الذي عنيناه عين ليس عيب فيكشفك الغيب عنه ... كيف والعين عندك منه غين وقد اتفق له أن سار في طريق مصاحباً للأكتب الشاعر الشيخ الحبيب الأصرم والمطر متوالية، وكانت عليهما سحبة بيد الكاتبالمذكور تقيهما المطر، فسال الماء من أحد جوانبها على صاحب الترجمة فأنشأ ما سار سير المثل في الاستخدام وهو قوله: [الكامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وقت السحابة صاحبي برواقها ... وهمتْ فما بلّت بمزن طوقه فلتعجبوا أني البليل بمائها ... وهو الموقى والسحابة فوقه وله من الشعر ديوان بديع كله عيون يدل على رسوخ قدمه على سراط الإنشاء، وكانت دروسه بجامع الزيتونة رياض البساتين، وقرأ عليه كثير من فحول العلماء ممن سبق ذكره في تراجمهم. وقد مرض بالمحلة ورجع لتونس مريضاً فأدركته المنية ليلة السبت السادس من ربيع الثاني سنة1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف، عليه رحمة الله. وقد ترجم له لسان الدولة الشيخ أحمد بن أبي الضياف في تاريخه غير أنه سبق قلمه في تاريخ وفاته فقال في ترجمته ما نصه: الشيخ أحمد زروق الكافافي أصل هذا الكاتب من بلد الكاف ونشأ في طلب العلم مع أخيه الشيخ السنوسي واختصا بالشيخ صالح الكواش وأخذ عن غيره من أعلام عصره، وحصّل وبرع ودرّس بالجامع الأعظم، واستدر الرزق من رشح قلم الوثيقة، وشغله التكسب عن رياض العلم الأنيقة، وله في الأدب الراية المنصورة، وقلائد الدر المنثورة. ثم تقدم لخطة القضاء بالمحلة فزانها بالعدل، وعدّ من قضاة الفضل، وكان عالماً فقيهاً فرضيلً أديباً شاعراً كاتباً ذا همة ومروءة، جميل الأخلاق حسن المحاضرة، مشكور الأقوال والأعمال، معدوداً من أهل العلم والكمال، إلى أن توفي سنة 1246 ست وأربعين ومائتين وألف. الشابيون جدة والدي للأم هي الست كبورة بنت الشريف الشيخ أحمد ابن الشيخ قاسم شاهد البحيرة ابن المدرس الشيخ السنوسي شهر الشابي، وإنما شهر باللقب المذكور لأنّه تربّى في حجر جده للأم الشيخ صالح بن أحمد الشابي الشهير الفضل من ذرية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب تربة الحجامين. وهو جد الولي الصالح الشيخ سيدي محمد الشابي الذي توفي سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف وهو محمد بن صالح بن محمد بن حسن بن أحمد بن صالح بن أحمد الشابي كل ذلك استفدته من رسوم تتضمن نحلية والد الجدة المذكورة بالشريف. أما والدتها فإنها ثابتة الشرف لأنها هي الشريفة ساسية بنت الصفوة السيد محمد الطيب الشريف الأندلسي وقد تجاوزت جدة والي المذكورة في العمر المائة، وتوفيت بعد زوال يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف، عليها رحمة الله. السقاطيون والدتي الأصلية آمنة وتدعى زليخا بنت أبي عبد الله محمد القريشي ابن أبي الحسن علي بن أبي محمد عبد الوهاب السقاط الفاسي الأندلسي. ولدتْ في رمضان سنة 1246 ست وأربعين، وزفّت إلى بيت والدي ليلة الرابع والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1264 أربع وستين ومائتين وألف، وكان والدها أبو عبد الله محمد القريشي تاجراً خيّراً وجيهاً فيه صرامة وحزم مواظباً على الصلوات الخمس بجامع الزيتونة، ولم يتخلف عن صلاة الصبح فيه منذ أكثر من خمس عشرة سنة، وقد بلغ من العمر سبعاً وخمسين، وتوفي في شهر رمضان سنة 1257 سبع وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله. وكان أخوه الشيخ أبو عبد الله محمد السقاط عالماً فاضلاً فقيهاً موثقاً ولد في السابع والعشرين من رجب الأصب سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف، وقرأ على الشيخ صالح الكواش بدهليز داره شرح الجربي على إيساغوجي وقرا على الشيخ محمد بن ملوكة والشيخ الطاهر بن مسعود والشيخ حسن الشريف والشيخ إبراهيم الرياحي وغيرهم. وتصدى للإقراء فأخذ عنه كثير من مشايخنا وتقدم لمشيخة بير الحجار عند وفاة الشيخ أحمد زروق وأقام بها درس المختصر الخليلي بشرح الخرشي، ودرس البخاري، وقد أخذ عنه أكثر مَن أدركناهم من مشايخنا. وكان فقيهاً ثبتاً محققاً فاضلاً عزيز النفس ملازماً للتدريس، وله شعر لطيف، وقد توفي ليلة الجمعة منتصف شهر رمضان المعظم سنة 1257 سبع وخمسين عليه رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقد أنجب عدة أبناء طلعوا بدوراً في آفاق العلم والفضل وهم العالم الخير الشيخ الطاهر والخير الزكي الشيخ الشاذلي والثقة الأعدل الشيخ محمد. أما الشيخ الطاهر فقد نشأ في خدمة العلم وقرأ على الشيخ محمد الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد معاوية والشيخ محمد البنا والشيخ محمد الخضار وغيرهم. وتقد لخطة التدريس في الرتبة الثانية بجامع الزيتونة وهو فقيه فرضي تقي نقي العرض تقدم لخطة قضاء الفريضة في بيت المال عند وفاة الشيخ محمد بن مراد الحنفي فأقام من أجلع بداره، وأناب في خطة قضاء الفريضة أخاه الشيخ محمد، ولم يزل على ذلك إلى هذا اليوم. وأما أخوهما الشاذلي فكان رجلاً ذاكراً كثير الزيارة للأولياء وقفت على إجازة أجيز بها من شيخ الإسلام وهذا نصها: الحمد لله يقول الفقير محمد بيرم الرابع لطف الله تعالى به قد أجزت للسيد الشريف العفيف أبي عبد الله محمد الشاذلي السقاط قراءة أحزاب القطب الجامع سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه بحق روايتي لها بالإجازة العامة عن شيخنا العلامة أبي عبد الله محمد بن حسين الشهير بابن العنابي مفتي الحنفية بثغر الإسكندرية وذاك عند اجتيازه بحضرة تونس في سنة 1245 خمي وأربعين ومائتين وألف عن أبي الحسن علي بن عبد القادر بن الأمين عن سيدي علي بن محمد العربي السقاط عن أبي حفص عمر لوكد عن محمد بن عبد الرحمن عن الشيخ حسن العجيمي عن سيد ي يوسف بن عبد الله الجاوي عن الشيخ عبد القادر بن مصطفى الصفدي عن نور الديت العلاف عن محمد بن مصطفى البلخي عن أبي بكر بن سالم باعلوي عن روحانية ابن عطاء الله عن أبي العباس المُرسي عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه. وبالسند إلى سيدي محمد بن عبد الرحمن عن شيخه أبي البركات عن الشيخ أحمد الغربي عن عمه أبي عثمان سعيد عن ابي الطيب بن علوان عن أبي الحسن البطرني عن الشيخ ماضي بن سلطان عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه. وأنا أوصي المجاز له المذكور بتقوى الله سبحانه وأن لا ينساني من صالح دعائه وكتب يوم السبت تاسع عشرين شعبان عام 1177 سبعة وسبعين ومائة وألف. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. فكان لهؤلاء الأبناء فضل توارثوه من والدهم، وقد كان من أجلّ علماء الحاضرة، وأخوه معدود في وجوهها الأخيار، وأما والدهما أبو الحسن علي فقد ىولد بتونس، وكان أيضاً تاجراً وجيهاً تقياً زكي النفس ملتزماً في قلنسوته وضع علامة الشرف الخضراء، وهو شرف أمه ابنة الشريف كسيبر على ما يأتي، حج بيت الله الحرام ولم يتخلف عن صلاة الصبح بجامع الزيتونة أكثر من ثلاثين سنة، وبلغ من العمر أربع وتسعين سنة، وتوفي سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله. وأما والده أبو محمد عبد الوهاب فهو الرجل الكامل الباذل نفسه في خدمة أهل الله، ولد بحاضرة فاس وكان بها من ذوي الثروة، فأدرك القطب الرباني مولاي أحمد الصقلي الشريف الحسني رضي الله عنه، وكان من أكمل الأولياء المتنعمين في المأكل والملبس والمسكن، نقل عن الشيخ التجاني رضي الله عنه أنه قال: دخلت على مولاي أحمد الصقلي فوجدته متنعماً في أفخر الملابس والفرش ورخيّ العيش حتى أنهم أتوه بزبدة وأنا حاضر فأنكر خشونتها وطلب ما هو أصفى منها ولم أحسب أن من أولياء الله من يكون على ذلك الحال من التنعم في الدنيا حتى أخبرني رسول الله عليه الصلاة والسلام بمكانه في الولاية رضي الله عنهما. وقد كان عبد الوهاب السقاط من التابعين لمولاي أحمد الصقلي المحبين فيه، وكان ممن دخل في إقامة بناء زاويته الشهيرة بحاضرة فاس حماها الله، فأنفق ماله هنالك إلى غتمامها تبرعاً منه في محبة شيخه، وحين تمّ بناء الزاوية خرج لحج بيت الله الحرام وبعد فراغه من الحج قدم إلى حاضرة تونس أواسط القرت الثاني عشر فاستوطنها وتزوج بامرأة من بنات الشريف كسيبر القرشي من ذرية ولي الله الشيخ سيدي أحمد بن نعيم دفين بطحاء الصلي من حاضرة تونس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وقد وقفت على وفيات لفروع هذا البيت الشهير الشرف بالحاضرة كانت خلاصتها أن ولي الله سيدي أحمد بن نعيم توفي عن ولده علي وهو عن ولده الحاج محمد كسيبر القرشي وهو عن ولده عثمان وهو عن ولديه محمد وعائشة زوجة محمد بن خليل بتاريخ التاسع عشر من ربيع الثاني سنة 1195 خمس وتسعين ومائة وألف، وتوفي محمد بفتح أوله ابن عثمان عن الحاج أحمد وشلبية زوجة علي بن عمر كسيبر وتوفي الحاج أحمد عن محمد بالفتح ومحمد بالضم وحسين وعمر، وتوفي عمر عن فاطمة ومنا وعلي وأحمد ومحمد وقد سافر محمد بن عمر كسيبر القرشي صحبة مصطفى رايس القبطان وقاتل بمرسى سوسان من بلاد الإغريق فاحترقت بهم الفرقاطة من يوم الجمعة عاشر المحرم الحرام سنة1239 تسع وثلاثين ومئتين وألف، وخلف ولده عمر المتوفى عن أولاده الحطاب وعلي ومنا رضي الله عنهم جميعهم. وعلى كل حال لم نتحقق هاته الجدة ابنة من هي من هؤلاء السادة الأشراف رضي الله عنهم، لكن لا ريب عندنا في أن أم وَلَدَيْ السيد عبد الوهاب السقاط وهما الحاج علي وعبد الجليل هي من بيتهم، وقد كان الحاج علي وأبناؤه من بعده يأخذون فاضل ريع زاوية سيدي ابن نعيم كل سنة إلى عهد قريب تركوه لضعفه حيث إن منابهم صار إلى نواصر معدودة. وقد تزوج الحاج علي السقاط بين يدي والده بالشريفة حليمة المدعوة حلومةبنت الشريف الكبيدي وبعد أن زوجه بها رأى أختها صالحة فأعجبته وتزوجه وكان عمره يومئذ نحو الستة والتسعين سنة، وأوتي منها بولده الحاج عمر ولازم ما يعنيه إلى أن أدركته المنية في حال سجوده للصلاة. ولما ارتحل من فاس ترك بها أخاً له كان أصغر منه سناً واسمه المفضل كان من أتباع القطب الرباني الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه، روي عن الشيخ أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بالمفضل السقاط وقال لا تفرط في ذلك الولد وكان فيمن بذل نفسه وماله في إقامة بناء الزاوية التجانية بحاضرة فاس التي كان الفراغ من بنائها سنة1215 خمس عشرة ومائتين وألف، وقد ذكره صاحب منية المريد في أصحاب الشيخ التجاني رضي الله عنه فقال: [الرجز] وكالشريف العلوي الغالي ... والسيد المُضَضَّلِ المفضال وقد ارتحل السيد المفضل إلى مصر ولقن بها الطريقة التجانية الكثير من الرجال ثم إلى قنأن وبها توفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقد ظهرت عليه كرامات منها أنه كان ينهى ولده عن الوصول إلى البحر ويحذره التمساح فاتفق لولده أن خرج إلى شاطىء البحر مع بعض الصبيان فالتقمه التمساح. وأخبرني أحد ثقلة مقدمي الطريقة التجانية أنه نزل بقنا في طريقه لحج بيت الله الحرام واجتمع هنالك بالشيخ موسى مقدم الطريقة القادرية فأخبره عن السيد المفضل السقاط أنه كان طيب السكينة واضح السر يحضر هنالك الورد القادري، ويقف لذكر الله متواجداً إلى أن يسقط طرف عمامته. وكان جميل الصورة. وأخبره أنه كان هنالك رجل ممن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه كان تأخر عن مشاهدة الحضرة النبوية ولما حصل له الاجتماع ذكر ما وجد من الشوق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اشتقت لرؤيتي فانظر إلى المفضل السقاط وقد كان تنقل الشيخ المفضل إلى مصر تبعاً لسلفه ولعله عمه، الذي ذكره الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار في حوادث سنة ثلاث وثمانين فقال ما نصه: ومات الأستاذ العارف سيدي علي بن محمد العربي بن علي بن العربي الفاسي المصري الشهير بالسقاط ولد بفاس وقرأ على والده وعلى العلامة محمد بن أحمد العربي بن الحاج الفاسي سمع منه الإحياء جميعاً بقراءة ولد عمه النبيه الكاتب أبي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد بن علي السقاط، وعلى ولده أبي العباس أحمد بن محمد العربي بن الحاج، وعلى سيدي محمد بن عبد السلام البناني كتب العربية والمعقول والبيان، ولما ورد مصر حاجاً لازمه فقرأ عليه بلفظه من الصحيح إلى الزكاة والشمائل بطرفيه بالجامع الأزهر وكثيراً من المسلسلات والكتب التي نظمتها فهرست ابن غازي قراءة بحث وتفهيم، وأجازه حينئذ بأواسط جمادى الثانية سنة1143 ثلاث وأربعين ومائة وألف، وجاور بمكة فسمع على البصري الصحيح كاملاً ومسلم بفوت وجميع الموطأ رواية ابن يحيى وذلك خلف المقام المالكي عند باب إبراهيم وأجازه، وعلى النخلي أوائل الكتب الستة وأجازه وعاد إلى مصر فقرأ على الشيخ إبراهيم الفيومي أوائل البخاري، وعلى أحمد بن أحمد الغرقاوي وأجازه، وعلى عمر بن عبد السلام التطاوني جميع الصحيح وقطعة من البيضاوي بجامع الغوري سنة1136 ست وثلاثين ومائة وألف وجميع المنح البادية في الأسانيد العالية، وأضافه على الأسودين وشابكه وصافحه وناوله السبحة وأجازه بسائر المسلسلات وعلى محمد القسنطيني رسالة ابن أبي زيد برواق المغاربة، وعلى محمد بن زكري شرحه على الحكم بجامع الغوري وعلى سيدي محمد الزرقاني كتاب الموطأ من باب العتق إلى آخره. وأجازه يوم ختمه وذلك من شعبان عام 1113 ثلاثة عشر ومائة وألف، وروى حديث الرحمة من سيدي مصطفى البكري في سنة 1160 ستين ومائة وألف وأجازه، وأجازه ابن الميت في العموم واجتمع به شيخنا السيد مرتضى في منزل السيد علي المقدسي، وكان قد أتى إليه لمقابلة المنح البادية على نسخته وشاركهما في المقابلة وأحبه وباسطه وشافهه بالإجازة العامة وكان إنساناً متأنساً بالوحدة، منجمعاً عن الناس محباً للانفراد غامضاً مخفيأن ولازال كذلك حتى توفي في أواخر جمادى الأولى سنة1183 ثلاث وثمانين ومائة وألف، ودفن بالزاوية بالقرب من الفحامين اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وذكر في ترجمة شمس الدين الفرغني أن من مصنفاته الضوابط الجلية في الأسانيد العلية. ألفه سنة 1176 ست وسبعين ومائة وألف وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلاّمة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط، وذكر أيضاً آخر من بيتهم في حوادث سنة1209 تسع ومائتين وألف فقال: ومات العمدة الصالح الورع الصوفي الضرير الشيخ محمد السقاط الخلوتي المغربي الأصل خليفة شيخنا الشيخ محمود الكردي حضر إلى مصر وجاور بالأزهر، وحضر على الأشياخ في فقه مذهبه في المعقول، وأخذ الطريق عن الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء على طريق الخلوتية والأوراد والأذكار وانسلخ من زي المغاربة وألبسه الشيخ التاج وسلك سلوكاً تاماً ولازم الشيخ ملازمة كلية بحيث إنه لايفارق منزله في غالب أوقاته ولاحت عليه الأنوار وتحلى بحلل الأبرار وأذن له الشيخ بالتلقين والتسليك. ولما انتقل شيخه إلى رحمة الله تعالى صار هو خليفته بالإجماع من غير نزاع وجلس في بيته وانقطع للعبادة واجتمع عليه الجماعة في ورد العصر والعشاء، ولقن الذكر للمريدين وسلك الطريق للطالبين وانجذبت القلوب إليه واشتهر ذكره وأقبلت الناس عليه ولم يزل على حسن حاله حتى توفي في مشهد حافل اه. وقد بلغني عن نظم في علم الكلام أوله: [الرجز] يقول راجي الفوز في الصراط ... محمد بن العربي السَّقَّاط ولاأدري هل هو ناظمه أو غيره وإنما نقل لي الشيخ الطاهر السقاط قاضي الفريضة عن والده أن صاحب هذا النظم من بيتهم. كما أخبرني بالرواية عن والده وعن غير واحد من أعيان المغرب أنهم ينسبون إلى اللمطي بحيث إنهم يقال لهم أبناء السقاط اللمطي نسب إلى اللمطات وهو أخو حمير وكهلان من العرب العرباء وعليه فبنوا السقاط ذريته مشاهير قبائل العرب. ثم إن جميع بني السقاط المذكورين أصلهم من الأندلس من بيت كاتب غرناطة الوزير أبي القاسم بن السقاط أحد جلّة كتاب الأندلس ممن عاصر أبا الفتح محمد بن خاقان في أوائل المائة السادسة وقد ذكره في قلائد العقيان فقال في ترجمته: الوزير الكاتب أبو القاسم بن السقّاط مسْتعذب المقاطع، كأنّما صوّر من نور ساطع، أبهى من محيّا الظبي الخجل، وأحلى من الأمن عند الخائف الوجل يهبّ عطراً نشره، ولا يغبّ حيناً بشره، تجتليه بسامأن وتنتضيه حسامأن إن واخاك أبرم عقد إخائه، وأعفاك من زهوه وانتخائه، ماء صفائه وارف يكاد يقطر، وسماء احتفاءه واكفة أبداً تمطر، وله أدب لو نشر لكان برداً محبّرأن أو تنسّم لكان مسكاً وعنبرأن وأمّا الخطابة ففي يده صار عِنانهأن وعليه وقف عَنانها وقد أثبتُ من نظمه ونثره، ما ينظمه الزمان عقداً في نحره، فمن ذلك قوله يصف أيام إيناسه، وماكيّف له الشباب من أنواع الوصل وأجناسه: [المتقارب] سقى الله أيامنا بالعذيب ... وأزماننا الغرّة صوب السحابِ إذ الحبّ يابثنى ريحانة ... تجاذبها خطرات العتاب وإذ أنت نوّارةٌ تجتني ... بكف الهنا من رياض التصابي لياليَ والعيشُ سهل الجنى ... نضير الجوانب طلق الجنابِ رميتك طيراً بدوح الصبا ... وصدتك ظبياً بوادي الشبابِ وله يصف يوماً أطربته فيه الأماني، وهزته المثالث والمثاني وجرى الدهر به طوعاً في أزمته، وانقاد إليه الأنس برمته، وسقته الراح صفوهأن وأقطعته الأيام طربها ولهوها: [الطويل] ويوم ظللنا والمنى تحت ظلّه ... تدور علينا بالسعادة أفلاكُ بروض سقته الجاشرية مزنة ... لها صارم من لامع البرق فتّاك ترشدنا الصهباء أضغاث آسه ... كأنا على خضر الآرائك أملاك وقد نظمتنا للرضى راحة الهوى ... فنحن الللآلي والمودَّات أسلاك تطاعننا فيه ثديّ النواهد ... نهد لحربي والسنوّر أفناك وتجلى لنا فيه وحوه نواعم ... يخلن بدور والغدائر أحلاك وكتب يشفع لمدل بذمام شباب صوح نوره، وبرح به غدر الزمان وجوره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يا سيدي الأعلى، وظهيري ومنجدي في الجلّى، ونصير المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملّة الفضل شرعه، ومن أبقاه الله لرحم أدب مجفوة يصلهأن وحرمة مقطوعة يلحمهأن الوفاء لمحاسن الأخلاق وقى الله جديد أنعمك من الدروس والأخلاق كالقلم والذهب والخضاب الموشى لراحة المحسب يستفيد به بهجة التكحل في العين ورونق التشبيب في مصوغ التبر واللجين وقد رتبته النّهى أشرف ترتيب، وبوبته العلى أبدعتبويب، فما أحقه بصدر النادي وأسبقه إلى المرتبة بشرف المنادي رعاية لأوامر الآداب والمحافظة على الخلّة الواشجة في أعصر الشباب وأظلاله وتذكر لربوع الصبا وأطلاله وعهود اللذات والمنثالة في بكره وآصاله وما أسحبت الليالي في ميادينه من لبوس نعيم وبوس، وأجنت الأيام في بساتينه من زهرات اتراح ومسرات، حذوا للخلق الأكمل وأخذا بقول الأول: [البسيط] إن الكرام إذا الكرام ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن وموصله وصل الله سراءك وأثلّ علاءك، أبو فلان ذاكر مشاهدك الغر الحسان وناشر ما تعتمد في صلته من مقاصد الحسن والإحسان أبقاه الله ما نظمني معه سمط ناد ولا احتواني وإيّاه مضمار شكر وإحماد، إلاّ وأثبت من مفاخرك خليطي الدر والمرجان، وجاء بطليعة السوابق في إحصاء مفاخرك رخي اللبب مرخي العنان ولقد فاوضني من أحاديث ائتلافكما في العصور الدارسة العافية، وانتظماكما في زهرات الأنس في ظلال العافية، واتساقكما في حبرات العيش الرقاق الضافية، وارتشافكما لسلافة النعيم المزة الصافية، بأفانين الغيطان والنجود، وزخارف الروض المجود، ومعاطف الطرر بين خيلان الخدود، ما لو لقيتْ بشاشتُه الصخر لمَنَحَ بهجة الإيراق، ولو أُلقيت عذوبته في البحر لأصبح حلو المذاق، ولو رُقي به البدر لوُقيَ آفة المحاق، ولو مرّ ببيداء لعادت كسواد العراق، وأزمع أن يسير بنواعج لواعجه، في طرقه ومناهجه، ويطير بجناح الارتياح في الدو، إلى متقاذف ذلك الجو، ليكحل بالتِمَاحك جفونه، ويجلو بأوضاحك دجونه، ويجدد بلقائك عهداً أنهج البينُ رسمه، ويشاهد بمشاهدة علائك سروراً محت يد البين وسمه، ويحطمن أفناء بشرك بالأهل العامر، ويسقط من أنواء برّك على المحافل الغامر، فخاطبت معرضاً عن التحريض، ومجتزياً بنبذ العرض ولمح التعريض، وتابعاً له بأسرارك تلك الخطرات ذكر العهود القديمة، وارتياحك للقاء مثله من أعلاق العشرة الكريمة، وأنت وليُّ ما تتلقاه به من تأنيس ينشر ميت رجائه، ويعمّر مقفر أرجائه، لا زلت عاطفاً على الأخلاء بكرم الود، قاطعاً زهر الثناء من كمام الحمد، بحول الله. وله: [الطويل] ويومٍ لنا بالخيف راق أصيله ... كما راق تبر للعيون مُذابُ نعمنا به والنهر ينساب ماؤه ... كما غنساب ذعراً رِيعَ حُباب وللموج تحت الريح منه تكسّر ... تولد فوق المتن منه حَباب وقد نجمت قضب لدان بشطه ... حكتها قدود للحسان رطاب وأينع مخضر النبات خلالها ... كما أقبلت نعمى وراق شباب وكتب عن أحد الأمراء إلى قوم علية شفعوا لجناة: طاعتكم أبقاكم الله ثابتة الرسوم، واضحة الوسوم وضنانتكم بالسلطان عصمه الله ضنانة الجبان بالحياة، وإعدادكم للمكافحة عن الدولة وطدها الله إعداد المهلب للبيات، فمالكم والشفاعة لرعاع ندّوا عن عصمة الجماعة وفروأن وخاسوا بذمام الطاعة وختروأن ثم ودوا لو تكفرون كما كفروا فارفضوهم عن جماعتكم، وذودوهم عن حياض شفاعتكم، ذياد الأجرب عن المشرب، فنحن لا نُقبل على توسل مُستَخْفٍ بالنفاق مستسرّ، ولا نقبل الخدعة من ممتادٍ على الغواية مصرّ، إن شاء الله. وله فصل من رسالة في إهداء فرس. وقد بَعثْتُ إليك أيدّك الله بجواد يسبق الحَلْبَة وهو يرسف ويتمهل، متى ترمق العين فيه تسهل، يزحم منكب الجوزاء بك منكبه، وتنزل عنه مثله حين تركبه، إن بدا قلت ظبية ذات غرارة، تعطو إلى عزاره، أو عدا قلت انقضاض شهاب، أو اعتراض بارق ذي التهاب، فاضممه إلى آري جيادك، واتخذه ليوميْ رهانك وطرادك، إن شاء الله عزّ وجلّ. وأصبحت يوماً منبسط النفس، معترض الأنس، فمر بي فارس يحمل كتباً إليه، وينفض للسرعة مردوديه، فحملته بيتين يضعهما في يديه وهما: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 عسى روضة تهدي إليّ أنيقة ... تدبج أسطاراً على ظهر مهرق أحلي بها علاء وسؤددا ... وأجعلها تاجاً بهياً بمفرقي فكتب إليّ مراجعاً: [الطويل] أتتني على شخص العلاء تحية ... كَرَأد الضحى في رونق وتأنّقِ أتمِ من الريحان ينضح بالندى ... وأطرب من سجع المطوق سُطيرَان في مغزاهما أمن خائف ... وسلوة مشغوف وأنس مشوق نَصرْتَ أبا بها همم العُلى ... وأطلقت من آمالها كل مُوثق وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن بن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة ومعنا الوزير أبو محمد بن مالك، وجماعة من أعيان تلك المسالك، فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلهأن ولم ترمق العيون مثلهأن وجلنا بها في أكناف جنات ألفاف فما شئت من دوحة لفّاء، وغصن يميس كعطفي هيفاء، وماء ينساب في جداوله وزهر يضمخ بالمسك راحة متناوله، ولما قضينا من تلك الحدائق أَرَبأن وافتضضنا منها أتراباً عُرُبأن ملنا إلى موضع المقيل، وزلنا عن منازه تزري بمنازه جذيمة مع ملك وعقيل، وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصير في المبره، عرض لي منه تكدير لتلك العين الثره، فاظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم، ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم، فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوهأن والغمام منهمل، والثرى من سُقياه ثمِل، فبسطني بتحفّيه، وأبهجني ببر لم يزل يتممه ويوفيه، وأنشدني: [البسيط] يوم تجهم فيه الأفق وانتشرت ... مدامع الغيث في خد الثرى هَمَلا رأى وجومك فارتدت طلاقته ... مضاهياً لك في الأخلاق ممتثلا وكتب يستدعي إلى مجلس أنس: يومنا اعزك الله يوم قد نقبت شمشه بقناع الغمام، وذهبت كاسه بشعاع المدام، ونحن من قطار الوسميّ، في رداء هديّ، ومن نظير النوار، على نظائر النضار، ومن بواسم الزهر، في لطائم العطر، ومن غر الندمان، بين زهر البستان، ومن حركات الأوتار، خلال نغمات الأطيار، ومن سقاة الكؤوس ومعاطي المدام، بين مشرقات الشموس وعواطي الأرام، فرأيك في مصافحة الأقمار، ومنافحة الأنوار، واجتلاء غرر الضباء الجوازي، وانتقاء درر الغناء الحجازي، موفقاً إن شاء الله تعالى. السوسيون جدتي للأم وهي والدة والدتي فاطمة بنت أبي الثناء محمود بن محمد الشاذلي بن محمد الأوسط بن عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن حمّ السكتاني السوسي المغربي المكسالي رضي الله تعالى عنه. ولدت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، وتوفيت في السابع والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثمائة وألف ودفنت في مقبرة والدها. وقد أدركت أخاها الشيخ الحاج محمد السنوسي منتصباً للإشهاد بالطيبين مع جليسه المدرس الشيخ محمد القرطبي وهو شيخ في حزب الأسبوع والأذان بجامع الزيتونة يلازم العمامة الخضراء علامة على شرفه، وتوفي في شعبان سنة 1288 ثمان وثمانين ومائتين وألف وكان والده أبو الثناء محمود حاملاً لكتاب الله خيراً ذاكراً توفي سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف وهو في حدود الستين سنة وكان والده من ثقاة عدول تونس وأما والده الشيخ محمد الأوسط فكان عالماً فقيهاً متصوفاً أقرأ التفسير وأمهات الفقه والتصوف بجامع الزيتونة وولي مشيخة مدرسة حوانيت عاشور بعد وفاة والده وأقرأ بها. وفي آخر أمره لازم بيته وانقطع لربه وذهب الناس في انعزاله عنهم كل مذهب حتى قال في ذلك من شعره: [الوافر] ولما أن رأوني ذا خمول ... طريحاً في زوايا الاجتنابِ أجالوا فكرهم في حصر أمري ... رأوه وما هُدُوا سبل الصواب فبعضهمُ يقول غدا ملياً ... غنيّاً لا يميل إلى اكتساب وبعضهمُ يقول به احتراق ... أمال مزاجه نحو اكتئاب ففي طلب المكاسب كل شر ... من أنواع التصارف والسباب وفي وصف القناعة كل خير ... يَبِين لكم غداً يوم الحساب كان ظهوره كالشمس يبدو ... فعنّا قد توارى بالحجاب فقلت لهم كذبتم إن ماقد ... نسبتم لا يصح له انتسابي ولو ملتم إلى الإنصاف قلتم ... رأى المآل إلى ذهاب وأن مطالب الدنيا جميعاً ... تبين لذي البصيرة كالسّراب إذا ما ظنها الظمآن ماءً ... ويممه تبين كالسحاب فأقدم راجياً ربّا وولّى ... على عقبيه في فرط التهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فأقبر نفسه لما رآها ... وزخرَفَها أفلّ من الذباب وأصبح آخذاً بذناب عيش ... وأبرمها الشهيّ من اللباب وكانت قبل مضجعها سرير ... فأضجعها لذاك على إهاب وكان قرانها أبداً وطيئاً ... فوطنها على حب التراب وأصبح بالتلاوة ذا ولوع ... يطالع بين دفات الكتاب إذا أنهى التلاوة قال ربي ... أجرني من عقابك والعذاب فقابلني إذا ما أبْتُ ميتاً ... بفضلٍ يقتضي حسن المآب فهذا إن سألتم عن خمولي ... وطول تحجبي عينُ الصواب ولكن أنتم ذا قوم دهيتم ... بدنياكم فصرتم في التهاب وكان شاعراً صوفياً حجّ بيت الله الحرام ونفع الناس بعلمه وهو ثاني أخوته وأكبرهم الشيخ محمد السنوسي وقد قرأ مع أخويه على والدهم وعلى الشيخ محمد الغرياني ومن قد عاصهما وتضلّع كلهم بالمعقول والمنقول وكان الشيخ محمد السنوسي أجود شعراً من أخيه الأوسط ومن لطيف شعره قوله: [الكامل] قد قلت لما أن رأيت بكفه ... منقالة والشوق حلّ بأضلعي ذي قبة الفلك التي هي في السما ... هبطت إليك من المحل الأرفع ومن بدائع شعره قصيدته التي هنا بها الشيخ محمد بن علي بن سعيد النجم محشي الأشموني حين ختم الشمائل تدريساً وهي قوله: [الطويل] أرى ربع نت أهواه غير بعيدِ ... فهاهو مني مثل حبل وريدِ فعوجا قليلاً بي لعليَ اشتفي ... بسكب دموع فوق صحن خدودِ حكى صوبُها صوبَ الغمام إذا هـ ... مى وصوت زفير القلب صوت رعود على أنه لم يجدني سكب عبرتي ... على طلل عاف بطول عهود وفي كبدي نار يشب لهيبها ... لبينهمُ لم تتصف بخمود يرى الشوقَ جثماني فصار من الضن ... ى دقاق عظام ضمنت بجلود ولم يبقَ في جسمي سوى شبح ير ... ى دليل حياة مؤذن بوجود ولم يثنني عن حبهم طول نأيهم ... ولم أسلهم طول الحياة بغيد فحبهم وصفي ولي قام لازماً ... كما قام وصف العلم بابن سعيد هو العلم السامي الإمام محمد ... سليل علي ذي الوفا بعهود أسعد الراجين نيل علومه ... بفهم ورأي صائب وسديد وقد قيد العمر المديد حياته ... بحل عويص أو بقيد شرود فلا جدة أغنته عن حب نائلٍ ... ولكن لزهد في دناه شديد ومن جغل العلم المشرف بازياً ... لصيد العطايا كان غير رشيد وما هو إلا للنفوس مكمل ... وليس سبيل الانتقام تزيد فمن شاء وصف العلم فَليكُ شاكراً ... وإلا فمنه الذم غير بعيد حويت ابا عبد الإله شمائلاً ... صعدت بها العلياء خير صعود فغادرت كل الحاسدين كأنهم ... بقايا ثمود في ديار ثمود كختمك في يوم شمائل أحمدٍ ... فكنت بذاك الختم خير حميد فدم ذا فخار ماشياً تحت راية ... تخفّق في دار الدنا وبنود وتحت لواء المصطفى يوم محشر ... جزاءً لما أرضيته بمزيد لأني بمرأى منك حقاً ومسمع ... بآونة تلقي لسمع مريد حديثاً بإسناد صحيح رويته ... فأنت لما ترويه خير مجيد وإنك ذو لفظ شهيّ مهذب ... إلى كل من يُصغي إليه معيد يحاكيه لحن الموصلي ومعبد ... إذا غنيا يوماً بشعر لبيد فكيف إذا تروي الحديث مرتلاً ... ببيت عتيق للإله مشيد ولولا وداد منك صح مصاحباً ... لحسن وفاء بالعهود مديد لما ملت يوماً للثناء على امرئ ... وقمت إلى الإنشاد بعد قعود وشعريَ ذو ودٍّ لأهل مودتي ... وليس لمن لم يَهوني بودود وودي إلى طول المدى ليس ينقضي ... وحقك إلا بانتهاء وجودي وقد أجابه عن ذلك الشيخ محمد بن سعيد النجم بقوله: [الطويل] لمن ظبيات في محاجر سود ... تركن أسود الحي غير أسود وغير بعيد أن يكنّ أوانسا ... أتين إلينا من جِنَانِ خلودِ هززن قدودا ثم قلن إلى القنا: ... تأخرن ما فيكن مثل قدودي وأسفرن عن در يقول ابتسامته ... عقود النجوم الزهر دون عقودي وأبرزن رايات الخدود وقلن لي ... أيا عمُّ هل في الروض مثل خدودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 خليلي لا أخفيكما الحال إنني ... اُصبت بها في أعظمي وجلودي وإلا فما بالي كأنَّ محاجري ... بمُرْتَمَيات الدمع واد زرود ولم أر نيراناً عوالي تلتظي ... وفي القلب مني حر ذات وقود على أنها لم تلقني بقطيعة ... ولا اعترضتني بُنَيّات صدود سقى بَانَتَيها عاديات يسوقها ... تبسم برق لا بكاء رعود وإلا دموعي الساريات كأنّها ... إذا ما أذيلت خافقات بنود وإلا براعات تسيل مياهها ... فتنشئ روضي نرجس وورود براعة مولانا الرئيس الذي علا ... جميع الملا من سيد ومسود خليلي الذي لولا ضياء وجوده ... لما طاب لي بين الأنام وجودي وحافظ عهدي حين أحجمتِ الورى ... ونادوا جميعاً لات حين عهود محمد السوسي السنوسي الذي به ... عرفنا لسلني جرهم وثمود أخو اللفظ أحلى من عتيق مدامة ... وأبهج من ريا الخلخل رود إذا قال ألقى فيه شعلة قابس ... وإن قال ألقى فيه نفحة عود من القوم لا يلقاهم زائر لهم ... سوى فرقة من ركع وسجود على أنهم في العلم والحلم والحجا ... وبذل العطايا نيراتن سعود أبوه الذي الحمّى تخاف لجوده ... وهل عُرفت حمّى تخاف بجود وأغلب فخراً من يكون مفاخراً ... لديك بآباء له وجدود أيا سيداً أدركت في خلواته ... جنود جُنيد في جنيد جنود ويا فاضلاً شاهدت في جلواته ... صعود سعيد في سعيد صعود تأنّى فقد غادرت من كان لاحقاً ... كأنّك قد قيدته بقيود وصل من العليا قليلاً فإنّها ... غدت عن جميع الناس ذات برود وقم لنقود من حبيب عهدته ... على وفق ما ترضى بخير نقود ودود الثنى ناهى عليك تقربي ... فإنك لا تأتي لها بردود أتبعث لي بالشمس والبدر ثم لا ... تلُقُّهما في سابغات برود؟ وترسل لي بالشهب لماعة ولا ... تُوصّي رسولاً جاءني بجحود فَهَبْنيَ قد أنكرت فيما بعثته ... أَيُعْوِزُهم فيها قيام شهود؟ وكثرة حسّادي على أنني امرؤ ... أسَالِي حسود فوق كل حسود على أننّي لا أستطيع لك الجزا ... وإن جئت من غير الثنا بوفود نعم سوف نجزي من شمائل أح ... مدٍ جزاءً جليلاً في جنان خلود فدم أنت والأحباب في خير رفعة ... وكل الأعادي في أذّل ركود ومن شعره ما كتبه على شرح الشيخ لطف الله الأعجمي لأسماء الله الحسنى وذلك قوله: [الكامل] بك زبدة التوحيد لاذت واحتمت ... تبغي النجاة من الحسود اللاهي قالت وقد بسطت أكفّ تضرع: ... يارب أدركني بلطف الله وقد وقف الشيخ علي الغراب على قطعة من شعره فقال: [مخلّع البسيط] وقطعة حاكها أديب ... أشهى من القوت للنفوس أعني السنوسيّ من تواطت ... لنظمه سائر الرؤوس إنشاؤه للقريض أنشى ... عندي من خمرة الكؤوس لها براهين منه دلّت ... على البلاغات كالشموس ولا عجيب إذا نسبتم ... ذات البراهين للسنوسيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وكان أخوهما الشيخ أحمد يلقب الشهاب. وهو إمام العربية في عصره يسكن قرب حمّام الديوان ودارهم هي التي صارت زاوية القادرية هنالك، وأكثر جلوسه في سقيف داره وهنالك يجتمع بقاصديه. وأخذ عنه أعلام منهم شيخ الإسلام الشيخ محمد البارودي. وكان الشهاب أوحد أهل زمانه جلالة وعلو همّة مع الحظ الوافر من العلم والعمل، وقد رزق القبول التام، والبس حلّة المحبة فكان كثيراً ما يراسله ملوك المغرب الأقصى والأدنى ويستجيزه علماء تلك النواحي وصلحاؤها ويصله ملوكها بالصلات العظيمة ويهدون إليه الكتب المعتبرة لما يعلمونه من شغفه بهأن وقد رأيت بخط حافظ تاريخ البلاد التونسية شيخ الإسلام البيرمي الرابع أنّه وقف على نحو مائتي رسالة ما بين مطول ووجيز ونظم ونثر غالبها من ملوك فاس ووهران والجزائر وغيرهأن ومن كتاب تلك النواحي وعلمائهأن كلّها مشحونة بالتنويه بشأنه والتملّق له والتماس الدعاء الصالح منه وطلب الانخراط في سلك أهل محبته نفعنا الله ببركاته. وفي أثنائها رسائل العالم الجليل الشيخ محمد المرتضى الحسيني الواسطي الحنفي نزيل مصر شارح إحياء علوم الدين للغزالي. ثمّ وقفت على تاريخ الجبرتي المصري فإذا هو قد ذكره في وفيّات سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف وأطلققلمه في ذلك وقد قال في ترجمته: إنّ والده كان يحبه ويعتمد على ما يقوله في تحرير نقله ويصرح بذلك في في أثناء درسه ويقول أخبرني أحمد بكذا وقال لي كذأن وقد بلغ من الصلاح والتقوى إلى الغاية، واشتهر أمره في بلاد إفريقية اشتهاراً كلّياص حتى أحبه الصغير والكبير وكان منفرداً عن الناس منقبضاً على مجالسهم فلا يخرج عن محله إلاّ لزيارة ولي أو وفي العيدين لزيارة والده، وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مراراً فلم يقبلها وعرضت عليه تولية المدارس التي كانت بيد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها وعكف نفسه على مذكرة العلوم مع خواص اصحابه ومطالعة الكتب الغربية واجتمع عنده منها شيء كثير وكان يرسل في كلّ سنة قائمة إلى شيخنا السيّد محمد مرتضى فيشتري له مطلوب وكان يكاتبه ويراسله كثيراً 1هـ. قلت وقد وقفت على ما يقرب من ثلاثين رسالة منهأن كلّها في غاية حسن البلاغة والابتداع تدّل على كمال تحابّهما رضي الله عنه مع ما تتضمنه من تحلية الشهاب المذكور بأوصافه التي كان عليها ولذلك رأيت أن أثبت هنا بعضها فمن ذلك رسالة نصّها: بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيّدنا محمد وآله وسلّم استمد الفيض والموّدة وشعشعان أنوار الأزل بدوام انسجام غمام الفضل الأعلى، وارتسام أرقام أقلام الفرقان الأجلى، في أدواح وألواح سيّدنا الجامع للكمال شملأن عارف وقته وإمام عصره ومقام الإمام العارف لا ينكر أصلأن ألف ألفة الحب الفائق، حاء حقيقة الحقائق ميم مرؤة الأصل الرائق، دال دوام الشهود في حضرة أم الطرائق، وهو سوسي الأصل لكن على باب مولاه الغني ساسي، حكيم الوقت ولجراح القلوب آسي، رئيس بحر الحقيقة مستاسي الأواسي ومرير المراسي، لا زالت صحائف أرقامه بأنوار البديع مرسومه، ولطائفه بزواهر جواهر الحكم مرقومه، مترقيّاً إلى ما يؤمله، والله يرعاه في كل ذلك ويكفله مهدياً إليه أنفس تحيات تفوق على النبات المصري بحلاوتها الشهيذة، وأنفاس تسليمات يمانية تنافست في توجيه هاته القضية، مخبراً أنّه وصلني وصلك الله فيمن وصله وجعل أشكال محبيك منتجة، كما أن أشكال أعاديك عقيمة مهملة كتابك الذي فضفضت ختامه، وانتشقت كمامه ووجدته على علاك علامه، فكان أكرم وافد، وأحسن وارد، وسرني مضمونه، وأبهجني مكنونه، ومددت إلى الله تعالى في الحال أيادي التضرع والابتهال بحصول الشفا لكم على أطيب أحوال، على أن العارفين بالله تعالى سرورهم ممزوج بالأكدار، ومن آياتهم النحول والاصفرار والصبر على ضيق الدار، وعدم التفاتهم إلى ما رزق غيرهم من السعة والإكثار هذا والسيل يحمل القذا وما ثم سدى: [الطويل] ومن سرّهُ أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وإن توجّه الخاطر الشريف بالسؤال عن أحوال هذا العبد الضعيف، الذي أقامه مولاه في مقام الجمال وربما يعتريه في بعض أوانه الجلال، فالحمد على كل حال جلوتي في خلوتي، وآفتي معرفتي وليتني لم أكن لأعرف فالظهور يقصم الظهور، والشهرة آفة العارف، وربما عجلت له طيبات المعارف، وإذا كان الواهب المنعم بالفيض هو الذي أراد من عبده ما أراد فلا ضير أن يجمع لمن شاء في لذّة النشأتين على المراد نعم يا مولانا أدام الله فضلك وعين غيث برك ثرّة فض لك قد عاد محبكم الحاج سيدي محمد بن كوجك علي وأخوه سيدي محمود القاضي أبو العباس صادرين من أرض الحجاز الناهلين من مكارم القبول العابرين على قنطرة الحقيقة ومجاز المجاز وقد ظهرت عليهم إمارات الإقبال، وعلامات الاتصال، وسكنوا بمصرنا ريثما قضوا مصالحهم وفرغوا من أشغالهم وقد صار لهم نبأ عظيم ارتباط، وحبّ خالص تعلق بالنياط ولا برحوا يترددون إلينا ويعولون في المذاكرة علينأن إلى أن إمتلأ لهم الوطاب وجنوا الثمار المعلومة من تلك الأغصن الرطاب، وعادت حقائبهم مملّوه وركائبهم مجلوه وحصل سيدي محمد المشار إليه في رعاه الله تعالى بعض آثارانا وإن كان بمنزلة الياسمين لا يساوي جمعة فمنها شرح حزب الشاذلي والجزء الأوّل من اآمالي الشيخونية من تجزئة عشرة التي فيها الوسائل ومن اعظمها الجواهر المنيفة في أصول أدلّة مذهب أبي حنيفة وفي الحقيقة كان هو الباعث الأعظم على تأليفه وتهذيبه على هذا النمط القريب فكان إتمامه في مدّة أربعة أشهر وهو غريب في بابه، عقيلة تتبرج للخطّاب في أعتابه فتحت فيه باب الجتهاد، وعلوت بذروة الحفّاظ والنقاد، ولا بأس أن يطلع سيدنا عليه وعلى غيره فما منكم شيء يخبأ وأنتم أهل الفضل تسترون عن محبكم العوار، وتقيلون له العثار، ومثلي معذور، وفي قريحتي القصور، وحالي عليكم غير مستور، وربّما أخبرتم عن عبض ما كنت عليه في المبادي، حين قدمت مصر وأنا أشبه الناس بأهل البوادي، وجررت لسان الغفلات، وجريت طلقاً مع الشهوات، إلى أن كان ما كان وحصلت عناية المنان، وجذبت يدي من العنان، فانتبهت من السكرة، وقد علتني الفكرة، فلم أجد معي إلاّ ما كنت حصلته سابقاً في أيام التحصيل، ولم ألحق ان ألحق بذلك السابق شيئاً من اللواحق، على حسب التتميم والتكميل فهذه قصتي وأنت طبيبي وقد أبرزت لك حالي يا حبيبي، فإن وجدتم شيئاً في شرح الإحياء أو غيره من مؤلفاتنا فاقبلوا عذري واستروا عواري، ومن أخبره عن مخبأ حاله فما قصّر، ومن تجليلات الجلال ما أفصح عنه هذا البيت: [الخفيف] كنت مستأنساً إلى كل شخص ... لفأنا اليوم نافر من خيالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فأرجو من فضلكم أن لا تنسوني من الدعوات في الخلوات، وعقيب الصلوات، فإني في غاية الفتقار إلى ذلك، ولا يسع القلم أن يفصح بأكثر مما هنالك. وهذا الكتب تخصص بحمله سيد الأحباب، وفرد الأفراد من الأنجاب، والأمل أن يكون هو وأخوه مشمولين بحسن أنظاركم العلية، عائدين إلى الوطن بجبر الخاطر من طرفكم وبلوغ أقصى الأمنيه، وقد ذكرتم لي أنهم خرجوا من تونس متوسلين بسيدي محرز بن خلف قُدِّسَ سره ونفع به وهم الآن كذلك من المحرز الخلف إلى سيدي محرز بن خلف، سالمين غانمين محرزين رابحين فائقين، سهل الله عليهم الأمور الصعاب، وحاطهم بعين عنايته ورزقهم ريح الطياب. ومنا إبلاغ شريف السلام والتحية والإكرام إلى حضرات أحبابكم الكرام سيدنا العلامة مولانا الشيخ صالح بن الحسين الكواشي أدام الله النفع به وإلى أولاد شيخنا المرحوم سيدي محمد الغرياني، ومحبنا الفقيه سيدي حسونة بن خليل وكذلك سيدي حسونة بن عمر القصري، وشيخ بني رياح أصحاب الرماح، والقلانس من البيض الملاح، الحاج أبو النور وولده الحاج محمد وأولاد الخوجة، وسيدي إبراهيم بن الكاهية وسيدي محمد بن هارون، وسيدي محمد البخاري، وسيدي يونس العطار، والحاج سيدي أحمد الكافي، وسيدي علي دانة، ومن ضمتهم سقيفة بني ساعدة الأنصار، من المحبين الأخيار، والمجهز إلى حضرته الشريفة ما هو مسطور في القائمة داخل الكتاب يكون إن شاء الله تعالى مقبولاً عند لثم الأعتاب وما فيها من الرسائل فقد اتفق تصيلها على حسب الاستعجال ولم يمكن أن أنظر إليها ثانياً أو أقابلها على أصولها المنقولة إليها لما أنا عليه كم ازدحام الواردين وتحويم الحايمين على هذا المنهل الذي أكاد أن أقول هو عذب حتى يكون سبباً لهذا الازدحام فإني أدرى بما عندي من البضاعة، ولا عليّ في مدح من لم يطلع على خبيئة حالي ولكن أصبر وأقول: لولا الملهم ألقى في روعهم لما حاموا وأحبابنا القادمون سيخبرونكم عن بعض ما شاهدوه ومن منن الله عزّ وجلّ عليّ أن في يوم واحد من شهر شعبان الماضي ورد عليّ كتاب أكبر علماء بغداد ومن مفتي مدينة دمشق ومن مفتي مدينة الحلة ومن ابن مفتي الموصل ومن طالب من الحديثة ومن سلطان مدينة كوكبان، ومن أرض اليمن ومطلةب الكل الدخول في هذه الزمرة، ولولا قوله عزّ وجلّ: (وأما بنعمة ربك فحدث) لَمَا تكلمتُ وأنتم أعلم بفحوى نطقي وأعرف بما في فؤادي ولما كان لسان القلم في إدلال وطول وصورة الوقت في طول أحببت أن أختم الكلام بالحمد لله على الدوام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه الأعلام ما هطل ركام، وسبح الرعد في الغمام. من داعيكم المكنى عند أهل الظاهر بأبي الفيض وعند أهل الباطن بأبي الوقت والملقب بالمرتضى محمد بن محمد بن محمد الحسيني الواسطي العراقي الاصل ثم المصري، غفر الله زلله وأصلح حاله، آمين في ليلة الاثنين 17 جمادى الثانية سنة 1117. ومن ذلك رسالة هذا نصها: من عبد الله الفقير إليه سبحانه الراجي عفوه وغفرانه محمّد مرتضى أبي الفيض أصلح الله بالتوفيق حاله وزان بالتسديد ما شانه وصانه -آمين- إلى شيخه الولي العارف، صاحب الفضائل والعوارف، ومحط رحال الكاملين، نتيجة العلماء الصالحين، الشاكر لما أولاه ربه في كل وقت وحين، فريد وقته ونسيج دهره، قطب عصره، الشيخ سيدي أحمد السوسي. [الخفيف] مقتدى السير درة الفضل بحرٌ ... زاخر فاض لجه بالنفيس خصه الله بالكمالات طرا ... فعلى بابهم طرحت طروسي لا بقرح قدوة لمن اقتدى، وسراجاً لمن استرشد واهتدى، يشار إليه في العلوم وفي التقى، ويومأ إلى تفضيله في المحافل، وبعد فأهدي إليه سلاماً مثل أنفاس الصبأن وولاء مثل أيام الصبأن وثناء عرفه على المسك رباً وأعرفه بوصول خطابه العالي، الفائق على حبات اللآلي، ولما قرأته حن قلبي، وازداد قلقي وكربي، وكلما تنسمت عبير القرب أراح إلى اللقاء لبي، فها أنا بين شوق منضج وتوق مزعج، ولوعة وبلبال، وألم وأوجال، والله المسؤول أن يهيْ لي مقدمات أسباب تكون منتجة للقاء الأحباب، هذا وإن متحملي هذه البطاقة إلخ، والسلام الذي يتضوع عرفاً ويوالي عرفأن وتتضاعف منحه وهباته، عليكم ورحمة الله وبركاته في 10 ربيع الأول سنة 1203. ومن ذلك رسالة هذا نصها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على من لا نبيْ بعده وسلم تسليماً (قل الله ثم ذرهم) اللهم اجعلنا ممن أقمته في مقام، فأقام وأستقام، وانقاد بحسن الاستسلام من عبد الله سبحنه الراجي عفوه وغفرانه محمد مرتضى الحسيني، رزقه الله الشهود العيني، إلى شيخه الإمام العارف معدن اللطائف وملجأ كل خائف قدوة الأيّمة، وكاشف كل غمة، الفرد الرباني والهيكل الصمداني، قطب عصره، ونسيج وحده في مصره، سيدنا ومولانا أحمدى ابن سيدنا شيخ الشيوخ المرحوم سيدي عبد الله السوسي فتح الله إليه سفراً عن كل محجوب، وكشف لبصر بصيرته مخبآت الغيوب، واستعبد له أحرار أسرار القلوب، وملكه قياد كل فرض ومندوب، حتى يرقى لدرجات المقربين، ويتضح له نهج الحق واليقين، فخالص توحيد الرب عبارة عن رضاه بما أقامه مولاه، والتسليم لما أراده منه بلا انزعاج ولا قلق وهذا هو منتهى منازل السائرين. وبعد، حيث لا قبل ولا بعد، فإني أحمد الله عزّ وجلّ بما أنعم، وبما ألهم، وأشكره اعترافاً بما أكرم، وأصلي وأسلم على حبيبه الأعظم، واستغفره لي ولكم وللمسلمين واستنجده لرفع ما بكم بحيث لو كانت على جبل رضوى لاندكت وتلاشت، وأسأله لي ولكم الأستقامة، فإنها فوق كل كرامة، ومع هذا فمقام الاخلاص، ينادي تثبت ولاة حين مناص، ثم أني أهدي لكم سلاماً لو تمثل كان دراً وياقوتاً يقلب في اليدين، وحُبّاً خالصاً لم يمازجه دنس الرين، فمن رآني ورآكم واحداً فهو بعينين، ومن رآنا اثنين فهو بعين، هذا وإن كتابكم الكريم في أبرك الساعات وصل، وبه أنس الشهود حصل، وقوبل حامله السيد الشريف محمد الشعشعاني بالإكرام، وعومل معاملة الكرام، واستفدت من هذا الكتاب، صحة الانتساب، والرجوع إلى الحق بكمال الرضى والاستصحاب، وأنه سبحانه هو المطعم وهو الساقي وهو الشافي، ومن الغريب ما بين الساقي والشافي من الجناس الرافع للالتباس، والدخول في هذا الباب من لوامح خالص التوحيد، ويتضح لكم سر ذلك إذا تصفحتم كتابنا الذي ومصل إليكم مما يتعلق بحلّ كلام الإمام أبي حامد قدس الله سره وفي الإشارات ما يغني، وفي التلويحات ما يقني، وقد التقينا بأكبر أحبابكم إلخ والسلام الذي طابت نفحاته عليكم ورحمة الله وبركاتهِ حرر في شهر ربيع المكرم سنة 1203. ومن ذلك رسالة هذا نصها: من العبد الفقير البائس الكسير أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني بصره الله بعيوي نفسه، وجعل يومه خيراً من أمسه، إلى حبيبه في الله ورسوله الإمام العارف منبع العوارف مظهر أنواع اللطائف الأستاذ الأكرم الملاذ الأفخم سيدنا ومولانا شهاب الملة والدين أبي الإخلاص سيدي أحمد السوسي أمده الله بروح اليقين، ومكنه في مراتب التمكين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين يُحيط علمه الكريم، بعد إهداء أشرف تحية وأكرم تسليم، أن الفقير لم يزل يتزايد فيه حبكم ويتعمر بودكم قلبه، ويستضيء بأنوار صَدَاقتكم لبه، وقد وصل مثاله العالي صحبة الجناب الأكمل سيدي مصطفى ابن قاضي تاستور فقوبل بالرعاية على ما يليق بامثاله ووجهناه إلى بندر السويس ثم وصل المثال الثاني صحبة أكمل الأحباب سيدي محمد بن اسماعيل من أهل قصر سليمان مع أخيه سيدي أحمد فقوبل بالرعاية مما يليق بأمثالهما ولازمانا مدة خمسة عشر يوماً كل يوم عندنا من الصباح إلى العشي حتى توجها مع الركب المصري والله يحملهم بالسلامة ويردهم سالمين. وقبل هذا التاريخ حررنا لكم جملة مكاتبات وفي كل منها ما يغني عن الإعادة هنا فإن في كل منها من المقاصد والإشارات ما ليس في الآخر لعل جملتها أو بعضها وصل إليكم وإلى الآن ما ظهر لنا خبر عن وصول الأمانات التي أرسلتها إليكم وهذا التعويق كله بإرادة الله وقدرته وليس لنا إلا التسليم مع كمال إخلاصنا في محبتكم وصدقنا فيها وكأنّ تاخير الجوابات هو الحامل الأكبر لحضرتكم على نسبة القصور إلينا في محبتكم، والحمد لله فقد برّأنا الله من ذلك، وجواباتنا قد تتابعت كالمطر، وتراسلت على الأثر، وتوالت مع كل متوجه إلى الجناب، قاصدٍ للرحاب، والموصل هو الله تعالى. هذا مع وفور أشغالي وتلون أحوالي مع الأجناس المختلفة والانواع المتكثرة بحيث أكون مع كلٍّ مخاطباً مجالسأن وبلسانه مؤانسأن وقد أوردت بعض أحوالي في هذه الأبيات لا بأس بالتأمل فيها: [الطويلي لقد حمّلتي فكرتي كلّ شاغل ... تحملته في كاهليَّ ثقيلُ كمجلس إملاء ودرس يعوده ... تواددتعليل له ودليل وطال إسماع وحاجة نفسه ... وطال علم في البحوث سؤول وكلّهمُ يرجو نجازَ أموره ... ويصخب إن أرجأته ويصول وكتب جوابات إلى الروم كلّها ... بتزكية مني عليّ ثقيل لعمرك أبناء الرسائل كلهم ... إذا عُوّقُوا نحو العقوق يميل وشرح لإحياء ونوم وراحة ... وأكل وشرب يعتليه ذهول وفي نَفَس ترويح نفس أجمتها ... وتأنيس أهل هزلهن هزيل وأمر مَعادي رحت فيه مفرطاً ... وأمر معاشي قد حواه وكيل وأما مداراة الأنام وشرح ما ... ألاقيه منها فالكلام يطول فهل لامرئ في ذا تفاصيل أمره ... فراغ لتحرير الجواب يقول فعذراً فما أخرت عنكم جوابكم ... لبخل ولكن ما إليه سبيل ووقع النظر في كتابكم استدعاء الإجازة من الفقير فقدمت رجلي وأخرت أخرى وغلبتْ عليّ الهيبة واستشعرت تغير مزاجكم اللطيف إن لم أكتب فبرز الغذن الإلهي بكتابة كلمتين في أوراق في طيّ هذا الكتاب على وجه الاختصار من غير ذكر إسناد ولا تعيين كتاب وأنّى لمثلي أن أجيز لمثلكم ولكنّ المحبة تستر كل عيب فإن تشوقت الأنفس إلى معرفة بعض الأسانيد للفقير فحامل الكتاب قد كتبت له إجازة فيها بعض المقصود فلا بأس أن يطلع عليها مولانا إن تعلق غرضه بنقل نسخة وإلا فالستر على العوار هو المطلوب، وولدي السيد عبد الله أبو الفضل يرمق بطرف عينه مترقباً لورود مبشرة حجاب، يكون حرزاً له وهو يقبل الأيدي الكريمة ويطلب منكم الإجازة وممن ترون فيه الخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم. ومن ذلك رسالة هذا نصها: إن أشرف ما يهدى وألطف ما يسدى سلام أطيب من نسمات الصبا حركت الأفنان وأطرب من تغاريد الأطيار أمالت الأغصان، وأحلى من عتاب حبيب مواصل، وأعطر من ربى أزهار الخمائل، إلى حضرة مولانا وسيدنا وشيخنا كعبة الآمال مطلع شمس الإقبال، حبيب أرباب القلوب وأهل الأحوال، نعمة الله على الخاص والعام، ومنته سبحانه على كافة الأنام، الإمام العارف، والهمام الواصف، خلاصة أهل الله الشيخ سيدي أحمد بن عبد الله مهديّ الزمان، المشار إليه بالبنان: [الخفيف] للمعالي بقيت في خير حال ... بلآلي الكمال والمجد حالي أنت والله قدوة وإمام ... عمدة في مآله والفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 نستمد من فيوضات الحق سبحانه لجنابكم الكريم، مزيد الفضل العميم، وامتداد آمالكم، وانتفاع المسلمين بطول حياتكم، وانسداد أبواب السوء عن حوزتكم وجهاتكم، أما أحوالي فهذه المدة التي مضت كلها وأنا مشغول باتمام شرح الأحياء وقد وصلت الآن في شرح كتاب المحبة والباقي أأربعة كتب وهانَ الأمر بمنة الله تعالى وبركة أنفاسكم الطاهرة، فهذا هو الذي يمنعني من مشاركة الناس في أحوالهم وأخبارهم، ولولا الخلوة ما كانت الجلوة، وقد فرحت بما أشرتم في كتابكم لشيْ مما يتعلق بسيدنا القطب سيدنا محرز بن خلف- قدس الله سره- فإني أعرف أنه من أكابر الأولياء المتصرفين في عالم الغيب وكنت مشتاقاً لسماع شيْ من سيرته الحسنة وإنني من المعتقدين فيه والمعترفين بفضله، حشرنا الله في زمرة محبيه، وما نقله أبو عمران الفاسي عن القاضي أبي بكر الباقلاني فإنَّه صحيح لاشكّ فيه وهو يشير إلى مقام الصديقية العظمى وله خلافة الحق المعنوية، وكمال رتبة الإنسانية التي بها تمت لهالصورة المعنوية بعد النفخ والتسوية فرضي الله عنه، وأرضاه عنا. ثم إن المولى الشهاب الشيخ أحمد السةسي أتى عليه في آخر أمره مرض اعتكف به على العبادة في داره إلى أن أدركته المنية فتوفي في شهر رمضان المعظم سنة 1208 ثمان ومائتين وألف. وأما والدهم العالم الشيخ عبد الله السوسي فقد ولد بمكسال من سوس المغرب الأقصى، وقرأ هنالك، وخرج منها لحج بيت الله الحرام سنة 1127 سبع وعشرين ومائة وألف، وأخذ الحديث بمكة عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري الشافعي الذي كانت وفاته يوم الاثنين رابع رجب سنة 1134 أربع وثلاثين ومائة وألف وقد جمع ثَبت أسانيده ولده المحدث الشيخ سالم بن عبد الله البصري في كتاب سماه "الإمداد بمعرفة علو الإسناد" رضي الله عنهم أجمعين. ثم إن صاحب الترجمة السوسي ارتحل إلى تونس وأخذ عن العالم الرباني الشيخ إبراهيم الجمني والشيخ علي بن أحمد بن الحق اليمني التميمي الأنصاري وأقام مدة بالقيروان إلى أن حاصرها الباشا علي بن محمد فقدم إلى تونس وتصدى لبث العلم. ولما أتم الباشا بناء مدرسة حوانيت عاشور عرض مشيختها على الشيخ علي سويسي فامتنع من قبولها وأشار على الباشا بتولية الشيخ عبد الله السوسي، فأولاه إياهأن فكان أول شيوخها وقد ذكر الشيخ محمد مقديش الصفاقسي في تاريخه نزهة الأنظار في عجائب التواريخوالأخبار أنه مرض مدة فأوتي براتب مشيخة المدرسة فامتنع من قبوله مدة حتى بلغ خبره إلى الباشا فأرسل إليه يقول له: إني لم نجعل لك الراتب في مقابلة الإقراء وإنما جعلته لك إعانة عليه وبمقتضى ذلك يلزم أن تقبضه فقبله رضي الله عنه. قيل: إن الشيخ لطف الله الأعجمي لما قدم إلى تونس حضر بالمدرسة المذكورة وحين علم أن شيخها هو صاحب الترجمة أخرج تقييداً من جيبه فنظره ثم قال: إن هذا الشيخ قد أُمرنا بزيارته وعند ذلك طلب الاجتماع به فجلس بين يديه جلوس التلميذ، وإنّما يعرف الفضل ذووه. ولما ذكَرَ الحاج حمودة بن عبد العزيز في تاريخه علماء دولة المقدس حسين باي بن علي قال وواحد المغرب علماً وديناً وورعاً أي محمد عبد الله السوسي الوافد عليها من المغرب الأقصى 1هـ. وذكره المولى حسين خوجة في تاريخه بشائر أهل الإيمان فقال فيه ما نصه: منهم العالم العلامة المحقق المدقق الشيخ سيدي عبد الله بن محمد أصله من بلاد سوس المغرب وقرا في أحواز مراكش وفاس النحو والصرف والفقه، ثم انتقل ورحل إلى مصر ومكث بالأزهر مدة وأخذ عن أجلاء الوقت وعلمائه وفي عوده مكث في جزيرة جربة واستقر بمدرستها وأخذ عن الشيخ الفاضل البركة العالم الزاهد سيدي إبراهيم الجمني ثم قدم إلى القيروان واستقر بها وتصدى للتدريس أولاً بزاوية صاحب المناقب الظاهرة والإشارات الباهرة الشيخ الولي الصالح سيدي سعيد الوحيشي نفعنا اللهبه وأقرأ بها مدة واشتهر بالعلم ' فاستدعاه الأمير حسين باي ورتبه في مدرسته بالقيروان وهو الآن شيخها ومدرسها عالم بالفقه والنحو والمنطق والبيان والأصول والفقه والحديث، فأقاد منها وأجاد، وله درس عظيم ومدحه الخاص والعام وهو رجل أسمر اللون حسن القامة مليح الوجه صاحب سكينة ووقار عفيف دين ذو مهابة وله ميل إلى الخمول اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وقد عده الشيخ المختار العياضي في مفاتيح النصر في علماء العصر فترجم له بما نصه. الفقيه أبو محمد الشيخ عبد الله السوسي هز من العلماء الأعلام، كأنما هو ضياء في جبين الإسلام، وبدر علم لا يفارقه التمام، جيد المعرفة بالنحو والبيان وبعلم الفقه والحديث والكلام، خزانة تحقيق، ومعدن تدقيق، قدم من المغرب إلى تونس وجدَّ في القراءة على مشايخ ذلك العصر منهم الشيخ الصفار. ثم ارتحل إلى المشرق فعكف على العلم ساهرأن وقطف منه رياحين وأزاهر، ثم رجع إلى إفريقية فاستوطن القيروان ولازم بها التدريس والإقراء فمكث بها برهة من الزمان، حتى كان بها من أمر الله ما كان، فانتقل تحت الجناب العلي والفخر الجلي مولانا الباشا علي فأغمره في بحر إحسانه الزاخر، وصار معدوداً من العلماء الأكابر، وقد أثبت من شعره ما يدل على علو قدره فمن ذلك قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويتشوق: [الوافر] أَحنُّ وما إلى وطني اشتياقي ... ولا شوق إلى كاسات ساقي ولا طرب لرنات المثاني ... مجاوبة بألحانٍ رقاق ولا للغانيات ولاجياد ... يسابقن الراح لدى السباق ولا للروض قد حفت بزهر ... بكل الطرف منها بائتلاق ولا لسماع أسجاع القَمَاري ... على دوح تُخَالِلُها السواقي ولكن طَيْبة المختار طه ... علت شرفاً على كل الأفاق إلهي أوثقتْ رجلي ذنوبي ... على الحرمين فاحلل لي وثاقي أعدني كي أموت بها إلهي ... بجاه المصطفى بدر اتساقي على دين حنيفيّ معافى ... من الأهوال ساعة كشف ساقي وصلى الله ما هزت سرورا ... قلوب العاشقين لدى ألاقي على المختار خير الخلق طرا ... وأفضلهم جميعاً باتفاق وآل ثم صحب ثم تال ... بإحسان إلى يوم المساق قلت وقد أخذ عنه كثير من علماء جامع الزيتونة كما تقدم ذكره في تراجمهم وختموا عليه أعالي كتب المعقول والمنقول وتناشدوا بين يديه رائق الشعر عند أختامه وقد أصيب في آخر عمره بضعف بصره فكتب إليه الشيخ علي الغراب بقوله: [الطويل] ألا أيها الحبر الذي بحر علمه ... له في الورى يبدو تلاطمُ أمواجِ إذا سنح المعنى العويص بذهنه ... فذلك صيد لم يكن منه بالناجي لئن حل في عينيك ضعف فقد غدا ... بفكرك في الأشياء قوة إنتاج إذا عَرَضَ المعنى العويص مسابقاً ... ترى كلّ ما قد ضاق أوسع منهاج وإنك بحر موجهُ متلاطمٌ ... وما البحر يوماً للعيون بمحتاج شفاك إله العالمين بفضله ... إلى أن ترى ما دق في ظلمة الداج وأخرج منها داخل الداء مسرعاً ... على غير إيذاء بألطف إخراج بمن خصه المولى برؤية كلِّ ما ... غدا خلفه واختص منه بمعراج عليك سلام يحسد المسك نفحه ... يجدد أفواجاً لكم بعد أفواج ولم يزل في جلالته وكماله ناشراً لواء العلوم إلى أن أدركه الأجل المحتوم لما حضرته الوفاة جمع أولاده الثلاثة وقال لهم من ترك أولاداً مثلكم هل تنفذ وصيته؟ فقالوا له نعم ونحن سميعون مطيعون فقال لهم إذا مت فاغسلوني على السنة واحملوني إلى قبري من غير جهر بالذكر أمام النعش وتوفي ليلة الخميس السابع عشر من شوال الأكرم سنة 1177 سبع وسبعين ومائة وألف ونفذ بنوه وصيته وقد رثاه الشيخ محمد الغضبان بقوله: [الطويل] أرى الكون من فقد السريّ تصدّعَا ... وركن الهدى من بعده قد تزعزعا وذابت فحول العلم من موت ماجدٍ ... تصرف في كل الفنون وأبدعا هو السند السوسيُّ من عَرْفِ بحثه ... نسيمٌ به روض العلوم تضوعا فكم شنّف الأسماع جذب حديثه ... إلى أن غدا كاس البلاغة مترعا وكم منح الطلاب مجداً مؤثلا ... ووشحهم برد البيان منوعا وكم حل إشكالاً عليه تقاصرت ... عزائم مَن في المشكلات تضلعا وكم برزت للفكر أجياد فكره ... فقاد بها صعب العويص وطوعا وكم بات في دجن يسامر بحثه ... فأثر بالجميل مولعا تعود ذكر الله في كل حالة ... إلى أن أتى الإجلال أن يتقطعا وأبدت رياض العلم غب وفاته ... ذيولاً يرى منه أسى وتوجعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 صلاها لهيب الوجد حتى كأنها ... هشيمٌ أمالته الرياح مقلعا وطارت به فوق الأكفّ تكرماً ... إلى أن علافوق الؤوس مشيعا وأضحت ربوع الأنس منه بلاقعا ... وصار كبدر بالمحاق تقنعا ففاضت عيون الحاضرين تأسفاً ... وقامت على الأطلال تَسكبُ أدمعا وغيّب فخر الدين في الترب بعدما ... تسربل في برد الرضى متافعا وحفت به أنجاله فكأنهم ... بدور بها أفق المهابة رصعّا وعهدي بهم من أمهم بملمة ... كسوه من الصبر الممدد أدرعا ولكن ريب الدهر كدّر صفوهم ... بفقد الذي فيه الكمال تجمعا عليه من المولى شآبيب رحمة ... وأسكنه روض الجنان ممتعا بحق رسول أعطر الكون نشره ... ومن كفه ماء نمير تنبعا عليه متى هب النسيم تحية ... تُقبِّلُ ترباً من سناه ترفعا ورثاه الشيخ لطف الله الأعجمي بقوله: [البسيط] رمى الحمام سهام البطش وابتدرا ... فقال ما يتمنى وارتضى القدرا كشخص طيف سرى أو ظل قائلة ... أم السراب رأى الظمآن ما نكرا أم شمس فضل عدت بالكسف أو قمر ... أوى الأفول أو البرجيس قد سترا لله در صفي بارع ندس ... حبر شفوق رضي مبرز غِيرا سُوسيهم مولدا أصفاهم خلدا ... في مذهب مسعد بالمالكي افتخرا عمر تزاحم فيه المجد منسجما ... والعلم والحلم من أردانه انتشرا والزهد غب صلاح لم يزل ثملا ... من قرقف البر لما كان مشتهرا شرّفت بالنشر إفريقية فسمت ... شأناً على كل أرض الغرب وانتصرا فاشتف كل غليل قدر مطلبه ... طفل وشب كهولا عمهم أثرا هاجت زكية نفس منك سامية ... إلى حظيرة قدس فاصطفت سفرا فحبذا موئل نعم المحيط لها ... عيش نعيم هني خالد طهرا غطريف رهط أتيت هاهنا وكذا ... نعم العلا ودلاص العين مدّخرا في سبسب بِهمُ فاحت شقائقه ... بالمسك كالغادة الحسناء حين تُرى لا سيما بذريمن قد خصصت به ... نجلاً أصيلاً حفيداً بالثناء عرا أغصان فيض إذا ماست يحاولها ... رشدو فيها جنى منها الرضى ثمرا يُبقيهمُ بسرور ما حوى كرما ... عليك غفران ربي خالق لورى الجراديون والدة جدتي للام هي آمنة بنت الشريف أبي الحسن علي ابن الشيخ علي أيضاً جراد بيت شرف متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم أما والدة آمنة المذكورة فهي شلبية بنت التاجر محمد بن الطاهر بن زاكور الفاسي، وقفت على رسم وفاتها عليها رحمة الله. وقد أضاف الشيخ علي جراد إلى شرف نسبه شرف حسبه فكان عالماص عاملاً فاضلاً تقدم لخطة التدريس وولي إمامة جامع باب الجزيرة وتقدم للتدريس بمسجد القنيطرة، وقد زيد ولده بعد وفاته فسمي باسمه. واشتغل بصناعة الشاشية وهي الصناعة التي بقيت لبنيه. وكيفية اتصال نسبي هو أن العبد الضعيف محمد السنوسي بن منا السقاطية بنت فاطمة السوسية بنت الشريفة آمنة بنت علي ابن الخطيب المدرس الشريف علي جراد، وكان أبو عبد الله محمد بن علي بن علي جراد موثقاً تقدم لخطة العدالة واسترزق بالإشهاد بتونس وكلهم يلبسون العمامة الخضراء علامة عن شرفهم المشهور، وهم فروع ثلاثة من أصل واحد بمدينة القيروان ومنهم الولي الصالح الشيخ علي جراد صاحب الكرامات المشهورة في القيروان وقد توفي في حدود الثمانين ومائة وألف، والفرع الثاني ببلد مساكن من عمل الساحل، والفرع الثالث مقيم بتونس، وقد اتصلت بسلسلة آباء الفرع المساكني فكان منهم الشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد بن صالح بن رمضان ابن المدرس إبراهيم جراد بن علي بن علال بن محمد بن علي بن محمد بن محمد أيضاص ابن عمر بن عبد الواحد بن أحمد بن علي بن يحيى الجوطي بن القاسم بن إدريس الاصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. المحجوزيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 أم والد والدة جدتي للأم هي الشريفة الأصيلة منا بنت الشيخ أحمد ين سعيد بن إبراهيم المحجوز، وذلك أن والد والدة جدتي للأم هو الشيخ علي بن علي جراد على ما سبق ذكره، ووالدة الشيخ علي المذكور هي منا المحجوزية إذ أن والده سميَّه الخطيب المدرسَ الشيخ علي جراد قد تزوج بها وأوتي منها بولده سميِّه وهي إحدى الست من بنات الشيخ أحمد بن سعيد إبراهيم المحجوز توفي أحمد المذكور عنهن وعن ولده أبي النجاة سالم المحجوز، وقد وقفت على تضمين رسم وفاة الشيخ أحمد المذكور في أثناء رسم بيع تضمن أنه توفي عن زوجنه ملوكة بنت الحاج الحمامي وولدِه سالم وبناته خدوجة وفاطمة ومنا وعائشة وصالحة وكبيرة، وكان البيع المذكور أوائل شوال سنة 1152 اثنتين وخمسين ومائة وألف، وفيه تحليته بالشريف الفقيه الإمام، ولم ندر هل شرفه من قبل والده ولم نر تحليته بذلك أم من قبل أمه وهذه كيفية اتصال نسبي به إذ هذا العبد الضعيف مَحمد السنوسي بن منا السقاطية بنت فاطمة السوسية بنت آمنة بنت علي جراد بن منا بنت الشريف أحمد بن سعيد بن إبراهيم المحجوز رضي الله عنه. وكان هذا الجد سعيد بن إبراهيم المحجوز عالماً محدثاً ورعاً صالحاً كثير الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ العلم بتونس على فحول منهم الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا وتضلع من المعقول والمنقول وكان حافظاً لصحاح أحاديث الرسول فتصدى لبث العلم وقرأ عليه كثير من الفحول منهم الشيخ محمد الخضراوي وقرأ عليه الصحاح الستة والشيخ محمد سعادة والشيخ عبد الكبير الصوفي والشيخ أحمد الطرودي والمفتي المالكي الشيخ محمد ابن المدروس محمد جعيط وغيرهم، وقد ذكره الشيخ محمد برناز في كتابه الشهب المحروقة في الرد على أهل الزندقة في أثناء استطراده ترجمة العالم الشيخ محمد الزاوي فقال وأنه قد ناب الخطيب المحدث والشهرة له فيه الشيخ سعيد بن ابراهيم المحجوز أحد فضلاء بلادنا وكان أمين المؤدبين وما من أحد تعاطى الحديث ببلادنا من معاصريه إلّا وله به سند وكان شديد النكير على متعاطي شرب الدخان وكان معتنياً بالحديث النبوي وكان يجلس للإقراء على وسادة لعجزه. وقد قرأ مختصر القدوري على الشيخ محمد بالفتح ابن شعبان الحنفي بالمدرسة اليوسفية وتوفي في طريق الحج قبل أن يصل إلى الإسكندرية بغير مرض وإنما أصابه ضعف يوم موته فمات راكباً على بغلته قبل العصر ودفن هنالك ولما رجع الركب إلى ذلك الموضع وجدوه كيوم وضع فحملوه بصندوق ودفن بتونس، وكانت في شهر رمضان سنة 1119 تسع عشرة ومائة وألف عليه رحمة الله. قلت وقد بلغني من بعض ذريته أن سبب حمل الشيخ من مدفنه هو أن الركب لما وصل إلى ذلك المكان عند إيابه وكان كبيره الشيخ الغفاري فرأى الشيخ ليلة مبيته هنالك في النوم يقول له كيف يا أخي نأتي جميعاً وترجع وحدك وتتركني مدفوناً هنا فقال له شيخ الركب وأين يكون دفنك يا سيدي فقال له الشيخ بزاوية الشيخ سيدي منصور بن جردان فقال له إني لم أعلم مكان قبرك حتى أحملك منه فقال له الشيخ انظر العلامة التي تدلك عليه واحملني فلما كان من الغد خرج شيخ الركب يتقصص قبر الشيخ وبينما هو كذلك وإذا بطائر أبيض يحوم حول موضع مرتفع من التراب ونزل عليه فلم يشك في أن ذلك هو قبر الشيخ فأمر بحفره فإذا هو كما وضع فحمله ودفن بزاوية الشيخ سيدي منصور وقبره يقابل الداخل للزاوية بالبرطال وعليه تابوت يزوره زائر والزاوية رضي الله عنه. وقد ذكره مؤرخ الدولة الحسينية المولى حسين خوجة في كتابه بشائر أهل الإيمان عند ذكر علماء الدولة فقال ومنهم العالم العلامة الفاضل الإمام الخطيب المحدث فريد عصره ووحيد دهره الشيخ سيدي سعيد بن إبراهيم المحجوز قدوة المحدثين وسند المحققين قرأعلى علماء عصره بمدينة تونس وحصل عليهم وأجازوه في كثير من العلوم وله سند عال في الكتب الستة في الحديث عالماً فاضلاً تقياً زاهداً تصدى للتدريس في أماكن متعددة ثم لازم التدريس بالجامع الأعظم جامع الزيتونة واستفاد منه خلق كثير كان شيخ عصره وزمانه في الرواية والدراية وله شرح على الموطأ غير كامل وتخرج عنه أناس كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وكان رحمه الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وكان الشيخ يروي الحديث بمسجد محل سكناه ويخرج من داره عند طلوع الفجر وكان كلب العسة يؤذيه فامتنع من الخروج أياماً قال فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي قم يا سعيد اقرأ حديثي فإن الكلب قد قتل قال فقمت وقلت ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فتوضأت وخرجت فوجدت الكلب نصفين وكان من قدر الله أن اجتاز من هنالك جندي فآذاه فضربه بسيف فقسمه نصفين ومناقبه كثيرة لا تحصى رحمه الله تعالى وسار إلى الحج وتوفي بمكان يقال له المطروح قريباً من الاسكندرية في اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة 1119 تسع عشرة ومائة وألف ودفنوه في ذلك المكان أمانة في تابوت وفي عودهم وجدوه كما كان وأتوا به إلى تونس ودفنوه بمقبرة الشيخ الولي الصالح صاحب المناقب الخارقة سيدي منصور بن جردان نفعنا الله به، وسمعت من تلميذه الشيخ سيدي أحمد الطروبي أنه كشف عليه حين دفنه في سيدي منصور فشاهده كما كان في حياته لم يتغير رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين انتهى. وقد ترجم له مؤرخ عصره الشيخ محمد الوزير السراج في كتابه الحلل السندسية فقال وفي هذه السنة أعني سنة1119 تسع عشرة ومائة وألف طلع مع الركب حاجاً الشيخ العالم العلامة والبحر الفهامة الأستاذ المحدث الصالح الإمام الخطيب الفاضل الذي اتخذ الحديث عزة وفخاراً ودرايته شعارأن وروايته دثارأن كم شفى بلطيف شمائله من معضل، وفصل فصول تبيانه من مشكل، وعدل كفات موازينه بين راجح ومرجوح، وداوى برقة معارفه، ومراهم عوارفه، كل ضعيف ومجروح، أزاح بري روايته عن عطاش القلوب أُوَامأن وأدار سلاف نفحاتها على لائذي أبوابها دوامأن واستقر مقيماً على ذلك الدين أعوامأن فحسن مستقراً ومقامأن وكان كثير الرؤية لسيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يتعاطى الحديث ومصطلحه ضُحىً جوفيّ الختمة بجامع الزيتونة ويروي الحديث أيضاً بزاوية الأستاذ، ومن بجاهه للائذين أعظم ملاذ، صاحب البراهين والبركات، وخوارق العادات، أبي الظَّفر، سيدي منصور بن جردان، وكان يؤمُّ بمسجد القنيطرة داخل باب الجزيرة ويخطب بجامع خارجهأن ورأيت بخطه رحمه الله في ورقة ما نصه: يقول العبد الفقير إلى الله تعالى سعيد بن إبراهيم المحجوز أذكر هنا ما ألفته من الكتب فمن ذلك كتاب في (الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض) وكتاب (في الدعوات المستجابة) وكتاب في (الأفعال الثلاثية) هل هي من باب نصر أو من باب ضرب أو من باب علم أو من حسب؟ وكتاب (المثلث في اللغة) وكتاب (فيمن رأى الله تعالى في النوم من الأولياء) وكتاب (في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة) وكتاب (في الأضداد) وكتاب (في رقم لاإله إلا الله واسم سيدنا محمد وأحمد وغيرهما) وكتاب (في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم) اه بحروفه، غير أنه ما سمعنا بمن شاهد هذه الكتب، ولعلها اندرجت في كراريس حزمة قبل أن يسفرها وأهملت. وكان واعظاً حرجاً في حقوق الله تعالى. توفي رحمه الله تعالى عشية التاسع عشر من شهر رمضان من عام 1119 تسع عشرة ومائة وألف بمكان يقال له أبو مطروح قرب الاسكندرية في طلوعه. ثم لما نزل الركب نبش عليه وأخرج من قبره ووضع في تابوت ولم يجدوا فيه من التغير شيئأن مع أن تلك الأماكن أشد حرأن وكفى بعدم تعدي الأرض عليه عنوان القبول مع حرارة المكان وبعد الزمان ثم بعد تلك الحركات بالسفر إلى مدينة تونس وكشفوا عنه فوجدوه كأنه قُضي الآن، ودفن بالصحن من زاوية الشيخ الأستاذ سيدي منصور بن جردان، رحمه الله رحمة واسعة. الحياصيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 إن الشيخ المحجوز له اتصال بالولي الصالح سيدي سالم الحياص شهر الهياص تلميذ السيدة عائشة المنوبية رضي الله تعالى عنها ودفين القرجاني على يمين المار إلى مقامها والمتناقل عن الجدات السابقات أنهن يعتزين الشيخ من جهة الأمهات ومع إعمال البحث لم نظفر بجهة الاتصال وذلك ما يؤثره تباعد الزمان من تلاشي ما توجبه التعاريف، وغاية ما ظفرت به رسم مؤرخ سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة يتضمن أن الشريف عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الحياص أصله مغربي من العراقيين أبناء سقف وأن قدومهم كان من المغرب إلى المنستير ثم تنقلوا إلى المهدية من الساحل عمل تونس ثم قدموا إلى حاضرة تونس وتوفي الشريف السيد عبد الله الحياص عن زوجته عائشة بنت محمد علي المهدوي وأولاده فرج وعبد الرحمن وبو سلامة وسالم. ثم إن سالماً المذكور قد حفت به العناية الإلهية وسلك طريق أهل أبيه ونال الفتح الرباني على يد ولية الله السيدة عائشة المنوبية رضي الله عنها. وقد توفي رضي الله عنه عن زوجته فاطمة بنت مبارك مجيد وأولاده محمد وعائشة وجودة، وقد وقفت على رسم وفاة الشريف السيد محمد بتاريخ سنة 1078 ثمان وسبعين وألف تضمن أنه توفي عن زوجته فاطمة بنت محمد الحبكي وأولاده فاطمة أيضاً وعلي وأبي القاسم، وأن السيدة عائشة بنت الشيخ سيدي سالم تزوجت بالوجيه مراد خوجة بن عبد الله التركي ووقفت على رسم حبس أوقفه مراد خوجة على زاوية الشيخ سيدي سالم لإقامة شعائرها وأحزاب ودرس بها وكان رسم التحبيس المذكور بتاريخ أواخر أشرف ربيع سنة 1158 ثمان وخمسين ومائة وألف متمم بشهادة العدلين محمد العصفوري وعلي بن طاير بإمضاء الشيخ أحمد القاضي الحنفي في ذلك العهد، وفيه جعل النظر للذرية وحيث انقرضت ذرية مراد خوجة المذكور على حين تلاشي الوقف الموقوف على الزاوية رجع الوقف إلى النظر العام ودخل لتصرف جمعية الأوقاف بعد انتصابها بقليل، ثم أقيم درس الحبس المذكور ونقل إلى جامع المقدس حمودة باشا المرادي لعسر الخروج لإقرائه بالزاوية وصدر أمر ولاية العبد الضعيف مدرساً لإقامة الدرس المذكور بجامع حمودة باشا في 21 شعبان الأكرم سنة 1301 إحدى وثلاثمائة وألف، فابتدأت هنالك شرح الدردير على المختصر الخليلي نقرأه بين العشائين نسأل الله التأييد. ومع إعمال البحث في جامع الاتصال بين المحجوزين والهياصيين لم نجد من رسوم الوفيات ما يصح أن نعتمد عليه وذلك ما يؤثره تطاول السنين، ولم ندر أية البنات التي تضمنتها الوفيات الهياصية اتصلت بالمحجوز حتى اتصل بشرفها وإنما بحسب التاريخ والأسماء لم يبق من بنات الهياص من لم يعلم زوجها سوى فاطمة بنت محمد بن الشيخ سيدي سالم ووصف الشيخ أحمد بن سيدي سعيد المحجوز بالشرف في الرسوم دون والده يدل على شرف أمه، وتاريخ وفاة الشيخ سعيد المحجوز وتاريخ وفاة الشيخ محمد بن سالم الهياص صالحان لتزوج الشيخ سعيد المحجوز بالسيدة فاطمة بنت الشيخ محمد الهياص إذ يكون بعد وفاة والدها ووفاة زوجها إحدى وأربعونه سنة، وولدها الشيخ أحمد المحجوز الذي نتصل به وعلى هذا فأحمد المحجوز هو ابن فاطمة بنت محمد بن الشيخ سيدي سالم الهياص رضي الله عنه، وعلى كل حال فإن الاتصال في أصله ثابت وجميع أمهاتنا كن يأخذن من ريع حبس الهياص حين كان قائمأن وأما نسب الشيخ سيدي سالم فإنه ثابت متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو سالم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الحياص بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن مسعود بن عيسى بن عثمان بن إسماعيل بن عبد الواحد بن عبد الوهاب بن يوسف بن عيسى بن عمران بن يحيى بن عبد الله بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. المقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 لما كان المقصد من الخاتمة هو إتمام التعريف بمن أخذت عنهم من الشيوخ عنونتُ هذا القسم بالمقصد، وقد أردت أن أقدم بين يدي هذا المقصد أسنة عقد نفيس فيمن ولي بجامع الزيتونة خطة التدريس، وذلك أن العلم بجامع الزيتونة قد أتت عليه أطوار من أعزها طوره اليوم أدام الله عمرانه بفحول علماء البلاد وذلك أن المقدس المشير الأول أحمد باشا بايث قد رتب بجامع الزيتونة ثلاثين مدرساً نصفهم من المالكية ومثلهم من الحنفية وجعل للواحد ستين ريالاً شهرياً يخرج من بيت مال المسلمين، واستمر بحفظ العدد المذكور من المدرسين وبذلك لم يزل سوق العلم في غاية الرواج، سالكاً أكمل منهاج، وبهذا أردت أن أجمل ذكر من ولي هذه الخطة المباركة من ذلك العهد الذي هو السابع والعشرون من شهر رمضان المعظم سنة1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف. وهذا بيان الشيوخ الأولين: وهم الشيخ حسين البارودي والشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد بيرم الثالث والشيخ محمد الخضار والشيخ علي الدرويش والشيخ محمد البنا والشيخ محمد معاوية والشيخ فرج التميمي والشيخ محمد بن مصطفى البارودي والشيخ محمد النيفر والشيخ مصطفى بيرم والشيخ محمد بن عاشور والشيخ محمد عباس والشيخ محمد القبايلي والشيخ حسن فرشيش والشيخ الشاذلي بن صالح والشيخ محمد الشابي والشيخ محمد الشنقيطي والشيخ محمد الأبي والشيخ محمد الشاهد والشيخ محمود بن بالخير والشيخ أحمد القروي والشيخ حسن بن الخوجا والشيخ الطيب الرياحي والشيخ حسن القلايجي الجزيري والشيخ علي العفيف والشيخ قسومة السراج والشيخ أحمد عاشور والشيخ محمد بن الرايس الضرير والشيخ العربي الشريف رضي اللع عنهم أجمعين. ولما توفي الشيخ فرج التميمي أواخر جمادى الأولى سنة1262 اثنتين وستين ومائتين وألف ولي مكانه مدرساً الشيخ الطاهر بن عاشور، ولما توفي الشيخ علي الدرويش خامس ذي القعدة من سنة اثنتين وستين ولي عوضه مدرساً ابنه الشيخ أحمد الدرويش حادي عشر من ذي القعدة المذكور وكانت وفاته في الرابع من شهر رمضان المعظم سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ محمد بن عاشور في صفر الخير سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف تقدم عوضه الشيخ علي الرياحي ولي عوضه مدرساً الشيخ أحمد بن نصر ولما توفي الشيخ محمد الشنقيطي أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة ولي عوضه مدرساً: الشيخ الحاج عبد الله الدراجي وهو عالم جليل تقي نبيل، حسيب أصيل، ولد بالحضنة قرب المسيلة من عمل قسنطينة من نزلاء وادي برهون أحد أودية الحضنة المذكورة، ومقام جده سمي والده، فمحل نزلهم المشار إليه محط للوافدين والزوار، ومناخ للثقاة الأخيار، وملاذ لذوي المآرب والأوطار، يتوسلون به في قضاء الحاجات، ونزول النوائب المدلهمات، ودفع الشدائد والأزمات، والناس يجتمعون عند ضريحه ما بين قارىء وداع ومستغفر، وموقن لقضاء وطره مستبشر، وشهرة آبائه الآن بقبيلهم بأولاد الشيخ محمد الهذلي أحد أجداده الآتي ذكرهم كما وجد ذلك بخطه رحمه الله، مع مالهم في محلتهم من الحظ الوافر، من الأكابر والأصاغر، والجاه والقبول، عند كل من الفاضل والمفضول، والكلمة المطاعة، لدى الخاص والعام من الجماعة. وقرأ القرآن على والده ومبادىء النحو، وتنقل إلى قسنطينة، وقرأ بها على علماء ذلك العصر منهم الشيخ أحمد العباسي، والشيخ المكي البو طالبي، والشيخ أحمد بن المبارك، والشيخ محمد الشاذلي، وغيرهم. وأقام بها نحو العشر سنين وتزوج بها وخرج منها عند إصابة الجزائر عام 1246 ستة وأربعين ومائتين وألف. وحج بيت الله الحرام وأقام بمصر نحو السبع سنين قرأ فيها على فحول الأزهر. ثم وفد على تونس وأكمل فيها قراءته وتصدى لبث العلم مع القناعة والثبات في الدين وتقدم للتدريس بجامع الزيتونة والإمامة والخطبة بجامع سبحان الله ومشيخة المدرسة المنتصرية وأقرأ فيهما وختم الأختام المهمة وهاجر للمدينة المنورة عام 1283 ولازم التدريس بالحرم النبوي إلى أن توفي أوائل سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وقد أدركته بتونس يلبس الصوف وجميع الناس يجله ويعظمه. وقد وقفت على تقييد بخطه على ظهر كتاب عدد فيه بعض آبائه وذلك أنه عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمد الهذلي بن سليمان بن خليفة بن عمر بن محمد بن خليفة بن أحمد بن محمد ساسي، وبيتهم مشهور بالشرف والعلم وأفراد العلماء منهم كثيرون رضي الله عنهم. ولما هاجر هذا الشيخ للمدينة المنورة ولي عوضه مدرساً وخطيباً بجامع سبحان الله الشيخ الطيب السبعي. ولما توفي الشيخ محمد بن مصطفى البارودي ولي عوضه مدرساً الشيخ محمد الأمين بن الخوجة في ذي القعدة الحرام سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ محمد بيرم الثالث وتقدم الشيخ محمد بن باكير قاضياً حنفياً ولي عوضه مدرساً العالم المنجم الشيخ محمد بن محمود وحيث انتهى بنا العد إلى ذكر هذا الأستاذ نذكر ترجمته إذ هي ليست أجنبية من غرض هذا الكتاب فنقول: الشيخ محمد بن محمود هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن حمودة بن محمد بن حمودة بن محمد بن محمود الترجمان كان محمود الترجمان على عهد استقلال الدولاتية بتونس مترجم اللغة التركية إلى العرب بين يدي الدولاتي مثل والده، وكان قدومهم من الشام وهو من بني محمود الأعوج أحد ملوك الشام، وقد قتل محمود الترجمان المذكور على عهد مراد باي بوباله قتله هو والدولاتي وباش حانبة في يوم واحد، وفر ولده محمد بفتح أوله إلى الشبخ سيدي علي عزوز بزغوان وأخذ منه مكتوباً وحين وصل به إلى الحاضرة صادف ولاية ابارهيم الشريف باي داي فأحسن قبوله وأذن له بإرجاع جميع أملاك والده من الذين اشتروها بعد بيعها فصالح جميعهم فأخذ بقية قيمة الملك حيث إنّهم أخذوه بثمن بخس وتمم بيعه لهم. وسافر إلى مصر وأقام على خدمة العلم الشريف إلى أن خرج الشيخ علي عزوز وعند عوده رجع به إلى الحاضرة ونشأ بعده ولده حمودة في خدمة العلم وأخذ عن شيخ الإسلام محمد بيرم الأوّل ومن عاصره، وتفقه وطالت يده في الفرائض حتى كان عمدة الفرضيين، وجلس للإشهاد مع إمام المالكية الشيخ محمد المحجوب، وكانت ترد إليه الفتاوي من كل جهة، وربما رجع إليه الخصوم في نوازلهم حتى تشّكى منه الشيخ محمد البارودي للأمير وأرسل له في ذلك فأجاب الرسول بقوله أو أن الناس إذا قدموا غليّ يسألوني عن أمور دينهم نقول لهم منعني الأمير ولم يمتثل ذلك النهي وتوفي بعد الثمانين والمائة والألف. وأما ولده محمد سمي جده فكان عدلاً فرضياًوأقام على الإشهاد هو وأخوه الشيخ محمود وحج بأهله ولمّا رجع صادف انتشار الوباء فأقام بالكرنتينة بحلق الوادي مع أهله وتوفي هنالك بالوباء منتصف شعبان الأكرم سنة 1233 ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ودفن بتربة آبائه بالزلاج. وكان ولده حمودة عدلاً وباش خوجة بجامع حمودة باشا كسائر آبائه وتوفي في صفر سنة 1289 تسع وثمانين ومائتين وألف. وولد صاحب الترجمة في المحرم عام 1222 اثنين وعشرين ومائتين وألف وبشّر به والده وهو يقرأ على الشيخ أحمد بن الخوجة فقال له الشيخ إنّ ولدك هذا تاريخه "بشّرك" فنشأ بين يدي والده وجمع القرآن العظيم وقرأ على الشيخ مجمجد بن ملوكة الأجرومية والأزهرية والدرة وشرحها بطلبه وقرأ عليه رسالته المنطقية، وقرأ على لاشيخ مصطفى بو غازلي مراقي الفلاح في الفقه، وقرأ على لاشيخ محمد بن اسماعيل المكودي، وقرأ على لاشيخ أحمد بن حسين الشذور، وقرأ على لاشيخ عثمان النجار الفلك، وقرأ على لاشيخ محمود بن باكير العيني والواقعات، وجوّد القرآن على لاشيخ حسين البارودي، وطلب قراءة الخزرجية على لاشيخ محمد الخضار فأجابه لذلك بزاوية سيدي ابن عروس غير أنّه اتفق في يوم البداية أن الشيخ عرض له شغل منعه من الحضور فكتب إلى تلميذه بقوله: [الطويل] أيا نجل محمود ومن مثل محمودِ ... إليك اعتذاري أن أخالف موعودي سأطلب من جدواك تأخير درسنا ... لحين وإني باذل لجهودي فكتب إليه صاحب الترجمة بقوله: [الطويل] أيا سيّداً بالفضل والرأي يحمدُ ... لك الهمّة العليا ومجد وسؤودُ سأصبر للتأخير حيناً لدرسنا ... ولكن إلى لقياك شوقي مجدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وقرأ على لاشيخ أحمد الأبي الفاكهي وقطعة من الأشموني، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة السعد والمكودي والدرر، وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث النصف الثاني من السعد ودروساً من الدرر، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن الكامل السعد على العقائد النسفية. وتصدى للتدريس فأفاد الطالبين وتقدم لخطة التدريس في الرتبة الأولى ايتداء عوض الشيخ محمود بن باكير عندما تقدم الشيخ لخطة القضاء ولازم التدريس بجامع الزيتونة. وتضلع في العلوم الفلكية وأحكام التنجيم وصدق عمل النصية منه مع الشيخ الخضار والشيخ عثمان النجار في كثير من الوقائع ولمّا ولي المشير الثاني محمد باشا وظهر من صهريه شيخ الإسلام وأخيه المحتسب تصرف في أمور كثيرة عمل في تلك نصبة وأخبر بقرب تقشع ذلك الأمر، وبلغ ذلك إلى شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع وكان يومئذ قد ألزم جميع المدرسين بلبس الزمالة ولصاحب الترجمة ألم برأسه امتنع بسببه عن لبسها فأحضره في بيته وعنفه وأغلط عليه القول في شأن لبس الزمالة حتى قال له كيف لا تلبس الزمالة وأنت رجل تحكم يعني الأحكام التنجيمية إلى غير ذلك مما هو غير وعند فراغه من ذلك المجلس توجه للأمير وطلب خطة الكتابة، واستعفى من خطة التدريس، فآثره خصوصياً في بيته وذلك سنة إحدى وسبعين ونال عنده الحظوة التامة. وبعد وفاة مخدومه أقام على الكتابة بديوان الإنشاء وتطور به لاحال إلى أن أدركه ضعف البدن فلازم جبل المنار سنين متطاولة لحسن الهواء وتعفف عن إعمال النصبة حتى أن وزير تونس مصطفى بن اسماعيل ذهب إليه وطلب منه العمل فلم يجبه، وقد رأيت منه مع ذلك محاسن أفهام مبنية على قواعد حسابية مختلفة. أدركته وهو من القناعة والظرافة واللطافة بمكان عظيم مع علو الهمة والخيرية والفضل، إلى أن توفي في جبل المنار يوم الأحد ودفن يوم الاثنين الخامس عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1298 ثمان وتسعين ومائتين والف ودفن جوار قبر الست ميمونة قرب الناظور، عليه رحمة الله. وممن ولي التدريس الشيخ أحمد بيرم وكانت ولادته بعد زوال يوم السبت من المحرم سنة 1235 خمس وثلاثين، وقرأ على فحول شيوخ عصره، ونبغ في الأدب والشعر وتقدم للتدريس في الرتبة الثانية في المولد النبوي سنة 1265 خمس وستين، ثم ارتقى للرتية الأولى في 18 جمادى الثانية 1271 سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، وولي وكالة جامع المكنين في 9 صفر عام 72 وعضواً في المجلس الأكبر في 10 شعبان سنة 1278، وله ديوان شعر رائق وغزل فائق. وتوفي في ربيع الأول سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف. وقد أدركت من الشيوخ المالكية الشيخ محمد النفطي والشيخ محمد المارزي، والشيخ سليمان التبرسقي كلهم مدرسون في الرتبة الأولى. ومن الشيوخ الحنفية الشيخ محمد برناز، والمجود الشيخ محمد الستاري، والشيخ حمودة قلايجي، والشيخ مصطفى بن الطيب، والشيخ محمد الأبي كلهم في الرتبة الأولى، والشيخ الحاج محمد بن حمدة بن مراد توفي بعد غروب ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة 1301 إحدى وثلاثمائة وألف عليه رحمةالله. وممن مات في الرتبة الثانية الشيخ حسونة الشحيح المالكي، والشيخ عبد الرزاق الجزيري، والشيخ مصطفى الأبي عليهم رحمة الله. وهكذا تنقلت خطة التدريس بجامع الزيتونة من عالم حتى كانت اليوم بيد علماء العصر وهم الثلاثون الآتي بيانهم الشيخ الأمين بن الخوجة، والشيخ محمد الشاهد، والشيخ أحمد كريم والشيخ محمد النيفر. والشيخ حسونة عباس والشيخ سالم بوحاجب، والشيخ الطيب السبعي، والشيخ محمد بن مصطفى خوجة إمام المحلة، والشيخ الحاج العربي المازوني، والشيخ مصطفى رضوان، والشيخ عثمان الشامخ، والشيخ محمد النجار، والشيخ الشاذلي بن القاضي، والشيخ الطيب النيفر، والشيخ محمد بن إسماعيل بن محمود، والشيخ البشير التواتي، والشيخ الشاذلي بن مراد، والشيخ حسين بن أحمد بن حسين، والشيخ محمود بن اسماعيل بن محمود، والشيخ الصادق الشاهد، والشيخ أحمد بن محمد بن مراد إمام مسجد حمودة باشا. وحيث إن محط نظر هذا المقصد هو التعريف بالشيوخ أساتيذي رضي الله عهم فإني نذكرهم على حسب مراتبهم في تاريخ ولاية التدريس رضي الله عنهم أجمعين. الشيخ أحمد عاشور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 هو شيخنا أبو العباس أحمد بن محمد عاشور الصدفي الأنصاري الساحلي، ولد ببلد بو علي من عمل الساحل، وقدم إلى تونس في طلب العلم الشريف، فأخذ عن فحول منهم الشيخ أحمد بوخريص والشيخ إبراهيم الرياحي والمولى الجد الشيخ محمد السنوسيّ، والشيخ محمد بن ملوكة وغيرهم. وتصدى للتدريس ولازمه فأفاد وتقدم لخطة التدريس في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف فلازم جامع الزيتونة، وأخذ عنه علماء جلة مختلفو الطبقات، أدركت جامع الزيتونة وهو شيخ كافة شيوخه إلاّ من ندر ومع هرمه كان جميع يومه يستوعبه تدريساً وقد قرأت عليه القطر لابن هشام ونبذة من الشذور وقطعة من شرح الشيخ عبد الباقي على العزية، وشرح الشنشوري على ال رحبية بعمل الفرائض ونبذة من القلصادي، ونبذة من الدرة، ونبذة من شرح الرصاع في شرح أسمائه عليه الصلاة والسلام. وكان عالماً عاملاً ورعاً متواضعاً قنوعاً يخدم داره بنفسه كثيراً ما نلاقيه يحمل قلة الماء إلى داره ويحمل خبزته إلى الفرن لقيه تلميذه الشيخ الطاهر بن عاشور حاملاً خبزته وكان راكباً في حاشيته فنزل عن فرسه وقبل يده وأراد أن يأخذ منه الخبزة ليعطيه من يوصله إلى الفرن فامتنع الشيخ من ذلك إلا بجهد جهيد، فكان من بقية السلف الصالح. شرح نظم متن العشماوي في العبادات للشيخ الطيب بوخريص بشرحين كبيراً وصغيراً أبدع فيهما ما شاء في تحرير المسائل، وله تأليف لطيف في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وهوامش زين بها كتبه، وفي أثناء قراءتي عليه أدركه مرض الحمّى العام لكنه عوفي منه وبعد أيام قليلة ×رج بعياله لبلده بالساحل، وكان ذلك أوائل رجب ثم في تاسع شعبان أرسل له الأمير محمد الصادق باشا باي بتولية خطة قضاء باردو المعمور فامتنع من قبولها وأقام هنالك متمارضاً فأدركته المنية ثامن عشر شوال الأكرمسنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف ودفن هنالك عليه رحمة الله تعالى آمين. الشيخ محمد بو عصيدة هو شيخنا أبو عبد الله محمد المدعو حمدة التميمي، ولد بمنزل تميم وقدم إلى تونس في طلب العلم فأخذ عن أعلام الرجال، قرأ النحو والفرائض على الشيخ محمد بن ملوكة، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي، والشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن سلامة قرأ عليه شرح التاودي على العاصمية، وغيرهم. وتضلع في المعقول سيّما في علم النحو فقد كان فيه عريض البحث، وله في المعاني والبيان قدم راسخ. تقدم لخطة التدريس في الرتبة الثانية عند ترتيب المدرسين الصغار بجامع الزيتونة، ثم تقدم إلى الرتبة الأولى، وولي مشيخة المدرسة المغربية عند وفاة الشيخ علي الريحاوي، وواظب على دروس انتفع بها خلق كثير وتقدم عضواً في مجالسالأحكام القانونية، فكان عند الظن به في حسن الإدارة والتبصر. وقد قرأت عليه الأزهرية وقطعة من شرح القطر لابن هشام، وكان يومئذبصدد تحرير حاشية عيه، ونبذة من أول المقدمة لابن هشام بحواشيه. وكان عالماً محققاً دراكة غواصاً على دقائق المعاني محبّاً للمباحثة حسن الإلقاء، متواضعاً قنوعاً عالي الهمة. كتب حاشية على مقدمة ابن هشام أبدع فيها ما شاء وكتب حاشية على قطر ابن هشام غير أنه لم يتمها. ومرض فتوفي ضحوة يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة 1284 أربع وثمانين وما~تين وألف، وقد رثاه الشيخ الطاهر بن جعفر بقوله: [الكامل] كل لمرئ للموت حقاً يرجع ... أما البقاء فليس فيه المطمعُ قدر جرى في الناس أمراً حاتماً ... يا صاح منه فأين أين المفزع؟ سيان في ذاك الرفيع وضدّه ... فالله يفعل ما يشاء ويصنع فليحذر الإنسان من دنياه أن ... يغتر فيها إذ بناها بلقع وليتعظ بمصابنا في جهبذ ... شيخي الإمام اللوذعي اليلمع فالكون أصبح مظلماً من بعدهما ... كانت بدور العلم فينا تطلع فبفقد أهل العلم بدء ملمة ... وبموتهم شيئاًفشيئاً وأروع قلبي والخطوب تراكمت ... عني فهل صبر لذلك ينفع؟ سيدي أبو عبد الإله محمد ... من فكره في الفهم سيف أقطع (كشاف) أسرار المعاني متقنٌ ... كل العلوم وللبلاغة منبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الحائز الآثاروالمنح التي ... ما نالها قط الأديب المصقع نجم الدروس ومن إذا وقف الور ... ى في المعضلات فهوّ هوّ المرجع جرعت بفرقته البرية كلها ... لا سيما البيت العتيق الأجمع أضحى بدار جاره خير الورى ... طه البشير الهاشمي الأرفع فعليه صلى الله ماقد انشدوا ... كل امرئ للموت حقاً يرجع الشيخ أحمد بن نصر هو شيخنا أبو العباس أحمد بن نصر التاستوري قدم لتونس في طلب العلم، فقرأ على أعلام الشيوخ كالشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن الخوجة، وحصل على ملكة مهمة فتصدى للإقراء، وواظب على التدريس بجامع الزيتونة باعتناء زائد في إيصال المبتدئين حتى أنه لا يتأخر عن درسه أحد ممن قصد التعليم. وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة فكان من فضلاء المدرسين. وتقدم عضواً في المجالس القانونية فأنكر العامة تقدمه لما يعهدون من ديانته ونهيه عن مثل ذلك، ثم بعد بطلان المجالس رجع إلى ما عهد منه في دروسه. وقد قرأت عليه النصف الأول من كفاية الطالب وشرح المكودي على الألفية إلى الفاعل ودروساً أخر قليلة. ثم سافر لحج بيت الله الحرام وعاد من هنالك مريضاً مرضاً يتداول عليه بالإسهال في غالب الأحيان حتى منعه من المواظبة على الإقراء واستمر على ذلك بضع سنين وهو مهيب، أكثر شغله بالحديث. وكان، عالماً فاضلاً مشاركاً في كثير من الفنون خيرأن حييأن محباً حسن السكينة، لا يتجاوز الجامع إلا إلى داره قرب باب الخضراء واقرأ بمسجد هنالك كثيرأ بين العشاءين وقبل صلاة الصبح سنين متطاولة فلازم التدريس إلى أدركته المنية فتوفي في ذي الحجة الحرام سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف وقد ارخت وفاته بقولي: [المتقارب] هل تقتدي الأمة مستبصرة ... على جيوش النصر مستنصره كما قد رأينا ابن نصر الرضى ... أحمد ما أن عدا مفخره قد عم بالنفع أهل النهى ... وأسدى بتعليمه انضره فكانت دروسه بين الورى ... بتحرير أفهامه مخبره فعمّر في خدمة العلم مع ... تقى الله في كل ما عمره إلى أن أصيب بآلامه ... سنين بها كان ما أصبره فريء له صبر يعقوب من ... رضاه بما الله قد قدره ولما قضى نحبه عن رضى ... تراءت به الحور مستبشره وسار إلى الله يرجو الجزا ... فقل إن تؤرخ "له المفغرة" الشيخ محمد الأمين بن الخوجة هو شيخنا أبو عبد الله محمد الأمين بن حمودة بن أحمد بن حمودة بن محمد بن الحاج علي خوجة. قرأ والده الشيخ أحمد بن الخوجة، وعلى أخيه الشيخ محمد بن الخوجة وعلى الشيخ محمد بيرم الثالث واشتغل بالتجارة في الزيتون، وكان خيرأن فاضلأنزكي النفس، توفي سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله، آمين. وارّخ وفاته الشيخ محمد بيرم: [الطويل] أجل في صروف الدهر معتبراً طرفا ... فقد خطّت الأيام من معظها صحفا وحسبك منها واعظ الموت إنّه ... لأكثرها وعظاً وأبنها كشفا عجبت لمغرور ترامت بلبه ... أكفّ الأماني وهو ينتظر الحتفا فما الحزم كل الحزم إلاّ لمعرض ... عن العرض الفاني وهن له خلفا كحمودة بن الخوجة الفذ من ثوى ... بباطن هذا الرمس يرجو به الزلفى قرين العفاف المحض من شهدت له ... بنو عصره أن لا نظير له يلفى سليل الهمام الجهبذ الفرد أحمد ... وحبر العلا مفتي الورى المنهل الأصفى مضى طاهر الأثواب من كل شائن ... وأبقى ثناء طاب ترديده عرفا فحقق إلهي فيه قول مؤرخ ... (حوى من نعيم الخلد والمفخر الوصفا) وقد ولد ولده صاحب الترجمة ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 123 ثلاث وثلاثين ومائتين والف، فأدرك جده وقص من خبره معه أنه كان في بعض الأيام واقفاً عند باب بيتهم يخاطب اهله ويده مسندة بعارضة الباب وإذا به يسقط عقد سبحة بيده، وكان حفيده واقفاً عند رجليه فقال له على صغر سنّه كيف أنت تخاطب جدتي وأصابعك تسبّح فقال له يا ولدي غني أذكر الله بقلبي وأخاطب والدتك بلساني ثم بكى وحمله وقبّله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ونشأ في خدمة العم الشريف فقرأ على عمّه الشيخ محمد بن الخوجة سيدي خالد والأزهرية والقطر والمكودي والدرر وقطعة من صحيح البخاري وقرأ على الشيخ محمد بيرم الرابع شرح سيدي حسن علي منظومة ابن وهبان والدرر، وقرأ على الشيخ محمد معاوية المكودي والأشموني والعصام والكنز، وقرأ على الشيخ محمد النيفر الفاكهي واللفية والأشموني عليها والسعد وقطعة من صحيح البخاري وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الأشموني على الألفية، وقرأ على الشيخ مصطفى بيرم الألفية، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي نبذة من الموطأ. وجلس للتدريس وتقدم للرتبة الثانية بجامع الزيتونة في لاثامن عشر من أشرف الربيعين سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف، ثم ما لبث أن ارتقى للرتبة الأولى في المحرم سنة 1266 ست وستين ومائتين والف، ولازم التدريس بجامع الزيتونة واعتنى بالفقه والنوازل حتى صار فقيهاً خبيراً بفروع المذهب الحنفي، له معرفة بتعبير الرؤيا حسن الأخلاق حسن التعبير في درسه. قرأت عليه قطعة من شرح المقدمة لابن هشام. وتقدم للتدريس بالمدرسة الصادقية عند فتحها فرأينا تلامذته في مواكب الامتحانات كلهم محصل على جميع مارواه عن أستاذه. ولمّا توفي المدرس الشيخ محمد الستاري منسلخ ربيع الثاني سنة 1297 سبع وتسعين تقدم عوضه خطيباً وإماماً ومدرساً بجامع القصر فكانت أول خطبة خطبها به من إنشائه يوم الجمعة سابع جمادى الأولى سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف. الشيخ عمر بن الشيخ هو شيخنا أبو حفص عمر بن أحمد بن علي بن حسن بن علي بن قاسم زعوقة عرف ابن الشيخ. أصلهم من قرية الماتلين بمقربة رأس الجبل قرب غار الملح، وقد حج جده قاسم بيت الله الحرام وولي مشيخة الحكم على قرية الماتلين إلى أن توفي سنة 1195 خمس وتسعين ومائة وألف، فخلفه في المشيخة ولده حسن إحدى وخمسين سنة وكان فيمن دافع عن بنزرت حين ورد إليها العدو من قبل البحر وتوفي في شعبان سنة 1246 ست وأربعين ومائتين وألف وترك ولده علياً خطيباً بجامع الماتلين، وقد اشتهر عليه لقب ابن الشيخ، وكان خيراً ملازماً لقراءة القرآن يتمنى كثيراً حج بيت الله الحرام والموت هنالك، وقد أجاب الله أمنيته فقد أتم الحج والزيارة وتوفي بالينبع، ودفن هنالك في المحرم سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف وأما ولده أحمد فقد تقلّب في خدمة الدولة قدمه شاكير صاحب الطابع لخلاص أعشار غار الملح وعمله عند امتناع جده لعجزه وامتناع والده مراعاة لخطة الإمامة فقام بذلك قياماً تستحسنه الدولة حتى تيسر له بذلك أخذ خدمات كثيرة منها استلزامه لمحصول المحصولات ريع الفواكه والخضر والبقول بباب البحر. واستمر في خدمة الدولة إلى أن ولي المقدس المشير الثاني فكان ممن لزم بيته وأقام ببلد رأس الجبل وحج بيت الله الحرام سنة 1294 أبع وتسعين ورجع إلى بلده مشتغلاً بما يعنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وأما ولده صاحب الترجمة فقد اعتنى ولده بتعليمه كباقي إخوته بحيث أنه أقام لهم مؤدباً أولاً ثم أحضر لهم الشيخ محمد بن شعبان لتجويد القرآن العظيم والشيخ أحمد بن الطاهر لقراءة العلم الشريف قرأوا عليهمأن وفي بمدإ رجولية صاحب الترجمة دخل بجامع الزيتونة في شوال سنة 59، فقرأ على الشيخ عمر القسنطيني الأجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن مصطفى البارودي شرح الشيخ خالد على الآجرومية والشذور، وقرأ على الشيخ حسن فرشيش الأزهرية والقطر والصغرى، وقرأ على الشيخ محمد الأبي الأزهرية والقطر ومتن الألفية والرحبية، وقرأ على الشيخ محمود قابادو متن إيساغوجي والسلم وآداب البحث والسمرقندية ونبذة من الخبيصي، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر الكفاية والأشموني ومتن التلخيص، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح الشذور والملّوي على السلم، وقرأ على الشيخ محمد الخضار غالب الأشموني وقطعة من الخرشي والبردة والقاضي علي إيساغوجي، وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة المكودي على الألفية ونبذة من التاودي، وقرأ على الشيخ محمد البنا الدردير على المختصر الخليلي وأول الخرشي عليه ومختصر السعد والمحلي وقطعة من الأشموني، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة نبذة من المكودي، وقرأ على الشيخ محمد معاوية الأشموني والمطول ونبذة من صدر الشريعةوالشفأن وقرأ على الشيخ محمد النيفر القطر وميارة والكفاية ومختصر السعد والكبرى والقطب، وقرأ على الشيخ حمودة بن عاشور الفاكهي ومختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد نصف الخرشي وغالب المطول، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة تأليفه النحوي، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي نبذة من الموطأن وروى قطعة من صحيح البخاري. وبرع براعة كلية وجلس للإقراء بجامع الزيتونة في ربيع الأول سنة1266 ست وستين، وتقدم للرتبة الثانية في التدريس بجامع الزيتونة في أول ربيع سنة 1268 ثمان وستين ومائتين وألف، وتقدم للرتبة الأولى في أواسط المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف، فزان الخطة بعلمه. وهو آية الله في الذكاء والتحقيق وله تحصيل زائد في العلوم العقلية وعلى الخصوص علم المنطق وآداب البحث فقد أدركت جامع الزيتونة وهوالذي يشار إليه فيهمأن ومهما تصدى للفهم أتى بالعجب العجاب من التحرير والتدقيق مع حسن الإلقاء وتتبع أمهات المسائل، وقد سخر الله له حديد الصعب فلان بين يديه مع كمال براعة في تصوير المعقول محسوساً بحيث إنه له قدرة على توصيل الطالبين ليست لغيره وبذلك انتفع عليه خلق كثير، وفيه محاسن أخلاق. وقد كان فيمن انتخب للمجالس القانونية عند وضعها سنة1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، فولي عضواً في المجلس الأكبر وكاهية رئيس المجلس الاعتيادي، وظهرت له البراعة في التطبيق على كليات القوانين. ولما علمت الدولة منه في ذلك العهد انتخبته وكيلاً عنها في الدعوى التي أقامتها على الوزير مصطفى خزنة دار عند عزله ولما انتهت النازلة المذكورة قدمته لخطة قضاء باردو المعمور في الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف. وقد قرأت عليه شرح الشيخ خالد على مقدمة ابن هشام ونبذة من لامية الأفعال والمغني لابن هشام بحواشيه إلى أن بلغنا إلى الجمل التي لا محل لها من الإعراب قراءة تحقيق وبحث، ولم بلغنا فيه إلى حيث لا يتحمل المقام البحث لبساطة المسائل ورأى تلامذته كفاءة لأن يتمموا ما بقي بأنفسهم آذاننا بمطالعة ما بقي، وابتدأنا المطول على التلخيص بحواشيه مع متابعة المفتاح وشروحه في بعض المسائل ولازمنا معه الجري على ذلك النمط إلى مبحث التعريف باللام من المسند إليه، وقرأت عليه القطب على لشمسية بحواشي السيد وعبد الحكيم إلى بحث الموجهات فمنعني مانع من الحضور إلى أواخره فحضرت ختمه وابتدأنا شرح السيد على المواقف بحواشيه بطلب منا وقد خاطبته في ذلك بقولي: [الطويل] إذا ما بدت في الموقف الصعب وقفة ... من المدره الراقي سماء المعارف فأنت الذي ترقى به وقفة لكي ... تجاوز بعد القطب صعب المواقف وقد حضرت الدرس المذكور إلى أن أتممنا الموقف الأول وأتينأن على غالب الموقف الثاني باعتناء الطالب والمطلوب حيث أن الكتاب المذكور منذ عصور لم يكن له حديث بين علماء تونس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وفي أثناء ذلك تقدم الشيخ لخطة النيابة عن مستشار الدولة في نظارة الدروس والمدرسين بجامع الزيتونة ند وضع الترتيب الصادقي وأفرغ جهده المذكورة في المحرم سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف. (ثم ولي رئيساً للقسم التونسي من المجلس المختلط العقاري ثم صار مفتياً مالكياً وبقي على خطته) . الشيخ سالم بو حاجب هو شيخنا أبو النجاة سالم بن عمر بن سالم البنبلي من ذرية الشيخ سيدي شبشوب دفين القرية المذكورة، وجدهم الذي ينتهي إليه نسبهم هو الشيخ سيدي مهذب دفين عمل صفاقس وكانوا يلقبون بالمهذبين إلا أن أحد الذرية أصيب في بعض الفتن بضرب على حاجبه فلقب بأبي حاجب وجرى هذا اللقب على أبنائه، وكان جد صاحب الترجمة سميه بلغ من العمر إلى مائة وإحدى عشرة سنة وتوفي والده أبو حفص عمر سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف بعد أن بلغ من العمر إلى ست وخمسين سنة. وكانت ولادة صاحب الترجمة سنة 1244ثلاث أو أربع وأربعين ومائتين وألف وقدم إلى تونس على حين بلوغه السبع سنين فقرأ القرآن ودخل لقراءة العلم بجامع الزيتونة في شوال سنة 1259 تسع وخمسين فجود القرآن، العظيم برواية حفص على الشيخ حسين البارودي، وقرأ عليه الجحربي على إيساغوجي، وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي ىالأزهرية من باب نائب الفاعل وميارة على نظم ابن عاشر، وقرأ على الشيخ محمد بن مصطفى البارودي الشذور، وقرأ على الشيخ محمد بن محمود الأزهرية والمقدمة وقطعة من السوسي ونبذة من الدرة، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر الجربي على إيساغوجي ونبذة من التاودي بحواشيه وروى عن الشفأن وقرأ على الشيخ على الحاج عبد الله الدراجي نبذة من الكفاية، وقرأ تعلى الشيخ علي العفيف القطر والفاكهي والتوضيح والمحلي، وقرأ على الشيخ الطيب الرياحي نبذة من المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ أحمد عاشور شرح خالد للآجرومية والأزهرية والمقدمة والفاكهي والشنشوري على الرحبية والعقيدة السنوسية ونبذة من القلصادي، وقرأ على الشيخ محمد البنا المكودي على الألفية والخبيصي على الته ذيب والمحلي على جع الجوامع والدرير على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد الخضار الألفية بشرح ابن عقيل ثم بشرح الأشموني ولامية الأفعال والقاضي على إيساغوجي ونبذة من الهمزية بشرح ابن حجر ونبذة من البردة وقطعة من الخرشي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نحو النصف الأول ن المطول والشفا وتفسير القاضي البيضاوي إلى نهاية سورة البقرة، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب قطعة من الكفاية، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور متن الألفية وأواخر الأشموني وأول مختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد معاوية نحو الثلث من شرح المكودي على الألفية وشرح الأشموني عليها إلى أن وصل إلى باب الوقف فشغلته خطة الفتيا فأذن صاحب الترجمة بأن يجلس مجلسه ويتمم الكتاب المذكور لمن حضر معه فصنع ما أمره به وأت إقراءه لتلامذة آخر، وقرأ عليه قسمي البيان والبديع من المطول وقطعة من صدر الشريعة ونبذة من السعد على العقائد النسفية والشفا دراية، وقرأ على الشيخ محمد نم ملوكة شرحه الصغير على الدرة ورسالته المنطقية، وقرأ على الشيخ عمر بن سودة الفاسي عند اجتيازه بتونس لطريق الحج الممختصر الخليلي من البيوع إلى الرهن، وقرأ على الشيخ محمد بن سامة قطعة من التاودي على العاصمية، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي دروساً من الموطأ بداره. وقد تصدى على صغر سنه للإقراء، أخبرني أن أول من قرأ عليع رجل كان له بمنزلة الشيخ ينظر دروسه بين يديه غير أنه تغيب مدة ولما رجع طل منه أن يقرئه فن البيان له درس العصام على السمرقندية بمقصورة جامع الزيتونة، وبعد ذلك تصدى للإقراء على أبده أسلوب من التحرير والتحقيق وفي سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف طلب التقدم لخطة التدريس وتعرض للمناظرة وكتب في ذلك لشيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بيرم الراب بقوله: [الطويل] سماء العلا يقفو بها بدرُك الأسنى ... بنحو نجوم من مناقبك الحسنى ومنك لرأس الفخر تاج مكلل ... بكلية في المجد لم يتلها استثنا همام غدا في جبهة الدهر غرة ... فأضحى للفظ المجد والسؤدد له ذهنا له همم رد الدراري سناؤها ... كما رد شهبا لو تحاكي له ذهنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 له كلم رد الغواني جمالها ... وحكم وفكر شبها الوزن والمزنا مضارعه المنفي جزما وأمره ... كماضي الظبا من حلمه اتخذ الفنا تحيرت الألباب فيه فإن بدا ... بطلعته خلت السماء له مغنى وأحسبه في الأرض طوراً وإنما ... أرى أبحر الآداب في يده اليمنى براعته تحيي رسوم بلاغة ... بها إذا بحور النفس من مدها تقنى مدى إن جرى في الجبح طرس مدادها ... دخاناً ترى شهد المعاني به تجنى وتؤثر آذان الأديب صريرها ... على بلبل غنى على روضة غنا إذا حام بازُ الفكر منه هدى إلى ... طيور بليغ القول يستفرغ الوكنا فتنسي إذا قساً وسحبان إذا متى ... تشنف بها أذنا نهبت به الحزنا إلى ما تحلى من سجابا كريمة ... عديد نجوم الأفق من قدرها أدنى تحوك على تبر الوفا وتواضعا ... تحاكي يد التقوى بأخلاقه الحسنى فلو كان في ريح الصبا لين طبعه ... لحرك من غصن النقا الناعم اللدنا وإذْ يتهادى رافلاً في سكينة ... فأي الجبال الشم لم يستحل عهنا فخل بمضمار الحجا قد ألمع ... ومن بيرمي المجد قد أحرز الأسنى فشمس حجاه نسخ ظل ضلالة ... فكيف ظلام الظلم إن حوله جنا إذا ما جرى الإنصاف في روض حكمه ... جنت المنى رغماً لمن رام دهرنا فمهما نضا عن وجه حكم وحكمة ... لثاما نفى عن أهلها الغبن والغينا يحرر من شهد البيان رقيعة ... لفكر غدا حر المعاني له فنا لئن طاعني فيه القريض لقد رأى ... شيوع المزايا عن مديحي قد أغنى وإلا فكل الميل عن منهج الهدى ... عنان الهدى يوماً إلى غيره يثنى وأحرى بمن يثنى العنان بقرع با ... ب عدله أن لا ينثني يقرع السنا بقيت ملاذ العلم ما قال منصف ... بإنجاز وعد خير خاتمة حسنى قبلة هذا الخطاب، محراب جامع الآداب، وباب مدين الآداب سابي أبكار المعاني سيوف أقلامه، وساحر أفكار الدهاة بليف كلامه، عمدة قواعد المنقول، وأساسها مشكاة غوامض المعقول، الرابع في حلبة المحامد البيرمية مجلياً غذ لم يزل على منصة الصواب والإنصاف متجليأن وبسائر أصناف لكمالات متحلياً: [الخفيف] من غدا فضله مؤملَ شملي ... ومجيري إذ لات حين مجيرُ يا أخا العدل والبصيرة والفضل ... ألم يأن ذلك التحريرُ؟ لا أى المنع مثله المنح إلا ... منك بعد الذي إليه المصير ثم إني لا أدعي الاستحقاق إلا بالنسبة للمنازع، ولا للمقاومة إلا للمناضل المقارع، فمن للبغاث، بالاستنسار، وللخفاش بالإبصار في النهار، هذا وإني أتحدى مناظري بأيسر شيء عندي، وهي ورقات كتبها عند النظر بالتماس بعض الإخوان، وهذا كله بتوهيمي كثرة القادحين، وإلا فمثلك لا تخفي عليه سيمات الراحمين ثم إني: [الخفيف] خف حمل المديح مني اتكالا ... إن حمل الوداد منك ثقيل وإذا الحب كان أهل امتداح ... فسواء كثيره والقليل وعند بلوغ ذلك الشيخ الإسلام كتب له بقوله: [الخفيف] يا أبا حاجب حجبت عن السو ... ء ولا شاب شمسك التكوير قد أتتني خريدة منك تجلى ... لا يؤدي حقوقها التعبير فأتني أفق البلاغة مصقو ... لا وزهر الألفاظ فيه تسير من عهدنا الطروس تستخرج الد ... رو أن السلاف منها عصير وإذا سحر بابل إذ حوته ... في فؤادي من فعله تأثير ذكرتني معاهداً كنت أغشا ... ها وروض الشباب غض نضير ثم إني أقول فيك ويأتي ... طبق ما قلت مني التحرير أنت عندي ذو رتبة من حواها ... فهو بالارتقا حقيق جدير غير أن ألأمور تأتي على ما ... خطَّ في لوحة العليم الخبير سالمتْ سالماً صروف الليالي ... ورأينا وهو بدر منير فأجابه الشيخ عن هذه القصيدة مقرظاً وشاكراً بقوله: [الخفيف] أسموط الجمان هذي السطور؟ ... أحقاق الشذور هاذي السطور؟ أمن الدن حبرها أم من الد ... ر أم الندرُّ لفظها المقصور؟ أيمن الله لا يعاد لها الل ... هم إلا لنضار فهو نظير إن تصغ من نفيس تبر بترب ... ما تعاطي استبرق وحرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 أم دخان المداد في جبح طرس ... أري لفظ مدى اليراع تشير تفصم الشهد ضمها لعرا الكر ... ب على القلب لاه ذا التأثير فبإرسال ذي الكتيبة أصبح ... ت وجيش السلولي منصور ولئن حازت البلاغة طرا ... لأبوها محقق تحرير إن يجل باز فكره في المعاني ... فسواء بغاثها والنسور ولمجري البها إذا ما تلاها ... سجد الفكر إذا دعاه الشمور يا ربيع العفاة من كل فج ... لك في هالة البيارم نور فعلى ما يتيمة أنت فيه ... حبس المجد والفخار النجور دمت كهفاً لنا وعن كل سوء ... لك من محكم المفصل سور وقد ناظر في طلب خطة التدريس بمبحث باب التنازع من الأشموني، وتقدم للمشيخة المدرسة المرجانية، وللرتبة الأولى من التدريس بجامع الزيتونة فزانها وصار فخراً لهأن إذ هو آية الله في الذكاء والتحصيل بلغ إلى رتبة عالية في العلوم وعلى الخصوص المعاني والبيان والنحو والصرف واللغة فإنه إمام جميعها الذي تقدم لمحرابهأن واقتدى به في كل من عاصره أما الآداب، فإنه رئيس الشعراء والكتاب، وقد نسج على منوال غريب، من أبدع الأساليب، فابتكر المعاني الغرر، وأرسل قلمه ينثر فرائد الدرر، ونظم ما يبعث بالفكر. فهو علامة فاضل حسن الأخلاق بعيد عن التكلف كريم النفس لطيف المفاكهة المحاضرة، ودروسه ومجالسه رياض بديعة الأساليب والأعراض. كتب حاشية على شرح الأشموني لألفي ابن مالك استدرك فيا مباح كثيرة على الصبان، وكتب أختاماً على أواخر كتب عديدة وأحاديث مهمة وزان أواخرها من بدائع إنشائه بأدعية رائقة. وتقدم كاتباً ثانياً في الكمسيون المالي عند تنظيمه بالدولة التونسية وقد خرج مسافراً في خدمة الدولة عدة مرات، أولها خرج عضواً في الجمعية التي عينتها المجالس القانونية لتفقد المملكة التونسية فخرج مفتشاً عن أحوال الرعايا وأحكام مجالس تلك الجهات في رجب سنة 79 تسع وسبعين، ثم لما سافر إلى إسلامبول صحبة الوزير خير الدين في ربط علاقة الدولة التونسية مع الدولة العلية العثمانية، وكان سفره في جمادى الثانية سنة 1288 ثمان وثمانين ومائتين وألف، وقدم للصدر الأعظم قصيدته التي قال في مطلعها: [الطويل] صدارة محمود بها لله قد منَّا=على دولة الإسلام فهي بها تهنا وكان رجوعه إلى الحاضرة رابع شهر رمضان المعظم ثم سافر إلى بلد قرنة من عمل إيطاليا صحبة الوزير حسين المكلف بالمعارف العمومية في محاسبة قابض أموال الدولة التونسية، وكان خروجه أواسط جمادى الأولى سنة 1290 تسعين، فأقام هنالك خمس سنين قدم فيها لتونس مرات عديدة لعيادة أهله وبنيه وقد كتب رحلة تشد إليها الرحال، وتقصر دون الوصول إلى ما أودعه فيها أعناق الآمال، حكى فيها ما شاهده في سفره وطريقه، وما استخرجه من فكره وتحقيقه، وفي نتاج لعمران السري مما لم يصل إلى إدراكه أبو عبد الله بن خلدون والعذر له إذ أنه لم ير ما بلغ إليه العمران، في هذا الزمان، مباديه تجاوزت غايات ما كان يراه هو في تلك العصور الغابرة، وقد أدرك غايات هاته العصور صاحب الترجمة أب النجاة فأودع ذلك في رحلته الغريبة لوضع والنسج، مع ما تضمنته من اللطائف والمحاسن. وفي أثناء سفره ولي مشيخة المدرسة المنتصرية بعد وفاة الشيخ علي العفيف، ولما رجع ختم بها على الطريقة المألوفة في شهر رمضان، ولازم دروسه التي هي رياض العلوم بجامع الزيتونة وهو أول مدرس أقرأ بجامع الزيتونة نظم ابن عاصم الأصولي وتصدى لشرحه شرحاً بديعاً أوقفني منه على قطعة فرأيت كثيراً من التحقيق والتحرير، يعجز الجهابذة النحارير، سلك فيها مسلكاً يعز على أمثاله، من أهل العلم ورجاله، بحيث يقتصر على شرح مسألة الناظم وتوجيه ما اعتمده أو ما حكاه من الخلافات بتحرير عزيز وفصاحة عبارة من غير خروج عما تكلم عليه النظام إلا ما هو من استظهاراته التي يحتاج إليها الأصولي احتياجاً كلياً جزاه الله خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وقد قرأت عليه شرح الشيخ على مقدمة ابن هشام وشذور الذهب له وشرح الدمنهوري على السمرقندية وشرح الباجوي عليها ونبذة من شرح الباجوري على السلم وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك إلى باب التأنيث والفن الأول وغالب الفن الثاني من المطول على التخليض حتى بلغ إلى مبحث الاستعارة التمثيلية، جميع ذلك قراءة بحث وتحقيق، كتبت عنها فيها كثيراً من استظهاراته وتحريراته التي تعز على غيره. وقد استجزته فأجازني إجازة بديعة مطلقة هذا نصها: اللهم إنا نستجيز من فضلك الواسع مدداً نتأهل به لما نحن منه بأمكنة شواسيع، ونستقدرك على شكر شكرك، وأني لنا بذلك والشكر نفسه نعمة من عندك، ونستمطر السحب التي لا يزال ينبجس عنها ينبوع عين الرحمة، الواسطة ف إيصال كل نعمة، صلوات تتناول صحبه الهداة وآله وكل من نشج على منواله علمه وأعماله. أما بعد فمن المعلوم البداهي، أن استفادة العلوم بالتلقي الشفاهي، هي الوسيلة الوحيدة للترقي في مراتب المكاشفة العرفانية والشفاهي، ولا جرم أن حصول العلم على هذا النوال يتضمن المأذونية في بثه بدلالة الحال، حيث أن من أعز الآمال نمو النتائج المقصودة من الأعمال، وأن تتسع دوائر مثوباتها المسترسلة، ولا يشاب اتصال البنوة، الروحية فيها بقطع سلسله، بيد أنه لحفظ النسب الروحي المشار إليه، وتعيين ن كان وصول النقول العرفانية على يديه، ترى أمثالنا من التلاميذ، يلحون في طلب الإجازة من جناب السادة الأساتيذ، وقد حصلنا بفضل الله منهم شكر الله سهيهم ورضي عنهم على الإذن بالتقدم للإفادة، غير منفطمين بذلك عن أن نرتضع من مجالسهم أخلاف الاستفادة، حسبما صدر ذلك من بعضهم بالقول وبعضهم بالكتابة، ومن بعضهم بالإعلان في مجلس درسه بأن نجلس مجلسه ونتمم كتابه، إلى غير ذلك من دائل أثمار غرسهم، لا زالت تنهل عليه غمائم رغسهم، وكان ممن انتدى درس العبد، وبذل في اقتناص فرائد وموادها غاية المواظبة والكد، الأديب الأنجب، اليلمعي المهذب، المتيقن منه بفضل الله أن يحي من معارف جده سميه ما تنوسي، الشيخ سيدي محمد ابن أبي النورسيدي عثمان ابن المنعم سيدي محمد ابن العلامة قاضي القضاة سيدي محمد السنوسي، رحم الله السلف، وسركد الخير في الخلف، فالتمس المذكور من الحقير الإجازة، يالا لما أهليته به حقيقة مجازه، ولما لم يسعني إلا إجابة مطلبه، الذي بلوغ إبانه يأبى المطل به، قلت ومن بحر ربي أغتر المقول، مقتبساً إنارة طرف الإيجاب من طرق القبول، قد أجزت للمذكور جميع منقولاتي ومحفوظاتي العلمية من أءي فن كانت إجاوىة عامة مطلقة، كما أخذت مثل ذلك عن شيخنا العلامة الفقيه لمربي أبي حفص تعمر ابن الشيخ سيدي الطالب ابن سيدي محمد المعروف بابن سودة حافظ المذهب المالكي قدس لله روحه وهو عن شيخه الشريف سيدي عبد السلام الأزمي وهو عن عم شيخنا المذكور البدر الكامل العالم العامل الشيخ سيدي محمد الاودي ذي التآلف المفيدة، والمزايا العديدة، وهو عن شيخ المشايخ سيدي أحمد بن المبارك تلميذ الشيخ سيدي عبد العزيز صاحب الإبريز رضي الله عنهم أجمعين ثم لنوص المجاز المذكور بمثل ما أوصيت به من تقوى الله سبحانه والنصح للمتعلمين، وأن يثبت في النقل ويكبح بكف الرواية والأناة زمام العل وأن لا ينسى العبد من دعواته الصالحة والله المسؤول أن يجعل مقاصد الجميع ناجحه، وموازين أعمالنا القاصرة بحسن النيات راجحة، بحرمة رحمة الأنام عليه أزكى الصلاة والسلام، كتبه خديم العلم الشريف وأهله سالم بو حاجب في صفر الخبر سنة 1290 تسعي ومائتين وألف. الشيخ محمد بيرم هو شيخنا أب عبد الله محمد بن مصطفى بن محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن حسين بن بيرم كان والده من وجهاء البلد، فاضلأن كريمأن عزيز النفس، عالي الهمة، قدمه صهره المشير الثاني المولى محمد باشا باي لخطة الاحتساب العام وجعل له ختماً نقش عليه من شعر الشيخ قابادو قوله: [المجتث] بالمصطفى رب وفق ... سميه لصوابه البيرمي نجارا ... أدم ثوابَ احتسابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وقد زان الخطة المذكورة ونهض لها نهوض الزعيم، وهجر في خدمتها لذائذ الراحة والنعيم، وأظهر من عز شأنهأن وفخامة بنيانهأن ما عظمت بها صولتها فامتدت على أوقاف سائر جهات المملكة وتصرفات سائر حكام البلاد ومتعلقات أحوال أهاليها امتداداً بلغ العناية جميع مدة دولة المشير الثاني. وبعد ذلك لم يساعده طبع الزمان على ما رامه وقد توفي سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف. وأما صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1256 سنة وخمسني ومائتين وألف وتربى في حجر المعارف والبذاخة البيرمية، وقرأ القرآن برواية حفص على الإمام المجود الشيخ محمد بن أحمد البارودي مؤلف رسالة مخارج الحروف، وقرأ على والده متن الآجرومية وشيئاً من علم الحساب، وقرأ على ابن عمه الشيخ أحمد بن محمد بن حميدة بن حسين بيرم الآجرومية وشرح الشيخ خالد عليها ومتن القطر وشرحه ومتن السمرقندية وشرح العصام عليها والمكودي على الألفية ونبذة من القدروي وغالب صدر الشريعة بشرح الوقاية والشمائل، وقرأ على الشيخ أحمد بن نصر والشيخ خالد والأزهرية والقطر والمكودي وشرحي الدمنهوري والعصام على السمرقندية والمدمة والفاكهي وإيساغوجي وشرح القاضي عليه ونبذة من الأشموني ومتن التلخيص، وقرأ على الشيخ الأمين بن الخوجة غالب الدر المختار، وقرأ على الشيخ صالح بن فرحات نبذة من الشيخ خالد ونبذة من الفاكهي، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد العقيدة السنوسية والأشموني والسعد وقطعة من المطول ومقدمة القسطلاني وقرأ على الشيخ محمود قابادو شرح القاضي على إيساغوجي ونبذة من التلويح ودروساً من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ أحمد عاشور السلم، وقرأ على الشيخ علي العفيف القطر والتصريح والأشموني والسعد ونبذة من المحلي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح القاضي على إيساغوجي والدمنهوري، وقرأ على عم جده الشيخ مصطفى بيرم شرح المنار البيرمي، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور نبذة من المحلي ونبذة من الأبي على مسلم، وقرأ على الشيخ محمد معاوية صدر الشريعة. وتصدى للإقراء ببراعة كلية، وتدم لخطتي التدريس في الرتبة الثانية ثم الأولى بجامع الزيتونة في الخامس عشر من رجب سنة 1284 أربع وثمانين وتقدم لمشيخة المدرسة العنقية، وختم فيها الأختام المهمة المشتملة على تحرير عزيز المسائل، وقد حضر الأمير بعضها وقد كانت تلك الدروس مجالاً لعلماء العصر وقد اعتاد إعادة تدريس تلك الأختام في بيت ولي العهد الأمير علي باشا وهو يجل مكانته ويواصله عنها كل سنة. وهو عالم فاضل، عالي الهمة، عزيز النفس، رفيع الحسب، شاعر ناثر ينظم رقيق الشعر، وله جيد النثر، وقلمه في الإرسال في غاية الفصاحة، فصيح اللسان، حين المحاضرة بغاية الأناة والسكينة، خبير بالسياسات الشرعية والوقتية، ثبت وقور حسن التدبير، واسع الإدارة طولب للخطة الشرعية عدة مرات فامتنع من ذلك متعللاً بضعف بدنه، مرض بأعصاب معدته وسافر لمداواتها عدة مرات لباريس وإيطاليا. قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لرياسة جمعية الأوقاف في صفر الخير سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف، فأحسن تنظيمها وإجراءهأن وأجرى العمل بتراتيبهأن فنفع البلاد لحفظ الأوقاف وعندما رأت الدولة كفاءته للخدمات السياسية انتفعت بحسن تدبيره في مهمات الخدمة وأدخلته مدخل رجال السياسة، وتدم لنظارة المطبعة، وأحيا ذكرها في البلاد وتوظف عضواً في عموم الجمعيات التي انعقدت لوضع التراتيب العلمية وغيرهأن وبإشارته كان إنشاء المستشفى الصادقي فباشر إقامته وألف قانونه ورى على رأيه ولذلك واصله الأمير يوم فتحه بصندوق مرصع باسم الأمير في الموكب العام هنالك، غير أنه بعد ذلك أنكر عليه ميله للشورى وحب للمجالس وإن اضطر لتوظيفه عضواً في مجلس الدولة الشوري مه ما هو عليه من المرض الملازم له الذي يضطره في كثير من لأحيان إلى إٌقامة بداره، حتى أنه لما أعياه التداوي حضراً وسفراً ألح في طلب الإذن له بالاستعفاء من سائر الخدمات التي بين يديه لما يجده من ألم المرض ولم تسعفه الدولة بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ثم إن في سفره الأخير كان كلفه الوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل بمأمورية سرية من مصالح البلاد مع دولة فرنسا لم يثبت عليها الوزير وتنكر له عند إيابه حتى خاف عاقبة ذلك وأشير عليه بعود السفر فطلب الإذن بالتوجه لبيت الله الحرام بعد قدومه من باريس بما دون الشعر فخرج لحج بيت الله الحرام في العشرين من شوال سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف، وحج بيت الله الحرام وزار الروضة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة والسلام، ثم زار بيت المقدس وقد بلغ خبر وصوله بيروت الشام يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم سنة 1297 سبع وتسعين. وحيث بقيت خططه شاغرة أعطاه الدولة جميه ما بيده من الوظائف السياسية، ثم تنقل من الشام إلى دار الخلافة العثمانية إسلامبول، ونزل هنالك منزل التعظيم والتكريم، وانضم إليه كبر أبنائه فأدخله المكتب السلطاني، ثم رجع إلى إيطاليا فأقام بها مدة ومعه ولده سميه المذكور وأقام للتعليم بأحد مكاتب سويسرة، ثم ألحق به بقية أبنائه وأهله وأتباعهم، واجتمع جميعهم بالآستانة العلية وأواخر ذي الحجة الحرام سنة 1298 ثمان وتسعين، وند ذلك اسقط من وظيفة التدريس بجامع الزيتونة وتقدم لوظيفته غيره. وقد اشتغل في سفره المذكور بتأليف رحلة جليلة استوعب فيها جميع الكرة الأرضية، وقد كان ابتدأ في تأليفها منذ رجوعه من سفر باريس وأطلعني على ما كتبه في مقدمتها غذ ذاك من التعرض لشأن السفر وحكمته وحممه البلاد الإفرنجية واستوعب المسألة بأنقال المفسرين والفقهاء، وأتي في ذلك على ما يعز على غيره وجرى على ذلكم المهيع في الاستيعاب والإطناب بما يشف عن قوة عارضته وكمال تضلعه في السياسة، ثم عند سفري الأستانة في شهر رمضان سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف أطلعني على ما أنجز من أجزائها وسماها صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار وبسط فيها القول على جغرافية جميع ممالك المعمور وتواريخهأن وشرح جميع ما وقف عليه في أسفاره شرحاً شافياً وعند ذكره لسفره من تونس بسط القول فيها على طبيعة المملكة وعمرانها وسياستها ودولها وأحوال ملوكها ووزرائها وعوائدها وجميع متعلقاتهأن وذكر في آخرها ما آل إليه أمر سياستها مما لم يبق مع تفصيله لقائل، وبذلك كان استيفاء تاريخ البلاد بما تضمنته تلك الخلاصة على أكمل وجه جزاه الله خيراً. كما وقفت له على رسالة جليلة في أحوال بلدان الإسلام وحكم الهجرة أبدع فيها ما شاء وأقام بالأستانة إلى أن شق عليه مرضه العصبي الذي سافر به إلى باريس أولاً وأشار عليه الأطباء بالتنقل إلى البلاد الحارة فخرج بأهله وأبنائه رابع محرم من عام اثنتين وثلاثمائة وألف، وتوجه إلى مصر فاختارها للإقامة ولم يبق عليه السلطان جرايته التي أجراهأن وعوضه منها الخديوي أحسن جراية وفتح المطبعة الإعلامية ونشر صحيفة الإعلام بها إلى أن ولي حاكماً بالجالس المختلطة. وقد كنت قرأت عليه قطعة من مختصر السعد على متن التلخيص بحواشيه كدنا به نتمم الفن الأول وقد استجزته فأجازني إجازة مطلقة عامة ثم خص فيها سنده المحمدي في صحيح البخاري وهذا نصها: الحمد لله المتفضل بالعلم تفضيلأن والمسير لسبل التعليم لينال اللاحق رتبة السابق تكميلأن المودع بعجيب حكمته في مكنون حلقته فنوناً تندهش العقول لأكثرها إجلالاً وتبجيلاً مع أنها لم تحط الإبنزرٍ منها "وما أوتيتيم من العلم إلا قليلاً" والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على مدينة العلوم ومظهر إجلالها ومفيض بحار الشريعة حتى ارتوت الطباع بمشارع حرامها وحلالهأن سيدنا ومولانا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أما بعد فطالما انطلقت ألسن الفصحاء بما للسند من الفضيلة، ورتعت أقلامهم في رياض كمالاته الجليلة، ولعمري إنه جدير بالعناية، إذ لا وثوق بعلون من ليس له منه كفاية، وقد أحاط خبراً بكليته وعلى قدر أهميته أخي في الله ذو السجايا الحسان، الساحب لذيل براعته وبلاغته على بدائع سحبان، المتفنن في علمي المعقول والمنقول، والمحصل على الكفاية بما يؤهله إلى الوصول، الشيخ السيد محمد السنوسي، ازال بحراً لإزالة الجهالة بمراهم معارفه يوسي فلذلك كان حريصاً على ثبات سنده وحفظ سياج روايته ومعتمده، وحيث كانت لي معه سابقية محاورة في فنون عقليه، ومشاركة في مسائل نقليه، تشبه درسو العلماء في الخيال، ولتشبه بالكرام من الكمال، رام انخراطي في جميع مشائخه الأعلام بإجازته فيما لي من البضاعة التي لا تستحق إتعاب الأقلام ولما كان المفضل من الدثار العلمي اسماً بما يؤول لهاتيك المزيه، ومحرضاً على تحصيل كمالتها الجليه، لم أجد مندوحة عن إسعافه، وموافقة لكمال أوصافه، فأجزت له بمالي من الباضعة في العلوم، وما أرويه من النثور والمنظوم، بما لي فيها من السند عن مشايخي الأعلام الجامعين لعلوم فضائل الإسلام، وأخصص سندي في الحديث الشريف لاسيما جامع الإمام البخاري ذي القدر المنيف، فأقول: إني قد أجزت له روايته عني بما أرويه عن شيخي فخر الإعلام، ودرة تاج الكرام، مولانا الشيخ سيدي محمد الشريف، عن شيخه العلامة سيدي محمد بيرم الرابع، عن شيخه العلامة سيدي محمد بن الشامي، عن شيخه محمد بن عبد السلام الناصري، عن محمد بن حسن الجنوي الحسني التطوان عن محمد بن عبد العزيز الحنفي، عن محمد الباهلي، عن الواعظ محمد بن الحجار، عن النجم حمد بن محمد الغيطي، عن الإمام محمد بن محمد الدلجي، عن القطب محمد الحظيري، عن الجاد المجتهد محمد المراغي، عن فخر الأئمة، عن محمد القرنشندي عن محمد بن بليج بن كيكدي عن محمد بن مسلم الخيلي عن الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي، عن عمه الشيخ محمد بن عبد الواحد، عن لشيخ محمد بن أبي القاسم القطان، عن الشيخ محمد بن محمد المفيد، عن محمد بن طاهر المقدسي، عن محمد بن عبد الواحد البزار، عن الزكي محمد بن محمد بن عثمان عن محمد بن مكي، عن محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وعنهم أجمعين، وعنا بهم، ونوصي لابني في هذا المنزع العظيم بأني أذكره بأن ملاك المر كله التقوى والسلوك على الصراط المستقيم وكتب في جمادى الثانية سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف. وقد توفي في حلوان من البلاد المصرية صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين من ربيع سنة 1307 سبع وثلاثمائة وألف. الشيخ الطبيب السبعي هو شيخنا أبو عبد محمد الطيب السبعي، قرأ على فحول العلماء منهم الشيخ محمدج بيرم الثالث قرأ عليه البخيصي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر والشيخ محمد بن عاشور والشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ إبراهيم الرياحي، وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى منتصف رج سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف عوضاً عن الشيخ عبد الله الدراجي لسكناه بالمدينة المنورة وتقدم خطيباً وإماماً بجامع سبحان الله، وهو عالم موثق خير عفيف تقي مواظب على دروسه حسن الإلقاء متواضع. حضرت له في بعض الختام بالجامع المذكور في رمضان، وقرأت عليه شرح القاضي على إيساغوجي جزاه الله عنا أحسن الجزاء آمين. الشيخ محمد العربي المازوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 هو شيخنا أبو عبد الله محمد العربي بن محمد بن أحمد بن محمد الخربي بن هني الصالحي شهر المازوني ولد بقرية الصوالح قرب بلدة مازونة من عمل وهران عمل الجزائر سنة 1231 ثلاثية أو إحدى وثلاثين ومائتين وألف، وقرأ هنالك القرآن العظيم وتوفي عنه والده فتركه صغيراً وكان يوصيه بقراءة العلم فرغب بعد والده في قراءته، وقرأ هنالك على علماء تلك الجهة، فقرأ على الشيخ معروف بن عبد القادر الآجرومية وشيئاً من التوحيد والمختصر الخليلي ثم استغرق وفي قراءة المختصر المذكور على الشيخ محمد بن الطيب الماوني والشيخ محمد بن هني والشيخ عيسى بن محمد والشيخ محمد بن القاضي والشيخ المدياني بن عريوش والشيخ محمد بن الصامت والشيخ الجيلاني بن المكي والشيخ عبد القادر بن محمد والشيخ الصامت بن محمد. ولما تضلع في الفقه قدم إلى حارضة تونس في طلب المعقول سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف بعد أن حج بين الله الحرام، فقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الذور والألفية والمحلي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح المكودي على ألألفية كما قرأه على الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ محمد معاوية، وقرأ الأشموني على الشيخ محمد الخضار والشيخ محمد البايلي والشيخ أحمد اشور والشيخ الطاهر بن عاشور، وقرأ على الشيخ صالح النيفر مختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد بو عصيدة السلم، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد إيساغوجي وقرأ على الشيخ محمد النيفر الكبرى وقطعة من تفسير القاضي البيضاوي. وتصدى للإقراء بجامع الزيتونة إلى أن ارتقى للرتبة الأولى في خطة التدريس منتصف رجب الأصب سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وهو عالم فقيه محصل نقي العرض يميل إلى الخمول أعرف الناس بما أودع في المختصر الخليلي، سالك في إقرائه مسلك المغاربة بطرح الاشتغال بالماحثة مع الاقتصار على ما به الحاجة وبسبب ذلك تيسر له أن ختم المختصر وغيره عدة مرات، وانتفع به في الفقه كثير من علماء جامع الزيتونة أطال الله عمره وأدام ذكره. وقد قرأت عليه شرح الشيخ ميرة على ابن عاشر بالشرح الصغير مع وما به الحاجة بالشرح الكبير وختمناه وقرأت عليه نبذة من الدردير، وكان ختماً شرح الشيخ ميارة في العشرين من شعبان الأكرم سنة 1284 أربه وثمانين ومائتين وألف. الشيخ عثمان الشامخ هو شيخنا أبو النور عثمان بن أحمد بن إبراهيم الشامخ صاحب والده في حجة سنة 1272 اثنتين ومائتين وألف، فأدى فريضة الحج، وتوفي بوادي فاطمة وبه دفن، ورجع ولده إلى تونس في طلب العلم الشريف بجامع الزيتونة، وقرأ الشيخ خالد على الآجرومية على الشيخ العربي الشريف والشيخ محمد الشنقيطي والشيخ محمد المازري بن الطاهر بن مسعود والشيخ أحمد بن نصر، وقرأ على الشيخ محمد بن خوجة الأزهرية، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور الأزهرية ونبذة من المحلي، وقرأ على الشيخ أحمد عاشور الشيخ خالد الفاكهي والدرة، وقرأ على الشيخ الحاج العربي المازوني الدرير على المختصر الخليل، وقرأ على الشيخ على العفيف الآجرومية والأزهرية والقطر والمكودي والأشموني ونبذة من الشفا والبخاري ومسلم، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد القطر وقطعة من الخرشي، وقرأ على الشيخ صالح النيفر قطعة من الألفية، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح قطعة من التاودي على العاصمية، وقرأ على الشيخ محمد البنا من شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نبذة من الخرشي وقطعة من تفسير القاضي البيضاوي. وتصدى للإقراء فأفاد بحسن نقله وتقدم لخطة التدريس في لرتبة الثانية بمناظرة مع من نازعه عد وفاة المدرس الشيخ علي السقانجي، ثم تقدم المرتبة الأولى بجامع الزيتونة منتصف رجب الأصب سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وهو عالم متواضع نقالة يحضر جميع دروسه بدون استصحاب كراس ويملي جميع ما ينظره حباً متراكباً قد قرأت عليه شرح القطر لابن هشام بحاشية الشريق قطعة وافرة من شرح الأشموني على الألفية بحاشية الصبان والنصف الأول من كفاية الطالب بحاشية الصعيدي ونبذة من ابن تركي على العشماوية بحاشية الصفتي وقطعة وافرة من شرح الدردير على المختصر الخليلي بحاشية الدسوقي من غير إغفال شيء من الحواشي المذكورة، وقد اعتاد قراءة المولد النبوي عند باب الشفا بجامع الزيتونة ليلة المولد من كل سنة، وتقدم مدرساً بالمدرسة الصادقي فانتفعت به تلامذتها وفاقوا على غيرهم في مواكب الامتحانات السنوية بسبب الجهد الذي استعمله في إيصالهم وكانت ولايته تدريس المدرسة المذكورة عند فتحها لفي ذي الحجة الحرام سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف وقد توفي يوم السبت الثاني من المحرم سنة ست وثلاثمائة وألف عليه رحمة الله. الشيخ مصطفى رضوان هو شيخنا أب النخبة مصطفى بن علي بن مصطفى رضوان الحنفي السوسي ولد سنة 1245 خمس وأربعين ومائتين وألف وهشت نفسه إلى طلب العلم الشريف ببلده سوسة من عمل الشاحل فقرأ بها على الشيخ صالح الغنوشي باش مفتي بلده شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والقطر والمكودي وذات البراهين وابن المسبح في الفقه المالكي ورسالة الشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد ونبذة من تفسير المخازن وقرأ على الشيخ عبد الله العدة المفني بها المقدمة وإيساغوجي وقرأ على الشيخ الحاج علي السقا القاضي بها المقدمة والسمرقندية والحطاب على الورقات ونبذة من المخحتصر الخليل وقرأ على الشيخ عبد الصمد براوي المفتي بها المكودي على الألفية وشرح نظم ابن غانم في المواقيت وقرأ على الشيخ محمود بن الحاج علي إمام جامع الحنفية بها شرح الشيخ حسن الشرنبلالي في الفقه الحنفي قرأ على لعدل الشيخ أحمد عمار شرح السوسي في الفلك وقرا على العل الشيخ سالم المولا شرح القطر. وقد إلى تونس لاستكمال تعلمه سنة 1260 ستين ومائتين وألف، فقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة رسالته المنطقية، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة رسالته المنطقية، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الفاكهي والألفية والأشموني عليها والخبيصي، وقرأ على الشيخ محمود قابادو ونبذة من كشف لنقاب في علم الحساب، وقرا على الشيخ مصطفى بيرم القاضي على إيساغوجي وملا مسكين على الكنز ومختصر السعد، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور قطعة من المطول، وقرا على الشيخ محمد بن الخوجة قطعة من المكودي وقطعة من الدرر، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نبذة من مختصر السعد والمطول. وظهرت عليه براعة كلية فاستكتبه عامل بلده الوزير محمد خزنة دار سنة 1266 ست وستين فأقام في بلده في الخدمة المذكورة إلى أن عزل مخدومه من العمل المذكور، ومع ذلك توفي والده في شوال سنة 1280 ثماني ومائتين وألف فقدم إلى تونس بقصد الإقامة والاستيطان بها سنة 1281 إحدى وثمانين واسترزق برشح قلمه يجلس للإشهاد واقرأ بعض دروس بجامع الزيتونة، وتقدم للرتبة الأولى وكتب بذلك لشيخ الإسلام أبي عبد الله محمد معاوية بقوله: [الطويل] أيا شيخ إسلام وعمدة أمة ... مقامك أعلى من مديحي وأعظمُ معاوية الأستاذ هل أنت منصف ... فلا العلم مغبون ولا الحق يكتم عهدناك قبل اليوم تشكو تأخراً ... وتقديم من لا يعلمون وتعلم أعيذك من أن أشتكي منك مثلها ... فعدلك يأباها ورأيك أحزم فلا تجعلني واو عمرو وإنني ... أنا الميم والأيام أفلح أعلم هديتم إلى رشد فخذ قول منصف ... سلي إن جهلت الناس عني وعنهم وإني على علياك أيثني مسلماً ... ولست لمن قدمتموه أسلم وقد ناظر بمبحث لو ن السعد وجلي في ذلك المضمار وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى أواسط ربيع الثاني سنة 1286 ست وثمانين ومائتين وألف، فزان الخطة بدروسه الرائقة، وتحريراته الفائقة. وهو عالم دراكة، ثابت الفهم، محقق، فصيح الإلقاء لطيف المحاضرة أكتب منشيء فصيح القلم نظماً ونثراً وإرسالاً حيسوبي بالإدارة، وعارف بتقلبات الأمور مهذب الأخلاق مواظب على دروسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ولما رجع مخدومه إلى عمله استصحبه وسافر إلى بلده ورجع أواخر جمادى الثانية سنة 1287 سبع وثمانين، ولم يزل في بر مخدومه قائماً بحقوق نعمته عليه، وقد وقفت على قطعة شعرية من نظمه يخاطب بها مخدومه المذكورة في واقعة حال وهي قوله: [الوافر] أمولى نعمتي وعماد مجدي ... ويا سندي يا كل المرام لد نفشت بحرثك شاء معز ... حكمت بحبسها عند اللآم وأحسبها أخيتي من رضاع ... وسن جميعنا دون الفطام تنادي وهي تعرب عن شكاة ... تكاد تبين عنها بالكلام تحنَّن صبيتي باتوا عطاشا ... ورحالا لدى ذوي التقام حليلته تنادي باسم نوء ... ونوء المعز يفضي للحمام وممن أوتي الأحكام طفلاً ... سليمانٌ من الرسل الكرام قضى في الحراث أن الشاء تبقى ... زماناً في المقيل بلا دوام فهذا ما قضاه ولم يفرق ... وإن القول ما قالت حذام فإن تعدل فحكمك ف ماض ... وإن تحلم تفدى بالأنام ومن عناية مخدومه به مع تأهله تقدم لرئاسة كتاب الكومسيون المالي عند تربيته لما للدولة من التوثق به وبمعارفه. وبمباشرة ما لزمه من الأعمال اختلن مواظبته على التدريس مدة بجامع الزيتونة لكنه بعد أن أجرى الأمور التي بين يديه مجراها حضر وقت العشي للتدريس بجامع الزيتونة وواظب على ذلك بما عهد منه انتفع عليه كثيرون وقد قرأت عليه مغني اللبيب لابن هشام بحاشية الدسوقي وحواش أخر بقدر الحاجة قراءة تحقيق إلى أن كدنا نختم النصف منه فعاقنا عارض رجوعه للكتابة واشتغاله بها وقرأت عليه قبل ذلك عند بداءة إقرائه بجامع الزيتونة دروساً في آخر الجربي على إيساغوجي وشرح القطر لابن هشام وفي يوم ختمه سرد دعاءً لطيفاً نصه: اللهم إنك أجريت بتوفيقك عزيمتنا حتى استوت على جودي هذا الموضوع، وأصلحت في العمل نيتنا فاجعله من العمل الصالح المرفوع. اللهم إن مؤلفنا قد بل غلة الصادي بسواكب قطره، فعل بالأهاصيب الثواءي مناكب بره، وقد حققت رجاءه في النفع بهذا الكتاب، وجعلت دعاءه بذلك من الدعاء المستجاب، فحقق اللهم ما أمله منك في دعائه لنفسه، واجعل أنسه بالنظر إليك وأفسح له في أنسه، واغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا ولكل من علق على هذا الموضوع حرفاً وأوضح من مسائله ما لعله يخفى، وخر لنا في استئناف العمل، وحتى نكون كالحال المرتحل، فإنك ذو الطول والقوة والحول لا يعنت من أعنته، ولا يعان من أعنته والحمد لله أولاً وآخراً. الشيخ محمد النجار هو شيخنا أبو عبد الله محمد بن عثمان النجار بن محمد بن علي بن أحمد الشريف الأصل، ويقال إن قدومهم إلى تونس كان من الشام، وولده والده سنة 1198 ثمان وتسعين ومائة وألف، وقرأ الفقه والفرائض على الشيخ أحمد بوحريص واشتغل بالرياضيات فبرع فيها واختص بمزية الهندسة والهيئة والفلك، واستغل بصناعة التجارة وكان موضع خدمته يأتيه الواردون لتعلم العلوم المذكورة، وقد رسم عدة رخامات للمواقيت بتونس وغيرها مشهورة الصحة وقد توفي في شعبان الأكرم سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وكانت ولادة صاحب الترجمة ثاني عشر شعبان الأكرم سنة 1253 ثلاث وخمسين ومائتين وألف، فنشأ نشأة صالحة وتعلقت باكتساب العلوم فدخل جامع الزيتونة في طلب العلم سنة 1270 سبعين، وجود القرآن برواية قالون على الشيخ أحمد الماطري والشيخ البشير التواتي، وقرأ على الشيخ صالح رفيفة شرح الشيخ خالد على الآجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن مالك الجزيري قطعة من الخزرجية، وقرأ على الشيخ أحمد بن نصر شرح ميارة علي ابن عاشر، وقرأ على الشيخ محمد النفطي قطعة من الدردير ونبذة من البخاري، وقرا على الشيخ محمد بن عصيدة الملوي على السلم ونبذة من البخاري، وقرأ على الشيخ محمد بو عصيدة الملوي على السلم ونبذة من الصغرى، وقرأ على الشيخ الحاج عبد الله الدراجي نبذة من البيقونة في مصطلح الحديث ونبذة من الحطاب على الورقات وميارة على ابن عاشر ونبذة من الكفاية ونبذة من الدردير وقطعاً من الجامع الصغير والبخاري ومسلم، وقرأ على الشيخ سالم بو حاج المقدمة ولامية الأفعال والشذور والنصف الثاني من الأشموني وقطعة من الدردير ولامية الزقاق وقطعة من العضد، وقرأ على الشيخ عمر بن الشيخ نبذاً من القطر والسلم والكفاية والقطب والمطول، وقرأ على الشيخ الطاهر النيفر شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والملالي على السنوسية ونبذة من المكودي على الألفية، وقرأ على الشيخ صالح بن فرحات نحو النصف من الأشموني ونبذة من الخزرجية ونبذة من السعد، وقرأ على الشيخ علي العفيف نبذاً من القطر والكفاية والألفية والأشموني عليها ومختصر السعد والشيخ عبد الباقي على المختصر الخليل والموطأ والبخاري، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد نبذاً من الأشموني وفني المعاني والبيان من مختصر السعد والمحلي إلى مسالك العلة، وقرأ على خاله الشيخ محمود قابادو لشريف القاضي على إيساغوجي ورسالة متي زاده والملوي على السمرقندية ونبذا من الدرير وعقائد العضد والمواقف والطب، وقرأ على الشيخ صالح النيفر قطعاً من الألفية والأشموني وشرح الشيخ عبد السلام على الجوهرة والدردير ومختصر السعد والموطأ والشفا وختم عليه التنقيح للقرافي، وقرأ على الشيخ أحمد بن الخوجة قطعاً من القطب وصدر الشريعة والمطول إلى الإنشاء، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح نبذاً من الشذور والتاودي وتفسير الجلالين، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور نبذاً من المحلى ومسلم، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نبذاً من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد البنا ألفية العراقي وقطعاً من مختصر السعد والخرشي والشيخ عبد الباقي والشفأن قرأ على الشيخ محمد بن مبوكة نبذة من الدرة. وتصدى للتدريس في جامع الزيتونة في شهر رجب الأصب سنة 1284 أربع وثمانين بعد أن طل المناظرة وتهياً لها وآل الأمر إلى تسليم المنازعين له. ثم ارتقى إلى الرتبة الأولى في التدريس بعد نزاع كادت ن تبطل به المناظرة فولي في الثاني والعشرين من رجب سنة سبع وثمانين ومائتين وألف فكان زينة لجامع الزيتونة. وهو عالم محصل متضلع بعلوم شتى أدرك أكثرها بالمطالعة التي لازمها يحاضر بالمسائل العلمية كثيراً مواظب على التدريس يشتغل جميع اليوم بالدروس المختلفة العلوم والمراتب محب للبحث في أثناء الدرس محرر فاضل عالي الهمة لم يحمله الإقلال على ما لا يليق بشرف علمه استرزق بقلم الإشهاد وقنع بما يسر له رب العباد، استغنى بحلية العلم عن التباهي بالحلل، وعد في شرخ شبابه ممن فاز بالعلم والعمل. كتب في العمليات كثيرأن وتقدم لمشيخة مقام الشيخ سيدي ابن عروس يروي به صحيح البخاري ويختم كل سنة في شهر رمضان أختاماً يملؤها علماً ومع ذلك يجعلها مجالاً لبحث الحاضرين. وقد قرأت عليه نبذة من شرح الشيخ خالد الآجرومية ونبذة من الحطاب على الورقات وغالب ىالوسطى للشيخ السنوسي ودرساً من شرح القصيد في علم الكلام ونحو الثلث الأول من شرح الدردير على المختصر الخليلي بحاشية الدسوقي ومقدمة ىالتلخيص بشرح المطول وحواشيه وما يستتبعه ذلك قراءة تحقيق وبحث، جزاه الله أحسن الجزاء (وقد ولي الفتيا في المحرم 132) . الشيخ أحمد الورتتاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 هو شيخنا أبو العباس أحمد بن سالم بن إبراهيم الورتتاني نسبة إلى سدي ورتتان من عم الكاف، وكان جده للأب من ثقاة عدول وطنه، وجده للأم هو الشيخ محمود بن الضيف قرأ العلم بتونس وقسنطينة وتوفي بالقصير في طريق الحج. وقد ولد صاحب الترجمة سنة 1246 ست وأربعين ومائتين وألف، وابتدأ قراءة القرآن على والده ثم قدم لتونس لقراءة العلم فنزل بزاوية الشيخ ابن ملوكة خارج باب القرجاني ثم قرأ القرآن وجوده على الشيخ محمد بم الرايس إلى نافع، وقرأ على الشيخ محمد النفطي الآجرومية والأزهرية، وقرأ على الشيخ محمد الأبي القطر والمكودي، وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والألفية، وقرأ على الشيخ صالح بن فرحات القاضي على إيساغوجي وقطعة من الأشموني ونبذة من المطول، وقرأ على الشيخ علي العفيف الكفاية، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد السمرقندية، وقرأ على الشيخ صالح النيفر مختصر لسعد، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح الآجرومية والأزهرية والقطر والكفاية والشفأن وقرأ على الشيخ محمد عباس أواخر الأشموني، وقرأ على الشيخ الحاج عد الله الدراجي ميارة على ابن عاشر والخرشي على المخترص الخليلي، وقرأ على الشيخ أحمد القروي قطعة من الكفاية، وقرأ على الشيخ العربي الشريف شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والدرة وقرأ على الشيخ أحمد عاشور القطر،÷ وقرا على الشيخ الطاهر بن عاشور القطر بحاشيته عليه والشذور ودروساً من المطول، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر نبذة من الشفأن وقرأ على الشيخ فرج التميمي الآجرومية وقرأ على الشيخ محمد القبايلي السمرقندية، وقرأ على الشيخ محمد البنا قطعة من الدردير والمحلي والتاودي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب نبذة من شرح الشيخ خالد والكفاية، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور نبذة من الفاكهي وقطعة من الهمزية، وقرأ على الشيخ محمد النيفر القطر وميارة على ابن عاشر وقطعة من الكفاية ونبذة من صحيح البخاري، وقرأ على الشيخ ابن ملوكة آجروميته والفن الأول من الدرة ورسالته المنطقية وقرأ على الشيخ محمد معاوية الصغرى والأشموني إلى الوقف والأربعين النووية الشفأن وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة نبذة من الشفا. وقد تضلع من المعقول والمنقول وأعمل الفكر في المطالعة وحج بيت الله الحرام سنة 1270 سبعين، واجتمع بمصر بالشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ الأزهري واستجازهما فأجازا له إجازة مطلقة. ثم تخيره الشيخ أبو عبد الله محمد بن ملوكة لإقراء ابناء الوزير مصطفى خزنة دار في شعبان الأكرم سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين وألف فأقام على تأديبهم وتعليمهم أربع عشرة سنة إلى أن استكملوا ما يحتاجون إليه. وفي سنة خمس وثمانين ومائتين وألف تصدى للإقراء بجامع الزيتونة بغاية التحرير والتحري والمواظبة ثم تدم لخطة التدريس في الرتبة الأولى ابتداءً بجامع الزيتونة بدون مناظرة بعد أن دعي إليها وأجاب فسلم له منازعوه فوليها في أواخر رجب الأصب سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين وألف، فزانه بعلمه وتثبته. وهو عالم ثقة فاضل ومتثبت منصف من تلامذته محرر مواظب على دروسه في المعقول والمنقول له قدم راسخ في التاريخ واللغة مع تثبت كلي في الضبط والتحري فيه مع ما تحلى به من الصيانة والديانة والأمانة والمحافظة على مروءته والوقوف على الحدود وحسن السكينة. وقد قرأت عليه شرح المختصر السنوسي في المنطق بحاشيته وشرح الحطاب على الورقات بحاشية الهدة وسرد جميع حاشية ابن قاسم على المحلي على الورقات وشرح العصام على السمرقندية بحاشية الصبان وشرح تنقيح الأصول للقافي وشرح المصنف على الدرة وقطعة من الشرح الصغير عليها للشيخ ابن ملوكه وشرح التاودي على العاصمية ونبذة من القاضي على الخزرجية وقطعة من المحلى على جمع الجوامع بحاشيتي البناني والكمال وما تحتاج إليه من الآيات البينات. وتقدم عضواً في جمعية الأوقاف وخرج لتفقد أحوال الساحل والقيروان ثم صار كاهية لرئيسها وباشر الخدمة مدة سفر الرئيس بوقوفه عند الحدود والتحري ما أمكنه. سافر إلى الآستانة صحبة حريم الوزير خير الدين بطلبه حيث سبق منه لإقراء بناته وعند وصوله بهم وجده يومئذٍ تقدم صدراً أعظم بالدولة العلية العثمانية فأقام مدة وجيزة ورجع على أحسن حالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ثم قدمه المشير للرئاسة على جمعية الأوقاف ونظارة المطبعة صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من المحرم سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف، وثم خرجت من يده النظارة أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف استمر على رئاسة الجمعية ووكلته الدولة على مطالبها من الوزير مصطفى بن إسماعيل. ثم انتخبه ألأهالي في وكلائهم على مطالبهم من الدولة في 19 جمادى الثانية وبسبب ذلك أخرته لدولة من وظائفه سابع شعبان ثم ردت إليه وظيفة التدريس وظهر عليه فساد في الجم فمرض بشهدة في جبل المنار وتوفي ليلة السادس عشر من ذي الحجة ودفن بجوار الشيخ محمد بن ملوكة بالقرجاني يوم الجمعة سنة 1302 اثنتين وثلاثمائة وألف أسف لفقده جميع الناس وسمت آيات صدقه وفضله الذي اعتز به الجميع، عاملة الله برضوانه، وأسكنه فسيح جنانه. الشيخ محمد البناني هو شينا أب عبد الله محمد بن حسن البناني الحرايري، قرأ بجامع الزيتونة على الشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد البنا والشيخ أحمد عاشور علي العفيف وغيرهم، واشتغل بصناعة أبيه مع التدريس بجامع الزيتونة، وهو متفنن مواظب عى دروسه، قرأت عليه الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والقطر والجربي على إيساغوجي وكفاية الطالب على الرسالة والأربعية النووية وتنبذة من الشفأن وتقدم مدرساً في الرتبة الثانية بجامع الزيتونة في رجب سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف. الشيخ محمد التواتي هو شيخنا أبو عبد محمد بن محمد السعيد الشريف التواتي، ولد ببجاية وقرأ بها الفقه والتوحيد ثم قدم إلى توني فقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ أحمد الأبي والشيخ محمد معاوية والشيخ محمد بن ملوكة. وتصدى لتعليم القرآن العظيم مدة مديدة قرأ عليه فيها والدي وقرأ بجمع الزيتونة وتقدم به مدرساً لإقامة درس المنعمة عزيزة عثمانة وقد أدركته يقري شرح الشيخ ميارة على ابن عاشر فقرأت عليه إلى أن ختمناه وكان مع ذلك يسرد علينا ما يحيله الشارح على الشرح الكبير وقرأت عليه نبذة من الآجرومية. وقد بلغ من العمر إلى تسعين سنة، وتوفي أواسط ربيع الثاني سنة 1295 خمس وتسعي ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين. الشيخ إبراهيم السنوسي هو عم والدي شيخنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السنوسي ولد سنة 1236 ست وثلاثين ومائتين وألف وقرأ على والده الشيخ محمد السنوسي وعلى عمه الشيخ أحمد زروق والشيخ محمد البنا والشيخ محمد بن عاشور والشيخ محمد النيفر وغيرهم غير أنه لم يأخذ حظه من العلم واشتغل بالإشهاد وله مشاركة في النحو والفقه والمنط والبيان وله معرفة كلية بصناعة التوثيق وقد ألف في ذلك كتاباً سكاه المسلك الرائق في صفة كتب الوثائق. وهو خير غر كريم وتصدى للإقراء بجامع الزيتونة فأقرأ كتب المبادئ وهو أول أستاذ جلست بين يديه في شوال سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف بجامع الزيتونة فقرأت عليه الآجرومية سلكتين وشرح الشيخ خالد عليها ونبذة من كفاية الطالب على الرسالة بمسجد الفال ونبذة من شرح ابن تركي على العشماروية بحاشية الصفتي. وقد كان زيد له مولود سما البشير فعاجلته المنية واتفق أن كانت ولادته ليلة تمام البدر فهنأه بذلك العالم الشاعر لشيخ سالم بو حاجب بقوله: [مخلع البسيط] وليلة أقبل البشير ... كاس الهنا بيننا يدير بها نظيرين قد رأينا ... سبحان من لا له نظير بدران نارا معاً فقلنا ... من غير ذا ذاك لا يغير بدا سما المجد منك إبرا ... هيم السنوسي مستنير فأبشر ينحل شريف نجل ... تاريخه: (جاءك البشير) الشيخ أحمد بن الطاهر الكنجي هو مؤدبي أبو العباس أحمد بن الطاهر بن الكنجي الخياري، قرأت على والده بمكتب القريب من دريبة الدولاتلي القرآن العظيم، وكان حافظاً فاضلاً خيراً عليه سمة الصالحين، حج بيت الله حرا وتوفي في شعبان الأكرم سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف، وقام في المكتب ولده أبو العباس فختمت على يده وأعدت إلى أن تجاوزت النصف وكنت نكرر عليه جميع ما حفظته بين يديه وهو شاب فاضل عفيف جرى على طريقة والده في حسن التأديب وقد توفي عليه رحمة الله سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف. النتيجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 اعلم أن نتيجة الشيء ما يتولد عنه ويحصل منه ونتيجة كل شيء بحسبه فنتيجة الوالد ولده ونتيجة العلماء تآليفهم ومن يتخرج عليهم في العلوم وبمقتضى ذلك فإني نذكر هنا ما يسره لله لرب الجليل لعبده الحقير الذليل شاكراً الله على ما أنعمه به علي من شرف أصولي آبائي الكرام، وما شملني به من النعم الجسام فيما أخذته عن العلماء الأعلام مما تبصرت به وأدركت عجزي وقصوري فيما أخذته عن العلماء الأعلام مما تبصرت به وأدركن وعجزي وقصوري وضعف قوتي وجهلي مؤملاً من الرب الكريم أن يفيض علي وعلى ذريتي عوارف فتحه المبين وفضله الذي لا يختص به أحد من العالمين إنه جواد رحيم ذو فضل عظي لا إله إلا هو. كانت ولادة العبد الضعيف قبل منتصف ليلة الأربعاء بساعة وربع ليلة الثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف وكانت الليلة راجعة للرابع من شهر اشتنبر الأعجمي وكان الطابع الجوزاء في الدرجة التاسعة والعشرين والصاحب عطارد. وقرأت القرآن لعظيم إلى أن ختمه وأعدته مع ملازمة التكرار بما يقرب من الثلاثة أرباع ثم أخذت ي قراءة العلم الشريف سنة 1280 ثمانين فقرأت بجامع الزيتونة عل الشيوخ الذين سبق ذكرهم، جودت القرآن العظيم براوية حفص، وقرأت شرح القاضي على الجزرية في علم التجويد، وقرأت ن النحو والصرف الآجرومية وسيدي خالد والأزهرية والقطر والشذور والمقدمة ولامية الأفعال ونبذة من الفاكهي وزالأفية بشرح المكودي وشرح الأشموني والمغني ودروساً من التصريح الجميع بحواشيها قراءة تحقيق وبحث، وقرأت من الفقه شرح العشماوية وميارة على ابن عاشر وكفاية الطالب والدردير على المختصر الخليلي وقطعة متن الخرشي والتاودي على العاصمية، ومن الفرائض والحساب الشنشوري عل الرحبية والدرة البيضاء ونبذة من القلصادي، ومن التوحيد شرح الباجوري على الجوهرة والوسطى ودروساً من الكبرى وقطعة من السعد على العقائد النسفية وقطعة من المواقف، ومن ألأصول الحطاب على الورقات والمحلي عليها وتنقيح القرافي وقطعة من المحلي على جمع الجوامع ومن المنطق الجربي على إيساغوجي والقاضي عليه وشرح الباجوري على السلم وشرح المختصر للشيخ السنوسي والقطب على الشمسية، ومن آداب البحث والوضع نبذة من رسالتي آداب البحث والوضع شرح مسعود الروقي ومن البيان الدمنهوري على السمرقندية والباجوري والملوي والعصام بحواشيه عليها ومختصر لسعد والمطول وجميع الكتب المذكورة بحواشيها قراءة بحث وتحقيق وقرأت الحديث نبذة من الشمائل والشفا وقطعة من الموطأ وغالب صحيح البخاري الجميع دراية ومن التفسير نبذة من تفسير القاضي البيضاوي بحواشي السيلكوتي. ومع كثرة الكتب التي يسر الله لي بمنه لم نكتب في أختامها شيئاً من الشعر في مدح المشايخ على عادة الجامع ما كنت مستغلاً به في المثابرة على القراءة خاصة غير أني لما ختمت شرح الشنشوري على الرحبية في الفرائض بحواشي الباجوري أنشأت في ذلك الختم قصيدة من التشريع لما وقع في الكتاب المذكور من الازدحام وهي قولي: [الكامل] مسكُ الختام برحب روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا أحسن به إذا فاح في روض العلو ... م الأخضر وبكل زهر عرفا فغدت به الأزهار مائسة بنو ... ار أنور كالرّيم حين تعطّفا وغصونها زينت بوردٍ للمنى ... والعبهري والك فيه تألفّا ودنا قطةفه بعدما شاكى الحمى ... عن مبسر وبدا لدينا مشرفا وغدا به نهر البشائر هاملا ... كالكوثر وبه الجنان تزخرفا وترنحت أطياره فوق الربا ... بالمزهر وبه الحزين قد اشتفى وبه الظبا بين الربا كل سبا ... بتبختر فربا الحبا بعد الجفا ماست وقد رفعت ذوائب فاحم ... عن مقمر فبدا الجمان وما اختفي فبدا الندى من فوق ورد تحت خالٍ ... عنبري كالليل عن شفق ضفا وبثغرها ثلج على خمر تح ... ل بسكر فلقد تسامت مرشفا فشفى الضما ضرب اللمى مذ همى ... من جوهر ظلمٌ نما منه الشفا وافت تهزّ معاطفا مثل الكثي ... ب الأعفر ولقد بان مهفهفا ورمت قلوب العاشقين بسهم لح ... ظٍ أحور وبه الفؤاد تحترفا فرأيت ما قد فات في شرح الشبا ... ب بمحجر لا القصد منه تخلفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فدع الملام ومن أتاك يشي لجا ... كالمنذر ودع العذول معنفا واحضر نديمي لي بوجهٍ ضاحك ... مستبشر ولدي كن كن مسعفا وأدر على روح المعنى راحة ... إذ يجتري عماله قد كلفا فاقرع لنا ثغر الكؤوس وأملها ... بالمسكر وأدر علي القرقفا وامزج بها راح امتداح الأطهر اب ... ن الأطهر الفذ الإمام أبي الصفا الطاهر الحبر الهمام ابن الهما ... م النيفري نجل الرسول المصطفى هو عالم الدنيا ومؤنس تونسٍ ... بتصدر مذ كلنا قد سرهفا ذا وارث المختار خير الخلق خي ... ر مبشر مذ قد علا واستشرقا بالفرض والتعصيب حاز مفاخراً ... وبها حري من فخر والده اقتفى فعلاه من حسب ومن نسب نق ... ي أطهر فلذا بدا مستطرفاً فلأنه طود العلوم وعلمه ... كالطيسر من سحيه قد أوكفا ذو نجدة وصيانة وديانة ... لم تنكر.. يوماً طففا ذو همة ومروءة طابت بطي ... ب العنصر وبها غدا متعففا ذو نجدة وكياسة تكسو الحلى ... للمشتري والبدر منه قد اختفى فلأنه شهم خضم أروعٌ ... ذو مفخر وبه الكمال تعرفا بدرسناه بشمس والده الإما ... م الأشهر من فضله قد كفكفا فلكم هدى من ضب في ديور عل ... م أكبر فأضاءه حين أزدفا ولكم بكفه كف من ولى بعد ... وة قسور فأباد منه مزيفا فهو الذي قد حاز خصل السبق غي ... ر مقصر لا للفخار تكلجفا فبدا بتاج جلالة ومهابة ... في المنظر والقلب من ذا أرجفا ولقد تطلع غرة في وجه هـ ... ذي الأعصر والدهر منه تشرفا فاحضر بفيض دروسه تلقاه بح ... ر الجوهر وترى به ذا الغنيفا فتراه في أشبال جامته إذاً ... كغضنفر بزئير علم قد هفا يحظى الذين أتوه من فيض العطا ... ء الأوفر كم من خلائق أتحفا ومتى تأمل في العويص يحله بالزمجر ويريك عضباً مرهفاً ويريك من تحريره عذب السّلا ... ف المسكر وبكاسه كم أرشفا بفصاحة قسية قد زانها ... بتدبر وبدا بها متصرفا فقد امتطى من علمه متن الجيا ... د الضمر وبذاك أمره زهلفا وغدا يجول بحزمه في رحب رو ... ض مثمر بفوائد وبها شفى وبدا لنا في طلعة مثل الصبا ... ح المسفر فغدا لدينا شندقا هذا الفخار فلا فخار بغيره ... للمخبر فبه العلا ما استحشفا يا من فخاره عنه قد قصرت دعا ... ئم قيصر فغدا به مستشرقا فمتى تعد ذوو العلا أنت المع ... د بخنصر مذ قد سموت تشرفا مذا يقول شوعير في مدحكم ... إذ يجتري لو كل ليله أتلفا وبفضلكم صار الخطيب يجول فو ... ق المنبر مذ قام يتلو المصحفا لكنني نقحت ما لم يشتبه ... بالمفتري در المديح وقد صفا قد فزت منك بمحض ود للفؤا ... د موفر وبدا فخارك نفنفا فأقبل إليك فريدة ما حاكها ... من معشر لو في المدائح أسرفا حيتك من نجل فتي فاق شع ... ر البحتري مذ مدح علياك اقتفى خلصتها مما انتخبت بدرسكم ... من جوهر فأتى لديك مؤلفا ولقد سحرت بها النهى فأفخر بها ... في المعشر فالأصل منكم أتحفا وكسوتها بمديحكم حسنا ببر ... د عبقري ووشاحها قد أوصفا فتطاولت وغدت تجر بكم ذيو ... ل المفخر تيهاً لديك بلا خفا وأتتك رغماً للحسود وقرة ... للمذكر من أهل ود ما جفا كميا تهنيكم بختم مثل مس ... ك أذفر في القطر ضاع معرفا فاهنا وفز وامنح ودم وابقى بقا ... ء الأدهر تسدي حياء أوطفا لا زلت بحراً والمديح كما السحا ... ب الممطر وثناك يملأ كل فا ما قام يلهج مادح صلى على ... ذي المغفر خير البرايا المصطفى صلى الإله عليه ما تم المرا ... د بمحشر حتى يؤم الموقفا وقرظ هاته القصيدة أخوانا الشيخ محمد جعيط على شاكلتها بقوله: [الكامل] برزت فتمنيت المدنفا ... بالمنظر وبحوزها حاز الشفا رفعت قناع جمالها فبدت لنا ... كالمشتري أو بدرتم قد صفا فخرت بطلعتها فصارت غرة ... للأعصر ولحسنها البدر اختفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 سحرت بلب القول لب ذوي النهى ... من معشر وبها تبدي مدنفا أهدت سلاف النظم في لفظ لها ... كالجوهر تحكي النسيم تلطفا حملت لواء بلاغة وفصاحة ... بالأسطر فكمالها لن يوصفا طابت ثنا لا بالتصنع بل بطي ... ب العنصر فنفى بذاك تكلفا سمحت بكحل مدادها مذ قد حكى ... للعنبر لوناً وريحاً قد هفا وسقت كؤوس رحقيها فأبيح شر ... ب المسكر ناديت هات القرقفا أزرت بكل فريدة أعظم بها ... أن تزدري وبلفظها كن منصفاً فضت ختام رحقيها روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا فتكت محاسنها بنا لما أتت ... في عسكر وأتت بقلبي مهدفا سيف العيون وحاجب وفم همى ... بالكوثر تزداد منه تزخرفا ماست لفتكي فاستجرت بربها ... في المعشر فلأن شيمته الوفا أعني أبا عبد الإله ومن سما ... في الأعصر ولعنصر المجد اقتفى من صار سحر القول منه سجية ... وبها حري والطبع لن يتخلفا سحر البيان مع البديع يبثه ... بالأسطر ويزيد فيه تألفا يأتي بسحر القول دون توقف ... وتفكر ويصوغ دراً قد صفا فهو المقدم بالقريض وعده ... بالخنصر وبه لعمري صنفا خذها إليك فرائداً جاءت لكم ... بتبختر وبها الجمال تكلفا رويت فنون السحر عما صغته ... من جوهر ينفي عليه تعسفا فلذا سمت بجمال قول عن مقا ... ل البحتري وبفضلها قد أنصفا قد صغتها تاجاً لهامة خودكم ... في الأدهر فلحسنها البدر اختفى فأقبل إليك من المقل قليل ها ... ذي الأسطر واصفح على ما زيفا لا زلت ترفل في السعادة والمقا ... م لأكبر وتصوغ دراً أتحفا وقرظها أيضاً على شاكلتها الشيخ أحمد جمال الدين بقوله: [الكامل] نبه جفونك قد وا ساقي السلا ... فة بكر مترشفا لترى الشفا وامزج بها ماء اللمى ما فاق طع ... م السكر واسق النديم المسعفا ما بين أزهار الربا والعود طو ... ع منقر وبه المحب تعطفا والغيد ترفع في بديع شمائل ... بتبختر كل البدور لها اختفى ترنو بطرف فاتك من تحت قو ... س موتر ولها الحشاشة مهدفا وردت ورود خدودها من تحت آ ... س عبهر والصبر مني قد عفا يا صاح ذا زمن الخلاعة والنزا ... هة فاحضر ومن المعنف قد صفا فاخلع عذارك واغتنم فرص اللذا ... ذة وانثر متغنياً ما شنفا مسك الختام برحب روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا طلعت تتيه تطاولا في خير نش ... ر عنبري تذر المعنى منصفا وتجر ذيل مطارف من سندس ... ي عبقري تلقي المحب من الشفا سحرت عقول ذوي النهى فغدت حلي ... ف تفكر بسلاسة لن توصفا كالراح معنى إذ تفيض جواهرا ... كالممطر أو كالعقود تألفا وبدت تدير مدائحاً في ذي الإما ... م الأطهر نسل الرسول المصطفى ما صاغها ذو نهية ولو الحرير ... ي الحري بل لو غدا متكلفا ما هو إلا من سما وبكل شه ... م يزدري وأبان فضله كل فا بحر من الآداب يبدو أنه ... كالسكر يبري السقيم المدنفا من قد تسمى بالسنوسي كالسنوسي ... المزهر بل مثله لن يعرفا ابدعت في نظم نضيد مثل سل ... ك الجوهر أو كالرياض تزخرفا يشدو فيفعل بالنهي فعل الشرا ... ب المسكر لكنه لن ينزفا وبك الأواخر قد تفاخر أيت ذك ... ر البحتري وبك الصفاء قد اختفى وبكل فن قد بدا متقايضا ... كالأبحر وغدا ذكاؤه مرهفا قد نلت كل حميدة من ذا الجنا ... ب الأطهر ولك الفخار بلا خفا دم مثل ما ترضى فأنت أديب ك ... ل الأعصر وغدا زمانك مسعفا وبقيت غيثاً واكفا ولك الفدا ... بمعشر ذي المفاخر مرشفا متبسماً ثغر السعادة فائحاً ... كالعنبر أو مسك ختم قد هفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وفي شوال سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين وألف ألزمني الشيخ أبو عبد الله محمد البارودي للإقراء بجامع الزيتونة، وأول كتاب ختمه بالإقراء بجامع الزيتونة شرح الشيخ ميرة على ابن عاشر وعند ختمه حضر كثير من مشايخي وإخواني وقد كتبت على خاتمة النظم المذكور كتابة لطيفة. وفي جمادى الأولى سنة 1290 تسعين ومائتين وألف استدعاني شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد معاوية للمناظرة بتذكرة فكتبت عليها قولي: [المتقارب] أناظر لا أختشي يومها ... فعوني الإله بنصري كفيل وأدخل في جمعهم صادحا ... بحسبي إلهي ونعم الوكيل وتعين للمناظرة مبحث المطلق والمقيد من جمع الجوامع بشرح المحلي فكتبت على المبحث المذكور ورقات وحضرت بالجامع لإلقائها فإذا بالمنازع تأخر عن الحضور وبسبب ذلك تأخرت المناظرة. ولما قرأت مختصر السعد بجماع الزيتونة كتبت في مبحث الملكة رسالة في المقولات العشر. ولما قرأت علم العروض نظمت فيه أرجوزة جمعت فها فنون العروض والقوافي والقريض أحسن جمع قلت في فاتحتها: [الرجز] بدرة الحمد نظامي نبتدي ... مصلباً على الرسول الأحمد ولما كان مقتضى ترتيب جامع الزيتونة أن التآليف الجديدة يلزم أن تعرض على المشائخ النظار وهم شيخنا الإسلام والقاضيان عرضتها عليهم فكتبوا عليها بخط الإسلام من إنشائه ما نصه: الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وأتباعه، قد وقفت على هاته الأرجوزة الوجيزة، التي أثبتت لمنشئها براعته وتبريزه، وكانت لسلالتها ونصاعة ألفاظها وصحة معانيها واستقامة أغراضهأن سهلة التناول لمداوليها وحفاظها فأجزنا للطالبين منفعة واجتناء ثمار فوائدها من مجانيها. كتبه أفقر العباد لربه تعالى أحمد بن الخوجة كان الله له في شهر رجب من عام 1297 سبعة وتسعين ومائتين وألف ومن الفقير إلى ربه محمد الشاذلي بن صالح أصلح الله حال الجميع آمين ومن الفقير إلى ربه محمد بيرم ومن الفقير إلى ربه محمد الطاهر النيفر كان الله به بمنه آمين. وقرظ هاته الأرجوزة أحد تلامذة الدرش الشيخ أحمد بن الصادق بن محمد القريشي السقاط بقوله: [الكامل] يا رائماً تهذيبه لقريضه ... خذ درة تكفيك علم عروضه تحوي موازين الخليل وبعدما ... يخفى على الحذاق درك وميضه سمحت بها كف السنوسي الرضى ... فاغنم هنيئاً من كنوز فيوضه واشكر لمن أسدى لنا نفعاً وإن ... أودى فؤاد حسوده وبغيضه نهضت عزائمه لنشر العلم في ... نفه الورى الله در نهوضه وإذا انتقى الله امرأ لسعادة ... ظهرت بمرأى الناس حبك عروضه فأقبل أبا عبد الإله عجالة ... شكراً وشكر العلم من مفروضه لا زلت في العرفان طود معارف ... والعبد يرفل في حلى تقريظه وقد نظمت متن المقدمات السنوية في علم الكلام تسهيلاً للطالبين ونظمت عدة قواعد وضوابط في فنون شتى، وفي أثناء مدة قراءتي تعلقت بالأدب وتعاطيت حفظ المقامات الحريرية وغيرها من مواده نظمت شيئاً في ذلك العهد كنت أحسبه من الشعر وليس منه في شيء إلا أنه في أواخر سنة 1286 ست وثمانين ومائتين وألف صار شعراً يرغب فيه سامعوه ولا أدع حسن بعضه وأرسلته إلى عدة جهات حتى كنت في ذلك العهد أنشد قول الشاعر: [المتقارب] أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبق الأرض شعري مسيرا إذا قلت قافية لم تزل ... تجوب السهول وتطوي الوعورا استغفر الله إن ذلك لمن غلط الصبا تجاوزه الله عنا آمين. وقد اعتنيت بجمع أشعار أهل البلاد وجعلتها كتاباً سميته (شفاء النفوس السنية بجمع الدواوين لتونسية) ترجمت فيه لكافة الشعراء التونسيين في مبدأ جلة أبناء المقدس حين بن علي تركي إلى هذا العصر الأخير، جاء كتاباً يحتوي على أجزاء كثيرة أربى شعره كثرة على قلائد الأندلسيين ويتيمة العراقيين وقد قرظه كثير ممن وقف عليه ومن لطائف تقاريظه ما قرظه به أخونا الشيخ سيدي محمد بن الخوجة وهو قوله: [البسيط] الراح تقصر عما صغت من أدب ... فلا تسل ما أصاب القلب من طرب وأين من خمرة الآداب ما عصرت ... من دوحة الكرم الدرية الحبب هذب حرام وتلك الشرع حللها ... فانظر لآلئها أعلى لدى الرتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أهدي إليك ثناء طاب عنبره ... شكراً لما قد بعثتم من حلى الأدب لا زلت تهدي ثمار لعلم دانية ... والشكر يهدي إليكم أحسن النخب وكتب عليه مفتي سوسة الشيخ محمد عمار مقرظاً بقوله: نحمدك يا من طلع في هذه الخضرا بدرأن فأزاح غياهب الأحلاك، وأفاض على نوادي الفصاحة بحرأن يقذف بجواهر الأسلاك، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد أفصح البلغاء وعلى آله وأصحابه أيمة الاقتداء وبدور الاهتداء. هذا وإن محاسن الآداب وبدائع الإعجاب، أنفس ما يرغب فيه الأفاضل، ويتنافس في تحصيله الأماثل، وإن إشعار القطر التونسي بلغت أقصى غايات الاختراع، في جزالة النظم ورونق الإبداع، إلا أنها لم ينتدب لها من ينظم شملها وستنز طلها ووبلهأن لولا أعجوبة الزمان، ونادرة البيان، أوحد العصر، في النظم والنثر، فإنه أحيا أدام الله حياته ذكر أبناء قطره، ومنشئي مصره، بتأليفه شفاء النفوس السنية بمجمع الدواوين التونسية، وأبقى لهم في المعالي ذكراً يجدد لهم على تعاقب الأعصار فخرأن حيث أظهر من زوايا الخبايا دواجن أخبارهم، وجلا على منصة الظهور بنات أفكارهم، ومن نظر الأمور بعين الاعتراف، ووزنها بقسطاس الإنصاف، من جهابذة النظام وحملة الأقلام، لا ينازع في أن من ألبس أبناء الوطن أثواب الثناء الحسن لا ينبغي إهمال الثناء عليه، وإيصال المبرات إليه، على أن جزاء المحسن ضروري الاعتبار، تشهد بذلك سجايا الأحرار، ثم إن مؤلفه أطلعني على الجزء السادس منه فسرحت فيه النظر وأسمت الفكر بين خمائل الزهر، وأدوح الثمر، لأتقطف أزهار رياضه وأرتشف زلال حياضه، ولعمري أن معاطاة طروسه ورحيق كؤوسه أعذب من رشف الرضاب من الثنايا العذاب، بل أشهى من رجع الشباب، كيف لا ونفح الطيب يتأرج من سطوره، وقلائد العقيان دون منظومة ومنثوره، ولقد تبينت به أن المتأخر قد يقهر في وجه المتقدم، ولم أعول على هل غادر الشعراء من متردم، ولكنه وافاني وقد هجرت الغزل، وصحا القلب عن الوقوف في الطلل، وفترت العزائم، عن مطارحة الحمائم، وصياغة التمائم، وتوشيح المعاني، بالنسج الخسرواني، فحرك طباعي، وفتح باب الدواعي، كأنما عاطاني سلافه، أو بعثت إلى الرصافة فجريت رحب المجال وسددته شهاب لمقال لعلي أصادف الغرض، في تقريظه المفترض، ووصف كماله الذي هو جوهر لا عرض، كلا لقد جئت شيئاً إمرأن حملت نفسي إصرأن فأرهقتها عسرأن أرأيت من يصل إلى السماك، ويتعاطى ثواقب الأفلاك، فليت شعري بم نشكر فضل مساعيك. معاشر محبيك، لا غرو أن ضاق نطاق البيان عن أياديك، فإنك بلغت الغاية في المعارف، واقتناء اللطائف، وحصلن على الذوق قبل أن تشب عن الطوق، رويداً قد اعترفنا بأياديك البيض، ولم نجاذبك ر داء القريض، لله درك ما أبرع قلمك وأعذب كلمك إن نثرت أو وشيت بالحبر أنسيت أزاهر الروضة الغناء، وشففت على زواهر الخضراء، بلاغة اليراعه، وفطانة وبراعة، اين البديع من لفظك البديع لقد أزرى بالوليد وأربى على عبد الحميد، فالله يحرس مجدك، ويديم حمدك، بمنه وطوله، كتبه أخوكم محمد عمار. ومنه أخرجت جملة شعر شاعر تونس أبي الثناء محمود قابادو وجعلته ديواناً سبق ذكره في ترجمة صاحبه. ثم إني جمعت ما قلته من الشعر والنثر بديوان سميته بنزهة الخواطر وكل هذه التآليف د تجملت بتقاريظ أهل الأدب مما كثرته تمنعني من استقصاء ذكره هنا. وأما الإقراء بجامع الزيتونة وغيره فلا زلت بحمد الله معتكفاً عليه وقد أتيت بحمد الله على كثير من مهمات الكتب من التوحيد والأصول والحديث والفقه والنحو والصرف والبيان والمنطق والعروض وآداب البحث نسأل الله أن لا يحرمني لذة ملازمته إلى حضور الأجل بجاه النبي الرسول الأجل. وقد رأيت أن أورد هنا قصيدة من نظم شاعر مجيد استظرفتها لما جرت عادة التلامذة أن يقدموه عند ختم الكتب وقد أنشدنيها أحد التلاميذ عند ختم مقدمة ابن هشام وهذا نصها: [الكامل] ظبي الفلا بجمالك المحروس ... من ذا أحل لك اغتصاب نفوس مهلاً بقلب في هواك حبسته ... أو لست ذا رحمى على المحبوس كم من فتى لا زال يقطعه الهوى ... وجد فأصبح في الثرى المرموس شوقي لرشف من لماك لعله ... يطفي لظى وجدي وحر وطيسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 سكن الهوى في باطني فأذاعه ... دمعي عجبت لالذائع مدسوس! ما الحب إلا النار تكوي في الحشا ... أو قتل صب في خبايا الخيس عندي الملامة في هواك ألذ من ... شد فوا أنسي بلوم جليس يا صاح تركك للملامة أليقٌ ... كم من يلوم فيبتلي بالبوس من رام أن يبقى معافى قلبه ... ويفوز بالنعمى من القدوس فليجتنب مغنى الظبا وسبيلها ... كي لا يغر بلينها المأنوس ولينتهز فرصاً لصحبة عالم ... شيخ يعز ملقباً بسنوسي الجهبذ الغطريف من أضحى لدى ... هيجا العلوم يحط كل خميس يا من سما بنتائج الفكر التي ... بذت بمفخرها حلى القاموس حتى غدت من حسنها يسلو بها=ذو الذوق عن خدن وكل أنيس هذا ختام المسك لابن هشامهم ... قدمته كدعامة التأسيس وسنبتني بحياتك الغرا لنا ... علو العلوم إلى ذرى البرجيس لا زال علمك يرشد الطلاب من ... شرقي الحجاز إلى نواحي السوس وقد تعاطيت بحمد الله عدة أشغال علمية وكتابية نذكرها هنا مه بسط الترجمة توشيحاً لهاته فنقول معتمداً على فضل الله الذي يرجى لنيل كل مأمول. الأمير الناص باي هو أبو عبد الله محمد الناصر ابن المشير الثاني محمد باشا ابن الباشا حسين باي ابن الباشا محمود باي ابن الباشا محمد باي الباشا حسين باي علي بن تركي قدس الله أرواحهم من ملوك تجمل بهم كرسي المملكة التونسية وقد رصعنا بجواهر مئاثرهم تاج مقدمة هذا الكتاب، وليس على الشمس حجاب. أما شبلههم صاحب الترجمة فكانت ولادته كما سبق باكر يوم الخميس قبل الزوال بست ساعات وخمسة أدراج الموفي عشرين من شهر شوال الأكرم سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين وألف فأقبل على والده كالمهني بولايته الملك التونسي ولذلك كان باكورة ملك أبيه سماه الناصر وأرخ ولادته شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الرابع بقوله: [الكامل] وردت على الدست الكريم بشائر ... لما بدا هذا الهلال الباهر فتبسمت طرباً ثغور للعلا ... إذ نالها هذا السرور الوافر لله من خبر يلذ حديثه ... لهج المقيم به وسار سائر قالوا فحركت المعالي عطفها ... زهوا ونافحها المقال العاطر مذ زيد في التاج المنظم درةٌ ... ونشا بغاب الملك شبل خادر وأنظم للقوم الكرام مهذب ... في لئيم نعليه السعود تبادر فليهن والده المشير بنيله ... وبملكه لا زال وهو الظافر فكأنه الملك كان مواعدا ... فغدا يرافق نجله ويساير فأسلم أباه مرفعاً في غبطة ... حتى تراه وهو ناهٍ آمر وترى بنيه تقاد بين يديهم ... نجب وتجمع كالجدود عساكر لما بدا أرخت هل محمد ... باكورة الملك الجديد الناصر وقد تربى في حجر ملك والده المقدس ولما بلغ أشده اشتغل بحفظ القرآن العظيم على مربيه أبي الربيع سليمان المملوك وكان يحفظ القرآن العظيم وفيه خيرية ودين فأقيم لتربيته وتعليمه فختم عليه القرآن ثم أعاده على غيره من المماليك بعد وفاة مؤدبه ومربيه المذكور. ثم ختنه عمه المشير الثالث صبيحة يوم الاثنين التاسع عشر من رجب سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف في يوم مشهود وحضره سائر آل البيت الحسيني والوزراء ورجال الدولة. ولما بلغ ست عشرة سنة استدعاني المكلف بالمعارف العمومية الوزير حسين لإقرائه العلم الشريف ومن كان بمعيته فحضرت لذلك أواسط ذي القعدة الحرام سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين وألف وحفظاً من العلم متوناً كثيرة منها الآجرومية والألفين ولامية الأفعال والجوزهرة والعقيدة السنوسية والسمرقندية وغالب فن المعاني من التلخيص وتحفة الملوك ومنتخبات مقامات الحريري وطعة وافرة من أحاديث القضاعي وبعض ترتيبات وحكم بين نثر ونظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أما الكتب التي أقرأتها لهما تدريساً فهي متن الآجرومية ثم شرح الشيخ خالد عليه مرتين ثم شرح القطر الألفية بشرح المكودي إلى النعت والعقيدة السنوسية والمقدمات وشرح الباجوري على الجوهرة والشرح البيرمي على إيساغوجي، والدمنهوري على السمرقندية ونبذة من تلخيص المعاني إلى أحوال متعلقات الفعل وشرح الشيخ حسن الشرنبلالي في الفقه الحنفي وقطعة من العيني على الكنز وقطعة من المغني على تحفة الملوك وشرح الدر المختار على تنوير الأبصار وقد بلغنا فيه الآن إلى الخلع والأ'مال الصحيحة من علم الحساب، والشرح الخوجي على الحكم السياسة والخلاصة النقية في أمراء إفريقية وتاريخ القرماني وقطعة من مقدمة ابن خلدون جميعها تدريساً بجد واجتهاد ورواية غالب الشفا للقاضي عياض وسرد الإبريز وقراءة صحيح البخاري دراية في ليالي رمضان كل سنة، وقد كتبت عدة أختام على كثير من الأحاديث لتي ينتهي شهر رمضان بالوقوف عليهأن نسأل الله أن يجعل جميع ذلك من العمل المبرور. وقد اشتغل أيضاً بتعلم اللغة الفرنساوية فبرع فيها كتابة وسرداً وترجمة وتكلماً بعد التروي وحساباً وجغرافية على وجه يعز عمن سواه مع ماله من الولوع بمطالعة الأخبار ومزيد الاستبصار. فهو شاب مهذب شهم فصيح دراكة ألمعي متبصر موفق لطيف الأخلاق حسن اللقاء كيس المعاملة ظريف الشمائل محب للتراتيب يخشى الله في حقوق العباد محب للنصيحة عزيز النفس عالي الهمة حسن العهد رحب الصدر. نسأل الله لنا وله دوام نعمة التوفيق الهدية، وحسن المبدأ والنهاية، بجاه من أنزل عليه القرآن آية آية. وقد كنت في مبدأ إقرأئه كاتبته بمكتوب نثبطه به عما ظهر به من اشتغاله، ونحثه عما يجديه بين الناس في مآله، وهو مكتوب يحسن في بابه، وتعرف قيمته عند أربابه، ولا ينبغي أن نودع عند غيره نفائس آدابه ولذلك حافظ على نفائسه فوعاه حفظأن وبعد أن استوعبه معنى ولفظأن وهذا نصه: أيها الابن الذي يريد أن يقوم لجيوش المعارف ناصرأن وقد أسلمت لك قيادها وحلت لك أبناء الملوك خناصرأن أعزك الله ما الفضل بالسباق إلا في ميادين المعارف، ولا بالصيد إلا الشوارد المسائل واللطائف، ولا بالرماية إلا في أكباد الأعادي، بإحراز سهم لعلوم ونشر رايتها في كل نادي، وعهدي بك أنك ممن سبر وعاين بعد الخبر المخبر فأءيقنت بلزوم بذل العناية في الحرص على التعلم لما تحرر عندك من نتائج سير ملوك الأقاليم، فما بالك آثرت اللهو بالصيد دون رجوع في سويعات التعليم التي إنما تكون لك ثلاثة أيام من كل أسبوع مع هجوم البرد الشديد، الذي لا تروح بسببه الطير من وكرها البعيد، فإن كنت ترى أن ذلك الملك أساسأن وقد نفع ذلك أناساً فسحبي أن أنظم لك في هذا السلك ما أنشأت نظمه في قول الحكماء في الملك: [الكامل] الملك بين أسّه الإيمان ... والسقف تقوى الله والإحسان ومشيد الأركان منه شرائع ... وفراشه عدل به العمران ومناره السير الحميد فمن حوى ... ذا فلينم فالملك فيه أمان وإن أروك أن الفروسية زينة الملوك العظام، فأيقن أن الزينة إنما تكون بعد الحصول على التستر بملابس الكرام، وملابس الملك عشر خصال، قد جمعتها لك في لطيف المقال، هو: أرى الملك محتاجاً لتسع وعاشر ... خصال رووها عن جميع الأكابر قيام بحفظ الدين بين أولي النهي ... وتنفيذ حكم بين أهل التشاجر وذبٍّ على كل الحريم ومالهم ... وضبط حدود الله بين العشائر وتحصين ثغر عن جميع عداته ... وحسن جهاد للمعاند قاهر وحفظ جبايا المال دون تغافل ... وتقدير ما للمستحق المجاور وتولية الأمر الأمين الذي له ... مع الحزم حلي النصح غير الظاهر ومن باشر الأمر المهم بنفسه ... بخبرته أضحى عظيم الأكاسر فآلة الرمي والفروسية من الأدوات التي لا يعد عدمها نقصاً في الذات بين المدبرين من ذوي الكمالات بخلاف نقصان المرء عند التكلم وإهماله حظ التعلم فتلك حسرة لا يجد لهاة مفوتها من سبيل، وإن أجري في معاملته أنهار السلسبيل: [الوافر] وما فضل الملوك على الرعاع ... سوى بالذات في كل البقاع وفضل الذات رحمتهم وحذق الت ... بصر بالمعارف في المراعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وصولتهم وحزم بالدها قد ... تأكد منه إنجاح لمساعي وليس الفضل فهم بالمباني ... ولا بذخائر ذات انتفاع ولا بملابس ومطاعم مع ... مراكب بالتحلي في ارتفاع فإن فضلت فعما كان منها ... وتبقى من توخاها بقاع ومثلك أدام الله حفظك لا يحتاج إلى مزيد لعلمي بمالك من الرأي السديد الذي يحملك الله على الرجوع إلى المطلوب، والمبادرة إلى حفظ هذا المكتوب، والسلام. جمعية الأوقاف لما جمعت الدولة أوقف المملكة التونسية لنظر الجمعية التي عينتها لذلك قدمني رئيسها للكتابة في صفر الخير سنة 1291 إحدى وتسعين فتوليت إنشاء ما يصدر عنها من المكاتيب والتقارير وغير 1لك، ثم خرجن لتفقد أوقاف الوطن القبلي علم الساحل والقيروان وأنهيت التفقد المذكور سادس ربيع الأول سنة 92 اثنتين وتسعين وقد اجتمعت في سفري المذكور بأرباب الخطط الشرعية في تلك الجهات وهم الشيخ محمد ماضور قاضي بلد سليمان، والشيخ أحمد المرزوقي قاضي نابل، والشيخ محمد العاصمي قاضي الحمامات، والشيخ محمد الهدة باش مفتي بلد سوسة، والشيخ حسن الريغي المفتي الثاني بهأن والعالم الشيخ عبد الصمد بواري المفتي الثالث بهأن والشيخ محمد عمار المفتي الرابع بهأن والشيخ محمد السقا القاضي بهأن ولعالم الجليل الشيخ محمد صدام باش مفتي القيروان، والفاضل الشيخ حمودة صدام المفتي بهأن والتحرير الشيخ حمودة بوهاها المفتي بهأن والفقيه الورع الشيخ صالح الجودي القاضي بها وقد استجرت جلتهم فأجازني إجازة جليلة وهي الآتية: الإجازة الأولى إجازة العالم الفاضل القدوة الورع المتحلي بالمروءة والأصالة والكياسة والسياسة والهمة العالية الدراكة التحرير الشيخ محمد صدام باش مفتي القيروان وهذا نصها: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم إلى يوم الدين وبعد فقد التمس مني العالم البارع النحرير، حائز قصب السبق في ميدان الإجادة التحبير أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي أحد مرسي الجامع الأعظم بمحروسة تونس صانه لله الإجازة وبيني وبين ذويها طريق غير مجتازة ولسنا حالي ومقالي بأني لست أهلاً بأن أجاز، فضلاً عن أن استجاز، ولكن لما لم يكن لي بد من الإسعاف والإنجاز أسعفته بما مني التمس، وأني أعلم أني لست ممن نوره يقتبس، فقلت: قد أجزيك أيها السيد الجليل بجميع ما يجوز مني وعني إجازة تامة مطلقة عامة سائلاً أن لا تنساني من صالح دعواتك في خلواتك وجلواتك والمرجو من فضل الله القبول إنه أكرم مسؤول كتبه العبد الفقير إلى ربه الغني محمد بن أبي بكر صدام اليمني، عامله الله بلطفه والخفي، في 8 صفر الخير سنة 1292 أتمها الله بخير آمين. الإجازة الثانية إجازة العالم الفاضل سلاسة الأولياء العظام النحرير الشيخ عبد الصمد بواري مفتي بلد سوسة وهذا نصها: الحمد لله العليم الحكيم، الذي خص علماء شريعته بمزيد التكريم، وجعلهم نجوماً يهتدي بهم في ظلمات ليل الجهم البهيم وقادةً إلى سلوك سبيل دار النعيم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الكريم، والرسول العظيم، المنزل عليه في الآيات والذكر الحكيم وإنك لعلى خلق عظيم، وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار ومن تبعهم من أيمة الدين وهداة المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وبعد فإن خير ما يتزين به اللبيب، ويتزر به كل ذي عقل مصيب، بذل العلوم النافعة، والمعارف الرافعة، إذ بها تحصل السعادة الكاملة، والرحمات الشاملة، هذا وإن ممن سعى في تحصيل المراتب الرفيعة، والفنون الوسيعه هو الجهبذ الفاضل، والحجة المناضل، النحرير الأكمل، والعمدة الأجمل أبو عبد الله محمد ابن السيد عثمان السنوسي طلب مني أن أجيزه في إقراء المختصر الجليل، المنسوب للشيخ خليل، رحمه الله تعالى ظناً منه أني من أهل هذا الشأن وفرسان هذا الميدان، وإني والله لست أهلاً لذلك، ولا ممن يسلك بهاتيك المسالك، لكن أجبته راجياً من الله تعالى أن يفيض علينا من أنواره الزاهرة، وأسراره السنية الفاخرة، وأن يمدنا بالمدد الرباني والفيض الصمداني، فأقول: إني أجزته في إقراء المختصر المذكور كما أجازني أشياخي رحمهم الله تعالى وقدس أسرارهم بشرطه قال ذلك أفقر الورى، خادم نعال الفقرأن عبد الصمد بن محمد بن عبد القادر بوراي المفتي بسوسة أخذ الله بيده آمين وكتب في صفر الخير سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف. الإجازة الثالثة إجازة الفقيه الورع المحدث النقادة المتفنن الشيخ صالح الجودي قاضي مدينة القيروان وهذا نصها: نحمدك يا من أجاز قاصده من سلسبيل آلائه، وجعل سندنا إليه خاتم رسله وسيد أنبيائه، ونصلي ونسلم على من نوعت له تلقي وحيك على أنواع، فمنها ما كان بغير واسطة وخصصته مع الرواية بالسماع، ومنها ما كان بواسطة روح القدس الأمين، عن اللوح عن القلم عن مكنون علمك المقدس المتين، وعلى آله الذين تركتهم بعده للتمسك بهم وبكتابك أماناً من الضلال، وجعلت مودتهم كفيلة من أهوال يوم الرجف والزلزال، وعلى أصحابه الذين حملوا إلينا منه شرعك المتين، وحموه من التحريف حتى بلغوه باللفظ الذي تلقوه منه على المنهج الواضح المستبين، وعلى حماته أعلام الأمة الذين سلكوا مسلكهم في الرواية، حتى تلقينا بمسلسل أسانيدهم على أتنم ضبط للغاية. وبعد فإن العلم من الشرف بمكان، شهرته تغن عن الشرح والبيان، وإن درست ربوعه، وانقرضت آحاده وجموعه، وسحبت على أبوابه عناكب الخمول، وأذنت شمسه بعد إشراقها على جميع الآفاق بالأفول قد قيض الله له طائفة من أهل هذا العصر، شمروا في دروسه على ما كانت في سالف الدهر، وكابدوا فيه مكابدة من سلف حتى حصلوا على فك خفايا رموزه، وإصابة خفايا كنوزه، فكانوا من خير الخلف، وكان ممن انتظم في سلك أولئك الأكياس، الناهلين من أصفى موارده من أكبر كاس، أخونا في الله الذكي الألمعي، الزكي المسيدعي، الممتطي بجيد قريحته صهوات جماع المعاني، والمذلل براسخ ملكته أوابد رموز المباني، وإن نثر شف بدرر منثوره الأسماع، وإن نظم حرك سحر بيانه سليم الطباع، الودود الصافي، ذو العهد الوثيق الوافي، الشيخ السيد أبو عبد الله محمد السنوسي ابن العدل الفاضل الشيخ أبي عمرو السيد عثمان السنوسي ابن المنعم الفاضل سليل الأفاضل الشيخ أبي عبد الله السيد محمد ابن الشيخ الكبير، والعالم الشهير الثبت الحجة النحرير، من أشرقت أرجاء قطره بنور عدله، واتفق الثقات على كمال فضله، وأحيا من محررات الأحكام ما تنوسي، المرحوم المقدسي قاضي الجماعة المالكية الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي، وقد التمس مني حين قدم لمدينتنا من الحاضرة المحروسة، واجتمعت معه في أوقات مأنوسة، أن أجيزه الإجازة التي جرت بها العادة لتحصيل الاتصال، المحصل لعود بركة مشايخ سلسلتها على مستقيمها في الحال والمآل، وحمله على ذلك حسن الظن الذي هو وصف أهل التقوى والإيمان، وإلا فما أنا من فرسان هذا الشأن، وأين للهزيل الضليع، أن يدرك شأو القوي السريع، لكنني لما رأيت قوة رغبته وأنه لا يقبل لي عذراً في التخلف عن طلبه، أجبته بعد الاستخارة لما أراد رجاء أن أرى أثر بركة دعائه يوم التناد فأقول وبالله أستعين، وما توفيقي إلا بالله القوي المتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 قد أجزت أخلي الملتمس المذكور، كان الله ولي وله في جميع الأمور، بمثل ما أجازني به أحد جلة مشايخي الذين عليهم اعتمادي، وإليهم فيما حصلت استنادي الشيخ العلامة الخير الثبت الفهامة نادرة وقته في الفروع والأصول وحيد عصره في المعقول والمنقول ذي النزاهة والزهادة والتبتل في العبادة الذي أرجو له من فضل الله الكريم أن يقدس سره ويهب له من الخيرات ما لا يتناهي، مولاي وأستاذي المفتي السيد الشريف أبي عبد الله سيدي محمد بوهاهأن قدس الله بروحه، ونور صريحه، وأسكنه من أعلى الجنان فسيحه، وسندي في صحيح البخاري عنه رحمه الله عن شيخه أربي المحاسن يوسف بدر الدين المدني عن شيخ المحدثين بالحرمين السيد زين باعلوي المدني الشهير بحمل الليل عن شيخه المعمر محمد بن سنة العمري الفلاني، عن العلامة أمد بن علي العباسي، عن السيد غضنفر النقشبندي، عن تاج الدين عبد الرحمن الكاروني، عن الحافظ أبي الفتوح أحمد الطاوسي عن المعمر بابا يوسف الهروي، تعن الشيخ المعمر محمد بن شاذبخت الفرغاني، عن الشيخ المعمر أبي لقمان يحيى الختلاني، عن الإمام محمد بن يوسف الفربري، عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، ورحمنا به. وعلى نحو ما أذن لي شيخي في إجازته لي أذنت، وشرطي له مثل ما شرط أستاذي علي، ووصيتي بمثل ما كان منه إلي، وأسأل من أخي المجاز الصفح والإغضأن وأن ينظر بعين الرضى، فإن مثله من الكرام ممن يستر الزلات، ويتجاوز عن الهفوات وإن شغل البال، وتكاثر الأشغال، وستحمل عن ألأثقال مما يقبل به الكريم المعذرة، ولا يكلفه فوق المقدرة. وأسأله أن يدعو لي في خلواته، وعند أدبار دروسه وصلواته، وأقول قولي هذا وأستغفر الله من الخطأ والزلل، وأسأله أن يحمل أمورنا على السداد في القول والعمل، إنه لا يخيب من سأل كتبه العبد الفقير، ذو العجز والتقصير، محمد صالح بن قاسم ابن الحاج علي الجودي التميمي قاضي مدينة القيروان وعملها غفر الله له ولوالديه وسائر المسلمين آمين، وكتب في 28 محرم الحرام سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف من الهجرة النبويه على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. لخصت عوارض هاته الرحلة في عجالة سميتها (سموط الدرر في لطائف السفر) جمعت فيها آداب السفر المذكور وهذا نصها بما احتوت عليه: بسم الله الرحمن لرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حي الله معالم السفر إلى البدو والحضر، وإن كان سبباً للاغتراب، والتنائي عن ألأهل والأتراب، إذ به يعلم الإنسان، عجائب ما أودع الله في هذا العمران، فيرى من اختلاف الألوان والألسن والأخلاق في جنس البشر ما يفيد العبر، ويحنكه بتجارب العادات التي يرتاح بمعرفتها من الشحناء والمعاداة، ولاسيما إن كان المسافر من الدهاة، الذين يتقبلون في ملابس السفر التحيل ليحصلوا على الخبرة والنجاة، فهذا لا محالة يحصل على مزية السفر دون عنا ويبلغ بأحبولاته إلى غاية المنى، هذا إن تخلق بأخلاق أولئك الأمم، وتباعد عن العادات التي كن في سلك الناس بهذا قد انتظم، أما إن داخلهم بأخلاقه التي لم تكن عندهم مقبوله، ولو كانت ترضي الله ورسوله، فلربما يقع فيما يتجنب، ولم تنفعه عادته التي كان فيها يتقلب، لا جرم أنه يحصل له بذلك مزيد تحقيق، لما لا يعود به إلى ولوج ذلك المضيق، فغاية الاستفادة تحصل لا محالة للمسافر، مهما سفر عن التقاعد تلك المسافر بيد أن الخبير يستسقي ذلك الضرب خالص الشراب، والمختبر يتجرعه مشرباً بنطة من للضباب، وإن كان لابد من أن يحصل من التربية والتجربة على أوفر النصاب، وينال بذلك معارف صالحه، أو تجارة رابحه: إن تجد بين البراري طائفاً ... فاحسبنه قد جنى لطائفا يلتقي الأرباح في متجره ... أو يرى يحوي به المعارفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وبهذا السبب نرى المتمدنين من أمم هذا الجيل، المقتدمين في المعارف والصنائع ورواية الأناجيل يعملون الجد إلى الرحيل، ويرون أن الإقامة بالوطن كالمعنى المستحيل، فاتخذوا الأرض مغزاة وهم بتطوافها أحرى، ورأوا أن من العجز تفضيل دار على أخرى، وقد أعانهم على ذلك المساعدة بتسهيل الطرقات، التي بشرت لهم البلوغ إلى غاية الجهتين الجنوبية والشمالية في عامة الأوقات، فنسفوا أعقاب الأرض، وذللوا سبلها للمرور بالطول والعرض، واتخذوا البواخر البحرية وخرقوا سياج الجبال الشاهقة بمرور السكك الحديدية التي رأيناها قد امتدت فيما حول حاضرتنا نحوا من لعشرين ميلأن ونؤمل من الله زيادة امتدادها لتسهل لنا من الأرض، سبيلاً ثم إن هاته الوسائل التي يستعملونها لتيسر لهم الوصول إلى الأماكن التي يقصدونها حملهم عليها ما علموه، مما خلق الله عليه نوع الإنسان، من غاية احتياجه إلى الاجتماع والتعاون اللذين هما السبب الوحيد في لعمران، وإلا فأي اجتماع مع استقرار كل واحد في مقره على خيره وشره، وأي تعاون مع انفراد اجتماع أصحاب الاختراع بمخترعاتهم، وتنائي القاضري عن رؤية ما أحكموه ببراعاتهم، وهل في ذلك إلا إضافة التقاصر إلى القصور، مع أن التعاون لا يحصل مع التباعد ولتقاصر، ولابد فيه من الاجتماع والتناصر، نعم قد أضر السفر ببعض أهل الممالك، الذين استغرقوا زمانهم في سلوك تلك المسالك، فهجروا أوطانهم التي كانوا يقصدون عمرانها وحملوا معارفهم إلى غير بلادهم وعمروا ديار الأجانب بتخريب بيوت آبائهم وأجدادهم كتعمير بلاد الروسيا بأمم جرمانيا الذين حملوا إليها معارفهم وصنائعهم، وأخلوا من محاسنهم مرابعهم، وكتقدم لندرة بأفراد أمم الفرنسيس، الذين سلموا إليها من مخترعاتهم وعلومهم الجديدة ما حصلوا به على الفخر انفيس، ولا شك أن السفر الذي بهاته المثابة، ليس لمستحسنه إصابة، فهما قصد المسافر نفع بلاده، لم تكن بلاد الغير غاي مراده، وإنما عليه أن يرغب في تحصيل تلك المعراف، ويجعل في بلاده منها أهم المصارف، ليكون هذا السفر نفع وما أضر وحيث تقررت عندي محاسن الأسفار، على الوجه المختار، وصبوت إلى رؤية مآثره، والتحلي بمفاخره، حتى ساقتني مقادير رب العالمين، إلى تفقد شعائر الدين فذلك الوزير الجديد أدام الله نجاح سعيه الحميد، إذ أمر أوقاف المشاعر فيما سلف أذاب كبود المهتدين، واشمت أعداء الملة المعتدين، حيث رميت من الإهمال بما كاد أن يفضي بها إلى الاضمحلال، ووضعت بيوت أذان الله أن ترفع، وأغتدي شأنها بمضيع وهدمت صوامع وبيع، وأكلت أموالها بالباطل دن قيام بآرابهأن (ومن ظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) إلى أن رأينا من مصانع الدولة الصادقية التي أعادت في هذا العصر شرخ شباب الملك التونسي، وخلعت عليه من محاسن دارة خير الدين ملابس الفخر السندسي، فنظرت خلد الله عزها إلى هذا المهم، وتداركت بحزمها ذلك الخطب الملم، ووضعت بجمع شمل الأوقاف محكم القوانين، وأناطت عهدة تنفيذها لرئاسة العمدة الأمين، العالم الفاضل الشيخ محمد بيرم أدام الله مجده، وقارن بالنجاح سعيه وجده، فقام لها قيام الزعيم، وهجر لتدبير مصالحها لذائد الراحة والتنعيم، مستقبلاً مرضاة ربه بهذا الخير العميم، معتضداً لذلك بجمعية جليلة، قد تخيرهم تاج المفاخر إكليله وكانت ولايته رعاه الله تعالى أوائل شهر صفر الخير من سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف، وقد سرت البلاد باختيار أولئك الأنجاد، تحت رئاسة هذا العماد، وأملوا ما حقق الله لهم فيه الأمل، فرأوا عن أقرب وقت أعز البشائر، لاهجة في سائر الأندية بإحياء تلك الشعائر، ولذلك قلت أخاطبه: [الطويل] بك الدين قام اليوم يجبر خلّه ... وربُّه في حصن منيع أحلّه فقمت إلى إحياء خير معالم ... قياماً سواكم ليس بجهد قله وأحسنت تدبيراً لذلك كل من ... تملاه أثنى بالذي كنت أهله بها تونس قامت لشكر رياسة ... أرى تاجها ما إن سواكم أقلّه رأت أنها ضاعت بأيدي برية ... على حين لم تلف النصيح وفضله فذكرت البيت الذي طالما أوت ... إليه وعزت حين حلت محله فنادت ببيت الشم من آل بيرم ... زعيماً هماماً يحمد الناس فعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 أبياً زكياً ألمعياً علومه ... معالمها تحكى علاه وأصله له همة عليا تسامت على السما ... فلم ترتض الجوزاء إذ ذاك نعله وفي خلقه ما يزدري لالينه الصبا ... وفضله كالأفق الذي صب وبله فهيهات لا يولي الأمور محلها ... إذا ما تولي عقد أمر وحله فيهني بيوت الله والأولياء ما ... يلاقون من جبر له الله دله ويهينه ما يلقي من الله جزا ... على صنعه المحمود حين أجله فدم يا أبا عبد الإله مرفعاً ... يزين بك الفخر العزيز محله وقد كنت ممن أقيم للكتابة في تلك الجمعية، فوليت وظيفتها السنية، وبذلك هنأني صديقي الأعز الأكتب الفاضل الشيخ عمر بن أبي الضياف فقال: راحُ السرور تدار للجلاس ... بعطاء أكرم صاح ومواس وتهز أردان الشهادة بالذي ... أضحى لأمره كالطبيب الآسي فهي الخليقة بالهناء لأنها ... ظفرت بمالك أمرها القنعاس ذاك الهمام الأحوذي المرتدي ... ثوب الجلالة والعفاف الكاسي بدر تصعد في سماء معارف ... فغدا يلوح سناه كالنبراس فرع سما من دوحة علمية ... والفرع يتبع أصل كل غراس أعني محمداً السنوسي الذي ... قد خصه المولى بعقل إياس وحباه فرط سياسة وكياسة ... ألقت عليه محبة الناس منة رام حصر صفاتكم فكأنما ... قد رام حصر الرمل والأنفاس لا زلت في درج المعالي رقاياً ... ما هب ريح في رياض الآس أما هاتيك الأوقاف، فقد فازت من عناية الرئيس بغاية الإسعاف، بعد الرمي بالإتلاف، وعم حسن إدارتها سائر بلدان المملكة، إذ قام فيها النواب كلهم سالكاً مسلكه، ومع ذلك فقد اقتضى حزم ذلك الرئيس، الجالس بكمال بصيرته من مراقبة أعمال سائر النواب محل الجليس، أن وجه متفقدين لسائر البلدان، زيادة في الاعتناء بهذا الشأن، وكنت ممن تعين لتفقد أوقاف وطن الساحل ومدينة القيروان، والإتيان على الوطن القبلي من غير توان، وحيث كانت هاته الرحلة بالنسبة إلي هي أولى الأسفار، أحببت أن ألخص هنا جملاً أبرهن فيها عما لاقيته في تلك الديار، مع ذكر ما عسى أن يكون جره السفر من المكاتيب الرائقة والأشعار، كل ذلك حرصاً على استبقاء هاته الآثار، وسميت هاته العجالة بسموط الدرر في لطائف السفر فأقول وبالله نستعين: كان مبدأ خروجي من الحاضرة صبية السبت رابع ذي القعدة الحرام من عام 1291 أحد وتسعين ومائتين وألف، إلا أنني حين أزمعت السفر إلى هذا الوطر أنشدت إخواني ليلة الرحيل، ما أنشدته قبل قصد السبيل، من قولي: [البسيط] استودع الله إخواناً نباعدهم ... لا عن قلى عندما الترحال قد عرضا أسير عنهم وقلبي في مودتهم ... رهين دين بأيديهم وما انقرضا تقاسموه فما ابقوا لصاحبه ... قسطاً ليرجو من تلقائهم عوضاً وأنشدني من إنشائه الصديق الأصفى البارع الماجد العمدة النحرير أخونا الشيخ سيدي محمد بن الخوجة قوله: [البسيط] صوحبت بالأمن في حل ومرتحل ... ولا حللت سوى العلياء من نزل يا راحلاً شايعته النفس لا جسد ... وهل لمن باعدته النفس من حيل فاسلم وعز ولا تلقى سوى ظفرٍ ... تقر عينا به من مثل ذي النقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فاعتمدت على الله في عمل المسير إلى بلد سوسة من وطن الساحل، واقتطعنا إليها تلك المراحل، فألفيناها بلدة طيبة المركز وهي عتيقة قبل الإسلام وكان فتحها في ولاية معاوية بن حديج على يد عبد اله بن الزبير بن العوام وهو حد بين القيروان والجزيرة القبلية، من الجهة الشرقية بالنسبة إلى الحاضرة المحمية، في عرض خمس وثلاثين درجة وإحدى وخمسين دقيقة وعشر ثوان من تونس على طول سبع وعشرين دقيقة وثمان وثلاثين، ثمانية منها على شواطئ البحر فهو يحدها من الجهة الشرقية وقد أحاط بها سورها الذي أقامه زيادة بن إبراهيم، بن الأغلب إحاطة تصون، حتى عدت حصونها لإفريقية من أضخم الحصون، وبها مضجع صاحب الأسرار، المعلن بالفخار، الشهير من كل الأقطار، وعماد الأولياء في ذلك لمحل، الولي الصالح الشيخ سيدي بوراوي الفحل، رضي الله تعالى وأرضاه وقد اجتمعت هنالك بأحد ذريته الفاضل الشيخ عبد الصمد بوراوي وهو يومئذٍ من أرباب الفتيا بها على جلالة وخيرية تامين، وكذا عماد بين الشرف الممنوحين بمزيد الرفعة والشرف السادة الذين حبهم فرض على أهل الدين وهو الفاضل الصفوة لشيخ سيدي أبو الحسن زين العابدين إلا أني وجدت أهالي هاتيك البلد، على حالة لم يتصف بها غيرهم من أحد بل وجدتهم على الحالة التي ورثوا فيها أجدادهم حيث ساقت المقادير الشيخ أبا الحسن علي الغراب فقال يصف بلادهم: [البسيط] حللت سوسة لا حلَّ الرخاءُ بها ... بالجهل ملآنة قفرا من الأدب والساكنون بها خشب مسندة ... تبالها أبداً من سوسة الخشب أستغفر الله بل إن ربعهم في الأدب قد أعمره أحد مفاتيها عمارة بعد أن أجدب ممن لازمنا بالمسامرة لما عنده من الآمال، وكتبت إليه حين تخلف في بعض الليال: [البسيط] يا مفتياً له من ذي الود إيثار ... زرنا ولا تتناءى عنكم الدار عجبت منك وقد أفرغت منزلنا ... بالأمس من بدركم إذ أنت عمار فكتب إلي ووافى، ولم بعد إخلافاً: [البسيط] جاءت إلي من المفضال أشعار ... فأشرقت من سماء الطرس أنوار رامت من الود أن نسعى بمنزلة ... وذاك فرض وإن شطت بنا الدار فكيف والقرب قد أدنى منازلنا ... وعبقت من شذا رياه أعطار أما مدة إقامتي بهذا البلد التي بلغت لنحو الشهر فإنها كانت علي من أعظم الأكدار، التي لا يقر لصاحبها قرار، إذ كنت حذراً من كلابهم الذين ينبحون الأضياف ويعدن وكل يوم عندي كلن مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، وإذ لا يكاد نزيلهم راحه، ولا يبيت عزيزهم أو ذليلهم يرتجي نجاحه، فالمستريح عندهم من ذوي الشأن النبيه لا يأمن من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، وهذا الحلل لا زالوا منه في أوحال ولقد أعرب عن دخيلاتهم شاعر بلادهم، وأحد أجدادهم أبو عبد الله محمد المؤخر إذ قال في وصفهم وما تأخر: [مجزوء الرمل] كل سوسي فهو سوسة ... وله نفس خسيسة بعضهم ينهش بعضاً ... مثل كلب في فريسة ثم إني أقول متوفياً طرائق الإنصاف: إنهم معورون فيما أودع في أصولهم من تلك الأوصاف لكنهم قد تخرقوا فخرقوا سائر السياجات أو كادوأن وبعد المحافظة على أصول آبائهم زادوأن إلا أن يقولوا إنه قد كان قائماً بآبائهم ذلك الألم، ومن يشابه ابه فما ظلم، فيتوجه حينئذٍ لهم الاعتذار، ونقول بعداً لهاتيك الديار ولقد صدق أحد جلة الشعراء يحذر من مكائدهم، بما تحققه من سوء عوائدهم، وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يونس إذ قال مجيباً من سأل عنهم من أهل تونس: [الكامل] بعداً لسوسة لا أراها منزلاً ... لذوي النباهة من بني الآداب بلدا إذا صب السحاب قطاه ... صب الإله عليه سوط عذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أما أنا هنالك فلن أستريح إلا بما عسى أن يرد علي من مكاتيب أخواني، حيث تناءى عنهم مكاني، ولولا مخاطبتهم الرائقة، ما كنت لأجد هنالك راحة لائقة، إذ لم أتعود في حاضرة تونس بشهادة الزور، ولا بقول الفجور، فكنت اقتصر في معاملتهم على ما أوجبته الخدمات، قانعاً من الغنيمة بالسلامة والنجاة، ولم أستطب هنالك غير مخاطبات ساقتها لمقادير، وقعت بيني وبين أخلائي بتونس من الجهابذة النحارير، وقد انطوت على خفيات الرموز، ولولا السفر ما مدت تلك المخدرات أعناقها للبروز وأول ذلك ما أنشأته خطابا لجنبا من تفاخرت به تلك الرئاسة، عنواناً على ما كنت أعاني في ذلك البلد مراسه: [الطويل] على كاهل الإجلال أهدي تحية ... مضمخة في سجف ود مثمج وأودعها مالي من الشوق كي به ... تفوح على الدنيا بطيب تأرج وأستحمل الركبان والعيس مالها ... من الفخر والإجلال في كل منهج عسى أن يطيقوا حملها لممجد ... أعز بني الدنيا مقيم المعوج له حسن تدبير وعز مهابةٍ ... وفسحة علم فهو خير متوج تراه على ما عنده من مكارم ... بلاقيك بالوجه الأغر المبلج حيا الله خير محيأن وأفخر العلماء محيأن سراج الهدى، وغيث الندى، القاصي المدى، الداني الجد أعلن مصاقع البيارم، محرز خير المكارم، شهاب الدين وكهف الملتجئين، مقيم شعائر الملة الإسلامية، ومديم المثابرة على الحزم بنفسه العصامية العظامية، سعد السعود، والمنهل العذب الورود، صاحب الصيت الشهير، المتصرف كيف شاء بإكسير التدبير، مالئ الأرض فخارأن ومبيد الدعاة استصغاراً عين أعيان السقع التونسي، الذي ألبسه ملابس العز السندسي أستاذنا الهمام النحرير الفاضل الشيخ سيدي محمد بيرم أدام الله رعايته وحفظه. أما بعد إهداء الإسلام لائق بتلك المكارم مصحوباً بالإجلال الإعظام بما تستوجبه تلك المعالم، فلا يعزب عن شريف علمكم ما عندنا من الاشتياق، الذي لا يكاد أن يطفي بغير التلاق: [الطويل] وفي النفس حاجات إليك كثيرة ... أرى الشرح فيها والحديث يطول وإنما أعلم سيدي بأني على ما تعلمون من بذل الوسع في جميع أطراف ما أنا بصدده مقتحماً شقة سياج لموانع القائمة بهاتيك البلاد، التي منعت تلك المصالح الجارية على القوانين الشرعية من النفاد، وذلك هو السبب الوحيد في صيرورة خدمة الأوقاف بهذا البلد مستأنفة من جميع جهاتها إذ لم تجد قبل قدومنا أحداً من حماتهأن حيث لم يكد أحد يخلوا من غرض في كل ما عرض نعوذ بالله تعالى ونسأله التأييد والإعانة والسلام. وكاتبت إخواني أدام الله رعايتهم وحفظهم بما اقتضاه الحال لتراكم الأشغال بحيث إن ما كاتبهم به ليس يبلغ المرء الأمل، ولكن كما قلت لهم فيها جهد المقل خير من عذر المخل، وكاتبني عند ذلك جناب الأخ الودود والفهامة النحرير الفاضل الشيخ سيدي محمد جعيط بما نصه: كتبت وبعد سيدي لا زال محفوفاً باللطف يلقي علي ضراماً ووثوقي من الله باجتماعي بك واعتقادي عافيتك يقول لسان حالهما يا نار كوني برداً وسلاماً فها أنا أترقب صبح المسرة من أفق الرجأن لتطلع فيها شمس فضلك لأهل الفضل والحجأن وإذا ببشير العافية قد أقبل وعليه من حلل البلاغة برد فأثار مني كامن المجاراة في ميدان الإنشاء ولو كان يني وبينه عهد، كتاب قد استنشقت عرف المودة من مسك مداده واحتسبت راح العافية من منطوقه وفحوى خطابه، وسرحت النواظر في رياضه النواضر، وصرت من خلاه أحلي بحلي الفصاحة نفسي، وأسامره بذلك في مجالس أنسي، وأكرره كلما أصبح وأمسي، وأجعله في حانات المحاضرة نديمأن لما أعددتك لفض ختام رحيق المعاني أخاً زعيمأن وما احتوى عليه من خرائد المعاني، وكان أن يكون سبباً لإجحامي حتى أكون لبساط المكاتبة ثاني، فماذا يقول فيك المادح، وقد أسكتت بلاغتك كل صادح، ومن يباريك وقد ركبت غضنفراً ومن يجاريك في صفة فضل وكل الصيد في جوف الفرأن ولعمري هل يباري التوحيد بعمل، أو يجاري البراق بجمل، وهل يلحق شأو من ملك بسيف يراعه ملك الأدب، العارف بوضع الهناء موضع النقب المظهر من خدره فكره كل فتانة الطرف، عاطرة العرف، لو ضربت بيتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العربة بالإعجاز حتى أني متى هطل من سماء فكرته صيب، تمثلت ببيت أبي الطيب: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباراً ثم قال له الحق لكن فقولك في جوابك جهد المقل خير من عذر المخل، جلت في هذا الميدان وإن لم يكن لي فيه وابل فطل، وعذراً فالعبارات في جمع أوصافك قاصره، والبراعة في أذيال الحجل متعاثرة: [الكامل] خرس اللسان وكلَّ عن أوصافكم=ماذا أقول وأنتم من أنتم؟ هذا ولما كشفت لثام الكتاب، لاح لي أن أوجه لك في طي سلامنا العتاب، فيما نسبتني إليه من البخل عن مكاتيبك وهو من التوبيخ قبل صدور الذنب من المجرم، لكن بعد قراني معك في المكاتبة لم يبق أن يقال إلا الفضل للمتقدم، ويبلغك السلام من جميع إخوانك الذين أمرتني بتبليغ السلام إليهم وكلهم يشكون مثل شكواك من فراقهم من ألم فراقك عليهم خصوصاً من على إرعاء مودتك قد نشأن وتأخيري له مع اعتقادي تقدمه في المودة تغطية لأمر قد فشأن ويبين عن تعيين قول الشاعر بحبي في الحشا والابتهال، إلى من تناخ بساحة فضله ركائب الآمال، أن تهب شمول إقبالك على أحسن حال، والسلام. ثم اتبع هذا ببطاقة تتضمن الاعتذار عن كاتبه، الذي هو من نفائس آدابه، وإن كان الغرض منها مجرد إعادة المكاتبة التي هي أشهى إلى الأسماع، من لذة الوصل بعد الامتناع، وعند ذلك حاولت بضعفي إجابة جنابه عما ضمنه بطاقته وكتابه، فكاتبته بما نصه: جناب الأبرع الشهم، الرامي من كرته بصائب السهم، بدر دروس المطول والعضد والمواقف، المتلفع في جميعها بأفخر الأردية والمطارف، النحرير الذي تعنو له الإفهام، ومحرز السبق في ميادين الدروس مع إخوانه الأعلام، صاحب الرأي الوقاد، والمعد بالخنصر مع الجهابذة لنقاد، الحميد الأخلاق المزرية بالاصطباح والاغتباق ذا العهد الوفي، والود الصفي، شقيق روحي التي أسلمتها إليه تسليمأن ووهبت مع الثناء كليمأن لأجد دون مكاتيبه رحيمأن مخلص الوداد، في القرب والبعاد، أخي وسيدي وعماد دروس وعضدي، الفاضل الزكي، الشيخ سيدي محمد جعيط لا زالت كتبه نزهة الألباب، وفرائد إنشاءاته تتقلد بها جميع الرقاب. أما بعد إهداء تحية تحيي رميم الوداد، الذي كاد أن يحشره البعاد، وتريك من تقلب الأحشاء، ما لا تجده من الحشاء، تحملها إليك غلمان صداقة هذا الصديق، يطوفون عليكم منها بأكواب وأباريق، فقد طلع علي برق كتابك الذي أمطرت له عيني، وتلافى ما كنت عليه من حيني، فورد كما شاء الوداد، وأوردني من موارد مودتك أعذب الإيراد، ويا الله ما ألذّ منه تلك المطارحة والعتاب، اللذين أفضي لهما تعاطي كؤوس الآداب، وحيث إن لإسهاب في وصف ما تضمنه غير محتاج إليه، رأيت أن أنازلكم في ذلك الميدان الذي عوت عليه فأقول: حفظك الله كيف عمدت إلى عتاب المودة، الذي كنت أعهدك تحكم بأنه يفوق الرضاب وبرده، فسميته باسم التوبيخ، الذي هو أمر على الأسماع من الحنظل الرضيخ، ولم يكفك ذلك حتى حكمت بالفضل للمتقدم، وما في ذلك منك إشارة إلى شيء من التندم، وما لبثت أن أتبعت ذلك ببطاقة علم الله أنها وقعت مني موقعاً لا أكاد أصفه حيث رأيت الود منها قبل فتح ختامها قد أشيدت غرفه، وإذا هي تتضمن الاعتذار في خطابك، عما نسبته لكتابك، مع براءته مما وصفت، وأي باعث لك على ذلك إذا كنت على يقين بأن موارد المودة بيننا قد عذبت وصفت، فهذه حجة قد أقمتها عليك، وفوضت الحكم فيها إليك، ويا حبذا ما وشحت به كتابك من سلام الإخوان الذين مودتهم في سويداء الجنان غير أني لم أجد دليلاً على ما ادعبت في وصف من أخرته، وزعمت هنالك في سبب التأخير أمراً ذكرته، وإلا فأين رعاية مودته التي ذكرت أنه عليها قد نشأن وأظنه بعد سفرنا رحل هو أيضاً عن تلك الرعاية ومشى، وإن كان يزعم أنه ما زال قاطناً على ذلك العهد فماله لم يسمح بقلم في قرطاس يوجه إلي من بعد اللهم إلا أن يكون يرى الود مقصوراً على أيام الاجتماع، وإن كانت منزلته كنار على يفاع، فحينئذٍ نعذره فيما يرى، ولا نعود بالسؤال عما عسى أن يكون وقع منه وجرى، والسلام. وكاتبني جناب الأخ الودود الفهامة الأبرع، والنحرير اليلمع، الفاضل الشيخ سيدي محمد بن الخوجة بما نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الجناب الذي بمثل أخوته تبتهج النفس، وبنظير محاضرته يتمكن الأنس، جناب أعز إخواني، ومحل سري وإعلاني، شقيق روحي ومن أجد بمخاطبته راحي وروحي، واحد الزمن ابداً ولطفأن و [من أصبحت] معاطير الأثياب من شمائله قرقفاً صرفاً الندس الذي نار فكر تتوقد، وأنفاس حساده لا زالت تتصعد، الفذ الذي بز على حداثته الكهول، والندس الذي برز على القوارح في حلبتي المعقول والمنقول، طلاع أنجد المعارف، المتحلي من الكمالات العلمية والأدبية بأبهى المطارف، نخبة الأقران، بل صفوة الأعيان، فرد دوحة الأخيار العلماء، الفضاء العظماء ذاك أخي بل صديقي بل سيدي بل ساعدي، يل صارمي، الذي تصول به يدي، الشيخ الذي أحيا من مآثر بيته ما طال عليه العهد ولا أقول تنوسي الماجد الشيخ سيدي محمد السنوسي، لا زالت العين تنافس فيه الجنان، فتارة في سوادها وتارة في سواد الجلجلان. أما بعد تحيات عطيرة تحملها أكف الاشتياق، وأطيب من حديث تلاق في مسامع العشاق، تحاكي شمائلكم عذوبة وطيباً وتهز من أريحيتكم غصناً رطيبأن فقد ورد كتابكم الكريم، ذو المحيا الوسيم، المتلقى بغاية المسرة، المتحف بنهاية المبرة، المؤدي لحقوق الصداقة، المنبئ أن الوداد فاتح لرعاية الإخوان أحداقه، المبشر بغاية الأمينة، من استقامة تلك الذات السنية، والإقامة فيا له من وافد، بل عائد بقلوب أضناها طول التباعد، دأبها استنشاق نسمات أخباركم، في وردكم إصداركم، عسى أن ترقى به جنونهأن وتكشف به شجونهأن وبهذا أصف لك ما بها من الشوق، وقد شب عمره من الطوق، ودوائر العبارات إنما تحيط بالمقدورات وحسي أن أتمثل عن الحال، بقول من قال: [الوافر] كتبت ولو كتبت بقدر شوقي ... لأفنيت القراطس والمدادا ولا غرو أن فر الاصطبار، لما شط المزار فإنه لم يجد أين يحل، والقلب معك يرتحل، ومن لي بمن يعيرني فؤاداً أكابد به النوى، ويكون زيارة لشخص الحبيب فأستريح من الجوى، وإن تعجبت مما فعل بنا البعد في أيام ليست بكثيرة لعدد، أقول منشداً البيت الشهير البراعة، أهذا ولم يمض للبين ساعة، فحجبتنا حينئذٍ قول المحب الصادق، وأنت بها الدري الحاذق. [الطويل] أأترك ليل ليس بيني وبينها ... سوى ساعة إني إذا لصبور وليس هذا تعريضاً ةأيم الله لعدم استيفائك لحال الشوق بالتعزير، الذي يزعمه يراعك المشهود به بالتبريز في حلية التعبير، وإني نحن الموقنون بكثرة أشغالك، في حلك وترحالك، ومثلك ممن أنيطت به عظائم الأعمال، لا يقابل واجب رعايتها بالإهمال، وعظيم اشتياقك بملاقاة خاصة الإخوان، أغنت فيها ما قرره حكيم الشعراء في بيته الشهير الفصيح، هذا وإني لست ممن ينتحي بالتأنق في الفقرات، ويعجز بالتنميق في العبارات، مع علمي بأنها مهداة لمثلك، ومسوقة قطيراتها إلى سبلك، وزمن يعجب بإهداء التمر إلى هجر، والنور إلى القمر، ألقى بنفسه إلى الاستهزاء، وكان أن يعد من الحمقاء، وما هو إلا جواد يرى هزته خيلاء، وكاتبك فركض كيف شاء في حلبة مخاطبتك تطيره رياح الاشتياق، فيجمح كيف يريد في ميدان الأوراق، فلا تخل إذا طولت تطاولت، إذا لم أف بالحال ولا قاربت، وأما تبليغ تحياتك العطيرة، الإخوان المنزلين منزلة العشيرة، فقد أقرت سروراً ورنحت أعطافهم طرباً وحبورأن لاسيما الشيخ الأكبر الذي ما زرناه منذ فارقناه، إلا صبيحة ورود كتابك لتبيلغ خطابك، فسر غاية السرور بتلك الكتابة، ودعا دعوة الشيخ مستجابة، بتعجيل الإياب على أحسن الأحوال، حتى تنظم لعقدنا وسطاه فيبتهج بالكمال، والسلام من أخيكم الغريق في نسب الصداقة محمد بن أمد بن محمد بن الخوجة أخذ الله بيده آمين. وحين ورد إلي هذا الكتاب بما اشتمل عليه من المحاسن التي انهمرت منها المودة بماء غير آسين، بادرت جنابه مجيباً بما نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 العيلم الذي جواهر آدابه تبهر الألباب، والفصيح الذي عذوبة ألفاظه تزري بمعسول الرضاب، دراكة المعقول والمنقول، البارع في استنتاج الفروع من الأصول، خلاصة الأعلام وغرة جبهة الأيام، وقرة أعين الكرام، سلالة العلماء الأفاضل، المبرز في الدروس العلمية على كل مناضل، مالك أزمة البيان، وملك أيمة اللسان، فصيح القلم إن نثر أو نظم، والعالم العلم، القاصي الهمم، وشقيق روحي ونفسي، وعماد أهل مودتي وأنسي، سيدي وسندي، ووسط عقد أهل بلدي، الأخ الذي لا أجد عبارة تبرهن عن منزلته من ودادي وقصارى قصوري أن أقول: إنه عين فؤادي العمدة الشيخ سيدي محمد بن الخوجة، لا زالت مسالك السعادة له منهوجة. أما بعد إهداء سلام ربما لا يفي بما ترومه وإن أطلت نجاد أوصافه، ولا يبرهن عما عندي من الاشتياق بذلك هزة أعطافه، وحسي أن أقول سلام خل تكاثرت أشجانه، من بعد مكانه، عمن أهواه من خاصة إخوانه، فإني وأيم الله كدت أن أذوب من الشوق، لولا تلاقي كتابك بما قلد به من الطوق فلم أفتح ختامه، إلا وقد نهلت العين مني ساكبة مثل الغمامة، حتى محيت سطوره قبل أن أستيقظ لتلقي سروره، وهذه الحال كنت أعدها في بيوت الشعراء من زخاريف المقال، ولا والله إني لعليم الآن بما يجدون، وأنهم لا يصفون ما عندهم ولو يجدون، ومثلك من يكفيه هذا العنون، عما أجده من بعد الإخوان، فماذا تحاول مني أن أستوفي تقرير الشوق بتعريضك، وكأني برفيع جنابك لا يجد، ما عندنا مما تصفه بنثرك وقريضك ولكن بين الوجدان والتوجد، ما بين من انتظم شمله بأخوتك والمتوجد، وإلا فكيف تجعل ايام البعد، ليستن بكثيرة العد، ومع تجاوزها للعشرين يوماً تطويها بما عندك من البراعة، وتستنشدني أهذا ولما يمض للبين ساعة، فأنا أحجك بمجرد وقو ذلك بخاطرك القويم، ولو أنك علقت تعجبنا من فعل البعد بالأداة التي تؤذن بما أنت به علم، ولكن قد تبين لي وأنا ممن لم ير عن الحق ميلاً أن ذلك كان منك وسيلة لإنشاد (أأترك ليلى) وهذه مطارحة حملني عليها ما تدريه من الود، والتلذذ بمفاكهتكم على البعد، وإلا فإنك أتحفتني لا زلن تحفة للإخوان بروض الدوح أريج، ذي منظر بهيج، ولم يحكه نشر أزهار، الرياض ولا غرغرة سلسبيل الحياض، كلا وأيم الله ولا تغازل الجفون المراض، ولقد اتخذت فصيح عباراته ولطائف إشاراته ورد الاغتباق والاصطباح، أغناني عن معاطاة الأقداح من أيدي، الملاح، وشنفت به آذان جلسائي من علماء هذا البلد، الشاهدين لك بكمال البراعة التي لم يبلغ إليها أحد، وقد استحسنوا تبليغ سلامنا إلى الشيخ ودعوته، مستجابة، وظنوه من الصالحين الذين لهم من الله الإنابة، وكلهم عاد يرغب أن تستمد لهم منه الدعأن فأبلغه ذلك وسيجزي من سعى، والسلام. وكاتبني أدام الله رعايته وحفظه مجيباً عن ذلك بما نصه. بعد إهداء أعز التحيات وأعطر التسليمات المحاكية أخلاق أخير النسيم لطفأن إلى معاطي الألباب من بدائعه قرقفاً صرفأن نخبة إخواني، وواسطة عقد أقراني، الفذ الوحيد في كمالاته، والمنقطع القرين في تدبيج محبراته، طلاع ثنايا العلوم، المشرق نير إدراكه بين نجوم الفهوم، مجلي غياهب المشكلات، إذا اضطرب الأقوام في حل المعضلات، متلقي راية المجد بيمينه، المفتون بأبكار المعجز وعونه، الساحر للأفهام ببراعة يراعه، المسترق للقلوب ببديع اصطناعه، المتولي على الغاية لافي حلبة الكمال، الأخ الصديق الذي لم يسمح له الدهر بمثال، من لقبته أندية الأدب برئيسي، عمدة خلاني وواسطة عقد إخواني الشيخ سيدي محمد السنوسي، عج الله أوبته، وأنس غربته، وحرس ساحته، مما يكدر ارتياحه هذا والذي في إيناس من صفوة الجلاس، المنشد لم لدفع الإيهام، الناشئ لكم من تابعنا والتآمنا بخاصة الإخوان الكرام، حتى عرض يراعك بالسلوان، وإيهامنا بالغفلة والشغل عنك بغيرك ن الإخوان فلتسمع ما أقول، وإن عد التنبيه على المعلوم من قبيل الفضول: ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصيبنا وكأني بلسان حالي ينشد للفتى المتردد: [الطويل] ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 هذا وإن سيدي وأخي تتالى في مدحك المكتوب بما لا تصدقه في كل القلوب، حتى أدعي أني وصلت إلى حد، لم يبلغه أحد، وذلك الإفراط، أداه إليه الود المحكم الرباط، تجاوز الله لسيدي فيما قال، وفي اعتقاده فينا غاية لكمال، وفي قولك جلساؤنا مع علماء البلد نكت لا يخفى على كل أحد، وأما التماسك الدعاء إليكم من الشيخ الكبير وطلبك والسعي مني ودعاؤك لي بالجزاء على ذلك ففيه ما ترضاه لأخيك أيها الأستاذ النحرير والسلام. وكاتبني جناب الودود الكاتب الأبرع الشيخ سيدي عمر بن أبي الضياف بما نصه: المقام الذي تقتبس الفضائل من أنواره، وتغترف الفوائد من تياره، مقام الفذ الذي بذ الأقران، والفرد الذي لم يسمح له الدهر بثان، واحد العصر، وضياء هذا المصر، ومن جلت مفاخره عن أن تحاط بحصر قطب رحى الآداب الآتي من بدائع أساليبه بالعجب العجاب، وجناب إنسان عين النبلاء وبحر المفاخر الذي لا تكدره الدلاء محل ودادي، ومن له المكانة الخالصة من فؤادي، الشيخ سيدي محمد السنوسي حرس الله ذكره، وأعلى على الأقدار قدره. ما بعد إهداء سلام ألطف من الشمول وأحلى من الرضاب المعسول، وأصفى من الزلال وأضفى من سابغ الظلال يخص ذاتكم الكريمة، ومودتكم القديمة، هذا وإن الحقير ينهي إن وصف أشواقه بإطناب فقد أوجز، وإن نعت تلهفه على اللقاء واحتراقه بديع البيان وأعوز، وأني يبلغ اللسن من ذلك مغزاه، وهو لا يقف على حقيقة فحواه، غير أنه يكل ذلك إلى ما تشهد له القلوب لما يعلمه علام الغيوب: [الرمل] لست عن ود صديقي سائلاً ... غير قلبي فهو يدري ودّه فكما أعلم ما عندي هـ ... فكذا يعلم مالي عنده وإلي هذا يا أخي لما فارقنا شخصك وزايلنا أنسك صرنا كدست غاب صدره، أو ليل تغيب بدره، والله المسؤول وهو المرجو المأمول أن يبلغ من اللقا السول، كتبه حليف ودكم على الدوام المهدي التحية والسلام. وكاتبت جنابه مجيباً عن ذلك بما نصه: حرس الله بعين عنايته جناب النحرير الأبرع، والأكتب اليلمع خلاصة الأعيان، وغرة جبهة الأزمان، اللوذعي الأريب، والفهامة الأديب، المنشيء الفصيح، المعرب عما انطوى عليه من إخلاص المودة بالكناية والتصريح، أوحد الزمن لطافة وكياسة، وأعجوبة الدهر محاسن الأخلاق وسياسة، وعضد مودتي، وجناح عدتي أخينا الشيخ سيدي عمر بن أبي الشياق، حفه الله بخفي الألطاف، وأدام أجنة إنشاءاته دانية الاقتطاف. أما بعد إهداء السلام يحكي محاسن أخلاقك، وعذوبة مفاكهة أذواقك وأني للشمول ما عندك من الشمائل، وقد قضينا بتفضيل جنة أخلاقك على أجنة الخمائل، فقد شرفني وشنفني كتابك الذي برقت أسره سطوره، بجواهر منثوة وتنفست عوابق، صداقتك الفائحة، من أجمته التي بدور إيناسها صارت في آفاق مجلسنا لائحة، ولعمر الله إنك لقد قلدتني ما لم يتأهل لها طوقي، غير أني ولك المنة قد وجدت بها إطفاء بعض شوقي وحيت وكلت إلى قلبك السؤال عن مودة الصديق، فحبذا ما يشهد به ذي الود العريق، سلوا عن مودات لرجال قلوبكم، فتلك شهود لم تكن تقبل الرشا وفي بسط هذا البساط، ما لا يدخ تحت دائرة الاحتياط، إلا أنا نتوجه إلى المطلع على الضمائر، العالم بخفيات السرائر، ونرغب الله أن يجمع بعدنا وأن لا يكدر أحداً من أحبتنا بعدنأن والسلام. وكاتبني الأخ اليلمعي، الفاضل الزكي، سيدي محمد القصار بما نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الجناب الأكرم، والملاذ الأفخم، عمدة البلغاء والمتكلمين، وكنز النحاة والمعربين، والمتحلي كلامه بقلائد العقيان، ونظامه ببلاغة قيس وفصاحة سحبان، كيف ولا وهو البليغ الذي إن تكلم جزل وأسكت كل ذي لسان ببلاغة وإحسان بل البحر الذي جرت فيه سفن الأذهان، فلم تدرك قراره وعجز البلغاء أن يخوضوا تياره ما برز في مواطن بحث الإبراز على الأقران ولا أخبر عن فضله من رآه إلا وتمثل ب? (ليس الخبر كالعيان) ، كيف لا وهو البليغ الذي تلألأت بمعاني بيانه السطور والطروس، واهتزت ببديع براعته الأعطاف والرؤوس، الألمعي الأحظى، والأريب الأرضى أخونا الشيخ سيدي محمد السنوسي لا زال برهان فضله ساطعأن ودليل مجده قاطعأن ونجم سعده أبداً طالعأن ولا زالت أسفاره مقترنة بالسلامة والأرباح، متصلة بالغبطة والنجاح، وقضى بقرب رجعته، وجعل مسيره يزيد في رفعته، وسكن بقدومه أشواق أوليائه وأهل محبته، ولا زالت محاسنه مشكوره، ودراهم معمورة. أما بعد إهداء تحيات تباري نسمات الصبا بلطفهأن وتزدري نشر خمائل لصبا بعزمهأن وأدعية ترفعها أكف الضراعة، وتبتهل بها إلى الله قلوب متجذبة مطواعة، فإنه لا يخفى على شريف علمكم، ولطيف فهمكم، ما بيننا من المحبة المعتيدة، والمودة الأكيدة، وإنا إليكم محافظون على الوفأن ولا نكدر من شراب المحبة ما راق صفأن والعبد منذ فارق جنابكم الرفيع المقدار، لم يذق جفنه لذيذ هجعة أو قرار، وأني يكون له قرار وهجوع، ولواعج أشواقه تتلهب بين الجوانح والضلوع، كم صبر فؤادي وهو يقسم بأنه لا يستطيع معه صبرأن ولا يخافكم من نصف قلبه ببلد ونصفه بأخرى، فنسأل الله أن يمن علينا بالتلاق، ويطوي شقة البين والفراق، والسلام. وكاتبته مجيباً بما نصه: أدام الله حفظ الأنجب الأبرع، والفهامة اليلمع، اللوذعي اللبيب، والأوحد الأريب، الأنجد الأزكى، والأمجد الأذكى نجم الدروس، ومبيح خبيئات الطروس، المزرية من لطف أخلاقه بسلافة الكؤوس، نخبة أقرانه، وغرة جبهة زمانه، أخي وعشيري، وعماد مودتي وسميري، مشيد عالم الفخار الذي تطلعت محاسن كمالاته طلوع محاسن الأقمار أخينا الشيخ سيدي محمد القصار، لا زال يتحف إخوانه بنزهة الأبصار، ويجدد لهم حلي المودة بتجدد الأعصار، ما دام الليل والنهار. أما بعد إهداء تحية تعرب عن ودادي، ولا أن أنها تقوم بواجبات ما قلدتنيه فقد تشرف العبد بمكتوبكم العزيز، الخالص خلوص مودتنا وأين منها خلوص الإبريز، قد سرني وأيم الله مضمونه وكادت أن تذهب على القلب شجونه، على أنني معترف بأني لست من التقصير في حقوق أودائي ببري ولكن إن مكان الواحد منهم مقسم القلب فأنا نه عري، وهذه غاية ما يقدم به الاعتذار حين شط المزار، وتناءت الديار، ولم يقر للحقير قرار، ومن تباعد الأسفار، نسأل الله تعالى أن ينظم الشمل بجنابكم، وأن لا يعدمنا التلذذ بعزيز خطابكم، والسلام. وكاتبني حرسه الله مجيباً عن ذلك بما نصه: المقام الذي كل البيان له منقاد، والبديع يقتبس من ذهنه الوقاد، من صعد من سماء العلوم أعلى المنازل، وورد من مياه الآداب أعذب المناهل، وعلوم المعاني قد أطاعت له لفكر، وظفر منها بالثيب والبكر، فارس حلبة الإبداع والبراعة، حاوي قصبات السبق في ميادين اليراعة، حتى تعدى بالمفرد العلم، وفرسان البلاغة القولية السلم، الهمام الجليل، الراقي مراقي العز والتبجيل، أخينا الشيخ سيدي محمد السنوسي لا زال بحراً يقذف موجه الدرر، وعقداً في جيد الدهر يتلألأ بالغرر مخصوصاً بأنواع الكمالات، طالع البدر من أشرف الهالات. أما بعد إهداؤ لسلام لأطيب من عرف النسيم، والأعذب من رحيق مختوم ختامه مسك ومزاجه من تنسيم، فإنه قد وصل كتابكم فكان وروده أشهى من الفلق لمن باب يكابد مكائد الغسق أو وصل حبيب أو مخالسة، رقيب، أو الماء العذب الزلال لمن أغواه من شدة الظمأ الآل، وليس يخفى ما يحصل للمحب عند رؤية آثار الأحبة من إثارة الأشواق، التي هي للمحبة من ثمرات الأوراق، ولقد كنا في وله وقلق أزاله كتابكم، ومحاه خطابكم. أبقاكم الله سالمين، ووقاكم من كل أمر يشين، والسلام. ثم إني لما أدركني عيد الأضحى، بادرت الإياب إلى الحاضرة ضارباً عن أهل الساحل صفحأن لأقضي العيد بين إخواني وأريح التجاني، باستنشاق ما تتضمخ به أرداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وبعد أن أقمت تلك المواسم بين الأهل والإخوان، عاودت الرحيل إلى مدينة القيروان واستعذبت لما وجدت في طريقها من المشقة، إذا هي مدينة وأي مدينة، جمعت مفاخر ثمينة، ناهيك بها مضجع البلوي صاحب الرسول مصحوباً بالشعرات النبوية التي هي أعز المأمول، مع ما ضم ذلك التراب من التابعين وتابعيهم، والأيمة المجتهدين من أعلام الأمة وصالحيهم وعنوان ذلك ما جمعه ابن ناجي في كتابه معالم الإيمان وما استدرك به عليه بعض المتأخرين ممن اجتمعت بهم في ذلك المكان، وما زالت البركات فيها عاكفة، والخيرات على أهلها واكفه إذ ما منهم أحد، إلا وله من لفضل وحسن المعاملة ما لم يقف عند حد، فتلقونا بالترحاب، وأنزلونا منازل الأحباب، حتى حملني حسن إكرامهم وفضل مقامهم على أن أنشأت في مديحهم قصيدة بديعة، ضمنتها ما لقيته في الطريق وما أصبته في تلك الرياض المريعة، وهي قولي: [الخفيف] طاوي البيد مبسراً غير وإني ... إن توجهت زورة القيروان باكر السعي نحوها باجتهاد ... لاقتياد المنى بذاك العنان قد خرجنا لها على حين اضحت ... واكفات الهتون مثل الجمان نلتقي الريح عاصفاً مثل رعد ... قاصف لم يدع ثبات الجنان ومحيا غزالة الصبح ورار ... هـ الحيا بالسحاب مثل المصان فامتطينا عزائماً ذات صدق ... واعتمدنا البعاد عن كل دان واقتطعنا صعاب ذا اليوم سيرا ... وانتجعنا المبيت عند الأوان وارتحلنا بقطع ليل تبدى ... بدره نافراً نفور الحسان إذ يرى في الدجى دلالاً فنلقى ... أعينا للنجوم لاحت دواني أو يرى يزدهي بحسن فيبدو ... في ميادينه بغير امتنان يقصد القرب رائماً وصل شمس ... قد توارت بحجيها عن عيان وإذا ما ارتمى إليها تبدت ... من علا الشرق لا تروم التداني تقتدي تبهر العقول وتلقي ... في البراري بساطها الخسرواني فارتفقنا معاً إلى أن رأينا ... من حلى القيروان من خير جاني فاستنرنا بشمس هدي تبدت ... من حلى ثراها وقال كل ذراني حبذا حبذا بشمس هدى تبدت ... من ثراها وقال كل ذراني حبذا حبذا معالم دين الل ... هـ لاحت مجلياً بالتهاني هذه بلدة تأسسها أص ... حاب خير العباد في كل آن هذه مركز لولاية والع ... لم ففيها تبدت الخصلتان فهي مأوى أيمة الدين من أه ... ل القرون الثلاث هل من مدان؟ أهلها قد تأثل الخير فيهم ... فانجلى فضلهم بأقصى المكان يتلقون وافديهم بيسر ... ملء أجفانهم بملء الجفان يؤنسون الغريب بالقرب حتى ... يمتلي من ودادهم بالتفاني إذا تحلوا من المعالي بفخر ... عاد كل بحسنه في افتتان إن تنادوا إلى صلاة سراعا ... فتراهم في رغبة مع حنان ورثوا الفضل عن جدود ومازا ... لوا بهم يقتدي بني الثمان فالصير ائتسى بمن قبله في ... كل مجد فنال خير الأماني هكذا هكذا المفاخر فيهم ... لم تزل تبتني لهم في العيان قد تجافوا عن الأناسي حتى ... نزلوا القيروان في صحصحان أحسنوا الصنع للإله فأضحى ... رزقهم ساعياً لهم كل آن أرسل الله كل خير إليهم ... مع تنائهم عن البلدان وكفاهم شرَّاً جوارٌ وهذا ... أعجب الشيء بين أهل الزمان لن ترى في بلادهم من يهود ... ي ولا الغير من أهيل الهوان لا ولا تلتقي بها حان خمر ... ما لهم واستقاء بنت الدنان؟ إنما بينهم مشاهد صحب ... وزوايا للأوليا في أمان أو رجال الهدى فإن رمتهم سل ... عن علاهم معالم الإيمان مثل سحنون والعبدلي المر ... ضي وحنشر وغيرهم كالعواني بينهم جامع أقيم على تق ... وى من الله نير الأركان شاده عقبة الصحابي من قد ... قام للدين ناصراً بالسنان فاغتدى أول المحاريب في المغ ... رب محرابه فهل من يداني؟ حبذا بينهم مقام المعلّى ... صاحب المصطفى الرفيع الشان ذا أبو زمعة الذي صحبته ... شعرات الرسول لفي ذا المكان بلوي أتى المغازي مع الأص ... حاب ذا رام نصرة الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قام للدين ثمك أضحى يجوب ال ... أرض في جوبه خليع العنان كم روى عنه سادة فاستناروا ... من أحاديثه الصحاح الحسان واجتناها غنائماً ليست تحصى ... من جميع البلاد قاص ودان يقتدي ف الحروب دفاع إن ما ... ت بحزم فكان ثبت الجنان ما تولى الزحاف في يوم حرب ... لا ولا كان للعزائم ثانِ ولذا وفر الإله له الغن ... م وأولاه مسعدات الجنان فاقتنى الحسنين فضلاً من الل ... هـ فماذا لواصف باللسان شاهد المصطفى وتلك المغازي ... واغتدى بعده شهيد الطعان لن ترى في مقامه غير سر ... باهر من جلاله المستبان يملأ العين والفؤاد اجتلاء ... لا يفي وصفه وضوح البيان من يوافيه مستجيراً يرى ما ... يرتجي من مناه لا عن توان هكذا هكذا به قد رأينا ... إذا دخلناه راجين الأماني آملين السداد ولنجح فيما ... قد قصدنا على مرور الزمان نرتجي من رضاه فوزاً بما أن ... نالنا لم نرع من الحدثان علّه أن يمدنا بالأماني ... ل وللوالدين والإخوان والألى بالعلوم قد أرضعونا ... خير ذي به أعز اللبان يشمل الكلَّ جاهه عند ربي ... كي نرى منه في نعيم الأمان وقرظ هاته القصيدة شاعر القيروان السيد محمد عيسى الكناني بقوله: [الخفيف] أيها الفاضل الزكي المعلّى ... من له في القريض خير المباني وأيادٍ عجيبة ما لمثلي ... أن يرى آتيا بها أو يداني أطربتنا حسناء جاءت بودٍّ ... وخلوص بذي المعاني الحسان بنت فكر قد ازدهت في حلي ... ما حواها البديع في همذان فلك الله يا خليل ممدّا ... بمراجيك من بلوغ الأماني حيث تم في صحب خير البرايا ... ورجال الهدى بكل مكان مثل باب الرفيع ثم الجناح الأخ ... ضر المحتوم على الأعيان ولك النفع بزيارة سحنو ... ن المسجى بباب نفع المداني وعطاء من الجناب المعلّى ... من تسامي ببيعة الرضوان طالع السعد قد حباك بما قد ... نلته سيدي فكن في أمان يا سليل الأفاضل الحائزين ال ... مجد بالسبق من قديم الزمان جدك الخير السنوسي إمام ... بعلوم زكا على الأقران فأتيتم من بعده في انتساق ... يقتدي بعلاكم النيران فجزاك الإله خير جزاء ... ووقيت العدى وشر الهوان ثم لا زلت لابساً ثوب عز ... وافتخار سما به الملوان ثم إني أول: إنني بمجر وصولي إلى تلك المدينة، طلبت الاجتماع بقية صالح سلفها من ذوي المفاخر الثمينة، فاجتمعت بكبير أهل الشورى بها عماد بيته الأثيل، العالم الجليل والقدوة الذي ليس له مثيل، الدراكة الهمام، النحرير الشيخ سيدي محمد صدام، أدام الله بركته للأنام، ووجدته يومئذٍ قد أخذ منه الكبر، وله صداع يؤلمه في غالب السمر، أما ضخامة شأنه، وجلالة مكانه، فقد رأيت من ذلك مفاخر جليلة ومحاسن جميلة، مع ثبات وأناة، وخبرة بالسياسات، وكانت قراءته بالحاضرة على جلة شيوخها في ذلك العصر كشيخي الإسلام البيرمي والرياحي، وقد حصل منه بفضل الله على إجازة مطلقة أجد ببركتها سدادي وصلاحي، بعد أن فزت بمجالسته في مجالس عديدة، وأدركت خلفه صلاة الجمعة في تلك المدة المديدة، واجتمعت بتلميذه قاضيها العمدة العفيف، صاحب الفضل المنيف، الفقيه الورع الشيخ أبو الفلاح سيدي صالح الجودي رعاه اله تعالى وهو رجل غيور على الحقوق، قاك بالعدل واللسان الصدوق، يحي الليل في الدروس والنوازل، وهو الكفيل بعمران تلك المنازل، وحضرت بدروسه في الفقه والحديث، وأخذت عنه سنداً في صحيح البخاري لم نجد مثله في القديم والحديث، بحيث أه بينه وبين الإمام البخاري اثنا عشر رجلاً من رجال السند، وكتب في ذلك إجازة رائقة أعذب من الثلج والبرد، وقد رأيت أن أنظم سندها تيمناً برجاله، فقلت مصلياً على الرسول المصطفى وآله: [الرجز] حمداً لمن أجاز من قصده ... وأبلغ الراجي بذاك قصده وصل يا رب على من اتصل ... سنده إليك من تلك الرسل خصوصاً المختار عز الدين ... حامله عن روحك الأمين والآل والأصحاب والأتباع ... وتابع الكل بلا انقطاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وغب ذا بالقاصر المأسور ... محمد السنوسي المقرور يقول: إني من حديث المصطفى ... قد اشتملت خير كاس قد صفا ولاسيما بما روى البخاري ... من الأحاديث عن المختار فهو صحيح مسند مرفوع ... والدين فيما قد حوى مجموع وقد تنعمت به دراية ... عن الشيوخ طوراً أو رواية فنلت من إسنادهم إيصالاً ... وقد بلغت منهم الآمالا حيث أجازوني تفضلاً بما ... هولهم من الأسانيد انتمى وأقرب الطرق ما أنبأتي ... به أبو الفلاح فخر الزمن قاضي مدينة العلوم الجودي ... القيرواني ذي العلى المحمود عن شيخه مفتيها محمد ... كنز العوم والصلاح الأمجد أعني أباهاها جميل الدين ... عن يوسف الإمام بدر الدين ذاك المجاز من شيوخ جمة ... نحواً من المائة فخر الأمة إذا طاف بالمشرق في الأعجام ... فنال منهم غاية المرام عن زين باعلوي إمام الحرمين ... ذا جمل الليل اغتدى في الثقلين عن شيخه محمد بن سنة ... العمري الفاني محيي السنة عن أحمد العباس عن غضنفر ... النقشبندي في سائر الفنون عن الإمام الحافظ الطاوسي ... أبي الفتوح مهدي النفوس عن بابا يوسف الإمام الهروي ... من اغتدى بكل فضل أحروي عن ابن شاذبخت الفرغاني ... محمد الشيخ حلى الأعيان عن ذلك الشيخ أبي لقمان ... يحيى أبي المفاخر الختلاني عن أبي يوسف الزكي الفربري ... عن ذلك الحجة فخر الدهر محمد المعظم البخاري ... محيي معاني سنة المختار فأبصر ترى رجال هذا السند ... ثلاث عشر اغتدى في العدد وفي الثلاثينات سبعة عشر ... بيني وبين المصطفى خير البشر فالحمد لله على اقترابي ... في صلتي من ذلك الجناب صلى الله والأصحاب ... ومن روى عنهم مدى الأحقاب يقول العبد الفقير إلى ربه محمد السنوسي: أنبأني الشيخ أبو الفلاح سيدي صالح الجودي، عن شيخه سيدي محمد باهاهأن عن الشيخ سيدي يوسف بدر الدين، عن الشيخ سيدي زين باعلوي عن الشيخ سيدي محمد بن سنة الفلاني، عن الشيخ سيدي أحمد العباسي، عن الشيخ سيدي غضنفر النقشبندي، عن الشيخ سيدي تاج الدين عبد الرحمن الكازروني، عن الشيخ الحافظ أبي الفتوح سيدي الطاوسي، عن الشيخ بابا يوسف الهروي، عن الشيخ سيدي أحمد بن شاذ بخت الفرغاني عن الشيخ أبي لقمان سيدي يحيى الختلاني، عن الشيخ ابن يوسف الفربري، عن الشيخ الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ثم الجعفي رحمه الله تعالى ورضي عنه قال: بابا كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ.. وكنت قبل خروجي من الحاضرة كلفني صدقي بنازلة مع الشيخ المذكور، وحيث قضيتها على الوجه المبرور، أرسى عليه الحال، وأدمجت مع ذلك شيئاً من دعابة المقال، وهذا صورة ما كاتبته به: جناب الأخ الذي تاقت النفوس إلى محاضراته، وبدائع مسامراته، لهمام الذي أحرز لواء الكمالات، التي ظهرت ظهور الشمس بالآيات البينات، فصيح اللسانين، ودراكة المعقولين، النقادة النحرير، والفهامة الولوع بتحبير أردية التحرير العالم الجليل، صاحب الخلق الجميل، عمدتي وودودي، ومن بمناهل ملاطفته استعذب ورودي، الشيخ سيدي محمد بن الخوجه، لا زالت حبال المودة بيننا موشوجه. أما بعد إهداء تحية تسفر عن محيا الاشتياق، وتريك محاسن المودة التي لو كانت غادة لذبل منها كل من الطرف والأحداق، فإني والمنة لله على ما يسركم من العافية والسلامة، والمسؤول من الله أن يديمها على الجميع في الظعن والإقامة، لولا ما كان بيننا من البعاد، الذي لم نستنشق معه روائح أخباركم من أثر المداد، وغاية الآمال، بأن جنابكم على حالة الكمال، وما كنت أحسب أن تتناءى بنا الفروق، حتى يمون حديثكم أبعد علي من بيض الأنوق، ولولا وثوق الأسباب وطيب ما لاقيته بهذا البلد من العلماء الجلة والسادة الأقطاب، ما حظينا به ولله المنة من التنعم بمقام من ضمت إليه شعرات المصطفى من الأصحاب، إلى غير ذلك من التابعين الثاوين بهذا التراب: [البسيط] لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 هذا وأما المراسلة ورسم الدين، اللذان حملاني عظيم الأين، فقد أبلغتهما إلى الشيخ الجليل، قاضي القضاة الذي ليس له مثيل، فقام في إقامة حق ربك لتلك الحقوق، التي ظعن عنها ذلك الزوج وكلفها العقوق، فما لبث أن أحضره بأحد أعوانه، وجرعه إلزام القضاة قبل النهوض من مكانه، حتى احتار مما ألزم به ذلك المسكين، وخشي لزوم النفقة على تلك السنين، فأبدى الرأفة بعياله، وزعم أنه غير راضٍ بطلاقها في حاله ومآله، وصفها بمدائح زعم أنه كان في انتعاش، حتى كاد أن يمدح فيها حسن الفراش، وذكر أنها لم تناشزه النشوز الذي أوجب به الطلاق، وأن أهلها الذين هم كلفوه الفراق، كل ذلك إظهاراً منه للتعطف، وإبداءً للمسئلة بغاية التلطف، خشية أن يظهر ما بينها من الشقاق فيشد عليه الوثاق، إلا أن جميع ما أبداه من أنواع التملق، وإظهار أنه لم فيها مع فوات بثها مزيد الرغبة والتعلق، لم يكد ذلك يجد له نفعأن ولا يقرع من آذان ذلك العمدة سمعأن وما كانت له ذلك إلا وسيلة للاعتراف بدارهم أخر كتبناها عليه، زيادة على القدر الذي دعي إليه، وألزم بإحضار رسم الطلاق الذي اعترف بإيقاعه على الوجه الموصوف، حيث لم يمسك بمعروف، (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) ، وقطعه بجوده وعدله. أما قضاء الدين، فيرى دونه احتمال الحين، ولذلك جنح به الشيخ إلى ما هو خير، بعد أن علم أن لا طاقة له على الإلزام بما فوق السير، فاقتضى منه خمسين، وجعل عليه ماب قي مشاجرة بعد أن أخذنا عليه الكفيل الأمين، فالتزم بدفع ما بقي عن سبعة عشر شهرأن في كل شهر منها عشرأن فإن أرضتها هاته المعاملات فلتعط توصيلاً قيما يبلغكم صحبة الحامل، وتوكيلاً لمن ترضاه يتولى استخلاص البقية في الأشهر القابلة يبلغها على الوجه الكامل. وهذه غاية النتيجة بعد أن تسعرت نيران الخصام الأجيجة وها هو يصلك رسم الطلاق، عسى الله أن يبدلها زوجاً خيراً منه فتحظى بالانعتاق، والسلام. أواخر المحرم سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف. واجتمعت هنالك بالشريف الفاضل، والقدوة بين الأفاضل، صاحب الفضل الذي لا يتناهى، سيدي حمودة بوهاهأن وكان يومئذٍ شيخ دروس المقام البلوي، أدام الله بيت مجده العلوي، والشيخ المفتي أبي محمد سيدي حمودة صدام. ووجدت عماد بيت الشريف الأثيل، والفضل الذي ليس له مثيل، صفوة الكرام البرره، ونخبة الخيره، الشيخ سيدي حمدة العواني، وهو نقيب الأشراف الذين فضلهم ليس بخاف وهو من العفة والهمة العالية بمكان عظيم وجدته ولوعاً بالسيرة الحلبية، وحصلت منه على دعوات نرجو بها كل أمنيه. إلى غير ذلك من الأعيان الذين ضمهم ذلك المكان كالفاضل الزكي المدرس الشيخ سيدي حمدة بوراس وهو ممن أنسنا في تلك الإقامة، جزاه الله بكل خير وكرامة. وكان عامل المدينة المذكورة يومئذٍ الهمام الأفخم أمير الأمراء محمد المرابط، إلا أنه استخلف عليها عند ذلك أخاه العمدة الأكمل الأبر الموقر المحترم الحاج محمد فوجدنا له من حسن السيرة في معاملته أولئك الأعيان، ما لم يتمالكوا به يثنوا عليه بكل لسان، على أن فخر العامل المذكور، قد اشتهر منذ دهور، إذ هو في نسبه ينتمي إلى دفين تلك المدينة صاحب الزاوية المكينه الشيخ سيدي عبيد الغرياني رضي الله عنه ومكانته من عهد المشير الأول لا تكاد تخفى في تلك الدولة الأحمدية، حين قاد جيوش المحمدية. أما مآثر السلف التي في ذلك البلد، فإنها لم تعقف عند حد وناهيك لجامعها الذي هو من أعظم المفاخر الإسلامية، ومحرابه أول قبلة رسمت في إفريقيه، برسم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ووجدنا بمستودعه من مآثر الصحابة قطعة من درع تبركنا بها مع آثار قوس وبعض ملابس آخر من واقيات الحروب وبقايا مصاحف كوفية على الرسم الأول قبل النقط المتعارف الآن والشكل، إلا أنا ألفينا الجامع المذكور قد تداعى، وكاد المسلمون أن يعدموا به انتفاعأن فبادرنا إلى شرح حاله لجناب ذلك الرئيس، وقد نجح بحمد الله في ذلك سعيه إلى الوجه النفيس، وكاتبه في ذلك كبير أهل الشورى، بمكتوب يملأ الأفئدة سرورأن غير أني لم آخذ منه بنظير، لأحلي منه هذا النزر اليسير، نعم وكاتبه في ذلك الشيخ القاضي بمكتوب، أتى به على أحسن أسلوب نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 حرس الله مجد جناب الهمام الكامل، الثقة العمدة النزيه الفاضل، رضيع لباني المجد والعلم من أيمة كانوا غرة في جبهة الدهر وسليل مشايخ أعلام كانوا أيمة فقهاء عصراً بعد عصر، ألا وهو القدوة النحرير، والعلم الشهير، كريم السجايأن وحميد المزايأن الشهم الأحزم والسري الأفخم، الحبر الشيخ محمد بيرم، رئيس جمعية الأوقاف بالحاضرة المحمية، والمكلف بإدارتها وتعميرها فيها وفي سائر البلاد الإفريقية، وصل الله مجده بمجد من مضى من أسلافه، وبلغه أمانيه بخفايا ألطافه، آمين. أما بعد إهداء التحية المرضية، المناسبة لكمالاتكم السنية، فمن المقرر المعلوم، أن جامع مدينتنا الأعظم، له فضل السبق على سائر الجوامع الإفريقية والتقدم، فقبلته أول قبلة وضعت للناس بالبلاد الإفريقية، عن الاجتهاد الصحيح بالأدلة الكشفية واليقينيه، اختطه من فضلاء الصحابة الأعيان، أكابر ممن شاهد بدراً وبايع بيعة الرضوان، وعمروه بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن وطافوا بأرجائه متضرعين مبتهلين، بالدعاء لمن يعمره من سائر الناس في كل حين، وبسبب ذلك تنافس في تعميره من سلف من الولاة فما منهم من أحد إلا وترك فيه من مآثر كمال اعتنائه به علامات، حتى أكملوه على فخامة أبدعيه، وضخامة لم يعهد مثلها في البلاد الإفريقية، أصلوا دائرة جدرانه على أكمل بناء متين، ودعموا سقوفه بعمد رفيعة جلبوها من أقاصي مصانع القياصرة الأقدمين، يرجون أن يدوم لهم أجر من عبد الله فيه ويجري عليهم ذلك بعد الممات، وأن تعود عليهم بركة دعاء من دعا لمن يعمره من أولئك السادات، وإنه وقع الآن بسقوفه خلل إذ مضى عليها ما يفوق المائة والألف من السنين، حتى خشي سقوط بعض الأماكن منها على المصلين، فاقتضى النظر أن جعل عليه حاجز يحجر من عسى أن يمر أو يصلي تحته من الغافلين، ولم يكن في ريع أوقافه ما يقوم بتجديد بعض سقوفه على ما يليق، لضعف أوقافه عن أن تكون بمثل هذا تطيق، وقد امتلأت المسامع والآذان، وتقرر في الأذهان، حسن إدارتكم بمثل هذا الأمر، وسعيكم فيما يبقي لكم به الدعاء والذكر، ومثابرتكم على تعمير بيوت أذن الله أن ترفع، وتجديد ما دثر منها على الوجه الأرفع، ومثلكم يرجى أن يصرف وجهته إليه، حتى يعمل في ضخامته ومكانته على ما كان عليه، وعن صرف فواضل الأحباس في بعضها بعضاً قيل به حيث لا مندوحة عنه واقتضاه الحال، لا سيم إذا أقيم من صرفه في مثل هذا الجامع العديم المثال. هذا وإن همة مولانا الوزير الأكبر، ووجهته إلى أعزاز هذا القطر وإحياء ما دثر من معالمه في سالف العصر، ومحبته لاقتفاء آثار السلف الماضين، والجري على منهاج طريقهم الواضح المبين، تقتضي أنكم إذا عرفتموه بما آل إليه أمر هذا الجامع وشرح حاله باللفظ الوجيز الجامع، توجهت وجهته إليه، وصرف قصد اعتنائه بحزمه الذي نشر راية الصيت عليه، أبقاه الله جارياً في أموره على السداد، معانا على التوفيق في كل الآماد ببقاء مجد مولانا السيد المشير، العديم المثال والنظير، محروساً جنابهما ببركة من اختلط هذه البلاد، من الصحابة والتابعين والعلماء والصلحاء والأوتاد. هذا وإن الفاضل الزكي، اللبيب السميدعي، الحائز من قصبات كمال الأدب أعلاهأن ومن أحاسن الأخلاق أسناهأن الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي لما اجتمعت به أطلعته على ما شرحته لكم من حال هذا الجامع، وأريته ما ببعض سقوفه من الخلل الواقع، واطلع على أوقافه واستقصاهأن وعلم ما تحصل من فواضل ريعه وأحصاهأن فظهر له ما لي ظهر حيث تطابق الخبر والمخبر وهو الآن عندنا مشتغل بمأموراته، دائب ليله ونهاره فيما كلف به من مشغولاته، وقد دلتنا أعماله على صنائعكم المحموده، التي أحيت بها الدولة معالم الدين المشهودة، نسأل الله أن يكون في عونه، وهو ولي رعايته وصونه. وحين يرد عليكم ما شرح لكم إن شاء الله في الحال على الوجه الأتم، إذ لا يفي بالشرح في مثل هذا المنزل العلم، ومثلكم من يكتفي به لذلك والله ولي عونكم. والسلام من الفقير إلى ربه تعالى عبده محمد صالح الجودي التميمي خادم العلم الشريف والقضايا الشرعية بمدينة القيروان أحسن الله عاقبة الجميع في صفر الخير من سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وقد زرنا هنالك رياض الصالحين كأيمة باب نافع والجناح الأخضر وغيرهم لا سيما ضريح حفيدة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنة سيدي عبد الله التي أتى بها من ابنة جرجير ملك إفريقية حين قتله وأخذها رضي الله عنهم أجمعين وعند زيارتي للجناح المذكور قلت: [الكامل] القيروان أعز طير أفخرِ ... في أرض إفريقية فكنِ الدَّري إذ كان رأسَ فخاره (البلويُّ) من ... قد ضم شعراً للرسول الأكبر وفؤاده سحنون ثاويها الذي ... أحيا مدارك مالك بتدبر وأوى جناحاه مضاجع سادة ... بالعلم والأسرار مثل الأبحر وإذا أراد الله خيراً بامرئ ... أبداه من ريش الجناح الأخضر وقد أنعم الله علينا هنالك بالتلذذ بزيارة صاحب الفضل العلوي الصحابي المقرب سيدي عبد الله بن آدم البلوي وعندما دخلت لمقامه أول يوم أنشدت بين يديه قولي: [الكامل] ?حياك ربي أيها البلوي من=قد حاز شعر المصطفى في مضجعه قد كنتَ من أصحابه الأنصار في ال? ... غزوات مثل الليث حلّ بمربعه هذا نزيلك نفسه ملآنة ... بمآمل ترجى بكم في مرجعه فاملأ حقيبته بما يقضيه جا ... هك إنه لا يكتفي من منجعه وزيادة على الزيادة اليومية التزمت المبيت عنده في كل ليلة جمعة حتى اتفق لي أن اشتد المطرفي بعض الجمع فخرجت إليه ليلاً على حاله اشتداد الوحل، وأنشدت بين يدي ضريحه قولي: [الطويل] أبا زمعةٍ جئناك في حالكِ الدجى ... وقد حالت الأوحال دون زيارتكْ فحاشاك أن لا تمنحنّي مؤلا ... وهذا مفاز الأمن في قرب ساحتك وقد ألهمني الله أن أقرئ عند ضريحه شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك المدة فأقرأت صحيح الترمذي دراية إلى أن أدركني الرحيل وقد كدت أن أبلغ إلى النصف أتممتها رواية وأنشأت يوم الختم دعوات تلوتها في ذلك المقام لعله مما يحسن بنا أن نورده في هذا النظام، وقد كان أحد جلة العلماء هنالك كاتبني بتذكرة بها يستدعيه بعد أن سمعه في الختم على الوجه الذي يرتضيه وصورة ما كاتبني به ذلك الفاضل. الحمد لله السلام على جليل مقامكم ورحمة الله وبركاته وبعد فالمطلوب من فضلكم إرسال الدعاء الذي ختمتم به أريد نسخه بقصد التبرك ويرجع لكم إن شاء الله ختم الله لنا ولكم بالسعادة. والسلام كاتبه حمودة بوهاها. وهذه صورة الدعاء المذكور، بما تضمنه من المنثور حيث كان آخر ما تضمنه ذلك الصحيح المشهور. إن هذا الحديث دين فانظروا على من تأخذون دينكم فقلت: سبحانك اللهم بك التوثيق في أخذ هذا الدين، عن الأيمة المهتدين، من الصحابة والتابعين، وعليك التوكل في القيام بأعبائه، وإليك الالتجاء في التأهل لنشر لوائه، الذي أنت الإله المنفرد بالألوهية في عالم الملكوت، المتقدس بما له من الجبروت واللاهوت، تقدست صفاتك وأسماؤك، وتعاليت عن أن تأويك أرضك وسماؤك، حيث كنت أنت الملك الجليل، ولم تزل أنت حيث كنت في أزلك ليس لك شبيه ولا مثيل، تنزهت بوصفك أنت الرحيم وعظمت آلاؤك فلا يوفي حق شكرها كل عليم، لا إله إلا أنت الرب المنعم بجلائل النعم ودقائقهن ضلت الأفهام في مفاوز شكرك وطرائقهن فنحمدك اللهم حمداً يوافي نعمك ويكافي المزيد، ونستمد من فضلك على نبيك صلاة دائمة لا تنقطع أبداً ولا تبيد، فهو الرسول الذي خصصته بالخلق الكريم والخلق العظيم، وهديت به إلى الصراط المستقيم، أبرزته لعالم الوجود، وإن لم تزل روحه الزكية في عالم القرب والشهود، وأكرمته بشمائل أعجزت الوصاف، فحاوروا في مهامه إدراكها واحتسبوا الإذعان والاعتراف، فهو درة العالم التي ليس لها ثاني، وخيرة بنيء آدم الذي أنزلت عليه سبعاً من الثماني، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 اللهم هذا توسلنا إليك بأعظم الوسائل، ورسولك الذي اصطفيت له أكمل الشمائل، حتى أكرمت من بها دعاك بالإجابه، فيرى البراقع من وجوه السعادة منجابه، وها نحن حظينا بمسك ختامهأن وأدرنا في حانات المسامع كؤوس مدامهأن راجين أن تفضيها علينا بالسعادة، وتمنحنا من سيب فضلك بالحسنى والزيادة، إذ عين منها مسك الختام، في هذا المقام، بين يدي صاحبه وحامل شعراته الكريمه، أحد الفايزين ببغيته الفخيمه، قائد المغرب، الصحابي المقرب، من ظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن سعد إذ حاز دوحة ووضع أصابعه على ختم النبوءة، ناصر الأيمان وفاتح البلدان، وشهيد الطعان، أحد أعلام الدين الذين تتجدد معالم فخرهم وإن تقادم، ضجيع مقامنا سيدنا أبو زمعة عبيد الله بن آدم، اللهم واخلع عليه جلابيب الرضوان، وأوله أضعاف ما يستحقه من الإحسان، وها نحن أمة رسولك لاجئين إليه في مقامه، فاجعل إجابتنا بمحض فضلك من توابع إكرامه، فاللهم يا من إليه الالتجاء نسألك بسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم أن تحسن عاقبتنا. وأن لا تحرمنا من فضلك الثنأن وأن تمنحنا من فيوض رحمتك وغفرانك وتسبغ علينا أردية سترك تفضلاً وإحسانا وأن تنجح أعمالنأن وأن لا تخيب آمالنأن وأن تكسونا أفخر أكسية الهداية والتوفيق، وتيسر لنا من أبواب السعادة أقوم طريق. اللهم فيك الأمل، ومنك نسأل مواهب العلم والعمل، فاجعل ببركة هذا المقام جمعنا هذا سالماً من كدر الدنيا والآخره، وافتح علينا من بحر جودك الذي لا يدرك أحد زاخره، إنك أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال الإكرام. اللهم أجزل منح آلائك لآبائنأن وأول محاسن نعمائك جميع الغائبين والحاضرين من إخواننأن وجازعنا بفضلك بفضلك شيوخنا جزاءً أوفر، يعبق به على جميعهم في الدنيا والآخرة من رضوانك مسك أذفر، وأدم منتك التي لا تحصى على جميع المسلمين، في كل وقت وحين، واقرن بالسداد آراء الحكام، وكن الولي بمن قام بإحياء شعائر الإسلام، بجاه نبيك عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العاملين. وعندما انتهيت من هاتيك العمال، مع ما اقترن بها من نجاح البلوغ إلى الآمال، والحمد لله على كل حال، أزمعنا على الخروج، من تلك المروج، فأمضيت ليلة رحيلنا عند الرجل الصالح البركة الفاضل الشيخ سيدي عمر العلاني، بلغه الله ممن السر إلى غاية الآماني، وقد اتخذ لنا تلك الليلة مبيتة رائقه، بالذكر والأحوال الفائقه، إلى أن تبلج علينا الصباح، فخرجنا لزيارة المقام البلوي بغاية الانشراح فزنا زيارة الوداع، ومعنا جم من أعيان تلك البقاع، وعند ذلك تممنا الزيارة وفصلت عن ذلك المكان بدموع مفضوضه، وكبد مرضوضه، أرى فرط مفارقته أشد المشقات، علي في تلك الأوقات، وقطعنا قاصدين الوطن القبلي، ونحن على يقين بالجد أمامنا ما يسلي: كرامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 اتفق لي مع الشيخ العلاني أمر مهم وذلك أني لما أزمعت على الرحيل من القيروان انفتحت السماء كأفواه القرب فتوالت الأمطار هنالك أياماً عديدة، ومن عادتهم أنهم إذا توالت عليهم تلك المطر لا يخرجون للسفر، لأن أرضهم مزلقة وهناك بعض تكسير في وادي البوقال فلا يأمن المسافر أن يقع فيه، وكم غمر من مسافرين. وحيث عزمت على الرحيل والحالة ما ذكر تعرض غالب أهل البلد ومنعوني من الخروج في ذلك الوقت لكن لما أتممت خدمتي رأيت أن لا وجه إلى التأخر وتوكلت على الله في قصد السبيل، لكن ليلة السفر داخلتني بعض هواجس في الرحيل، والحالة ما ذكر، فاتفق لي لما توجهت إلى موادعة السيد نقيب الأشراف وجدت عنده الشيخ العلاني، فبينما كنا جالسين وأنا أفكر في سفر غد قال لي الشيخ على البديهة يا شيخ أنت لا تخف من وادي البوقال وإنما إذا وصلت أنزل من الكروسة وخذ فرساً واركبه وافطع الوادي على الفرس واترك الكروسة تخرج من الوادي وحدهأن وحين قال لي ذلك زادني الهاجس فتوقعت وقوع مكروه، وخرجت من هنالك على تلك الحالة ففي آخر العشي بينما كنت راجعاً لمحل نزولي اعترضني الشيخ فأعاد علي الدعوة إلى المبيتة التي دعاني لها من قبل فقلت له دعني لا آتيك أبداً فضحك وقال لي: لماذا والحال أن المبيتة عملتها لأجلك فقلت له لا يتأتى لك وأنت تقول لي إذا وصلت إلى الوادي أنزل وحيث إني أتكلف الخلاص بنفسي فلا يعنيكم مني شيء فقال لي ماذا تريد فقلت له أريد أن أقطع بكروستي وأكون في أمان بعنايتكم وإذا لم نر ذلك من رجال القيروان فلا يعنيكم من شيء فضحك وقال لي توجه واقطع الوادي بكروستك ولا سوء عليك وإنما إذ نزلتم الوادي قل بسم الله، فقلت له حينئذٍ نأتيك. ولكن لما خرجنا في الصباح في مشقات الخضخاض والزلق مع ما عندي من النوم نمت داخل الكروسة واستغرقت في النوم وما استيقظت إلا بتزلزل الكروسة من الوقوع في وسط الوادي انتبهت فسمعت خوض الدواب في الماء وسمعت صوت الشيخ مع الكرارسي ضاحكاً وهوة يقول له (انده) فتذكرت قوله سم باسم الله فسميت ولكن بقيت متحيراً من وجود الشيخ معنا مع أنه لم يركب معنا ولشدة ما عندي من النوم عاودني الهجوع فبقيت نائماً إلى الزوال فاستيقظت فإذا نحن تجاوزنا السواطير فتذكرت القصة فعملت أنها كرامة للشيخ، جزاه الله خيراً. وكان دخولي إلى أولى قرى الوطن القبلي التي هي الحمامات صبيحة يوم الخميس الثامن عشر من شهر صفر الخير فقضيت بين تلك بقية الشهر، ورأيت تلك الأيام من حسنات الدهر، إذ أن أهاليها أصحاب سكينة ولين، من العملة المساكين، لا يعنيهم غير الاشتغال بشواغلهم الزراعية، وغيرها من المهمات التي عندهم مرعيه، وأقربها إلى الحضرية نابل التي ضمت وادي السحير، الذي هو من المنازه المخصبة بكل خير، وهو وادي مرمل رحب الساحة، تحيط به البساتين التي تبيح لكل نازل ارتياحه، وبحيث إنه لو كان حول الحاضرة لكان من أعز المنازه إذ هو المنزه الذي طاب بحقيقة الهواء والماء مجازه، غير أنه لم يكن به سعد فجاء على بعد، ولذلك قلت فيه: [البيسط] جئتك يا وادي السحير في السحر ... بواكر السعد تهمي عنك كالمطرِ أما بواكر نسمات الصبا فترى ... مهب أعطارها في ربعك الخضرِ على بساط فقام الأنس يزهر في ... ميامنٍ وشمال موقف الشجر لله ساحتك الغراء ما بسطت ... فيها الرمال من الترصيع بالدرر حاطت جوانبك الأغصان مائسة ... بما به فجرت من يانع الثمر وفي أجنتك اهتزت معاطفها ... تحكي معاطف ذات الدل والحور تغشي المعاطس طيباً من أزاهرها ... إذ تزدهي بالصبا في ربعك النضر تلقى سواجعها تبدي تراجعها ... من لحنها فتوازي نغمة الوتر عذراً لها تسامت من مياهك لا ... من خمرة تدع الألباب في خور ففي مياهك من لطف العذوبة ما ... يبري الشجي فيغدو جامع الفكر يا واد يا ليت شملي فيك منتظم ... بأهل ودّي على ما ندري في السمر إذ ذاك يسقي بكاسات الوداد وقد ... فاقت فخامتها عن مائك النمر نحيي بظلّك من إيناسنا شرفاً ... منه الرصافة أحيت سالف العصر إذ فيك روضة أنس لا نظير لها ... فيما رأيت وما لاقيت من خبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 لم تحك منوبة السمحا علاك بما ... أبدت بساتينها من رائق النظر كلا ولا هاتك المرسى التي فرعت ... بشاطئ البحر والصفصاف والحبر كلا ولا حلق وادينا وإن بهرت ... منه المحاسن في الآصال والبكر نعم ولكنّ هاتيك الأماكن قد ... عزت بشمّ تساموا في ذوي الخصر لطف الحضارة أضحى من شمائلهم ... وهم أسود شرى للدهر كالغرر أعزة لا يزال السعد يتبعهم ... ينيخ رحله في مغناهم النَّضر دامت منازلهم تسمو بهم شرفاً ... نلقى بهم بينهم إيناس ذي الوطر وعند استقراري بالحمامات، تذكرت عهد الأحبة الذين كدت أن أتسلى عنهم بما كنت فيه من تلك المقامات، فهالني منهم تأخير المكاتيب، وإن كانت الطرق ممنوعة بما ذكرناه من توالي الشآبيبت، لكن على كل حال قد وصلني مكاتيب من غيرهم، فرأيتها من أعز ميرهم، وهي أني استفدت الإخوان على بعد الحال. وهنا ينبغي أن لا ننسى كثرة مكاتيب العالم النحرير، الفاضل البديع التحرير عالم الثبات والديانة. وحسن الأمانة والصيانة، أستاذي الشيخ سيدي الحاج أحمد الورتتاني، بلغه الله الأماني، كان أعقبني في الساحل لحل بعض العقد، التي أعجزني أمرها في هاتيكم البلد، وبسبب فيما بيننا من المسافة كنت أسترشده بعدة مكاتيب وهو يجيبني حفظه الله عن ذلك إجابة مشافهة. كما لا ننسى ما كان يمتن علي به جناب العزيز الرفيع العماد بين ذوي الألباب درة العقد الحسيني، صحصحي وقرة عيني، الدراكة البارع، والخلاصة الذي لأعلام المفاخر فارع، باذل العناية في التعلمات، المحصل على أعز الكمالات، الشهم الهمام المرفع شأنه سيدي محمد الناصر باي أبقاه الله ومما يحسن إيراده هنا ما كاتبني به بعض المكاتيب وهو أنه أسلم على يديه رجل نصراني كان بستانياً عنده حقق الله ثوابه آمين. أما العصابة الأدبية فحين استيقظت لبعدهم كاتبتهم بما وجدت من بعدهم وهذا نص ما كاتبتهم به: [الكامل] ما للوداد مقره في الأضلعِ ... والآن طيب رقومه لم يطلعِ هل عاد رسمه عافياً فذوى به ... غصن اليراع ولم يقم في مربع أم أن شخصه قد هوى بسلوه ... في هوة ناءت بذاك المنزع أم أن نسج عناكب النسيان قد ... أغناه عن حلي النسيج الأبدع تالله ما خلت التناءي دارساً ... لمعالم الود القديم الأرفع كلا ولا خلت الأحبّة كلهم ... يتواطؤونا عن مزيد تمنع صرفوا حبال الود عني وانثنوا ... ولهم بهذا البعد فخر تولّع حتى رأيت شهود قلبي فيهم ... بمجرح الهجر الوخيم المرتع ماكنت أحسب أن حق الود لا ... يقضي هوى بالقرب بين الأربع إذ هذه ليست بشيمة من بهم ... نرعى من الإيناس أخضل ممرع وهم الألى أرتضعوا أفاويق الوفا ... ق من الرفاق ذي المقام الأرفع أهل الوداد وأنس تونس من بهم ... أبدت محاسن كل شهم أروع دامت كواكب سعدهم من أفقها ... تبدي ازدراء بالبدور اللمع حيهلا بجمع الإخوان، الذين نتاءوا عن العيان، حين تقاصى بنا المكان، السادات الأعيان، المتطلعين غررا فغي جبهة الزمان، الألباء الحائزين في المعقول والمنقول قصبات السبق والإحسان، المجلين على مشاهير الإيمة في كل ميدان، انتقاء روحي ومن لم أزل أدير بذكري مكارمهم كؤوس غبوقي وصبوحي، شموس المعارف الكبرى، وأعلام العلوم الذين أعلى الله لهم في الخافقين ذكرأن أدباء العصر، وبدور ذلك المصر، والشبان الذين كشفوا عن محيا النجابة والبراعة لثاماً والخلان الذين تاج بهم جليسهم إذ نال بهم التثامأن أوتاد بيوت المفاخر، وبحور الفضائل والمكارم الزواخر، وأصدقائي وأخلائي، وأحبتي وأودائي الذين ألاقي صفاء صفاء مودتهم بالتبجيل، وأنى لي بتسمية خيارهم ولم بحتج النهار إلى دليل، إذ هم الإخوان الذين تفيأت معهم ظلال المفاخرة والعرفان، واتخذت كل شهم منهم شهم منهم سهماً أرمي به أكباد الأعادي، واعتضدت منهم بكل أروع أودع عنده نفائس ودادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أما بعد إهداء تحية تعبق على جميعهم بإحياء رميم الوداد، وتحرك ما سكن من الشوق في صميم الفؤاد، ترفعها إليهم أكف التكريم، في محافل التبجيل والتعظيم، وتسقيهم من سلسبيل المودة أعذب الكؤوس، فإن مكاتبهم رهين مودتهم من ألم النفوس، فيا للعجب العجاب، وللسادة الأخلاء الأحباب أدام الله حفظكم، وأجزل من العز حظكم، إذ لم أدر موجب تناسيهم الوداد، عند العباد، وعهدي أنه بذلك يزداد التضاعف، وبما أثمرت غراسته، في افئدتكم ما يدنو بكل قاطف، فتعمدتم الهجر والبخل بالكتاب، وأنتم من ذوي الألباب الخبيرين بألم الشوق، وإن شب عمره عندنا على الطوق، على أن رد السلام، واجب في شريعة الإسلام، وترك الحقوق، مؤذن بالعقوق، وأر أني لا أحتاج إلى إطناب هاتة المقالة بما تتحققونه من هاته الولاية أما إن نشرت بساط حقوق المودة، فلا أقدر أن أفي لكم بذكر ما أخللتم به من هاته المدة، على أنني على تراكم الأشغال قد تخيرت جهد لمقل عن الإخلال فأنا سائل عن جميع جموعكم أدام الله لها السلامة، وأنا والمنة لله، على ما يرضيكم من الاستقامة، إذ كادت فضائل القيروان المأمونة، أن تنسيني محاسن تونس المصونة، إذ لاقيت من برور أبنائهأن ما تأسس عليه شامخ بنائهأن ولا أظن أني وفيت حقهم لو أنصفت بما ذكرت في قصيدة رحلتي الواصلة إليكم، إذ وصفت لكم على أن الله قد امتن علي بختم شمائل المصفى في مقام صاحبه الجليل، وقد أتيت على القريب من نصفه دراية وأتممته رواية حين أدركني الرحيل، والله إني لم أنس واحداً من أحبتي في ذلك الحرم، فالحمد لله على تلك النعم، إلا أن الله جل جلاله، قضى على ل وصل بالفراق ومنع بمقتضى حكمته في هاته الدنيا بقاء التلاق، ولم يسعنا عند ذلك إلا اعتماد مفارقة تلك الروضة ففصلت عنها بكبد مرضوضة، ودموع مفضوضة، ففارقت ذلك البلد بعد أن صبرت على فراقكم وفراق أهلي، وأحلتني المقادير الآن بالوطن القبلي، نسأل الله سبحانه أن ينجح لنا الأعمال ويبلغنا بعد البعاد عنكم من القرب غاية الآمال، بمنه وكرمه والسلام، وكتب في الحمامات يوم 19 الجمعة من صفر سنة 1292 اثنتين وسبعين ومائتين وألف. فكاتبني مجيباً عن ذلك جناب الشيخ سيدي محمد بن الخوجة بما نصه: [الكامل] ما للعتاب هفا بريح زعزعِ ... ترك الجوانح منه ذاتَ تروّعَ أو ما جزمت بأن ذكرك لم يزل ... طول الليالي سمير هذي الأضلع حاشا المودة أن يهد حصونها ... ما جاء من هذا الأودّ الأبرع فاثن العنان عن العتاب ولا تخلْ ... أنّا سلونا أنت أنت المدعي كيف السلو عن الحبيب وشخصه ... ما أن يريم عن الفؤاد الموجع إيه فقد أحييت عاطشَ أكبدٍ ... بزلال نظم كان أعذب مشرع فجرّته الراح الحلال فكلنا ... مترنح الأعطاف حلف تولع إيه أيها الأخ الثاوي بسويداء الفؤاد وإن نأى قراره، الذي ما إن قر لرهين أشواق وصريع بعاده قراره، كيف الصبر فإنه لا يطيب على الحبيب، وأنى للعين أن تسلو سلو المقصر عن إنسانها المبصر كلا والعيون الدعج والمباسم الفلج والقدود الميس والثغور اللعس وما بعدها من إليه لكل نفس ألمعية، ولا أزيد على الكلمة البيرمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أيحسم لي أم بالوفاء يليق، ساوي كلامك لذاك طريق هذا وإليك تحيات تناسب أريحية تلك الشمائل، وأطيب من زهرات الخمائل، من محب جمع الأشواق، لذيذ التلاق، ولا أطيل في بنان التشوق، فتخاله من التملق والتأنق، ونغدل عن عادة المترددين في الإطالة، إلى لدعاء بجمع الشمل على أحسم حاله، حتى تجلو العين بإثمد لقياكم قذاهأن وترتع النفس في رياض مناهأن هذا وإني كاتبت جنابكم جواباً عن مكتوبكم الكريم، المتلقى بغاية المسرة والتعظيم، الوارد علي منذ أسابيع وكان جوابي تلوه بقليل أيام كما تطلع على تاريخه إذا اتصل بكم، وهو الآن بالقيروان وإن أرسلته مع الطريق الذي جاء بكتابك وقد بسطنا فيه القول، وخلطنا الجد بالهزل، وأطلنا فيه مجاد الكلام، كما هو المطلوب في مخاطبة الإخوان الكرام ومن جملة فصوله وقد وصلت الخميس للمرأة التي حركت بحسن مدحك فراشها ساكن أشواقها وأقمت قيامة خلق باقهأن هذا وقد اطلعنا على القصيدة الفريدة، المزرية بشعر أبي عبيدة، الضابرة في الإبداع بسهم مصيب، الحائزة من البلاغة المعلى والرقيب. وتلاها غلينا الأخ السيد محمد جعيط هي وتقريظها والمكتوب البديع كما تتلى المناشير فكل أثنى عليها غاية الثناء من غير نكير، والسلام من أخيكم محمد بن الوجة. وقد أجبنه عن ذلك بما نصه: [الكامل] إيه أعد ذكرى أولي الأحلامِ ... وأدرْ بمدحهمُ كؤوس مدامِ واستحمل النسمات في تضخيمها ... من عابق التبجيل طيب سلام كي تكنسي لطفاً إذا ما أهديت ... لمحمد ابن مشايخ الإسلام حياك الله أيها المجلي في حلبة البراعة، النحرير الذي لم ينزع الألباء فيما تحكوه انتزاعه، الجهبذ الذي لم يطلع الفضل من غير أفقه، وقطرت اللطافة على يخرج من نطقه، العالم الوحيد، صاحب الرأي السديد، اليلمعي الفهامة، الذي لم يخك أحد نثره ولا نظامه، مالك أزمة الفصاحة والبلاغة، وإمام أيمة أهل النباغة، المتطلع على حداثة سنه في سائر الفنون، المستخرج بشص ذكائه فرائد جوهرها المكنون، أخي وصديقي، وهداية طريقي، عضدي الذي بإيناسه استنصر على جيوش الأشواق، وأجد بمخاطبته لذة التلاق، على طول الفراق، المر المذاق، سندي عمادي، وخلاصة أهل ودادي، الفاضل الزكي المدرس أخونا الشيخ سيدي محمد بن الخوجة، أدام الله صدور أهل وده بخالص موتده مثلوجه، وسيول آدابه في سائر الأقطار ثجوجة، ما دامت الليالي والأيام، وتناسقت جواهر البديع بغاية الانتظام. أما بعد فقد شرفني كتابك، وراقني وأذاقني معسول البلاغة خطابك، فلله تلك السبع أبيات التي أنستني بها السبع المعلقات الشهيرة، إذ هفا ريحها على ذوي الفكرة بألطف من الشمائل العطيرة، فحركت مني ما سكن، وتداركت ما أصاب البدن، تناغث أجنتها علي بهاتيك البلايل، وكسرت جفن أعينها فلاقيت ما تفعله الدعج الذوابل: [الوافر] لما وعيونها الدعج اللواتي ... أقامت للهدى العذري عذرا لقد غطت على بصري وسمعي ... بملثوم حوى حبباً ودراً فهبت علي من إيناسكم بذلك النسيم، وأذكرتني بقسمها العظيم، ما كنا نلاقي من طيب النعيم، وحين يجمع الله بيننا على الحالة المرضية لا محالة بهاتيك الألية، التي لا تخفى على مثلك من ذوي النفوس الألمعية، وأما كتابك لأول فما فزت منه بالوصال، على ما اشتمل عليه من نفائس المقال، ولقد كنا نترقبه رقبة الأعياد، حتى أيسنا أن نحظى منه بذل الإيراد، والآن رأيت من إيماض برقه ما تضاعف في شوقي إليه، ووددت التطوف حواليه، كي نرتاح بجده وهزله، ونفوز بنفائس غزله، ونرى ما وصفته به قصة المرأة عند تحريكها على أن جنابك لاقى منها ما ألصقته غرة بسرجهأن وإن بلغني فإني سأجول مع أخوتك في ذلك الميدان وأركض في مخلوع العنان، والله يديم عزكم وحفظكم والسلام، وكتب غرة ربيع الأنوار سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف. وقد ظهرت بمكتوبه المشار إليه في أثناء هذا المكتوب بعد الإياب وهذا نصه: أخي الفذ الوحيد في الكمالات التي شأوها بعيد عن أعين إخواني، متعلق خاطري وملهج لساني، الواحد الذي بذ الجموع، في معقول ومسموع، الندس المتوقد ذكاؤه، الثابت في أفق المعالي سناؤه، الأخ الذي ألهج بثنائه وابتهج بإخائه الشيخ سيدي محمد السنوسي حرس الله ساحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أما بعد بث ويل الأشواق، الذي لا يتحمل استقصاؤه كاهل الأوراق، ولا يبرد غلته إلا لذيذ التلاق، ضمن تحيات أبهج من محيا وسيم، وأعذب من طعم تسنيم، يحاكي سواد نقسهأن في بياض طرسهأن مقلة حوراء تترك القلب سقيماً ولا أزيد سيدي في وصف هاته التحية، والمحركة لتلك الأريحية، وإن كانت إطالة لكلام ربما تعلل بها للفؤاد، الذي أدفنه البعاد، فربما حصل بعض سلوان، من بطائق الإخوان، إذ ير بها آثار حبيبه، فتقوم رقيتها مقام طبيبه، ولا عن مرتبة الشهود، لا يحتاج لشهود، والمكاتبات، إنما هي تعللات، والأشباح فارقت أرواحهأن كيف تجد في البطائق حياتها واسترواحهأن ولا أطيل فربما يستريب الضمير، فيخالها من التأنقات في التعبير، فلنعج إلا الدعاء لك بالسلامة وبلوغ المراد حتى يتصل بروحه جسم هاته البلاد عقدا وأما نازلة المرأة التي حملت عباءها الثقيل، المرجو فيها لك الثواب الجزيل، فقد طوقت أخاك بالقيام فيها أي امتنان، وأقررت عين العجوز إذ تنوسيت في تسريح بإحسان لكن حركت ساكن اشتياقها وأقمت قيامة خان باقهأن حتى اعتقدت أن الخمسين التي وصلتها من صداقهأن ربما كانت شركاً يقتاد بها شارد حسن أخلاقهأن وهي ترغب غاية الرغبة، أن يتمم سيدي اتصال الصحبة، وهي تنش جنابكم هل الأمير يرى ذلي فيشفع لي، وتأمل في جنابكم أن يتكفل قاضي القضاة بتخليص البقية على يد أحد أعوانه بحسب ما قدر في كل شهر إلى تمام الأجل ومكانتكم منه تسوغ الاقتراح عليه في تكليف أحد أمناء أعوانه في تخليص ذلك ولذلك العون أجره عقداً وأما تبليغ السلام من جميع الإخوان فقد وفيت به ولكن عجبت من إغفالك لشيخين عظيمين الحشايشي وذلك الشيخ الشهير. والسلام من أخيكم المرتجي محمد بن الخوجة. وكتب أواسط صفر الخير. وكاتبني أيضاً الشيخ سيدي محمد جعيط ما نصه: [الكامل] جاءت من اللّسن الأديب الأبرع ... حسناء ترفل في حلي ترفّع جرت ذيول التيه لما أشرقت ... منها شموس نسجُ حبر أبرع جاءت وقد ناقت نفوس ذوي النهى ... لورود منهلك الشهي الأبدع وأتت ولا عجبٌ بأغرب عتبها ... ياما أجلّ عتابها في مسمعي فالعتب من طرف الحبيب محبب ... في شرعة لعشاق بعد تمنع وقد أدعت أن الثنا ليَ دارس ... بمعالم الود القديم الأرفع ورأت نزوح الكتب بين ذوي الوفا ... بين البعاد شهيدها إذ تدعي كلا لعمري إن شاهد ما ادعت ... هجر بدا عندي لودي المودع هل بعد تحقيق الحقائق عندكم ... لودادنا لمقره في الأضلع يوريك تركي للبطائق سلوةً ... حاشا علاك سلوك هذا المهيع بل إن لي عين اليقين بأنكم ... رمتم مطارحة الحبيب الأشجع فأريته فتانة الألباب سا ... فرة الحجاب على وداد ممرع وبها سررت كما تسر نفوسنا ... فوراً بيوم ظهور ذاك المطلع وطفقت أنظر في لطيف جمالها ... حتى أزالتْ أختها للبرقع تلك الفريدة قد أتى في طيها ... سحر البين في الطريف المودع نظمت فضائل سادة سادوا العلا ... من كل شهم ماجد متورع أصحابِ خلق الخير في غزواته ... حفّت معالمهم بنورٍ أسطع بمدحكم لكم الجزا والفوز في ال ... دارين والرجعى بأربح ما سعى لا زال يكلؤكَ الإله بحفظه ... وبعونه وهو المجيب إذا دعي حتى تعود لهذه الخضرا على ... عجل فأنت ربيع هات الأربع سيد إنسان عين الدهر، ومن استولى على ملك البلاغة بالباع والقهر، فهو غرة تاج المفاخر، ومصداق كم ترك الأول للآخر، ومن بز في حذق البيان على الفحول، وتحلى بحليتي المعقول والمنقول العلامة النحرير، والناقد البصير، والفاضل الذي لا يفي بمحاسنه التعبير، بدر المعارف، فأني لي أن أصرح باسمه معرفأن وأفضل من حاز التليد والطارف، فلا غرو إن لم أطل ذيل الكلام فالذي ملأ الكون من مفاخره كفى، حرس الله سناه، وأظفره بمناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أما بعد فإن ودي الأصم مكما تعلم لا يعارض ساطع برهان الوداد، تروح الكتب حين البعاد، وتحقيق الحقائق، بعد مسودات البطائق، ولله در من قال: المودة بانت محاملها وتصح دلائلها بمظنات الفؤاد، لا بمزرورات المواد، وأني لي أن أسلو على الصديق الأوفى، والحبيب الأصفى، والقرين الذي أقتطف منه أدبا ولطفأن وكيف يقع السلو والنسيان، بمغيبك على العيان، ومقرك في سويداء الجلجلان، ودلائل المودة قاطعة البرهان، ومآثر السيادة ساطعة للعيان، فإني لأذكر سيدي كلما طلعت الشمس، أو هب ريح في صباح وأمس أو نجم النجم أو عرض الغيث، أو لمع البرق أو ذكر الليث، أو ضحك الروض حين ما بشر بقدوم شباب الزمان، مثل ما هنا يوم قدومك إن شاء الله على زمرة الأهل والإخوان، فأين للشمس محياه، وللريح رياه، وللنجم علاه، وللغيث ما أسداه، وللبرق سناه، لليث حماه، وللروض سجاياه، ففي كل صالحة ذكراه، وفي كل حال أراه، فكيف أنساه، وأشده شوقاه، عسى الله أن يجمعنا وإياه، إنه مجيب الدوات ومانح العنايات ودمتم في حفظ وأمان، ويبلغك سلام شيخي الجميع سيدي محمد النجار والشيخ سيدي عمر بن الشيخ والسلام، من أخيكم محمد جعيط في 27 صفر الخير سنة 1292. وكاتبني أيضاً الشيخ سيدي عمر بن أبي الضياف بما نصه. أدام الله عافية أخينا الأبرع الجليل، الجهبذ الدراكة الحميل، حامل لواء الآداب، الآتي من بديع أساليبه بالعذب المستطاب، ذي الفكر الشفاف، الفرد المعدود بالآلاف، الذي سارت بأحاديث فضله الركبان، وتضمخت بعبير نظامه ونثاره عرصات البلدان، وكيف وهو الناظم الذي كؤوس نظامه تزري بالشمول، الناثر المزرية فرائده بالماس المصقول، الماجد الذي كرمت منه الأجناس وطابت الأصول، تاج المفرق وفضيلة المغرب على المشرق وإكليل العصر ومن أجليت له عرائس الأدب بدون قهر، العالم الكامل، الجامع لشتات الفضائل والفواضل الحبر الحلاحل، وبحر الداب الذي ليس له ساحل، أخي وعضدي والصارم الذي تصول به يدي، أخص بلك علم الأعلام وواحد الآحاد والحجة البينة على قولهم إخوان الوداد من إخوان الولاد، من لم أزل أدير في رياض أمداحه قداحي وكؤوسي، أبي عبد الله سيدي محمد السنوسي، أسبغ الله عليه ملابس إقباله وعرفه عوارف السعد في بكر الزمان وآله. أما بعد إهداء سلام ألطف من النسيم مسراه، وأذكى مسراه، وأذكى من العنبر شميم رياه، فقد اتصل بنا كتابكم الكريم، المرصع بذلك الدر النظيم، المصحوب بجيوش العتب، لسائر الأحبة عن بخلهم بالكتب، القصيدة الفريدة التي نظمتموها في مدح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من رجال القيروان، المزرية بعقود الجمان، فهنيئاً لكم بامتداحكم لذلك الجناب الرحب، بإحراز السعادة وأعلاه الكعب، هذا وإني إن رمت أن أقرر ما عندي من الخلوص الذي تألق نوره، وثبت في صحف الإخلاص مسطوره، تضاق عنها واسع القرطاس، وأني لي بعد الرمل والأنفاس، ولو رمت أن أعارض عتابك بجيوش أشواقي الجرارة لعجزتم عن الدفاع، وأخذتم في الاسترجاع، كما نشكركم أن شرفتمونا بإرسال السلام في جوابكم، الموجه لخاصة أحبابكم من جر على الخضراء ذيول التيه والفخر، وبلغ في الاعتلاء إلى أن اقتعد الجوزاء وانتعل البدر، البحر الزاخر، والدر الفاخر، من لم تزل مودته على منوال الصفا منسوجه، الشيخ سيدي محمد بن الخوجه، كما تعرفت منه أن بدركم حل بهالة نابل، ورائد محبتكم قد تمتع بتلك العيون الدعج والجفون الذوابل، فكأني سيدي إذا طابت بها داره، وأماط بها تعبت به أسفاره، وواصل برياضها الصبوح بالغبوق، وأنشد لسان حاله تروع الليالي ثم بعد تروق. [الطويل] فما شئت من روض أريض ومنظر ... نضير ومن ظل هناك ظليل وكأني به إذا طال له المقيل، وكيف وإلى نابل يشتاق كل نبيل، فليكن سيدي بهاته النعمة التي جاد بها الدهر متعتيأن لا زال طائر أفراخه واقفاً على تلك الأغصان والربى، والسلام العاطر رياه، الرائق محياه، من مخلص الود عمر بن أبي الضياف. وكاتبني الفاضل الذكي السيد محمد الحشايشي بطالعتها أبيات وهذا نصها: [الخفيف] قم خليلي مبكراً للجنان ... وأطلب الخير من وجوه حسانِ طاب وقت الربيع فاغتنم الصَّف ... وَوبادر إليه فالعمر فانِ طيب عيشس اللبيب بالذوق والأن ... س وخلّ موافق ودنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 واجتل الكأس بين ورد وآسٍ ... وشقيق بدا كخدّ الغواني واغتنم فرصة الربيع وواصل ... بنت فكر أتت من القيروان تسلب العقل والفؤاد بوجه ... وبطوف در منضد وجمان إن تدر كأسها تر القوم صرعى ... من سلافٍ رحيق تلك المعاني كيف لا وهو نظم تلك المعالي ... اوحد العصر شمس هذا الزمان ولما كان ثالث ربيع الأنور وفدت إلى الحاضرة التونسية آيبا يحدوني الشوق إلى بلادي، التي كنت عنها غائباً فرجعت راضياً من قومي وأنا أفضل عن الأمس يومي: [البسيط] وما أصاحبُ من قوم فأذكرهمْ ... إلا يزيدهمُ حباً أليّ همُ وبذلك انتظم شملي بإخواني، الذين ارتضعت معهم أفاويق الأخلاق التونسية في سري وإعلاني، فاتصلت منا الأجسام، وحظي كلنا بغاية المرام، تبين لنا أن أيام السفر إلى تلك الجهات، قد أفادتنا يمن تلك الزيارات، ومعرفة أولئك المخلوقات وعرفنا به فضل الحاضرة عما سواها. ولكن تبلغ نفسي بذلك إلى غاية مناها فإني إنما لي الأمل في الخروج إلى غير هذا العمل فيا ليت القدر يساعف بقطع الممالك الأوربية، والنظر في عوائد التمدنات التي لم نبلغ منها غلى نيل مزيه، والأمل في الله أن ييسر لنا السفر إلى جزيرة العرب للحصول على حج بيت الله الحرام، والفوز بزيارة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، تكون تل خاتمة الأسفار، وإنما يعنيني أن أقيم في بلادي بين هاته الديار، التي هي في نظري من أعز الأمصار، نسأل الله أن يحيطها بسياج الأمن المحيط، وأن يرقيها في مدارج الحضرية ويعز فيها محل خليط. وحين استقر بي القرار في بلادي، وبلغ بذلك إلى غاية مرادي، راسلت جناب أستاذي وعمدتي وملاذي، العلامة النحرير، الفاضل الشيخ سيدي سالم بو حاجب حيث إنه مقيم بقرنة من عمل إيطاليا في بعض مهمات الدولة وأعلمته بإيابي وأرسلت له بعض تحف ذلك السفر وكاتبته بما نصه: [لكامل] عوجي بقلبي يا نسيمات الصَّبا ... لأفوز من حمل التحية بالحبا إن كنت مثلي بالفؤاد عليلة ... ووددتِ أن تلقى بذاك ماربا فاستورف الأظلال في بلد على ... زهر الخمائل أن تفتح في الربى واستورف التضميخ كم بأريجه ... تبيح من يلقاك مسكاً مطيبا واستقص ما أن نلت منه بغاية ... تلقى من الآمال أمراً معجبا وابد اللطافة والظرافة عندما ... تهدي سلامي للهمام محببا علمِ العلوم أبي النجاة المرتضى ... بمفاخرٍ ومكارمٍ لن تحسبا فهو الذي أرواحنا تاقت له ... فتطايرت تبغي إليه المذهبا ترجو بذاك لقيَّ مجدك سالما ... في رغد عيش بالممالك أخصبا حيتك عوار الصدر يا أبا الروح، وضاحكتك ثغور السعود كلما تغو وتروح، وضمتك بأريج الاشتياق شذايا مودتنا التي لا تزال بحمد الله من أدواحنا تفوح، فهذا اشتياقي قد تناثرت أزهاره من طول الفراق، فهل من سبيل إلى التلاق، فإن البين أتى على أفئدتنا فطارت في أثركم، حيث لم ترض بما نتلقاه من محاسن خبركم، وأنى للنفس أن تكتفي بذلك ممن لم تستطع مزاياها أن تجلو كمالاته بحلاها ولا سبيل إلى تسلي العين عن إنسانها فإنك أدام الله عزك عين إنسان الكمالات وإنسان عينهأن أسير نفوس أبنائك على طول بنيهأن داركة المعقول والمنقول، لخبير بأغوار الفروع والأصول، كشاق دقائق العلوم، ومجلي خفيات الفهوم، إمام أيمة المعارف، المتخلي من مفاخره في أعز المطارف، محيي النفوس بدماثة الأخلاق وراض النفوس ثالث السعدين، المستظهر بمكارمه على القمرين النيرين، العالم العلامة، والحبر الفهامة، المبرز في مضمار كل مناضل، الهمام النحرير الفاضل، من له حاجب وليس له حاجب والدي الشيخ سيدي سالم بو حاجب أدام الله له الحفظ والأمن والسلامة، في الظعن والإقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أما بعد التشرف بلثم تلك الراحة، لغير مباشرة لثمها لا أجد الأمنية من الاستراحة، فإن عبد مودتك في دروسك ينهي إلى جنابك تحيات عديدة، وأن لا أمل له إلا رجاء بطلعتكم السعيدة. هذا وإني أعلم جنابكم بأني ألخ ما تضمنه وقد كاتبني أبقاه الله تعالى ببا يملأ القلب سرورأن ويرصع تاج الآداب منظوماً ومنثورأن فرأيت أن أجعل هاته المكاتبة العزيزة لرحلتي خاتمة، وهي ليس لشيء من منشئها كاتمة، فلين هاته الرحلة أن تمت بهذا الختم الحسن، حيث أحرزت مثل هاته المكاتبة التي هي من أعظم المنن، وهذا نصه: الفاضل لكي اللوذعي، والبارع الأديب اليلمعي، المحيي من بيت مجده العلمي العلمي ما تنوسي، منزلة أعز أبنائي الشيخ سيدي محمد النسوسي، أدام الله خفظه، وأزل من سائر العرفان حظه، حتى لا تزال ترى شوارد الأدب، تنسل إلى وكر فكره الثاقب من كل حدب. أما بعد التحية، الملائمة للوصلة الروحية، فقد شرفني كريم كتابك، وشنفني النظم والنثر من نفائس آدابك، فبعد قض ختمة العاطر، والاكتحال بمداده الذي هو جلاء النواظر، حمدت الله تعالى على نعمة العافية المستدامة، ثم على رجوعكم من السفر المرغوس بكل نجح وسلامة، ولو لم يكن من ذلك سوى الزورة القيروانية الكاملة للمخلصين أمثالكم ببلوغ كل أمنية، لكان غنماً كافيأن ومن مشاق السفر شافياً مع ما أشرتم إليه من تنبهكم للمقاصد التي تقصد من السفر، الذي هو كما قيل تهذيب وظفر، من توسيع دائرة العرفان، بمخالطة صنوف الإنسان، مشاهدة الاختلاف الواقع في عادات البلدان، وبالجملة فتوسيع ظفر المكان بمثابة طول الحياة الحاصل من سعة ظرف الزمان، وإطلاق عنان القلم في هذا المجال، ربما يخرج البطاقة عن مطابقة الحال، وقد نعمت نعم الله بالك، ونفى بلبالك، قريحتي الجامدة، وفكرتي التي هي لعدم المحركات خامدة، بالقصيدتين البديعتين، بل الخريدتين الرائعتين، فلقدت منهما منوالي الجد ولهزل كل برد قشيب، وحزت بهما منم أعلام البراعة المعلى والرقيب، ولما أعدت النظر في النونية وما بها من فنون الفتون، ذكرت قسم الله سبحانه بالقلم والنون، ولم يسع الفكر بعد استكشاف كنوناتهأن إلا أتن يسجد شكراً لله في محاريب حواجب نوناتهأن أما السحير النابليه بل السحرية البادلية، فحسبي أن أتمثل فيها بما قلته في مثلها: [السريع] يا بنية الألباب ما نابل ... منشأك الأصلي بل بابل كما أني لما أعدت النظر في مكتوبكم المذكور، وما احتوى عليه من جيد المنظوم والمنثور، عاودني الطرب ممزوجاً بالخجل، وصرت من نسبة تزكية النفس إليكم على وجل، واستشعرت حينئذ النفس، شاة الابن لأبيه وبالعكس، فأحجمت عن جوابكم تقديماً لدرء المفاسد على جلب المصالح، ثم استرجعت أن آخذ في هذه الجزئية بقول سمير الرابح، من راقب الناس إلخ فعند ذلك أخذت القلم عاجلأن وجاريتكم في ذلك الميدان وإن كنت راجلأن فقلت: [الكامل] ما نسمة سحرية هبت صبا ... فنشقت منها عرف أيام الصِّبا أو عرجت نحو الجنوب فأحدثت ... بين المضاجع والجنوب تجنبا وأتى الجنوب بنقل ريّا أرضنا ... أشهى وأنعش للفؤاد من الصِّبا قد ضم الأردان منها الرند وال ... نسرين لما صافحت تلك الربُّى وروت حديث أحبتي مستجمعاً ... والنفس تفهمه بلحن معربا والبحر حاول لأن يكون مترجما ... بجميع ألسنة اعتناء بالنبا فتزاحمتْ في الشعر أنفس موجه ... وغدا بذلك مبهماً مستعصبا وإذا وكالاتُ المقالات تكدرت ... بالمنطق الحاليّ أصفى مشرباً بأرق طبعاً من رقيم موجز ... أبدى به مهديه ودّاً مطنبا قد حمّل الآداب أمضى ما على ... فرض افتراض البربري ابنٌ ابا در نظيم منه منظوم حكى ... حسن التناسق فيه ثغرا أشنبا يروي صدى الصادي إلى مغناه إذ ... ويثيب ماس رويه المستعذبا ألف وباء قبلها علمتني ... كيف اصطناع السحر من ألف وبا وكأن منشيه رأى ترك التزا ... م الوزن في مهدي لجواهر أنسبا فغدا يجود بأجودِ المنثور من ... غير اهتبالٍ أن يقدركم حبا قلم جرى بمجال نظم ملجما ... ثم انبرى طلق العنان فلا كبا هذا وكم قد أخصبت أنواره ... من روض فضل طالما قد أجدبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 إن كنت أره من ذهاب شبيبتي ... شعراً يلوح براس شعري أشيبا فالآن ليس يسؤوني إن فاتني ... سن النجابة حيث أدعى منجبا دم يا محمد في المعارف راقياً ... ثبتا مفيداً للأنام مهذبا فبقلب تصحيف اسم نسبة بيتكم ... لا زال ركنا ثبت تونس مجتبى تبه خادم العلم وأهله سالم بو حاجب في 14 جمادى الأولى سنة 1292. وناهيك بما تضمنه هذا المكتوب بما لاح على أبدع أسلوب وكأن العبارات لا تطيق شرح مزاياه، التي يجتلي من مراياه لا سيما القلب والتصحيف، الذي ارتكبه آخراً على الوجه المنيف، حتى صير سنوسي ثبت تونس، وهذا من بدائع المعاني التي هو لها خير مونس، وهذا المعنى إنساني به ما يعجب من التصحيف، الذي استعمله في لقبي المذكور، المقدس الشيخ سيدي محمود قابادو الشريف حيث ألغز لي بهذا الشعر النبيه، وهو قوله: [السريع] تبينوا بيتي ففي تاجه ... فريدةٌ تزهى بها الطرَّه والفرقدان تحت أقدامه ... فهو لجبهات العلا غرّهْ وقد أجاب عنه العالم الشاعر الشيخ الحاج محمد طريفة المفتي بصفاقس فقال: [السريع] نعم تبينا لغزك قد ... أبان ما يبدي لنا بشره فلم يكن إلا سنوسيّ إذ ... معارف قد ملأت صدره لكن تعجبنا لبيتك مع ... صغرٍ به كيف احتوى بحره فعنى بالفريدة نقطة النون، وبالطره سينه الأولى، وجعل نقطتي يائه فرقدين تحت القدمين ليزيده إيضاحاً وشمولاً. نسأل الله أن يرحم السلف ويبقي الخلف، إنه ولي ذلك وهو حسبي ونعم الوكيل. وكانت نهاية هاته العجالة في رجب الأصب سنة 1292 اثنتين وتسعين مائتين وألف، على يد مؤلفها الفقير إلى ربه تعالى عبده محمد السنوسي خادم العلم الشريف أخذ الله بيده. آمين, الرائد التونسي هو صحيفة عربية تنشر كل أسبوع يوم الأربعاء عل لسان الدولة تتضمن الأخبار السياسية على وجه لا أذية فيه لإحدى الدول والأشخاص إلا أن يكون محكوماً علي من قبل الدولة، وقد نشر هذه الصحيفة في المملكة التونسية المشير الثالث محمد الصادق باشا باي في أوائل دولته سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف. وأول من تولى خطة إنشائها الشيخ محمود قابادو الشريف ثم تناقلتها الأيدي إلى أفضت تلك الخطة إلى العبد الضعيف أوائل شعبان الأكرم سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف. وقد التزمت فيها إنشاء فصول في التربية والتهذيب جعلتها مقدمة لكل عدد زيادة على ما يعرض من الأدبيات، وقد حسم موقع جميع ذلك عند أرباب الصحف وتناقله بعضهم ووصلني من بعضهم مكاتيب خصوصية تتضمن تقريظ ذلك الصنيع. وأول من كاتبني في هذا الموضوع مهنياً بمباشرة خطة إنشاء الرائد هو أستاذي العالم الشيخ سيدي سالم بو حاجب وهذا نصه ما كاتبني به: الجهبذ اللوذعي، النحرير اليلمعي، ودودنا وخدننأن وإن شئت قلت ابننأن الشيخ سيدي محمد السنوسي أدام الله حفظه، وصل بعين العناية لحظه، أما بعد السلام الأتم فقد حظيت بمكتوبكم المؤرخ بالأسبوع الماضي، وسرني كثيراً مال تضمنه من إحالة إنشاء الرائد إلى أفكاركم السليمة، وقريحتكم التي لا تزال تهطل على حدائق المهارق ديمة، فالآن يحق على الرائد أن يصدق قومه، ويقدم على الأمس يومه، ويوردهم من المناهل الأدبية أعذبهأن ومن المراتع الأنسية والفواكه التونسية أخصها وأطيبهأن فالله يتولى عونكم على إنارة وجو الإعلام، وصونكم من مزالق أقدام الأقلام، والسلام، ولم يتيسر لي مكاتبته بعد ذلك إلا بعد مضي مدة. فكاتبت جنابه بما نصه: [الوافر] أدير عليك مترعة الكؤوس ... بخمر منه إحياء النفوس ومل تلك التي قد عتقوها ... قرونا وهي في بيت المجوس ولكن هذه خمر حلال ... بوصل تحية النجل السنوسي حياك لسع والإقبال، وحباك اليمين بغاية الآمال، أيها العالم الذي جاءت فاؤه بالسين، إيذاناً باستمرار معافاته على ممر السنين، العمدة الجليل، والفاضل الذي ليس له مثيل، تاج جبهة المفاخر، ومصداق كم ترك الأول للآخر، علم العلوم، ومعدن الإبداع في المنثور والمنظوم، سيدي وأستاذي، وعمدتي وملاذي: [البسيط] لسنا نسيمك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يكفينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ويلي ذلك هو ابنكم قد ذهب به الشوق كل مذهب، ولم بجد غير مناهل المكاتبة منهلاً أعذب، بعد أن حالت بيني وبينها الأشغال التي تؤول إلا فخركم على كل حال، لا سيما وأخباركم نتلقاها في كل أسبوع وتحقيقي لإعذاركم إيانأن هو الذي سهل علي هذا التقصير، مع أن نشر المودة مع كل خافقة يسير، والسلام. فكاتبني مجيباً عن ذلك بما نصه: [الوافر] أدرت حميت صرف الخندريس ... كؤوسا قد نفت كرب النفوس على فئة تعتَّقَ محتساها ... لبيت الشعر لا بيت المجوس وتؤثر أن يكون لها مديراً ... مدير الرائد الشيخُ السنوسي أما بعد السلام عليك أيها المدير البارع، والمستقر ببحر الآداب بلا منازع، فإن كريم كتابك قد شرف وشنف، وأزرى ببدائع من وقف واستوقف، حيت أرانا بمنظومه ومنثوره، المنخرطين في أسلاك سطوره، كيف يمزج الرحيق الحلال، بقراخ العذب الزلال، ولتشريك حاسة الشم مع السمع والبصر والذوق، أخذ يقذف ند الود فيما لدينا من مجامر الشوق، الله يشكر صنعك، ويديم للمستفيدين نفعك. أما من أشرتم إليه من الاعتذار عن تأخير المكاتبة، فهو مشترك الإلزام على فرض توجه المعاتبة، ثم إن كنتم تستفيدون أخبارنا مما نكتبه لعمدة الجميع، منحن أيضاً نتعرف أحوالكم السارة من رائدكم البديع، الذي لا يتخلف عنا في غالب الأسابيع، ولطالما نزهت حدق الفكر في حدائقه اليانعة واستعذبت موراد تهذيبه التي نرجو أن تكون بحول الله لأبناء الوطن نافعة، والله المسؤول أن يمدكم بمزيد المعونة، ويحمي من الأكدار والعوائد ساحتكم المصونة، والسلام. ورد علي مكتوب من مدارس إحدى مدن الهند مرسل من الفاضل محمد نصر الدين محرر صحيفة شمس الأخبار الهندية وهذا نصه: الماجد الأثيل، والأديب النبيل، الشيخ محمد السنوسي، منشئ الرائد التونسي، دام لطفكم. أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقد رأيت في جريدتكم الرائد التونسي أنكم وصفتم جريدتي شمس الأخيار المدارسي بخير أعزني وأفخرني وحثني على أن أشكركم وأجري بينكم المراسلات فإن المسلمين هم إخوان أينما كانوأن وإنما تحصل زيادة الألفة والاتحاد بالمراسلات إذا كانوا بعيدين، فنعرض على جنابكم بغاية الرجاء أن تتفضلوا علينا بإرسال جريدتكم في كل أسبوع على اسمي مبادلة ومعاوضة بجريدتي شمس الأخبار المدارسي وهي من أشهر الجرنالات الهندية وأعظمها قدراً فهذا غاية لطفكم ومنكم وإن تريدوا المبادلة والمعاوضة بجريدتي فأرسلوها إلي أيضاً فإني أرسل إلى حضرتكم ثمنهأن وليكن من معلومكم أن ورود الجرنالات من تلك الممالك المحروسة إلى طرفنا ينتج فوائد كثيرة للدولة التونسية الإسلامية وللمسلمين فهذا ما لزم الآن من الاطلاع. والله ناصركم ومعينكم وحافظكم من شر الحاسدين ومكر الماكرين، والسلام ختام من المحب محمد نصر الدين مدير شمس الأخبار المدارسي في 18 محرم 1294. فكاتبته مجيباً عن ذلك بما نصه: أيها المحب لخير أهلي ملته، وإن شسع عنهم ببلدته، أدام الله يراعك يروع أعداء الإسلام، ويحث على الوحدة التي هي سبب كل انتظام، أخص بذلك البارع الفصيح، صاحب الرأي النصيح، والحق الصريح، أخا العزائم الصادقة التي أعلامها مع شمس النهار خافقة، حضرة الفاضل الشيخ محمد نصر الدين المدارسي، أدام الله بمواصلته إيناسي، وأنجح سعيه في كل الأقطار، بما ينشره من شمس الأخبار، ما دام الليل والنهار. أما بعد إهداء تحية السلام، إلى حضرتكم التي سعادتها من أعز المرام، فقد شرفني منك كتاب كريم، من أقصى الأقاليم، خاض في طلب مواصلتنا معظم البحور، وجابه من مهامه البراري كل موماة لا يمكن فيها العبور، طلب المواصلة للحمة الإسلامية بالخصوص، فرأينا مصداق حديث المؤمن كالبنيان المرصوص، فلا زالت بفضل الله هذه الأمة، متظاهر إلى ما يهمها من المصالح المهمه، فحيهلا بذلك الكتاب، وما احتوى عليه من فرط اللطف والاقتراب، حيانا عم وجه وسيم ولطافة تزري بعليل النسيم، إذ لاحت دواعي المودة الدينية توشيه، وتنادي بحسن سريرة منشيه: [الطويل] كتاب أتى من شاسع الهند قاصدا ... مواصلة الدين المتين بتونس فوافى إلى قلب خلي فأحكمت ... روابط إذ جاء من خير مونس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فتلقيناه بالإجلال ورأينا من أعظم نتائج الأعمال، وعدت مبتهجاً بوصول هاتيك الصحيفة التي لكل ثناء مستحقه، ولذلك أنشدت لوصلها بعد بعد الشقه: [الكامل] عجباً لها أيذوق طعمَ وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها كلا فلا عجب لسماحة مانحها الفاضل الكريم، الذي أحرز من قلوبنا أيمن الحب الصميم: [الطويل] وكم من محب قد أحب وما رأى ... وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى إيه أيها الماجد أعد علي ذكر إخواني، الذين تقاصى عنهم مكاني، وتالله إن تحرك الدم الإسلامي، لا يبرح يتزايد النامي، وأنى للروح، أن تصبر على هذا النزوح، مع ما أحاط به العلم خبرأن مما لن تستطيع معه النفس صبراً نسأل الله أن يقرب هذا البين تحت راية الدين ويلي هذا أيها الأخ في الله يعز علينا أن تطلبوا منا صحيفتنا على الوجه الذي ذكرتموه في كتابكم، وصرحتم به في خطابكم، من أن إرسالها يكون على وجه المبادلة، أو أنه يكون بالثمن وما في ذلك من معامله، على الله عنك لماذا لا تكون المواصله، بسسب تواصل الدين حاصله، وهذه في شريعتنا أعظم القرب لأرباب الطاعات، فهلا تسمح لنا أن نتخذ هذه المواصلة قربة لرب القربات، لعلنا نستظل بها تحت ظل عرشه في يوم الحساب. أما أنا فإن مودتي لأهل ديني تحملني على مساعدتهم على ما تقبر به عيني، وأي ثمرة في حياتنا إن لم يكن سعينا في فوائد المسلمين جاريأن وهل للمسلم أن لا يساعد أخاه إن كان داريأن فليعلم أخي في الله أني أواصل الجهد في مواصلتكم في كل أسبوع، بثلاث أعداد من رائدنا إذا كنتم تستحسنون منه ذلك الموضوع، وزيادة على ذلك فإنه تصلك أعداد من الرائد، قد انتخبتها لحضرتكم بما اشتملت عليه من الفوائد، لعل موقعنا يحسن عندكم، وإن تفضلتم عنا بعد ذلك بصحيفتكم وفق رغبتنا فتلك فضيلة قد شرفتم بها عبدكم، ثم أستمد من مزيد فضائلكم التي واصلنا بينها وبيننا إن كانت بأقطاركم صحائف عربية تواصلون بينها وبيننا فترسلونها إلينا لنشاهد عيناً كما أنا نؤمل من خصية حضرتكم أن تسمحوا لنا بمكاتبة تشرحون لنا بها حال تلك الأقطار، وحال العلوم الدينية هنالك والفنون العربية والأشعار، فإنا منها في عماية البعاد، ولا نعرف لها ما يشتفي به المراد، بل وإن سمحتم لنا بمقابلة تشرح لنا هذا الشان، فإنما ننشره في هاته الممالك بين أهل الإيمان، نسأل الله أن يجمع كلمة الإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام. حرره الداعي لحضرتكم بنجاح المساعي، وخصب المراعي، معيد السلام على جنابكم خادم العلم الشريف بجامع الزيتونة عبد الله محمد السنوسي منشي الرائد التونسي، أخذ الله بيده. وكتب في 27 صفر الخير سنة 1294. ووردت إلي مكاتبة من البارع الشهير تادرس أفندي وهبي معلم مدرسة اللغات بمصر القاهرة، وهذا نصها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إلى من بلغ الآداب المراتب العالية، وتولى في دواوين الإنشاء المناصب السامية، وذاع صيته بالبراعة في جميع الأقطار، واشتهر بالفضائل الغزيرة اشتهار ضوء الشمس في رابعة النهار، حفظه الله وأبقاه، وأدام عليه نعماه، فقد كلف منذ مدة بمعاني الأدب، والوقوف على أسرار لغة العرب، حيث ثبت أنه من أجل المطالب، وأعز المآرب، بل هو أولى ما فوق اللبيب سهم فكره إليه، وأحلى ما دأب في تحصيله والانعكاف عليه، ولم أزل لهجاً بذلك مع غاية الاجتهاد، سالكاً أقوم المسالك في تحصيل المراد، ولا سيما بمطالعة الصحائف الخيرية، والجرائد النشريه، التي كثرت خصوصاً في هذا العصر، وعم نفعها الأنام في كل مصر، بما اشتملت عليه من أخبار المفيدة، والنوادر الفريدة، والنصائح الجمه، والفوائد المهمه، وغير ذلك من المنافع التي يجل إحصاؤها ويعجز قلم البليغ استقصاؤهأن حتى إذا أسعدتني المقادير في ذات يوم، بزيارة حضرة أحمد أفندي العشي مع بعض القوم، تكرم علينا من بعض إحسانه، ومزيد فضله وامتنانه، ببعض صحف الأخيار، المحتوية على محاسن الآثار، فعند المطالعة فيهأن والوقوف على حقائق ظواهرها وخوافيهأن عثرنا على صحيفة الرائد، المشحونة بفرائد الفوائد، وإذا هي روضة فضل ثمرات فنونها يانعه، وحديقة أخبار اشتملت على ما رق من الفوائد النافعة، بل هي مرآة الأحوال، ومرقاة الآمال، وفلك السياسة المشحون، وكنز الكياسة المدفون، قد رصعت من جواهر البديع بمارق وغلأن ورصفت من بدائع الترصيع بما دق وعلأن فضلاً عما زينت به من الضروب الرائقة والأساليب الفائقة كيف لا وهي للأديب الفاضل، والأريب الكامل الذي لا يجاريه في ميدان البراعة مجار، ولا يباريه في حلبة الكمال مبار، حضرة السيد محمد السنوسي حفظه الله وأدام علاه. فحمدت الله سبحان وتعالى حيث وفقني للوقوف على هاته الصحيفة، والتقاط درر ألفاظها الرائقة المنيفة، وكانت قد طالت علي شقة الانتظار مدة، وبلغ الشوق مني لرؤيته حده، فقد ثبت عندي الآن صدق المثل الذي سارت به الركبان، من قول أهل الأدب ليس الخبر كالعيان، فتقبل يا سيدي من مثلي هذه الشهاده، بلغك الله الحسنى وزياده، نعم إني لست ممن يستحق أن ينظر إليه بعين الاعتبار، كما أني لست من فرسان هذا المضمار، غير أني كلفت بأن أكون من المقربين إليك، وإن تعاليت عن أن يكون مثلي من المحسوبين عليك، فبادرت بتحرير نميقتي هذه لجنابك، رجاء أن أحظى بانتظامي في سلك أصحابك، وفقك المولى لما يحبه ويرضاه، والسلام عليك ورحمة الله. فكاتبته مجيباً عن ذلك بما نصه: أيها البارع الذي بذ في حلبة الإنشأن وتصرف في نفائس الأدب كيف شأن الشهم الفطن، الدراكة لأسرار ما خفي وبطن، صاحب الأخلاق الجميلة، والمكارم الجليلة، الأوحد الذي أجرى من نهر المفاخر سلسبيله، فنال من الفخر كل مقصد ووسيلة، حمى الله منازك، وقارن بالسداد أفكارك. أما بعد فبينما كنت أنظر في مروج الأدب، وأتخير إليها المدب، حتى وقفت على أزهار رياضهأن وارتشفت سلسبيل حياضهأن إذ ضمخت أرداني بنفخ الطيب، وتتبعت من أحرز من أقداحه المعلى والرقيب، فإذا مسعدات الزمان، قد أتاحت إلي فرائد الجمان، وقلائد العقيان، في طي صحيفة ذات أفنان، بها من كل فاكهة زوجان، فرأيت منها ما ملأ القلب سرورأن والسطور، حبورأن قد تنمق منها بياض الطرس، بحسن سواد النقس، بما تبتهج به النفس، فطوراً كنت أرى ذلك من بقايا الليل في طالعة النهار، وتارة نراه أشبه شيء بدعج العيون الأحوار، على أن أيقظني ما فيها من المعاني الفائقة، والمباني المتناسقة، فأيقنت أنها منحة قد ساعد القديم وتحملت من مهديها نفائس الدرر، فيا من كتاب قد تحمل بنفائس الغرر: [الطويل] كتاب أتى من مصر يعبق نشره ... وقبل افتضاض الختم قد بان بشره رأينا به البديع منمقاً ... وعن محض ود قد تكشف سرُّه وناهيك به من كتاب، يغازل الألباب صاغته قريحة لسان الأمم، وفارس حلبة الطرس والقلم، مجمع الألسن واللغات، ودراكة المعاني بسائر الطرقات: [السريع] ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 واهب الدر الثمين، ومجرى مناهل التعليم بالعذب المعين، الشاب الظريف، صاحب الخلق اللطيف، علي الكعب علي المتنبي، تادرس أفندي وهبي، لازال سعيه مشكورأن وبكل مزية مذكورأن فاتخذته أعظم عده، لمواصلة المودة، وأنى للبين، أن يقصر الخلة على العين، فشكراً لهاته الهبة العظيمة، التي اتخذتها فخراً وتميمه، وكفاني شهادتها التي تشهد لصاحبها بأعز شيمه، وإن كان استحسانكم لصحيفتنا التونسية، مما يؤكد أنكم إنما نظرتم لنا بالعين الرضية، وبذلك بادرت إليكم بإرسال أعداد هذا الشهر مع عدد في كل أسبوع، لعلكم تستحسنون منه ذلك الموضوع، وعلى كل حال فإنا نرجو من الله تعالى أن يحفظنا من مزالق الأقدام، ومزلات الأقلام، حرره خادم العلم الشريف بجامع الزيتونة محمد السنوسي، منشي الرائد التونسي، أخذ الله بيده تحريراً في 25 ربيع الثاني 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف. وقد أعاد علي المكاتبة مجيباً عن ذلك بما نصه: نخبة العلماء الأعيان، وعمدة فضلاء الزمان، العلم الشهير، والعلامة النحرير، صاحب المآثر المأثورة، والمفاخرة المشهورة، والمقالات الفريدة التي سارت بها الركبان، والرسائل المفيدة التي تشهد لجنابه بالفضل والفوقان، وأحرز قصب السبق في ميادين البيان، أدام الله إجلاله، وحرس بعين عنايته كماله. أما بعد فبينما أنزه الطرف في رياض الأدب في بعض الأيام، مغتبطاً من أفنان فنونها ما نطفي به الأوام ويشفي من السقام، منكباً على مطالعة صحف الأخبار، المنبئة عما حدث من الوقائع في جميع الأقطار، حظيت بجريدتكم الغراء التي طالما تشوقت إليهأن وتشوفت إلى اجتلاء محاسنها والاطلاع عليهأن فاستدللت من رقة ألفاظها على أنك من أفراد فحول الرجال، السابقين في ميادين المقال، البالغين أسمى درجات الفضل والكمال، فكان ذلك باعثاً لي على تحرير نميقتي السابقة إليك، المتضمنة بعض ما يجب من الثناء عليك، وقد عددت ذلك من اعز المقاصد الجليلة، والوسائل الأدبية الجميلة، حيث إن دأبي التودد إلى كل من نبغ في الأدب، وبلغ من إحراز المعالي غاية الأرب، وإذا بكتاب منك قد تحمل نفائس الأداب، ويأخذ ما انطوى عليه من السحر الحلال بجامع الألباب، سرحت النظر في رياض ألفاظه الرائقة، معانيه الفائقة، ومبانيه المتناسقة، فأيقنت أني قصرت في الثناء عليك، بل أخطأت في إرسال مثله من التحرير إليك، لاسيما بما تضمنه من إرسال الرائد في كل أسبوع إلينأن وتضلكم بهذه المنن الكبرى والنعم العظمى علينأن ولم أعلم بأي ثناء أثني على كمالك، أم بأي لسان أشكرك على فضلك وإفضالك، وقد شاع صيتك بالبراعة وذاع، وملأ في كافة الممالك الإسلامية وغيرها الأسماع، حيث إنك القائم بالذب عن حقوق الأمة، المناضل بسنان اللسان عن مصالحها المهمة، فأطرقت خجلاً في ذلك المقام، والتمست عذراً ينفي عني الملام، فلم أجد سوى إحكام المحبة والوداد، فاعتمدت عليهما في ستر ما فرط مني على غير المراد، ثم لما كانت الهدايا أعظم عده، لمضاعفة المودة، أحببت أن أهديك بهدية فائقة، تكون بمقامك الجليل لائقة، فلم ألف افضل من العلم الشريف، الذي اشتهرت به في سائر الأقطار وقصرت همتك على درسه آناء الليل وأطراف النهار إليك برسالتي الموسومة بالخلاصة الذهبية، في علم العربية، مع اعترافي بأنها من سقط المتاع، لاتستحق أن تشتري ولا تباع، نعم غذ لحظتها الهمة العالية، وفازت بالرعاية السامية، اكتسبت شرفاً يتقيد في صحف الأخبار، ويتخلد في بطون التواريخ على ممر الإعصار، على كل حال، فالرجاء قبول هذه الهدية وتبليغ الداعي بذلك غاية المقاصد والأمنية. كما أني أرجوك أن لا تحرمني رسائلك على الدوام، ومني إليك مزيد السلام، والتحية والإكرام الداعي تادرس أفندي وهبي معلم اللغات بمدرسة حارة السقائين بمصر القاهرة تحريراً في 27 ج الأولى سنة 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف. وكاتبني العالم الفاضل الشيخ ابراهيم الأحدب رئيس الكتاب بالمحكمة الشرعية ببيروت الشام ومنشيء صحيفة ثمرات الفنون بما نصه: [مجزوء الكامل] نبهت بالحدق النواعسْ ... لهوى فواتكها الفوارسْ وصبوت من بعد المشي? ... ?يب إلى لقا الغيد الأوانس وهفا بلبي سالف ... أو عارض في خدّ كانس كنست بقلبي غادة ... فتانة له في الكنائس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 غراء شمس إن بدت ... تسبي بطلعتها الشمامس وجبينها للمشتري ... إن سام مجلاه يماكس رومية هنديها ... عالي الهوى فالقلب قابس والحلي راح بصدرها ... لقلوبنا يبدي وساوس حملت بطي إزارها ... ما زاد في أوزار بائس تخطو فيبصر ذو الهوى ... فوق الكثيب الغصن مائس قد كان لي من وجهها ... بشر يريني الظبي آنس فالآن أنكرني بها ... حظ لآمالي يعاكس ضحك المشيب بعارضي ... فرأيت منها الوجه عابس فعليّ أن اعطي هوى ال? ... ?غادات والغيد الكوانس وأحيل أغزالي بها ... مدحاً لها الإحسان حارس وأخص فضل محمد ... منها بسوم غير باخس الفاضل النَّدب الذي ... آدابه تجلي عرائس مولى بدائع علمه ... شرحت صدوراً للمجالس قد ألبس الآداب من ... حلل الثنا أبهى ملابس ولنشرها قد قام يج? ... ?هد نفسه رغماً لجالس قد رادَ رائدُ فكره ... حكماً تسوس أمور سائس تجلي فتجلو ما به ... رغمت لشانيه معاطس جلّى بها سبقاص فلم ... يلحق خطاه جري فارسْ بعلاه تونس آنست ... مولى لعلياها مؤانس فزهت بآدابٍ له ... لم تبتذلها كف لامس واستوضحت بالدروس من? ... ?هُ معالماً كانت دوارس إنشاؤه ينشي لنا ... سكر النفوس من النفائس أهديه ذات عصابة ... للشكر تهزأ بالقلانس حسبتْ عقود جمالها ... فجرت عليه بشرط حابس لولا ارتيادُ ثنائه ... بقيت بخدر الفكر عانس فأقبل محامدها ودع ... منْ وجهه بالذم دامس لازلت تلبس من برو ... د الحمد ما يصفو للابس ما طاب غرسك في ريا ... ض الفضل من طيب المغارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وصلة الأدب، تقتضي بما تقتضيه لحمة النسب، وتحمل البعيد أن يحل بالقرب إلى صاحبه من كل حدب، وحكمة فنونه تحكم على الأديب أن يتفنن في ترسله وإنشائه، وأن يحمل يراعته أن تسجع بما تزهو به أوراقها زهو الروض بسجع ورقائه، فلهذا جنيت من طرح ثمرات الفنون، كما راد فكري أيها المولى الجليل في رائده ما قرت به عيون، وأتى بفصول وصلت بآدابها الحكم، وفصلت عقود من البادئع روائع بحلي ذات البند والعلم، فراق منثورها في ذلك الروض الأريض، ورق سجع ورقها في نواره فنظر إليه الحسن بطرف غضيض، وقد تعرف بذلك خليل ودك ابراهيم على رغم من لا يطيب له نشر، ووقف على الدقيق من جليله الذي حث أسراب المعاني فطاف نشره بالحشر، فاعترف بأنك بديع الزمان، وحسان البلاغة وسحبان البيان، حيث بعثت هؤلاء القوم بعارضة بيانك، ونشرت من محاسنهم ما زاد حسناً من إحسانك، فأنست بك تونس ولم تشك وحشة بفقد الأديب، ورأت من أنفاسك أبا الطيب فلم تبك من ذكرى الحبيب، وقد باهى الغرب بآدابك الشرق، وأدرك بك الجامع ما بين القطرين من الفرق، إذ كان لذكرك في مفرق غانية الأدب أطيب عبق، ولشكرك بكل لسان ما يسوغ في لهاة الولي فيدع العدد عاني شرق، (فإنك الفاتح لما اغلق من أنداب أبواب الفنون، والخاتم لما سبق من آيات الفضائل التي عظمت لها شؤون، ختمت بك يا محمد رسل البديع فلم تصدق بدعوى رسالة لسواك، وأتى كلامك بما هو فوق طوق البشر من معجزه الذي وصلته بكل كرامة يداك، ولا تنكر كرامات محمد عند الله ومعجزاته، وقد جاءت خوارق للعادات في دعوى الرسالة آياته، ولا عبرة بمن جحد الحق كفرأن وزاد بإصراره على الباطل إصرأن وإن ابراهيم الذي وفىّ مصدق بدعواك، ومتشوق إلى زيادة تصديق الخبر بالخبر عند رؤياك) وثناؤه متوال عليك وغن كان من أهل السنة بلامين، وهو يحب الحسن ولا ينسى ما عليه في تونس أيادي الحسين، كما لايزال يرتل آيات الشكر في صفحة لنجل اسماعيل، ويعترف أن رقيق فضله عليه في كل حين جليل، فاعرف ذلك ايها المولى الكريم، واحفظ بما يكون صنائع النشر خلة ابراهيم، وأقبل هاته الأبيات التي استوحشت من سواك وهي بك أوانس، وقد أحدق بها الحسن فتشبهت بها الحدق النواعس، والله تعالى يديم يراعك قائماً بتسطير الحسنات وإن كان يعبد الله على حرف، ويخلد عرفك في أولياء محبتك بما يصيب له على رغم معاطس الأعداء عرف، ويفتح على هذا المحب من الخير ما لايغلق له باب، ويجعل خطى قلمه غير خاطئة في ثنائك على طريق الصواب، اللهم آمين في ذي القعدة سنة 1297، الداعي كتاب محكمة بيروت الشرعية محرر ثمرات الفنون ابراهيم الأحدب والسلام. وكتبت إليه مجيباً بقولي: [مجزوء الكامل] بسمت لنا عن ثغرِ لاعسْ ... فسبت بكسر جفون ناعس عربية الأعراق قد ... أزرت برائعة الكنائس تهتز من خيلائها ... تيهاً على شم المعاطس وتجر ذيلاً مثلما ... قد جر منه الذيل طاوس وتميس في أردانها ... فترى جواذب قدّ مائس وهناك تستبيء النهي ... وتبين فتكاً بالفوارس فترى القلوب تذوب في ... أرجائها من نار قابس لكنها كانت سلا ... ماً وهي برد في المجالس إذ مسها إذاك اب? ... ?راهيم مصداق النفائس المرتدي من فخره ... وكماله بحلي الملابس من قد زهت آدابه ... فسما بها طيب المغارس شيمت من الشام الذي ... شادت به فخر العرائس ولمثل ذاك أنا بها ... في تونس الإيناس آنس وردت كما جاء الشفا ... للذ من الحيوان آيس فغدت مبتهجاً بها ... أروي حلاها للمجالس وأرى التصابي بالمها ... لا أختشي من لوم حارس وأقول إني للهوى ... نبِّهتَ بالحدق النواعس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 بمعيشك في رياض الهوى أيها النسيم، تحمل ما عليه الفؤاد قد انطوى مما لعلك تؤدي به تحية ابراهيم، وإن كنت قد صافحت رياض اللهو عليلأن ومررت على خمائلها بليلأن فضعفت عن حمل تحية يؤدي حملها سر التعظيم والتبجيل، ويبقى حديثها يرويه جيل بعد جيل، فإني لأستحملك من سر الوداد ما تتضمخ به الأردان، في القرب والبعاد لتتلقى من فتيق مسك المودة ما لم يزل في الفؤاد كامنأن وتدخل به مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنأن فهذا مقام ابراهيم الذي وفى، وأبان من مفاخر بيانه آية لاتخفى، فقد رفع العوائد في شعره البديع من كل بيت، وأحيا صريع الغواني بعد أن كان أشهر ميت، فيا لله دره حيث أبدع المعاني وأحكم بيانها ترصيعاً وأفصح عن دقائق لم يحط واحد بها تعريفاً فكان فصيح اللسان والقلم، إن نثر أو نظم، بليغ الإرسال، العذب السلسال، وناهيك بماله في ثمرات الفنون، من الدر المصون، والجوهر المكنون، الذي قد قره لجميع العيون، وكم دار رائد أفكارنا تلك الثمرات، فأصبح يستظهر بالآيات البينات، ولئن جاء كما شاء الفؤاد مقبولاً لطيفاً (فإن محمداً قد اتبع ملة ابراهيم حنيفاً) . أما المودة فقد تخللت سويداء الفؤاد ولن تجد عنك تحويلأن ولا غروان كان ذلك فإني قد اتخذت ابراهيم خليلأن فدم أيها الخليل، مفخراً للوداد تحيي سنة الخليل، وتعيد بعلمك حديث سيبويه والخليل، ونحن مع ما لكم عنا من البعاد، قد رأينا مقرك في الفؤاد، ولو علمنا أن ابراهيم لايخاف حر النار، لنقلناك من الفؤاد الذي نار اشتياقه إلى لقياك لازالت ذات إشعار، ولكن فقد علمنا ما اختص به مقام ودكم العظيم، فقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم، فمهلاً على محب قد أصيب من بعادكم بما يكفيه، وأرفق من فضلك بقلب تملأه الحب حتى أحلك فيه، أو لم يكفك ذلك حتى أرسلت من عسال بنانك، وأسحار بيانك، بالغادة السحاره، والكاعب المختاررة، التي غطت على السمع والبصر، واستولت على ما بقي في عقولنا من الأثر، فأصبحت تزهو بطرر منساتهأن وتبث منا بالنهي في حركاتها وسكناتهأن وتعد ذلك من حسناتهأن حتى نبهتنا بالحدق النواعس من تحت ليل طرتها البهيم، فعلمنا أنها عذراء كلمتنا بصوت رخيم، من مقام ابراهيم، مجهزة الخصر تجر من ترفيلها ما كانت به أثوابها مذالة، فكان تذيلها على نخوتها أي دلالة، وحين تحققنا أنا من بيوت ابراهيم التي رفع منها أبدع القواعد، دخلنا لها من باب السلام وطفنا حول هاتيك المشاهد، وتلقينا هاته المنة بالإجلال والترحاب، وقابلناها من بنات أفكارنا بهذا الكتاب، آملين من أبيها حسن القبول، وإدامة تواصل الوداد على وفق المأمول، والأمل في الله أن يجمع بين أشباحنأن كما جمع بين أرواحنأن والجسد مطية الروح، للتنعمات الحسية كلما تغدو أو تروح، نسأل الله أن يديم لكم الأمن والعافية ويسبل على الجميع برود لطفه الضافية وييسر تواصل مقولتي الأين بدون أين، حتى تبلغ بذلك إلى قرة العين، بجاه الحسن والحسين في 17 ذي الحجة سنة 1297. الداعي خادم العلم الشريف بجامع الزيتونة محمد السنوسي، منشيء الرائد التونسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وحيث حسن موقع إنشاء الرائد عند الدولة قلدتني نيشان الافتخار من الصنف الثاني من أول وهلة في ذي القعدة الحرام سنة 1295 خمس وتسعين ومائتين وألف على يد الوزير الأكبر مصطفى بن اسماعيل آغة وقد استكملت بإعانة الله في الاعتكاف على إنشاء الرائد رغبة في خدمة الوطن مدة خمس سنين إلى أن أتت على البلاد ليلة المحاق، ووطئت من السطوة الأجنبية بكل ساق، وتباعد أهل الدين عن أن يكونوا من آلات العدو، يبدير بهم ما شاء في الحركة والعدو، وعند ذلك استعذت الله أن أكون له لسانأن نقول ما يريده البغاة أو نستعمل في ذلك بنانأن حتى اختار لتلك الخطة المهملة أخأن من تصدى لأن يكون عين العدو وأذنه في الشدة والرخأن فكان له مع ذلك لساناً وبنانأن ووسع العدو شكراً وأهل الدين امتهانأن حتى ضجت من ذلك صحف أهل الإسلام، ولازالوا يشددون التقريع لمن هم كالأنعام بل هم أضل، وكلهم مرق مروق السهم ووقع في الوحل، لكن على حال قد من الله علي وله الحمد بالعتق من تلك الربقة الخطيرة وفصلت عنها بعين قريرة، وإن أوقع ذلك حسرة في عموم أهل البلاد، وحسرتنا على ما أصاب الدين أعظم في هذا السواد، نسأل الله أن يجبر صدع الإسلام، بجاه نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد جمعت ما أدعته في الرائد في اللطائف والترتيبات في كتاب سميته (غرر الفوائد بمحاسن الرائد) وقد كتب عليه أخونا الشيخ محمد بن الخوجة: [مجزوء الكامل] غرر الفرائد جمَّلتْ ... جيد العلا ببدائعِ لازلت تظهر مثله ... وتحوز شكر السامع وهنا نتمم الفائدة بذكر نسب من صاهرت حيث كان فيهم نسب بضعتي حفظاً لحرمة النسب الذي أمر الله بحفظه. القليبيون والد أهلي هو أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الله بن الحاج حسين السلاوي المغربي، من ذرية الولي الصالح الشيخ عبد الله بن حسون دفين بلدسلا رضي الله عنه. وكان ميلاد ابنته المذكورة في شعبان الأكرم سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف، وكان بنائي عليها ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أما والدها فقد ولد سنة 1252 اثنين وخمسين، ونشأ بين يدي والده، وقرأ مبادئ من الفقه والعربية، واشتغل بالكتابة، فعد من بارعي الكتاب استكتب مدة في الرابطة ثم استخدم كاتباً خصوصاص مع الوزير الأكبر مصطفى خراندار بعد وفاة والده وعند عزل مخدومه ترك الخدمة ولازم داره وفاء بحسن عهد مخدومه. وولد والده محمد سنة 1236، وكان كاتباً بارعاً تقدم للكتابة في وزارة البحر وتدرج فيها إلى أن صار رئيساً وسافر مع الوزير خير الدين لباريس في محاسبة محمود بن عياد، ثم خرج لحج بيت الله الحرام فتوفي بمكة بعد أداء فريضة الحج وكانت وفاته ليلة الجمعة السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1281 إحدى وثمانين ومائتين وألف ودفن بالمعلا. وكان والده الشيخ أبو عبد الله محمد بفتح أوله جليلاً ولد بإقليبية سنة 1191 إحدى وتسعين ومائة وألف، وقدم إلى تونس في طلب العلم الشريف فقرأ على الشيخ صالح الكواش وغيره وتفقه وحصل حتى صار عالماً فاضلاً فقدمه الأمير حسين بأي لحظة الفتيا ببلد بنزرت فأقام بها إلى أن توفي ليلة الأربعاء سادس شوال سنة 1253 ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن امام ضريح سيدي عنان بنزرت عليه رحمة الله. وكان والده عبد الله ولد بإقلبية وتزوج هنالك برقية بنت محمد الزكراوي القليبي ووالدتها آمنة بنت الشريف الصالح الشيخ محمد الإمام، وأمها هي الشريفة العانس الجلازية فكان لابنه الشيخ المفتي شرف من قبل أمه حسبما نذكر نسبهأن وكان الأبر الحاج حسن السلاوي المغربي قدم من بلد سلا من عمل المغرب إلى تونس فنزل بإقلبية أواسط القرن الثاني عشر، والمتناقل عن بيتهم أنه من حفدة الولي الصالح الشيخ عبد الله بن حسون صاحب المشهد الفاخر ببلد سلا رضي الله عنه من بني حسون الأندلسيين أصحاب الذكر في مشاهير الأندلس وهو رجل من الصالحين الكمل قد تجمل به وسط القرن الحادي عشر، وقد نقل الحسن اليوسي في محاضراته عن الحاج الدلائي انه قال قدمت إلى الولي الصالح سيدي عبد الله بن حسون دفين سلا فقعدت إلى جنبه وقد مد رجليه، والأعراب متساقطون عليه يقبلون يده ورجليه، قال فخطر ببالي انه كيف أطلق هذا الرجل نفسه للناس هكذا قال: فلم يتم الخاطر وإلا وقد قال: أيها الناس رجل قيل له من مس لحمك لم تمسه النار أو لم تأكله النار أو نحو هذأن أو يبخل بنفسه على المسلمين، قال فلما سمعت كلامه وعلمت أنه على خاطري تكلم فتبت إلى الله تعالى في نفسي فجعلت إذا مد إليه أحد كاغداً وكان يكتب الحروز تلقيته من يده وناولته الشيخ وقبلت يده فإذا كتبه أخذته منه وقبلت يده فيحصل لأي في كل حرز قبلتان، قال ورأيت أموراً أشكلت علي منها أنه يؤتى بالثياب هدية وصدقة فيأمر بها فترمي في بيت وتبقى كذلك يأكلها السوس، ومنها انه في كل يوم يصبح عليه أهل الآلات فيضربون إليه. قلت أما الثياب فالذي يظهر من أمرها إما غنية حصلت للشيخ عنها وليس ذلك بمستنكر على أمثاله من المشتهرين في ذكره، وإما خارج مخرج القلنسوة التي رمي بها الإمام الشبلي في النار والمائة دينار التي رمي بها في دجلة وتأويل ذلك معروف عند أهل الطريق لا نطيل به وتأويل الآلات فإما أن يكون يستفيد من تلك الأصوات أسراراً أو معاني رضي الله عنه وعن سائر أولياء الله. (وقد لحقت هنونة زوجتي المذكورة بالدار الآخرة يوم السبت بعد زوال خامس شوال سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، ودفنت بمقبرة السقائين من الزلاج ومن لطيف ما وصلني في شانها المكتوب الآتي نصه: المقام الذي نرجو من الله بقاء جنابه، وتعظيم أجره على عظيم مصابه، مقام الجهبذ العلامة، الذي لا يقوم غيره مقامه، قطب دائرة المعارف ومركزهأن وحائز قصبات السبق فيها ومحرزهأن قديم الود، وعديم الند، وزكي الأصل، وذكي الفصل، محرر المسائل، ومقنع السائل، ذلك الفذ الذي لا تسع كمالاته طروسي، الأمجد الأحسب والأبرع الأكتب أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد السنوسي، أطال الله بقاءه، وأجزل على عظيم مصابه جزاءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أما بعد إهداء سلام تحمله إليكم أنفاس متصاعدة، وترد به عليكم أجناس من الأشواق متعاضدة، فإنه لا يخفى على جنابكم الأجل، أن الأمر كله لله عز وجل، وإنه لا يسأل عما يفعل ولا عما فعل، وأن العلم بهذه القاعدة مما يبرد حر الأنفاس المتصاعدة، ولولا العلم بها على التفصيل، لفتك بنا مصابكم بذلك الخطب الجليل، ألا وهو فقدكم لزوجتكم المرحومة، التي هي إن شاء الله بالخير والصلاح موسومة، برد الله ثراهأن وعرفها فضله وأدراهأن وأسكنها من الجنة غرفهأن وأنالها منه طرفهأن وقد عظم علينا مصابكم بذلك الفقدان، حتى أنساني الأفراح التي كنت أختلسها من الزمان، فإني كنت مسروراً بختان ابني فما راعني إلا أن ورد نبأ مصابكم علي فأبدل بالترح، ما كان من الفرح لدي، وقال لي حي على الحزن حي، فنزعت عما كنت فيه، وعلمت أن الزمان لا يصفو لغير بنيه، ولكن حيث كان الموت فرضاً على الأعيان، وحتماً على كل إنسان، فلا أسف ولا جزع، والخير فيما وقع، على أن الجازع بعد الفوت، لا يسمع لجزعه صوت، ولا سيما مع ملاحة قوله تعالى: (يوجد آية) ، وح لا يسعنا غلا الانقياد والإذعان، لأحكام الملك الديان، الذي نرجو منه أن يخفف عنا وعنكم ما ثقل من هذه الأحزان بتحقيق ما نطق به الفال عن صميم الجنان، تاريخاً لتلك الفقيدة الفائزة إن شاء الله بأحب نفعة لها في الجنان، في قولنا على لسان الجود والفضل والإحسان، يا رضوان أنزل زوجة السنوسي بأحب الجنان، فناهيك من فال دل على ما للفقيدة عن شاء الله من حسن المال، فالزم يا أخي الصبر حتى يعظم لك الثواب، وتقع الصلاة عليك من الملك الوهاب، وأحمد الله الذي جعل في صحيفتكم ثواب مصيبتهأن ولم يجعل ثواب مصابها بكم في صحيفتهأن وقل كما قال الصابرون إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المسؤول، بنبيه الرسول، أن يعاملها بالإحسان، وأن يخلع على الجميع خلع الرضوان، وأن يحسن فيها عزائكم، ويجزل على مصابكم بها جزاءكم، وأن لا يريكم بعدها ما تكرهونه، وأن يبلغكم من خيري الدارين ما تأملونه، وأن يحفظنا وإياكم من حوادث الليالي والأيام، وأن يبلغنا وإياكم من خيري الدارين كل مرام، بجاه سيدنا محمج عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الكرام، وأصحابه المرجو بهم حسن الختام، حرره إليكم الداعي بدوام بقائكم في ظل عيش وريف، ودودكم الحاج محمد طريفة المفتي المالكي الشريف، في 20 شوال سنة 1312) . الجلازيون قد سبق أن العانس الجلازية هي جدة آباء صهري وهي العانس بنت الشريف أبي الحسن علي بن عبد الله بن عبد القادر الجلازي من الأشراف العلاليين الذين ارتحلوا من المغرب ونزلت فرقة منهم بجبل مغيتر وفرقة نزلت بمصر وارتحلت منهم فرقة إلى أرض تونس فنزلوا بماطر ومنهم الجلازيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ارتحل السيد علي الجلازي من ماطر إلى دخلة المعاوين وسكن بإقليبية وتزوج هناك له العانس المذكورة كل ذلك استفدته من رسوم شرفهم التي تقتضي ثبوت اتصالهم بهلال بن سعد بن أحمد بن داود بن عباد بن عون بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن أدريس الأصغر بن أدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو لدي شرف من قبل أمه زيادة على ماله من قبل أمه زيادة على ماله من قبل أبيه وهو وإن تخللته بعض الأمهات إلا أن الذين أفتى به الشيخ عبد الباقي الزرقاني هو أن شرف الأم يثبت به الشرف نظراً للولادة فابن الشريفة شريف وله ولأبنائه لبس علامة الأشراف ما لم يخصها الأمير بشرف الآباء وإلا فيكون بمثابة ما إذا عينها بقرفة من الأشراف خاصة، وقد ألف في المسألة ابن مرزوق كتاباً سماه (إسماع الصم في إثبتات شرف الأم) وهي المسألة التي ختم بها الونشريسي معياره وبمقتضى ذلك فإن جد ولدي للأم هو أبو الحسن علي بن محمد بن محمد القليبي بن رقية بنت آمنة بنت العانس بنت علي بن عبد الله بن عبد القادر الجلازي من ذرية هلال بن سعد بن أحمد بن داود بن عياد بن عون بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن أدريس بن أدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ولادة ولدي من زوجي المذكورة قبل منتصف ليلة الخميس بساعتين من عاشر شعبان الأكرم سنة 1295 خمس وتسعين ومائتين وألف الموافق للسابع والعشرين من يوليه الأعجمي وثامن أغشت الإفرنجي سنة 1878 ثمان وسبعين وثماني عشرة مائة مسيحية فسميته محمداص نسأل الله أن يجعله محموداً المبدأ والمال، بجاه رسوله والآل، فهو محمد بن محمد بن عثمان بن محمد بن محمد السنوسي بن عثمان بن محمد بن أحمد عرف بن مهنية أحد حفدة الولي الصالح الشيخ سيدي عساكر بن ضيف الله بن محمد بن منصور الشريف الحسني رضي الله عنه، أعاد الله علي وعليه فضل السلف، وجعلنا ممن بالعلم والعمل قد تحلى واتصف، بجاه من هو أصل الفضل والشرف. ولما كان هذا الولد هو باكورة أبنائي أرخ ولادته العالم الفاضل التحرير الماجد الشيخ محمد بن الخوجة بقوله: [الطويل] ترنَّم في دوح المسرة مخبري ... هزارُ تهانٍ بالسرور الموفر وقد شنف الأسماع بالخبر الذي ... يرنح أعطافاً ذوات توقر ولا غرو أن هز النفوس وطيه ... لقد زيد في حزب العلا أي مفخر أما إنّه فرع الأصول التي زكت ... ويعرف طيبُ الفرع من طيب عنصر سلسل الكرام الغر من عرفت لهم ... مفاخر بالزهر الكواكب تزدري أما إنه نجل السنوسيّ فذِّنا ... هو البارع المشهور والمنصف السري هو السيد النحرير والعالم الذي ... يعاطي النهى من قوله أي مسكر همام له حيزت مآثر جمة ... يقصِّر عنها كل من لم يقصر وسرعان هذا النجل يصبح مثله ... فكل هلال مقمر دون منكر وقد سرني ذاك الحبيب بنجله ... أقول له أرخ محمد ... وأرخه أيضاً العالم الماجد الدراكة الشيخ محمد جعيط بقوله: [الطويل] سرتْ وهناً يشفي النفوس مسيرها ... بشائر ترويها النهي وتديرها تشيّد للعلياء ركن فخارها ... فتى زيد للفذ الصديق نصيرها بنجلك فردوس المسرة فتحت ... أفانينه وانساب منه عبيرها وألبست الخضراء نوراً به كما ... تبرجت الخضرا وغنّى بشيرها وتاقت لما اعتادته من بيت أصله ... منابر مجدكي يحلّى سريرها كأني بهذا النجل قد بذّ في العلا ... كهو لأسرار العلوم بصيرها كأنّي به في روضة الدرس للورى ... يعاطي كؤوساً غيرُ ظامٍ سميرها كأنّي به في موقف الفخر منشد ... ذروني فإني بالعلاء خبيرها كأني به يوم الرهان بحلبة ال? ... ?قريض إليه السبق وهو جريرها فراسةُ رأي غالب الظن صدقها ... إذا شاء من للكائنات يديرها فللفرع طيب الأصل مثل نتيجة ... فمنْ أصل صدق الشكل صدقاً يسيرها أعيد ابن خلي بالذي رفع السما ... فما أن يرى في نفسه ما يديرها ودم يا شقيقَ الروح تهنا مهنَّأً ... بنجل الرضى والعينُ قرّ قريرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وعذراً لتقصير القوافي عن المدى ... فجاءك من ضعف النسيج يسيرها فلمّا قراه البشر يوم بشارة ... وقد ضمخ الأرجاء مسكاً عبيرها وأقبل كنز اليمن عند قدومه ... فسارعني التاريخ (كنز بشيرها) وأرخه ايضاً العالم النحرير الخلاصة الشاعر الشيخ محمد المكي بن الشيخ الولي الصالح مصطفى بن عزوز بقوله: [الطويل] (وفرنا بسعدٍ قد تبدَّى هلاله) ... وريء بأبصار القلوب جماله على أننا لا نغتني عن زيادة ... من الملك القدوس جل جلاله ولاسيما مما تروح أجوره ... أما الغيث يرجى بالربيع خماله وقفو الفتى للأصل أقرب واقع ... بهذا انتفى للمبصرين سؤاله ومن أسكن الأبناء صدراً إليهمُ ... وفي القلب مهد لا يكون فصاله بأحسن ما يبقى بروزُ ابن كامل ... بأسرع ما يؤتى قراه كماله سنوسيُّ يا ابن الأمجدين سرورنا ... سواءٌ ببابوس سترضى خلاله وكل من الأحباب يشكر ربه ... مهِّن مهنّا حامدَ الوقت باله كأني بهذا الشبل وهو مثابر ... على صنع ما يعنى تروقك حالهُ وأرجو بأن يضحي قمطرَ معارفٍ ... به العلم يدري تقتفيه رجاله قنيصاً لأصناف المعاني مدبراً ... تقياً نقي العرض يسمو جماله حكيماً يرى بالقلب رأي مشاهد ... أعاديه قد عادت عليهم نباله عساه بدا للمسلمين مبشراً ... بنصر وتأييد بعز مناله محمدُ عش واسم لك اللطف حافظ ... وحسبك في الأمر النبيء وآله فمذ جاءني الإبشار قلت مؤرخاً ... (وفرنا بسعد قد تبدّى هلاله) وأرخه أيضاً العالم الفاضل الشيخ محمد طريفة بقوله: [الكامل] بشرى المسرة لم تزل متزايدةْ ... لك بازدياد فتى بقيت مشاهدهْ وسقيت من راح السُّرور بكفه ... كاساً تكون على الدوام معاوده ومنحت ما ترجوه منه بفضل منْ ... أضحى ينيل الجيد منك قلائده فاهنأ به يا ذا الفخار فإنه ... لمحصنِ ممَّنْ يروم مكائده سيكون للعرفان مثلك جامعاً ... حتى ينال طريف ذاك وتالده ويشدّ أزرك باقتناء نفيسة ... ويمد في جلب الرضا له ساعده وبصدق هذا جاء قول مؤرخ ... (النّجل عضّد بالبلاغة والده) وأرخه أيضاً الخير الصفوة الشيخ محمود جراد بقوله: [الكامل] لكم البشارة والهنا بفوائد ... فاحمد إلهك فهي منه تفضل منن زكت من ربنا موهوبة ... في كل وقت والعدى تتضاءل يا يا أديب العصر فزت بتونس ... ما أنت إلا في العلوم حلاحل ظهر الهلال بأفقه متهللا ... بزيادة البشرى الكواكب تحفل فبمولد الفرع المسمى محمداً ... وهو السنوسي للأصول تجمِّل حمل له برج أواخر يوليا ... قمر به نور السعادة يكمل في شهر شعبان المؤرخ جاءه ... (لاح السرور وحلا سعد كامل) وعند زيارتي مقام سيدي محيي الدين بن العربي لقبت ولدي بلقبه رجاء أن تعود عليه بركته فهو محمد محيي الدين السنوسي. وكان ختانه في جبل المنار صبيحة يوم الاثنين الثالث من شوال سنة 1300 بعد إقامة عذيرة حافلة وممن وقف على ختنه الأمير الناصر باي والشيخ محمد الشريف إمام جامع الزيتونة وفي ليلة الخميس الموالي له كانت مبيتة القادرية وفيها فقال العالم الشيخ محمد بن الخوجة: [البسيط] يا ليلة نلتها ما كان أهنأها ... قد عزفي الدهر أن يلفى لها مثلُ جادت بكل سرور ما به كدر ... سعودها لم تزل تنمو وتكتمل لا غرور أن عظمت وقعهاً فناسجها ... ذاك السنوسيُّ من للبدر ينتعل هذا وفي صبيحة يوم الثلاثاء من ذي الحجة الحرام قبل الزوال بأربع ساعات إلا ربع من سنة 1298 ثمان وتسعين زيد لي ولد ثان سميته الشريف وأرخ ولادته الأديب أحمد السقاط بقوله: [الطويل] هلال بأفق العز تزهو سعوده ... وشبل بغاب الفخر ترمي أسوده وفرع علا تهتز أعطاف مجده ... ويعبق أثناء المحامد عوده تباشرت الدنيا به وتنافستْ ... مراتبه حتى تباهت مهوده هنيئاً لبيت الفضل إن عماده ... مقيم وإن الفخر باقٍ عميده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 عنيت به نجل السنوسيّ من غدا ... يفوق على الدر النظيم فريده له نشأة في الجود والبأس قد سمت ... يذاب به صم الثرى بل حديده شبيه أباه في الفخار وجدّه ... فيا لقديم قد قفاه جديده سيعلي مباني المجد مثل جدوده ... فيا به من فخر يعود معيده سقى الله مثوى جده كل مزنة ... تضوع به ضوع الرياض لحوده وأبقى أباه للسيادة والعلا ... تزاد عطاياه ونحن عبيده لقد ظهرت علياه مظهر شارق ... وهل ينكر المحسوس إلا حسوده إذا كان علم فهو وضّاح أصله ... وغن كان رأي غامض فرشيده فلو أننا في يوم خطب نؤمه ... سألناه شرخ العمر كاد يعيده ولو أن أقمار السماء تحجبت ... لأغنى سري الفخر عنها وجوده لأزكى الورى نفساً وأكرم معشراً ... وأمكنهم من مورد يستفيده ليهنك نجل سعده لاح مشرقاً ... تسرُّ به آباؤه وجدوده وتلك يد من نعمة الله فز بها ... وأرخ (يد نجل تبدت سعوده) غير أن الله سبحانه اختار الآخرة والأمل في الفضل أن يكون فرطاً وذخرأن وحسنة وأجرأن إذ أنه على عقب وجودي من حج بيت الله الحرام مرض بالحصبة وتوفي بعد الزوال بنصف ساعة من يوم الأحد غرة جمادى الأولى سنة 1300 ثلاث عشرة مائة. إلى هنا كان موقف جواد القلم، وغاية الجمع الذي في سلك الإبداع قد انتظم، فبرز إلى الوجود من العدم، فجاء نزهة المسافر، وتحفة السامع والناظر، غذ توشح من تعريف الرجال، بما يبلغ به مطالعه غاية الآمال، على حسب ما في مقدرتي من الاطلاع، لا على حسب أولئك الأعلام الذين لاحت فضائلهم كنار على يفاع، وإني وإن كتب تعاطيت في جميع مآثرهم ونشر مفاخرهم ما يتعاطاه الغيور على بلاده، المتصدي لجمع شمل مفاخر علمائها من شيوخه وأجداده، لكن قصر الباع، وحداثة السن وعدم الاطلاع، كلها أعذار أقدمها لما وقع مني من الإخلال، في التعريف بأولئك الرجال، إذ أني فاتحت بهذا التعريف من عمري مكمل الثلاثين، وأني لابنها واستقصاء غايات الشم العرانين، فهيهات هيهات الوصول إلى الغايات لكن حسن ظني بكرام العشيرة، سهل علي التجاسر على المواقع الخطيرة، فأدلجت مع اعترافي، بأني لست من ذوي القوادم أو الخوافي، راجياً رضى السادة الذين أعملت قلمي في خدمة مجدهم، فعسى الله أن يوليني أيمن رفدهم، برضاهم علي في هذا الصنيع، الذي اعملت فيه جهد المستطيع، آملاً منه سبحانه تعالى أن يحشرني في زمرة هؤلاء الأعلام، الذين تتباهى بهم الأيام، بجاه نبيه عليه الصلاة والسلام. اللهم يا من ليس لكماله غاية، نسألك بجاه رسولك أن تحسن لنا في كل عمل البداية والنهاية، وأن تديم علينا ما عودتنا به من خفي الألطاف، التي نرجو أن تصاحبنا إلى يوم المخاف، وأن تؤمن عاقبتنا في جميع الأمور، وتحمينا من كل ذي جور وفجور، وأن ترزقنا بفضلك العلم والعمل، وتجعل فينا وفي ذريتنا من الخير ما يبلغ به الراجي إلى غاية الأمل، اللهم احفظ منا اللسان واليد والقدم، واحمنا بلطفك وحفظك من مزالق القلم، يا ذا الجود والكرم. اللهم اجمع لنا بين سعادة الدارين مع الأمن والعافية، وأسبل علينا من سرادق فضلك البرود الضافية، يا من ليس لفضله حد، ولا يعجزه مطلب أحد، واغفر لنا ولوالدينا ولمشائخنا ولمن أحسن غلينا ولإخواننا بجاه رسولك الكريم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وقد أنجزته بعون الله فيما دون الشهرين وذلك بفضل الله الذي لا يخيب من توكل عليه سبحانه وتعالى. ووافق الفراغ من جمعه الأول ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من المحرم وتم بإعانة الله تبيضه أواخر جمادى الثانية كل ذلك سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف. الملحق التشريع أنشأ الأستاذ السنوسي قصيدة طويلة مبنية على التشريع مدح بها الإمام العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر النيفر قاضي الجماعة من سنة (1290 إلى 1311) لما ختم كتاب الشنشوري على الرحبية في الفرائض. وكان درسه للشنشوري درساً حافلاً غص بالطلبة فأراد الأستاذ السنوسي تخليد هذا الختم بقصيدته ملتزماً فيها هذا النوع من البديع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أعني التشريع وهو نوع من أنواع البديع يبني فيه الشاعر ما ينظمه على وزنين من أوزان القريض وقافيتين فإذا أسقط من أوزان البيت شيء يخرج شعر مغاير في الوزن والقافية. وهو نوع معروف في كلام العرب ومنه قوله: [الكامل] وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالاً ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطال ومن بليغ التشريع ما جاء عن الحريري في مقامته الثالثة والعشرين الشعرية: يا خاطب الدنيا إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً بعداً لها من دار وهي قصيدة في تسعة أبيات من الكامل تخرج منها قصيدة أخرى من: [مجزوء الكامل] يا خاطب الدنيا الدن? ... ?ية إنها شرك الردى دار متى أضحكت ... في يومها أبكت غدا وقد اقتفى السنوسي الحريري في قصيدته المذكورة بقوله: مسك الختام برحب روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا فإذا أسقطنا قوله (ولبه النسيم تلطفا) تستخرج قصيدة أخرى بغير قافية القصيدة، ومن مجزوء الكامل: مسك الختام برحب رو ... ضٍ قد هفا بتعطر ولبيان القصيدة المستخرجة من القصيدة الأصلية أعدت في هذا الملحق نشرها مع بيان القصيدة المستخرجة بالنقط في كل بيت وكذلك في قصيدتي التقريظ ثم أتبعت ذلك بنشر القصائد المستخرجة من القصيدة الأصلية وتقريظها. جاء في (ص131) من هذا الجزء الرابع: أنشأت في ذلك الختم قصيدة من التشريع لما وقع في الكتاب المذكور من الازدحام وهي قولي: [الكامل] مسك الختام برحب رو ... ض قد هفا بتعطر وبه النسيم تلطفا أحسنْ به إذ فاح في ... روض العلو م الأخضر وبكل زهر عرّفا فغدت به الأزهار ما ... ئسة بنو رٍ أنور كالريم حين تعطفا وغصونها زينت بور ... د للمنى والعبهري والكل فيه تالفاً ودنا قطوفة بعدما ... شاكى الحمى عنْ مبسر وبدا لدنيا مشرفا وغدا به نهر البشا ... ئر هاملاً كالكوثر وبه الجنان تزخرفاً وترنحت أطياره ... فوق الربى بالمزهر وبه الحزين قد اشتفى وبه الظبا بين الربى ... كلٌّ سبا بتبختر فربا الحبا بعد الجفا ماست وقد رفعت ذوا ... ئب فاحم عن مقمر فبدا الجمان وما اختفى فبدا الندى من فوق ور ... د تحت خال عنبري كالليل عن شفق ضفا وبثغرها ثلج على ... خمر تح ?ل بسكر فلقد تسامت مرشفا فشفى الضما ضربُ اللمى ... مذ قد همى من جوهر ظلم نما منه الشفا وافت تهز معاطفا ... مثل الكثي? ?ب الأعفر والقد بان مهفهفاً ورمت قلوب العاشقي? ... ?ين بسهم لح? ?ظ أحور وبه الفؤاد تحترفا فرأيت ما قد فات في ... شرخ الشبا ب بمحجر لا القصد منه تخلفا فداع الملام ومن أتا ... ك يشي لجا كالمنذر ودع العذول معنفا واحضر نديمي لي بوج? ... ?هـ ضاحك مستبشر ولدي كنْ كنْ مسعفا وأدرْ على روح المع? ... ?نى راحة إذ يجتري عماله قد كلفا فاقرع لنا ثغر الكؤو ... س وأملها بالمسكر وأدر عليذ القرقفا وامزج بها راح امتدا ... ح الأطهر اب? ?ن الأطهر الفذ الإمام أبي الصفا الطاهر الحبر الهما ... م ابن الهما م النيفري نجل الرسول المصطفى هو عالم الدنيا ومؤ ... نس تونسٍ بتصدر مذ كلنا قد سرهفا ذا وارث المختار خي? ... ?ير الخلق خي? ?ر مبشر مذ قد علا واستشرفا بالفرض والتعصيب حا ... ز مفاخرا وبها حري من فخر والده اقتفى فعلاه من حسب ومن ... نسب نق? ?يّ أطهر فلذا بدا مستطرفا فلأنه طود العل? ... ?وم وعلمه كالطيسر من سحبه قد أوكفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ذو نجدة وصيانة ... وديانة لم تنكر حاشاه يوماً طففا ذو همة ومروءة ... طابت بطي? ?ب العنصر وبها غدا متعففا ذو نجدة وكياسة ... تكسو الحلي للمشتري والبدر منه قد اختفى فلأنه شهم خض? ... ?م أروع ذو مفخر وبه الكمال تعرفاً بدر سناه بشمس وا ... لده الإمام م الأشهر من فضله قد كفكفا فلكم هدى من ضل في ... ديجور عل? ?م أكبر فأضاءه حين ازدفا ولكم بكف بكف من ... ولي بعدو ة قسور فأباد عنه مزيفا فهو الذي قد حاز خص? ... ?ل السبق غي? ?ر مقصر لا للفخار تكلفا فبدا بتاج جلالة ... ومهابة في المنظر والقلب من ذا أرجفا ولقد تطلع غرة ... في وجه هـ? ?ذي الأعصر والدهر منه تشرّفا فاحضر بفيض دروسه ... تلقاه بح? ?ر الجوهر وترى به ذا الغينفا فتراه في اشبال جا ... مته إذا كغضنفر بزئير علم قد هفا يحظي الذين أتوه من ... فيض العطا ء الأوفر كم من خلائق أتحفا ومتى تأمل في العوي? ... ?ص يحله بالزمجر ويريك عضبا مرهفا ويريك من تحريره ... عذب السلا ف المسكر وبكأسه كم أرشفا بفصاحة قسية ... قد زانها بتدبر وبدا بها متصرفا فقد امتطى من علمه ... متن الجيا د الضمر وبذاك أمره زهلفا وغدا يجول بحزمه ... في رحب رو ض مثمر بفوائد وبها شفى وبدا لنا في طلعة ... مثل الصبا ح المسفر فغدا لدينا شندفا هذا الفخار ... ر بغيره للمخبر فبه العلا ما استحشفا يا من فخاره عنه قد ... قصرت دعا ثم قيصر فغدا به مستشرفا فمتى يعد ذوو العلا ... أنت المع? ?د بخنصر مذ قد سموت تشرفا ماذا يقول شويعر ... في مدحكم إذ يجتري لو كلَّ ليله أتلفا وبفضلكم صار الخطي? ... ?ب يجول قو ق المنبر مذ قام يتلو المصحفا لكنني نقّحت ما ... لم يشتبه بالمفتري در المديح وقد صفا قد فزت منك بمحض و ... د للفؤا د وبدا فخارك نفنفا فأقبل إليك فريدة ... ما حاكها من معشر لو في المدائح أسرفا حيتك من نجل ف? ... ?يّ فاق شع? ?ر البحتري مذ مدح علياك اقتفى خلّصتها مما انتخب? ... ?ت بدرسكم من جوهر فأتى لديك مؤلفا ولقد سحرتُ بها النهي ... فافخر بها في المعشر فالأصل منكم أتحفا وكسوتها بمديحكم ... حسناً ببر د عبقري ووشاحها قد أوصفا فتطاولت وغدت تج? ... ?ر بكم ذيو ل المفخر تيهاً لديك بلا خفا وأتتك رغماً للحسو ... د وقرة للمذكر من أهل ود ما جفا كيما تهنيكم بخت? ... م مثل مس? ?ك أذفر في القطر ضاع معرفا فاهنأْ وفز وامنح ودم ... وابقى بقا ء الأدهر تسدي حياء أو طفا لازلت بحراً والمدي? ... ?ح كما السحا ب الممطر وثناك يملأ كل فا ما قام يلهج مادح ... صلى على ذي المغفر خير البرايا المصطفى صلى الإله عليه ما ... تم المرا د بمحشر حتى يؤم الموقفا وقرظ هاته القصيدة أخونا الشيخ محمد جعيط على شاكلتها بقوله: [الكامل] برزتْ فتيمتِ المع? ... ?نَّى المدنفا بالمنظر وبحوزها حاز الشِّفا رفعت قناع جمالها ... فبدت لنا كالمشتري أو بدر تمٍّ قد صفا فخرت بطلعتها فصا ... رت غرة للأعصر ولحسنها البدر اختفى سحرت بلب القول ل? ... ?ب ذوي النهي من معشر وبها تبدي مدنفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أهدت سلاف النظم في ... لفظ لها كالجوهر تحكي النسيم تلطُّفا حملت لواء بلاغةٍ ... وفصاحةٍ بالأسطر فكمالها لن يوصفا طابت ثنا لا بالتص? ... ?نع بل بطي? ?ب العنصر فنفى بذاك تكلفا سمحت بكحل مدادها ... مذ قد حكى للعنبر لوناً وريحاناً قد هفا وسقت كؤوس رحيقها ... فأبيح شر ب المسكر ناديت هات القرقفا أزرت بكل فريدة ... أعظم بها أن تزدري وبلفظها كن منصفا فضت ختام رحيقها ... تناديت فاش? ?مم وانظر واقطف وطب مما وفا مسك الختام برحب رو ... ض قد هفا بتعطر وبه النسيم تلطفا فتكت محاسنها بنا ... لما أتت في عسكر وأتت بقلبي مهدفا سيف العيون وحاجب ... وفم همي بالكوثر تزداد منه تزخرفا ماست لفتكي فاستجر ... ت بربها في المعشر فلأن شيمته الوفا أعني أبا عبد الإله? ... ?هـ ومن سما في الأعصر ولعنصر المجد اقتفى من صار سحر القول من? ... ?هـ سجية وبها حري والطبع لن يتخلفا سحر البيان مع البدي? ... ?ع يبثه بالأسطر ويزيد فيه تألفا يأتي بسحر القول دو ... ن توقف وتفكر ويصوغ درا قد صفا فهو المقدم بالقري? ... ?ض وعده بالخنصر وبه لعمري صنِّفا خذها إليك فريدة ... جاءت لكم بتبختر وبها الجمال تكلفا رويتْ فنون السحر ع? ... ?ما صغته من جوهر ينفي عليه تعسفا فلذا سمت بجمال قو ... ل عن مقا ل البحتري وبفضلها قد أنصفا قد صغتها تاجاً لها ... مةِ خودكم في الأدهر فلحسنها البدر اختفى فأقبل إليك من المق? ... ?ل قليل هـ? ?ذي الأسطر واصفح على ما زيّفا لازلت ترفل في السعا ... دة والمقا م الأكبر وتصوغ درا أتحفا وقرظها أيضاً على شاكلتها الشيخ أحمد جمال الدين بقوله: [الكامل] نبه جفونك قد وفا ... ساقي السلا فة بكِّر مترشفا لترى الشفا وامزج بها ماء اللَّمى ... ما فاق طع? ?م السكر واسق النديم المسعفا ما بين أزهار الربى ... والعود طو? ع منقّر وبه المحب تعطفا والغيد ترفل في بدي ... ?ع شمائل بتبختر كل البدور لها اختفى ترنو بطرف فاتك ... من تحت قو س موتر ولها الحشاشة مهدفا وردت ورود خدودها ... من تحت آ س عبهر والصبر مني قد عفا يا صاح ذا زمن الخلا ... عة والنزا هة فاحضر ومن المعنف قد صفا فاخلع عذراك واغتنم ... فرص اللذا ذة وانثر متغنياً ما شنفا مسك الختام برحب ر و ... ض قد هفا بتعطر وبه النسيم تلطفا طلعت تتيه تطاولاً ... في خير نش? ?ر عنبري تذر المعنَّى منصفا وتجر ذيل مطارف ... من سندس? ?يّ عبقري تلقي المحب من الشفا سحرت عقول ذوي النهي ... فغدت حلي? ?ف تفكر بسلاسة لن توصفا كالراح معنى غذ تفي? ... ?ضُ جواهرا كالممطر أو كالعقود تالفا وبدت تدير مدائحاً ... في ذي الإما م الأطهر نسل الرسول المصطفى ما صاغها ذو نهية ... ولو الحري? ?ريّ بل لو غدا متكلفا ما هو إلا من سما ... وبكل شه? ?م يزدري وأبان فضله كل فا بحر من الآداب يب? ... ?دو أنه كالسكر يبري السقيم المدنفا من قد تسمى بالسنوسي ... كالسنوس? ?ي المزهر بل مثله لن يعرفا أبدعت في نظم نضي? ... ?د مثل سل? ?ك الجوهر أو كالرياض تزخرفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 يشدو فيفعل بالنهي ... فعل الشرا ب المسكر لكنه لن ينزفا وبك الأواخر قد تفاخ? ... ?ر أين ذك? ?ر البحتري وبك الصفاء قد اختفى وبكل فن قد بدا ... متفايضا كالأبحر وغدا ذكاؤه مرهفا قد نلت كل حميدة ... من ذا الجنا ب الأطهر ولك الفخار بلا خفا دم مثل ما ترضى فأن? ... ?ت أديب ك? ?ل الأعصر وغدا زمانك مسعفا وبقيت غيثاً واكفا ... ولك الفدا ء بمعشر ثدي المفاخر مرشفا مبتسماً ثغر السعا ... دة فائحاً كالعنبر أو مسك ختم قد هفا وهذه القصيدة المستخرجة من قصيدة المدح: [مجزوء الكامل] مسك الختام برحب رو ... ض قد هفا بتعطرِ أحسن به إذ فاح في ... روض العلوم الأخضر فغدت به الأزهار ما ... ئسةً بنور أنور وغصونها زينت بور ... د للمنى والعبهري ودنا قطوفه بعدما ... شاكى الحمى عن مبسر وغدا به نهر البشا ... ئر هاملاً كالكوثر وترنحت أطياره ... فوق الرُّبى بالمزهر وبه الظبا بين الربى ... كلٌّ سبا بتبختر ماست وقد رفعت ذوا ... ئب فاحم عن مقمر فبدا الندى من فوق ور ... د تحت خال عنبري وبثغرها ثلج على ... خمر تحلُّ بسكر فشفى الضما ضربُ اللمى ... مذ قد همى من جوهر وافت تهز معاطفا ... مثل الكثيب الأعفر ورمت قلوب العاشقي? ... ?ين بسهم لحظ أحور فرأيت ما قد فات في ... شرخ الشباب بمحجر فداع الملام ومن أتا ... ك يشي لجاً كالمنذر واحضر نديمي لي بوج? ... ?هـ ضاحك مستبشر وأدر على روح المع? ... ?نى راحة إذ يجتري فاقرع لنا ثغر الكؤو ... س وأملها بالمسكر وامزج بها راح امتدا ... ح الأطهر ابن الأطهر الطاهر الحبر الهما ... م ابن الهمام النيفري هو عالم الدنيا ومؤ ... نس تونسٍ بتصدر ذا وارث المختار خي? ... ر الخلق خير مبشر بالفرض والتعصيب حا ... ز مفاخرا وبها حري فعلاه من حسب ومن ... نسب نقيٍّ أطهر فلأنه طود العل? ... ?وم وعلمه كالطيسر ذو نجدة وصيانة ... وديانة لم تنكر ذو همة ومروءة ... طابت بطيب العنصر ذو نجدة وكياسة ... تكسو الحلي للمشتري فلأنه شهم خض? ... ?مّ أروعٌ ذو مفخر بدرٌ سناه بشمس وا ... لده الإمام الأشهر فلكم هدى من ضل في ... ديجور علم أكبر ولكم بكفه بكفّ من ... ولَّى بعدوة قسور فهو الذي قد حاز خص? ... ?ل السبق غي?ر مقصر فبدا بتاج جلالة ... ومهابة في المنظر ولقد تطلع غر ... ةً في وجه هـ?ذي الأعصر فاحضر بفيض دروسه ... تلقاه بح?ر الجوهر فتراه في أشبال جا ... مته إذاً كغضنفر يحظي الذين أتوه من ... فيض العطاء الأوفر ومتى تأمل في العوي? ... ?ص يحله بالزمجر ويريك من تحريره ... عذب السُّلاف المسكر بفصاحة قسية ... قد زانها بتدبر فقد امتطى من علمه ... متن الجياد الضمَّر وغدا يجول بحزمه ... في رحب روض مثمر وبدا لنا في طلعة ... مثل الصباح المسفر هذا الفخار فلا فخا ... ر بغيره للمخبر يا من فخاره عنه قد ... قصرت دعاثم قيصر فمتى يعد ذوو العلا ... أنت المعد بخنصر ماذا يقول شويعر ... في مدحكم إذ يجتري وبفضلكم صار الخطي? ... ?ب يجول فوق المنبر لكنني نقَّحت ما ... لم يشتبه بالمفتري قد فزت منك بمحض و ... دٍّ للفؤاد موفّر فأقبل إليك فريدة ... ما حاكها من معشر حيتك من نجل فت ... ?يّ فاق شعر البحتري خلَّصتها مما انتخب? ... ?ت بدرسكم من جوهر ولقد سحرتُ بها النهي ... فافخر بها في المعشر وكسوتها بمديحكم ... حسناً ببرد عبقري فتطاولت وغدت تج? ... ?ر بكم ذيول المفخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وأتتك رغماً للحسو ... د وقرة للمذكر كيما تهنيكم بخت? ... م مثل مسك أذفر فاهنأْ وفز وامنح ودم ... وابقى بقاء الأدهر لازلت بحرأن والمدي? ... ?ح كما السحاب الممطر ما قام يلهج مادح ... صلى على ذي المغفر صلى الإله عليه ما ... تم المراد بمحشر وهذه القصيدة المستخرجة من تقريظ الشيخ محمد جعيط: [مجزوء الكامل] برزت فتيمتِ المع? ... ?نَّى المدنفا بالمنظر رفعت قناع جمالها ... فبدت لنا كالمشتري فخرت بطلعتها فصا ... رت غرة للأعصر سحرت بلب القول ل? ... ?ب ذوي النهي من معشر أهدت سلاف النظم في ... لفظ لها كالجوهر حملت لواء بلاغة ... وفصاحة بالأسطر طابت ثنا لا بالتص? ... ?نع بل بطيب العنصر سمحت بكحل مدادها ... مذ قد حكى للعنبر وسقت كؤوس رحيقها ... فأبيح شرب المسكر أزرت بكل فريدة ... أعظم بها أن تزدري فضت ختام رحيقها ... تناديت فاشمم وانظر مسك الختام برحب رو ... ضٍ قد هفا بتعطر فتكت محاسنها بنا ... لما أتت في عسكر سيف العيون وحاجبٌ ... وفم همي بالكوثر ماست لفتكي فاستجر ... ت بربها في المعشر أعني أبا عبد الإل? ... ?هـ ومن سما في الأعصر من صار سحر القول من? ... ?هـ سجية وبها حري سحر البيان مع البدي? ... ?ع يبثه بالأسطر يأتي بسحر القول دو ... ن توقف وتفكر فهو المقدِّم بالقري? ... ?ض وعده بالخنصر خذها إليك فريدةً ... جاءت لكم بتبختر رويتْ فنون السحر ع? ... ?ما صغته من جوهر فلذا سمت بجمال قو ... لٍ عن مقال البحتري قد صغتها تاجاً لها ... مةِ خودكم في الأدهر فاقبل إليك من المق? ... ?ل قليل هذي الأسطر لازلت ترفل في السعا ... دة والمقام الأكبر وهذه القصيدة مستخرجة من تقريظ الشيخ أحمد جمال الدين: [مجزوء الكامل] نبه جفونك قد وفا ... ساقي السلافة بكِّرِ وامزج بها ماء اللَّمى ... ما فاق طعمَ السكر ما بين أزهار الربى ... والعود طو?ع منقّر والغيد ترفل في بدي ... ?ع شمائل بتبختر ترنو بطرف فاتك ... من تحت قوس موتر وردت ورود خدودها ... من تحت آس عبهر يا صاح ذا زمنُ الخلا ... عة والنزاهة فاحضر فاخلع عذراك واغتنم ... فرص اللذاذة وانثر مسك الختام برحب ر و ... ضٍ قد هفا طلعت تتيه تطاولاً ... في خير نشر عنبري وتجر ذيل مطارف ... من سندسي عبقري سحرت عقول ذوي النهي ... فغدت حليف تفكر كالراح معنى إذ تفي? ... ?ضُ جواهرا كالممطر وبدت تدير مدائحاً ... في ذي الإمام الأطهر ما صاغها ذو نهية ... ولو الحريريُّ الحري ما هو إلا من سما ... وبكل شهم يزدري بحر من الآداب يب? ... ?دو أنه كالسكر من قد تسمى بالسنوسي ... كالسنوسي المزهر أبدعت في نظم نضي? ... ?د مثل سلك الجوهر يشدو فيفعل بالنهي ... فعل الشراب المسكر وبك الأواخر قد تفاخ? ... ?ر أين ذكرُ البحتري وبكل فن قد بدا ... متفايضا كالأبحر قد نلت كل حميدة ... من ذا الجناب الأطهر دم مثل ما ترضى فأن? ... ?ت أديب كل الأعصر وبقيت غيثاً واكفاً ... ولك الفداء بمعشر مبتسماً ثغر السعا ... دة فائحاً كالعنبر وانبرت للمدى أماني نفوس ... كن أسرى حوادث الأيام منن لم يجلن في الفكر لولا ... بركات المولى الجليل الهمام ذلك السيد الإمام المرجَّى ... بسنا وجهه انسجام الغمام صدر أعيان زمرة المجد حقاً ... وإمام الأيمة الأعلام مالك العصر عالم المصر بالقص ... ر وشيخ الشيوخ بين الأنام حائز السبق في مدى الفضل حاو ... في اقتسام العلى معلَّى السهام عضد الدين (سعده) (ناصر الم ... لة) بالحق (حجة الإسلام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 نور عين الزمان علماً وحلماً ... وتقى في جلالة واحترام حافظ السنة الزكية مبدٍ ... نورَ أسرارها بغير اكتتام عمدة الفقه غاية السؤل فيه ... وشفاء الصدور في الأحكام وتقاريره الرياض ولكن ... تثمر الدُّرَّ في يد الأفهام تتسامى درى المنابر منه ... ومحاريبها بخير إمام ليس إلا بذهنه تسمع الص ... م وتحيا بصائرُ الأغتام ليس إلاّ بذهنه تتجلَّى ... نكتُ العلم في دجى الأوهام ليس إلا بلفظه العذب تتلى ... سورُ الذكر في دياجي الظلام ليس إلا به اقتناء المزايا ... واقتباس الهدى وبرءُ السقام عالةً أصبح الأنام عليه ... طاعة النقض منه والإبرام خضعت عنده الرقاب بما قد ... طوقتها يداه بالإنعام منةٌ لا تزال تدري وتروى ... لولاة الطروس والأقلام لا ترى غير مهتدٍ بهداه ... أو محبَّ أو لائذ بذمام يا إماماً حواه بردُ المعالي ... وردا الفضل قبل عهد الفطام يا سميَّ الخليل يا وارث الرأفة ... والحلم من حلاه العظام قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والفضل والندى من مسام ففداء لشسع نعلبيك قوم ... ولدوا في العلى لغير تمام وهنيئاً لك المفاز يختم ... للبخاري حديث طه التهامي جاء بشرى لكم بإقبال فتح ... ووصول إلى قصيّ المرام ولنا منه والبرية طراً ... أي رحمى ونعمة واغتنام ولعمري ليست بأول نعمى ... كنت مولي ظهورها للأنام فجزاك الإله خير جزاء ... مشرق بدؤه بحسن الختام وابق يا بدر في سماء المعالي ... مستدام السنا مصون التمام والقصيدة الثانية من إنشاء الشاعر الماجد الفصيح الأكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي، وهي قوله: [الكامل] وجه التهاني اليومَ أصبحَ مسفراً ... والكونُ أشرقَ والفضاءُ تعطرا والسعدُ حيا والمسَّرة أقبلت ... والأفق كلَّله السرورُ كما ترى وبتونسَ الإيناسُ أسفرَ صبحه ... واهتزَّ روض الصالحات ونوَّرا وبدا بإبراهيمَ برءُ همومنا ... شيخِ الشيوخ القطب مصباحِ الورى ركن الشريعة فخر ملة أحمدٍ ... صدر الثقاب الكمَّل الشمَّ الذُّرى علم الألى بثُّوا العلوم وخير من ... قدْ أمَّ محراباً ونوَّرَ منبرا يجلو دجى الإشكال ثاقب فهمه ... فتراه بعد اليأس أصبح نيرا ويجيلُ في النكت العويصة ذهنه ... فيشقُّ كوكبه العجاجَ الأكدرا ويبينُ أسراراً تكاد لحسنها ... حقاً تباع بها النفوس وتشترى أشهى على الأسماع من نيل المنى ... وألذُّ في الأجفان من سنة الكرى كم قد لبسنا من مصوغ عقودها ... درَّا نفيساً في الرقاب وجوهرا وكم اقتطفنا من أزاهرِ روضها ... حتى لبسنا العيش ثوباً أخضرا وبدرستك (الجعفيَّ) كم أوضحت من ... نكتٍ تدقُّ عن العيان فما ترى وسلكت منه مهامهاً وتنائفاً ... يضحى الخبيرُ لبعضها متحَّيرا وسريت ذا جدَّ لحل رموزه ... والآن حان بختمه حمدُ السُّرى فلك الهناءُ مقدماً ولنا بكم ... ولمن يخصُّك بالوداد وللورى وجزاك ربك خير ما جازى به ... وأطال عمرك كيف شئت وأكثرا وإليك من جهد المقلَّ محوكة ... من خاطر منع العنا أن يخطرا وقريحة خمدت ودهر غالني ... من غوله ما صد عن أن نبصرا بلغ الزّبى تياره فاسمح بما ... ينجي الغريق وكن أجلَّ من اشترى فإذا مددت ودودكم بادعائكم ... أعددت منه إلى المعاند عسكرا وبلغت آمالي لصدقِ طويتي ... فيكم، وعشتُ مملئاً لن أحذرا لا زلت في أفق السعادة نيراً ... تجلو بهمتك المهم الأكبرا والقصيدة الثالثة من إنشاء ولده العالم الأديب المدرس الشيخ علي الرياحي وهي قوله: [الطويل] تبلَّج في أفق الهدى طالع السعد ... كسي حللُ الإسعاد واليمن والرشدِ وفاح شذا مسك يفوق ختامه ... نسيم الصبا بالعطرِ أو فوحة الندَّ أو الروض إذ يزهو بحسن ابتسامة ... فيحيا بريحان الأزاهر والرند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وأسفرتِ الأيام عن وجه بشرها ... كما أسفر المحبوبُ عن وردة الخد ذكرتُ بذا عهد الصَّبا وغرامه ... وما قد رشفنا في الثغور من الشهَّد رعى الله تلك الغانيات ولا أرى ... سوى أنهنَّ الحورُ من جنةِ الخلد لهن جبينٌ كالصباح بياضه ... يلوح سناه تحت فاحمِ مسودَّ وحاجبهن السيفُ لكن إذا جنى ... فليس قصاص يلزمُ الحرَّ في العبد وقد نثر الخيلان من حبر عنبرٍ ... بديع جمال لك يكنْ خطّ بالأيدي لك الله ما أحلى التغزل في الهوى ... وأحسن منه مدحة العلمِ الفرد إمام أغر الوجه كالشمس في الضحى ... وكالزهرة الحسناء في دوحة المجد إمام إذا ما كنت في روض درسه ... رأيت نفيس الدرَّ ينظم في العقد إمام لوَ أن الله يهدي بنوره ... لكن جميعُ الناس من نوره مهدي ترى رأيه كالسيف في كل حادثٍ ... ورأى سواه لا يعيد ولا يبدي له رتبة لو حاول البدر نيلها ... لكانت عن الإدراك في حيَّز البعد غدا مثلاً بالحلم والعلم والتُّقى ... كمالك والبصريَّ كالأحنف السعدي ألا يا أبا إسحاق والفاضل الذي ... مزاياه قد جلَّت عن الحصر والعدَّ إليك من السحر الحلال قصيدةً ... تأنق في إتقان صنعتها جهدي خدمت بها يوم الختام لعلني ... أقابلُ بالرضوان منك وبالودَّ ودمت مناراً في الشريعة هادياً ... تبلَّغُ من كل المنى منتهى القصد وقرظ هاته القصيدة الداركة النحرير، وعلم الفتيا الشهير، المؤلف المشكور، الشريف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، بقوله: [الطويل] أحنُّ وأصبو كلما هبَّ من نجد ... نسيم برياه يفوق شذا النَّدِ يمثل لي تلك الأباطح والربى ... وعهداً مضى يا حبذا ذاك من عهد فهاج لي الشوق الأثيل ولم اكن ... سلوت ولكن زاد وجداً على وجد سقى الغيث هاتيك الخيام وأهلها ... وإن أضمروا هجري ومرُّوا على الصَّدَّ لهمْ مني الحب الصدوق ومنهمُ ... على مرّ أيام النوى كاذبُ الوعد أيا حادياً يحدو المطيَّ مرنما ... ترفق إذا ما جئت حيَّ بني سعد بلغت المنى بلَّغ إلى غاية المنى ... تحية صبَّ في لهيب من الصد وناد إلى ليلى وقل صادق الهوى ... مقيم على ما تعهدين من الود زريه ولو بالطيف في سنة الكرى ... نعم ما الكرى يستام مقلة ذي سهد بكمتُ لساني يوم حمّ فراقها ... فلم يجر في مضمار مهل ولا عقد وأصممتُ سمعي بعد طيب حديثها ... وليس استماعي فير ذاك من الرشد فاسمعني بالقهر قول مبشَّرٍ ... تبلَّج في أفق العلا طالع السَّعد تطلَّبتُ ما تحت البشارة فانجلت ... لوامعُ درَّ في بهيَّ من العقد كؤوسٌ من الراح الحلال ياديرها ... على حانة الأسماع "نابغة الجعدي" تضوَّع منها المسك لمّا تضمنت ... أحاديث فخرٍ عمّ من غير ما حدَّ ختامٌ به الخضراء فازت وهكذا ... بفضل أبي إسحاق تسمو إلى الخلد فخار بني الدنيا وذخر ذوي التقى ... وأعلمِ من تحت السماء بلا جحد مآثره سارت سرى الشمس في الملا ... مفاخره من دونها منتهى العدّ له الله من ختم وددت لو أنني ... بذلت له ما كان عندي من جهد وإن فاتني ذاك الفخار فإنني ... علقت من العلياء بالجوهر الفرد أبا الحسن الأسنى إليك خريدةً ... من السحر إلا أنها خالص النقد خدمت بها علياك دامت بجودها ... وذلك عند الألمعي غايةُ القصد ولما ختم شرح السعد التفتازاني على تلخيص القزويني، هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع، بقوله: [الكامل] جسمي بأشواق المحبة صالِ ... متفرَّق الأعضاء والأوصالِ والنفسُ مني قد غدت مشتاقةً ... ترجو لذيذَ مودةٍ ووصال والوجد زاد لبارق قد بان من حي الحبة منتهى الآمال والدمع جاد بوابلٍ من مقلة ... ليست تحل بكثرة الإرسال يا عاذلي هوَّنْ عليَّ فإنني ... لا عذل ينفعني بكل مقال إني شغفتُ بحب ذات فواترٍ ... تعني بما تبدي عن الجريال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فالقد غصنُ البان غار لحسنه ... والوجه فيه بديع كل جمال رامت تضاهي حسنها شمسُ الضحى ... فتداركت ما قدج جرى في الحال تلك التي قد أشعلت نار الهوى ... بفؤاد صب للقا محتال وهي التي تركت ميتم حسنها ... في حبها متراكم الأهوال وسبتهُ نفساً ما لها ذنب سوى ... تأميلها لتآلف ووصال عجباً لها أتسوءه ولقد غدا ... متشبثاً بحواشي الأذيال أذيال إبراهيم من قد أعلنت ... بمديحه كل الورى بكمال ذاك الإمام العالم العلمُ الذي ... لم يأتنا دهر له بمثال فبه لتونس مفخرٌ ولنا به ... فخرٌ عظيم لا يقاس بحال وبمثله الأقطار تفخر إذ غدا ... يجبني لعزٍ صالحَ الأمال وله محال ترتجي مثلاً له ... قمر السما في العز والإجلال كشَّاف ما خفيتْ مسالك نيله ... مغني الأنام ومعدنُ الإفضال يلقى بثغر باسم كلَّ الورى ... وتحية تأتي بكلِ مقال إن رمت وصف مجالس لإمامنا ... غيث العلوم ومبلغ الآمال فأقول فيه وإنني لمقصر ... كالليث حف بمعظم الأشبال يا سيداً قد حلّ كل عويصة ... بذكائه وبذهنه السيال هذا الختام لقد أتاك مبشَّراً ... بدوام سعدٍ مشرقٍ متلالِ فلقد سررت بمجلس لقدومه ... ولقد شرفت به على الأمثال وأروم يا مولاي تجديد المنى ... تكسوه لي من حلةٍ الإفصال وإذا القضيةُ بّينُ إنتاجها ... فلتطوها في منتج الأشكال وإليك بكراً قد أتت لا تبتغي ... إلا الدعاءَ لنا بحسن الحال وبقيت ترقى أوجَ آفاق العلى ... متلبَّساً بالعز والإقبال وهناه ولده الخطيب المدرَّس الشيخ محمد الطيب الرياحي، بقوله: [الطويل] ألا حدَّثنْ عمن به القلب مولع ... كفى طرباً ذاك الحديثُ المسجَّعُ على ذاك حبَّست المسامع صبوة ... ولا لسواهم في فؤادي موضع لقد ظعنوا والقلبُ يزعم كتمهم ... ولي أدمعٌ كالنهر تجري وتدفع فلله يومٌ بان إشراق نوره ... ولله يومٌ فاض بالدمعِ مدمعُ وأمسى كئيبَ الصدر بالبعد موحشاً ... وبات على جمر الهوى يتضجَّع ويا نسمة سارت إلينا عشية ... مقلَّة عرف منهمُ يتضوعُ فبالله إلا ما حملت إليهمُ ... تحية مشتاق يذلُّ ويخضع لقد خلفوني في الوداد متيماً ... كئيباً سقيماً باكياً أتضرع أبيتُ وأفكاري تؤمّل شخصهم ... فأصبح لهافناً وما لي مرجع ومهما بدا ركب أبادرُ قائلاً: ... أحن إليهم بالفؤاد وأخضع فيا عاذلي دعني فإنّ مرمكم ... هراءٌ يبق للعذَّالِ عنديَ مطمع ففي مذهبي السلوان جاء محرماً ... فلم يبق للعذَّالِ عنديَ مطمع وهل تختفي شمسٌ وفي الكون نورها ... وهل يختفي برق وفي الجوّ يلمع وهل يختفي علم الهمام الذي غدا ... له موضع فوق الكواكب أرفعُ هو الأبُ عز الله أصلي أنا به ... فطوبى لأجدادٍ أقرُّا وفرَّعوا إمامٌ همامٌ فاضل متعفف ... شريف جليل للفواضلِ أجمع تقيٌّ نقيُّ زاهد ذو سياسة ... حليمٌ كريمٌ للمكارم منبع هو البحر في أيَّ العلوم أردتها ... حجاه إلى نيل الدقائق مسرع مشارق أنوار بطلعته انجلت ... وصار لها نور يضيء ويسطع وفي أبحر التدقيق حاز دقائقاً ... يضلُّ بها عقل سديد وألمع فيا خير ممدوحٍ، ولست مبالغاً=بل المرءُ باللذ قد تقفاه أجمع رعى الله طوداً جئته بمقالة ... وليس لها رد ولا فيك تمنع ألا كل سمع غيرك باطلٌ ... وكل مديح في سواك مضيع وهذا دليل بالسعادة ناطق ... وأنك تحت العرش تحظى وترفع وأفضل خير قد يكون غدا به ... كتابك مختوماً وأنت مشفع ولما ختم تدريس شرح المحلي على جمع الجوامع الأصولي هنأه بالختم المذكور أيضاً تلميذه شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع، بقوله: [الوافر] مديحك لا يحيط به النظامُ ... وجودك لا يقاومه الغمامُ وعلمك منهل للناس طرًّا ... ومجلسك الأعزُّ له احترام بك الآفاق قد زادت سروراً ... كأنك في فم الدنيا ابتسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فأنت لأوج أفق الدهر بدر ... منير لا يفارقه التمام وأنت لعز هذا الدين تاج ... وأنتَ لنصره أبداً حسام وأنت لكل معضلةٍ ترجَّى ... وأنت لكل مشكلة غمام جمعت من المحاسن كلَّ وصف ... وكل الناس عن هذا نيام وآيات الفصاحة عنك تروى ... وفي كفَّ لكم منها زمام فلو قسٌّ وسبحانٌ جميعاً ... كذا أيضاً أو الفتح الإمام صغوا يوماً لمنطقكم لقالوا: ... يفوق الدرَّ حقاً ذا الكلام أبا إسحاق أنت فريدُ دهر ... وأنت لقطرك العلمُ الهمام هنيئاً يا إمام العصر يا من ... له فوق السما الأعلى مقام بختم قد شرحتَ به علوماً ... وسرَّتْ من ضخامته الأنام ختام قد جلا عنا ظلاماً ... وما أدراك ما هذا الختام وهاك خريدةَ الأفكار جاءت ... يصاحبها سرورٌ وابتسام تؤملَ حسن صفحٍ منك عما ... يقصر في مديحكمُ النظام ويطلب ربُّها منكم دعاء ... يقيه من الحوادث إذ الحمام ولا زالت لك العلياء داراً ... اردّد مدحكم فيها الحمام وهنأه بالختم المذكور ابنه الشيخ محمد الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر] فؤاد لا يفيق من الغرامِ ... وجسم لا يبين من السقامِ وشوق ألَّف الأشجان حولي ... وفرَّقَ بين جفني والمنامِ ودمعٌ لا نفاد له، كأني ... أروم به مساجلة الغمامِ وصبرٌ حاول الأسواء حتى ... علاهأن فاستعاذت، بانهزام ألا لله نفس جشمتها ... مخامرةُ العلى همم سوامِ وفي كف الحضائر أسلمتها ... عزائم تنبري مثل السهام تقول أفيك للتقصير عذر ... وأنت ابن المفدَّى بالأنام أبي إسحاق فائدة الليالي ... وبهجتها وواسطة النظام همام أغربت فيه المعالي ... تقدّمه المعارفُ كالإمام أغر الوجه وضاح السجايا ... بريء العرض من عيب ودام ولو قسمت مكارمه البرايا ... فقدنا في الورى صنف اللئام إذا استبق الكرام مدى رهان ... بدا وهو المجلّى في الكرام أو اقتسموا على خطط المزايا ... يكون له المعلّى في السهام غدا المثلَ الشرود تقى وعلماً ... وحلماً في وقار واحترام تناسينا به ذكر ابن قيس ... ومعروفٍ ومالك الإمام تسامى للعلا طفلاً معنّى ... بكسب العلم لا كسب الحطام فأحرز في الكمالِ مقامَ صدق ... تضاءلَ دونه بدرُ التمام وأصبحَ منه هذا الدين يسمُو ... بعزَّ حمى تاجٍ فوقَ هام وسيفٍ بالهدى أمسى محلَّى ... وبالعرفان أضحى ذا اتسام بهمته تزول ذرى الرواسي ... وتنهلُّ الغمائمُ في انسجام عذيري من أعاديه إذا لم ... يهابوا سطوة اللَّيث المحامي ألمَّا يذعنوا لما تحدَّى ... يوازون الشوامخ بالإكام وراموا أن يدانوه فكانوا ... مكان المنسمين من السَّنام أمولى نعمتي وعماد مجدي ... ويا سندي ويا كلَّ المرام إليك عقود أمداح جلاها ... صناع الفكر في حسن انتظام خدمت بها مقامك يوم ختم ... يفوقُ عبيرهُ مسكَ الختام أدرتَ به علينا كأسَ علم ... دهاقاً جزجه سحرُ الكلام وحلَّيت النفوس بحلي فضلٍ ... به تزدان ما بين الأنام ألا إنّ "المحلَّي" لو رآه ... لأعجب من فوائدك الجسام ونال كتابه عنكم وأمسى ... يفاخر منك بالشيخ الهمام فملَّئت الهنا فيه وفيما ... يليه، وما يليه إلى القيام تسر بما تروح به الأعادي ... وتغدو في مساورة الحمام ودمت وأنمت في شرفٍ وأمن ... دوام الركن فينا والمقام وقرظ هاته القصيدة أخوه الشيخ علي الرياحي، بقوله: [الوافر] أهذا الفجرُ أم بدرُ التمام ... أم المشمسُ العديمة للغمامِ؟ أم الوجه المهلل من فتاة ... تراءت في محاسنها العظامِ؟ إذا ما أعرضت يوماً بصدَّ ... تجر العالمين إلى الحمام إذا ما أتحفتك بريق ثغر ... يخال الريق من رشف المدام تحاكي البان قدَّا إذ تبدت ... وتحكي السحرَ في لطف الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 لعمرك ما وجدت لها سلوَّا ... سوى جمع الجواهر من إمام سراج العلم والتقوى تناهت ... إليه المكرمات بلا اكتتام إذا ما فكرهُ أبدى مقالاً ... فإن القول ما قالت حذام إليك الفكر قد اهدى مديحاً ... يقابل بالقبول لدى الكرام ويرعى الله مجدك كل حين ... دوامَ الدّهرِ من غير انفصام وأجابه عن هذا التقريظ أخوه الممدوح الشيخ الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر] أناطتْ إذ أماطت باللثامِ ... بأقمار الدُّجى سمةَ احتشام عقيلةُ فتنةِ الألباب أزرت ... بدائعها بأزهار الكمام أعيذ جمالها من كل شوب ... معاذ كمالها من كل ذام شهدت بأنّ منجبها عليٌّ ... عزيزُ المثل ما بين الأنام وكيف يكون مذموم المساعي ... فتى ينميه قطبُ رحى الكرام أدام الله طود علاه فينا ... وصانك يا هلالُ إلى التمام وقد كتب رضي الله عنه في علم النحو حاشية على شرح الفاكهي لقطر ابن هشام، ترزي مباحثها بحسن الابتسام، في ثغور الأيام، وقد سلك فيها أغواراً دقيقة، وأبدع فيها تحقيقه، مع سهولة مأخذها الذي سهل به صعاب المسائل أي تسهيل، وأغنى بالتصريح فيها عن ارتكاب التأويل، فكان بها كشاف أسرار العربية، ورافع أستار المشكلات النحوية، تدل بما أودع فيها على ماله في العلوم من اليد الطولى، والغايات التي نال إليها وصولاً. وشرح أيضاً الخزرجية في علم العروض، شرحاً قام لذلك بالقدر المفروض، فكان شرحاً وجيزاً بسيطأن بجميع شروح الفن محيطأن مع سهولة تقرير، ولطافة تحرير. وأما نظمه لمتن ابن آجروم النحوي فهو وغن جمع جميع ما احتوى عليه الأصل من المسائل، وسهل حفظها لكل طالب وسائل، غير أنه فيما أظن من مبادئ نظامه، كما لا يخفى على مطالع كلامه، وإلا فإنه كان آية الله في حسن الإنشاء، يتصرف في النظم والنثر كيف يشأن قد أبدع الآداب، وسبق في حلبتها على الشعراء والكتاب، وشعره أدل دليل على قوة عارضته، التي توقف فرسان اليراعة دون الوصول إلى معارضته. وقد تحلت ترجمته هنا بعض ببعض ما له من البدائع، المزرية بالكواعب الروائع، التي أخصب بها ربع الأدب، وتجملت بخيرنها صفحات حدود الكتب، وحسبه ما خلده بجمع ولده في ديوان الخطب، الذي يبلغ البليغ به إلى غاية الأرب. وأما شعره الرائق، ونظامه الفائق، فأحسب أني أول من تصدى لجمعه في كتابي مجمع الدواوين التونسية، فأحصيت منه نحو خمسة كراريس تزري بالحلل السندسية، حوت نحو الألفين من أبياته الفاخرة، التي طمت بها تلك البحور الزاخرة، وهو مبلغ يصلح لأن ينفرد به ديوان شعره، الفائق في سعره، وفي ضمنه من محاضراته ما ترتاح له النفوس، ويقول مطالعه لا عطر بعد عروس. فمن محاضراته أنه اجتمع في بعض الليالي بشاعر بلد سليمان العالم الشيخ محمد ماضور الأندلسي في بيت صديقه الكاتب محمد المسعودي واتفق في مسامرة تلك الليلية أن أدار القهوة على ذلك الجمع، وسيم لطيف الصنع، وحين دخوله يحمل فناجينها بأنامله، وطلوعه عليهم ببدر أشرق فيه بكامله، أصاب شمعة المجلس الموقودة، فانحنت انحناء من يروم سجوده، إذ رأت منه شمعة الجيد التي لا تقط، ولا تطفأ قط، وأنشد الشيخ محمد ماضور في وصف الحال من لطائف المسامرات فقال: [الرمل] ليلةٌ قد عظمت بين الليالْ ... فهي في جيد المنى عقد الآلْ وأرتنا عجباً إذ جمعت ... بين شمس ثم بدر وهلالْ سعدت إذ أنزلتنا منزل المس ... عودي الشهم المفدى ذي الكمال وبإبرهيم أبدت منظراً ... هام فيه القلب إذ عز المثال فارتياحي بالرياحيَّ غدا ... وكذاك السعد بالمسعود (ي) طالْ ليلة جد بنا الأنسُ بها ... طرباً بين يمين وشمالْ وأديرت قهوة البنَّ على ... جمعنا يسعى بها بدرُ الكمال فانحنى الشمع منيباً ساجداً ... سجدة الشكر لهاتيك الخلال فهو والقهوة والفنجانُ في ... كفه يبدي غريباً في المثال قمراً قد عصرَ اللّيل على ... صفحةِ الفجرِ ف مَّتْ باحتفال مزج الحلوَ بمرَّ فكأنْ ... قد أرانا القرب والبعد المطال يا لها من ليلة قد جمعتْ ... كل أنسٍ وبهاءٍ وكمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وأنشد الشيخ إبراهيم الرياحي في ذلك من شعره قوله: [الطويل] تلقيت من أخباركم كلَّ طرفة ... أنظَّمها في جيد أسمارنا عقدا وكنتُ بتشنيف المسامع أكتفي ... واكبر بشاراً بما قاله جهدا ولما نما شوقي وزاد تولهي ... سريت لكم ليلاً أبثكمُ وجدا وما كان لي هاد سوى نور حسنكم ... إليكم، فلم أعدم بقولكمُ رشدا وحيث إلى المسعود (ي) كان انتهاؤنا ... زجرت فكان الزجر يستنتج السعدا فبت وما ليلي سوى لمح بارق ... وإن طال من دهري تنفسه الصعدا ومن لطائفه أنه استجار به العدل الشيخ منصور الورغمي في لبس الملوسة حين ألزمها الأمير حسين باشا باي لكافة العدول على نظر الشيخ محمد بيرم الثالث وكان دميمأن فاستهجن لبسها وخاف أن يتعاطاه الناس بسببهأن فكتب الشيخ في ذلك إلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث مستشفعاً بقوله: [الكامل] كبرت عليهم إنها لكبيرة ... منصوبة علما على التمييزِ فتفرقوا أيدي سبا في فضلها ... والخلف بين الناس غير عزيز فعلى فريق منهم هي مثلةٌ ... ولبعضهم زلفى إلى التبريز أما "بنو ورغمة" ففقيههم ... لهم يجر مذهبه على التجويز فلذاك رام حماك علماً أن من ... يأتيه في حرز هناك حريز فأجره من همزٍ ومن لمزٍ بها ... ما حالة المهموز والملموز لا زلتم كهفاً يلاذ بعزَّه ... فينال فوق القصد كل عزيز وقد أجابه عن ذلك شيخ الإسلام المذكور بقوله: يا أيها العلمُ الذي حسناته ... شرفتْ بطلعتها على الإبريز وجَّهت لي درراً يقرُّ بحسنها ... أهلُ الصياغة من أولي التبريز فعرفت مطلبهأن ونيل مرامها ... سهل يمين الله غير عزيز فعليه تأخير العمامة برهةً ... حتى يكون القولُ في التمييز ثم إن شيخ الإسلام المذكور اطلع المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي باردو يومئذ على الطلب والجواب، واستجلى منه في النازلة عين الصواب، فكتب إليه بقوله: [الكامل] قل للفقيه المستجاه بجاههِ ... في رفعِ نصب حقَّ للتمييز إنّ النحاة الَّنصب أوجبوا ... في بابه وأبوا من التجويز واستهجن الدؤلي لحناً ساقه ... نقلاً من الأمثال للتبريز وكذأن العموم إذا تخصص بعضه ... ضعت دلالته بنصَّ الجيز والظن فيمن يستجرك أنه ... منصور دمت تفوق كالإبريز واتفق أن شاع خبر فناء الخلق في هذا القرن ونسبه أهل الأهواء إلى العالم الرباني، الأستاذ المربي الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه مع أن ذلك مما ينبو عنه مقام أدبه وسلوكه في الشريعة التي صينت من كل نقص، وكملها الله على يد خير خلقه بمحكم النص، وقد جاء في الآيات المتلوة في القرآن الذي أتم الله إبداعه، "وعنده علم الساعة" وهكذا الاعتقاد فيه وفي كل من ماثله لا يجري واحد منهم في جميع الأقوال والعمال، إلا على ما وردت به شريعة خاتم الإرسال، ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ مما ينقل عنهم غير ما جرى على سنن الشرع القويم، إذ ذلك دليل صحة نسبته إليهم في حالة الصحو بالنظر لمقامهم العظيم، فهم أحفظ الناس لسياج الشريعة التي جمعت ما كان ويكون، ولا يتمسك بسواها إلا الجاهلون، وعند شيوغ ذلك الخبر سنة 1241 كتب الشيخ محمد بيرم الرابع يسأله عن صحة ذلك بقوله: [الطويل] أيا من رقى أوج المعالي وقد غدت ... إليه مقاليدُ العلوم تسلَّمُ لقد ظهرت رؤيا لها نسبةٌ إلى ... إمام له بين الأنام تقدُّمُ همام على دست المعالي وقد علا ... مراتبهُ من موقع النجم أعظم ملخَّصها أن الأنام جميعهم ... لذا القرن تفنى دون ريبٍ وتعدم أهل هو مما صحّ عندك نقله ... عن الشيخ أم للمين فيه توسم؟ أجبنا رعاك الله عن كنه أمرها ... فأنت لها من غيرك اليوم أعلمُ لأنك ممن خاض لجَّةَ بحرها ... وأضحى بتحقيق لها يترنَّم بقيت لنا كهفاً وللحق ناصراً ... وللصعب من دأب البغاية تحسمُ ويطلب رب النظم حسن دعائكم ... ألا وهو الداعي "محمد بيرم" فأجابه الشيخ إبراهيم الرياحي مكذباً ذلك بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أيا من سبى الألباب لطف كلامه ... كما أنه في الأذكياء المقدَّم أتتني منْ سحر البيان قصيدةٌ ... وما هي عقدُ درذًَ منظمُ تسائل عما شاع في الناس ذكرهُ ... أهل لهُ أصلٌ في الثبوت مسلم؟ نعم هو ريبٌ دون مكين وما له ... ثبوتُ وأمرُ الشيخ أعلى وأعظم جزى الله خزياً مفتريه وذلةً ... ومأواه إن لم يعف عنه جهنم فهذا جواب للذي هو طالبٌ ... حقيقة هذا الأمر والله أعلم ويسأل إبراهيم من فضل ربه ... لك الأمن في الدارين وهم يسَّلم وكانت له معرفة بأسرار تليق بمثله من العلماء الأخيار، قدم غليه أحد الأفاضل وقد أضغطه غريمه، واشتكى إليه ما يلاقي من شر الأفتضاح، فأذن له بذكر اسم من أسماء الله تعالى في خلوة، وانه عند نهاية الذكر يجد مقدار دينه تحت بساطه، فوجده قطعاً غير مسكوكة، ولما أعلم الشيخ سأله عن كيفية ذكره، فوجد فيه خللاً وأذن له في تداركه، فتم له المراد، ونهاه عن العود لمثل ذلك. وأتته امرأة تشكو إصابة ولدها بالجنون، وتلظت لديه، فأسعفها ببطاقة تبلغها إلى ضريح الشيخ فتح الله العجمي، ولعلها تتضمن توسلات له، فعوفي ولدها بعد حين، وذلك من أدلة حسن اتصال علاقته بأولياء الله رضي الله عنهم أجمعين. وكانت له سانية في سفح جبل المنار تحت زاوية الشيخ الظريف رضي الله عنه يسكنها مدة المصيف، فاتخذ منها مسكاً للزيارة ليلأن وقد نقل لي عن صهره أنه سمع له حديثاً عند الضريح، يدل على ما له من الود الصريح. أما وصلته مع العارف بالله العالم المربي الشيخ مصطفى بن عزوز النفطي أستاذ الطريقة الرحمانية، رضى الله عنه فكان يتجاذب معه أطراف الأسرار الربانية، وله فيه مدائح شعرية، ومكاتيب نثرية، وقفت على بعضهأن وهي تدل على كمال تعلقه بأهل الله في كل ما يرجوه، وغنما يعرف الفضل من الناس ذووه، ومن لطائفها أبيات جعلها في طالعة جواب له مؤرخ بسنة خمس وستين ومائتين وألف وهي قوله: [الكامل] جاء الكتاب من الحبيب مبشرَّاً ... بقدومه يا مرحباً يا مرحيا قد رد لي عهدَ المسرة مثل ما ... بقميص يوسفَ ردَّ ما قد أذهبا أهدي إليك تحيةً مسكيةً ... يا مصطفى يا منتقى يا مجتبى مستودعاً منك الدعاء وأنت في ... حالٍ تراها للإجابة أقربا ورأيت من مكاتبتهما كتاباً سرباً بخط الشيخ إبراهيم الرياحي يخاطب به الشيخ المذكور آثرت إثباته لما فيه من الإلماع بحال كل منهما وهذا نصه: الحمد لله والصلاة على من صلى عليه الرحمن. يا ليت سيدنا وحبيب الله ورسوله صرح لنا بما أشار به إلينا مرتين من قرب الأجل، المرة الأولى ونحن معك على البنك في محل الحكم والصلاة في دريبتنا من قولك لي: رأيتك كأنك مت ولم توجد وأن روحك كالذبابة، والمرة الثانية ما ذكرت لنا في جوابك المبرور من قولك: إن الجنة مشتاقة إليك، ولولا ما خفت أن يعثر على جوابي غيرك لكتبت لك كلاماً آخر فيا ليت سيدنا رضى اله عنك رحمتني بالتصريح بما تريد أن تصرح لي به، فلعل في ذلك تحريضاً على ترك المهلة، وبعثاً على التشمير لدار النقلة، أو غير ذلك مما يوجب الإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فإن المواعظ والنصائح إذا خرجت من أهلها كانت كالسهام لا تخطئ، هذا وما بشرتنا به من الحشر مع أولئك السادات أسأل الله أن لا يخيبنا ولا يدر كرمك فينا وإلا فالعبد الذليل لا تحدثه نفسه بما هو أدنى من ذلك، فضلاً عن الكون مع أولئك، بل الإنسان على نفسه بصيرة، وليست لنا طماعية في ذلك الشأن، إنما لنا طماعية في الغفران. وإذا كان خليل الرحمن يقول: "والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين" فأين جاء طمع مثلي، فإنا لله وغنما غليه راجعون، نعم سيدي وقد غمني غماً عظيماً إرسالك لي السبولة العطرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وقد كنت أخبرتك بأن التعويض عما أرسلت إليك من الأمور المكروهة غاية عندي حتى أستعزت من ذلك، وقصدت بذلك أن لا تهتم معي في مثل ذلك، فخالفتني في التعويض وإن وافقتني في تفضلك علي بالدعاء جزاك الله جزاء المحسنين، هذا ومما يغمني أيضاً ويثقل علي وصفك لي بأوصاف حميدة أكثرها ما في عبدك إلا ضدهأن فلو إنك إذا خاطبتني خاطبتني بما يناسب حالي لسررت بذلك، ولكنك رأيت كمالك في عبدك فنسبت ذلك إليه، كما إذا ارتسمت صورة جميلة في صفحة مرآة فلما رأى المرآة إنسان طهر له جمال المرآة وإنما الجمال للصورة التي انتقشت في المرآة، نعم سيدي ولا تنسني من دعائك، في وقت هجوم حالك، وطيب أجتناء الشهد من خمر وصالك، وسلم لنا على أولادك وتلامذتك وعامة المنتمين إلى شريف خدمتك وطريقك. من الودود ومن أولادنا الطيب وعلي وسائر من هو منا وإلينأن والحمد لله رب العالمين، من الفقير إلى ربه، المشفق من سوء كسبه، إبراهيم بن عبد القادر الرياحي". [ترجمة محمد الطيب الرياحي] وقد امتحن في آخر أمره بفقد ولده الأكبر الشيخ محمد الطيب، وكانت ولادته سنة ست وعشرين ومائتين وألف، فنشأ بين يدي والده وقرأ معقول العلوم ومنقولها عليه، وعلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث وغيرهمأن وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، وقد كتب في أثناء إقرائه حواشي على شرح المحلي لجمع الجوامع الأصولي، وحواشي على شرح الأشموني لأفية ابن مالك، تدل على رسوخ قدمه، واتقاد ذكائه، وتقدم غماماً وخطيباً بجامع أبي محمد الحفصي وخطب فيه بعض من إنشائه، وهو محقق، أديب، شاعر، ناثر، يقذف الشعر من أبحر اللطافة، وينتجب النثر من أزاهر الظرافة، كأنما أودع في إنشاءاته، محاسن أخلاقه وبدائع توشياته، وقد جمعت منه شذوراً في كتابي مجمع الدواوين، تدل على تقدمه في الآداب على الأندلسيين، وكان عالماً حيياً جميل السمت عالي الهمة ظريف المحيا لطيف المحاضرة، وقد عذبت منه في العلم جميع موارده، وعاد عليه فخر نشأته في رياض فضل والده، إلى أن أدركته المنية بين يدي والده في غرة ربيع الثاني سنة ست وستين ومائتين وألف بمرض الكوليرة العام، ودفنه والده بالبيت الذي على يسار الداخل لبيت الذكر من زاويته التي أسهها قرب حوانيت عاشور، وتلقى مصيبة فقده بغاية الصبر. أخبرني العالم المفتي الشيخ أحمد كريم أنه كان يحضر درس الموطأ على الشيخ بداره، فكان آخر عهده به في الدرس أنه لما أنهى القراءة وأراد التلامذة أن يقوموا أجلسهم وقال لولده المذكور وكان مدون الدرس هل رأيت شيئاً فيما يتعلق بالموت الفجائي؟ فقال له: رأيت أن رسول الله اصلى الله عليه وسلم استعاذ منه، فقال له الشيخ: قد اطلعت ولا أدري في أي كتاب على أنها ميتة حسنة وكررها وسكت، ثم نهض الجميع فلم تمض غير أيام قليلة وأصيب ولده المذكور بالمرض العام ومات، عليه رحمة الله. وقد كاتبه المشير أحمد باشا باي في التعزية به فأجابه بأوجز مكتوب قال فيه بعد المفاتحة. "أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم، المسلي عن النبأ العظيم، وقد أسلمنا طيب الولد إلى اله بقلب سليم، وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، والسلام. ولم يستكمل الشيخ بعد ولده الستة الأشهر حتى طوته الليالي طي السجل وأتاه محتوم الجل، بعد أن تجاوز في العمر الثمانين سنة. وكان آدم بسمرة يعلوه أصفرار، رقيق البشرة، أحجب بقصر أبلج أشهل بضيق غاير، شم بانفراج، أسيلاً مأن قصير اللحية، يتخلل شبيه خيال من بقايا الشباب، ربعة لقصر، تلوح على وجههه سيماء الصالحين، قضى عمره في العلم والعمل لله رب العالمين. [وفاة الشيخ إبراهيم الرياحي] وتوفي بمرض الكوليرة العام يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف، من الغد حضر مشهد جنازته الأمير والمأمور، وتبرك بتشييعه الجمهور، ودفن إلى جنب ولده السابق الذكر بالمقام المذكور، ضاعف الله لهما الأجور، وحباهما الفوز الكبر يوم البعث النشور. وكانت وفاته رضي الله عنه من آخر العهد بالمرض العام وإلى ذلك أشار تلميذه ومجاوره في المدفن الشاعر الكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي في رثائه بقوله: [الوافر] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أرى بحر الخطوب طما وأصمى ... وأصلى غالب الأكباد جمرا فلما استعظموه اغتال فرداً ... يقوم برزء كلَّهم ومرَّا أما في فقد إبراهيم خطب ... يعمَّ جميع أهل الأرض طرا [الشيخ علي الرياحي] وقد عظمت مصيبة فقده على سائر أهل الدين، وتلقاها ولده الثاني الشيخ أبو الحسن علي بالرجوع لله رب العالمين، وكان الولد المذكور أيضاً عالماً زكيأن أديباً بديع المحاضرة، محباً لأعالي الأمور، ينظم الشعر الرقيق، ويطلق من رياض إنشائه أطيب عبيق، ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ في خدمة العلم بين يدي والده، وتقدم مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى بعد وفاة العالم الشريف الشيخ محمد بن عاشور في صفر الخير سنة خمس وستين، وتقدم خطيباً بجامع سيدي يحيى قرب دار ابن عسال، وتوفي قبل عصر يوم الجمعة الثالث عشر من المحرم الحرام سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن بالركن الثاني من بيت مدفن والده فاجتمع بالبيت المذكور ثلاثتهم، رضي الله عنهم أجمعين. وقد أقيمت تلك الزاوية بالأحزاب والأوراد اليومية وشيد بناءها المشير الثاني محمد باشا باي لإقامة الأوراد التجانية، بذكر الله تعالى، ثم إن الوزير الأكبر خير الدين ثاني وزراء دولة المشير الثالث محمد الصادق باشا باي أراد إحياء صناعة النقش حديدة فآثر لذلك قبة الزاوية المذكورة، سيما وقد كانت إذ ذاك محتاجة إلى بعض تدارك فأتقن تشييدها بحضور بعض عملة نقش حديدة من المغرب، ونقشت قبة الزاوية نقشاً بلغ من الجودة والإتقان ما يحار فيه الناظر على مصروف الدولة، وعند إتمامها على الوجه الأبدع طلب مني ثالث أبناء الشيخ مقدم الطريقة التجانية بها يومئذ أن تؤرخ هذا الصنع فأجبته لذلك، وأرختها بقولي: [الكامل] لمقام إبراهيم فادخلْ آمنا ... تجلو به فضلاً عظيماً كامنا واخلع حجابك بالتجرّد للذي ... سوَّاك من طين وردَّك كائنا واخلص إليه من المناجاة الرجا ... وأركب بعزمك وابتهالك صافنا ومتى وصلت حمى الرياحي فخرتو ... نس فأنزلنه فلست تخشى الآحنا والبس به من تاج تجّضان حلى ... واحمد بأحمدها السري مواطنا وانهج له في الأرض خير طريقةً ... لله تلفه في القيامة ضامنا ورد الزلال بورده العذب الذي ... أروى وأجرى خالصاً لا آسنا واقنت لربك عاكفاً متبتلاً ... في خير زاوية لحفظ دعائنا واشكر مشيدَ بنائها ومعيدها ... فيها من النقش المجيد محاسنا ذاك المشير الصادق الباشا الذي ... لله دان فنال منهُ مآمنا وأقامَ خيرَ مآثرٍ له فضلها ... بين البرية قاطناً أو ظاعنا وأجلها هذا المحل وإنه ... لأعز كنز قد أعاد معادنا فبه انجلى أمنٌ ويمنٌ ظاهرٌ ... فاسأل إلهك في تلف ميامنا فهو الذي لمؤرخيه جوابه: ... لمقام إبراهيم فادخل آمنا الشيخ محمود محسن هو الشيخ أبو الثنا محمود بن علي بن احمد بن محسن بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشأن شيخ العلم والعمل رضي الله عنهم أجمعين، وهلم جرأن إلى استيفاء سلسة هؤلاء الأشراف بالوصول إلى جدهم سيد الأولين والآخرين، عليه وعلى آله أفضل صلاة المصلين، وأزكى سلام المسلمين، فيا لها من سلسة فاخرة، كانت مجمع بحور الفضائل الزاخرة، وقد توسل بجواهرها الثمينة كثير من أهل الشأن، ونظموها في عقود الجمان، وقد اختص منها آباء هذا الإمام إلى الوصول إلى سيد الأنام، الشاعر الأكتب الشيخ محمد التطاوني فقال: [الطويل] أما آن أن تستبدل الغيَّ بالرُّشد ... وتثني عنان الهزل منك إلى الجدَّ إلى م التواني والأماني شرابها ... سراب تبدّى فوق رابيةٍ صلد فبادر ولا ترج الأمور إلى غد ... فربَّ غدٍ يأتي بما ليس في العدَّ وسابق إلى سبل السعادة والهدى ... وشمَّرْ لإجراز العلى ذيلَ مشتدّض وكن واثقاً بالنجح في كل مبتغى ... مؤملهُ في فضل من جلَّ عن ندَّ ولا سيما إن رمته بشفاعة ... من آل نبي خصّ في الذكر بالحمدِ خصوصاً ذوي الإحسان من آل محسن ... كرام السجايا كم يد لهم عندي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 إليك بهم يا ربّض قد جئت ضارعاً ... بحقّضهمُ لا تخجلنَّي من الطرد فمحمود الأرضى ووالده الرضا ... عليٌّ أبوه أحمدٌ نَّيرُ المجدِ ووالده المحمود وهو محمد ... سليلٌ لمحسن بن أحمد ذي الرفد وذا حسنٌ يدعى أبوه، وجدّه ... عليٌّ وفوز الابن بالأب والجد وب "الحسن" الأسمى أبيه ابن احمد ... سليل الذي لازلت فضله أستجدي أبي القاسم الميمون نجلِ محمدِ ... هو ابن قريش نجل عيس أخي الزهد وهو ابن عبد بالعبادة قد غدا ... مضافاً إلى الرحمن أكرم بذا العبد ومن خلف المدعو بابن علي الشَّ ... هير اقتبس نور الهداية والرشد ومن فرج المدعو بابن علي ال ... جليل التمسْ تفريج كربك عن حد وسل بأبيه القرم وهو محمد ... مرداك كي تحظى به دون ما ردَّ ولا تعدُ إسماعيل والده الذي ... أبوه يسمى جعفر الصادق الوعد وبالباقر الأتقى أبيه محمد ال ... همام الذي حاز السيادة في المهد وهو ابن زين العابدين علي ال ... إمام الزكي الأصل ذي السؤدد العدَّ سليل حسينٍ نجل فاطمة التي ... هي الزهرة الزهراءُ أمّ ذوي ودَّ أبوه علي وهو صنو نبيَّنا ... عليه صلاة الله تترى بلا حد بجدَّهمُ اللهم يا خالق الورى ... ويا ملجأ المضطر يا وجهةَ القصد أنلني رضاكم يوم لا شيء غيره ... يقربني زلفى إلى جنة الخلد ويا رب فاشهد أنني قد أحبُّهم ... لحبك إياهم وذا ما لهم عندي وأستنزلُ الرضوان منك عليهم ... لترضيهم عني وذا منتهى جهدي وصلَّ وسلَّمْ ثم بارك على الذي ... أتى رحمةً للعالمين بلا جحد فقد توارث صاحب الترجمة مفاخر عن أبيه وجده، فبلغ بها من الفضل غاية حده، وله في غمامة الجامع من سلسة سلف، أخرجه إليها إخراج الدر من الصدف. [الشيخ علي محسن] فقد كان المنعم والده الشيخ أبو الحسن (علي محسن) إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة على عهد البكريين بفضله وحسن تلاوته، وكان معظماً عند الخاصة والعامة علماً وديانة، إلى أن توفي في السادس والعشرين من ذي العقدة الحرام سنة 1209 تسع ومائتين وألف. وكانت ولادة صاحب الترجمة سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف، فتربى في حجر عناية والده، وقرأ القرآن العظيم على الفاضل الشيخ حسن بن عمر، يروى أن مؤدبه المذكور انتهره في بعض الأيام لأجل القراءة، فلم يتحمل ذلك لعزة نفسه، وأخذته الغصة ولازمة البكاء من ذلك الوقت إلى أن رجع إلى داره عند الزوال، واستمر عليه ذلك في قيلولة ذلك اليوم، ولما نام مؤدبه في داره رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه واضعاً ولده المذكور في حجرة وهو يأمر مؤدبه باسترضائه، فقام من نومه فزعاً وخرج من حينه، واشترى فواكه مما يرضي الصبيان، وجاءه إلى داره فوجده باكيأن فانكب عليه واخذ يقبل يده ويعطيه الفواكه، ويسترضيه إلى أن سكن جزعه، وقص رؤياه على والده، رضي الله عنهم أجمعين. ثم بعد قراءته القرآن العظيم توجه إلى قراءة العلم الشريف فقرأ على ابني عمه الإمامين الشيخ حسن الشريف، وأخيه الشيخ محمد الشريف، والشيخ الطاهر ابن مسعود، وقرأ على غير هؤلاء، وتصدى للإشهاد فعد من ثقات العدول. ولما توفي شيخه الشيخ الطاهر بن مسعود خليفة الجامع وقدم الأمير محمود باي الشيخ "عمر بن المؤدب" للخلافة تقدم صاحب الترجمة للنيابة إماماً ثالثاً في ربيع الثاني سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وكان الإمام الأكبر يومئذ ابن عمه الشيخ حسن الشريف، فاستمر إماماً ثالثاً زينة لجامع الزيتونة، وأولاده شهادة الحرمين، وهي يومئذ من الخطط النبيهة الشأن، فقام بحقوقهأن ولازم المعاينة بنفسه، ولما علم الأمير بذلك أهدى إليه فرساً اعتناءً بشأنه، واستمر مباشراً للإشهاد والإمامة إلى أن توفي الخليفة المذكور، فقدم الأمير ولده "الشيخ الشاذلي" نائبأن وقدم صاحب الترجمة إلى الخلافة، كما هو مقتضى الاستحقاق، فتقدم خليفة لابن عمه الشيخ محمد الشريف سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف، فعمر الجامع بمواظبته وإقامة الصلوات في أول أوقاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ولما تنقل الشيخ الشاذلي المذكور إلى خطة الفتيا أبي المشي خلفه اعتماداً على خطة الإفتاء، وعظم الخلاف بين الخليفة ونائبه بسبب ذلك، فبلغ أمرهما إلى الأمير مصطفى باشأن فأرسل قاضيه وكاتب سره للمصالحة بينهما مع المحافظة على ترتيب الجامع في تقديم الخليفة على الإمام الثالث وحسنت العلاقة بينهمأن واستمرا على ذلك إلى أن توفي الإمام الأكبر الشريف فرأى المشير الأول احمد باشا تعين تقديم عالم العصر الشيخ إبراهيم الرياحي إلى إمامة الجامع، ولم يأنف من ذلك صاحب الترجمة لحسن إنصافه وعلمه بكمال رتبة الشيخ إبراهيم، بل إن ذلك لم يزدهما إلا تآلفأن وكثيراً ما يقدمه الشيخ إبراهيم على نفسه ويرغب مع ذلك نائبه الشيخ الشاذلي في صفر الخير سنة 1263 ثلاث وستين تقدم الشيخ "محمد البنا" نائباً عن الخليفة المذكور، ثم لما توفي الشيخ إبراهيم الرياحي قدمه المشير الأول أحمد باشا إلى الإمامة الكبرى في التاسع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف وأولى خليفته الشيخ أبا عبد الله محمد البنأن وقدم للنيابة شيخ الختمة العالم المجود "الشيخ احمد القروي" بعد أن كان كثير النيابة عمن قبله عند عروض الأعذار، وكان في الثلاثة الأشهر المعظمة يجلس على الختمة لتجويد القرآن بعد صلاة الظهر، وبعد الفراغ يحضر مجلس الأيمة لرواية الشفأن وأقام الصبح والعشاءين مدة مديدة من قبل ولايته النيابة بإذن من الأمير. وقام هذا الإمام الشريف بخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة احسن قيام، وكان معتقداً للخاص والعام، فاضلاً كريمأن عزيز النفس، عالي الهمة، مهاباً معظمأن غيورأن أولاه المشير الثاني محمد باشا وكالة زاوية السيد أبي زمعة الصحابي بالقيروان، فحاسب من كان قبله وأنتخت المحاسبة نيفاً وسبعين ألفأن أستأذن فيها الأمير، فامتنع الأمير من التداخل فيها وفوض أمرها إليه يفعل بها ما شاء من أكلهأن والتصدق بهأن أو ما يظهر له، فبادر واشترى بجميعها زياتين بمرناق ودياراً بتونس، وأوقفها على الزاوية، ولما جمع المشير الثالث الزاوية على لسان الأمير، فأنكر ذلك وتغير له، وقال له: إنه إذا عزلني عن الزاوية المذكورة فإني (نخرج من البلد) وبمجرد بلوغ خبر ذلك للأمير أرسل إليه مع لسان الدولة يعلمه بان المحتسب المذكور أتاه من قبل نفسه لا بإذن، وأنه كيف يعزل شيخه الذي أخذ عنه الطريقة التجانية، وغنما يرجو رضاه، وعند ذلك سكن غضب الشيخ ودعا للأمير بخير، ومن الغد قدم إليه لسان الدولة المذكور بسبحة من عنبر وثلاثة آلاف ريال، وأمر في تمليكه هنشير الديوان قرب مرناق جلباً لخاطره، نال منه بذلك الدعاء الجميل، أدركته رضى الله عنه على هرمه لا يتخلف عن الرواية في الشهر الثلاثة مع ضعف بصره، وكان مع ذلك ينسخ صحيح البخاري بخط يده بأحرف كبيرة تساعده على القراءة، ويصلي الظهر والعصر، ويخطب في الجمعة والعيدين والناس يتبركون بأذياله إلى أن عجز، فصار إنما يحضر الجامع بحسب مقدرته، وهو الذي جعل لسائر أبواب بيت الصلاة مراتج من بلور وقاية من الريح والبرد فأحسن بذلك للمصلين والمدرسين. ومن ورعه نعمه الله انه لما ورد ماء زغوان إلى الحاضرة ومروا به على ميضاة الجامع بعد أن ادخل إلى بعض ميضاوات غيره من الجوامع امتنع الشيخ من إدخاله إلى ميضاة الجامع كما يذكر فيه من الشبهة نظراً لاستحقاق أهل البلد الذي فيه منبع الماء. وقد كان له ثلاثة أبناء وهم الشيخ (الطاهر) والشيخ (مصطفى) والشيخ (عبد الرحمن) توفي أولهم أولاً وتلقى الشيخ مصيبته بالصبر وتوفي ثانيهم ليلة الثلاثاء الثالث من ذي العقدة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وصبر لذلك أيضاً غير أنهما خلفا له محمدين حفيدين له، رضي الله عنهم أجمعين. ثم توالى عليه الهرم والمرض واشتاق إلى لقاء الرحمن، فأدركته المنية وله من العمر سبع وثمانون سنة وتوفي عشية الجمعة السادس عشر من رمضان المعظم سنة أربع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الأمير والمأمور بحضور جنازته وصلى عليه الشيخ (علي العفيف) أمام باب البهور بجامع الزيتونة بوصايته عليه رحمة الله وقد رثاه الأكتب الشيخ المختار شويخة بقوله: [البسيط] ورد المنايا على الأيام مورودُ ... وشربها المضّ بين الخلق مقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 سّيان منْ عزَّ أو هانت معاقله ... لا يفتدى والدٌ منها ومولود تلك الليالي وغن جادت بما وعدت ... غطاؤها منك مسلوبٌ ومردود ألا لعاً للأماني فهي مرحبة ... ولا لعاً لليالي فهي تنكيد لا يفتدي امرأً ذا عزة أسفٌ ... إنّ المجد بريب الدهر مجدود لا تنقع الظامئ المصدور موجعة ... أو ينجع الفاقد المحزون مفقود أظلَّ ذا الوجد من ذا الخطب مغتبطاً ... في الحي يرتاد طلقاً وهو مردود سلِ المنايا لمن ولت عزائمها ... وسددت سهمها؟ لا كان تسديد بالفاضل المحسن الحمود قد نشبت ... أظفارها فتولت وهو منجود من الألى فرض الرحمن حبَّهمُ ... فودهم لأمان الأرض إقليد شمٌّ معاطسهم زهرٌ مكارمهم ... والكل يصحبهم عزٌّ وتمجيد فطب حديثاً وقل ما شئت من كرم ... فكل فضلٍ لأهل البيت مشهود قد كان غيثاً هطولاً في فضائله ... ترى مزاياه عقداً وهو منضود ثنيتين من بعد خمسين سمت حججاً ... يؤمُّ وهو على الإجلال موطود يسدد القول عن أغراض موعظة ... لانت لموقعها الصمُّ الجلاميدُ ففي المنابر نحبُ الآسفين وفي ... صدر المجالس تأويهٌ وتصعيدُ فلتغمضنَّ جفون المجد عن أسف ... فإنه في جفون الأرض مغمود سقى لمضجعه الأسنى وعادوه ... مأواك محسنُ في الفردوس محمود الشيخ محمد محسن هو الشيخ أبو عبد اله محمد بن عل يبن احمد بن محمد بن محسن بن احمد الشريف، إمام مسجد دار الباشأن وهم جرا إلى الوصول إلى أصل الوجود صلى الله عليه وسلم ناهيك به من صفوة مشاربه، وعزت مآربه، حفيد غمام جامع الزيتونة، وقد كان والده سميه عظيم القدر جليلاً فاضلأن يغلب عليه الصلاح، تجاوز الثمانين سنة، ولاستدعاه المشير الثاني محمد باشا في مبدأ دولته وتبرك به واخذ بيده حين وصوله إليه وشيعه حين خروجه من عنده، ونال منه الدعاء الصالح وأكرمه بمال عظيم، ثم اشترى له داراً كانت جوار داره بما أرضى صاحبهأن وتوفي بعد دولة المشير المذكور، وأعقب فحلين من أولياء الله وهما: الشيخ أبو الحسن علي وأخوه صاحب الترجمة. الشيخ علي محسن أما الأول فقد ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف في فضل بيته وقرأ القرآن إلى أن وعاه حفظأن وقرأ العلم الشريف بجامع الزيتونة على الشيخ علي العفيف، والشيخ محمد النيفر الأكبر، ثم سلك طريق أهل الله، وأخذه الجذب وكان في حدود الخمس والخمسين بعد المائتين والألف يحضر جامع الزيتونة، وينكر على المصلين السعال، وربما ضرب من أخذه السعال، فأمسكه عمه إمام جامع الزيتونة الأكبر في الدار، وقيده يوم السبت وكانت والدته تخرج في الليل فتجده يدور في وسط الدار، أو انه يتوضأ حتى إذا جاء النهار أصبح في قيده. وفي ليلة الثلاثاء حضر لدار عمه ثلاثة أشخاص وقرعوا عليه الباب وطلبوا مقابلته في ذلك الوقت، فخرج إليهم فطلبوا من فك قيد ابن أخيه وأعلموه انه سيلازم الدار من يوم الجمعة القابل إلى أن يستكمل أربعاً وثلاثين سنة يكون فيها قطباً بأراضي السودان، ثم يخرج ويحسن سلوكه ويلازم جامع الزيتونة، وعند ذلك أرسل عمه في الحين بفك قيده، وكان الأمر كما ذكروأن فإنه لازم داره، التي قرب الجامع الحسيني، وتعاطى هدمها إلى أن خرج منها أهله، واستمر في هدم الديار المجاورة لهأن وكان كلما وصل إلى دار أرسل الأمير إلى صاحبها ودفع له ثمنها وتركها له، إلى أن عظم البراح الذي أقام فيه، وقد أدركته وهو غنما يظهر من السطوح أحياناً أو انه يخرج التراب من كوة فتحها إلى أن استكمل أمده، فخرج في أواخر عام تسعة وثمانين ولازم التردد بين داره والجامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ولما توفي ولي الله الشريف الشيخ سيدي محمد الصوردي يوم عاشوراء من المحرم الحرام عام تسعين ومائتين وألف، انتشر الشيخ بعد ذلك في الترداد على كثير من جهات البلاد، ثم لازم جامع الزيتونة مدة، واكثر جلوسه ومبيته فوق دانة سيدي منصور، وتارة يبيت بمقصورة سوق القماش، وهو على أكمل حالة الزهد في الدنيأن يلبس جبة من صوف ويتردى برداء، وعلى رأسه خرقة من الصوف وفي رجله بشمق، وتارة لا نعل في رجله، وهو مع ذلك من اعظم خلق الله هيبة وكمالأن مع غاية الأدب والتفاني في الله، وقد نقل عن بعض أهل الله انه ولي غوثاً بعد القطبانية، وكراماته رضى الله عنه كفلق الصبح، ولم يزل أمر سلوكه وصحوه في تقدم وازدياد إلى أن أدركته المنية عن حال صحة آخر ليلة الثلاثاء العاشر من ربيع الأول سنة 1298 ثمان وتسعين ومائتين وألف، وتوفي على جرد حصير متوسداً حجارة، وحسبه بذلك فخراً لزهده رضي الله عنه وأخرجت جنازته من دار حفيد عمه، وصلى عليه بجامع الزيتونة عند باب البهور، وحضر مشهد جنازته الأمير وآل بيته والوزراء وجميع العلماء وكافة الأهالي حتى أن جامع الزيتونة وجميع رحابه غصت بمن لم يعهد اجتماعهم لمن سواه، ودفن بزاويته قرب الجامع الحسيني، وقد رثيته فقلت: [الكامل] ما للمشارب صفوها لا يحسنُ ... هل فارق الدنيا عليَّ محسنُ إيهٍ لقد تاقت له الأخرى، لذا ... أخذته كي بكماله تتيمن علمت بأنه بضعة المختار ذو الأ ... سرار من قد طاب منه المعدنُ فهو الذي نادته حضرةُ قدس خا ... لقه إلى إدارك ما هو ممكن وسقاه من كأس التفاني فاحتسى ... صفو الشراب لأنَّ سكره يزمن فغدا نديماً في خدور صيانة ... ولغير من يهواه ما أن يسكن ورأى الجمال وشاهد الإجلال والإ ... قبال في قرب له مستوطن وحوى جلالاً من أجلَّ تعرّفٍ ... أبدا به فضلُ المعارف احسن لا يستفيق من الغرام ملازماً ... لتأدبٍ فيه يحار الأفطنُ يحيى الدياجي بالمناجاة التي ... أمسى بها في سره يتفنَّنُ ولذا تبدَّى معرضاً عن كل ما ... في هاته الدنيا وغن هو يحسن فالزهد فيها وصفه بين الورى ... ومتاعها أبدا عليه لهيَّنُ مع أنه ملك التصرف في القطا ... بة واغتدى بكمالها يتزين ورقى إلى غوثيةٍ يسمو بها ... في مجمعِ التصريف وهو الأمكن يجري الإله على يديه جميع ما ... في عالم الدنيا غدا يتكون والأولياء جميعهم من دونه ... وبذاك أنبا منهمُ منْ يعلن وله بذا شهدت كرامات بدت ... متكاثرات حصرها لا يمكن فخرٌ سما به من وراثة جده ... خير البرية شامه المستيقنُ فيه اقتدى بعلي أبيه وجده ... لكنه اعلاه سبقٌ أيمنُ ولكم لهم في بيتهم من سيد ... في الأولياء تراه وهو يلقَّن ولكمْ بفضلهمُ استجار ذوو الرجا ... لله في خطب فصار يهوَّن ولكم بهم في تونس الخضراء يس ... تقى الغمامُ وما تريَّثَ يدمن لله ما شرفٌ على شرفٍ سما ... شرفأن به الأشراف طرَّا تعلنُ فليتَّعظ بمماته من قد درى ... بمقامه العالي، ففقدهُ محزنُ وليعتبرْ أهل النهى بكمال من ... قد شيَّعوه متى دعاه الموطنُ ولئن يكن دفنوه في قبر سما ... بالفخر منه ففضله لا يدفن فليعقده المستمير منادياً ... له باسمه فله الإجابة ديدن وليستغث به من يناجي ربَّه ... وليستجر به من تصبهُ الأعينُ وليتخذه وسيلة لله في ... ما قد عرا فبه التوسل أعون وليتخذ ذو النسك عنده خلوة ... فيها يرى متبتلاً لا يفتن فهو الذي خلع الإله عليه من حلل الرضا خلعاً بها يتزين وهو الذي قد نال سابغ رحمة ... عند الإله بها غدا يتمكن والله مجَّدهُ فقلت مؤرخاً: ... في مجد رحمته عليَّ محسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وأما أخوه صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1226 ست وعشرين ومائتين وألف، وحفظ القرآن العظيم حفظ تثبيت وجوده، وقرأ العلم الشريف على شيوخ كثيرين، منهم الشيخ أبو عبد الله محمد البنأن والشيخ محمد النيفر، ثم اشتغل بأحواله وتعاطى التجارة بسوق القماش وسوق العطارين الكبار مع ملازمته تلاوة القرآن ثم أنه تقدم لمشيخه أحزاب الأسبوع لجامع الزيتونة عند وفاة الشيخ الذي قبله وما توفي نائب الخليفة الإمام الثالث الشيخ أحمد القروي قدم المشير محمد الباشا صاحب الترجمة للنيابة غمامً ثالثأن وقدم الشيخ محمد بن سليمان إماماً للتراويح وشيخاً على الختمة، وكان خليفة الجامع يومئذ هو الشيخ محمد البنا والإمام الأكبر هو عم صاحب الترجمة الشيخ محمود محسن، فقام بالنيابة احسن قيام، في كثير من العوام، ثم عند وفاة خليفة عمه قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي خليفة لعمه في أواسط المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف، وصادف ذلك هرم عمه وعجزه فقام متحملاً أعباء الخطة ولازم المحراب والمنير وقام بالخمس والجمعة إلى أن توفي عمه فقدمه المشير المذكور لخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولما توفي إمام التراويح وشيخ الختمة الشيخ محمد بن سليمان تقدم عوضه ولده الشاب الشيخ حمودة محسن، فرآه أبوه متقدماً بمحراب جامع الزيتونة، ونال مسرة ذلك، وكان عليه رحمة الله مصاباً بذات الرئة، اشتد به المرض بعد حين، ولازم الفراش في مبادئ عام تسع وثمانين حتى منعه من الحضور لعمل المولد الشريف. وكان حسن الأخلاق حسن المحاضرة، تقياً بالله، لا تأخذه في الله لومة لائم، دخل في أعضاء المجلس الكبر مدة القوانين، فظهر منه النصح للأمة والدين، وهو معقد عند العموم تجله الخاصة والعامة، اخبرني خليطه أبو عبد الله محمد بروطه أنه في صفر الخير من عام وفاته مر على دار الشيخ علي محسن فرآه فقال له: هل تأتيني بأخي؟ فأجابه لذلك، وطلب من صاحب الترجمة الذهاب إلى أخيه، وكان يومئذ يجد ألم صدره، فأحضر له كروسة، وذهباً معاً إلى الشيخ، فلما رآه الشيخ قال له: أأنت أخي؟ فقال له: نعم، فقال له: وهل بقيت دارنا التي بها شجرة الحناء؟ فقال له: نعم، فقال له: أو إن الحناء الآن موجودة؟ فقال له: غن الشجرة قد ماتت، ثم سأله عن عمه فأخبره بوفاته، فسأل عمن تركه، فأخبره بأبنائه، فطلب إحضارهم فأحضروهم له في الحين، وبارك عليهم، وأمرهم بالرجوع من حيث أتوا ثم طلب من أخيه الإمام الكبر صاحب الترجمة أن يدخل معه إلى داخل رحابه، فدخل وأقام معه منفرداً هـ نحو الساعة، ثم خرج وصحبته قفتان مخاطتان إحداهما بالجوز والأخرى باللوز، ورجع إلى داره، وف يتلك الليلية ظهر عليه حال واختلاج واكثر التوسل لله مما لا طاقة له به، ولازم بيته على كماله وإجلاله والناس يتبركون بزيارته إلى أن توفي ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الناس بحضور جنازته، وأعقب في الجامع ولده، وكان مدفنه في تربة آبائه بالزلاج عليه رحمة الله آمين. الشيخ صالح النفير هو شيخنا أبو الفلاح صالح بن احمد بن قاسم بن محمد بن محمد بن أبي النور النيفر، قدم جده أبو النور إلى حاضرة تونس من بلد صفاقس، وكان مقدم آبائه إليها من مصر القاهرة في تجارة، وهم يلبسون العمامة الخضراء علامة على شرفهم، واخبرني بعض الشيوخ منهم انهم من ذرية الشيخ الرفاعي رضي الله عنه وهو مولاي أحمد بن سليمان بن احمد بن سيلمان بن احمد بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطايحي الرفاعي شيخ الفقراء الأحمدية إليه كثير من الفقراء الحمدية، وروى الحديث عن سبط السلفي، وحدث وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين وستمائة، ودفن برواقه المعروف به بحارة الهلالية خارج باب زويلة من مصر. وأما آباء صاحب الترجمة الأربعة المذكورون فقد ولدوا بتونس، وتعاطوا صناعة الحرير والتجارة بسوق القوافي والعطارين، وساعدهم البخت فربحوا وأثروا مع ما فيهم من البذل والتصدق، وكلهم حج بيت اله الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وولد شيخنا المذكور سنة 1236 ست وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ نشأة صالحة وشد إلى التعلم عزائمه، ونتوجه لقراءة العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على أخيه الأكبر الشيخ محمد النيفر المفتي المالكي كتب النحو من مباديها إلى أن أتى على ألفيبة ابن مالك، وقرأ عليه مصطلح الحديث ومختصر السعد، ونبذة من المطول، وتفسير القاضي البيضاوي، وقرا على الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة المفتي المالكي شرح التاودي على نظم ابن عاصم بحواشيه، وشرح الشفا للقاضي عياض، وقرأ على المولى الجد الشيخ أبي عبد الله محمد السنوسي المختصر الخليلي، وقرأ على شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد معاوية المطول، وقرأ على الشيخ أبي عبد الله محمد بن ملوكة رسالته المنطقية وغيرهأن وقرأ على غير هؤلاء من أعلام الشيوخ كالشيخ أبي أسحق إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ أبي عبد الله محمد الخضار المفتي المالكي، والشيخ أبي عبد الله محمد البنأن وقد برع في المعقول والمنقول مع حسن العارضة وجلس للتدريس بجامع الزيتونة، وتقلب في خطط علمية رفيعة الشأن، فتقلد خطة التدريس من الرتبة الثانية في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1265 خمس وستين، ثم في سابع جمادى الثانية من السنة الموالية لها ترقى إلى الرتبة الأولى، وأفاد الطالبين وختم كتباً مهمة ولما ختم مختصر السعد هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو الموثق الفرضي المجود، المدرس الشيخ محمد البشير التواتي بقوله: [الطويل] أبدر تمامٍ حلّ في طالعه السعد ... أمِ البرقُ يبدو من نواحي بني سعدِ أم ارتفع الجلباب عن وجه بثنة ... فبانت ثنايا الدر في مجمع الشَّهد فآنستُ وجهاً أنه الشمس في الضحى ... وأن الحيا قد حاك ورداً على نجدِ وقد سدَّدتْ نحوي سهامَ لواحظٍ ... ليفعلنَ بي فعل المواضي من الهند فبتُّ ونار الشوق وسط حشاشتي ... ولم تذق العينان طمعاً من البرد زكم وعدت مقتولها بحياته ... فشاب ولم يظفر بمائسة القدَّ وإني قنوع في الوصال بنظرة ... إلى الغادة الحسنا مبرَّرة النَّهد فإن لامني العذال فالقصد صالحٌ ... لدى الناس مثل النار ليلاً على بند تقيٌّ نقيٌّ ناسكٌ متورع ... هو الفاضل المحمود في القرب والبعد إمام همام لوذعي وسيد ... من الشرفاء الطاهرين أولي النجد خلاصة أخيارٍ ومفتاحُ كنزهم ... وبحر محيط لا يغيض من الورد كمال لنا كشفٌ لكل ملمة ... خليل لطلاب العلوم أولي الرشد رياضُ علومٍ كأس عذبٍ رحيقها ... أساس مبانيها يصول كما الرعد كأنّه ليس في جيوش دروسه ... وفي معرك الألباب سيف بلا غمد إذا ما تصدّى للبيان رأيته ... يصوغُ المعاني في البديع بلا جحد وكم لهجت أنفاسه بجواهرٍ ... منظمةٍ كاللؤلؤ الدر في العقد يفوق الورى في كل أمر يسودهم ... وغن ذكروا مجداً تقدم في العد أيا ماجداً قد حاز كل فضيلةٍ ... ويا سيداً دامت له سبلُ الودَّ فدونك بنت الفكرِ قد تمّ حسنها ... أتتك تهنّي في ختامك للسعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وقد ولي مشيخة المدرسة المرادية في السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1271 إحدى وسبعين، وتقدم للإمامة والخطبة بجامع درب العسال في السابع من ربيع النور من السنة الموالية لهأن وتعاطى في مبدإ أمره المتجر، وكان حانوته بالعطارين الكبار يومئذ وجلس للإشهاد، وكان الولي الصالح الشيخ صالح المثلوثي كثير التردد عليه، فاتاه مرة إلى حانوته، وقال له: يا شيخ صالح هات دفترك واكتب إنك ستولى خطة كذا وخطو كذأن وذكر له عدة وظائف رفيعة يعز اجتماعهأن وكان المر كما ذكر الشيخ رضي الله عنه فقد قدمه المشير الثالث لخطة القضاء بالحاضرة منتصف ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، وتقدم في مجالس الجنايات عند وضعهأن ثم في غرة صفر الخير سنة ثمانين ترقى إلى خطة الفتيا ثم في شهر شوال استعفى من خطته في مجالس الجنايات، وخرج لحج بيت الله الحرام ثانياً غرة ذي القعدة الحرام سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف، فحج وزار ورجع إلى الحاضرة على خطة الإفتاء، وكان مفتياً سادسأن ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً خامسأن ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعأن ولما توفي الشيخ احمد بن حسين ترقى إلى رئاسة المجلس الشرعي، فولي خطة باش مفتي بتقدمه على المفتي الثاني يومئذ الشيخ الشاذلي بن صالح، والمفتي الثالث الشيخ علي العفيف، وكانت ولايته الخطة المذكورة تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف بعد أن تقلد وظيفة الحسبة والنظر على بيت المال أواخر ذي الحجة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف. وقد كان فقيهاً عالمأن له حسن دراية، يضرب بها المثل، مع مزيد التحصيل في الفروع والأصول، وحسن الجاه الذي لم يشاركه فيه أحد يومئذ، وله ولع بالتصوف والأذكار، وحب الصالحين والزيادة لهم، ومواسة الغرباء أينما كانوأن وله حسن محاضرة لا تمل مع اقتدار كلي على إبراز الكلام في قوالب شتى. وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ "ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه، المجيد بذاته" وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسهأن فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بجيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانيأن لا بالجر على انه نعت للعرش، قال: وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى: (يوجد آية) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظرأن وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء، وقد كتب أختاماً كثيرة على أبواب مهمة من صحيح البخاري، وتصدى لشرح الموطأ فكتب عليها كتابة جليلة حين لازم إقراءها بجامع الزيتونة بلغ في الشرح المذكور إلى حيث بلغ في التدريس وتركه مسودة. وأما تدرجه في مراقي إمامة جامع الزيتونة فقد تقدم للنيابة إماماً ثالثاً في الرابع عشر من صفر الخير سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف عند وفاة الخليفة الشيخ محمد البنأن وأقام المغرب والعشاء والصبح مدة، وكان كثيراً ما يعتكف الليالي العديدة بجامع الزيتونة لأداء صلاة العشاء والصبح، وقد استصحب في ليلة النصف من شعبان تلك السنة للمبيت معه الشيخ محمود قبادو، فارتجل قصيدته، هنالك التي يقول في مطلعها: [الطويل] إلى بيتك اللَّهمَ بالعزم أقبلنا ... حططنا به رحل الضيافة فاقبلنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ولما توفي المحسني المحمودي قدمه المشير الثالث خليفة أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وخطب بالخطب البليغة، وواظب على إقامة الصلوات في أوقاتهأن وقرأ المولد النبوي بالنيابة عن الإمام الأكبر قبيل وفاته إلى أن توفي إمام الجامع الشيخ محمد محسن فقدمه المشير الثالث إماماً أكبر بجامع الزيتونة في السادس عشر من ربيع الأول سنة 1289 تسع وثمانين ومائتين وألف، فحظي من دهره بغاية المراد، غير أن الخطة أتته على حين بلغ به ضعف البدن إلى حده، فخطب أخرى ثم أقعده الضعف، ولما حضر المولد النبوي بعد ذلك طلب الأمير أن يقتنع منه بسرد أدعية لضعفه، فأرسل له الأمير يأذنه بأن يريح نفسه وأن خليفة الجامع الشيخ محمد الشريف يقوم مقامه، فأعاد على الأمير الطلب بأنه يحضر الموكب بنفسه ويسرد المولد عوضه أخوه الأصغر المفتي الشيخ محمد النيفر، فأعفاه الأمير من ذلك وأرسل إلى خليفته الشريف بإحضار المولد النبوي، ولم يحضر الإمام الأكبر صاحب الترجمة ذلك الموكب. وكان مع ذلك آية الله في الذكاء والتقلب في الأمور ومعرفة وضع الأشياء في مواضعهأن عالمأن لطيف الأخلاق، جميل المحاضرة، محصلاً أختامه يرغب الناس في حضورهأن لحسن ما ينتقيه ويحرره فيها من المسائل المهمة. وقد قربه الأمير، لعلمه وحسن أخلاقه، حتى كان ذا جاه رفيع غير أن الأجل عاجله وكدر الدنيا لم يترك مشاربه صافية، فتوالى عليه المرض واشتد به الضعف حتى لازم المنساة بعد الخمسين، ولم يزل المرض مصاحباً له، يضاجعه تارة وتارة يريحه، إلى أن لازمه أخيراً وأدركته المنية وعمره نحو خمس وخمسين سنة، فتوفى أواخر ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وقد بر به ولده فبادر لدفنه يوم وفاته عشية لك اليوم وشهد العموم جنازته، عليه رحمة الله. وقد كتب في ترجمته حين وفاته كتابة نثرية في الرائد التونسي هذا نصها: في ضحوة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام افتقد هذا القطر التونسي شيخ الإسلام المالكي والإمام الأعظم بجامع الزيتونة صاحب النسب الذي هو في بيت النبوءة عريق، والعرفان الوثيق، وهو الهمام الذي عبقت الأرجاء من الثناء عليه بمسك أذفر، أستاذنا أبو الفلاح الشيخ صالح النيفر، فهال خطب فقده على سائر الأمة وما هان، وأودع في أكباد الذين آمنوا أعظم الآلام والأحزان، إذ كان لمحاجر الشريعة نور، وملبسها من الفخر العز الموفور، فيا له من همام هم بإدراك المعالي فنالهأن وسبق في تلك الحلبة رجالهأن حتى عقدت عليه كل مكرمة سائر الخناصر، وباهت به مملكتنا سائر ممالك القياصر، فكسا أندية العلوم حلل المحاسن، وأجرى من انهار معارفه ماء غير آسن، درسه يسحر الألباب، وتقريره يزري بحسان فرائد الآداب، له في الأسلوب الحكيم الاقتدار على تقليد اللبات بالدر النظيم. أما حقائق الدقائق، وفائق الرقائق، فلا مطلع لشموسهأن غير رياض دروسه، ولا مورد لرحيقهأن غير شفاف كؤوسه، فكم أدار على أرواحنا مكن أعجب الأساليب راحأن فأودعها من ذلك نشوة وانشراحأن فهو كشاف المعاني، والمصباح الذي يستضيء بشهابه كل معاني، له اليد الطولى في المعقول والمنقول، وأحرز السبق في ميادين الفروع والأصول، قدمه في سائر العلوم راسخة، ومعرفته الوثيقة لسائر الزيوف ناسخة، إن تكلم في المجالس أبهت الناطق والصامت، وأضحى بلواتر الفصل الصالت، إذ حنكته الفصاحة، ودرى كيف يأسو للدهر جراحة، وسبر بمسبار الألمعية أغوار الحدثان وجابه يدها تجريبه جباه الزمان، فعلم بمواقع الأمور، وجرى فيها بالسعي المشكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أما معرفته بمدراك مذهب مالك بن أنس، فهي التي نصبت له المنصات فارتقاها وجلس، فقضى سنين قد انقضت كأنها سنات، وأتى فيها بالآيات البينات، أقام فيها قسطاساً لمنع الاعتساف، حيث تحلى ببدائع الأوصاف، وقام بأعباء الفتيا قياماً لم يعهد له مثيل، ورصع تاجها بمجده الأثيل، وأنار منبر تجرح الأفئدة والقلوب، ولا سيما حيث كانت من خطبه التي أبدع في تنظيمها على أفخر أسلوب، فإذا قام في منبره أو محرابه فيا فوز من وعى، فإنه يسمع الصم الدعأن فما ترى الحاضرين إلا وعيونهم تنهمر دمعأن إذ انصدعت قلوبهم من ذلك صدعأن وإذا روى عن جده خير البرية المصطفى، يلين له القلب الذي كالصفأن فكم هدى وأهدى، وأعاد من المزايا وأدى، إلى أن ألفت رئاسة الفتيا والإمامة أمرها لديه، وتوشيح كلتاهما بالانتماء إليه، بعد أن ولي الحسبة ووظائف وتنتهج بها تلك المناصب السنية. وزيادة على ذلك فقد تحلى بكمالات لا تحصى، ومزايا لا تستقصى، فهمته قد ضربت على السماك أطنابهأن ونصبت على الجوزاء قبابهأن حتى انتعل السهأن وغدا إليه في كل مكرمة المنتهى، مع ما هو عليه من شرف الأعراق، ودماثة الأخلاق، بشاشته تملأ قلب ملاقيه حبأن وتوليه من التردد ما يختاره بعدا وقربا. وكان كثير الميل إلى علم القوم، لا يختشى في ذلك من لوم، وله مزيد ولعٍ بمن بنتسب للشرف النبوي والصلاح، من أهل الخير والفلاح، فسلك في ذلك مسلك أستاذه شيخ الإسلام المالكي أبي إسحاق، وكرع من مناهل الطريقة التجانية أعذب الأذواق، حتى كان في خيسها ليثأن وانسجم بمعارفها غيثاً. ولذلك نبؤه راع القلوب وفتت الكباد، وعم بالإصابة سائر العباد، فيا له من خطب أصاب أفئدة كانت لمودة هذا الهمام منسوبة، ورماها من نباله بأسهم مقشوبة، حتى عم الأسف سائر الأهالي، ونثرها عليه من الدموع وطيب الثناء أحسن اللآلي، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعامله بالرضوان، ويجعله في جوار سيد ولد عدنان، فإنا لا نقدر على إيفاء حقه فيما ننثر وإن نظمناه، ولا يطيق أحد أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات قريحة تقرحت برزئة الجليل، وصارت تنثر مع أدمعنا أمثال هذه الأقاويل، وقد انتهز الفرصة في ذلك العالم الماجد، المبرز ببراعته على سائر الأماجد، النحرير اليلمعي، والفهامة اللوذعي، فرع مشايخ الإسلام، الثلاثة الأعلام، المتطلعين غرراً في جباه الأيام، صديقنا الذي لم تزل طريقة والده وجده له منهوجه، الشيخ أبو عبد الله محمد بن الخوجة، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم لا زالت دوحة والده به في ابتهاج ونما كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهذا نصها: [الطويل] إلى الله من خطبٍ تداعت له رجفا ... رواسخ أحلامٍ وقد أحكمت رصفا تمطَّى به ليلٌ من الوجد حالكٌ ... يضل الكرى فيه فلا يعرف الطَّرفا صلى كلَّ قلب من لظاه بمضرم ... يزيد إذا ما الدمع برَّده ضعفا يحق له شقُّ القلوب إذا اغتدى ... يشقُ أخو الأحزان أثوابه لهفا إلى الله نشكوه عظيم ملمةٍ ... عسى فرجٌ يولي دجنتهُ كشفا ومنْ مارس الأيام هان به الأسى ... فكم روعت سرباً وكم رنقت صرفا وهل سالمت من عهد آدم واحداً ... فيأمن مرتاحٌ إلى ظلها الحتفا؟ ويا ليتها ترعى ذمام ذوي العلا ... فتبقيهم لكن أبي طبعها اللطفا وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... أعد به دين الهدى للورى كهفا وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يمرُّ ولا يبدي الزمان له خلفا وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يبيدُ به جيش الضلال إذا اصطفَّا قضى الله في قطب الرئاسة إن قضى ... فها أدمع الإسلام وأكفة وكفا فمن لنوادي الفضل بهجةُ صدرها ... وملبسها من فضل أقواله شنفا فمن للقضايا المعضلات يحلُّها ... بصارم فكر لا يفل ولا يحفى ليبكه ملهوفُ الجوانح غلَّةَّ ... إلى عذب فتيا كان منهلها الأصفى إذا أمَّةُ المرتادُ أبصرَ جنة ... بدائعها تدني لمن رامها قطفا ترحَّل فاقتاد القلوب وراءه ... ولا غرو إذ تقفو المعارف والظرفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بني نبفرٍ صبراً فهذا سبيل من ... يعيش ولو قد عاش في دهره ألفا وما بيتكم في المجد إلا كعهده ... سنى عزّه إن شاء ربي لا يطفا على أنه قد فاز بالفضل والرضا ... وخلف ذكراً طاب ترديده عرفا وبلَّغ في الدنيا الذي شاء من علا ... ولم يرغم العداء من عزه أنفا فألبسها من عدله وعلومه ... ملابسَ قد زانت لها الصدر والعطفا عليه من الرحمن أزكى تحية ... تقر بها عيناه في جنة الزلفى وحقق فيه الله قول مؤرخ: ... إلى خير مأوى على صالح قد زفا وعندما أدرجت المرثية المذكورة في هذه الترجمة كتب إلي جناب منشئها الأخ العالم بقوله: [البسيط] بوَّأتني محض فضل نزل علياء ... والحبُّ يفضي لإسهاب وإطراء طما وادي لديكم فارتمت دررٌ ... من عذبه صعدت أنفاس أعداء أهديت أيَّ صنيعٍ لن يوفيهُ ... شكري ولو نشرته كلُّ أعضاء أودعته عند من يدري بقيمته ... برّ شكور فقل يا نجح أسداء أعرتني بعض أوصاف خصصت بها ... تفضلاً وغضضتم أي إعضاء شكراً لكم من أخ بر حبيت به ... أنزلته من فؤادي في السويداء إبريز من أمسوا أخواني وعمدتهم ... وسيد كم رقى أوجاً لعلياء فيا له من صديق قد ظفرت به=صينت صداقتنا عن كلّ أقذاء الشيخ محمد الشريف هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الكبير بن احمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشأن وهكذا سلسلته المنتهية إلى شجرة المنتهى محمد خير خلق الله صلى عليه وعلى آله، فهو الإمام حفيد الإمام، مفخر آل البيت السادات الكرام. [ترجمة والده] أما والده فقد قرأ على عمه الشيخ حسن الشريف وعلى والده، وناب عنه في الإقراء بمدرسة حوانيت عاشور، وله مشاركة في الإقراء بمدرسة حوانيت عاشور، وله مشارمة في كثير من الفنون، وكان ذاكراً شاكراً محباً في الصلاة على رسول الله، له شغف بدلائل الخيرات، يحيى الليالي بالذكر والصلاة، كثير الرؤيا لجده هـ صلى الله عليه وسلم منها مرة رأى نفسه في حجره صلى الله عليه وسلم وهو يلثم يده الشريفة ويجد من لينها وريحها ما لم يعهد، وبقي أياماً وهو يقول: إنني الآن أجد طيب ريحهأن وكان مهاباً محترمأن جميع الناس يطلبون منه الدعاء وقد اتفق لبعض الناس أن افترى عليه في نازلة فدعا عليه فمات بقرب من ذلك، ولم يزل ملحوظاً بعين الإجلال، معدوداً في الصالحين من الرجال، إلى أن بلغ من العمر ستاً وأربعين سنة، وتوفي سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف. وخلف والده صاحب الترجمة وكانت ولادته في العشرين من المحرم الحرام سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وتربى في حجر عناية أبيه، فقرأ القرآن العظيم، وتصدى لتعلم العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على مشايخ الإسلام البيرمي والخوجي ومعاوية، وقرأ على الشيخ محمد النيفر الأكبر، والشيخ الشاذلي بن صالح، وغيرهم من علماء الجامع، وولي في درسي جامع الزيتونة بعد وفاة عمه. وحصل على إجازات كثيرة في الحديث، وقفت منها على سنده في صحيح البخاري: عن شيخ الإسلام محمد بن الخوجة عن المفتي المؤلف الشيخ حسن الشريف عن والده الشيخ عبد الكبير الشريف عن والده الشيخ أحمد الشريف عن الشيخ عبد الرحمن الكفيف عن الشيخ سعيد الشريف الطرابلسي عن القطب الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا عن الشيخ السراوي المصري عن الشيخ سالم السنهوري عن الشيخ نجم الدين الغيطي عن الشيخ زكرياء الأنصاري عن الشيخ أحمد بن حجر شارح الصحيح عن الشيخ التنوخي عن الشيخ أحمد الحجار عن الشيخ حسين بن المبارك عن الشيخ أبي الوقت الهروي عن الشيخ الدراوردي عن السرخسي عن الشيخ محمد بن موسى الفربري عن الحافظ الشيخ محمد بن إسماعيل البخاري ثن الجعفي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه. ووقفت أيضاً على سنده المحمدي، وأجاز لي رواية المذكور بما له فيه من الأسانيد بعد أن رويت بين يديه نبذة منه رضي الله عنه غير أنه لم يجلس للإقراء إلا قليلأن ولازم رواية الشفا والبخاري بمسجد سيدي أبي حديد واجتمعت الجموع لأختمه، وهو ممن يظهر نعمة الله عليه، في نفسه ومن ينتمي إليه وله مع ذلك دعاء مستجاب، وخاطر ليس بينه وبين الله حجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 جلس مرة في جبل المنار قرب الناظور من الجانب الشرقي، ومعه جملة من الأعيان، فمرت بهم في البحر فلوكة بها جمع من كفرة الصيادين للسمك فقال له أحد الحاضرين: إن كنت شريفاً فادع على هؤلاء ليغرقهم الله، فظهرت غيرته، ودعا عليهم بجاه جده، فلم تلبث الفلوكة أن انقلبنت بمن فيها في البحر، ومات جميعهم، وله من هذا الباب وقائع شتى. وكان المشير الأول يتمين برقيته ودعائه، وللمشير الثاني معه مودة واعتقاد، يتقرب به إلى رب العباد، عليه جرى المشير الثالث مع ما هو عليه من التعظيم عند الخاصة والعامة. وعند وفاة الشريف محمد ابن الوزير العربي زروق عن وكالة زاوية الشيخ سيدي أبي سعيد الباجي رضي الله عنه قدمه المشير الثالث لها مع النظر على جبل المنار في ربيع الأول سنة أربع وثمانين. ثم لما توفي ابن عمه المحسني المحمودي قدمه المشير المذكور للنيابة إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة في الثامن عشر من شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولازم الجامع للإمامة وواظب على رواية صحيح البخاري كل يوم ثم لما توفي ابن عمه المحسني المحمدي قدمه المشير الثالث خليفة في السادس عشر من ربيع الأول سنة 1289 تسع وثمانين، واستولى عند ذلك الشيخ أبو الحسن على العفيف نائباً عنه. واستمر الخليفة المذكور قائماً بصلوات الجامع في أول الوقت، حاملاً أعباء الخطبة والإمامة مدة مرض الإمام الأكبر إلى أن توفي الإمام النيفري فقدمه المشير إماماً أكبر بجامع الزيتونة في التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وجعل خليفته الشيخ أبا الحسن علي العفيف، وقدم ابن عمه الشيخ أحمد بن حمدة الشريف إماماً ثالثأن فنهض الإمام الأكبر الشريف صاحب الترجمة للجامع، وشمر على ساعد الجد في تنظيمه والبحث عن أوقافه، وأجرى الأمور على أحسن وجه، وقام بالخطبة قياماً كلياً بحيث أنه يحضر رواية البخاري كل يوم الثلاثة الأشهر، وهو مقيم في جبل المنار في حر الصيف حتى تيسر له ختم رواية صحيح البخاري في 26 شهر رمضان سنة 1296 ست وتسعين، ومهما اتفق احتباس المطر وخرج للاستسقاء إلا ورجع باليل، وإن لم يصبها وابل فطل. [قراءة البخاري عند الأزمة] وهو أول من جمع الناس لختم البخاري في مجلس واحد للاستغاثة ودفع الكروب وذلك أواسط جمادى الولى سنة 1298 ثمان وتسعين، فحضر بجامع الزيتونة عند باب الشفاء، واحضر نسخة من صحيح البخاري مجزأة عشرين جزءاً في غاية الضبط والصحة، وجمع معه تسعة عشر مدرساً من علماء جامع الزيتونة ليروي كل واحد جزءاً كاملاً في ذلك المجلس، فحضرنا هنالك قبل الزوال بأربع ساعات، واستمر بنا على رواية الصحيح المذكور إلى مضي ساعة من الزوال فتمت روايته في خمس ساعات من يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1298 ثمان وتسعين، وقد واظب الشيخ مدة على ذلك مع ذكر الاسم اللطيف وأدعية مدة استمرت إلى منتصف جمادى الثانية يحضر معه في كل يوم بعض المدرسين ويتلو بينهم في آخر المجلس استغاثات مناسبة للحال. وقد تقدم في أثناء تدرجه في مراقي الإمامة إلى خطة الإفتاء بمذهب مالك، فتقدم مفتياً سادسأن تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف ونقش على ختمه بيتين من نظمه وهما قوله: [الرجز] أدعوك ربي باسمك اللطيف ... ومن أتى بالشرع والتكليف امننْ برشدِ عبدك الضعيف ... محمدِ بن أحمد الشريف ولما توفي الشيخ محمود قابادو صار مفتياً خامسأن ولما توفي الشيخ صالح النبفر صار مفتياً رابعأن ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً ثالثأن فهو اليوم إمام جامع الزيتونة والمفتي الثالث بالمجلس الشرعي، معتكف على القيام بوظيفته، ملازم لرواية صحيح البخاري في بيته، مع الاعتناء بتصحيحه وضبطه بشروحه، حتى ختمه مراراً كثيرة، كما ختم الشفاء كثيرأن وله مزيد تحر واعتناء بانتقاء بدائع الخطب وضبطها على الوجه الأتقن، وقد تقدم في الطريقة التجانية، ولقنها لكثير من المريدين، وقام بأورادها مع ما له من الأذكار، التي يلازمها بالليل والنهار، والتبتل للعزيز الجبار، على طريق الأخيار، من أصحاب الأسرار، رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وخليفته اليوم في إمامة الجامع هو ابن عمه الشيخ أبو العباس احمد بن حمدة بن محمد الشريف إمام الجامع، ونائبه الإمام الثالث هو الشيخ أبو محمد حمودة بن محمد محسن إمام الجامع، وعلى عهده زيد في أيمة الجامع نائب ثان وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطاهر بن محمود محسن إمام الجامع، وإمام التراويح هو الشاب أبو عبد الله الشيخ محمد بن مصطفى بن محمود الشيخ عبد الرحمن بن محمود محسن، فخطط الجامع ولله الحمد اليوم بين آل الشريف رضي الله عنهم أجمعين، ولولا أشتراطي ذكر الأيمة لذكرت تفصيل حال هؤلاء السادات أبقى الله بركتهم أماناً لأهل الأرض، فبدر الإمام الأكبر اليوم محيطة به هالة من آل بيته، وقد تجمل به، والحالة هاته، صدر الجامع وابتهج، وافتخر المنبر بحسن خطبه التي ينتقيهأن وبجمهورية صوته وتأثيره يلقيهأن بحيث أنه اليوم أخطب الخطباء بالحاضرة فصاحة وجمهورية صوت وأداء وضبطأن وهو إمام فاضل، متفنن، نحرير دراكة، سخي النفس، غزير الدموع، سهل الجانب، رضي العيش، قدوة، محبب إلى الناس، كريم الأخلاق مهاباً معظمأن عالي الهمة، مقبول الجاه، محترم، يكرمه الأمير والمأمور، ويعتقده الخاصة والجمهور، يحضر الجامع في كروسة من كراريس الأمير، أهداها له الوزير. وقد نفع بجاهة كثيراً من المستجيرين به رضي الله عنه، وفي هذا العهد أتاه الثقة المسن علي عباس يطلب منه الدعاء، وقراءة الفاتحة، وأخبره أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ببيت به جمع عظيم، ولما دخل بيتهم رأى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفعاً وإلى جانبه الشيخ متكئاً ثم إن المصطفى مسح على جنبه ووعده بالشفاء فكان صدق الرؤيا حيث غن الشيخ يشكو في هاته المدة ذلك لجنب نفسه، وقد أمل الشفاء ببركتها ولا تخفى دلالة الرؤيا على قرب اتصاله بجده عليه الصلاة والسلام. وحيث إن مفاخره عظمت بالاشتهار، وغطت على الشمس في رابعة النهار، وكان وجوده بين أظهرنا من بركات هاته الأعصار، التي نتمتع بها آناء الليل وأطراف النهار، تقربت لجده المصطفى عليه الصلاة والسلام بقصيدة جليلة، اتخذها تاج المفاخر إكليله، صدرتها بذكر فضائل آل البيت، ووشحتها بذكر بعض مفاخره ومفاخر آبائه الكرام، إلى الوصول إلى خير الأنام وآبائه العظام، وسميتها "الجنة الدانية الاقتطاف، بمفاخر سلسلة السادة الأشراف". وها أنا اجعلها خاتمة لهذا القسم تيمناً بفضل من ذكرتهم فيهأن وهذا نصها: [البسيط] إنَّ المودةَ في القربي هي الأملُ ... يجري بها ويفوق الأجرُ والعملُ قرابةِ المصطفى آل بهم شرفتْ ... مفاخر بعلاها تضرب المثل آل الرسولِ كفاهم وصلتهم ... به وقوله: آلي إذ هو الأمل أوصى بهم حيث قال الله أشدكم ... في أهل بيتي ثلاثاً إذ به اتصلوا دعا بسترهمُ إذ كان جلَّلهم ... وفي ملاءته دون الورى اشتملوا وحائط البيت والأسكفَّة ابتدار ... مؤمنين كتأمين الألى عقلوا فمن دروا حقهم في الفضل كان لهم ... به البراءة من نار بما عملوا ومن أحبَّهم جاز الصراط به ... كالبرق لا يعتريه البطء والثَّقلُ ومن يواليهمُ نالَ الأمان منَ ال ... عذاب يومَ ذوات الطفل تنذهل هم الأمان وما داموا على قنن ال ... تبجيل لم يكتنفنا في الورى ضللُ همْ عترةٌ طهَّر المولى منازلهم ... مذ أذهب الرجس عنهم عندما كملوا همُ الهداة وبيت الوحي بيتهم ... لا يعتريه بحول الخالق الخللُ بيتٌ على الدين قد قامت دعائمه ... ومن مناهله كل الورى نهلوا بيتٌ قد انتاب جبريلُ منازله ... عن إذن ربّه والأملاك كم نزلوا بيتٌ تخيَّره الرب الجليل إلى ال ... تنزيل والوحي منه ليس ينتقلُ ما بعد جدهم المختار من رجلٍ ... يأتي فتتبعه الأملاك والرّسلُ لهم سمات وآيات لهم تليت ... في الذَّكر لا يعتريها النسخُ والبدلُ فمصدر الدين هم والدين حبُّهمُ ... وهمْ سراة الورى ما مثلهم رجلُ لا يدخل القلب إيمانٌ وحبهم ... لله لم يك حتى يولج الجمل قوم حياتهم في الأرض مرحمةٌ ... بجاههم لم يخب في الخلق مبتهلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 بيضُ الوجوه لها بشرٌ تهلله ... يرى الغزالة ما إن مسها طفلُ كريمةُ الحسن يستسقى الغمام بها ... وتشتفي من مرائيها لنا العلل شم الأنوف ومأوى للضيوف، ومن ... يوفي بإجلالهم قد جاءه النَّفلُ كواكبُ السَّعد لاحت في منازلهم ... إذ أقمروا في العلى والكل مكتمل الله أكبرُ ما أسنى مقامهمُ ... فكم بهم فاز عند الله مضطئل من ذا تمسك من أسبابهم فغدا ... بين الورى جيده من حليهم عطل سلاسلٌ وفروع في البسيطة قد ... مدت فكانت بأصل الفضل تتصل بيوتهم قد أبت إلاّ مفاخرهم ... حتى استطالت فلم يبلغ لها جبل تسمو بفضل اقترابٍ من أعزَّ أبٍ ... لخير جدَّ وكلٌّ في العلى بزل لكن أقربهم من جدهم نسباً ... لهم مزيةُ قربٍ ليس تنفصل فالقربُ من سواهم محجوبٌ بقربهمُ ... والكل نجمهمُ في الفضل منصقل فكلهمْ برسولُ الله متصلٌ=يرتاب في فضلهم من قاده الزلل وكل بيتٍ لهم يسمو بكل علا ... على سواه ولا تدنو له طول تلك البيوت التي قد زاحمت شرفاً ... كواكب الأفق لما أهلها فضلوا أشمُّها ما دنا من أفق جده إذ ... كان السَّوى لم يصل ما ملهم وصلوا لذا بيوت بني الأشراف قد ظهرت ... شمَّاءَ من دونها قد كلَّت المقل ما بين قرمٍ شريف قد سما شرفا ... يزاحم الشمس حيث الفضل يشتعل ومن غدا علما لفظ الشريف له ... حقا له هامة النسرين ينتعل آل الشريف ومن مثل الألى شرفوا ... بجدهم وبفضل ليس ينفصل أل الشريف أسودٌ خيسِ تونسَ قد ... أمسى بهم في أمان ليس ينقهلُ آل الشريف عقود قد سمت نسقاً ... وسطاهمُ الجوهرُ المكنون مكتمل لهم كراماتُ أهل الفضل قد رويت ... وفي البسيطة قد سارت بها المثل واليوم تاجهم القرم الهمامُ (أبو ... عبدِ الإله) الذي طابت به الحللُ إمام جامعها المفتي بها وأخو ال ... ذكر الذي ليس عنه اليوم ينعزل فكم له من مزايا غير قاصرة ... على الورى قد غدت في القطر تنهمل وكم له دعوات قد أجيبَ لها ... من المهميمن إن ما قام يبتهل يجاب مهما ابتغى من جده أملا ... جدَّا وهزلا كأن من لفظه الجزل وهو الذي اليوم يستسقى الغمامُ به ... فيغتدي بعد طول الجدب يقتبل نشاهد السَّحب من دعواه مرسلةٌ ... إنْ لم يكن وابل تأتي له الطللُ أما كرامة برد النار من يده ... فالورد يشهد إن لم تشهد المقل إذ مسّ ما عدَّ للتقطير منه على ... نارٍ فكانت كأن قد مسّها بللُ وحين طال انتظار الطبخ اعلمهم ... فاستبدلوه فلم يعرض لهم مهلُ وهكذا الفضل معهودٌ لوالده ... الصفوة المرتضى من بره العمل أعني بذاك (أبا العباس أحمد) من ... له بكل جميل كاهلٌ عبل أحيا الليالي بالذكر الحميد وبال ... شكر السديد وما غن رابه عذل تبتُّلٌ وصلاةٌ عمَّرت بهما ... أكناف خلوته إذ كان ينعزل وبالصلاة على الهادي له شغفٌ ... لا يعتريه على تكرارها مللُ له "الدلائل" وردٌ كل باكرة ... خمس المرار وما عن ذاك ينفصل وقد راى يلثمها وعندها يجد ال ... عبيق واللين لينا ما له مثل ومرة يتوضا قد رآه فكا ... ن ذاك في يده المنديل يحتمل حتى أتمّ منكراً عنه عوائده ... في نفسه وهو لا يدري بما يصل وافاه في النوم خير الخلق يأمره ... بأنْ يرضيه كيما يمحق الزلل وعندما جاءه أعفاه مشترطا ... كتما إذا لم يواري حين ينتقل وفي استجابة ما يدعو به علمٌ ... علة القبول الذي أولى له الأزل فإنه قد دعا يوماً على رجل ... عنه افترى فاغتدى بالموت ينتبل وقد تبدت له في الكشف لائحة ... درى بها الناس ما قد حازه الرجل فقبلَ موته من يومين أعلمهم ... فكان ما قال إذ قد جاءه الأجل هذا ووالده الشيخ الهمام (أب ... عبد الإله) غدا بالفضل يكتمل قد كان شهماً هماماً عالماً وله ... فخر النقابة سيفٌ دام ينصقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 بالجامعِ الأعظمِ المعمور كان يرى ... هو الخطيب الذي تعنو له القللُ يرتل الذكر في محرابه، وإذا ... يعلو بمنبره الألبابُ تنذهل كان المجابَ الدعا في غير حادثةٍ ... وأهل عصره من ذا الباب كم نقلوا لذاك وافاه شيخٌ طالبٌ أملاً ... بدعوة منه عنها ليس ينعزل وقال إن رسول الله أرشده ... لنجله ذاك وهو السيد الجلل والمصطفى أمر القاضي ببرَّه في ... فصلِ القضا حيث ما في حكمه جدل فجاءه يترضَّى وهو سامحه ... مبادراً لأداء الحق يمتثل وذا أخو حسن المفتي الإمام ومن ... على تآليفه قد أجريَ العمل أما أبوه وذا (عبد الكبير) فقد ... كانت له همة ما نالها الأول نقابة السادة الأشراف قد بلغت ... به إلى حيث لا يدني له الرمل قد كان في العلم بحراً زاخراً وبه ... توارث الناسُ علماً دام ينهمل في مجلس العلم من بيت الأمير له ... مظاهرٌ فصلت من كشفها جملُ له المعارف والآداب قد برعت ... ففاق منه وراق الغزلُ والغزلُ وفضل والده المفضال (احمد) قد ... أضحى على علم كالنار تشتعل وهو الذي شاقه إصلاح سكة مح ... راث بمطل الذي في صنعه مهل فأفتكها وهي محماة وسار بها ... حتى جميع الورى من خلفه قفلوا لكنها حين عادت للهيب فلم ... تمس بالنار إكراماً له يصل فضل تملأه من آثار والده ... (محمد) الأوحد المرضي له العمل وذا أبوه (أبو العباس أحمد) من ... له مناقب ما إن فوقها ظللُ الحجة الحافظ المحيي لسنة خي ... ر الخلق لما جميع الناس قد ذهلوا يروي الصَّحاحَ جميعاً عن دراية ذي ... علم وفهم ولم يعرف له كسلُ وذا الولي "ابن خود" قال أنه قد ... نال القطابة وهو الآن مكتمل ومن كراماته فتحٌ لباب سوي ... قةٍ بليلٍ وهذا الباب منقفل إذ حال قفله بين ابنٍ ووالدةٍ ... كادت بفرقته في الليل تنخزل وكان حج أمير الركب فاعترضت ... له اللصوص فحالت دونهم حول رأوا على قومه سوراً فجاء له ... كبيرهم خاضعاً مذ حزبه جهلوا وهو الذي امتحن الباشا كرامته ... حتى رآها كصبح ليس ينفصل إذ رام أن يمنع الأشراف راتبهم ... أو يأخذوه من النيران إن وصلوا لذاك ألقاه في قدر النحاس به ... محميُّ زيت على نار لها شعل فجاء هذا النقيب المرتضى وغدا ... يعطي رواتب أشراف به دخلوا يفضي بكفه للزيت الوقود فما ... يرى له أثر إلا بها بلل وعندها أيقن الباشا بمفخرة ... وأنَّه عين أشرافٍ به فضلوا فأوقف الوقف مختصاً بينهم ... ودام يكرمهم ما سارت الإبل فذا النقيب الذي طابت مفاخره ... وسيب علمه بين الناس ينهمل هذا الذي منه هذا الفرع طاب وكم ... طابت به من فروع ما له مثلُ وهو الذي من بينه محسن فغدا ... جدَّا إلى المحسنين الشمّ إذ فضلوا هذا أبو محسن هذا أبو حسن ... وذا به نسب الأشراف يتصل لله در كرام كان أصلهمُ ... هذا الذي به فاق الحليُ والحللُ هذا التقي ابن ذاك المرتضى (حسن) ... نجل الذكي (علي) الفاضل الجلل نجل الرضا (حسن) ابن الفذ (احمد) ... نجل (القاسم) اللذ على مولاه يتكل وهو الحكيمُ الذي شاعت فضائله ... وطَّبه منه كم قد زالت العللُ نجل الإمام (أبي عبد الإله) وذا ... نجل (قريش) بن (عيس) ما لهم مثل بهم سما (عابد الرحمن) والدهم ... نجل الرضا (خلف) السامي به الأمل نجل (علي) وذا نجل الرضا (فرجس) ... وذلك ابن (علي) من به جملوا نجل (محمد المكتوم) من ظهرت ... به مفاخر أبناء به اتصلوا وذاك جد العبيديين مفخر من ... تملكوا وهو في المجد قد رفلوا قد كان شيعته فازوا بكتمه مذ ... كانت ترى وبنو العباس تقتتل فهو غمام جليل حيث قد مكرمت ... له أبوة (إسماعيل) مذ كملوا أيمة كلهم طابت مناقبهم ... ما فيهم من يرى في بيتهم وغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 عنهم فسل كل تاريخ وسل كتباً ... تلق العلا عن ذراعهم ليس ينعزل فانظر أخيرهم طابت اخوته ... للكاظم المرتضى من فخره مثل (وجعفر الصادق) المشهور كان له ... أبٌ وقد طاب فيه العلم والعمل ففي الحديث روى عنه الثقاب وقد ... كانت له منقباتٌ ليس تنفصل فخرٌ حواه من المفضال والده ... (محمد الباقر) اللذ أمرهُ جلل ذا باقر العلم من كانت له رتب ... في الدين منها جميع الأتقيا انتحلوا ففي الحديث وفي القرآن كان له ... فضل تدك به الأهضابُوالقللُ وهو الذي كان أوصى بالسلام له ... خير البرية والإسناد متصل رسالة جابر قد كان حاملها ... له بخير حياة طولها عثلُ أما أبوه علي فهو أصبح (زي ... ن العابدين) بفضل دام يكتمل له عبادة إخلاص إذا حضرت ... صلاته عن جميع الكون ينذهل فمرة كان لم يشعر بفلذته ... إذ خرّ في البئر لما كان يبتهل وقال كنت أناجي من له عظمٌ ... ينسى البنين وغن في البئر قد نزلوا وهو الذي قد تنحَّى الطائفون ... في موقف الحج وهو الموقف الجلل حتى تجاهل من قد كان يعرفه ... وهو الذي له فخر ليس ينجهل وهو الذي تعرف البطحاءُ وطأته ... والبيت يعرفه إذ تترع السبل أليس ذلك نجل الأوحد العلم ال ... سبط (الحسين) الذي ما مثله رجل؟ أعزَّ درة أهلِ الأرض قاطبةً ... وغن يكن قاتلوه عنه قد جهلوا سماه خير الورى عن إذن خالقه=وقال "إنه مني" أين من عقلوا؟ والله جل يحبُّ المخلصين له ... حبَّا كما قد أتى عمن له نقلوا وهو الشهيد الذي في كربلاء له ... بانت مفاخرُ صبرٍ ليس يحتمل نجل الإمام علي وابن (فاطمة) ال ... زهرا البتول التي آياتها مثل تلك المطهرةُ الغرا التي كرمت ... أرومة واغتدت بالفخر تكتمل تلك التي قرن الله رضاه بما ... ترضاه حيث سما منها له العمل أحبَّها خيرُ خلقِ الله والدها ... لزهدها ولفضلِ ليس ينفصل لها شمائل كمشيته الغرا ونور مح ... يَّاها وتلك من المختار تنتحل هاتي التي أخذت مهراً شفاعتها ... في المذنبين إذا أرداهمُ الوحل هاتي التي يوم تأتي الحورُ تكنفها ... سبعون ألفاً يروا من حولها ظلل ويأمر الله من في الحشر أجمعهم ... بخفضِ أرؤسهم أو تغضض المقل كيما تمر على ذاك الصراط ولا ... تراه إلا كبرق خطفه عجل مفاخرٌ ما حواها غيرها فلها ... أقيم قسطاس فخر دام يعتدل وهي التي حفظ الله بها عقب ال ... مختار في الأرض حتى دام ينتسل بها بدا الحسنان في سماء على ... كلَّ كواكبه بالفضل تكتمل بها قد امتد نسل الأشرفين إلى ... أقصى المشارق حيث الفضل يتصل بها يباهي رسول الله حيث غدت ... بنوه منها بهم يبقى له عمل ومن يكن خيرُ خلق الله والده ... له مراقي فلاح دونها القللُ وهاته بنته أكرمْ بها وبمن ... اضحوا لها خير أبناء با فضلوا شمس الكمال التي بانت مفاخرها ... غداة لاحت بنورٍ دام يشتعل لاحت من المطلعِ الميمون والدها ... أفق العلا من به قد تمّت الرسل (محمد) المصطفى المختار من نسب ... يسمو على الدر فخراً وهو منصقل السيد العروة الوثقى الذي كرمت ... له السجايا بفضل ما له مثل خيار من خير الله لهم كرماً ... بين البرية عنهم ليس ينتقل الطاهر النسب المرضُّي منذ بدا ... في الرض آدم وهو الآن متصل هذا الرسول الذي من نوره خلق الل ... هـ العوالم، يا فوز الألى عقلوا هذا الرسول الذي من قبل آدم قد ... حاز الرسالة حيث الفضل مقتبل هذا الرسول جميع المرسلين به ... قد بشَّروا مذ بدت من فوقهم حلل هذا الرسول الذي بشرت كتب ... به من الله لما جاءت المللُ هذا الرسول الذي قد أنذرت أممٌ ... به وقد أسلفتها الأعصر الأول هذا الرسول الذي في الجاهلية والإ ... سلام بانت له الآيات تتَّصلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 هذا الرسول الذي الإرهاص آذن من ... قدهاً تقدَّمه أن سوف يحتفل هذا الرسول الذي أهل الكهانة قد ... تحققوه وما عن نجمه غفلوا هذا الرسول الذي من معجزاته ما ... يتلى فلا يعتري قراءه المللُ هذا الرسول الذي قد تابعته وحو ... ش والحجارة والأشجار والظُّللُ قد عمَّم الله في الأكوان بعثته ... في الأرض أو في السما والكل ممتثل فكان رحمةَ كل العالمين سوى ... قومٍ طغوا فغدا طغيانهم ضللُ وكان اكرمَ خلق الله قاطبةً ... والكل من شرعه الجاري لنا نهلوا وكان فخر بنيه الأشرفين وهم ... أمان كلَّ الورى في الأرض مذ نزلوا يا فوز عقدٍ غدت تسمو جواهره ... بكل قرم شريف ساد من فضلوا إذ أنَّ سلسة الأشراف فيه غدت ... لها انتساق بنظمٍ دام يكتمل أسماؤهم نظمت فيه فكان له ... بهم أعز فخار ما له مثل إن كان عدَّهمُ يحيى فإني قد ... أحييت من ذكرهم نظماً به اشتملوا حرَّرتهم أيَّ تحرير سلكت به ... مشارعا طاب منها الشَّرب والعلل أحصيتهم من تواريخٍ ومن كتبٍ ... وعن بني بيتهم لازال يحتفل أتممت عدّهمُ بالمصطفى وبهِ ... سادت بنوه وآباء له أول فإنَّ نوره معروف بأوجههم ... إذ كان في طاهر الأصلاب ينتقل نورٌ بدا في محيّاهم، وكلُّهمُ ... في الجاهلية والإسلام معتدل حتى أفاده (عبدُ الله) (آمنة) ... وقد رأته لدى الميلاد يشتعل فقد رأت به ما قد ناء وانخفضت ... له النجومُ وعنه ارتدها الكلل وقد تداعى له الإيوان وانخمدت ... نارٌ وغاضت جفافا دونه المسلُ وقد أحاطت به الملاك تبصرهم ... مشمَّتين الذي في فضله رفلوا واستبشر الكلُّ من ميلاد احمد إذ ... فازت به أمه فوز الألى كملوا فليهنها ما رأت من يمن مولده ... وليهننا منه فضل دام ينسدل أكرم بها وبعبد الله والده ... وما غدا لهما من فضله يصل فخر لوالده أمسى وذاك نج ... ل (شيبة الحمد) من لله يبتهل أجرى بزمزم نفعاً لا نظير له ... أجراه ماءً به يجري له العمل لم لا وذاك (ابن عمر وهاشم) العلم ال ... رضى الذي عم نفعاً ربعه الخضل نجل (المغيرة) ذا نجل (قصي) وذا ... نجل حكيم كلاب) من به اعتدلوا ذاك ابن (مرة) نجل الشيخ وأعظهم ... (كعب) ابن فخر (لؤي) الأكرم الجلل نجل الرضا غالب ذا نجل جدهم ... قريش فهو الذي سادت به الأول ذا نجل (مالك) بن (النضر) نجل (كن ... نة) الذي لقراه الأمة ارتحلوا وأنه ابن (خزيمة) بن (مدركة) ... نجل الرضا (الياس) من قد ساد من فضلوا من صلبه سمعوا صوت النبي وقد ... صارت إلى حرم تهدى به البزل نجل الرضا (مضر) نجل (نزار) وذا ... نجل (معد) بن (عدنان) به كملوا هم الألى قد غدوا آباء سيَّد منْ ... في الكون يجري لنا من فضله العسل قد فاح من عدهم طيب يروق شذا ... ما فاز من نفحه بالجد منتضل هم الأسود و (إسماعيل) جدهم ... ذاك الرسول الذي طابت به الملل هذا الذبيح ابن (إبراهيم) رافع ما ... قد شاد بالحرم المحمي به الأمل شاد القواعد للبيت العتيق وقد ... كان الخليل الذي ما شابه خلل نجل النبيئين (شيب) نجل (آدم) من ... في الأرض قد بدئت من بعثه الرسل صلّى عليهم جميعاً رّبنا وعلى ... آل وصحب بحفظ الدين قد وكلوا فإنهم أصل خير الخلقِ أكرم من ... أبدى الصلاة عليه الكون والأزل وذا أعزُّ عقود نظَّمتْ فغدت ... بأهل بيت رسول الله تكتمل وسطاه خيرُ الورى المختار تكنفه ... أصوله وفروعٌ ما لهم مثل نظمتهمْ مخلصاً لله نظمهمُ ... كي يغتدي منه شملي الدهر يشتمل نظمتهم خدمةً للآل محتسباً ... فيها فحسبي منها ما اغتدى يصل نظمتهم أرتجي من حزم غيرتهم ... ما منه ينشط من قد ريء يعتقل عناية منهم ان يشملوا عملي ... بهأن فمني يفوز القول والعمل وإن تكن لي فيهم ذمة فأنا ... أرجو بها الفوز مهما طاب لي أمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 أرجو بها مخلصي يوم العماد إذا ... ضاق العباد وقد أضناهم الوجل وإنما ليَ في الدنيا بذكرهمُ ... تبتُّلُ حيثما تستعظم العلل نرجو بسردهم ثم الدعاءِ بما ... أملتهُ أن نرى بالفوز نغتلل إذ أن إكرامهم منه القبول لما ... ندعو به عندما لله نبتهل فجاههم خيرُ جاهٍ يستجار به ... عند المهيمن لا يرضى له المهل رب بجاههمُ كن لي وعذني من ... شر الشرور إذا ما أنفق الدغل ربّ بجاههمُ خذ بيدي فأنا ... مستضعف وعليك اليوم نتَّكلُ بجاههم وبجاه المصطفى وبجا ... هـ الأولياء نرتجي ما منه نكتمل نؤمل الدين والدنيا وآخرة ... بها ننال مفازاً حين ننتقل نرى السعادة في الدارين لي ولمن ... نرى مودَّته ما شابها خلل لا سيما منهمُ من كان لي عضدا ... في النائبات بنصري الدهر محتفل فأسبل إلهي عليه الحفظ ما طلعت ... شمس النهار التي نارت بها السبل وأنعم علي بما أنت الجواد به ... نعمى بها الآن يأوي شمسيَ الحمل وكنْ وليَّي وحسبي في الحوادث لا ... أخشى لها طارقاً يعرو به كسل واضرب علي من اللطف الخفي فسا ... طيط المعاناة حتى يذهب الوجل لطفاً وحفظاً يعم الأقرباء وأب ... نائي وأهلَ ودادي حيثما وصلوا وجاز عنَّي آبائي وشيعتهم ... وكلَّ أشياخنا خيراً بما عملوا وجد لنا بمنى التوفيق حيث نرى ... مسالك الرشد لا يعرو بها زلل وامنن علي بفتح العارفين فذا ... ورد شهي غدا من دونه العسل وارحم بفضلك ذلي إن ذنبي قد ... أضحى عظيماً وما أن قله جبل فتب علي وجد بالعفو عني إذ ... أصبحت ذا خطأ منه أنا خجلُ واغفر لنا ولكل المؤمنين على ... طول الدوام، فإن الفضل منهمل واجمع قلوب جميع المسلمين على ... مصالح الدين والدنيا إذا اعتدلوا وانصر جيوشهم بالرعب إنهم ... إن لم يكن لهم رعب قد انخذلوا وأرشد لنا أمراء المؤمنين إلى ... خير العباد الذي تبقى به الدول واقرن بكل صلاح ما يدبره ... مشيرُ تونس وهو الأحزم البطل وكن مسدَّد أعمالِ الوزير وشد ... مفاخر القطر كي تسمو به الحلل يا رب أنت رجائي في إجابتها ... بعاجلٍ لم يشبهُ الرد والمهل وبالصلاة على الهادي وعترته ... مع السلام دعائي اليوم يكتمل وقرظ هاته القصيدة العالم الأديب الشيخ محمد علي اليميني الهندي الوافد على تونس في ثاني ربيعي سنة ست وتسعين ومائتين وألف فقال: [البسيط] طلا كلامك من سقيته ثملُ ... فقل أخمرك مما مزجه العسل؟ وأنت للحمد أهل يا محمّده ... فالفضل لولاك جيد شأنه العطلُ لو كان للشعر ميدان، تجول به ... فرسان خيل فأنتَ الفارس البطل فعش محمد واسلم واحي وابق ودم ... وقد أحاطت بك النعماءُ والجذلُ ثم الصلاة على طه وعترته ... فكالسوام الورى لولاهمُ هملُ وقرظها الشاب الوارد من مشرع النجابة أعذب موارده، المتواصل الفضل بجديه ووالده، الذي اشتهر بيته النبيه، وتجملت اليوم خطتا القضاء والفتيا بعمه وعم أبيه الشيخ محمد ابن العالم الشيخ الطيب النيفر بأبيات هي أول ما رأيت من شعره وعمره نحو العشرين سنة نرجو من الله أن يرينا هلاله مقمرأن وهي: [البسيط] بمثل نظمك هذا يضرب المثل ... ويركب الصعب كي يرواه والذُّللُ ويرتجى كل مرمى شطَّ مطلبه ... حتى لقد تركت من عزه الحيلُ لئن غدا الشعر قد حالت مذاهبه ... بقصدكم قد تحلى جيده العطلُ علمت أن امتداحَ الآل غاية أد ... نى ما يجازى به في طيه الأمل وبئسما استبدل النحريرُ عارفة ... تدوم منها بنزر دونه الأجل فما تريثتَ أن أبرزتَ غانيةً ... في مدحهم ولها الإبداع مشتمل يمل كل قريض ما عداها فما ... يعرو مسامعنا إن أنشدت مللُ كأنما في قبول نسقت فبها ... عن كل مثلٍ لها أهل النهى شغلوا لازلت في همة فوقٍ السَّماك لها ... من فخركم ومعلى قدركم ظلل ولا تزال ترينا خردا غليت ... لمثلها ما اهتدت من قبلكم أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 من كل عذراء لم تطمثْ يحللها ... بيان سحرك لحفا قدره جلل تدير كأساً على أسماعنا فنرى ... كأننا من سلاف كلُّنا ثمل وقرظها الأكتب النحرير الشاعر المؤرخ الشيخ محمد الباجي المسعودي رئيس كتبة القسم الثاني من الوزارة الكبرى المتوفى مساء الثاني عشر من شوال سنة سبع وتسعين ومائتين وألف عليه رحمة الله بما نصه: [الوافر] نظامك أيها العلم السَّنوسي ... بفضلِ الآلِ تاجٌ للرؤوسِ يفوقُ وحقكم عقد اللآلي ... ويعلقُ حين ينشد بالنفوس فقد أبدعتَ إذ أودعت فيه ... مفاخر للفروع وللأسوس وصرت وقيت حسانا وكعباً ... وهمَّامّا بذا العلق النفيس جزاك الله احسن ما يجازى ... به من أذكر اللّذ قدْ تنوسي سيدي الآوي من ظل البلاغة إلى وارفه، الملتحف بتلاد المجد وطارفه، الساحب على أقرانه ذيل مطارفه، سليل العلماء الأعلام، ومشايخ الإيمان والإسلام، نابغة الزمان، لا بني ذبيان، وحسان أهل البيت المشهود له بالإحسان، منشي الرائد التونسي، الشيخ سيدي محمد السنوسي، أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، وبعد سلام يناجيكم ل فه وإحسانه، ويناجيكم بالمبرة والمسرة لسانه، فقد وصلني من بركم المترادف الألطاف، "الأجنة الدانية الاقتطاف، بمفاخر سلسلة السادة الأشراف"، فسرحت الطرف في رياضها فسعى وطاف، واقتطف من ثمراتها الدانية القطاف، فقال وأقسم بالآل، إنها احسن من عقد اللآل، لما حوته من مناقب السادة الذين هم أمان لأهل الأرض، كما قاله سيدنا محمد المشفع يوم العرض، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أقيم من واجب حقهم الفرض، وهنيئاً لكم بما خطر من هذا المهيع الوحيد بالبال، ونظمه دراً نفيساً في جيد الأيام والليالي، وبقاء ذكركم به إلى بقية الأجيال، ومن علامات القبول والإقبال، ظهوره في أيام مولد سيدنا محمد سيد الإرسال، صلى الله عليه وعلى آله الذين اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما قال، ولو لك يكن شكر المنعم من الواجب ما أعلمت في تقريظه الرواجب، إذ حسنه واضح جلل، والشمس تكبر عن حلي وحلل، تقبل الله تعالى سعيكم، ووالي حفظكم ورعيكم، وآنس هذا القطر التونسي بكم وبمثلكم، وأحسن للجميع العقبي، وجعلنا منت أهل المودة في القربى، بمنه وفضله، حرره ودودكم محمد الباجي المسعودي في 10 ربيع الأنور سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف. الملاحق ملحق (1) مشيخة المدينة بتونس . ملحق (2) عهد الأمان. ملحق (3) ثورة علي بن غذاهم. ملحق (4) الكومسيون المالي. ملحق (5) المجلس الشوري. ملحق (6) تتمة للمقدمة تتضمن تاريخ تونس من 1297 إلى 1376 هـ?، ومن 1879 إلى 1957 م. ملحق (7) تاريخ تأسيس جامع الزيتونة. ملحق (1) مشيخة المدينة بتونس المجلس البلدي لما تأسس في سنة 1275 كان نظره مقتصراً على ما ضمه سور الحاضرة من المساكن والطرقات. ثم نظمت الإدارة البلدية سنة (1302) فاتسع نظرها وشمل العقارات البلدية، ولوائح إصلاح البناء، وإحداث الشوارع العامة والخاصة ومعاليم الطرقات، والأسواق، ومحلات التفسح، والدفن، والمواليد، ومصلحة الإطفاء، إلى غير ذلك مما هو من مهمات البلد. وكانت البلدية خاضعة للوزير الأول، وهي الآن خاضعة لوزير الداخلية. وهذه أسماء مشايخ المدينة في العهد الحسيني وعهدنا الحاضر عهد الاستقلال. اسم الشيخ تاريخ ولايته الشيخ حميدة الغماد 1207 الشيخ حمودة العصفوري 1239 الشيخ محمد العصفوري 1265 الشيخ الحاج عميرة ثابت 1271 الشيخ محمد الزهار 1279 الشيخ إسماعيل معاوية 1281 الشيخ الحاج حميدة سيالة 1284 الشيخ الشاذلي الدلاجي 1285 أمير اللواء محمد الدلاجي 1288 أمير اللواء محمد العصفوري 1302 أمير الأمراء محمد الصادق غيلب 1320 أمير اللواء مصطفى دنقزلي 1330 أمير الأمراء خليل بوحاجب 13331915 أمير الأمراء الشاذلي العقبي 13451926 أمير الأمراء علي السقاط 13511932 أمير الأمراء عبد الجليل الزاوش 13531934 مصطفى صفر 13541945 محمد سعد الله 13601941 العزيز الجلولي 13611942 الشاذلي حيدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 13621943 أحمد الزاوش 13761956 علي البلهوان 13771967 أحمد الزواش ثانياً 13781958 حسيب بن عمار 13831963 فؤاد المبزغ 1389،1969 عز الدين العباسي 13931973 حسن الممي 13951975 صالح عويج 1978 زكرياء بن مصطفى 1980 وكانت رئاسة البلدية منفصلة عن مشيخة مدينة تونس حين تاسس المجلس البلدي. وأول من تولى رئاسة المجلس البلدي الجنرال حسين 1275 1858. محمد قارة 12821865 محمد العربي زروق 12861869 حسونة المتالي 12981880 حسونة الوزير 13001882 محمد المبزع 13011883 وبقت كذلك منفصلة إلى أن تولى محمد العصفوري مشيخة المدينة فإنها جمعت له مع رئاسة بلدية تونس. ثم استمر الحال على أن شيخ مدينة تونس هو رئيس بلديتها. واللواء محمد العصفوري الذي جمع بين الأمرين تولى إثر الحوادث التي آلت إلى عزل الشاذلي الدلاجي. ملحق (2) عهد الأمان (1274 1277 1280) عهد الأمان اجمل القول فيه المؤلف عكس الشيخ الوزير ابن أبي الضياف فإنه تحدث عن عهد الأمان وعن سببه الذي دعا الأمير إلى إعلانه، وقد بسط فيه القول اعتناء به، ومن عنايته بعهد الأمان انه سمى كتابه: (بإتحاف أهل الزمان، بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) . فهذه التسمية المعنون بها الكتاب تدل دلالة واضحة على ما للشيخ الوزير ابن أبي الضياف من عناية بعهد الأمان. ومن المتأكد أن نذكر باختصار أسباب إصدار قانون عهد الأمان لن المؤلف هنا يذكر أنه أصدره تلقائياً حيث يقول: ولما مهد السبل أصدار عهد الأمان. وجلية الأمر في إصداره هي قضية مقتل اليهودي المسمى باطو الذي كان يخدم على كرطون ينطقها أهل تونس بفتح الكاف والراء وضم الطاء الممدودة وهي الكريطة والمتعارف الآن كريطة للقائد نسيم رئيس اليهود بسبب شتمه لمسلم وسب دينه وكان اليهودي بحال سكر، وقد اعتاد ذلك. وكان قتله من الباي تنفيذاً لحكم المجلس الشرعي الذي حكم بقتله بدون استتابة على مقتضى المذهب المالكي وحكم عليه بالإعدام رغم تدخل القنصلية الفرنسية في القضية. وبعد مقتل اليهودي أتاه القنصل ليون روش وحذره من مغبة استبداده بالحكم فجعل مجلساً للجنايات بدون إحداث قانون لذلك. فلم يرض عمله هذا اليهود بباريس فهاجوا وماجوا ورفعوا أصواتهم بالشكاية. فأنتجت دعايتهم ضد الحكومة التونسية قدوم قطع من الأسطول الفرنسي والتهديد بقدوم قطع من الأسطول الإنكليزي الذي بمالطة، وهدد القنصل الإنكليزي بقدوم الأسطول العثماني. فاضطر الباي تحت هذا التهديد إلى إعلان قواعد عهد الأمان وهي إحدى عشرة قاعدة وتلي هذا العهد بالسراية الكبرى بباردو. وكان ذلك في 20 من المحرم سنة (1274) الموافق للتاسع من سبتمبر سنة (1857) فهذا هو سبب إصدار عهد الأمان. وذكر الوزير ابن أبي الضياف ما دار حول قانون عهد الأمان من (ص231 إلى ص249 من ج?4 من الإتحاف) . المشير محمد الصادق باشا باي وعهد الأمان: أجمل المؤلف إتمام عهد الأمان في مدة المشير الثالث في فقرة من أقصر الفقر فيقول: (وأعمل الحزم في إنجاز مشروع أخيه بإتمام القوانين المبينة على عهد الأمان وجمع لها خاصة العلماء والأعيان فاستكملوا وضعها واجملوا صنعها) . والموضوع طويل الذيل من أهم الأحداث بتونس كما ذكرنا سابقاً وقد تحدث عنه الشيخ الوزير ابن أبي الضياف. بأن المشير الثالث محمد الصادق باي افتتح البيعة له بالإمارة بالتعهد بالتزام عهد الأمان ونصحه الوزير النصوح بأنه إذا لم يتعهد بذلك جر إليه غضب الدولة العلية وسائر الدول التي دعت إلى العمل بعهد الأمان. وذكر نصه كما ذكره الشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم: تبارك من جعل الأمان أقوى أسباب العمران، والصلاة على سيدنا محمد وأله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 أما بعد فيقول العبد الفقير لربه المشير محمد الصادق باشا باي وفقه الله لما يرضاه، وأعانه على ما أولاه: أني أقبل البيعة من الأعيان الحاضرين على مقتضى ما وقع الالتزام به في العشرين من محرم سنة 1274 أربع وسبعين ومائتين وألف من المرحوم المقدس أخينا المشير سيدي محمد بالفتح باشا باي، وهو عهد الأمان لسائر السكان على الأعراض والأموال والأبدان، وما حواه من القواعد اللوازم وأركان وحلفت وأحلف بالله وعهده وميثاقه على مقتضاه، وأن لا أخالفه ولا أتعداه. وهذا الكلام صدر مني ونقله الناطق به عني وختمي وخطي فيه أقوى شاهد وأوضح إعلان، لكلمن حواه الديوان، ولسائر الرعية والسكان. وعلى مقتضاه عليكم السمع والطاعة، ويد الله مع الجماعة. حرر يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة (1276) . افتتح بيعته بهذا العهد يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة (1276) حين اجتمع بالمجلس الشرعي ووجوه الحاضرة ورجال الدولة واعيان العسكر وخرج للبيعة في آل بيته وألقى عليهم نص العهد المذكور وبعد تلاوته بدأت البيعة، فبايعه أهل المجلس الشرعي، وهو قائم، ثم جلس وبايعه كل الحاضرين وهو جالس على كرسيه على اختلاف طبقاتهم. الحرص على إتمام قانون عهد الأمان: تصفح المشير الثالث أعمال المجتمعين لتحرير فصول قانون عهد الأمان وترتيبه، وحرضهم على الإطلاع على قوانين الدول مع الحرص على عدم مخالفة الشريعة. وقد انفصل العلماء عن المشاركة في التحرير المذكور، ولامهم في تاريخه الشيخ الوزير ابن أبي الضياف ملقياً عليهم تبعة عدم مشاركتهم في هذه المصلحة فقال: وليت شعري ما أعد العلماء من الجواب بين يدي الحكم العدل، العالم بخائنة العين وما تخفي الصدور عن تجنفهم وتباعدهم عن هذه المصلحة الضرورية متعللين بأنها لا تناسب خططهم الشرعية في العرف، والحال أن الشريعة جاءت لمصالح الدنيا والدين وأوقعوا بهذا التجنف وصمة في وجه البلاد ونفرة بينهم وبين أهلها (الإتحاف ج?5 ص38) . إن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف حملة سببها بعض العلماء المتصدرين من بعض أهل المجلس الشرعي دون غيرهم، فهناك كثرة من العلماء شاركوأن ففي مجلس التحقيق شارك: الشيخ محمد الشاهد شيخ الجماعة فإنه كان من أكابر أئمة الدين. والشيخ حميدة بن الخوجة الذي تولى مشيخة الإسلام وكان من نبغاء العلماء. والشيخ محمد الستاري. والشيخ محمد النيفر المفتي المالكي العلامة النحرير. والشيخ حسونة عباس المفتي الحنفي. وتركيب مجلس التحقيق كله من العلماء المذكورين، وغنما كان رئيسه من غيرهم وهو إسماعيل صاحب الطابع. والسبب في ذلك أن رؤساء المجالس كان اختيارهم على قاعدة أن لا يكون من أهل البلاد لارتكاز الحكومة على غيرهم نظراً إلى أن الدولة ترتكز على صنائعها من المماليك والأصهار أما بقية الشعب وإن تقدموا علماً وتفكيراً فهم لا حظ لهم إلا إذا اضطر إليهم. وكذلك الحال في مجلس الجنايات فإن تركيبه من العلماء ومنهم الشيخ صالح النيفر أحد أفذاذ العلماء كما يقوله الشيخ السنوسي في ترجمته. والشيخ احمد كريم الذي تولى مشيخة الإسلام. والشيخ محمد المازري ابن الشيخ محمد الطاهر بن مسعود. والشيخ الجد محمد الطاهر ابن الشيخ العالم محمد النيفر القاضي العلامة النحرير أحد قضاة العدل الأفذاذ. والشيخ محمد ابن الشيخ المفتي حسين البارودي. والشيخ محمد الشريف أحد العلماء الوجهاء. وكذلك انضم إلى المجلس الكبير من العلماء: الشيخ عمر بن الشيخ الذي تولى الإفتاء. والشيخ سالم بوحاجب أحد نبغاء العلماء، وقد تولى رئاسة الإفتاء. والشيخ الطاهر بن عاشور العلامة المؤلف والذي تولى القضاء والإفتاء. والذي دعا الشيخ الوزير ابن أبي الضياف أن يحمل على العلماء ويقول: (ما اعد العلماء من الجواب بين يدي الحكم العدل العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عن تجنفهم وتباعدهم عن هذه المصلحة الضرورية متعللين بأنها لا تناسب خططهم الشرعية في العرف، والحال أن الشريعة جاءت لمصالح الدنيا والدين وأوقعوا وصمة في وجه البلاد ونفرة بينهم وبين أهلها) هو امتناع الشيخ محمد بيرم الرابع شيخ الإسلام فإنه يحمله تبعة الامتناع وكذلك المشايخ: أحمد بن حسين باش مفتي المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ومحمد بن الخوجة المفتي الحنفي. ومحمد البنا المفتي المالكي. إن صاحب الإتحاف انتقد على شيخ الإسلام المذكور بأنه كان أسرع الحاضرين للإجابة مستنداً إلى الغضب الذي لا قدرة لنا على دفعه. ثم قال: وهو المشار إليه في تعاريب مكاتيب الوزير وهو وزير الأمور الخارجية بفرنسا من الذين بمشورتهم لأمور غير صالحة، وأوقعوا له الاختبال في عقله كم مرة، (الإتحاف ج?4 ص239) . وقد ذكر صاحب الإتحاف محاورة دارت بينه وبين شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع: فقلت له ان القوم لم يصرحوا بالغضب، ولا آذنوا بحرب وإنما نصحوا. فقال (أي شيخ الإسلام المذكور) : نخشى الغضب من الدولة العلية وأصول التنظيمات لا تخالف ديننا (الإتحاف ج?4 ص239) . ثم إنه بعد ذلك يشير إلى امتناع الإسلام: (تلكأ الشيخ محمد بيرم شيخ الإسلام عن الحضور لأمر يعلمه الله فقال له الباي: قد أفتيتنا بالقبول من أول الأمر وأن التنظيمات الخيرية لا تعارض ديننا فما بالك تمتنع من الحضور الآن وألزمه الحضور. وتحدث صاحب الإتحاف عن شيخ الإسلام كيف قبل ما جاء من تفسير القاعدة الأولى من عهد الأمان وهي: تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على الأديان والأسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأعراضهم المحترمة إلا بحق يوجبه نظر المجلس المجلس بالشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن، أو الإذن بإعادة النظر. فنقل عن شيخ الإسلام أنه قال: يمكن لي أن أخطب يوم الجمعة بشرح هذه القاعدة الأولى المذكورة. وفي هذا الجو الذي أقبل فيه أهل المجلس الشرعي على تفسير القواعد الأصولية بعهد الأمان أمر الوزير المصلح خير الدين الفقهاء الحاضرين أن يكتب كل واحد منهم على قواعد عهد الأمان ما يراه ويدين الله به، فأجابوه لمطلبه لما رأوا من توقد فكرته، وكمال فطنته، فكتبوا وتقاربوا في المرمى على قوس واحدة. وجلى شيخ الإسلام فيما كتبه بشهادتهم ولولا الإطالة لنقلنا ذلك. ? استقالة الفقهاء من مجلس شرح قواعد عهد الأمان بعد مشاركة أولئك الفقهاء الأربعة طلبوا الاستعفاء متعللين بأن مناصبهم الشرعية وما عليهم من مهمات يجب القيام بها لا يمكن الجمع بينها وبين علمهم في المجلس المذكور. وآخذهم صاحب الإتحاف في قصرهم أنفسهم على وظائفهم الشرعية. وكان الظن بهم تقديم هذه الطاعة المتعدية على غيرها من الطاعات القاصرة. وتعللوا بأن منصبهم الشرعي لا يناسبه مباشرة الأمور السياسية إلى غير ذلك من المعاذير التي لو لم نرها ما نقلناها. وقبل الباي عذرهم، وأرواحهم من تعب الحضور، ولسان حال المسلمين بهذه الإيالة المسكينة يقول: وما يجب اعتقاده أن الله الذي دينه النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن أوامره الواجبة على عباده تغيير المنكر ولو بالقلب، ومن شريعته المسحة ارتكاب أخف الضررين عند العجز عن السلامة منهما إلى غير ذلك من تيسير هذه الشريعة الصالحة لكل زمان، يسألهم عن ذلك يوم تبلى السرائر، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم) . لعل له عذراً وأنت تلوم حمل الشيخ الوزير احمد بن أبي الضياف العلماء كلهم مغبة عدم المشاركة في تحرير شرح قواعد عهد الأمان مع أن الممتنعين قلة وهم الأربعة: الشيخ محمد بيرم الرابع. والشيخ احمد بن حسين. والشيخ محمد بن الخوجة. والشيخ محمد البنا. أما الكثرة من العلماء فقد شاركت لما قامت المجالس المنبثقة عن تطبيق عهد الأمان بالأخص الشيخين وهما: محمد الشاهد. وصالح النيفر. كما أن شيخ الإسلام الرابع كان من أعضاء مجلس الباي الذي جعله لخاصة نفسه للنظر فيما يحرره مجلس شرح قواعد عهد الأمان. فالعلماء لم ينفضوا أيديهم من هذا المجلس، وإنما امتنع بعضهم من مجلس خاص وهو المجلس الذي يرأسه الوزير مصطفى خزنه دار. ومن القريب جداً أن امتناع الإسلام محمد بيرم الرابع كان من أجل انه لم يوافق على أن يكون مرؤوساً للوزير مصطفى خزنة دار لأن الوضع كان في تونس أن شيخ الإسلام يقدم على الوزراء، وكذلك بقية أهل المجلس الشرعي. ويدل على تقديم أهل المجلس على سائر رجال الدولة أن المكتوب الذي عين فيه الباي رجال المجلس المذكور قدم أعضاء المجلس الشرعي. وهذا نصه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أمرنا هذا للعلماء الأعلام الفقهاء الأعيان، الجلة الفضلاء من أهل مجلسنا العلي: شيخ الإسلام سي محمد بيرم. والشيخ سي احمد بن حسين باش مفتي المالكية. والشيخ سي محمد بن الخوجة المفتي الحنفي. والشيخ سي محمد البنا المفتي المالكي. والوزراء الأعيان النصحاء الأركان أولي الرفعة والشان. أبننا الأعز ووزير العمالة مصطفى خزنه دار. ووزير الحرب أمير الأمراء ابننا مصطفى باش آغة. ووزير البحر ابننا خير الدين. والوزير الأحظى أمير الأمراء ابننا إسماعيل صاحب الطابع. والأحظى أمير الأمراء ابننا محمد بالفتح أمير الأعراض. وكاتب سرنا أمير اللواء محبنا الشيخ سي محمد بن أبي الضياف، حرس الله جميعهم واحسن صنيعهم. وإننا أمرناهم بالاجتماع في دارنا بالقصبة يومين في كل أسبوع، وهما الأربعاء والخميس للتفاوض في شرح الفصول المسطرة في عهد الأمان. وكل واحد يتكلم بما يدين الله به على مقتضى آداب البحث في الأدلة وإيضاحهأن ولا يخجل من لا تنهض حجته فالحق أحق بالاتباع. وأمرناهم قبل ذلك بقراءة ما رتبه الدولة العلية العثمانية وغيرها من الدول ليجروا التراتيب على ما يصلح بلادنا بعد استفتاء من ذكر من العلماء فيما تتوقفون فيه من الأمور وترفعوا إلينا عمل كل اجتماع لننظره ونمضي ما عليه أكثر رأي الجماعة. ولا يلزم الفقهاء المذكورين الحضور إلا يوم الأربعاء لاشتغالهم يوم الخميس بالمجلس الشرعي بدار الشريعة والله تعالى ولي إعانتهم وتوفيقهم على هذه المصلحة التي يعم نفعها بحول الله، والسلام. وكتب في 16 أشرف الربيعين. فلما رأى أهل المجلس الشرعي تقدم الوزراء عليهم أنفوا من الجلوس في مجلس يترأسه الوزراء المماليك. وزاد الطين بلة أن هناك عداوة بين وزير العمالة صاحب النفوذ الوزير خزنه دار وبين شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع وعداوته شبيهة بعداوة الوزير المذكور مع إسماعيل السني صاحب الطابع فوجود شيخ الإسلام في مجلس يترأسه من يتربص به الدوائر دعاه إلى أن يستعفي هو وبقية أهل المجلس الشرعي المالكية والحنفية. وحسناً صنع شيخ الإسلام فإنه لو بقي معه في ذلك المجلس لاشتدت العداوة بينهما ولأفضت إلى ما أفضت إليه عاقبة الوزير إسماعيل السني الذي سعى أولاً إلى إصدار أمر الباي بإقامته الإقامة الجبرية، ثم سعى في قتله في بضع دقائق مع أمير المراء رشيد وزير الحرب. فشيخ الإسلام يخشى عاقبة كعاقبة هذين الرجلين السني والرشيد. فالعلماء المستعفون من المجلس المكلف بإرساء قواعد عهد الأمان على علم لبعد أنظارهم بأن العهد الممنوح غنما هو منح اضطراري أدت إليه حادثة قتل اليهودي المتجرئ على الإسلام بشتم دين أحد المسلمين. فالباي الأمير والكثير من حاشيته هو أهم في عدم وجود عهد الأمان، ولذلك لما وقعت ثورة علي بن غذاهم ارتكز عليها وزير العمالة وأبطل العمل بعهد الأمان، فهم على بينة من الأمر بأن العمل به كان تحت ضغط الدول الأجنبية. ومن أعذار الاستعفاء: أن تشكيل المجلس للنظر في إرساء قواعد عهد الأمان كان تشكيلاً غير متناسق فيما بين أعضائه إذ منهم الفقهاء الذين لهم مرانة سياسية مثل شيخ الإسلام بيرم الرابع الذي له اتصال بالأمراء واطلاع على خبايا نفوسهم فقد كانت له مصاهرة مع الباي المشير الثاني. ومنهم فقهاء تطبعوا بطبيعة الفقهاء في التزام النصوص الفقهية مثل شيخ الإسلام المالكي أحمد بن حسين الذي هو من العلماء الفقهاء الممتلئين فقهاً ولهم محافظة شديدة على النصوص الفقهية. وعى هذا الغرار المفتي الحنفي الشيخ محمد بن الخوجة فإنه من فقهاء الحنفية. وأما المفتي المالكي فهو من أهل الورع الشديد والبعد عن رجال السياسة حتى أن الأمير المشير الثالث لما أراد إعانته على بناء داره امتنع من اخذ أي شيء مع الفقه البارع وهو الشيخ محمد البنا. فهؤلاء الفقهاء كان انسحابهم من مجلس الإرساء عن روية وعن معنى خاص أدركوا به أن عملهم سوف لا يثمر لأن الاتجاه الحكومي من قبل الوزارة مراميه بدأت تظهر حين تلك الاجتماعات وهو ما جعلهم بعد أن انظموا إليه استعفوا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ثم إن الأفكار كانت غير متقاربة بل متباعدة غاية البعد لأن التشكيلة من حيث الفقهاء كما ذكرنا قابلتها تشكيلة أخرى بعيدة عنها كل البعد، وهي تشكيلة سياسية متبصرة في بعض رجالها وهو الوزير خير الدين وتشكيلة أخرى نظرها في السياسة نظر مبني على معرفة قاصرة غير متمكنة من الدين كما أنها غير متمكنة من السياسة التي ظهرت في العالم الحديث. فالفقهاء موقفهم حرج لأنهم أمام نظريات ليست من صميم الإسلام فلهذا نزعوا أيديهم من المجلس المذكور، فلو أنهم لا يريدون خدمة المصلحة العامة لما دخلوا أول مرة وغنما بدا لهم ما كانوا متخوفين منه. بدت لي هذه النظرية بأنها هي الداعي الأصلي للانسحاب ثم وجدت ما يؤيدها من قبل الشيخ بيرم الخامس في كتابه صفوة الاعتبار حيث ذكر: ثم عقد الوالي مجلساً رئيسه الوزير مصطفى وزير العمالة وأعضاؤه: مصطفى آغة وزير الحرب. وخير الدين وزير البحر. والوزير إسماعيل السني. والوزير محمد. وكاتب أسرار الوالي أمد بن أبي الضياف. وأذنهم باستخراج أحكام سياسة تدور عليها أعمال الحكومة واستخراج أحكام فرعية في الحقوق الشخصية يجري بها الحكم في القطر. وأذن أن يكون شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع أحد أعضائه فامتنع من الحضور دون مشاركة من العلماء الحنفية والمالكية. واستقر الرأي على إضافة: الشيخ محمد بن الخوجة المفتي الحنفي. والشيخ احمد بن حسين رئيس الفتوى في المذهب المالكي. والشيخ محمد البنا المفتي المالكي. وهؤلاء الأعلام الأربعة هم أكبر علماء العصر إذ ذاك. فحضروا أولاً ثم امتنعوا بأن كتب كل واحد منهم شرحاً منفرداً على الإحدى عشرة قاعدة المار ذكرها أبدوا فيها الأحكام الشرعية المطابقة لتلك القواعد، واقتصروا على ذلك متعللين بأن الذي بدا لهم من مغزى الجماعة هو الميل البحت للسياسة الساذجة من غير التفات إلى محاذاة الشرع بل ربما عرض ما يصادم القواطع. وحيث كان عمل المجلس على ما يستقر عليه الرأي الغالب لم يأمنوا أن يسند إلى المجلس ما يخالف الشرع، ويحمل على عاتقهم، وهو الذي تبين لكل من الفريقين فيما بعد ولدت الليالي من أن الصواب في غير مسلكه على ما يتحرر إن شاء الله تعالى في الخاتمة. حملة في غير موضعها: تبين بما ذكرنا وما نقلنا أن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في غير موضعها. أما أولاً فلما ذكرنا من أنها مقصورة على بعض أهل العلم وهم قدماء أعضاء المجلس الشرعي وأما غيرهم فانضموا إلى هذا المجلس، بل كان بعض المجلس متركباً منهم دون غيرهم غلا في رئيسه كما أسلفنا. وأما ثانياً فإن انسحابهم من المجلس الشارح لقواعد عهد الأمان يرجع إلى انهم بدا لهم أن الأغلبية ترمي إلى جعل فصول للحكم في بعضها ما لا يمت إلى الشريعة السمحة. فاستغلال سماحة الشرع المنيف لا تؤدي إلى تحلل من نصوصه القطعية حتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله. فهم لا يريدون أن يتحملوا تبعة ذلك فلذلك اكتفى رئيسهم شيخ الإسلام بأن يكون في مجلس الأمير هو الغربال لما يقنن من فصول. عالم الأدباء وقانون عهد الأمان لو كان العلماء متبرئين من عهد الأمان مغلبين للمصلحة القاصرة على المصلحة العامة أما أنشد العلامة الشريف محمود قابادو قصيدته الشهيرة في عهد الأمان منوهاً به، ومعرفاً بأنه من صميم الدين التي يقول في طالعها: العدل عهدُ خلافة الإنسانِ ... ومداد ظل الأمن والعمران وتمدُّنُ البشر اقتضى إيلافهم ... فتعاضدوا من دائن ومدان وتطامحُ الخلطاء لاستبدادهم ... بالقتل داعيهم إلى العدوان فتقرُّر السلطان ضربةُ لازب ... لنظامهم بالعدل والإحسان افتتح عالم الأدباء الشيخ قابادو قصيدته هذه بهذه الأبيات الأربعة منبهاً على ما ذكر ابن خلدون في مقدمته من أن الإنسان مدني بالطبع، واشتباك المصالح مؤد إلى اعتداء البعض على البعض فلا بد من سلطة تمنع المعتدين وتكف ضراوة الضارين فهي مقدمة لرأيه في عهد الأمان. وأشار فيها إلى أن السلطان ليس قوة قاهرة بل هو سلطة رحمة وإحسان. فما أتى به ابن خلدون في مقدمته في الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري أتى به أديب العلماء بلا منازع العلامة الشريف محمود قابادو في تلك الأبيات النزرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وهذا ما يدل على أن الفقهاء من التونسين كانوا على جانب عظيم من علم الاجتماع متأثرين بسلفهم العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون (-808) فكلهم من فبضه يغترف، ومن مناهله يرتشف، فعلماء تونس الفقهاء كانت معرفتهم الاجتماعية تؤهلهم للنظر البعيد وللتفقه في الدين التفقه الصحيح، فما يرميهم به الرامون غنما هو لمرض في النفوس وحسد كامن في القلوب. وقصيدته هذه أتى بها المعروف في ديوان محمود قابادو الذي اعتنى بجمعه وطبعه سنتي (1294 و1295 هـ?) . وقد ضمنها الكثير من إنشاء المجالس لعهد الأمان ومن أبدعها قوله: قانون عدل صادق عال سمت ... أساسه رجبا على آسان 1277 ونقل عيونها الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان في الجزء الخامس صفحة 46. ومن نصيحته الشيخ قابادو لأهل المجلس قوله مخاطباً أعضاء المجالس: هذي رئاستكم وعزة مجدكم ... نيطت بكمْ يا معشر الأعيانِ وإلى أمانتكم وحسن وفائكم ... وكلتْ وغيرتكم على الأوطان ولتعلموا أن الوفي لنفسه ... يوفي ومن ينكث عليها جاني والله ليس مغيراً إنعامه ... حتى يغيره ذوو الكفران وتيقنوا أن الذي غلب الهوى ... والنفس يغلب كل ذي سلطان هذا وإن الصادقية دولة ... خصت بتأييد من الرحمان لما رأت مصباحَ شرعِ محمد ... بترعب الهواء ذا خفقان جعلت له القانون يشبه زجاجة ... لتقيه هب عواصف الطغيان فتدارسوه لما علمتم بينكم ... عودا على بدء بغير توان والله يشملنا ويشمل جمعكم ... بالعون والتوفيق والغفران وبعد أن ذكر الشيخ الوزير صاحب الإتحاف أبياتاً من هذه القصيدة عليها بقوله: وهذه الغانية على طولها أقصر من ليالي الوصال، وأعذب ما سمع من المقال، لو لم يأت بعدها ما ينافيهأن والحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع، ومن اعظم الذنوب تحسين العيوب، "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" الشعراء 124 125. يقصد الشيخ الوزير الذي أتى بعد قصيدة الشيخ قابادو في مدح عهد الأمان قصيدته التي هنأ فيها المشير الثالث حين اخمد ثورة علي بن غذاهم. وهي التي يقول في مطلعها: سما للعلا يقظانُ عين حديدها ... فهيهات بعد اليوم تعدى حدودها أضلّ عقاب الحزم أرجاءها كما ... أضل عقاب البأس فيمن يكيدها ويقول فيها: فيا ويحها من عصبةٍ قد تهافتت ... على نار بغي ما سواها وقودها ولا شك انه يقصد قوله فيها: وإن فداء الكل بالبعض سنةٌ ... تواتر من شرعٍ وطبعٍ شهودها وقد كان جلد البعض زجراً وأهدرت ... نفوس بجلد الزجر فاد جليدها أليس من التعزيز وهو مناهجٌ ... تناط إلى رأي الإمام حدودها وقدماً قضى سحنون في الدين ضارباً ... مراراً قضى نحبَ المدين عديدها وأما عقاب المال فهو موسعٌ ... إذا عودت منه بشيء يعيدها بحيث إذا لم تمتهن باستلابه ... رأت شوكة السلطان فلَّت حدودها على انه قد كان حط من الجبا ... وإعوازُ بيت المالِ ممَّا يعيدها فهذه الأبيات فيها تبرير من الشيخ قابادو لأفعال الأمير في التعذيب والمطالب المالية المجحفة التي وضعت على رجال الثورة. والشيخ قابادو لا أظن أن الحامل له الطمع كما يقال الشيخ الوزير وإنما حمله على ذلك أن هذه الثورة لو تمت لأتت على الأخضر واليابس والبلاد في حال ضنك تشتكي العجز. فنظرته البسيطة هي التي أدته إلى أن يبرر تلك الفعال، ولو نظر نظرة عميقة مثل نظرة الشيخ الوزير لما برر تلك العمال. ثم إن تلك الثورة تسبب فيها سوء الإدارة والإسراف المالي المجحف المؤدي إلى نضوب الخزانة المالية مع التصرف الذي لم يكن على قاعدة ومع جولان الأيدي في أموال الحكومة. وعلى كل فالشيخ قابادو يشيد بعهد الأمان، وإنما يرى أن الفوضى مؤدية إلى الانهيار فموقفه ليس موقف طمع لأنه كان الناس بالزهاد فحياته حياة الذين لا يعتنون بالمال. وشاركه في الإشادة بعهد الأمان علامة أديب شاعر وهو الشيخ أحمد كريم الذي تولى الإفتاء وكان من مشايخ الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وأشار الشيخ احمد كريم إلى أن الشرع نادى بما جاء به عهد الأمان في قوله: تيقَّن أن العدلَ أبقى لملكه ... فأضحى لطرق الجور ينسفها نسفاً أمولاي قد عاهدت عهداً مؤمناً ... فأوفيت في عهد الأمان ومن أوفى؟ وأمّنت أهلَ القطر من كل ضائر ... ولولا وجوب الحتف أمتنا الحتفا جعلت أساس العدل فيهم أمانهم ... على العرض والأبدان والمال مستوفى وسويت في الحكام بين جليلهم ... وبين ذليل كان في الحق يستخفى وألزمت أحكاماً هي الفيصل التي ... توافقنا شرعاً ونعتادها عرفا وتبارى الأدباء في اليوم الذي اجتمعت الهيآت لقراءته بدار المملكة حين طلبوا من الباي أن يحضر لديهم وذلك أواخر جمادى الثانية سنة 1277. وفي ذلك اليوم انشد القصيدان المتقدم ذكر البعض منهما وهو دليل واضح على أن الهيئة العلمية عبرت عن سرورها وإكبارها لتطبيق عهد الأمان، فتونس رجالها المثقفون بالثقافة الإسلامية لم يحجموا عن مساندة القانون، فما يرميهم به الرامون هو من قبيل إلصاق تهم هم براء منها. ومع انهم نصروه هم مقصرون في الاستفادة من هذا القانون، وتقصيرهم يبدو في كونهم لم يقوموا بواجبهم نحو بقية الأمة في تفهيمهم محاسن القانون، وأن الدين يدعوهم لإرساء قواعد العدل في غير مبالين بما ينالهم. لكنهم لم تبرح في نفوسهم هيبة المراء أصحاب النفوذ المطلق فلذلك قصروا وأحجموا. ملحق (3) ثورة علي بن غذاهم حط الشيخ السنوسي من ثورة علي بن غذاهم، ونعته بنعوت تدلي إلى الحضيض وتحشره في جملة الأدنياء الحثالة، ووصفه بأنه دعي والدعي المتهم في نسبه أو الذي يدعي إلى غير أبيه. ووصفه بأنه جلف، والجلف الرجل الجافي والظالم، ففي نظره أن ثورة ابن غذاهم ظلم صراح، ووصفه بأنه رئيس البغاة. ويختم تسجيله لحادثة الثورة التونسية برضاه عما وقع لأهلها فيقول: ولما تم القبض على زعماء البغاة الأشقياء جالت يد أنصار الدولة على أعضاء الثورة، ومن تشيع إليهم وهز عصا الشقاق، ونال كل واحد منهم ما ناله من القتل، وضربت تلك المغارم على الأعراض وجربة، وصفاقس وعموم بلدان الساحل عدا أهل سوسة والقلعة الكبرى لتقدم طاعتهم. فعنده هذه المظالم المتنوعة من القتل والضرب والسجن في أشد السجون وضرب المغارم على أكثرية أهل البلاد ومعنى ضرب المغارم افتكاك أموال الناس بالقهر هي الجزاء الوفاق. فالأمة أصبحت بسبب هذه المظالم المتراكمة لكل ما يملكه الإنسان من روحه وعرضه وماله أمة ميتة، وكل ما أصابها لم يثر في نفسه شعور الإنسانية حتى يرثي لهذا الشعب الرازح تحت السيف والسياط والسجن والتفقير ولنتبين الحق من غيره تأتي بما كتبه الشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار. وإنما أتينا بما كتبه لنزيل من الأذهان من أن للشيخ السنوسي له اتصال بالحقيقة بل هو بعيد عن الحقيقة، فالشيخ بيرم الخامس عاش تلك الأحداث فكتابته كتابة مطلع خبير. جاء في صفوة الاعتبار. (وخلا الجو لخزاندار أي لما استعفى الوزير خير الدين ومن معه وأخذت السيرة في طور آخر جديد ورام يضاعف أداء الجباية على الأهالي ويصيرها اثنين وسبعين ريالاً على الرأس عوضاً عن الستة والثلاثين ريالاً التي أسسها محمد باشأن وطلب المجلس الكبر أي طلب خزاندار بواسطة الأمير من المجلس الأكبر ذلك فامتنع أعضاؤه واستبد هو أي خزندار، بإمضائها مع تحديز العقلاء له فلم يلتفت إليهم مع أن الأهالي في ثورة من أثر سيرة محمد باشا تقويهم على الدفاع عن أنفسهم مع ما أستأنسوا به من تلك السيرة وسماعهم بان العدل والإنصاف قد شملهم بالقانون وأن لهم الكلام على حقوقهم فامتنعوا قاطبة وأرادوا غصبهم على ذلك، فثار القطر كله ثورة واحدة لم تعهد من قبل على غاية من الرياضة والأمن بحيث لم يتعرضوا بالأذية لأحد مع أمن السبل، وكثرة الفادي والرائح، وضبط كل جهة ببعض أهلها لردع السفهاء وحفظ الراحة والمن وكان متولي أكبر الجهة الغربية والملتف عليه أكبر قبائل الأعراب رجلاً يسمى علي بن غذاهم وذلك سنة (1280) . وما زالت هذه الثورة تسمى ثورة غذاهم، وكاتب الجهات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 بأنا إخوان ومطلبنا واحد، وليس المراد منه الإفساد، فالواجب حفظ الأمن والراحة، وتأمين السبيل، ولا نتعرض لأحد بشيء سوى أتباع الحكومة فإذا أرادوا غصبنا على الظلم ندافع عن أنفسنا وأنذرت القبائل عمالهم الذين كانوا بين أظهرهم فمن أراد منهم التوجه إلى الحاضرة أوصلوه بأمان ومن أراد الإقامة منكفئاً عن التداخل في أمرهم أبقوه بأمان. ولما توجه أمير الأمراء فرحات إلى الكاف لإجبار قبائل ماجر على ذلك الأداء تعرضوا له وقتلوه فشدد النكير علي بن غذاهم وقال لهم: أصل اتفاقنا تعرضوا وقتلوه فشدد النكير عليهم علي بن غذاهم وقال لهم: أصل اتفاقنا هو الدفاع عن أنفسنا وما ضركم الرجل إلا إذا حاربكم فدافعوا عن أنفسكم. وكاتب المذكور رئيس الفتيا الشيخ أحمد بن حسين وطلب منه التوسط في الصلح مع الحكومة. وحاصل مطالب الجميع إبطال الأداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزندار ومحاسبته. فامتنع الوالي يعبر صاحب صفوة الاعتبار عن الأمير بالوالي لنه يرى أن تونس ولاية عثمانية فلا يحق له أن يلقب بالأمير بل بالوالي، أولاً من جميع مطالبهم واشتد الكرب على الحكومة حتى لم يبق أمر الوالي نافذاً إلا في الحاضرة ونحو اثني عشر ميلاً حولهأن واشتد الخوف في الحاضرة) . وقد فصل الشيخ الوزير ابن أبي الضياف هذه الثورة تفصيلاً مدققاً واتى بأسبابها وكيف ابتدأت وهو ما أحمله غاية الإجمال صاحب صفوة الاعتبار. وافتتح الشيخ وزير كلامه على هذه الثورة بمقدمة دقق فيها الأسباب من فداحة الافتراض الذي تسبب فيه جلب ماء زغوان إلى الحاضرة تونس مما أدى إلى أن تكون فائدة الدين أكثر من ثلث دخل المملكة التونسية حينذاك وهو اكثر من أربعة ملايين من الفرنكات لأن دخل المملكة وقتها لا يصل إلى خمسة عشر مليوناً من الريالات. وإثقال كاهل الميزان بمصاريف الدولة فإن مرتب الملك وحده مليون ومائتا ألف إلى غير ذلك من المصاريف الباهظة. فلما عجز الميزان عن تحمل تلك المصاريف الباهظة كاتب الأمير أعضاء المجلس الأكبر فامتنعوا بلطف كما قال الوزير الشيخ ابن أبي الضياف ودارت مباحثات مجلس الأمير الخاص، وكان رجاله على رأيين. منهم من يميل إلى الرفق بالرعية ومنهم من زين للأمير الزيادة في الضريبة الموضوعة على الدافعين إلى أن أفضت النوبة إلى أحدهم وهم ممن يشار إليه في مجلس الأمير الخاص فأشار برأي كان سبب اندلاع الثورة. وهو أنا مال الإعانة يزداد عليه مثله ويكون عاماً في سائر بلدان المملكة من غير استثناء. فقبل الأمير أن هذا الرأي وكتب إلى أعضاء المجلس الأكبر للموافقة فاعتذروا بأنهم لا رأي لهم في النازلة. وبعد امتناع أعضاء المجلس استبد الأمير برأيه وصدرت به المناشير إلى عمال العمال. وهي مناشير كانت لقطع الطاعة والعافية والعمران كالمناشير كما قال الشيخ الوزير. ورغم النصائح حتى من الأجانب تمادى الأمير في فرض الزيادة في الضريبة. اندلعت الثورة بتقرر الزيادة في الداء. ويؤكد كلام صاحب صفوة الاعتبار الشيخ محمد بيرم الخامس المتقدم ذكره الشيخ الوزير ابن أبي الضياف. "ولما التف عليه إغمار العامة في الجهة الغربية، أي على علي بن غذاهم، أبرم العقد معهم. على أن القصد بهذا الاجتماع هو الاستعفاء من هذا الأداء الثقيل الذي لا قدرة عليه. وإذا عصبنا عليه بالقتال تكون يدنا في المدافعة عن النفس والمال والحريم يداً واحدة. ولا يتعرض منا أحد لنهب أموال الناس بالحرابة ومن تعرض تكون يدنا عليه أحدة لن كلامنا مع الدولة، وإخواننا المسلمين يعذروننا. فإذا تعرضنا لأخذ أموال الناس صرنا حرباً على الله تعالى وعلى السلطان ولا يعذرنا أحد بل تتوفر الدواعي على قتالنا والله معهم". أجمل صاحب الإتحاف مبادئ ثورة ابن غذاهم في أنها محصورة في الامتناع من دفع الضريبة المضاعفة. تحقيق حول ثورة ابن غذاهم وما دار حولها إن هذه الثورة مقصورة على غرب البلاد بقيادة علي بن محمد بن غذاهم وإنما هي عامة شملت البلاد كلها فعلاوة على غربها هناك عمل سوسة، وعمل القيروان، وعمل صفاقس، وعمل الأعراض. لكنها كانت في هذه العمال غير مسيرة مثل ما هي في ناحية ابن غذاهم بل هي مقودة بقيادة فوضوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ولولا تداخل بعض أهل العلم والصلاح لانتهى أمر الدولة الحسينية لا أمر الدولة الصادقية مع ما انضم إلى ذلك من دهاء بعض الوزراء وبعض رجال الحكومة حينذاك فإنهم أنقذوا الدولة من الانهيار. وتحقيق النظر في هذه الثورة العارمة يحتاج إلى كتاب خاص، وإنما نقتصر في هذا الملحق على بيان مواقف ثلاثة من المؤرخين التونسيين وهم: الشيخ السنوسي في مسامرات الظريف. والشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار. والشيخ الوزير ابن أبي الضياف. إن موقف الأول من هذه الثورة موقف تزلف وتدل على الحط من أحد رجالها وهو علي بن محمد بن غذاهم حيث وصفه بما انتقدناه عليه. فهو لم ينظر لها نظرة تاريخية، بل نظر إليها بغير منظار المؤرخ النزيه ولولا أن الواقف على كتابه الذي أخرجته للطبع يغتر بكرمه ما كنت أتوسع في الكلام على هذه الثورة. وثاني المؤرخين الثلاثة هو الشيخ محمد بيرم الخامس قد كانت له إحن في نفسه على الوزير مصطفى خزنه دار حيث أدمج في أسباب الثورة أنها ترمي إلى المطالبة بعزل خزنه دار. (وحاصل مطالب الجميع إبطال الداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزنه دار ومحاسبته، فامتنع الوالي أولاً من جميع مطالبهم فاشتد الكرب على الحكومة) . وأكد هذا بما نسبه إلى الوزير خزنه دار. ومن وقتئذ أيدي العدوان على الأهالي بسلب الأموال، والقتل والضرب بالسياط المؤدي إلى القتل لأن الوزير اشتد حنقه عليهم حتى انه دخل عليه أحد الأعيان يوماً وهو يقول: طلبوا دمي أرضى إلا بدمائهم، طلبوا مالي فلا أرضى إلا بأموالهم. لعل مراده بطلب دمه هو طلب عزله، وقد اعتادوا في بعض الوزراء السابقين قتلهم فظن أن العزل يؤدي للقتل وإلا فنفس قتله لم يطلبه أحد. أما المال فنعم فقد طلبوا حسابه. أدمج صاحبة صفوة الاعتبار عزل الوزير مصطفى خزنه دار في مطالب الثورة مع أنه لم يأت بدليل يدل على ذلك إلا ما أخبره به أحد الأعيان الذي قال له إنهم طلبوا دمي أرضى إلا بدمائهم. وثالث المؤرخين وهو أولهم في كتابة التاريخ التونسي وأقعدهم في كتبته الشيخ الوزير ابن أبي الضياف وهو أشد المؤرخين تحرياً في كتابة التاريخ فتاريخه مدعم بالوثائق التاريخية التي توقفك على عين الحقيقة. وعين الحقيقة في هذه الثورة العارمة أنها مقصورة على طلب إلغاء الأداء الجديد دون التعرض لعزل مصطفى خزنه دار. وقد وضح هذا صاحب الإتحاف أتم توضيح فيما كتبه قبل صاحب صفوة الاعتبار. فبين أن قنصل فرنسا شارل دوبوفال (Charles de Beauval) اغتنم هذه الفرصة للتداخل في أمر الولاية وأحكامها فأتى إلى البي يوم الجمعة 23 من ذي القعدة (29 أفريل 1864) ومع أمير الأسطول الفرنسي والقائم مقام (كنبنو) الذي كان من معلمي الجند التونسي وتخلى عن ذلك. وحين دخولهم على الأمير وجدوا معه مصطفى خزنه دار فطلبوا منه إخراجه فتشدد الباي في ذلك. وابتدأت المحاورة بين الأمير والوفد الفرنسي الذي طلب إبطال عهد الأمان فبين له الأمير انه أعطى عهده على إتمام عهد الأمان وأن أخاه هو الذي أعطى ذلك. ثم طلب الوفد تبديل المأمورين في الخدم السياسية فأجاب الباي بأن ذلك غير ممكن في وقت هذه الثورة لأن ذلك يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وطال الجدال بين الأمير ومحدثيه من الفرنسيين في شأن تبديل الوزراء وفي طالعتهم مصطفى خزنه دار. وفي هذا المجلس أساء القائم مقام (كنبنو) إساءة لا تحتمل حتى أن القنصل الفرنسي أسكته ولما بلغ الأمر مبلغه من الإهانة مرض الأمير. ثم إن الأمير جمع رجال الدولة من وزراء وغيرهم وأخبرهم انه لا يتنازل في شان تبديل الوزراء فقال وزير مصطفى خزنه دار أنا أسلم وأصر على تسليمه الوزير خير الدين وهو مصطفى خزنه دار نفسه. لكن تغلب الرأي الذاهب إلى عدم الرضوخ إلى مطلب القنصل الفرنسي لأن فيه تدخلاً في الشؤون التونسية وذلك مفض إلى أن تصبح تونس محكومة من طرف القنصل الفرنسي. ولم يكتف التدخل الفرنسي بعزل الوزراء بما أرادوه من إرغام الأمير عليه فأضيف إلى ذلك مكاتيب مرسلة إلى العروش التونسية ومن نماذجها ما نقتطفه من بعضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 (يا أيها العروش أعلموا أن الدولة أرسلت لكم مشايخ الطريقة وذكروا لكم أن الفرنسيس غادرون بكم ومرادنا اخذ بلادكم ونحن بالعكس من ذلك وإنما مرادنا إصلاح أحوالكم ورفع المظالم عنكم وإجراء الحق على كل أحد ولكن سوف ترون ما يحل لكم من أولئك الناس وتقفون على كلامنا لأن المشايخ توسطوا بينكم وبين الدولة وباعوا ضمائرهم بثمن قليل. وما دام الوزراء الموجودون في باردو فإنكم لا تتخلصون من الضرائب أي التي أثقلت كاهلكم والتي ثرتم من أجلها. وما داموا لا أمان ينالكم لا في أبدانكم وزلا في أرزاقكم. وستقفون على أحقية كلامنأن وعما قريب يظهر لكم من هو على الصواب) . وهذا المكتوب نقلناه مع تحرير جزئي لإرجاعه عربياً سليماً نوعاً ما. ويقول صاحب الإتحاف: وهذا المكتوب لا تاريخ فيه، ولا إمضاء، ولا طبع خاتم. ومنه نسخ عديدة بيد بعض العربان، وخطه مغربي جميل يشبه خط بعض الأعيان من تجار الفرنسيس تعلم الخط العربي بتونس وبرع فيه، وكان هذا المكتوب إنذاراً بما وقع بعد ذلك من الشدائد والأهوال. يتهم الشيخ الوزير ابن أبي الضياف القنصلية الفرنسية بذلك مستنداً على أن الخط فرنسي فلا بد أن مصدره منها. ويؤيد هذا الرأي أن إنشاءه إنشاء قريب من العامية فهو محرر من بعض الفرنسيين الذين درسوا اللغة العربية ولم يتمكنوا منها فتغلب عليهم العامية إذ لا بفرقون بين الفصيح والعامي. وكما كاتب الفرنسيون العروش كتبوا إلى زعيم الثورة في المنطقة الغربية علي بن غذاهم. ونقتطف منه نقطاً على أن الفرنسيين بتونس مرماهم استغلال ثورة علي بن غذاهم. جاء في طالعة الكتاب. إلى الأعز الأكمل العالم الأمثل علي بن محمد بن غذاهم أكرمه الله آمين. ثم فيه تذكير بثلاث رسائل أرسلوها إليه فلن تقع الإجابة من ابن غذاهم. وفي الرسالة اتهام تركيا بأنها أرسلت بجيش لقتال العروش فوقع رده من قبل الفرنسيين دفاعاً عن المظلومين. وختمت هذه الرسالة بهذه الفقرة: (ورأس سلطان فرنسا إذا بقي الخزنه دار في بلادكم يهلككم على بكرة أبيكم) . وهذه مرسلة على حسب ما جاء فيها من القنصل العام لفرنسأن ومن الأميرال والكرونيل الفرنسي أي الذي كان بتونس معلماً للجيش التونسي. إن الدلائل القاطعة تشهد إلى أن المطالبة بعزل الوزير إنما هي مطالبة فرنسية ترمي إلى التدخل السافر في سياسة تونس. واستدل صاحب الإتحاف بأن الثورة لم تقم من أجل عزل الوزير بما جاء من المكاتيب من رئيس المتحزبين علي بن غذاهم إلى الشيخ أحمد بن حسين رئيس المفتين في استشارته في القدوم إلى تونس للمفاهمة مع الأمير من أجل دفع الشدة وما دار في شان ذلك القدوم. يستنتج صاحب الإتحاف ما يلي: (فانظر إلى هذه المكاتيب من رئيس المتحزبين إلى الشيخ الذي اعتمده واسطة، والحادثة في عنفوان شبابها والسيوف مصلتة، وقدور الحرب في سائر الجهات تغلي، هل عرج فيها على عزل وزير، أو كره قانون، أو مجالس، أو ما يومئ إلى البغي، أو غير ذلك مما دار في برزخ هذه الإيالة دوران الرياح. ولم ينط مطلبه إلا بالتخفيف، وهو من قواعد عهد الأمان التي عليها مدار القانون) . كيف خمدت الثورة لم تكن الثورة ثورة قاصرة على جهة من الجهات، وإنما هي عامة إلا في العاصمة فقط، مع أن الجند لم يقم فيها بل امتنع من إخمادها مع أنها لم تصنع شيئأن وآلت في آخر أمرها إلى الفشل وتتبع بعض المثيرين أمرها حتى نالهم الانتقام من احمد زروق. ويتضح من أمرها أن إخمادها يعود إلى سبب قوي غير الجند. والسبب القوي في إخمادها هو أن الشيوخ لم يكونوا راضين عن الثورة بل كانوا مهدئين للعامة من الانسياق في الفتنة وإضرام نارها. وأبلى البلاء الحسن في إخماد هذه الفتنة التي أرادت فرنسا استغلالها لوضع يدها على تونس الشيخ الصالح مصطفى بن عزوز (1282) وهو الذي بث الطريقة الرحمانية في العروش الغربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وإلى موقفه الذي حسم به الفتنة أشار صاحب الإتحاف ونحن ننقله ليتضح للعيان أن العلماء الصلحاء كانت لهم يد لا تنسى في الإبقاء على رمق الدولة فلولاهم لذهب العلم الإسلامي بتشتت عقد الأمة لأن الفتنة لا تأتي إلا بشر وبيل، وعسى أن يعرف المتحاملون على أهل العلم الإسلامي والصلاح انهم مخطئون في إساءة ظنهم بالعلماء وتحميلهم وزراً هم برآء منه. وإلى هذا الموقف المشرف أشار المذمور: (ولم يزل الحال في اضطراب وشدة إلى أن قدم من الجريد بركة القطر المشار إليه بالبنان، المتدرج في مقامات العرفان، الولي السالك المحب لعباد الله، شيخ الطريقة الرحمانية أو النخبة مصطفى بن عزوز واجتمع بعلي بن غذاهم ووجوه جموعه وقد مسهم الملل بعد أن اخذ لهم الأمان من الباي واستوثق منه بالعهود والإيمان وقرأ للباي قوله تعالى: (يوجد آية) (91) النحل. ثم قال الشيخ مصفى بن عزوز لجماعة علي بن غذاهم، لا جواب لكم عند الله على إراقة دماء المسلمين وقد أعطاكم الباي الأمان على يد أمير المحلة وخفف عنكم اكثر مما يظن، إلى غير ذلك مما تفضل به عليكم خشية إراقة الدماء,. وقال لعلي بن غذاهم: (أنت لست بقائم تطلب ملكأن وزعمت انك جامع عصابة شاكية لكف عادية جهاله أن وقد زال السبب فلا بد يزول المسبب وقد عطلتم الناس على السعي في ابتغاء رزقهم) . فانتدب ابن غذاهم وتأخر. فأتاه فرج بن دحر وقال له أي لعلي بن غذاهم: نحن في ربط واحد ما كان ينبغي لك أن تحله وحدك ولنا مع سيدي مصطفى بن عزوز موقف بين يدي الله. وعلى كل حال فقد حاق بنا الغدر، وسترى أنت من معك عاقبة ما فرحتم به من الأمان إلى غير ذلك وفي بعض القلوب عيون. وحضر مع الشيخ مصطفى بن عزوز أعيان من تلاميذه وغيرهم كأبي العباس أحمد ابن الشيخ الولي عبد الملك الحمادي وأبي عبد الله محمد الصالح، والشيخ المسن الحاج مبارك صاحب الزاوية بتالة، وسيأتي له خبر، وحضر لذلك الشيخ البركة أبو العباس أحمد بن عبد الوارث وكفى الله المؤمنين القتال على يد هذا الشيخ ومن معه من هؤلاء الفضلاء جزاهم الله جزاء من أتعب نفسه في إصلاح ذات البين وحقن دماء المسلمين فالأعمال منوطة بالظاهر، والله يتولى السرائر، والمرء مجزي بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وأسقط الباي ما أجحف من الإعانة بل صيرها عشر ريالات فقط وأسقط من العشر، وترك الأداء على ما يباع في غير الأسواق وأجابهم إلى مطالب أخرى الله أعلم هل طلبوهأن أو قيلت أو تقولت عليهم فسمعوهأن أضربنا عن ذكرها لمنافاتها قضايا العقول، وكل ما نافاها يعد نقله مجازفة وقد تقدم ذلك وإلى الله تصير الأمور) . (الإتحاف ج?5 ص168 وص169) . وكما للشيخ مصطفى بن عزوز موقف كذلك كان للشيخ العلامة رئيس الإفتاء أحمد بن حسين في العمل بالمكاتبة على أثناء رأي ابن غذاهم عن القدوم إلى تونس لنه لو قدم لاشتعلت الفتنة في العاصمة فإنه ثنى عزمه عن ذلك، وبه بقيت العاصمة بعيدة عن الفتنة. ويظهر أن موقف أهل العلم في تونس كان في صالح هذه البلاد، وإبقائها محافظة على كيانها دون إدخال ما يؤول بها إلى فتن تموج موج البحر. والمواقف الرصينة هي التي حافظت على هذا الجامع جامع الزيتونة نبراساً يشع بالعلوم الدينية وهادياً للتي هي أقوم. ? الاتزان التاريخي يعبر كلام صاحب الإتحاف في هذه الثورة التونسية العارمة بأن الشيخ الوزير ابن أبي الضياف يحمل على السياسة التونسية في مواقف كثيرة ويحملها وزراً ثقيلأن ويظهر المصلح من غيره في مواقف عديدة. ومع مواقفه لا يرى أن في ثورة علي بن غذاهم إنقاذاً للموقف لذلك شكر وأطنب في مدح الشيخ البركة الصالح المصطفى بن عزوز حيث حقن دماء المسلمين وكفى الله بتداخله المؤمنين القتال. وحقاً رأى لأن رأس الثورة لم تكن له المؤهلات التي تؤهله لتسلم دولة لأنه كما عرفه صاحب الإتحاف ذو معرفة جزئية. ومع انه حمد فعل العاملين لحقن دماء المسلمين انتقد الشدة التي عومل بها الكثير بعد إخماد اللهيب. ودعا غلى الرفق الذي لا يقتضي الحال غيره حتى لا يلتجئ المظلومون إلى الاحتماء برعايا الدولة الوافدين على المملكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فالواقع يدعو إلى الرفق لا إلى ضده كما وقع لأكثر أهل المملكة بعد خمود لهيب الفتنة من الشدة والعسف والانتقام، وسلب النعمة غلى غير ذلك مما نفر القلوب المرضى. ولله در القائل: [الكامل] أحذر منافرة القلوب فإنها ... ورجوعها للود أمر يعسر إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر وقد تنبأ لدولة الأمير الصادق بالاضمحلال واستكانت الإيالة المسكينة ولسان حالها يقول: (للباطل جولة ثم يضمحل) %. ملحق (4) الكومسيون المالي الكومسيون المالي اجمل الحديث عنه صاحب المسامرات مع انه أحدث لإنقاذ البلاد من الإفلاس لأن الحال بلغت أقصى التدلي مما يعقبه الإفلاس للدولة. وقد تحدث عنه حديث عارف به الشيخ بيرم الخامس مبيناً أن الوزير خير الدين حين رئاسته للكومسيون بدأت تظهر إصلاحاته وتمكن من الإصلاح بسبب أنه لم يقبل رئاسة الكومسيون إلا بعد أن اشترط شروطاً. فإنه لما شددت الجانب في طلب أموالهم وأنشئ الكومسيون المالي باتفاق الدول دعاه الوالي إلى رئاسته فامتنع وبعد إلحاح ورد وبعد توثقة من الوزير مصطفى خزندار قبل رئاسة الكومسيون المالي. ويثبت الشيخ بيرم الخامس أنه منذ سنة 1286 كل ما هو من التصرفات هو للوزير خير الدين وشرح كيف أن الوزير خير الدين أدار كفة الكومسيون المالي. (وذلك أن الوزير مصطفى خزندار عطل أموره مما أدي إلى تشكي قناصل الدول الممثلة في الكومسيون المالي وهي فرنسا وإيطاليا وإنكلترا فراجع الوزير خير الدين الوالي وطلب منه الإعانة على المهمة الشاقة التي أنيطت به فأمضى الوالي مطلب الكومسيون ولأجل إعطاء الكومسيون المالي نفوذاً يحفظ حقوق الحكومة مع أن الكومسيون المالي يتصل برغبته، وذلك في توظيف رئيس الكومسيون بوظيفة وزير للوالي في رتبة الوزير، الكبر، وتنقل خدمة الكومسيون إلى الوزارة ويكون مصدر جميع الأعمال واحداً) . وقد بسط القول في ذلك في (ج?2 ص53 من صفوة الاعتبار) . وكذلك تعرض له صاحب الإتحاف في (ج?6 من ص119 وما بعدها من إتحاف أهل الزمان) فذكر نص قانون الكومسيون المالي، وهو في أثني عشر فصلاً. وكان ختمه بسراية الوادي في 26 من ربيع الأول سنة 1286 (6 جويلية سنة 1869) . وأتبع ذكر القانون بالأوامر الصادرة في تعيين رئيسه وتعيين أعضائه. وحديث ابن أبي الضايف عن الكومسيون كان مقتضياً لنه كما ذكر بقلمه أدركه الضعف. ? إبطال الكومسيون تناولت الإدارة الفرنسية بعد الحماية أشياء متعددة بالنسخ، منها إبطال الكومسيون المالي. وجاء إبطاله في العدد 49 من جريدة الرائد الرسمي المؤرخ في 13 ذي الحجة سنة 1301. افتتح هذا الأمر بمخاطبة الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور بأن الأمير أمر بما يأتي: الفصل الأول: أبطلنا بعد اليوم 12 من أكتوبر الإفرنجي سنة 1884 مسيحية الكومسيون المالي الذي أحدث بالأمر العلي المؤرخ في 26 ربيع الأنور سنة 1286 الموافق ليوم 5 جويلية من يولية الإفرنجي سنة 1869. وكذلك مجلس المداخيل المعطاة للدين الواقع ترتيبه عملاً بالتأويل المنعقد في 23 مارس سنة 1870 ما عدا ما يتضمنه الفصل الرابع الآتي: وبموجب ذلك على مجلس الإدارة المذكورة أن يسلم خدمته يوم 12 من أكتوبر المذكور مساء لإدارة القمارق ولإدارة الإداءات المختلفة ولقابض الدولة العام بالحاضرة وبالجهات الأخرى التي له فيها نواب. وبناءً على ذلك فإن الموجود تحت يد المجلس المذكور من المبالغ دون كاغد التانبر، ومن الرهونات التي دفعها نوابه، واللزامة تدفع لقابض الدولة العام محلات بلدان العمالة الأخرى إن كانت المبالغ والرهونات المذكورة من علائق البلدان الأخرى. وأما الكاغد التانبر الموجود بالحاضرة فإنه يدفع لقابض عموم الأداءات المختلفة وأن كان بغير الحاضرة فإنه يدفع لنواب الكمرك عند تسليم المبالغ والرهونات المتقدم ذكرها لهم. ويشتمل هذا الإبطال على ثلاثة عشر فصلاً من أهمها الفصل الخامس: إدارة المال تتولى استخلاص جميع مداخيل المملكة كما أن جميع المشارعات التي يقتضيها الحال يباشرها مدير المال بدولتنا أو من ينوبه فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وإنما وقع في هذا الفصل أن إدارة المال تتولى استخلاص جميع مداخيل المملكة لأن الميزانية التونسية كانت منقسمة بين الدولة وبين الكومسيون المالي. ومن أهم فصوله الفصل الثامن: ولاية مدير المال تصدر منا مباشرة بمقتضى طلب سفير دولة فرنسا المقيم بحاضرتنا. وتصدر أوامر أيضاً بطلب من مدير المال لدولتنا في ولاية كل من كاهية مدير المال ومدير الداءات المختلفة، والكمارك ورؤساء الأقسام والكتابة بإدارة المال، وكذلك منفقدو الإدارة المذكورة والخدمات المالية وقابض الدولة العام، والمترجم الأول بإدارة المال، وقابض عموم الأداءات المختلفة وقابض عموم الكمارك ووكيل أملاك الدولة والمكلف بالغابة وناظر دار السكة ووكيل الرابطة. والفصل التاسع: أعطى هذا الفصل الصلاحية لمدير المال في بقية المستخدمين. والأمر الصادر بإبطال الكومسيون المالي انتزع كل الاختصاصات المالية من أيدي التونسيين وجعلها في يد مدير المال الفرنسي. وقد أصبحت هذه الإدارة بعد برهة غدارة فرنسية تتصرف في حظوظ البلاد المالية. ملحق (5) المجلس الشوري المجلس الشوري المتحدث عنه بالمدح وإطناب الشكر من المؤلف حتى عده من اعظم مآثر هذا الأمير الفائز بالسبق على سائر الأمجاد قلب فيه المؤلف الحقيقة رأساً على عقب. وكان من حقه أن يأتي بالقبضة على وجهها الصحيح، فإن لهذا المجلس قضية تعد من أهم القضايا التونسية أبلى فيها أهل المجلس الشرعي وبالأخص القاضي المالكي البلاء السن. وتفصيل هذه القضية حسبما ذكره المطلع عليها الشيخ محمد بيرم الخامس ونصه: "ومنها أن أحد الأغنياء من الأهالي توظف في الحكومة المسمى بمحمد عريف توفي رحمه الله عن غير ولد وكانت له بنات من ابنه فأوقف كسبه عليهن وعلى من يتزايد له، وبعد وفاته وضعت زوجه حملها فكان ولداً ذكراً ثم توفي في إثر ذلك. وقد كان القاضي، وهو القاضي الجد محمد الطاهر النيفر الذي تولى القضاء من سنة 1290 إلى سنة 1311 جعل وصياً على البنات وحفظ الوقف والمنقول، فطلب التابع أن ينقل حكم النازلة من الشريعة إلى الوزارة على خلاف الديانة والعادة من تحكيم الشرع في المواريث والأوقاف. وأرسل الوزير وهو مصطفى بن إسماعيل مكتوباً بأن يسلم رسوم الوقف إلى كاتبين أحدهما من خواص الوزير والثاني من الوزارة مع الوعد في المكتوب بأن الوزارة بعد الإطلاع على الحجج ترجعها وكان المتسلم لها أبا الزوجة وهو وكيلها مع أحد الكاتبين. فطال الزمن أي زمن تسلم الرسوم من الوزارة فلم ترجعها حسب الوعد، وأبلغ الوصي إلى القاضي التخوف على الرسوم إذ شاع أنها سيقع فيها تغيير فأرسل إلى أبي الزوجة وإلى الكاتب اللذين اسلما الرسوم بطلب إرجاع الرسوم فأبيا فأحضرهما فامتنعأن فسجن أبا الزوجة حيث إنه المتسلم وأخبر بأن الرسوم بعلو في داخل المحكمة الشرعية هو محل اشتغال الكاتب المذكور حيث كان من شهود الأوقاف وذلك العلو هو مكان اجتماعهم فبعد أن ألح القاضي على الكاتب وامتناعه أمر بأن يمنع من دخول العلو خشية إخراج الرسوم منه وبقي القاضي بمحل حكمه على الهيبة الشرعية حسبما سبق التعريف بذلك من كون أهل الشرع بتونس لهم من التعظيم والتوقير قريباً مما كان عليه الحال في الأعصر المعظمة للديانة وشعائرها. فما كان غير بعيد إلا وعلي بالزي المذكور قام فضرب باب العلو برجله وكسر قفله وأمر الكاتب بالصعود وإخراج الرسوم، وأخرج المسجون وأمره بالذهاب حيث شاء، وقدم على القاضي وباشره بما لا يناسب ذكره، وفشا الخبر وعظم الأمر عند العلماء والعامة إلى درجة لم تعهد، فأبطلت الدروس من الجامع الأعظم، وأغلقت دار الشريعة وكثر اللغط وسرى إلى خارج الحاضرة. وأبلغ أمر النازلة إلى الوزير ابن إسماعيل فأراد أن يهون النازلة بمنع تابعه من القدوم إلى تونس وأرسل معلماً إلى القاضي بأنه سجنه فلم يلتفت لذلك العلماء وتقدم الشيخ احمد بن الخوجة شيخ الإسلام وجمع العلماء مراراً واظهر أشد الانتصار للشرع وكتب جميع المجلس الشرعي مكتوباً وأرسلوه إلى الوالي قصداً بلا واسطة الوزير على خلاف المعتاد وقدم به رسولهم على الوالي في مجلس الشريعة لأن رئيسهم تقرب إليه الوزير سراً فانحط حرصه وتوجهت أطماع البعض إلى المسابقة لإرضاء الوزير فأجابوه بنعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ثم جمع الوالي وزراءه وأعلمهم متأسفاً من مطلب أهل الشريعة بأنه يريد أن يجعل مجلساً مركباً منهم أي من الوزراء ورؤساء الإدارة دون غيرهم من الأهالي للنظر في المصالح وجريان السياسة، فأجابوه بأن ما يظهر له حسن فهو حسن. وكان هذا الجمع من الوزراء والمستشارين مشتملاً على جميعهم حتى أن الوزير حسيناً كان إذ ذاك قدم من إيطاليا لمصالح في مأموريته فصادف الواقعة، وكان ممن وافق الوالي على رأيه في جعل المحتسب والمحتسب عليه واحداً خلافاً للمعقول، ولما يعلم من طبعه من لزوم الاحتساب الحقيقي على تصرف المأمورين بثقاب من الأهالي إلى غير ذلك من أوجه العدل ومع هاته الموافقة فلم يسلم من القدح. ثم إن الوالي أرسل لأهل الشريعة يعلمهم بأنه أشأ مجلساً مؤلفاً من عشرة أعضاء تحت رئاسة الوزير ابن إسماعيل، وأعضاؤه: الوزراء والمستشارون وبعض رؤساء الإدارة ولما بلغ لأهل الشريعة ذلك قالوا ليس قصدنا المتوظفين لنهم دائماً تحت الأمر، ولا خبرة لهم بما في أطراف القطر، وإنما المراد أن يكون المجلس من الموظفين والعلماء وأعيان من البلاد والعربان، ولا أقل أن يكون عددهم ثلاثين عضواً وأنهم لا يقصدون إلا مصلحة البلاد لأنهم ليس لهم غرض إلا هناء القطر وهناء الوالي، وقيل غن قنصل فرنسا صرح بأنه لا يعترف بالمجلس وانه أراد الوالي الاستعانة بعساكره لردع الطالبين فهو حاضر له حيث إن طريقة الوزير هي التي تبلغه إلى قصده كما ذكرناه في محله، ثم لما بلغ الوالي جواب العلماء أرسل إليهم بأنه يزيد اثنين من رؤساء الموظفين وان هذا المجلس ينظر فيما يقتضيه الحال من الكيفية ويجري العمل به، وكان في أثناء بلا مستند، فرضي عمدتهم بذلك، وكان سبباً في تمكن الفيض على الأجنبي بلا مستند، فرضي عمدتهم بذلك، وكان سبباً في تمكن الفيض على من زيد حيث انتهى رضا المقترحين عند ذلك وصرح الوالي بما يشف عن ذلك والله المطلع على السرائر، ثم جعل هذا المجلس في نفس الأمر إذ اجتمع يعرض عليه ما يريد الوزير والأغلب أن يكون المعروض هو بعض النوازل التي تعرض بقلة ولما كان أغلب الأعضاء يسايرون الوزير لم يظهر لوجوده من أثر غذ لا يتداخل في نصب ولا في عزل ولا سيرة عامل أو رشأن وشاهد ذلك الخارج فإنه لم يمض عليه شهران حتى وردت الرسل على شيخ الإسلام بأن يتشفع في الجاني على الشرع فلم يوافق جهرة بل أظهر زيادة الامتناع ثم سودت سراً بطاقة إلى المنفي ليكتب على نمطها مكتوباً لأهل المجلس الشرعي ولما ورد مكتوبه على نحوها إلى الوالي مستشفعين بعد أن امتنع بعضهم وقيل عندما سمع بذلك ليت شعري ما هو وجه كتبهم مع علمهم بالحقائق". ومنها أنه شرع الوزير إثر ما تقدم في بناء دار شيخ الإسلام المذكور بتونس وكذلك داره بجيل المنار وكثر تردد تابعه الجاني المذكور عليه حتى نشأ عنه قيل وقال (صفوة الاعتبار ج?2 من ص110 إلى ص113) . ومن الذين امتنعوا الشيخ القاضي المالكي حتى هدد بالإعدام كما جاء في بعض المذكرات لأحد أتباع الوزير مصطفى بن إسماعيل. وهذه الحركة التي قام بها المجلس الشرعي هي أول حركة نبعت من الزيتونة لإصلاح الوضع ولإقامة نظام برلماني تتمثل فيه الأمة أتم تمثيل، فهي حركة القصد منها إعادة نظام عهد الأمان الذي ألغي بسبب ثورة علي بن غذاهم، وقوى النفوس أن الوزير خير الدين الوزير المصلح كان صدراً أعظم فوجده في صدارة الدولة العثمانية كان في حسبانهم أنه يؤيد حركتهم النابعة من رجال الشرع. والباعث ليس اعتداء على القاضي المالكي الشيخ محمد الطاهر النيفر لما أراد إجراء الحق وإنما كانت النفوس ملأى بالحنق من أجل تصرفات الوزير مصطفى بن إسماعيل تلك التصرفات الشاذة التي ذكر الكثير منها صاحب صفوة الاعتبار، فرجال المجلس الشرعي أرادوا أن يعبروا عن رغبة الأمة في إنهاء الأعمال التعسفية التي قام بها الوزير مصطفى بن إسماعيل وأتباعه. ولولا ألاعيب هذا الوزير بالاغراءات التي أنساق البعض القليل من رجال المجلس الشرعي إليها لكان لهذه الحركة أثرها في إنقاذ الأمة التونسية. وما المجلس الشوري الذي نوه به صاحب مسامرات الظريف إلا ذر للرماد في العيون. والعجب من الوزير حسين مستشار المعارف كيف وافق على هذا المجلس حتى كان أحد أعضائه فانتقاد صاحب صفوة الاعتبار عليه انتقاد وجيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 ملحق (6) تتمة للمقدمة تتضمن تاريخ تونس (من 1297 إلى 1376 هـ?) (من 1879 إلى 1957 م) أنهى المؤلف كتابة القسم السياسي من تاريخه المسامرات بفاتحة سنة 1297 وهي التي قدم فيها وفد من أعيان التونسيين إلى المشير الثالث محمد الصادق ووزيره مصطفة بن إسماعيل مصحفين مرصعين. وهذا الوفد مدسوس إليه في تقديم ذلك لإظهار رضا الأمة بوزارة مصطفى ابن إسماعيل تلك الوزارة التي عاثت في البلاد فسادأن خصوصاً بعد الحادثة الشهيرة وهي التي أثارها القاضي المالكي المرحوم محمد الطاهر بن محمد النيفر بسبب تجزؤ علالة بالزي أحد اتباع الوزير المذكور على المحكمة الشرعية. وهذه القضية طواها المؤلف مع أنها سابقة حدثت في سنة (1296) . وقد بسطنا الكلام على هذا المجلس الذي أطنب المؤلف في مدحه (المتحدث عنه في الملحق الخامس) مع انه لم يرض أهل المجلس الشرعي إذ طالبوا بمجلس يضم نخبة تمثل الأمة. إن وزارة مصطفى بن إسماعيل كانت من الأسباب المعجلة للحماية الفرنسية لأن الوزير المذكور ليست له الكفاءة المؤهلة للوزارة إذ هو خلو من التعليم حتى من التعليم الجزئي مع ما فيه من تكالب على المال ثم إن بطانته كانت بطانة سوء منهومة على المال بالأوجه غير المشروعة. وزاد في تعكير الجو أن هناك دولتين كانتا تسعيان لاحتلال تونس أو تقوية النفوذ فيها لإحداهما دون الأخرى التي تزاحمها. ونتج عن ذلك إعلان الحماية الفرنسية على تونس في (14 جمادى الأولى 1298) وفي (14 ماي 1881) . وقد أرخ هذه الفترة الشيخ محمد بيرم الخامس مذيلاً بها كتابه صفوة الاعتبار وهذا لم يطبع بما ننشره كما جاء منقولاً عنه: الحمد لله تعالى: هذا الذيل الذي نبه عليه الشيخ بيرم في الباب الثاني من كتابه صفوة الاعتبار عند الكلام على سياسة تونس الداخلية والخارجية، قال: ذيل في تسلط فرنسا على تونس قد مر في المطلب الثامن من أحوال الإدارة الداخلية في تونس حالة وزارة وزيرها مصطفى بن إسماعيل وتصرفاته وما وقع في نازلة صانسي الفرنساوي التي كانت سبباً في خوف هذا الوزير من القنصل وروم أن تبدله دولته. وتقدم أيضاً ما هي مقاصد فرنسا في تونس وأنها تروم نيل الدرجة العليا فيها ولما رأت سيرة الوزير المذكور لم تأمن وقوع ارتباكات مغايرة لما كانت راضية بالبقاء عليه وخشيت ضياع الفرصة من سهولة التوصل على يد ذلك الوزير إلى ما لم يمكن التوصل به على يد غيره من ذوي العرض والعقل. فلذلك بينما كانت مساع جارية في إبدال القنصل وإذا بالسعاية إليه قد غيرت مشربه حتى طمع في ولاية العهد بأن يتولى هو الإمارة بعد سيده الوالي الحالي الصداق باشا إذا أتم إدخال تونس طوعاً تحت فرنسأن فراكن حينئذ قنصلها وأحكم معه المودة، وصارت بطانة الوزير تأتي إليه معلمة بجميع أسرار الحكومة وسائر تصرفاتها. وأضمر ابن إسماعيل الشر لمن كان أوعز إليه بأن يتشكى من القنصل إلى دولته ثم تفطن بذلك التواطؤ السري ونصحه بأنه لا ينتج له شيئاً وعلى فرض الوفاء له بالوعد فإنه لا يلبث أن يناله ما نال الوزير العلقمي في انقراض دولة بني العباس من بغداد. واتفق ذلك الوزير مع القنصل على شروط إدخال تونس تحت فرنسأن غير أن الوالي لم يساعف على لائحة تلك الشروط التي قدمت إليه سراً بواسطة الوزير، وخشي من الدول ومن الأهالي في البغي منه على الدولة العثمانية وفي تغيير حالة السياسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وجعل الوالي يسوف العقد من وقت إلى آخر وجعل الوزير يسعى في إحداث وجه لتداخل فرنسا وإنقاذها أمرهأن فأكثر من الرسل السرية غلى الآستانة متطلباً أن يدعى هو إليها رسمياً أو يرسل بعض الأسطول العثماني إلى مرسى تونس مع إظهار زيادة التشيع إلى الدولة العثمانية حتى لا يتفطن إلى مساعيه الباطنية، فلم يساعف من السلطان في مطلبه غذ لم يكن له من داع، كما انه لم تفد في الدولة العثمانية الإيقاظات غلى دسائسه وعزمه حتى تسعى في سعة لدفع الغوائل المتوقعة إذ من المعلوم أن التدخل السياسي هو كالمرض المزمن الذي لا ينجح فيه العلاج غلا تدريجياً عند أول حدوثه سيما إذا كانت الدولة المعالجة محتاجة غلى استمالة غيرها من الدول القوية غلى معاضدتها على قرنها القوي، ومع ذلك أيضاً قد عكر الوزير ابن إسماعيل حالة الخلطة مع إيطاليا لعلها تعلن على تونس الحرب ومنح للفرنساويين منحاً لم يطلبوها مما يزيد في نفوذهم والشحناء معهم كما تقدم ذكره في المطلب الثامن من أحوال تونس، ولما لم تنجح جميع تلم المساعي التي كان يمكن لفرنسا الاستناد إليها في وضع حمايتها على تونس أحدثوا أقاويل في إهمال حقوق الفرنساويين، وأظهر الوزير المذكور الاستخفاف بقنصل فرنسأن ومال عنه كل الميل ظاهرأن ورام أن يظهر التعطيل في إجراء المنح التي أنالها إلى الفرنسيين بأوجه من الاعتذارات، حتى أغرت رعايا فرنسا بتونس على أن تكتب تقريراً للتشكي من ضياع حقوقهم وطلب دولتهم للانتصاف لهم، فلم يرع الأمم إلا أن فرنسا جلبت بخيلها ورجلها على حدود تونس معلنة بأن قصدها غنما هو حفظ حقوقها من جهة الحدود وغيرها واستندت في عملها لما تضمنته لائحة وزير خارجيتها إلى سفرائه. وهذا نص تعريبها: "باريس في 9 ماي 1881 أيها السيد أتشرف بأن نرسل لكم جملة رسائل في شأن تونس ونريد أن نحقق لكم المقصود إجمالاً ونخبركم عن سبب إرسال العساكر الآن وعن النتيجة التي نرجو إتمامها فكم من مرة قد عرفت الدولة الجمهورية بدواعيها ومقاصدها وأنتم تتذكرون ذلك خصوصاً ما صرح به السيد رئيس الوزراء في المجلس العام وهو لا يمكن أن يكون فيه أدنى شك من جده وصدقه ومع هذا فإني أريد زيادة إيضاح لكم لينفعكم لدى الدولة التي أنتم عندها فنقول إن سياسة فرنسا في تونس ليس لها إلا مقصد واحد وهو المقصد الذي يكفي لوضوح موضوع سيرتها منذ خمسين سنة نحو المملكة هو الواجب علينا لحفظ راحة مستعمرتنا العظمى الجزائرية فمن سنة 1830 لم تأت دولة من الدول المتابعة وتركت هذه المهمة العظيمة وإنا لنعمل الواجب علينا لحفظ مستعمراتنا الإفريقية التي لا يوجد أحد من أروبا انكر علينا ذلك فيها لحفظها من جار عدو كثير الأراجيف وقد كانت القبائل التونسية مخوفين ومحاربين حتى فيما بينهم، وقد فاق على الجميع قبائل وشتاتة والفراشيش وخمير ولا تعرف كمية المحاربين ولا كمية قوتهم، فلذلك التزمنا الآن أن نرسل من العساكر عشرين ألفاً وهذا مما يدل على قوتهم أي الأعداء المتحصنين في بلاد منيعة تقريباً وكان الداعي الأول لإرسال العساكر هو قهر قبائل حدودنا الشرقية ولكن لا فائدة في تقرير الأمن والراحة وأعداؤنا ما زالوا يهددوننا ونحن لا نخاف من الهجوم الكبير لباي تونس إذ كان منه وحده لكن النظر القليل في العواقب ألزمنا التحري من اتحاد الباي مع غيره، وهذه التشويشات يمكن أن يأتي لها وقت وتقلقنا كثيراً في الجزائر وتصل حتى لفرنسأن فيلزمنا بناء على ما ذكر أن يكون لنا عند الباي محبة كبيرة واتفاق قلبي ويلزمنا جار يعوضنا المحبة التي لنا عليه ولا يسمع التشويشات الخارجية لضررنا وأستحقار قوتنا الراسخة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وقد وضحنا من نحو أربعين سنة بأنه يلزمنا لمحافظة فرنسا الجزائرية أن نحصل في المملكة على قاعدة راسخة ونحن نحترم بالتدقيق منافع الأجانب وهم يقدرون أن يتوسعوا بثبات مع فوائدنأن والدول يتحققون أن مقاصدنا من جهتهم لا تتغير وإلى هاته المدة الأخيرة اتحادنا مع دولة الباي المفخم مستمر إلا ما يحدث أحياناً من الاختلاف في دفع تعويضات لقبائلنا المضرورين ثم في الحين يرجع الاتحاد ويزداد ثبوتاً بعد هذه الاختلافات الصغيرة إلا هاته المدة الأخيرة يرجع الاتحاد ويزداد ثبوتاً بعد هذه الاختلافات الصغيرة إلا هاته المدة الخيرة فنه بأسباب يصعب الإطلاع عليها مذ تغير ميل الدولة التونسية علينا دفعة واحدة وكانت غذ ذاك الحرب ساكنة ثم ما زالت تزداد إلى أن وضحت وتقوت ومبناها ضد كل الامتيازات التي حصلت للفرنساويين في تونس مع شدة الإدارة الردية إلى أن وصلت إلى هذه الحال. وهذا هو السبب الثاني لإرسال العساكر الذي كنا نود التجنب منه ولكن بسبب السيرة الردية التي طالما صبرنا عليها التزمنا بما هو واقع ولو أننا بها ضمنا للباي في المطالب الحقانية لأننا نعترف بتونس كمملكة مستقلة. وأما الحالة في الخلطة مع الباب العالي فهي مخالطة محبة وميل طبيعي وبودنا أن لو كنا رأينا منزلة تونس في نظرة أخرى غير التي هي عليها الآن، ولكن قد بان ما يجب علينا مما ذكرناه سابقأن وإننا نقدر أن نسبتهم من الباب إذا كان باي تونس هو والياً من قبلهم فلماذا لم يمنعوا سيرته التي فعلها نحو فرنسا منذ عامين ولماذا لم يفتشوا ليمنع التحير الذي نحن مجتهدون في حصره أن ينتهي بشروط تؤمن حدودنا من الهرج المستمر والتشويش المغري لبارود إما من غيره أو من نفسه فهذان هما المقصدان لإرسال العساكر. ولا نخفي إذا ما نقول أن لنا في أوربا الرضا العام في جميع الجهات عدا الجهات التي بها النظر الفارغ المطمس للعقول وهذه هي أيها السيد التي خيمت حول الباب وحول تونس ومن كلا الطرفين فنحن مشمولون بالمحبة وجميع ما نرجو من الباي هو أن لا يكون عدواً لنا ولو أن المملكة تنظر لفوائدها تقدر أن تحصل من اتحادها معنا فوائد لا تحصى وأكثر مما نحصله نحن منها ونقدر أن نأتي لها بكل خير من العمكران الحاصلعندنأن ففي سنة 1847 فعلنا فيها البريد وفي سنة 1859 وسنة 1862 فعلنا التلغراف وفي سنة 1878 فعلنا الشمنديفير الذي طوله 50 من حدود الجزائر إلى تونس وفس هذا الزمان نفعل لها شمنديفيرين جديدين أحدهما يربط تونس ببنزرت من جهة الشمال وطوله عشرون فرسخاً والآخر يربط تونس بسوسة من جهة الجنوب وسنبتدئ عن قريب في عمل مرسى في تونس نفسها لتدخل المركب من الشط ومن حلق الوادي إلى ذات القاعدة. ودين تونس وغن كان رأس ماله مشتركاً بين فرنساوي وإنكليزي وطلياني لكنه إذ اعتبرت نفسه النسبة يوجد ثلاثة أخماسه لفرنسا. وإن الحنايا الجميلة (لا دريان) التي تأتي بالمياه العذبة إلى تونس قد أصلحها أحد المهندسين الفرنساويين. ولما ترجع الخلطة الطيبة فإنا لا نزال نفعل أشياء حسنة ومنارات على الشطوط وطرقاً داخلية توصل بين البلدان العامرة الناجحة ونسقي الأرض بالترع الكبيرة في البلاد التي بها انهر كثيرة ولكن هاته البلاد أهلها ليسوا معتنين بتلك الأنهر وكذلك الغابات، وكذلك نعمل على استخراج المقاطع الموجودة بها كل نوع من المعادن، وكذلك ترتيب الفلاحة في الأراضي الحسنة التي للأجانب في المملكة والتي للأهالي أيضأن وكذلك استعمال المياه المعدنية التي اكتشفها الرومانيون واستعملوها وبالجملة إن مملكة تونس خصبة، وغنى قرطاجنة القديمة يدل على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وتحت الحماية الفرنساوية يمكن أن تزال جميع الحجب عن المنافع الطبيعية في هاته البلاد وتنتشر بقوة، وبشدة الترتيب الجديد نقدر أن نزيد أشياء أخرى وهي أنه إذا كان الباي يعتمد علينا في الترتيب الداخلي في المملكة فإنا نفعل تعديلاً لازماً قارأن وهذا الخير الذي يسهل علينا عمله منه ترتيب كيفية قبض المدخول وترتيب المخروج وترتيب دفاتر الحساب على مقتضى ما نستعمله نحن في ماليتنا ومنه أيضاً خير عظيم وهو ترتيب العدلية على الأصول التي فعلتها الدول في ترتيب العدلية في مصر، وفائدة هذه التراتيب لا ترجع لفرنسا وحدها بل إن المملكة يرجع لها النفع وكذلك لجميع الدول المتمدنة التي نحن منها ومن غير فتح ولا حرب. بل إن المملكة يرجع لها النفع وكذلك لجميع الدول المتمدنة التي نحن منها ومن غير فتح ولا حرب. فلا شيء يمنعنا من عملنا في تونس مثل الذي فعلناه في جزايرنا والذي فعلته إنكلترا في الهند إذا نحن جعلنا باي تونس متكفلاً بمطالبنا الحقانية فهو دليل على ما نحسبه دائماً من أن تونس مملكة مستقلة من غير أن نراعي بعض آثار للتبعية بالاسم فقط لبعض أسياد قد تركوها منذ عدة قرون وقد تظهر تلك التبعية نادرأن وإن تحسب المدة التي هي فيها مستقلة لكانت اكثر من مدة التبعية ففي سنة 1534 أخذها المشهور بباربورس خير الدين أربع أو خمس مرات بانتصاره على الإسبنيول وفي العام الذي بعده أخذها شارل كان وكذلك في سنة 1553، ثم أخذها داي الجزائر سنة 1570 ثم أخذها دون جوان النمساوي سنة 1573 ثم في طول القرن السابع كانت تحت ظلم الإنكشارية من غير حكم ورؤساؤها الموسومون بالديات كانوا إذ ذاك أربعين فقسموها تقريباً كالمماليك الذين قسموا مصر. ثم في سنة 1705 كان أحدهم المسمى بحسين بن علي الذي أصله كريكي أو كرسكي صار مسلماً وكان هو أحذقهم فعرف كيف يشدهم وقتل جميعهم واشتهر بالباي، وبعصبيات العساكر أقام العائلة الحسينية ومن ذلك الوقت لم تزل الإمارة فيهم على هيئة السيادة الإسلامية والآن 200 سنة تقريباً وهم مستقلون والرابطة الحقيقية بينهم وبين الباب العالي هي رابطة دينية وهم يعترفون بالخليفة إلا انهم ليسوا تحت السلطان. ومما يوضح هذا انهم لا يدفعون له أداء إلا انه عند ولاية كل باي يرسل هدية غنية تعظيماً لرئيس الديانة القاطن بالقسطنطينية وفي باقي مدة الولاية فلا مسألة سياسية يمكن أن تذكر غير هاته التحية الودادية فليس لأمير المؤمنين حق آخر على الباي تونس. والمملكة تعقد شروطاً كمملكة مستقلة مع الدول الأجانب وتعقد معهم اتفاقيات ويكون لها قوة وذلك برضا الباي فقط وعلى هذا النمط وقعت معاهدة مع فرنسا في سنة 1742 وكذلك في العام الثالث والعام العاشر في سنة 1924 وهكذا صارت المعاهدة المهمة في 8 أوت 1830 التي تمنع تملك العبيد والتلصص في البحر، ولا يلزم التكلم على المعاهدات الباقية كالتي في حق صيد المرجان وأن الباب لا يحكم على الولاية إلا حكماً وقتياً وهو راض باستقلالها. ومما يؤيد هذا أنه في القرن الثامن عشر لم يقبل تشكي دول أوربا من التلصص البحري والسعي البربري وليس له حكم عليهم وهو ليس مولاهم وهو لم يضمن السرقات التي جعلوها مخلة بتجارة البحر المتوسط وأن دول أوربا عملوا الحرب عشرين مرة مع المملكة من غير عقد الحرب مع تركيأن وفي سنة 1918 كانت معاهدة إكس لاشبيل قد حكمت على تونس بمنع التلصص البحري من غير أن تطلب من الباب التداخل على أنه متسيد على تونس وفي سنة 1833 فمملكتا سردينيا ونابولي عملا مع تونس من غير عمله مع الباب لأنهم يرون مثل ما نرى أن تونس مستقلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 ثم إن علاقة تونس مع فرنسا من وقت اخذ هاته الجزائر على النحو السابق من غير واسطة تركيا ولما قد إلينا احمد باي في سنة 1843 أقتبل بكل ما يلزم من التعظيم للملوك والباب العالي لم يتوجع إذ ذاك من عملنا التعظيم الملوكي المذكور وكذلك جميع أوربا لم تلك على ذلك لأن رأيي موافق لرأي اللورد آبردين الذي يقول في تسجيله ضد أخذنا الجزائر المكتتب بتاريخ 23 مارس 1831 إن الدول الأروباوية من مدة طويلة يفعلون المعاهدات مع الدول البربرية مثل الدول المستقلة وخصوصاً تونس فإنها لا تحسب نفسها غلا حرة، والدليل الواضح الحقي الذي لا ينكره أحد هو عمل القوانين في تونس المسماة (بويود لدي) حلف عليها الباي الموجود بتونس محمد الصادق لما جلس على الكرسي في 23 أيلول سنة 1859 مثل ما حلف أسلافه فإن قانوناً واحداً منها وهو المسمى بالقانون النظامي للملكة تونس قد احتوى على مائة وأربع عشرة مادة وانتشر بالعربي والفرنساوي في تونس وفي بونه ولم يصرح فيه ولو بكلمة واحدة تقول السلطان. ومما لا يقدر أن يشك أحد معه في الاستقلال الباي ما نشر في الصحيفة الرابعة من المقدمة في ذلك القانون ونصه أن المتوظفين الكبار التونسيين اختاروه بكلمة واحدة ليكون رئيس الدولة على مقتضى قانون الوراثة المعروف في المملكة وفي ذلك القانون فصول تامة شرحت الحقوق الواجبات للملك وحالة الأمراء من العائلة الحسينية وحقوق وواجبات الرعايا وكيفية خدمة الوزراء وترتيب خدمتهم والمجلس الكبير بالمملكة والمداخيل والحساب ولا شك أن من يطلع عليها يقدر أن يجد ذلك البيان غريباً إذا أراد أن يقيس على رأينا الأروباوي ومع هذا فهو دليل واضح على استقلال مملكة تونس وأنها ليست تحت دولة أجنبية. وجميع المعاهدات التي بين الدول الأروباوية ومملكة تونس منذ مدة الثلاثة قرون الأخيرة لم تقل أبداً إلا مملكة تونس، ملك تونس، ومنها خمس عشرة أو عشرون معاهدة أمضيت بفرنسا فيها ذلك القول، وفي سنة 1868 المعاهدة التي وقعت مع إيطاليا مذكورة فيها الللكة تونس، وتونس أيضاً لم تسم نفسها في قانونها النظامي إلا اسم الذي أطلقته عليها جميع الدنيا وهي أرادت أن توضح المزية التي لها بالاستقلال والقدرة الموافقة له، فبناء على ما سبق من الأدلة القطعية والمتعددة فالباب العالي لا يقدر أن يتعجب من إنكار فرنسا لسيادته على تونس مهما طلب هو ذلك حتى إلى الآن ونحن نقر بأن الباب شدد في طلبه منذ خمسين سنة، وفي سنة 1835 أدخل تحت سيادته طرابلس بعدها ضبط التحيير الهائل هناك وأراد أن يعمم سيادته على تونس إلا أن قوة فرنسا المضادة له منعه من مقصده وبعد عشر سنين أي في سنة 1845 أتى (مابيخجي) السلطان إلى تونس ومعه فرمان ليقلد الباي منصب الولاية إلا انه لم يقبل منه، ثم مضت عشرون سنة من غير تجربة جديدة، ولكن في أواخر سنة 1864 رجعت التخمينات القديمة وإنما هاته المرة كانت المملكة بنفسها هي التي طلبت التقليد ولكن هذا كان من الغريب إذ وقع من الأمير الذي هو حتى لذلك الوقت بعينه وهو يظهر المدافعة عن استقلاله وهذا إنما كان من الإشارات القوية التي خوفت الباي من حالته أمام الباب فأرسل لذلك أمير الأمراء خير الدين إلى القسطنطينية ليعرض ويأتي بالفرمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وهاته المرة أيضاً فرنسا عارضت في ذلك وعوضاً عن الفرمان السلطاني فالباي ومستشاره التزموا بالرضا بمكتوب وزيري متضمن لما في الفرمان، ثم اغتنموا الفرصة وقت مصيبتنا في سنة 1871 وتمموا ما كانوا ممنوعين منه سواء كان في مدة الوي فليب الذي كان غالباً أسطوله يمنع الأسطول التركي من القدوم إلى تونس أو في مدة الإمبراطور الذي لم يقلل من العزم المشار غليه، وفرمان 15 تشرين أول سنة 1871 الذي اتخذوه تحت ظل مصيبتنا اشتهر في 17 تشرين ثاني في باردو وأعلن به خير الدين باسم السلطان وقبله الباي الذي كان طلبه له مع شيء من الغضب، وفرنسا على حال سجلت بقوة، وحسب الفرمان باطلاً أو كأنه لم يقع ومن مدة عشر سنين لم تبطل شيئاً من عملها عندما يقتضي الحال ومع نجاح الباب هو بنفسه له شك في إجراء حق فرمانه بتاريخ سنة 1871 الذي ضرب استقلال مملكة تونس المتقادم وهذا الفرمان انتشر قليلاً إلا أنه عند الغالب لا يعرف ما عدا بعض الدول التي لها فوائد في ترتيب الفرمان المذكور أن تكون تونس جزءاً تحت الباب مع أن حكم باي تونس باق كما كان يعرف منذ مائتي سنة غير أن باي تونس صار والياً أي والياً عاماً على إيالة تونس وعلى موجب فالوراثة في الحقيقة لم تكن مستمرة في العائلة الحسينية خلافاً لما ذكره الفرمان بل الوالي يعزل بإرادة السلطان ومن الممكن أن يعرف الباي ضرره وضرر ملكه وحريته وحياته التي هي غلطته الكبيرة حسبما أشاروا عليه بهأن ومحمد الصادق ليس له خوف من جهة فرنسا ولو مع عمل من الشر معها ومع هذا فهي ليست بضده لا لذريته ولا لذاته ولا لدولته وأما من جهة الباب فهو بالعكس وله الخوف الكبير منه لنه يمكن أن يبدله بحسب الحال". انتهت لائحة وزير فرنسا وإذا تأملها المتبصر وتدبر معانيها يجدها مخالفة للواقع في كثير من الأمور سيما بعض الأحوال التاريخية كما تبين من مقابلة كلامه بما ذكرناه في تاريخ تونس وسياستها وصلتها مع الدولة مع المكتيب الرسمية التي نلقاها حرفياً حتى من متوظفي فرنسأن ويؤكد ذلك ما تراه في لوائح الباب العالي الآتي بيانها فإن الحال لما بلغت إلى درجة هجوم العسكر على الحدود تظاهر والي تونس بأن أرسل إذ ذاك إلى الباب العالي مكاتيب في التشكي من فعل فرنسا وأرسل إلى نواب الدول تسجيلاً على ذلك أيضاً ولما تحقق الباب العالي الأحوال الرسمية أرسل عدة لوائح إلى سفرائه مستنجداً بالدول لمحافظتهم على معاهدة باريس التي أشرنا إليها سابقاً وعلى معاهدة برلين، ومما يفصح عن مقاصد الباب وحقوقه اللائحة التي أرسلها وزير الخارجية بالدولة العثمانية إلى سفراء الدولة ونص تعريبها: اللائحة العثمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 "القسطنطينية في 10 ماي سنة 1881 إن إعلاماتي المختلفة عرفت فطانتكم الوقائع التي صارت في المسألة التونسية وقد نسبت بهجوم بعض القبائل البدويين جهة الجزائر وهذا الهجوم الحكام التونسيون أعلنوا بأنهم حاضرون ليضبطوه من غير تراخ فالدولة الفرنساوية حكمت بأنه يلزمها إرسال عدد وافر من العساكر الذين استولوا على جزء كبير من الولاية ولم يبعدوا عن المركز إلا بعض فراسخ، فمن غير التفات إلى ما كنا أكدنا به على حضرة الباشا ل] اخذ التدابير اللازمة لتمهد الراحة في المواضع الثائرة فدولة الجمهورية لا تريد أن تنظر للمخاطبة الاقترانية بتونس مع السلطنة العثمانية التي هي محسوبة جزءاً مهماً للسلطة المذكورة وأظهرت بأنها لا تقبل قولنا للاتفاق الودادي معها لقطع الاختلاف الذي وقع وترتيب حقوق الباب العالي مع منافع فرنسا في ذلك المحل وترتيب الأشياء الموجودة من زمن قديم ولا نقدر أن نزيد في إيضاحها كما يلزم وهي سيادة السلطان التي ليس فيها اختلاف على هاته الولاية وهي سيادة لا تنكرها ولا ولاية عموماً وهذا الحق بقي إلى الآن صحياً ولم ينقطع من زمن فتحها وهو إذ ذاك سنة 1534 بخير الدين باشا وفي سنة 1574 وتقليج علي باشا وسنان باشا وكانت الدولة العلية أرسلت إلى تلك المواضع قوة عظيمة براً وبحراً ومن زمن ذلك الفتح فالتأسيسات التي فعلها الباب العالي هي أن جميع ولاة تونس يتوارثون الولاية من ذرية الوالي الأول المسمى من السلطان ويتقلدون غلى الآن المنصب منه وفرمانات الولاية تبقى في خزانة الديوان وكذلك جميع المكتيب التي تأتي منهم لبا العالي فإنها تارة تكون في شان مخالطتهم مع الدول الأورباوية وتارة تكون في شأن أحوالهم الداخلية والتي لهاته المدة الأخيرة فإن الباب العالي من استحفاظه على حقوقه زيادة على كونه يسمي الوالي العام فإنه يرسل من القسطنطينية إلى تونس قاضياً وباش كاتب الولاية ولم يمكن إلا من ترحم الدولة العلية أن منحت الوالي أن يسمي هو بنفسه هذين المتوظفين وأيضاً فاتباعاً للمذهب وخصوصية سيادة السلطان فإن الخطب يذكر فيها اسم جلالته ويضرب على السكة أيضأن وفي وقت الحرب ترسل تونس الإعانة إلى التخت وعلى حسب العادة القديمة يأتي إلى القسطنطينية دائماً أناس رسميون ليقدموا تعظيمات الوالي وخضوعه لأعتاب السلطنة وليقبلوا أيضاً الأذن اللازم من الباب العالي لأمور عظيمة في الولاية ثم إن الباشا الموجود الآن والأهالي التونسيين طلبوا زيادة في التفضل وأعطى ذلك لحضرته السامية بالفرمان المؤرخ في 1871 وتعرف به جميع الدول، والآن قد استغاث الوالي بجهد سيده الحقي ليعينه على الحالة الرديئة التي وقعت فيها تونس الآن، وهاته الأشياء التحقيقية لا ينكرها أحد فل تريدون أن تعرفوا الآن تقريرها بالتاريخ وبالمكاتبات الرسمية هو سهل لكن نقتصر على المهم منها لئلا يطول الكلام في هذا التلغراف ففي المعاهدات القديمة التي بين تركيا وفرنسا تعدد ألقاب الحضرة السلطانية ويكون منها لقب سلطان تونس) فانظر مثلاُ) معاهدة 10 صفر سنة 1084 هـ? سنة 1668 م وفي هذه المعاهدات أيضاً يوجد بأن كل المعاهدات التي بين الدولتين تجري أيضاً في تونس وفي نصف القرن السابع عشر أي في 14 صفر سنة 1166 أرسل السلطان فرماناً للباي والحاكم الكبير بالولاية في رضا الباب العالي بأن قنصل فرنسا يجمع خدمات قناصل الدول الذين لم يكن لهم ذاك نواب القسطنطينية كالبرتغال وكتالوني وإسبانيا وفينسيا وفرنسا وغيرهم، والقنصل وكالته هي حماية السفن تحت الراية الفرنساوية في المراسي المشهورة بالولاية والفرمان يمنع تداخل الإنكليز والهولانديز وغيرهم من التداخل في خدمة نائب فرنسا وذلك سند منع التعدي بين الباب العالي والنمسا المؤرخ في 9 رمضان سنة 1197 هـ? المتقرر بمعاهدة ستوفا في 12 ربيع الآخر سنة 1295 فإنه يأذن حكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب بأن يحملوا باسم السلطان السفن التجارية لسلطنة الرومان الفخيمة وأيضاً فإن الاتفاق الذي تقدم هذا السند وتمم في 15 شوال سنة 1161 هـ? بالإذن من السلطان وكان هذا الاتفاق وقع بين الحكام المذكورين والسلطنة المذكورة فغن الوالي العام بتونس وهو غذ ذاك في رتبة بكلربيك ونال اسم علي باشا يذكر في مقدمة كل مكتوب ممضى عليه منه هاته الكلمات بعينها وهي (مولانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 السلطان الغازي محمود) وعلى ذكر واقعات ذاك الزمان أستطرد لكم الإذن الصادر من الباب الغالي في 15 ربيع الأول سنة 1245 هـ? سنة 1827 م لحكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب فإنه يأمرهم أن لا يتداخلوا في الخلاف الواقع بين سلطنة النمسا ومملكة المغرب، وكذلك الإذن الصادر من القسطنطينية لوالي تونس في 14 صفر سنة 1247 هـ? سنة 1830 م فإنه يأمر بترتيب العسكر النظامي بالولاية على نمط الترتيب العسكري النظامي العثماني، وأيضاً قد أتى مكتوب معين بالطاعة من الباشا التونسي لجلالة السلطان في سنة 1860 وذلك الباشا هو الذي سماه السلطان والياً عامأن وقد اشتهر هذا المكتوب في جميع صحف أوربا من غير أن يعارض ولا من جهة واحدة ونزيدكم شيئاً آخر وهو انه في سنة 1863 في واقعة القرض التونسي الذي وقع في باريس من غير رضا الباب العالي كان مسيو دواراون دولويس وزير خارجية الإمبراطور نابليون الثالث قد أعلن رأيه بنأن على شكايات الدولة العثمانية وقال إنه يلزم غما الباشا بتونس أو الصراف الذي يريد عقد القرض معه أن يطلب رضا الباب العالي ليصبح هذا القرض للمدافعة عن حقوق الباب العالي فغن الوزير الفرنساوي أرسل يقول هذا الكلام والحق الذي للدول الممضين على معاهدة برلين وإنا لمحققون بأن فكر الدول محيط بدلائل كثيرة في الواجبات العمومية التي يقتضيها المؤتمر المحترم وانهم يريدون أن يفصلوا بالعدل قولنا الذي قدمناه وأنهم يتحفظون على حقوق الباب العالي الأخرى المحفوظة بالمعاهدة المذكورة ويصلحون الحال بين الدولتين المتممة للسلطة العثمانية والمرغوب من جنابكم أن تتكلم مع وزير الخارجية في مضمون هذا التلغراف وتشرح له ما تراه نافعاً ولكم الإذن بأن تعطوا نسخة من هذا لجناب الوزير إذا طلبكم (الإمضاء مصطفى عاصم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ومن تأمل هذه اللائحة مع ما قررناه في سياسة تونس الخارجية ومقاصد فرنسا فيها لا يشك في أن فرنسا لم تكن تنازع قط في أن تونس من ممالك الدولة العثمانية، وإنما غاية دعواها هو أن تلك الإيالة لها امتيازات جارية تحافظ هي عليها لجل منافعها ويصدق ذلك تصريح وزير فرنسا دواروان دولويس في مجمع فيينا إثر حرب القريم لما سأل الوزير الروسي عن تعيين الممالك العثمانية للجهل ببعضها ومثل بتونس وأنه يتراءى فيها نزاع فأجابه الوزير الفرنساوي بأن لاشك ولا نزاع في كون تونس من الممالك الغعثمانية وإن كانت لها امتيازات تخصها وكذلك المعاهدات المعقودة بين فرنسا وتونس حتى التي وقعت بعد الاستيلاء على الجزائر بمدة طويلة يصرح فيها بأن سائر المعاهدات المعقودة مع الدولة العثمانية تكون مرعية الإجراء في تونس ولا يعزب عن عاقل أن ذلك التصريح لاتحاد تونس بالممالك العثمانية، ومع هذا كله لم يفد استصراخ الدول لأن فرنسا لم تعلن بعملها إلا بعد أن لمست أفكار الدول الكبيرة فوجدتهم غير معارضين لها لأن دولة إنكلترا متولي زمامها حزب الإطلاق الذي لا يرى نفع دولته في المحافظة على الدولة العثمانية بعد أن طال تجريبهم لها في الحث على الجريان على مقتضى نصائحهم ولكنهم لم يروا العمل دونك ما نشر في الكتاب الأزرق من المخاطبات التي وقعت من الحضرة السلطانية ورئيس وزرائها ومع سفير إنكلترا في الآستانة حسبما أهبر بها وزيره بعدة تلغرافات تنبئ بما تقدم فمنها تلغراف من مسيو غوشين (سفير إنكلترا) إلى وزير خارجيتها بتاريخ 19 نيسان سنة 1881 هاته ترجمته إني وجدت جلالته (أي السلطان) مشغول الفكر بهذه الأفعال وبناء على ما عندي من الإذن أعلنت له بأن الدولة الإنكليزية تريد بقاء الحالة الموجودة بتونس والنائب الإنكليزي له الإذن ليرشد الباي إذا استشاره بأن يعين فرنسا في تقرير راحة الحدود وغني أرجو أن جلالته يشير على الباي أيضاً بذلك فالسلطان سكت بعض دقائق ثم ظهر على وجهه الغضب وقال إنه فهم من كلامي أن الدولة البريطانية تريد إبقاء الحالة على ما هي عليه في تونس ولها نفع في ذلك وفهم أيضاً أنا أشرنا على محمد الصادق بأن يعين العساكر الفرنساوية فنبهت عظمته بأن قلت إن الدولة الإنكليزية تنتفع بإبقاء الحالة الموجودة ولكنها تظهر تمني ذلك فقط على هذه الكيفية ونحن نتأسف كثيراً من فتح مسألة جديدة في الشرق، وإنا لا نفتكر أنه توجد فوائد خصوصية لإنكلترا مربوطة بأي كيفية كانت في أحوال تونس، فعند هذا أجاب السلطان بأنه لم ير كيف يجمع بين رجائنا في إبقاء حالة تونس على ما هي عليه ومع ذلك نشير على الباي بأن يعين العساكر الفرنساوية فهذان الشيئان لا يتوافقان لنه على رأيه يكون دخول العساكر الفرنساوية إلى تونس ناقضاً للحالة الموجودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وفي تلغراف آخر من مسيو غوشن أيضاً يقول فيه إن المحادثة التي وقعت بيني وبين باش وكيل كان يطلب فيها صحبة إنكلترا وقال إن الدولة الإنكليزية تقدر أن تعمل مع الدولة العثمانية المعروف وأن الباب العثماني يكون ممنوناً إذا كانت إنكلترا تريد أن تفعل معه ذلك، فقلت له إن ما كنت قلته لكم قد وقع، والذي كنت تقوله دائماً هو انه يأتي زمن تكون فيه تركيا متذكرة بأن صحبة إنكلترا لها لازمة وقد تكلم على الحاجة الأكيدة الآن وتلكم أيضاً على مودة إنكلترا فتبعته وقلت له ما هو دليل المودة الذي أظهرته تركيا لإنكلترا منذ بعض سنين وفي أي وقت اتبعتم إشارتنأن وفي أي وقت قبلت استشارتنا النافعة للسلطة التركية نعم إن الترك قد علموا غاية جهدهم ليتركوا المودة التي في رأي العموم في إنكلترا ورجوعها الآن ليس بسهل فحضرته العلية أجابت بان جميع الأشياء واستمر في طلب الإعانة وأنا شرحت له بأن نازلة تونس مثل النوازل الأخرى الشرقية ولا تقدر إنكلترا على إتمامها وحدها ومع هذا فليس لنا فائدة خصوصية وسياستنا متمسكة بالموافقة الأروباوية ولا دولة تريد قيام عسر جديد قبل أن تتم الإعسار القديمة وكل دولة تكون حازمة إذا كانت تفتش كل واسطة لحصر النازلة التونسية في حدود ضيقة لأقل ما يمكن لئلا تقوم نازلة تدخل فيها الدول برأي مختلف فجنابه يقدر أن يفهم من جملة كلامي بأن ليس لي إذن لتقرر الرجاء بأن تكون الدول العظام الأروباوية يظهرون أنفسهم مختلفين على نازلة مخلبطة بين الباب العثماني وتونس والطلب الخصوصي من إنكلترا ليس بموافق لحالة الباب العثماني منذ بعض سنين مع الدولة المشار إليها. فهذا الخطاب كاف في بيان الحال مع إنكلترا وهي وإن أظهر بعض أهل الشورى التنديد على سياستها وطلب المحافظة على تونس وإبقائها للدولة العثمانية وبين ما نشا لإنكلترا من المضرة عند استيلاء فرنسا على مرسى ابن زرت وعلى قربها من خليج السويس ورجحان كفتها في البحر الأبيض لكنه لم ينفذ كلامه حيث كان حزب المحافظين الذي هو مغلوب حينئذ واحتجت عليه الوزارة بأن حزبه الذي فتح الباب لفرنسا فإن اللورد ملسبري الذي كان وزير الخارجية عند عقد مؤتمر برلين كما باحثه وزير فرنسا على استيلاء إنكلترا على قبرص أجابه بأنه لا يعارض فرنسا إذا أرادت الاستيلاء على تونس. فإذا يكون استناد فرنسا على وعد إنكلترا وقد غفل المستند لذلك عن كون الوعد من ملسبري كان في سياق أن ترضى بذلك الدولة العثمانية صاحبة الملك مع الرضا العام لا اغتيالاً ومع ذلك فلإنكلترا مقاصد على تونس مخفية في مصر فرأت أن مساعدة فرنسا على تونس تلائمها في مقصدها هي في مصر عند الحاجة إذا ساعدتها فرنسا ولهذا لم تعترف بالمعاهدة الجددية مع تونس رسمياً حتى أن وزير فرنسا الأول أعلن في مجلس النواب بأن إنكلترا وافقت على معاهدة وزير فرنسا الأول أعلن في مجلس النواب بأن إنكلترا وافقت على معاهدة مايه استناداً منها لما دار بينهم من الكلام فيها فأعلن وزير خارجية إنكلترا حالاً بتكذيب ذلك الإدعاء وما ذاك إلا تحفظاً على ما يريد لدولته حتى إذا لم تساعفه فرنسا في مصر وآل بينهم الأمر إلى المشاحنة الحقيقية كان لإنكلترا وجه في نقض ما حل بتونس. وأما دولة الروسي فلا إشكال أنه يسرها كل ما يضعف الدولة العثمانية ولا فائدة لها في مشاحنة فرنسا وذلك كان جوابها يمثل محصول جواب سابقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وأما دولة ألمانيا خصوصاً بأن الأولى للدولة العثمانية الإضراب هن هاته النازلة وأنها هي لا تتعرض لفرنسا بشيء والباعث لها على ذلك وجوه (أولها) إظهار عدم التجافي عن فرنسا التي لها عليها حقد أخذ الثأر (وثانيها) جذب أعداء ومضادين لفرنسا كالدولة العثمانية وإيطاليا حتى إذا أعلنت الحرب يوماً ما بين ألمانيا تجد ألمانيا الظهير على قوتها بما لذلك من الباعث الذاتي (وثالثها) أشغال فرنسا بفتوحات جديدة في أراض فسيحة وخلق كثير في أفريقيا ربما طال اشتغالها بهم حتى يبرد لهيب اخذ الثأر (ورابعها) إضعاف قوة فرنسا وقت الحرب إذ الأمم الذين تريد التسلط عليهم وإن لم يكونوا كفؤا لمحاربة فرنسا لخلوهم عن آلات الحرب والاستعداد لها لكنهم لما كانوا مسلمين واهل نجدة وشجاعة ومثافنة للحرب لا يلبثون دائماً أن يحدثوا عليها ثورات سيما إذا علموا بوقوع حرب بينها وبين أجنبي فتضطر فرنسا في وقت الحرب إلى أن تبقى قسماً عظيماً من جيشها محافظاً على ذلك المستعمر وذلك يفيد ألمانيا بنقصان قوة جيش خصمها في حربها (وخامساً) تمهيد السبيل إليها فيما تريد التعارض به بينها وبين النمسا لأن ألمانيا ليس لها مرسى على البحر الأبيض، وقد بقي من جنس الألمان تحت النمسا عدة ملايين حول الجهات التي قرب مرسى ترست فلو أخذت ألمانيا ذلك الباقي من الألمان مع تلك المرسى يكون ذلك غاية أمانيها ولكن ذلك لا يحصل إلا بحرب مع النمسا وقهرها أو بمعارضة ذلك لها بشيء يرضيها من ممالك الدولة العثمانية مثل أخذها ولايات مقدونيا ومرسى سلانيك الموازي ذلك لمت يؤخذ منها حسبما أشيع مراراً ولذلك كانت ألمانيا أول من بادر لأمر نائبها بتونس باتباع سياسة فرنسا فيهأن وتبعتها على ذلك أيضاً النمسا لأنها ليست لها سياسة تخصها في تونس وهي لها مع ألمانيا عقد محالفة اتحاد على الذب والإقدام، ثم إنها لما مطامح في جهة بحر الجزر لتتمكن فيه بمواقع مهمة لكي تسلم في مرسي ترست إلى ألمانيا حليفتها حيث لم يكن لها مرسى في البحر الأبيض كما تقدم ذكره فلا تعارضها فرنسا عند العمل. وأما إيطاليا فإنها تجرعت من لك الغصص وطوت على الضغائن التي لا تزال ولكنها لما كانت غير كفء بانفرادها لمعارضة فرنسأن واتحادها مع الدولة العثمانية أيضاً لا يجدي لاحتياج كل إلى المال مع ما فيه الدولة العثمانية من الحالة الداخلية والخارجية التي أعقبتها الحرب الأخيرة، فلم يسعها إلا السكوت وتحمل عرق القربة مع عظم الضغينة في عموم الأهالي والدولة إذ هي حريصة على إبقاء ما كان في تونس وكانت عند ملاحظتها مبادي الشر عرضت بالسعي السياسي مع الدولة العلية فلم يكن من المقدر قبول الانتباه لما أراده حتى أنكر الوزير العثماني على المأمور الطلياني التكلم معه في تونس وقال له إنها تابعة لنا دخل فيها لحد وعند هجوم فرنسا صار يتملق إلى ذلك المأمور لكي يمد إيطاليا اليد فقالت له مصداق المثل "الصيف ضيعت اللبن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وبما تمهد عبرت عساكر فرنسا حدود تونس معلنة بأنها تريد تأديب قبيلة خمير من أعراب الجبال الشمالية عند حدود الجزائر ولم يتعرض لها أحد بالمصادمة لن حكومة تونس قد تقدمت حالتها الباطنية من التوافق مع فرنسا ومع ذلك فليس عندها تحت السلاح ألفا عسكري ولا اقتدار لها على معارضة فرنسا بالقوة واستندت ظاهراً إلى أمر الدولة العلية بارتكابها سبيل الملاينة واظهر الوزير التونسي إذ ذاك التزام العمل برأي مجلس الشوري حيث فات الإبان مع أن جميع ما يتفاوض فيه يقرره لتابعه علي بالزي ليلاً وهو يقرره إلى نائب فرنسا فكلما غزل المجلس غزلاً نقصه من هو بالمرصاد منهم حتى تعجبوا من اطلاعه على جميع احوالهم، وتمكنت عساكر فرنسا من بلد الكاف وباجة وبنزرت، وفي أثناء تلك المدة كانت الحكومة التونسية لا تزال تسجل وتتشكى وأنها مستعدة لتربية قبائلها الذين هم في نفس الأمر غنما اتخذوا وسيلة فقط، ومع ذلك فقد أوعز الوزير بواسطة تابعه المشار إليه إلى نائب فرنسا بأن لا واسطة مفيدة في الدخول تحت فرنسا إلا قدوم شرذمة من العساكر إلى قصر الوالي والإحاطة به إذ النسوة لما ترى ذلك تصعق بالخوف فيضطر الوالي إلى الإمضاء على الشروط ويجد العذر عند الأهالي، ومع ذلك أرسل خبراً بالسلك الكهربائي إلى الباب العالي يقول أنه قد علم أن فرنسا تطلب عقد شروط ولا يعلم ما هي فماذا يفعل فأجيب من الباب بأن يحيل كلما يطلب منه الباب العالي ولا يمضي شيئاً وقبل ذلك أشاع أصحاب الأخبار أن في عزم الدولة إرسال خير الدين باشا إلى تونس معتمداً في حسم النازلة لمعرفته بأحوالها وسياسة الأهالي والأجانب ولكن يكون عوناً على إبقاء الحالة المعروفة فأرسل الوالي تلغرافاً إلى الباب العالي يطلب أن يكون المرسل غير المشار إليه وتعجب كل غافل عن المقاصد الخفية من ذلك الطلب إذ تلك الحالة لا تدع مجالاً للشخصيات سيما وقد سبقت من خير الدين إلى الوالي المشار إليه المجاملة وعدم الأكتراث بما فعل معه عند حلوله بالأستانة وترقيه فيهأن لكن المطلع على الباطن زاده ذلك تيقناً في التواطؤ على تلك الأعمال لأن وجود مثل خير الدين في تونس لا يروج عليه ما يروج على غيره ممن لم يثافن طبائع الشقين، ومع مجاراة الباب العالي وتقليله لمواقع النزاع قدر الإمكان لتأمين الوالي حيث أظهر الميل إلى الدولة فإنه أي الوالي أسرع إلى إمضاء الشروط مع فرنسا والحال أن مداد الحبر من الباب العالي ينهاه عن الإمضاء لم يجف ولم يجبر الباب بعد ذلك بشيء حتى سأله عما شاع من إمضائه فأجابه بأنه مكره عليه وكل ما ورد بعد ذلك من الباب سلمه غلى نائب فرنسا مدعياً أن الشروط قاضية بلك (وهذا نص تعريب المعاهدة) : إن دولة جمهورية فرنسا ودولة باي تونس أرادوا أن يقطعوا بالمرة التحيير المخرب الذي وقع قريباً في حدود الدولتين وفي شطوط تونس، وأرادوا أن يرابطوا مخالطتهم القديمة التي هي مخالطة مودة وجوار حسن، فاعتمدوا على ذلك وعقدوا معاهدة في نفع الجهتين المهمتين فعلى موجب ذلك رئيس الجمهورية الفرنساوية سمى وكيله مسيو الجنرال برياد الذي يتفق مع حضرة الباي السامية على الشروط الآتية: أولاً: المعاهدات الصلحية والودادية والتجارية وغيرها الموجودة الآن بين الجمهورية الفرنساوية وحضرة الباي يتحتم تقريرها واستمرارها. ثانياً: ليسهل لدولة الجمهورية إتمام الطرق للتوصل إلى المقصود الذي يعني الجهتين العظيمتين بحضرة الباي ترضى بأن الحكم العسكري الفرنساوي يضع العساكر في المواضع التي يراها لازمة لتقرر وترجع الراحة والأمان في الحدود والشطوط وخروج العساكر يكون عندما يتوافق الحكم العسكري الفرنساوي والتونسي على أن الدولة التونسية تقدر على إقرار الراحة. ثالثاً: دولة الجمهورية تتعهد لحضرة الباي بان يستند عليها دائماً وهي تدافع عن جميع ما يتخوف منه لضرر ما في نفسه أو في عائلته أو فيما يحير دولته. رابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية في إجراء المعاهدات الموجودة الآن بين دولة تونس والدول المختلفة الأروباوية. خامساً: دولة الجمهورية الفرنساوية تحضر نحو حضرة الباي وزيراً مقيماً لينظر في إجراء هاته وهو يكون واسطة فيما يتعلق بالدولة الفرنساوية وذوي المر والنهي التونسيين وفي كل الأمور المشتركة بين المملكتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 سادساً: أن النواب السياسيين والقناصل الفرنساويين في الممالك الخارجية يتوكلون ليحموا أشغال تونس وأشغال رعيتها في مقابلة هذا فحضرة الباي تتعهد بأن لا تعقد معاهدة عمومية من غير أن تعلم بها دولة الجمهورية ومن غير أن يحصل على موافقتها من قبل. سابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية ودولة حضرة الباي أبقوا لأنفسهم الحق في أن يؤسسوا ترتيباً في المالية التونسية ليمكن لهما دفع ما يلزم الدين التونسي العام وهذا الترتيب يضمن في حقوق أصحاب الدين التونسي. ثامناً: إن غرامة الحرب يغضب عليها القبائل العصاة بالحدود والشطوط وتفعل دولة الجمهورية مع حضرة الباي فيما شروطاً على كميتها وكيفية دفعها ودولة حضرة الباي تضمن في ذلك. تاسعاً: للمدافعة على منع إدخال السلاح والالات الحربية للملكة الجزائرية الفرنساوية فدولة باي تونس تتعهد بأن تمنع دخول الأشياء المشار لها من جزيرة جربة ومرسى قابس وسائر المراسي الجنوبية في المملكة. عاشراً: إن هاته المعاهدة توضع لدى رضا الدولة الجمهورية الفرنساوية وترجع في أقرب وقت ممكن لحضرة الباي السامية. حرر في 12 ماي 1881 بالقصر السعيد الإمضاء محمد الصادق باي والجنرال برياد. والذي يؤكد صدق التواطؤ من قبل أن الوالي طلب ظاهراً من نواب فرنسا وهما أمير العساكر والقنصل أن يمهلاه مدة للتأمل من حالة الشروط فأجابه القنصل بأنه لا داعي إلى ذلك حيث أن الشروط عند وزيرك من مدة وتأملتها أنت وهو لم يبق إلا لإمضاء ويؤيده أيضاً أن رئيس المجلس البلدي السيد محمد العربي زروق أحد أعضاء مجلس الشورى أصر على عدم الموافقة على إمضاء الشروط وألح على الوالي بذلك عند جمعه للمجلس وأمير عسكر فرنسا منتظر لانبرامها ونصحه بأن ما يخشى منه بعدم الإمضاء سيقع لا محالة بعيد الإمضاء فالتمسك بالبراءة الأصلية أسلم وأشرف وعورض بأنه قد علم أن الوالي إذا لم يصحح يولي الفرنسيس عوضه أخاه الثالث (محمد الطيب باي) لأنهم أكدوا أن له اتفاقاً مع الفرنسيس فأجابه بأن جميع الأهالي لا تطيع الوجه المذكور وعلى فرض قهرهم يكون الوالي على شرفه وربما اضطرت الدول إلى التداخل بوجه يحسن الحال، فلم يلتفت لكلامه وعزل إثر ذلك من جميع وظائفه وجعلت عليه مراقبة في داره وحجر عليه مخالطة الناس وتحقق مزيد الإضرار به إلى أن احتمى بقنصلية إنكلترا وسافر عن وطنه وأقام بالأستانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ويشهد صراحة للتواطؤ ما صرح به البارون بيانك الفرنساوي في تشرين الأول سنة 1881 بما وقع في هاته المسألة وأنه كانت أرسلته دولته حيث كان أحد مأموري الوزارة الخارجية لاستقراء أمر تونس وذلك في كانون الثاني سنة 1881 وأن الوالي أجاب إذ ذاك فرنسا بأنه يقبل الشروط إذا كان الواسطة فيها هو فرديناند لسبس لأنه كان يؤمل بواسطة المذكور الحصول على شروط أوفق له وأن الشروط إذ ذاك كانت غير التي قررت الآن ومع ذلك كله لم تعلم الدولة العلية بشيء وبه يعلم صدق الكلام في إضمار الوزير التونسي الشر للبلاد ولي بالخصوص أعمال النائب لفرنسا عند إمضاء المعاهدة أن طلب من الوالي نفي علي بالزي حالاً لكي لا يبيح بما وقع من الأسرار التي أطلع عليها فنفي إلى حصن قابس ثم توجه الوزير ابن إسماعيل إلى باريس في سفينة فرنساوية حربية شاكراً لإنعام فرنسا بتلك المعاهدة ومعلناً لها بأنه يصدق في خدمتها أزيد مما كان يبذله سابقاً كذا في عبارته الرسمية عند ملاقاته رئيس الجمهورية المنشورة في الصحيفة الرسمية فقلدته فرنسا بأكبر نيشان لها مع الشريط الأكبر ورجع إلى تونس ولم يلبث بضع أشهر حتى ورد المر على الوالي من وزير فرنسا بعزل وزيره ابن إسماعيل لأن نائب فرنسا بتونس توجه غلى باريس وتفاوض مع دولته فيما يسلكونه في تونس حيث غن الأعراب والجهات الجنوبية أعلنوا بأن الوالي لما بغى على الدولة العثمانية بدخوله تحت حماية فرنسا فهم لا يطيعونه لنهم بايعوا أمير المؤمنين سلطان الدولة العثمانية قديماً وحديثاً فلا يحل لهم الخروج عليه، وهرب على الوالي جميع عساكره فاضطرت فرنسا لتعبية الجيوش لتطويع الأعراب، وكان من جملة التدبير عزل ذلك الوزير الذي توقعوا منه أن يفعل معهم مثل ما فعل مع البلد الذي وصل فيها إلى تلك الدرجة وتحقق الوزير ما ضرب من المثل بوزارة العلقمي وغن كان هذا أي ابن إسماعيل قد امتاز بجميع خزائن أمراء تونس حتى كان آخر ما بقي للوالي من مفاخر الجواهر عقد لؤلؤ منظم سبحة بها مائة حبة مع حلية زمرد محاط بها الياقوت الأبي، فأعطاهما إليه عند سفره لباريس بعد العزل المذكور ورام بسفره إرضاء فرنسا عليه وإرجاعه إلى الوزارة وبقيت البلاد إلى الآن في حيرة واضطراب ودخلت العساكر الفرنساوية إلى قصبة الحاضرة وإلى منازل العساكر في المدينة وأمام قنصلية فرنسا وسكن رئيس العساكر الفرنساوية بدار المملكة في بطحاء القصبة وصارت الحكومة لا تتصرف في شيء إلا بأمر الوزير الفرنساوي سواء كان في الداخلية أو في الخارجية، وتفاقم الضرر بولايات غير الأهل في الوظائف بوسائل غير مرضية، وعظم الكرب على القبائل والبلدان بما حصل فيها من العساكر الذين أقاموا بالقيروان وسوسة وهدموا صفاقس وخرجوا من قابس بعد دخولها وعادوا غليهأن ونسأل الله تعالى أن يتداركنا بألطافه وبحسن العاقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ومما ينبغي التنبه إليه هنا أن الأحوال السياسية التي أشرنا إليها مع الدول سيما مقاصد ألمانيا لا يمكن أن تخفى على أمة عاقلة مثل الفرنساويين فكيف مع ذلك أقدموا على تبوؤ تونس مع كون الفائدة التي تحصل لهم منها لا توازي ما ذكر سيما إذا كان المعاهدة مع تونس التي ذكرناها تجري حقيقة على ظاهرها فالجواب أم كثيراً من عقلاء الفرنسيين قد نددوا على دولتهم وما زالوا في الاعتراض عليها لكنها بعد الوقوع في الأمر المتسبب عن تهور ممن بيدهم مقاليد السياسة حتى اتهمهم مضادوهم من نفس الفرنسيين بان لهم في ذلك أرباحاً ذاتية من التجارة في الرقاع الدولية وموهوا على العامة بالانتصار لحفظ ناموس فرنسأن فبعد ذلك صعب على الدولة إهمال سعيها ما خسرته من الأموال المتجاوزة مائة مليون ومن الرجال الذين ماتوا بالحرب مع الأعراب والأمراض المتجاوزين خمسة وثلاثين ألفاً فرأت فرنسا التحفظ على ما وقع مع السعي في حسن السلوك الذي يخفف أو يدفع عنها الغوائل المنتظرة ثم وراء ذلك أمر مهم جداً لفرنسا وهو طمعها في إحداث مملكة عظيمة في إفريقيا مثل ما للإنكليز في الهند فتريد أن تمتد من الجزائر إلى ما جاورها شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى دواخل إفريقيا والسودان وتصل بين شاطئ إفريقيا الغربي في سانيغال والشرقي في الجزائر وتونس حتى رسمت جمعية فرنساوية رسماً لخط الحديد في ذلك ولو يتم هذا يكون لفرنسا شان عظيم غير أن القياس على الهند الإنكليزي هو قياس مع الفارق لا من جهة سياسة الفرنساويين في مستعمراتهم من حيث قلبها إلى عوائد الفرنسيين وإناطتها الإدارة في الكليات والجزئيات بباريس ولا من حيث أخلاق الأمم المستوطنين بإفريقيا والمتسوطنين بالهند، وغن شئت الوقوف على برهان ذلك فانظر ما حررناه في أحوال الجزائر وفي أحوال الهند وفي سياسة كل من الدولتين تتبين لك حقيقة الحال وبما ذكرناه هنا يندفع الاعتراض على ما ذكرناه في سياسة تونس الخارجية من كون فرنسا لا تريد الاستيلاء عليها مع كون أعمالها ناقضت ذلك وشرح الدفع يؤول إلى أن الحامل لدولة فرنسا على مخالفة ما سبق من مقاصدها في تونس شيئان أحدهما سياسي ظاهري والآخر خصوصي باطني، فالباطني هو المشار إليه بما وقع من التهمة في نفع الأفراد الذي يأتي له مزيد شرح في مبحث الأحكام، والظاهري هو أن الدول قد تغيرت أفكارهم بالنسبة لمحافظة الدولة العثمانية منذ عقد معاهدة برلين فدلت أعمالهم على أن من ناسبه شيء منها وكانت له قدرة على حوزه بادر إليه وغض عنه النظر بقيتهم إذا كان المحوز أكثر مناسبة بالحائز وقد علمت مقاصد فرنسا ف يتونس ورأت أن إيطاليا لها من المقاصد والمناسبات ما يزاحمها ثم رأت سيرة ابن إسماعيل وانه غير أمين فلا يبعد أن يفعل مع إيطاليا أو غيرها من الدول ما فعل معها لخوف أو طمع مع تيسر إجراء الأمور بواسطته فانتهزت الفرصة خوفاً على درجة نفوذها فبادرت قبل أن تبادر إيطاليأن ومن المعلوم أن السياسة تدور مع الأحوال الحاضرة ولله عاقبة الأمور". إلى هنا انتهى الذيل الذي كتبه صاحب الصفوة. ما بعد الحماية لم يحدث في المدة التي أعقبت الحماية حوادث ذات أهمية لقصر المدة التي ما بين الاحتلال وانتقال موقع الحماية إلى الدار الآخرة. ومن المتوقع أن معاهدة المرسى كانت مهيأة لأن يوقعها موقع معاهدة باردو وغنما عاجلته المنية أو هي مخبأة لمن يأتي بعده. عاش المشير الثالث محمد الصادق باي بعد إعلان الحماية إلى سنة 1299. وهذا ما جاء في الرائد الرسمي إخباراً بوفاته في العدد (50) المؤرخ يوم الأربعاء 20 ذي الحجة 1299. قسم غير رسمي في السبت الفارط 16 ذي الحجة (1299) فجع القطر التونسي وتزعزعت أركانه بفقد غرة جبينه، وصادقه وأمينه، المولى الجميل الذكر المشير محمد الصادق باشا باي هطلت عليه سحائب الرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان، وقد أسفت السكان على اختلافهم من فقده وأفول بدره، برد الله ثراه وأولاده من نعيم الجنة ما أولاه. وجاء في نفس العدد المذكور: (هذا ولما بلغ نعيه مسامع ضو الشجرة الحسينية الثابتة الأصل المباركة المولى المعظم الأرفع سيدنا علي باشا باي أقبل للجلوس علة الدست الحسيني وقبول المبايعة الخاصة حيث كان ولي عهد المقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وعندما وصل جنابه إلى سراية المرحوم انعقد موكب خاص حسب العادة المألوفة فيما بين الآل الحسيني مؤلف من جنابه أيده الله والوزير الأكبر، وبقية الوزراء الفخام، والمجلس الشرعي وبايعه الحاضرون. وقد حضره الهمام الأفخم مسيو كامبون وزير الدولة للجمهورية الفرنسية المقيم بحاضرة تونس وتلا خطاباً بالنيابة عن دولته المحترمة وتأتي ترجمته) . ولما لهذا الخطاب من أهمية توضح مرامي فرنسا في ابتلاع النفوذ التونسي بعنوان إجراء الإصلاحات التي خطوتها الأولى معاهدة المرسى ننشره توضيحاً لخطى الحماية الفرنسية التي أرادت ذوبان الذاتية التونسية خطوة خطوة، ولولا لطف الله تعالى بالحصول على الاستقلال لاضمحلت الأمة التونسية. ونصه: قد جئت أنا (أي كامبون) في حق الجمهورية الفرنسوية الحبيبة الحامية للملكة التونسية نشارك حضرتكم في الحزن الذي أصابكم في أعز أوديكم كذا. ونغتنم فرصة ولايتكم لنحقق احترام وصادقتي لحضرتكم. ونعرف حضرتكم باليقين أنها تقدر أن تستند على فرنسا كذلك. والدولة الفرنساوية تعتمد على العلامة المشهورة التي برهنت بها حضرتكم عند الموافقة بجوار عساكرنا. وإحساس هذه الثقة التامة الموجودة ما بين الدولتين في بعضهم بعضاً يعجل، وهذا عندي محقق، إجراء الإصلاحات اللازمة للغاية. وما عطل حضرة محمد الصادق على شروعها إلا حضور أجله. وبحول الله يعود لهذه البلاد غناها وثروتها السابقة. هذا هو الدعاء الذي ينفتح به ملك حضرتكم، وهذا هو المرغوب الذي دائماً نعين حضرتكم لاتصاله فيما يخصني، وأنا جاعل نصب عيني فائدة العامة من دون التفات إلى اختلاف الجناس لهذه الأمة التي منذ اليوم ترأسها حضرتكم والتي فرنسا تحامي عليها. وأجاب الأمير علي باي على هذا الخطاب بما لفظه. نستكثر خير الدولة الفخيمة الجمهورية كثيراً على ما نتحققه من وثيق صداقتهأن وخير جنابكم الذي نتحقق جميل وساطته. وبجانب هذا الخطاب نجد فقرة أحدهم بهامش نسخة من النزهة الخيرية توضح كيف أن المتولي الأول في عهد الحماية لم يتقدم للإمارة إلا بعد أن توثق منه المقيم العام بأنه ملزم بتوقيع المعاهدة التي تعتزم عقدها فرنسا. وهذا نص ما كتبه بعضهم في النزهة الخيرية لسنة 1299 تعليقاً على اسم الباي: توفي سيدنا محمد الصادق باشا ليلة السبت السادس عشر من ذي الحجة الموافق للسادس من أكتوبر سنة (1299) على أن عمره تسعون سنة والصواب أن عمره سبعون سنة كاملين كذا) . وفي صبيحة السبت توجه كامبون وزير فرنسا المقيم بالحاضرة، والسيد محمد الوزير الأكبر، والشيخ العزيز بوعتور باش كاتب إلى سانية علي باي بالمرسى وعزوه في أخيه، وطلبوا منه القدوم معهم إلى باردو، فقدم مع كامبون وأولاده عوض أخيه على شرطها عليه، وقبلها منه وتركا في السراية منفردين ما يقرب من أربع ساعات منفردين للمفاوضة لقبول البيعة من الحاضرين. ثم قبل الزوال بنصف خرج مصاحباً لكامبون عن يمينه وأجلسه على الكرسي وقبل البيعة قرأها إلياس بالنيابة عنه قبل جلوسه. هذا التعليق لم يذكر كاتبه اسمه والظاهر انه من المتصلين بالحكومة ومن خواص الصادق باي، وتعليقه هذا يشرح لنا كيف جلس علي باي على دست الإمارة وأنه لم يجلس إلا بعد توثق كامبون من انه لا يمانع فيما يملى عليه في المستقبل. الأمير علي باي 1299 1320 افتتح عهده باستقالة الوزير محمد بفتح الميم خزنة دار واستقالته مبنية على ما رآه من مرامي فرنسا لابتلاع الذاتية التونسية. فبعد أسبوع من جلوس هذا الأمير قدم الوزير المذكور استقالته. جاء في الرائد التونسي عدد 41 سنة 24 بتاريخ يوم الأربعاء 27 من ذي الحجة (1299) ونوفيمبر (1882) تحت عنوان: استعفاء جناب الوزير الأكبر سيدي محمد وبعد الإشادة بأعمال هذا الوزير جاء خبر تولي خلفه: وفي يوم السبت الفارط دعا مولانا جناب أمير الأمراء الشيخ سيدي محمد العزيز بوعتور فقلده الوزارة الكبرى. وكانت فاتحة الأعمال معاهدة المرسى في أواخر جمادى الثانية من سنة 1300 وفي 8 ماي من سنة 1883. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 خولت هذه المعاهدة حق الحماية للدولة الفرنسية بفصلها الأول الناص على أن الغرض هو إتمام الحماية لذلك يتكفل الباي بإدخال الإصلاحات الإدارية والعدلية التي ترى حكومة فرنسا الفائدة في إدخالها. لذلك كانت الحكومة التونسية بالباي والوزير الأكبر آلة تنفيذ لما تراه الحكومة الفرنسية من تقييد للحكومة التونسية بعنوان الإصلاحات. ولم تمض إلا مدة وجيزة على معاهدة باردو حتى استصدرت الحكومة الفرنسية أمراً من الباي في إنشاء الكتابة العامة كما في منتخبات الرائد التونسي المبدوءة من 1299 إلى 1300 ويوافق التاريخ المذكور لإصدار أمر الكتابة العامة 4 فيفيري سنة (1883) ومن ذلك الحين والسلطة التونسية في ذوبان والسلطة الفرنسية في تركيز وتثبيت إلى أن جاءت الخطوة الحاسمة بالاستقلال. وهذا الباي من أطول الملوك الحسينيين عمراً إذ عمره (87) سنة فقد ولد سنة (1233) وتوفي سنة (1320) . ابنه الأمير محمد الهادي باي 1320 1324 كان فيه انكماش عن فرنسا مما أدى إلى نفار بينه وبين بعض رجال دولته. وقد أراد هذا الأمير الأخذ بيد العلوم الإسلامية فحضر بعض أختام الحديث سنة ولايته، واعتنى بطبع بعضها وهي التي ختم بها سنة (1320) . الأمير محمد الناصر باي 1324 1340 عاش هذا فترة من التاريخ التونسي تعد من فتراته الانتقالية سواء بالنسبة لتونس خاصة أو بالنسبة للعالم. أما بالنسبة للعالم فقد نشبت الحرب العالمية الأولى في سنة (1914 1918) التي شاركت فيها أكثرية من دول العالم وانقسم المتحاربون فيها إلى قسمين الحلفاء ودول الوسط تتزعمهم ألمانيا. ونتج عن هذه الحرب وود دول عربية، وبدأ العالم العربي يعتمد على نفسه دون الاتكال على الخلافة التي انتهى أمرها (1224 م) . كما أن مبادئ ولسن الرئيس (27) الربعة عشر التي أعلنها في سنة (1918) م والتي منها تقرير المصير حركت مشاعر الحرية. وأما بالنسبة لتونس فإن هناك نهضة نشأت من عوامل مختلفة منها: التحاك بالغرب. والنهضة العربية التي أيقظتها الأحداث فأرادت مسايرة ركب الحضارة. وسقوط الخلافة الذي بعث هزة في تونس حيث أدرك التونسيون أنه لا اعتماد للشعوب إلا على نفسها. والتأثر بالحركات الوطنية في الخارج. الحركة التونسية في الخارج التي ابتدأها الشيخ إسماعيل الصفائحي (1337) والشيخ صالح الشريف (1338) ، ومحمد باش حانبة (1336) . ومن الأحداث في مدة هذا الأمير بدء الحركة السياسية فقد تأسس الحزب الحر الدستوري اختفاء ثم إعلاناً. ومن بواكير أعماله وفد الأربعين الذي أعلنت فيه المطالب التونسية وأم هذا الوفد الأمير محمد الناصري باي. وتلكم عن وفد الربعين الزعيم التونسي الجزائري احمد توفيق المدني في مذكراته حياة كفاح فقال ما ملخصه: لم يكن من المنطق السليم أن يذهب الوفد التونسي إلى باريس لعرض رغائب تونس دون أن يقع عمل مشابه لذلك لعرض القضية على سمو باي تونس وإشراكه في المسؤولية. وتركب الوفد من مجموعة تمثل كافة طبقات الشعب التونسي. ثم يقول: وأسندت رئاسته لعالم من أكرم العلماء ومدرس من أفضل المدرسين هو الشيخ الإمام محمد الصادق النيفر الذي أشهد أنه أبلى البلاء الحسن وناضل النضال المجيد.. في سبيل القضية التونسية. وأعلن وفد الأربعين المطالب التونسية في 2 شوال سنة 1338 وفي 19 جوان سنة 1929. وسافر في شهر جوان من السنة المذكورة الوفد الأول الدستوري الممثل للجنة التنفيذية. فتشكلت الحركة بشكل حركة منظمة منبعثة للعمل في الداخل والخارج، وقد نبهت المستعمر أن الشعب التونسي ليس بالشعب النائم، إذ أخذ ينقض عنه ما تراكم من تلك القرون المظلمة فأصبح يحسب له حسابه. الأمير محمد الحبيب باي 1340 1347 من أهم الأحداث في مدته أنه بادر إلى التوقيع على الإصلاحات التي قدمها له المقيم فيما يخص تعويض المجلس الشوري بمجلس يسمى المجلس الأكبر. والفرق بين المجلسين غير كبير فمجلس الشورى كان يتركب من قسمين فرنسي وأهلي هكذا كانوا يعبرون عن القسم التونسي. وبتركب القسم الفرنسي للمجلس الشوري من (36) عضواً. والقسم التونسي المعبر عنه بالأهلي من (16) عضواً يعينون كل أربع سنوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وانظر أسماء الأعضاء التونسييين في السنة الحادية عشرة من الرزنامة التونسية ص142. وأما المجلس الأكبر فأعضاؤه الفرنسيون (44) والتونسيون (18) . وجاء تفصيل تركيب المجلس التونسي المسمى بالأهلي في السنة الأولى للتقويم التونسي ص (47) ومكان التوقيع على هذه الإصلاحات في 13 جويلية سنة (1922) . وثارت حول هذه الإصلاحات ضجة كبرى بسبب النظرة إليهأن وبسبب دخول بعض الوطينن في انتخابات هذا المجلس. واسم هذا المجلس (مجلس المملكة التونسية الأكبر) . الأمير احمد باي 1347 1361 في طالعة ما حدث في مدته تأسيس الديوان السياسي الذي كان الطريق إلى الاستقلال التام . وابتدأت الحركة التي نتج عنها تأسيس الديوان السياسي وهي ناتجة عن حدثين هامين فيهما طعن للإسلام وطعن للوطن. الحادث الأول المؤتمر الأفخارستي بعاصمة تونس في سنة (1348) (1930) الذي تبرأ من المشاركة فيه شيخ الإسلام الحنفي ورئيس المفتين المالكي. والحادث الثاني هو ذكرى الاحتلال لتونس الذي لم يتم. وفي سنة (1932) أسس الأستاذ الحبيب بورقيبة جريدة (العمل التونسي) . وتبلورت الحركة الوطنية بتأسيس الديوان السياسي (1352) وفي مارس (1934) . الأمير المنصف باي 1361 1362 هو أول أمير خلع حياً من الأمراء الحسينيين خلعته السلطة الفرنسية إثر دخول الحلفاء إلى تونس، ونفي إلى الخارج. ويمتاز هذا الأمير بأنه تزعم الحركة الوطنية في مدة إمارته. وتوفي في منفاه في (بو) سنة (1367) (1948) . الأمير محمد الأمين باي 1362 1376 جرى في عهده كثير من الأحداث حيث إن الشعب التونسي كان شعباً ناضجاً فمن أهم هذه الأحداث. نهضة الزيتونة فقد تقدمت الزيتونة التي أصبحت تتمتع بمثل ما تتمتع بع بقية المؤسسات التعليمية لأنها كان منظوراً إليها بعين غير العين التي ينظر بها إلى المؤسسات المضطلعة بمهمة تعليمة كبرى. الاستقلال الداخلي وقامت في أيامه الثورة التونسية بالمقاومة المسلحة. وبعد جهاد محكم نالت تونس استقلالها الداخلي إذ أعلن منداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية استقلال تونس الداخلي، في 30 ذي القعدة سنة (1373) وفي 31 جويلية (1954) . وأعقب إعلان الاستقلال الداخلي تكوين وزارة تفاوضية لإرساء الاستقلال الداخلي ونجم عن ذلك الحركة اليوسفية لمقاومة الوضع الجديد، ولكنها لم تعمر طويلاً. الاستقلال التام وأعلن الاستقلال التام في 7 شعبان (1375) و20 مارس (1956) . افتتاح المجلس التأسيسي وفي 26 شعبان 1375 وفي 8 أفريل 1956 اجتمع المجلس التأسيسي لسن دستور البلاد التونسية. وهو أول مجلس شعبي في البلاد التونسية، وكان يوم افتتاحه يوماً مشهوداً. وانتخب الرئيس الحبيب بورقيبة رئيساً له. وكان من مبادراته أنه أعلن في أول فصوله الأولى أن تونس دينها الإسلام ولغتها العربية. ولكون المجلس التأسيسي أول مجلس انتخابي في هذه الديار اعتنت بذلك الصحافة اعتناء زائداً. من ذلك أن جريدة الزيتونة استجوبت عدداً من المرشحين لإبداء آرائهم في هذا الحدث العظيم في تاريخ تونس، وفيما سيقدمه هذا المجلس. وكان من المستجوبين المحقق لهذا الكتاب محمد الشاذلي النيفر، وقد ركز في إجابته على أن يكون الدستور التونسي كما يأتي. (لا مناص من أن يكون الدستور التونسي متماشياً مع مقتضيات الزمن كما انه يربط قافلتنا بالعالم الإسلامي والعالم العربي، ورائده الإسلام) . الزيتونة عدد 8 من السلسلة الجديدة. أول وزارة العهد الاستقلالي تشكلت أول وزارة في عهد الاستقلال برئاسة الرئيس الحبيب بورقيبة وهي أول وزارة تضم ستة عشر وزيراً. وكان وكيل رئيس الحكومة الأستاذ الباهي الأدغم. وكان ذلك (في 4 رمضان 1375) و (15 أفريل 1956) . وتم على يدها في أوائل عهدها تركيز الذاتية التونسية في الديبلوماسية، والمن والجيش، والاقتصاد والمالية، مما طوى لها مراحل في أمد قصير، ولولا تلك الخطوات الجزيئة لما تم ذلك فإن الوزارة الاستقلالية استثمرت بعض المواقف فتوسعت في فهم وثيقة الاستقلال، وبذلك انقلب الوضع رأساً على عقب بالنسبة للدولة الحامية فانفلت زمام المر من يدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وأصبت تونس بعد تلك الجرأة السياسية البرعة لا يقيدها قيد في استقلالها على حسب إرادتها لا إرادة الحامية السابقة وهي فرنسا. إعلان الجمهورية أرادت تونس استكمال نظامها السياسي المختار علاوة على حريتها التي نالتها بجهادها المتواصل. ولم يحدث يوم إعلان الجمهورية ما يصاحب عادة الانتقال من نظام إلى نظا م م نم سفك دماء، وهزات شعبية، إذ جرى إعلان الجمهورية في رحاب مجلس منتخب أعلن بالإجماع الجمهورية وإلغاء الملكية. وعبر الكثير من الأعضاء في الجلسة التي أعلنت الجمهورية عن آرائهم في الجمهورية يوم الخميس 26 ذي الحجة 1376 وفي 25 جويلية 1956. وقد ساهم كاتبه في الجلسة التاريخية فعلان الجمهورية بكلمة لخصتها كتابة الأخبار والإرشاد في كتابها الأول: ثقف نفسك في السياسة بما يلي: فحوى كلمة الشيخ محمد الشاذلي النيفر: (لقد جعل الإسلام الكلمة للشعب في اختيار من يرتضيه لحراسة مصالحه، والذود عنهأن ولهذا جعل الخلافة شورى، فقد كان المسلمون أحراراً في اختيار خليفتهم. وقد ربى الإسلام المسلمين على أن يفهموا أن الشورى جزء لا يتجزأ من الحكومة وجزء لا ينفصم من الأمة، حتى أنه قرر مبدأ الشورى في حق من عصمه الله تعالى، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وإن هذه الأمة حين أخذت طريقها السوي وأنقذت نفسها من استعمار غاشم قد أرادت لنفسها نظاماً يضمن لها أن تكون أمة في مصاف الأمم الناهضة بحق وجدارة. فحين نختار اليوم النظام الجمهوري لا نرمي من وراء ذلك الاختيار إلى أية غاية إلا أن نكيف الدولة ونينيها بناء لا يتسرب إليه الخلل على تعاقب الأيام) . وفي تلك الجلسة التاريخية أصدر المجلس القومي التأسيسي برئاسة جلولي فارس رئيس المجلس القومي التأسيسي القرار التالي المتضمن لإعلان الجمهورية وانتخاب رئيس لها وهو فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة. بسم الله الرحمن الرحيم نحن نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب. وتدعيماً لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب. وسيراً في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجه المجلس في تسيطر الدستور. نتخذ باسم الشعب القرار التالي النافذ المفعول حالاً: أولاً: نلغي النظام الملكي إلغاء تاماً. ثانياً: نعلن أن تونس دولة جمهورية. ثالثاُ: نكلف رئيس الحكومة السيد الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور في حيز التطبيق ونطلق عليه لقب رئيس الجمهورية التونسية. رابعاً: نكلف الحكومة بتنفيذ هذا القرار وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري كما نكلف كلاً من رئيس المجلس والأمين العام لمكتب المجلس والحكومة بإبلاغ هذا القرار إلى الخاص والعام. أصدرناه في قصر المجلس بباردو يوم الخميس في 26 ذي الحجة سنة 1376 وفي 25 جويلية سنة 1957 على الساعة السادسة مساءً. جلولي فارس رئيس المجلس التأسيسي ختمت الملكية بتونس في آخر سنة 1376 وانتقلت البلاد إلى العهد الجمهوري برئاسة فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة رئيسها الحالي أجرى الله على يديه الخير موفقاً لما فيه رضاه بنهضة إسلامية لهذه البلاد مركز الإشعاع الإسلامي. الوزارة التونسية رأت البلاد التونسية تقلبات متعددة في أطوار مختلفة فبعد أن كانت عضواً في الخلافة الإسلامية سواء في الطور الأموي، أو الطور العباسي استقلت استقلالً داخلياً من الخلافة العباسية، إلى أن انفصلت عن الخلافة وأصبحت دولة تناوي الدولة العباسية وفي ذلك الطور كان هيكل الدولة مكتملاً بكل رجال الدولة. وجاءت صنهاجة بنظامهأن وكذلك الدولة الحفصية إلى أن رزحت تونس تحت الحماية الإسبانية، ثم جاءت الدولة العثمانية فأصبحت البلاد التونسية ولاية عثمانية ففقدت المقومات التي للدولة، ومنها الوزراء. ثم أخذت تونس تسترجع سيادتها في البوتقة العثمانية إلى أن تكونت الدولة التونسية بالإمارة والوزارة والمعروف أن الوزارة المتصلة بالعهد الحاضر ابتدأت في إمارة الأمير علي بن حسين باي الذي تولى الإمارة من سنة (1172) إلى سنة (1196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ومن المفيد ذكر رؤساء الوزارات بتونس منذ عادت الوزارة في تونس إلى العصر الذي نعيشه اليوم وهو العام الأول من القرن الخامس عشر (1401) . مدة الولاية سنة الوفاة 1 مصطفى خوجة 1172 1196 1215 2 يوسف صاحب الطابع 1196 1230 استشهد في 1230 3 العربي رزوق أول وزير في العهد التركي من أبناء البلاد 1230 1238 قتل سنة 1238 4 حسين باش مملوك 1238 1245 1274 5 شاكير صاحب الطابع 1245 1253 قتل سنة 1253 6 مصطفى صاحب الطابع 1253 1256 1277 7 مصطفى خزاندار 1256 1290 1295 8 خير الدين باشا 1290 1294 1308 9 محمد خزندار (1) 1294 1295 10 مصطفى بن إسماعيل 1295 1298 1327 11 محمد خزندار (الوزارة الثانية) 1298 1300 12 الشيخ محمد العزيز بوعتور 1300 1325 1325 13 محمد بن فرحات الجلولي 1325 1326 1327 14 يوسف جعيط 1326 1333 1333 15 الطيب بن حسين الجلولي 1333 1340 16 مصطفى دنقزلي 1340 1345 1345 17 خليل أبو حاجب 1345 1350 1948م 18 الهادي الأخوة 13501932م 1942 م 19 محمد شنيق (1) 13621943 م 20 صلاح الدين البكوش (1) 1943م 1947م 21 مصطفى الكعاك 1947 1950 22 محمد شنيق (2) 1950م 1952م 23 صلاح الدين البكوش (2) 1952م 1954م 24 محمد الصالح مزالي 1954م 1954م وفي المدة التي استقالت فيها وزارة محمد الصالح مزالي إلى المدة التي تشكلت فيها وزارة التفاوض كان هناك موظفون يباشرون المهمات الوزارية إلى أن تشكلت الوزارة التفاوضية برئاسة: 25 الطاهر بن عمار (1) 8 ذي الحجة 1373 و7 أوت 1954 م. وهي أول وزارة تونسية صرفة تتركب من عشرة وزراء وهي التي تولت المفاوضة مع الحكومة الفرنسية في شان الاستقلال الداخلي. وكان التفاوض المؤدي إلى حل الأزمات مع رئيس الديوان السياسي الحبيب بورقيبة. ورجع الرئيس إلى تونس 10 شوال 1374 وفي غرة جوان 1955 م. وفي 29 المحرم 1375 و17 سبتمبر 1955 م تألفت وزارة التفاوض الثانية من: 26 الطاهر بن عمار (2) . وتركبت من أثني عشر وزيراً. وسعى الديوان السياسي في إتمام خطواته الحاسمة لنيل الاستقلال التام فاستؤنفت المفاوضات إلى أن انتهت بالاستقلال التام فغي التاريخ المتقدم، وبذلك أنفسح الجو أمام العمل، فلهذا تكونت الوزارة الاستقلالية. وقد تشكلت في 4 رمضان 1375 و14 أفريل 1956 م. وهي تتركب على الصفة الآتية: 27 الرئيس الحبيب بورقيبة. وزير أكبر رئيس الحكومة ووزير الدفاع والخارجية. والأستاذ الباهي الأدغم وكيل رئيس الحكومة. الوزارة التونسية في العهد الجمهوري ونظمت الوزارة التونسية في العهد الجمهوري بالقانون الصادر في 30 ذي الحجة سنة 1376 وفي 29 جويلية سنة 1957 م بإثر إعلان الجمهورية. واقتضى هذا التنظيم المعلن بإثر إعلان الجمهورية حذف أسماء الوزارات وعوضت بكتابات للدولة وأصبح المجلس تحت رئاسة فخامة رئيس الجمهورية. وفي 20 جمادى 2 سنة 1378 و31 ديسمبر 1958 م وقع تعديل في كتابات الدولة فأصبحت اثني عشرة كتابة دولة. وفي 7 نوفمير سنة 1969 م أرجع لقب الوزارة وكان على رأس هذه الوزارة. 28 السيد الباهي الأدغم الوزير الأول. ثم في يوم الأحد 16 رمضان 1390 و15 نوفميبر سنة 1970 تشكلت وزارة الاستقرار وكان تأليفها برئاسة: 29 السيد الهادي نويرة الوزير الأول ثم في 8 جمادى الثانية 1400 الموافق ل?23 أفريل 1980 شكل الوزارة: 30 السيد محمد مزالي الوزير الأول. وهذه الوزارة حققت لتونس أمنيتها الغالية في التقدم بالديمقراطية خطوة عملاقة، علاوة على ما تقدمت فيه من إنجازات تسير بالأمة التونسية إلى مصاف الأمم الراقية. وفي 1 ذي القعدة 1406، الموافق له 8 جويلية 1986 أقال رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة السيد محمد مزالي من مهامه كوزير أول وأمين عام للحزب وتم تعيين: 31 السيد رشيد صفر وزيراً أول. وأميناً عاماً للحزب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ثم في 9 صفر سنة 1408، الموافق له 2 أكتوبر 1987 قرر رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة إعفاء السيد رشيد صفر من مهامه كوزير أول، وأمين عام للحزب وتعيين: 32 السيد زين العابدين بن علي وزيراً أول. وأميناً عاماً للحزب. ابتدأ عهد التفتح بتخلي الرئيس الحبيب بورقيبة عن مهامه بسبب أن حالته الصحية لم تعد تسمح له بمباشرة الوظائف المنطوقة بعهدته كما أفاد ذلك البلاغ الطبي. وبمقتضى الفصل (57) من دستور الجمهورية التونسية تولى فوراً منصب رئاسة الجمهورية الوزير الأول سيادة العابدين بن علي، وذلك في 15 ربيع الأول سنة 1408، الموافق له 7 نوفمبر 1987. وقد قرر سيادته تشكيل الحكومة الجديدة. 33 السيد الهادي البكوش وزيراً أول وفي 26 صفر 1410، الموفق له 27 سبتمبر 1989 تم تعيين من سيادة رئيس الجمهورية. 34 السيد حامد القروي وزيراً أول. ? الملحق (7) ? تاريخ تأسيس جاع الزيتونة بناء جامع الزيتونة وتسميته نس بالمؤلف في كلته بناء جامع الزيتونة إلى حاسن بن نعمان الذي تولى إمارة إفريقية من سنة (78) إلى سنة (83) ، لما دخل تونس سنة (79) وعقب على تأسيس حسان بأن عبيد الله بن الحباحاب أتم بناء جامع الزيتونى سنة (141) . وأخذ المؤلف أن إتمام البناء (141) مما رسم على أحد أقواس الجامع من لفظ (أعلم) الذي عدده بحساب الجمل (141) . وما أتى به المؤلف هنا من تاريخ الزيتونة اختلط عيه فيه الأمر فغن حسان بن النعمان لم يدخل إفريقيا سنة (79) بل دخل إفريقيا سنة (78) . ثم إن عبيد الله بن الحبحاب لم يبق بإفريقيا إلى سنة (141) وما أتى به لم يذكره أحد من المؤرخين فكلهم يذكر أنه بناه إما سنة (114) أو سنة (116) وهي سنة دخوله إلى إفريقيا ويدعو المقام إلى تحرير تاريخ تأسيس الزيتونة لن هذا الكتاب مبني على تاريخ أئمته وعلمائه فمن جزيل الفائدة أن نحرر متى كان تأسيسه وما يتبع ذلك. يتراءى للمؤرخ الباحث تساؤلات عدة منها: من أسسه أولاً؟ تاريخ ابتداء تأسيسه؟ لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ هل كان يسمى جامع الزيتونة منذ تأسيسه؟ 1 مؤسسه: جزم المؤلف أنه حسان بن النعمان وليس له في ذلك ما يستند إليه من شيء صحيح، فهذه كتب التاريخ التي هي الأمهات لتاريخ المغرب تذكر أن الباني هو عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا. ونجد هذا المستند التاريخي عند البكري في كتابه المسالك والممالك (- 487) ففيه: "ودور مدينة تونس أربعة وعشرون ألف ذراع، وفي سنة أربع عشرة ومائة بني عبيد الله بن الحبحاب الجامع، ودار الصناعة بمدينة تونس". ونحو هذا المستند التاريخي في البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع حين يذكر ولاية عبيد الله بن الحبحاب إفريقيا والمغرب كله: "وهو مولى بني سلول، وكان رئيساً نبيلأن وأميراً جليلاً بارعاً في الفصاحة والخطابة، حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعهأن فقدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (116) وهو الذي بني المسجد الجامع ودار الصناعة بتونس. وكان أول الأمر كاتباً ثم تناهت به الحال إلى ولاية مصر وإفريقيا والأندلس والمغرب كله. فاستخلف على مصر ابنه القاسم، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي، واستعمل على طنجة وما والاها من المغرب الأقصى ابنه إسماعيل، ثم عمر بن الله المرادي". (المغرب ج?1 ص51) . ومثل ما ورد عن ابن عذاري المراكشي، ورد عن ابن خلدون (-808) ونصه: "عبيد الله بن الحبحاب ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن وولي عبيد الله بن الحبحاب مولى بن سلول، وكان والياً على مصر فأمره أن يمضي إلى إفريقيأن واستحلف على مصر ابنه القاسم، وسار إلى إفريقيا فقدمها سنة أربع عشرة ومائة (114) كذا هنا وبنى جامع تونس، واتخذ لها دار صناعة لإنشاء المراكب البحرية". (العبر، وديوان المبتدأ والخبر) (ج?4 ص404) . ونسب ابن الشماع في تاريخه الأدلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية بناء الزيتونة إلى ابن الحبحاب: "وجامعها أي مدينة تونس، مليح الصنعة، حسن الوضع مطل على البحر بناه عبيد اله بن الحبحاب، هو ودار الصناعة (سنة أربع عشر ومائة) وأنفذ إليها البحر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وابن دينار في المؤنس (-1111) اعتمد كلام ابن الشماع وبنى عليه كلامه في الباب الأول الذي عقده في التعريف بتونس، فإنه علق على قول ابن الشماع: "وجامع تونس مليح الصنعة" إلخ.. (قلت) عبيد الله بن الحبحاب كان عاملاً لهشام بن عبد الملك بن مروان على مصر، وأرسله إلى إفريقيا سنة عشر ومائة، فلما وصل إلى القيروان أخرج المستنير من السجن وأرسله إلى تونس والياً عليهأن ولعله لم يدخل تونس. وتقدمه البكري حيث قال ومدينة تونس دورها أربعة وعشرون ألف ذراع وذكر بناء عبيد الله بن الحبحاب. لكن صاحب المؤنس بعدما نقل الكثير من كلام المؤرخين المتحدثين عن تونس ذكر رأياً له وهو: وإذا ثبت ما قلته، وتقرر ما نقلته، فالذي صح عندي إنها قديمة من بناء الأوائل، والذي ذكر فتحها هو أقرب من غيره، وأن حسان بن النعمان هو الذي فتحهأن وبني بها مسجدأن وعبيد الله بن الحبحاب زاد في ضخامته كما أن زيادة الله بن الأغلب زاد وضخمه وكملت في أيام بني حفص كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ذكر ابن أبي دينار هذه الخلاصة التي ضمنها رأيه في أن تونس قديمة وأن فاتحها هو حسان بن النعمان وأن جامع تونس المعروف بجامع الزيتونة بناه حسان وضخمه عبيد الله بن الحبحاب وهو الرأي الذي اعتمده صاحب مسامرات الظريف لكنه زاد على ما ذكر ابن أبي دينار شيئاً وهو أن عبيد اله بن الحبحاب زاد فيه سنة (141) كما رسم على أحد الأقواس وهو غلط تاريخي لا يغتفر. وذكر الوزير السراج في تاريخه الحلل السندسية في الأخبار التونسية في القسم الثالث من الجزء الأول: "وأن عبيد الله بن الحبحاب هو الذي أسس جامع تونس وبناه سنة (أربع عشرة ومائة) . ومما اتفق فيه أن مفرد (جامع) وتاريخه متفقان". وخلط المؤلف هنا خلطاً ولم يتحر في التاريخ في هذا الموضع الذي هو أساس تاريخه وهو جامع الزيتونة لأنه أراد أن يؤرخ لأمته وعلمائه البارزين من المفاتي والقضاة كما قدمنا. فلا بد أن نذكر ما وقع فيه من الخطأ: أولاً: أنه نسب بناءه لحسان معتمداً ذلك تاريخاً مع انه غير صحيح. وغنما هو رأي لابن أبي دينار صاحب المونس، وإما كافة المؤرخين فإنهم لا يذكرون غلا ما نقلناه عنهم. ثانياً: ذكره لقدوم عبيد الله بن الحبحاب والياً على تونس على عهد هشام بن عبد الملك بن مروان وأنه أتم بناء جامع الزيتونة سنة إحدى وأربعين مع أن هشام بن عبد الملك انتهت خلافته سنة (125) . ثالثاً: أن ابن الحبحاب لم يل إفريقيا سنة (141) بل وليها إما سنة (114) أو سنة (116) . رابعاً: أن التاريخ الذي ذكر وهو (أعلم) حسابه بالجمل (141) وليس هو إشارة إلى التأسيس إذ يبعد أن يكون مراداً به ذلك لن حساب الجمل الآخذ به متأخر. ومن القريب جداً أن يكون المسجد الذي أسسه حسان بن النعمان غير الذي أسسه ابن الحبحاب، ويؤيد هذا أن هناك مسجداً صغيراً بالنهج المعروف بنهج الخمسة الذي بجانب المدرسة السليمانية يتناقل الناس أنه أقدم من جامع الزيتونة وأمام باب صخرة عظيمة يحكي المعرون من المشايخ أن بعض العملة الذين كانوا بصدد بناء جامع الزيتونة يقسمون أجورهم عليها كالمنضدة، والله أعلم. وهذا المسجد به أسطوانة عظيمة عتيقة يقوم سقف المسجد عليها وعلى الجدران الأربعة. وكان لذلك المسجد منارة هدمت قبل الاحتلال بقليل لأنها ساخ بعض جدرانها بالأرض مما أدى إلى ميلانها فأدى ذلك إلى هدمهأن وكان بابها يصعد إليه من تلك الصخرة التي أمام باب المسجد. وإنما اتخذ حسان مسجداً صغيراً لأنه لم تكن له رغبة في إقامة مدينة بقرب قرطاجنة لأن هذه الأخيرة كانت حصناً للذين يغيرون على إفريقيا فلم تكن له رغبة في عمارتها. 2 تاريخ ابتداء تأسيسه: المشتهر والمتعارف هو أن ابتداء تأسيسه كان في سنة (114) وهو ما اختاره صاحب الحلل السندسية حتى ذهب إلى أن تاريخه بحساب الجمل (جامع) . إذ الجيم ب?3 والألف ب?1 والميم ب?40 والعين ب?70 114 وهو ما جاء في المسالك والممالك للبكري. والبكري عمدة الكثير من المؤرخين التونسيين وهو ما ذكره ابن خلدون في كتابه العبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 والتحقيق أن عبيد الله بن الحبحاب لم يدخل إلى إفريقيا سنة (114) بل دخلها سنة (116) كما جاء في فتوح إفريقيا والأندلس لابن عبد الحكم من أن هشام بن عبد الملك كتب إلى عامله على مصر بأن يسير إلى إفريقيا وكان مسيره في سنة ست عشرة ومائة، وابن عبد الحكم من رجال القرن الثالث الهجري، وهو في تاريخه يعتمد السند الذي يعتمده رجال الحديث، فكان ما يأتي به مدعماً. وسنده هنا عن رجلين هما يحيى بن بكير، والليث بن سعد. أما يحيى بن بكير فالصواب في اسمه أنه يحيى بن أبي بكير، وذكره ابن يونس في تاريخه بأنه: يحيى بن ابي بكير النخعي أبو زكرياء الكوفي، قدم مصر وحدث بها ومات بها في ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائتين (من تهذيب التهذيب ج?11 ص190) . وهو ليس من رجال الصحاح الستة لكن لم يكن في المجرحين فهو ممن يعتمد عليه في الرواية. وأما الليث بن سعد فهو الإمام المصري أبو الحارث. وعرف به ابن حبان في الثقاب بقوله: كان من سادات أهل زمانه فقهأن وورعأن وعلمأن وفضلأن وسخاء وعدداه في الرجال الثقاب العلماء قريب من مالك الإمام الكبير وقد ولد سنة (94) وتوفي سنة (175) . وقد أطال ترجمته في تهذيب التهذيب في الجزء الثامن من (ص459) إلى (ص465) . وإذا نظرنا إلى ترجمته نراه معاصراً لعبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا ومؤسس جامع الزيتونة، فإذا ما حدثنا أنه سار إلى إفريقيا سنة (116) وهو الرجل الثبت علمنا علم اليقين أن سنة مسيره هي (116) وبالطبع أن يكون تأسيس الزيتونة تلك السنة ويؤكد صحة ذلك أن الليث بن سعد كان إمام مصر فهو أعلم بأحوالها من غيره. ولا يمكن أن يغلط في مسير والي مصر إلى إفريقيا إذ كان ذهابه إليها وهو في سن الشباب إذ أنه كان سنة ذهاب ابن الحبحاب ستاً وعشرين سنة مع أنه كان من احفظ أهل زمانه وأثبتهم، فالرواية عنه في هذه القضية تفيد القطع. وما ذكره ابن عبد الحكم اعتمده المؤرخ الثبت ابن عذاري المراكشي صاحب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، وهو أحفل الكتب المؤرخة للمغرب والأندلس من القرن الألو الهجري حين وقع الفتح للمغرب إلى نصف القرن السابع. اعتمده المذكور مبيناً أنه قدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (116) ونسب إليه كما ذكرنا بناء المسجد الجامع بتونس، وكذلك دار الصناعة والمسجد كما ذكره ابن عبد الحكم. وعلى هذا الغرار سار ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل فأتى بخبر مسيره إلى إفريقيا ضمن حوادث سنة (116) : وفيها (أي سنة 116) عزل هشام عبيد الله بن الحبحاب عن ولاية مصر واستعمله على إفريقيا فسار إليهأن وقيل بل ولي عبيد الله بن الحبحاب سنة سبع عشرة وسترد أخباره هناك، وهذا أصح. (الكامل ج?4 ص219) . وابن الأثير هو أبو الحسن علي بن ابي المكارم محمد عز الدين الجزري المتوفى سنة (630) ألف كتابه خلاصة لكتب التواريخ التي في مقدمتها تاريخ الطبري، وكتابه الكامل هذا له امتياز خاص، وهو أنه جمع فيه بين تواريخ المشرق والمغرب كما أشار إلى ذلك: (.. والشرقي منهم قد أدخل بذكر أخبار الغرب، والغربي قد أهمل أحوال الشرق فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً احتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة مع ما فيها من الإخلال والإملال. فلما رأيت الأمر كذلك شرعت في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق، والغرب، وما بينهما ليكون تذكرة لي أراجعه خوف النسيان، وآتى فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان، متابعة يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا) . وقد انتهى ابن الأثير في تاريخه إلى حوادث سنة (628) . ووقف تاريخه عند ابتداء دخول سنة (629) . فهؤلاء العمد في التاريخ نواهم مطبقين على أن ابن الحبحاب كان دخوله إلى إفريقيا في سنة (116) وبذلك لا يمكن ابتداء تأسيس مسجد تونس الجامع الذي سمي بالزيتونة إلا في تلك السنة. 3 لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ اعتاد المؤرخون أن يذكروا الحوادث دون أن يتعمقوا في الأسباب إلا في القليل النادر كما هنا يقتصرون على فقرة قصيرة، وهي أن ابن الحبحاب سار إلى تونس بأمر هشام بن عبد الملك في سنة (116) وأسس مسجدها الجامع وبنى دار الصناعة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ولا تنقع النفس بذلك متطلبة لماذا اختار هذه البلدة على غيرها؟ وما الداعي له لتأسيس هذا المسجد الجامع مع أن مقامه بالقيروان؟ والجواب نجده فيما ذكره مؤرخ الفتح الإفريقي عبد الرحمن بن عبد الحكم (- 257) الذي هو أقدم من وصلت إلينا مؤلفاته دون بقية مؤرخي مصر الإسلامية، كذا الفتوح الإفريقية لاتصالها بتاريخ مصر. وننقل ما ذكره ابن عبد الحكم في مسير ابن الحبحاب، ثم نستخرج منه الجواب المطلوب. (كان قدوم عبيدة بن عبد الرحمن من إفريقيا سنة خمس عشرة ومائة. وفيها أمر ابن قطن على الأندلس، وكان ما خرج فيه العبيد والإماء من الجواري المتخيرة سبعمائة جارية، وغير ذلك من الخصيان، والخيل، والدواب، والذهب والفضة، والآنية. واستخلف على إفريقيا حين خرج عقبة بن قدامة التجيبي. فقدم على هشام [بن عبد الملك] بهدياه واستعفاه فأعفاه. وكتب (أي هشام بن عبد الملك) إلى عبد الله (ذكا) بن الحبحاب وهو عامله على مصر يأمره بالمسير إلى إفريقيا وولاه إياها وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة ست عشر ومائة. فقدم عبيد الله بن الحبحاب إفريقيا فأخرج المستنير من السجن وولاه تونس، واستعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السوس، واستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج، وعزل عبد الملك بن قطن، ويقال بل كان الوالي على الأندلس يومئذ عنبسة بن سحيم الكلبي فعزله ابن الحبحاب، وولي عقبة بن الحجاج) . يطالعنا كلام ابن عبد الحكم بأمرين هامين أولهما أن ابن الحبحاب لما حل بإفريقيا وزع وظائفها على ذويه من أبناء وأخوة وكأنه يرمي من وراء ذلك إلى أن تكون له خالصة دون غيره لأنه إذا غرس فيها امتنعت طاعتها على غيره. فقد استعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السوس. وستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر. وستعمل المستنير على تونس بعد أن أخرجه من السجن، والمستنير هذا الظاهر فيه انه أخو عبيد الله بن الحبحاب كما يفيده كلام ابن عبد الحكم حين حديثه على عبيدة بن عبد الرحمن القيسي الذي تولى إفريقيا قبل الحبحاب. وهذا ما ذكره في ذلك: حدثنا بن أبي بكير عن الليث قال: وولي عبيدة بن عبد الرحمن إفريقيا في المحرم سنة عشر ومائة (110) . فلما قدم عبيدة إفريقيا وجه المستنير بن الحبحاب غازياً إلى صقيلة فأصابتهم ريح فأغرقتهم ووقع المركب الذي كان فيه المستنير إلى ساحل أطرابلس. فكتب عبيدة بن عبد الرحمن إلى عامله علىىأطرابلس يزيد بن مسلم الكندي يأمره أن يشده وثاقاً ويبعث معه ثقة فبعث به في وثاق فلما قدم على عبيدة جلده جلداً وجيعأن وطاف به القيروان على أتان ثم جعل يضربه في كل جمعة مرة حتى أبلغ إليه وذلك أن المستنير أقام بأرض الروم حتى نزل عليه الشتاء واشتدت أمواج البحر وعواصفه فلم يزل محبوساً عنده. (فتوح إفريقا والأندلس ص92) . أفاد ابن عبد الحكم أن المستنير بن الحبحاب، فلعله أخو عبيد الله بن الحبحاب. فالمستنير بن الحبحاب لما ولي ولاية تونس لا نرتاب في أنه اقترح على والي إفريقيا أن يبني بها مسجداً حين رأى مدينة تونس لا تقل عظمة عن القيروان لأنها المدينة الثانية بعد الولاية الإفريقية والمغربية والأندلسية وهي القيروان وكونها المدينة الثانية في العصور الأولى الإسلامية يشير إليه ما ذكره ابن الشماع في الأدلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية. وكان أبو جعفر المنصور العباسي إذا قدم عليه رسول صاحب القيروان يقول له: ما فعلت إحدى القيروان يعني مدينة تونس، تعظيماً لها. وخص أبو جعفر المنصور تونس كونها كانت كثيرة الشغب على الولاة، وهو ما أشار إليه البكري في كتابه المسالك والممالك، فبعد أن مدح أهل تونس قال: ومع هذا الفضل الذي فيها هي مخصوصة بالقيام على الأمراء والخلاف للولاة خالفت نحو عشرين مرة (المسالك والممالك ص40) . فهذه الأهمية لهذه البلاد بعثت عبيد الله بن الحبحاب أن ينشئ مسجداً جامعاً بهأن فهو المسجد الثاني بعد مسجد عقبة بالقيروان وهو إن كان من حيث المساحة أقل من مسجد عقبة إلا انه كما قال ابن الشماع: وجامع تونس مليح الصنعة، حسن الوضع، مطل على البحر. (الأدلة البينة النورانية ص17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وثاني الأمرين اتخاذها عاصمة إذ يتجمع من توجيه العناية إلى تونس سواء في اتخاذ مسجدها الجامع أو بناء قصبتهأن أو بناء دار الصناعة بها إلى غير سواء من العنايات البالغة بهذه المدينة مع أنها لم تكن عاصمة أن الرغبة كانت أكيدة في اتخاذ تونس عاصمة للبلاد الإفريقية لأنها تجمع بين الحصانة وبين كونها مرسى من اعظم المراسي مع ما اختصت به من كونها كثيرة الخيرات مدرارة البركات التي لا توجد في غيرها كما حدثنا عن ذلك البكري إذ يصفها بأنها أشرف مدائن إفريقيا وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة (المسالك والممالك ص41) . فرغبة ابن الحبحاب في اتخاذها عاصمة يبديها هذا النص عن ابن عبد الحكم. واستمرت هذه الرغبة في رجال الدولة الأغلبية إذ انتقل إلى سكانها واتخاذها عاصمة لبلاد الإفريقية إبراهيم بن الأغلب في سنة (281) . وبقي بها إلى أن انتقل إلى رقادة سنة (283) ثم عاد إلى سكناها وإليها انتقل ابنه عبد الله بن إبراهيم وقتل بها. وبها كانت بيعة ابنه وزيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم ولم يمكث بها. وليست رغبة بني الأغلب مقصورة فيمن ذكر منهم بل كلهم قد اتخذوا بها القصور والبساتين ينتقلون إليها وقد جعلوها منتزهاً لهم كما أفاده البكري حين حديثه على تونس وابن أبي دينار في المونس. وإنما اتخذها الأغالبة عاصمة ثانية أو العاصمة الأولى في فترات اقتداء بابن الحبحاب الذي كانت رغبته كذلك بدليل تأسيس مسجدها الجامع فإنه لا يبنى مثله في بلد صغير وغنما في بلد له اتساع لأن إحداث مثله لا يكون إلا في العواصم الكبرى وإنما اتخذها الأغالبة كذلك لما رأوا فيها من جديرة بأن تكون عاصمة، إنما حببهم في القيروان لم يجرؤوا على مخالفة عقبة بن نافع ولعل ابن الحبحاب كان يرمي إلى اتخاذها عاصمة لأنها تجمع بين الحصانة في البر، والمكانة البحرية بمرساها الفريد في الخليج التونسي. فنظرة الأمراء إلى إفريقية مختلفة فعقبة بن نافع يرى أن الاستقرار بإفريقيا إنما يكون في مجمع الجند في مكان يبعد عن البحر ولهذا اتخذ القيروان عاصمة لهذا الصقع الإفريقي بينما أخذت فمرة المراء تختلف عن ذلك من حسان بن نعمان إلى ابن الحبحاب إلى الأغالبة في ترددهم بين سكانها وسكنى القيروان. وغير الفواطم الاتجاه نحو تونس بإنشاء المهدية التي كانت على البحر فهم قد حققوا أن العاصمة تكون بحرية في عاصمتهم الجديدة. ورجعت الرغبة في تونس عند افتكاك الموحدين لشواطئ إفريقيا من يد النورمان لأسباب بسطناها في بحث لنا في بيان الأسباب الداعية للموحدين لاتخاذ تونس عاصمة معرضين عن المهدية والقيروان. ابن الحبحاب والفكرة الاتساعية حل ابن الحبحاب بإفريقية فانتشرت رجاله من قرابته في كل مكان تحت نظره حتى مصر والأندلس فضلاً عن إفريقيا والمغرب، وأسند هذه الولايات إلى أبنائه وصنائعه وانضاف إلى ذلك انه ركز اهتمامه على تونس في إحداثاته بها. ومن تلك الإحداثات دار الصناعة لإنشاء أسطول تونسي غزا به في البحر بإمرة حبيب بن أبي عبدة. واتجهت سياسته إلى سيادة العنصر العربي سيادة مطلقة حتى اعتبر البربر مسلمهم وكافرهم سواء وأنهم فيء مع أن الولاة قبله كانوا يخمسون من لم يجب إلى الإسلام وأما من أجاب إليه فهو بالإسلام قد أندمج في العائلة الإسلامية. ومسلكه السياسي نحو البربر أوغر الصدور عليه وأدى إلى ثورة كبرى لم تعهد من قبل وكان اتجاهه هذا يقصد من ورائه إيجاد ملك عربي ممتد الأطراف يقوده هو وأهل بيته لكن إهانة البربر أدت إلى عزله حيث لم يقدر على إخماد تلك الثورة. ونتائج تلك السياسة جعلت المسلمين في المغرب منقسمين إلى عنصرين كلما خمدت فتنتهما دهراً لسبب السياسة الحازمة عادت إلى الظهور من جديد مما تسبب في فتن عدة جرت إلى كوارث ومحن قعدت بالإسلام وأوقفت تقدمه، ثم جرت إلى ضياع الأندلس مع أشياء أخرى. 4 هل كان يسمى مسجد تونس بجامع الزيتونة: نجد قصة طريفة في سبب تسمية هذا المسجد بجامع الزيتونة ذكرها الوزير السراج وهي: وأخبرني بعض إخواني عن سيدي سعيد الشريف رحمة الله تعالى (-1113) أنه حدثهم أن نوحاً عليه السلام لما كان في السفينة على الطوفان وقفت به يوماً وسط البحر فأوحى الله إليه أن تلك بقعة يقال لها: جامع الزيتونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فلما دخلها الصحابة وحدوا الرهبان في صومعتها لأن صومعة الجامع قديمة كانت للرهبان.. وكان قبلة الصومعة محل محصن بالحجارة والشوك فسأل الصحابة أولئك الرهبان عن سبب ذلك، فقالوا لهم إنا كل ليلة من ذلك المحل نوراً ساطعاً لعنان السماء فرضعنا ذلك صوناً له من الكلاب أن يقذروا في ذلك المحل واتفق أن كان ذلك المحل هو المحراب، (الحلل ج?1 ص558 ط2) . هذا ما جاء في الحلل السندسية في الأخبار التونسية وهو لا يتصل بشيء من الحقيقة التاريخية حيث جعل تسمية هذا المسجد الجامع منذ الطوفان مع أن تسميته بجامع اليزتونة غير متعارفة في القرون الولى بل المعروف أنه مسجد تونس، ثم إن تلك القصة لا تتصل بالحقيقة بل هي من نسج الخيال. ثم إنها كلها عليها أثواب الوضع ونشك في نقلها عن الشيخ سعيد الشريف فإنه كان محدثاً راوية والرواة من أهل الحديث لا ينقلون شيئاً إلا مسنداً وسعيد الشريف هذا توفي سنة (1113) كما في إتحاف أهل الزمان لا في سنة (1112) كما في شجرة النور الذكية. وإذا تتبعنا كتب التاريخ ثبت لدينا أن هذا المسجد لا يسمى بجامع الزيتونة وإنما يعرف (بمسجد جامع تونس) . ذكر أبو العرب في الجزء السابع الذي خصه بذكر علماء تونس في ترجمة زيد بن بشر فقد روى حين وصفه بأنه أكرم الناس ما يؤيد كرامة نفسه: لقد حدثني سليمان بن سالم وغيره أنه انصرف ليلة من جامع تونس فانقطع شسع نعله فوثب إليه رجل حائك من حانوته أعطاه شسعاً فأصلح نعله وكان رجل معه يحمل قنديلاً فقال لحامل القنديل: قرب القنديل إلي فقربه منه فنظر إلى وجه الحائك ليعرفه فيكافئه، فكان كلما مر إلى المسجد ومعه الجماعة مال إلى الحائك، فيسلم عليه، ويسأله عن حاله شكراً للشسع الذي أعطاه. (طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب التميمي ص256 ط باريس وص226 ط تونس) . وما جاء في طبقات أبي العرب جاء مثله عن محمد بن حارث في ضمن الطبقات التي لأبي العرب عند ترجمة أبي العرب ليحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الذي دخل تونس. قال محمد بن حارث كنت في جامع مدينة تونس مع بعض العلماء من أهلها فقال لي: "هذا الباب وأشار إلى باب مغلق لا يفتح هو باب يحيى بن سعيد وكان يدخل منه إذا كان بها" (طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب ج?1 ص26) . وإذا التفتنا إلى البكري أبي عبيد عبد الله الأندلس لا يذكر إلا أن ابن الحبحاب بنى الجامع بتونس قارناً لبنائه ببناء دار الصناعة. ولما وصف بناءه قال: وجامع تونس رفيع البناء مطل على البحر ينظر الجالس فيه إلى جميع جواريه (المسالك ص37 وص40) . وكذلك لم يسمه ابن عذاري المراكشي في كتابه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب إذ يقول: وهو أي عبيد الله بن الحبحاب الذي بنى المسجد الجامع، ودار الصناعة بتونس (ج?1 ص51) . وابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع (-695) وكان ينقل عن الرقيق الذي كان حياً سنة (388) . والرقيق من أهل إفريقية قيرواني عليم بأماكن تونس وتواريخها فلو كان الجامع يسمى بجامع الزيتونة لذكر أنه جامع الزيتونة. وإذا التفتنا إلى كتب المناقب القديمة التأليف لقدماء الصلحاء بتونس نجد كتاب أبي الطاهر الفارسي حين ذكر مسجد تونس لا يذكره إلا باسم جامع تونس دون جامع الزيتونة، فإنه حين تحدث على ما أحدثه الشيخ أبو محمد محرز بن خلف الصديقي المتوفى سنة (-413) يقول: قال أبو الطاهر: وأعظم شيء أذكره من كراماته الدالة على فضله وولايته أن القرآن كل يوم يقرأ على قبره، ويختم كل جمعة منذ توفي إلى الآن ثماني عشرة سنة، لا ينقطع يوماً لعلة من العلل، لا في صيف ولا في شتاء ولا في شدة ولا في رخاء ولا غير ذلك، وهو دائم إلى الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن استنباطه رضي الله عنه بمقصورة الجامع الأعظم بتونس حزب السبع لا ينقطع في كل يوم إلى آخر الدهر. وكان تأليف أبي الطاهر الفارسي في سنة ثلاثين وأربعمائة بعد وفاة الشيخ محرز بن خلف رحمه الله تعالى بسبعة عشر عاماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وهذه المناقب ليست كالكثير من كتب المناقب التي تكون لغتها سقيمة ثم تكتب في جوانب لا تفيد الكثير من حياة صاحبها بل هي لغة سامية صحيحة التركيب والتعبير مع كونها معرفة بالمترجم له وهو الشيخ محرز بن خلف وذاكرة من مناقبه ما يدل على علمه وأخلاقه وإخلاصه وتأثيره على مخاطبيه، وهي خالية من المبالغات التي يعتني بها أصحاب كتب المناقب فلا تجد فيها شيئاً من ذلك. تسمية المساجد لم يسم مسجد تونس باسم جامع الزيتونة لأن المتعارف في تسمية المساجد أن تكون إما باسم البلد كما يقال مسجد الكوفة أو مسجد البصرة أو باسم مؤسسه كمسجد عقبة بالقيروان، وغنما لما تعددت المساجد في البلد الواحد اضطروا إلى تسميتها باسم خاص بسبب اتساع العمران وانتشار السكان لأجل التفرقة بين المساجد. وهو القريب في مسجد تونس فإنه لما كان منفرداً أطلقوا عليه المسجد الجامع بتونس فحين أحدث مسجد القصبة الذي تم بناؤه سنة (633) وكان يعرف بمسجد قصبة تونس أو مسجد الموحدين سمي حينذاك بجامع الزيتونة. التسمية ب?"جامع الزيتونة": ولم يشتهر جامع الزيتونة بهذا الاسم في القرون الولى وقصارى ما وقفنا عليه انه اشتهر بأنه جامع الزيتونة في أوائل العصر الحفصي وهو القرن السابع وفي طالعة ما وقفنا عليه (صلة السمط وصلة المرط) لابن الشباط التوزري فإنه يذكره باسم جامع الزيتونة ويعلل التسمية بما ننقله: وسمعت من يقول: إن المسلمين وجدوا بها أي تونس زيتونة، وأرى أنها التي يضاف إليها الجامع، فيقال: (جامع الزيتونة) . فلما رأوا تلك الزيتونة قالوا: أو قال بعضهم لبعض: إن هذه الزيتونة تونس، فسميت المدينة بذلك (صلة السمط ج?3 الورقة 112 وجهاً) . وجاءت تسمية جامع تونس بجامع الزيتونة في رحلة العبدري وكان ذلك سنة (688) حين تكلم على الحنايا المجلوب عليها الماء إلى تونس. وأما الساقية المجلوبة من ناحية زغوان فقد استأثر بها قصر السلطان وجنانه إلا رشحاً يسيراً سرب إلى ساقية جامع الزيتونة يرتشف منها في أنابيب من رصاص، ويستقي منها الغرباء ومن ليس في داره ماء ويكثر عليها ازدحام (رحلة العبدري ص40) . ومن هذا التاريخ وهو القرن السابع إلى عصرنا الحاضر يذكر المسجد الجامع بتونس باسم جامع الزيتونة فلا تكاد تقف على تاريخ لتونس إلا تجده ذكوراً بذلك. ومن تلك التواريخ تاريخ ابن القنفذ القسنطيني في كتابه الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية المتوفى سنة (809) على التحقيق، في مواضع من كتابه منها ما جاء حين حديثه على السقاية المستنصرية. وفي هذه السنة سنة (648) بنيت السقاية بشرقي جامع الزيتونة (ص117) . وذكره باسم جامع الزيتونة عندما تحدث على وفاة أحد أئمته: وفي شهر ربيع الأول الشريف المبارك من عام أحد وسبعمائة (701) توفي الشيخ الفقيه الخطيب الصالح أبو مروان عبد الملك بن الغرغار خطيب جامع الزيتونة (الفارسية ص153) . واستمر على تسمية المسجد الجامع بتونس بجامع الزيتونة غير واحد منهم ابن الشماع أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الهنتاتي وكان حياً سنة (861) . فقد ذكر السقاية التي أحدثها المستنصر بالله الحفصي وبين أنها بشرقي جامع الزيتونة. واستمرت التسمية على انه جامع الزيتونة فلا يعرف بغير ذلك سواء في التواريخ أو في غيرها. والقريب في وجه هذه التسمية أنه ربما يكون راجعاً إلى أن البلاد التونسية اشتهرت بزياتينها فتبرك الناس بتسمية مسجدهم بمسجد الزيتونة. أو أنه عرف بجامع الزيتونة في القرن السابع بدون أن يعرف وجه للتسمية يستند لشيء ثابت معروف ولذلك التمس ابن الشباط في وجه التسمية ما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488